النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 625]
السنة العاشرة من ولاية الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيّوب
على مصر، وهى سنة خمس وعشرين وستمائة.
(6/269)
فيها نزل جلال الدين بن خوارزم شاه على
خلاط مرّة ثانية، وهجم عليه الشتاء فرحل عنها إلى أذربيجان، وخرج
الحاجب «1» علىّ من خلاط بالعسكر، فاستولى على خوىّ «2» وسلماس «3»
وتلك النواحى، وأخذ خزائن جلال الدين المذكور وعاد إلى خلاط، فقيل له:
بئس ما فعلت! وهذا يكون سببا لهلاك العباد والبلاد، فلم يلتفت.
وفيها كان فراغ مدرسة ركن الدين الفلكى بقاسيون دمشق.
وفيها توفّى عبد الرحيم بن علىّ بن إسحاق سبط القاضى جمال الدين
القرشىّ.
كان إماما عالما فاضلا غزير المروءة كثير الإحسان شاعرا مترسّلا، وكانت
وفاته بدمشق فى سابع المحرّم. ومن شعره قوله فى مليح بالحمّام:
تجرّد للحمّام عن قشر لؤلؤ ... وألبس من ثوب المحاسن ملبوسا
وقد زيّن الموسى لتزيين رأسه ... فقلت لقد أوتيت سؤلك يا موسى
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو المعالى
أحمد ابن الخضر بن هبة الله بن طاوس الصوفىّ فى رمضان. والمحدّث محبّ
«4» الدين أحمد ابن تميم اللّبلىّ «5» . وأبو منصور أحمد بن يحيى بن
البرّاج «6» الصوفىّ الوكيل فى المحرّم.
والعلامة أبو القاسم أحمد بن يزيد القرطبىّ آخر من روى بالإجازة عن
شريح
(6/270)
فى رمضان. وأبو علىّ الحسن بن إسحاق بن
موهوب بن [أحمد «1» ] الجواليقىّ فى شعبان، وله إحدى وثمانون سنة.
ونفيس الدين الحسن بن علىّ [بن أبى القاسم الحسين «2» ] بن الحسن بن
البنّ الأسدىّ فى شعبان، وله ثمان وثمانون سنة.
والرئيس المنشئ جمال الدين عبد الرحيم بن علىّ «3» بن إسحاق بن شيث
القرشىّ الفرضىّ بدمشق فى المحرّم، وكان كاتب المعظّم. وأبو منصور محمد
بن عبد الله بن المبارك البندنيجىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وتسع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وخمس أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 626]
السنة الحادية عشرة من ولاية الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن
أيّوب على مصر، وهى سنة ستّ وعشرين وستمائة.
فيها أعطى الملك الكامل صاحب الترجمة بيت المقدس لملك الفرنج الأنبرور
«4» .
وفيها خرج الملك الكامل فى صفر من مصر، ونزل تل العجول «5» ، وكان
الملك الناصر داود ابن الملك المعظّم عيسى صاحب دمشق كاتب عمّه الملك
الأشرف موسى بالحضور إلى دمشق، فوصل إليها ونزل بالنّيرب «6» ؛ وكان
عزّ الدين أيبك قد أشار على الملك الناصر داود بمداراة عمّه الملك
الكامل محمد صاحب مصر
(6/271)
فخالفه؛ وقال الناصر «1» لعمّه الأشرف فى
قتال عمّه الكامل، فلم يلتفت الأشرف إلى كلامه؛ واجتمع الأشرف مع أخيه
الملك الكامل واتّفقا على حصار دمشق.
ووصلت الأخبار بتسليم القدس إلى الأنبرور، فقامت قيامة الناس لذلك ووقع
أمور، وتسلّم الأنبرور القدس؛ والكامل والأشرف على حصار دمشق، فلم يقم
الأنبرور بالقدس سوى ليلتين، وعاد إلى يافا بعد أن أحسن إلى أهل القدس،
ولم يغيّر من شعائر الإسلام شيئا.
وفيها سلّم الملك الناصر داود إلى عمّه الملك الكامل دمشق وعوّضه عمّه
الكامل الشّوبك، وذلك فى شهر ربيع الآخر من السنة.
وفيها توفى أضسيس المعروف بأقسيس المنعوت بالملك المسعود بن الملك
الكامل صاحب الترجمة، مرض بعد خروجه من اليمن مرضا مزمنا، ومات بمكّة
ودفن بالمعلى فى حياة والده الملك الكامل، وكان معه من الأموال شىء
كثير. وكان ظالما جبّارا سفّا كاللدماء قتل باليمن خلائق لا تدخل تحت
حصر، واستولى على أموالهم.
وكان أبوه الملك الكامل يكرهه ويخافه. ودام باليمن حتى سمع بموت عمّه
الملك المعظّم عيسى، فخرج من اليمن بطمع دمشق، فمرض ومات. فلمّا سمع
أبوه الملك الكامل بموته سرّ بذلك، واستولى على جميع أمواله.
وفيها توفّى الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن صصرّى الشيخ الإمام أبو
القاسم الدمشقىّ التّغلبىّ. سمع الحافظ ابن عساكر وغيره، وروى الكثير،
وكان صالحا ثقة- رحمه الله-.
(6/272)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة،
قال: وفيها توفّى أبو القاسم [الحسن «1» ] ابن هبة الله بن محفوظ بن
صصرّى التّغلبىّ فى المحرّم، وقد قارب التسعين. وتوفّيت أمة الله بنت
أحمد بن عبد الله بن علىّ الآبنوسىّ. وأبو الحسن محمد بن محمد بن أبى
حرب النّرسىّ الشاعر. والمهذّب بن علىّ بن قنيدة «2» أبو نصر الأزجىّ.
والملك المسعود أقسيس صاحب اليمن ابن الملك الكامل فى جمادى الآخرة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وثلاث أصابع. مبلغ
الزيادة ستّ عشرة ذراعا وإحدى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 627]
السنة الثانية عشرة من ولاية الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن
أيّوب على مصر، وهى سنة سبع وعشرين وستمائة.
فيها أخذ السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه مدينة خلاط بعد حصار طويل
«3» أقام عليها عشرة أشهر، ولمّا بلغ صاحبها الملك الأشرف ذلك استنجد
بملك الروم وغيره من الملوك، وواقع جلال الدين الخوارزمىّ المذكور
وكسره بعد أمور، وقتل معظم عسكره، وامتلأت الجبال والأودية منهم، وشبعت
الوحوش والطيور من رممهم، وعظم الملك الأشرف فى النفوس.
وفيها توفّى الحسن بن محمد بن الحسن بن هبة الله الشيخ أبو البركات زين
الأمناء المعروف بابن عساكر فى ليلة الجمعة سابع عشر صفر، ودفن عند
أخيه «4» فخر الدين، وكان فاضلا محدّثا، سمع الكثير وروى تاريخ الحافظ
ابن عساكر.
(6/273)
وفيها توفّى فتيان بن علىّ بن فتيان
الأسدىّ الحريمىّ «1» المعروف بالشّاغورىّ المعلّم الشاعر المشهور، كان
فاضلا شاعرا خدم الملوك ومدحهم وعلّم أولادهم، وله ديوان شعر مشهور.
قال الإسعردىّ «2» : إنّه مات فى هذه السنة. وقال ابن خلّكان:
إنّه توفّى سحر الثانى والعشرين من المحرّم سنة خمس «3» عشرة وستمائة
بالشّاغور، «4» ودفن [بمقابر «5» ] الباب الصغير، وقول ابن خلّكان هو
الأرجح. انتهى. ومن شعر الشاغورىّ فى مدح أرض الزّبدانى «6» من دمشق:
قد أجمد الخمر كانون بكلّ قدح ... وأخمد الجمر فى الكانون حين قدح
يا جنّة الزّبدانى أنت مسفرة ... بحسن وجه إذا وجه الزمان كلح
فالثلج قطن عليه السحب تندفه ... والجو يحلجه والقوس قوس قزح
وله وقد دخل الحمّام وماؤها شديد الحرارة، وكان قد شاخ، فقال:
أرى ماء حمّامكم كالحميم ... نكابد منه عناء وبوسا
وعهدى بكم تسمطون الجداء ... فما بالكم تسمطون التّيوسا
ومثل هذا قول بعضهم:
حمّامكم هذه حمام ... وقودها الناس والحجاره
أعجب شىء رأيت فيها ... طهورها ينقض الطّهاره
ومن أحسن لغز سمعناه فى الحمّام:
(6/274)
وما ليل يخالطه نهار ... وأقمار تصدّ عن
الشموس
وأنهار على النّيران تجرى ... وأسلحة تسلّ على الرءوس
الذين ذكر الذّهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى زين الأمناء
الحسن ابن محمد بن الحسن بن عساكر فى صفر، وله ثلاث وثمانون سنة.
والشرف راجح ابن إسماعيل الحلىّ الشاعر. وعبد الرحمن بن عتيق [بن عبد
العزيز «1» ] بن صيلا المؤدّب. وعبد السلام بن عبد الرحمن [ابن الأمين
«2» ] علىّ [بن علىّ «3» ] بن سكينة.
وأبو المعالى محمد [بن أحمد «4» ] بن صالح الحنبلىّ ببغداد. وفخر الدين
محمد بن عبد الوهاب الأنصارىّ يوم عيد الأضحى.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ذراعان سواء. مبلغ الزيادة ست
عشرة ذراعا وثلاث أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 628]
السنة الثالثة عشرة من ولاية الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن
أيّوب على مصر، وهى سنة ثمان وعشرين وستمائة.
فيها ساق التّتار خلف السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه بعد أن واقعهم
عدّة وقائع من بلاد تبريز، فانهزم بين أيديهم إلى ديار بكر، فقتل فى
قرية من أعمال ميّافارقين.
وفيها توفى بهرام شاه بن فرخشاه بن شاهنشاه بن أيّوب، الملك الأمجد
صاحب بعلبكّ. كان السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب أعطاه بعلبكّ عند
وفاة أبيه
(6/275)
سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، فأقام فيها
خمسين سنة حتّى حصره الملك الأشرف موسى بن العادل أبى بكر بن أيّوب
وأخرجه منها، وساعده عليه ابن عمّه أسد الدين شيركوه صاحب حمص؛ فانتقل
الملك الأمجد إلى الشام وسكنها حتّى قتله بعض مماليكه غيلة؛ وكان فاضلا
شاعرا فصيحا كاتبا، وله ديوان شعر كبير. ومن شعره «دو بيت» :
كم يذهب هذا العمر فى الخسران ... يا غفلتى فيه وما أنسانى
ضيّعت زمانى كلّه فى لعب ... يا عمر فهل بعدك عمر ثان
قلت: وما أحسن قول قاضى القضاة شهاب «1» الدين أحمد بن حجر- رحمه الله-
فى هذا المعنى، وهو ممّا أنشدنى من لفظه لنفسه- عفا الله عنه-:
خليلىّ ولىّ العمر منا ولم نتب ... وننوى فعال الصالحات ولكنّا
فحتّى متى نبنى بيوتا مشيدة ... وأعمارنا منا تهدّ وما تبنى
وما ألطف قول السّراج «2» الورّاق- رحمه الله- وهو قريب ممّا نحن فيه:
يا خجلتى وصحائفى سودا غدت ... وصحائف الأبرار فى إشراق
وفضيحتى «3» لمعنّف لى قائل ... أكذا تكون صحائف الورّاق
وفيها قتل السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه، واسمه تكش «4» ، وقيل
محمود ابن السلطان علاء الدين خوارزم شاه؛ واسمه محمد بن تكش، وهو من
نسل
(6/276)
عبد الله بن طاهر بن الحسين، وجدّه تكش هو
الذي أزال ملك السّلجوقيّة. قتل بديار بكر، كما ذكرناه فى أوّل هذه
السنة. ولمّا قتل دخل جماعة على الملك الأشرف موسى فهنّئوه بموته؛
فقال: تهنّونى به وتفرحون! سوف ترون غبّه! والله لتكوننّ هذه الكسرة
سببا لدخول التتار إلى بلاد الإسلام، ما كان الخوارزمىّ إلّا مثل
[السدّ «1» ] الذي بيننا وبين يأجوج ومأجوج؛ فكان كما قال الأشرف. كان
الخوارزمىّ يقاتل التتار عشرة أيّام بلياليها بعساكره، يترجّلون عن
خيولهم ويلتقون بالسيوف، ويبقى الرجل منهم يأكل ويبول وهو يقاتل.
وفيها توفّى المهذّب بن الدّخوار الطبيب، كان فاضلا حاذقا بعلم الطبّ
أستاذ عصره، تقدّم على جميع أطبّاء زمانه، ومع هذا مات بستة أمراض
مختلفة، ووقف داره وكتبه على الأطبّاء.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو نصر أحمد
بن الحسين بن عبد الله بن النّرسىّ البيّع فى رجب، وله ثلاث وثمانون
سنة. والملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه بن فرخشاه صاحب بعلبكّ. ومحمد
بن عمر بن حسين «2» المقرئ الكردىّ بدمشق. والمهذّب عبد الرجيم بن علىّ
رئيس الطبّ، ويعرف بالدّخوار فى صفر. وأبو الفضل عبد السلام بن عبد
الله «3» الدّاهرىّ الخفّاف فى شهر ربيع الأوّل عن ثنتين وثمانين سنة.
وأبو الرضا محمد بن أبى الفتح المبارك [ابن عبد الرحمن «4» ] ابن عصيّة
الحربىّ فى المحرّم، وله ثلاث وثمانون سنة.
(6/277)
والعلّامة زين الدين يحيى «1» بن عبد
المعطى بن عبد النّور الزّواوىّ النحوىّ فى ذى القعدة بمصر.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ذراع واحدة ونصف إصبع.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا سواء.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 629]
السنة الرابعة عشرة من ولاية الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن
أيّوب على مصر، وهى سنة تسع وعشرين وستمائة.
فيها عاد التّتار إلى الجزيرة وحرّان وقتلوا وأسروا وسبوا، وخرج الملك
الكامل صاحب الترجمة من مصر إلى أن وصل إلى ديار بكر واجتمع مع أخيه
الأشرف موسى، واجتمعوا على دفع التّتار؛ وكان أهل حرّان قد خرجوا لقتال
التّتار، فما رجع منهم إلّا القليل. وعاد التّتار إلى بلادهم بعد أمور
صدرت منهم فى حقّ المسلمين.
فلمّا بلغ الكامل عود التّتار نزل على مدينة آمد ومعه أخوه الأشرف،
وحاصرها حتّى استولى عليها وعلى عدّة قلاع.
وفيها توفّى إسماعيل بن إبراهيم الشيخ شرف الدين الفقيه الحنفىّ وهو
ابن خالة شمس الدين ابن الشّيرازىّ. كان فقيها فاضلا زاهدا عابدا ورعا
وله تصانيف حسان، منها «مقدمة فى الفرائض» ، وكان بعث إليه الملك
المعظّم عيسى صاحب دمشق يقول: أفت بإباحة الأنبذة، وما يعمل من ماء
الرمّان ونحوه، فقال: لا أفتح هذا الباب على أبى حنيفة! إنّما هى رواية
النوادر، وقد صحّ عن أبى حنيفة أنّه
(6/278)
ما شربه قطّ، وحديث ابن مسعود لا يصحّ،
وكذا ما يروى عن «1» عمر فى إباحة شربه لا يثبت عنه. فغضب المعظّم
وأخرجه من مدرسة طرخان.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو القاسم
أحمد بن أحمد بن السّمّذىّ «2» الكاتب. والحافظ أبو موسى عبد الله ابن
الحافظ عبد الغنى بن عبد الواحد المقدسىّ فى رمضان، وله ثمان وأربعون
سنة. وعبد اللطيف بن عبد الوهاب بن الطّبرىّ فى شعبان. والعلّامة موفّق
الدين عبد اللطيف بن يوسف ابن محمد البغدادىّ النحوىّ الطبيب فى
المحرّم عن اثنتين وسبعين سنة. والزاهد الشيخ عمر بن عبد الملك
الدّينورىّ بقاسيون. وأبو حفص عمر بن كرم بن أبى الحسن الدّينورىّ
الحمّامى فى رجب، وله تسعون سنة. وأبو القاسم عيسى بن عبد العزيز بن
عيسى المقرئ بالإسكندريّة. والحافظ معين الدين أبو بكر محمد بن عبد
الغنى بن نقطة الحنبلىّ فى صفر كهلا.
*** أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وثمانى أصابع.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وثلاث أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 630]
السنة الخامسة عشرة من ولاية الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن
أيّوب على مصر، وهى سنة ثلاثين وستمائة.
فيها فتح الملك الكامل محمد صاحب الترجمة آمد، وأخرج منها صاحبها الملك
المسعود بن مودود بعد حصار طويل؛ وتسلّم منه جميع القلاع التى كانت
بيده،
(6/279)
وبقى حصن كيفا عاصيا؛ فبعث الكامل أخاه
الأشرف، وأخاه شهاب الدين غازيا، ومعهما صاحب آمد تحت الحوطة؛ فسألهم
صاحب آمد فى تسليم الحصن فلم يسلّموا البلد، فعذّبه الأشرف عذابا
عظيما، وكان يبغضه؛ ولا زال الأشرف يحاصر حصن كيفا حتّى تسلّمها بعد
أمور فى صفر من السنة، ووجد عند مسعود المذكور خمسمائة بنت من بنات
الناس للفراش.
وفيها فتحت دار الحديث الأشرفيّة المجاورة لقلعة دمشق التى بناها الملك
الأشرف موسى، وأملى بها ابن الصلاح «1» الحديث، وذلك فى ليلة النصف من
شعبان، ووقف عليها الأشرف الأوقاف، وجعل بها نعل النّبيّ صلّى الله
عليه وسلم.
وفيها توفّى الوزير «2» صفىّ الدين عبد الله بن علىّ بن شكر، وزير
الملك العادل؛ وأصله من الدّميرة «3» ، وهى قرية بالوجه البحرى من
أعمال مصر. وكان صفىّ الدين المذكور وزيرا مهيبا عالما فاضلا له معرفة
بقوانين الوزارة، وكانت عنايته مصروفة إلى العلماء والفقهاء والادباء،
وكان مالكىّ المذهب. ومات بالقاهرة وهو على حرمته، وله بالقاهرة مدرسة
«4» معروفة به.
(6/280)
وفيها توفّى الملك العزيز عثمان ابن
السلطان الملك العادل أبى بكر بن أيّوب أخو الملك الكامل هذا، وكان
شقيق المعظّم عيسى، وهو صاحب بانياس وتبنين «1» والحصون، وهو الذي بنى
الصّبيبة «2» ؛ ودام مالكا لهذه القلاع إلى أن مات فى يوم الاثنين عاشر
شهر رمضان ببستانه ببيت «3» لهيا، وحمل تابوته فدفن بقاسيون عند أخيه
الملك المعظّم عيسى، وقد تقدّم أنّه كان شقيقه.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى بهاء الدين
إبراهيم ابن أبى اليسر شاكر بن عبد الله التّنوخىّ الشافعىّ فى
المحرّم، ولى قضاء المعرّة خمسة أعوام. وأبو الحسن علىّ بن أحمد بن
يوسف الأزجىّ بالقدس فى صفر. وأبو محمد الحسن ابن الأمير السيد علىّ بن
المرتضى العلوىّ الحسينىّ فى شعبان. وصفىّ الدين أبو بكر «4» عبد
العزيز بن أحمد [بن عمر بن سالم «5» بن محمد] بن باقا التاجر فى رمضان،
وله خمس وسبعون سنة. وصاحب الصّبيبة الملك العزيز عثمان بن العادل-
رحمه الله- والعلّامة عزّ الدين أبو الحسن علىّ بن الأثير بن محمد بن
محمد بن عبد الكريم
(6/281)
الشّيبانىّ الجزرىّ المؤرّخ فى شعبان، وقد
قارب ستّا وسبعين «1» سنة. وصاحب إربل مظفّر الدّين كوكبورى «2» ابن
صاحب إربل أيضا زين الدين «3» علىّ بن بكتكين التّركمانىّ فى رمضان.
والوزير «4» مؤيّد الدّين محمد بن محمد بن القمّىّ ببغداد. وشرف «5»
الدين محمد بن نصر الله بن مكارم الدّمشقىّ الشاعر الكاتب فى شهر ربيع
الأوّل.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشر أصابع. مبلغ
الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وستّ أصابع، وطال مكثه على الأراضى. والله
أعلم.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 631]
السنة السادسة عشرة من ولاية الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن
أيّوب على مصر، وهى سنة إحدى وثلاثين وستمائة.
فيها اجتمع الملك الكامل صاحب الترجمة وإخوته وأسد الدين شيركوه صاحب
حمص، وساروا ليدخلوا بلاد الروم من عند النهر الأزرق «6» ، فوجدوا
الروم قد حفظوا الدّربند، ووقفوا على رءوس الجبال وسدّوا الطرق،
فامتنعت العساكر من الدخول؛ وكان الملك الأشرف صاحب دمشق يومئذ ضيّق
الصدر من أخيه الملك الكامل هذا، لأنّه طلب منه الرّقّة فامتنع؛ وقال
له: ما يكفيك كرسىّ بنى أميّة! فاجتمع أسد الدين شيركوه صاحب حمص
بالأشرف وقال له: إن
(6/282)
حكم الكامل على الروم أخذ جميع ما بأيدينا
فوقع التقاعد، فلمّا رأى الكامل ذلك عبر الفرات ونزل السّويداء «1» ،
وجاءه صاحب خرتبرت «2» ، وهو من بنى أرتق، وقال له: عندنا طريق سهلة
تدخل منها إلى الروم. فجهّر الملك الكامل بين يديه ولده الملك الصالح
نجم الدين أيّوب، وابن أخيه الملك الناصر داود بن المعظّم، والخادم
صوابا، فجاءتهم عساكر الروم؛ وكان الناصر تأخّر وتقدّم صواب فى خمسة
آلاف فارس، ومعه الملك المظفّر صاحب حماة، وقاتلوا الروم وانهزموا؛
فعاد الملك الكامل إلى آمد. وكان أسر صواب وجماعة من الأمراء فأطلقهم
الروم بعد أن أحسنوا إليهم.
وفيها قدم رسول الأنبرور الفرنجىّ على الملك الكامل «3» بهدايا فيها
دبّ أبيض، وشعره مثل شعر السّبع، ينزل البحر فيصعد بالسمك فيأكله ومعه
أيضا طاوس أبيض.
وفيها توفّى الشيخ العارف المسلّك الزاهد شهاب الدين أبو حفص- وقيل أبو
عبد الله- عمر بن محمد بن عبد الله بن [محمد بن عبد الله «4» ] بن
عمّويه القرشىّ التّيمىّ البكرىّ السّهروردىّ الصّوفىّ. وذكر الذهبىّ
وفاته فى سنة اثنتين وثلاثين وهو الأشهر.
قلت: ومولده فى شهر رجب سنة تسع وثلاثين وخمسمائة بسهرورد، وقدم بغداد
وهو أمرد، فصحب عمّه الشيخ أبا النّجيب «5» عبد القاهر وأخذ عنه
التصوّف والوعظ
(6/283)
وصحب أيضا الشيخ عبد القادر «1» الجيلى،
وسمع الحديث من عمّه المذكور وغيره، وروى عنه البرزالى «2» وجماعة
كثيرة؛ وكان له فى الطريقة قدم ثابتة ولسان ناطق، وولى عدّة ربط
للصّوفيّة، ونفّذه الخليفة إلى عدّة جهات رسولا؛ وكان فقيها عالما
واعظا مفتنّا مصنّفا، وهو صاحب التصانيف المشهورة، واشتهر اسمه وقصد من
الأقطار، وظهرت بركات أنفاسه على خلق من العصاة فتابوا، ووصل به خلق
إلى الله تعالى، وكفّ بصره قبل موته.
قال أبو المظفّر سبط بن الجوزىّ: رأيته فى سنة تسعين وخمسمائة يعظ
برباط درب المقير «3» على منبر طين، وعلى رأسه مئزر صوف؛ قال: وصنّف
كتابا للصوفيّة وسمّاه «عوارف المعارف» . قال: وجلس يوما ببغداد وذكر
أحوال القوم وأنشد- رحمه الله تعالى وعفا عنه-:
ما فى الصّحاب أخو وجد نطارحه ... حديث نجد ولا صبّ نجاريه
وجعل يردّد البيت ويطرب، فصاح به شابّ من أطراف المجلس، وعليه قباء
وكلوتة «4» ؛ وقال: يا شيخ، لم تسطح وتنتقص القوم! والله إنّ فيهم من
لا يرضى أن يجاريك، ولا يصل فهمك إلى ما يقول، هلّا أنشدت:
ما فى الصّحاب وقد سارت حمولهم ... إلّا محبّ له فى الرّكب محبوب
كأنّه يوسف فى كلّ راحلة ... والحىّ فى كلّ بيت منه يعقوب!
(6/284)
فصاح الشيخ ونزل من على المنبر وقصده فلم
يجده، ووجد موضعه حفرة بها دم ممّا فحص برجلية عند إنشاد الشيخ البيت.
انتهى كلام أبى المظفّر باختصار.
وفيها توفّى الشيخ طىّ «1» المصرىّ مويد الشيخ محمد الفزارىّ، قدم
الشام وأقام مدّة بزاويته، وكان يغشاه الأكابر، وانتفع بصحبته جماعة،
وكان زاهدا عابدا، ودفن بزاويته بدمشق.
وفيها توفّى الشيخ عبد الله الارمنى الزاهد العابد الورع، كان رحّالا
سافر إلى البلاد ولقى الأبدال وأخذ عنهم، وكان له مجاهدات ورياضات
وعبادات وسياحات، وكان فى بداية أمره لا يأوى إلّا البرارى القفار
ويتناول المباحات؛ قرأ القرآن وكتاب القدورى فى الفقه، وصحب رجالا من
الأولياء، وكان معدودا من فقهاء الحنفية؛ وله حكايات ومناقب كثيرة.
ومات فى يوم الجمعة تاسع عشرين ذى القعدة، ودفن بسفح قاسيون، وقد جاوز
سبعين سنة.
وفيها توفّى العلّامة سيف الدّين علىّ بن أبى علىّ بن محمد بن سالم
المعروف بالسيف الآمدىّ، كان إماما بارعا لم يكن فى زمانه من يجاريه فى
علم الكلام.
قال أبو المظفّر: وكان يرمى بأشياء ظاهرها أنّه كان بريئا منها، لأنّه
كان سريع الدّمعة، رقيق القلب سليم الصدر، وكان مقيما بحماة وسكن دمشق،
وكان بنو العادل:
المعظّم والأشرف والكامل يكرهونه لما اشتهر عنه من الاشتغال بالمنطق
وعلوم الأوائل. ثم قال أبو المظفّر بعد كلام آخر: وأقام السيف خاملا فى
بيته إلى أن توفّى فى صفر، ودفن بقاسيون فى تربته.
(6/285)
وفيها توفّى كريم الدين الخلاطىّ الأمير،
كان أديبا لطيفا حسن اللّقاء ذا مروءة خدم الأشرف والمعظّم والكامل،
وحجّ بالناس أميرا من الشام، وتوفّى بدمشق ودفن بقاسيون عند مغارة
الجوع.
وفيها توفّى الصلاح «1» الإربلىّ، كان أديبا فاضلا شاعرا، خدم مظفّر
الدّين صاحب إربل، ثمّ انتقل إلى خدمة الملك المغيث بن العادل، ثمّ خدم
الكامل وتقدّم فى دولته وصار نديمه؛ ثم سخط عليه، لأنّه بعثه رسولا إلى
أخيه المعظّم فنقل عنه أنّ المعظّم استماله، فحبسه الكامل فى الجبّ «2»
مدّة سنتين، ثم رضى عنه وأخرجه. ومن شعره من قصيدة:
من يوم فراقنا على التحقيق ... هذى كبدى أحقّ بالتمزيق
لو دام لنا الوصال ألفى سنة ... ما كان يفى بساعة التفريق
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى إسماعيل بن
علىّ بن إسماعيل ابن ماتكين الجوهرىّ فى ذى القعدة، وله ثمانون سنة.
ونجم الدين ثابت بن بادان «3» التّفليسى الصّوفىّ شيخ الأسديّة. وسراج
الدين الحسين بن أبى بكر المبارك بن محمد الزّبيدىّ الحنبلىّ فى صفر،
وله خمس وثمانون سنة. وزكريّا بن علىّ بن حسّان العلبىّ فى شهر ربيع
الأوّل. والخادم طغريل أتابك الملك العزيز «4» ومدبّر دولته.
والشيخ القدوة عبد الله بن يونس الأرمنىّ «5» . والسيف الآمدىّ علىّ بن
أبى علىّ بن محمد بن سالم الثّعلبى فى صفر، وله ثمانون سنة. والمحدّث
أبو رشيد محمد بن أبى بكر
(6/286)
الأصبهانىّ الغزالىّ المقرئ. وأبو عبد الله
محمد بن عمر بن يوسف القرطبىّ فى صفر بالمدينة. وأبو الغنائم المسلم بن
أحمد المازنى النّصيبىّ فى شهر ربيع الأوّل.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع سواء. مبلغ الزيادة ستّ
عشرة ذراعا وثلاث أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 632]
السنة السابعة عشرة من ولاية الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن
أيّوب على مصر، وهى سنة اثنتين وثلاثين وستمائة.
فيها خرجت عساكر الروم نحو آمد وحاصروها وأقامو عليها أياما، ثم نازلوا
السّويداء «1» فأخذوها.
وفيها كان الوباء العظيم بمصر حيث إنّه مات فى شهر نيّف وثلاثون ألف
إنسان.
وفيها توفّى عبد السلام بن المطهّر بن عبد الله بن محمد بن [أبى «2» ]
عصرون. كان فقيها فاضلا زاهدا إلّا أنّه كان مغزى بالنكاح، كان عنده
نيّف وعشرون جارية للفراش. ومات بدمشق ودفن بقاسيون، وهو والد قطب «3»
الدين وتاج «4» الدين.
وفيها توفّى صواب العادلى مقدّم عسكر الملك الكامل الذي كانت الروم
أسرته فى عام أوّل، وكان خادما عاقلا شجاعا، وكان العادل والكامل
يعتمدان عليه، وكان حاكما على الشرق كلّه من قبل الكامل.
(6/287)
وفيها توفّى الشيخ شرف الدين أبو حفص «1»
عمر بن أبى الحسن علىّ بن المرشد ابن علىّ المعروف بابن الفارض الحموىّ
الأصل، المصرىّ [المولد و «2» ] الدار والوفاة الصالح الشاعر المشهور،
أحد البلغاء الفصحاء الأدباء. مولده فى رابع ذى القعدة سنة ستّ وسبعين
وخمسمائة، وتوفّى بالقاهرة فى يوم الثلاثاء الثانى من جمادى الأولى «3»
، ودفن من الغد بسفح المقطم، وقبره معروف به يقصد للزيارة. والفارض
(بفتح الفاء وبعدها ألف وراء مكسورة «4» وضاد معجمة) . وهو الذي مكتب
الفروض على النساء والرجال. وهو صاحب النظم الرائق والشعر الفائق
الغرامىّ. وديوان شعره مشهور كثير الوجود بأيدى الناس، وشعره أشهر من
أن يذكر. فمن مقطّعات شعره قوله:
وحياة أشواقى إلي ... ك وحرمة «5» الصبر الجميل
لا أبصرت «6» عينى سوا ... ك ولا صبوت إلى خليل
ومن قصائده المشهورة- رحمه الله وعفا عنه-:
سائق الأظعان يطوى البيد طىّ ... منعما عرّج على كثبان طىّ
وبذات الشّيح عنّى إن مرر ... ت بحىّ من عريب الجزع حىّ
وتلطّف واجر ذكرى عندهم ... علّهم أن ينظروا عطفا إلىّ
قل تركت الصّبّ فيكم شبحا ... ماله ممّا براه الشّوق فىّ
(6/288)
خافيا عن عائد لاح كما ... لاح فى برديه
بعد النّشر طىّ
صار وصف الضّرّ ذاتيّا له ... عن عناء والكلام الحىّ لىّ
كهلال الشّكّ لولا أنّه ... أنّ عينى عينه لم تتأىّ
مثل مسلوب حياة مثلا ... صار فى حبّكم ملسوب حىّ
مسبلا للنّأى طرفا جاد إن ... ضنّ نوء الطّرف إذ يسقط خىّ
بين أهليه غريبا نازحا ... وعلى الأوطان لم يعطفه لىّ
جامحا إن سيم صبرا عنكم ... وعليكم جانحا لم يتأىّ
نشر الكاشح ما كان له ... طاوى الكشح قبيل النأى طىّ
فى هواكم رمضان عمره ... ينقضى ما بين إحياء وطىّ
صاديا شوقا لصدّى طيفكم ... جدّ ملتاح إلى رؤيا ورىّ
حائرا فيما إليه أمره ... حائر والمرء فى المحنة عىّ
فكأيّن من أسى أعيا الأسى ... نال لو يغنيه قولى وكأىّ
رائيا إنكار ضرّ مسّه ... حذر التعنيف فى تعريف رىّ
والذي أرويه عن ظاهر ما ... باطنى يزويه عن علمى زىّ
يا أهيل الودّ أنّى تنكرو ... نى كهلا بعد عرفانى فتىّ
وهوى الغادة عمرى عادة ... يجلب الشّيب إلى الشابّ الأحىّ
نصبا أكسبنى الشوق كما ... تكسب الأفعال نصبا لام كئّ
[ومتى أشكو جراحا بالحشى ... زيد بالشّكوى إليها الجرح كىّ]
عين حسّادى عليها لى كوت ... لا تعدّاها أليم الكىّ كىّ
عجبا فى الحرب أدعى باسلا ... ولها مستبسلا فى الحبّ كىّ
هل سمعتم أو رأيتم أسدا ... صاده لحظ مهاة أو ظبىّ
(6/289)
سهم شهم القوم أشوى وشوى ... سهم ألحاظكم
أحشايى شىّ
وضع الآسى بصدرى كفّه ... قال مالى حيلة فى ذا الهوىّ
أىّ شىء مبرد حرّا شوى ... للشّوى حشو حشاى أىّ شىّ
سقمى من سقم أجفانكم ... وبمعسول الثّنايا لى دوىّ
أوعدونى أوعدونى وامطلوا ... حكم دين الحبّ دين الحبّ لىّ
رجع اللّاحى عليكم آيسا ... من رشادى وكذاك العشق غىّ
أبعينيه عمّى عنكم كما ... صمم عن عذله فى أذنىّ
أو لم ينه النّهى عن عذله ... زوايا وجه قبول النّصح زى
ظلّ يهدى لى هدى فى زعمه ... ضلّ كم يهذى ولا أصغى لغىّ
ولما يعذل عن لمياء طو ... ع هوى فى العذل أعصى من عصىّ
لومه صبّا لدى الحجر صبا ... بكم دلّ على حجر صبىّ
عاذلى عن صبوة عذريّة ... هى بى لا فتئت هىّ بن بىّ
ذابت الرّوح اشتياقا فهى بع ... د نفاد الدمع أجرى عبرتىّ
فهبوا عينىّ ما أجدى البكا ... عين ماء فهى إحدى منيتىّ
أو حشا سال ولا أختارها ... إن تروا ذاك بها منّا علىّ
بل أسيئوا فى الهوى أو أحسنوا ... كلّ شىء حسن منكم لدىّ
وفيها توفّى عيسى بن سنجر بن بهرام بن جبريل بن خمارتكين «1» الشيخ
الإمام الأديب البارع حسام الدين أبو يحيى- وقيل: أبو الفضل- الإربلىّ
المعروف بالحاجرىّ الشاعر المشهور. كان جنديّا من أولاد الأتراك. وكان
أديبا فاضلا ظريفا فصيحا، وله ديوان شعر مشهور، يغلب على شعره الرّقة
والانسجام.
(6/290)
قال ابن خلّكان- رحمه الله-: وكان صاحبى
وأنشدنى كثيرا من شعره، فمن ذلك وهو معنى جيّد فى نهاية الجودة:
ما زال يحلف لى بكلّ أليّة ... ألّا يزال مدى الزمان مصاحبى
لمّا جفا نزل العذار بخدّه ... فتعجّبوا لسواد وجه الكاذب
قال وأنشدنى لنفسه أيضا:
لك خال من فوق عر ... ش شقيق قد استوى
بعث الصّدع مرسلا ... يأمر الناس بالهوى
انتهى.
قلت: ومن شعره أيضا:
لك «1» أن تشوّقنى إلى الأوطان ... وعلىّ أن أبكى بدمعى القانى
إنّ الألى «2» رحلوا غداة محجّر ... ملئوا القلوب لواعج الأحزان
فلأبعثنّ مع النسيم إليهم ... شكوى تميل لها غصون البان
نزلوا برامة قاطنين فلا تسل ... ما حلّ بالأغصان والغزلان
وكانت وفاته فى يوم الخميس ثانى شوّال، وتقدير عمره خمسون سنة.
والحاجرىّ (بفتح الحاء المهملة وبعد الألف جيم مكسورة وبعدها راء) وهذه
النسبة إلى حاجر، وكانت بليدة بالحجاز. وسبب تسميته بذلك لأنّه كان
يكثر من ذكر الحاجر فى شعره فسمّى بذلك.
(6/291)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة،
قال: وفيها توفّى الحسن «1» بن صباح بن حسام المخزومىّ الكاتب فى رجب،
وله إحدى وتسعون سنة، وتقي الدين علىّ بن أبى الفتح [المبارك بن «2»
الحسن بن أحمد] بن ماسويه الواسطىّ فى شعبان، وله ست وسبعون سنة.
والأديب شرف الدّين عمر بن علىّ بن المرشد الحموىّ بن الفارض بمصر فى
جمادى الأولى. والزاهد العارف أبو حفص «3» عمر بن محمد بن عبد الله
التّيمىّ السّهروردىّ فى أوّل السنة، وله ثلاث وتسعون سنة. وأبو عبد
الله محمد بن عماد ابن محمد الحرّانىّ التاجر فى صفر بالإسكندرية، وله
تسعون سنة. والقدوة الزاهد غانم بن علىّ [بن «4» إبراهيم بن عساكر]
المقدسىّ. والقاضى العلّامة بهاء «5» الدين يوسف ابن رافع بن تميم
الشافعىّ ابن شدّاد بحلب فى صفر. وسيف الدولة محمد بن غسّان الحمصى فى
شعبان. وأبو الوفا محمود [بن إبراهيم «6» بن سفيان] بن مندة التاجر
بأصفهان شهيدا فى خلق لا يحصون بسيف التتار فى شوّال. وأبو سعد «7»
محمد بن عبد الواحد المدينى. وحسام الدين عيسى بن سنجر بن بهرام
الإربلىّ المعروف بالحاجرىّ الشاعر المشهور، قتله شخص فى شوّال، وله
خمسون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع سواء. مبلغ الزيادة ست
عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا.
(6/292)
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 633]
السنة الثامنة عشرة من ولاية الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن
أيّوب، على مصر، وهى سنة ثلاث وثلاثين وستمائة.
فيها استعاد الكامل من الروم حرّان والرّها وغيرهما، وأخرب قلعة الرّها
ونزل على دنيسر فأخربها ومعه أخوه الأشرف، وبينما هم فى ذلك جاء كتاب
بدر الدين لؤلؤ إلى الأشرف يقول: قد قطع التّتار دجلة فى مائة طلب كلّ
طلب خمسمائة فارس، ووصلوا إلى سنجار، فخرج إليهم معين الدين بن كمال
الدين بن مهاجر فقتلوه على باب سنجار، ثم رجع التتار ثم عادت. فأمّنهم
الأشرف للتوجّه إلى جهة الشرق.
وفى هذه السنة كان الطاعون العظيم بمصر وقراها، مات فيه خلق كثير من
أهلها وغيرها حتى تجاوز الحدّ.
وفيها جاءت الخوارزميّة إلى صاحب ماردين فنزل إليهم وقاتلهم، ثم نزلوا
نصيبين وأحرقوها، وفعلوا فيها أعظم ما فعل الكامل بدنيسر.
وفيها توفّى الحسن بن محمد القاضى القيلوىّ «1» ، وقيلويّة: قرية من
قرى بغداد.
كان فاضلا كاتبا، ولد بالعراق سنة أربع وستين وخمسمائة، وكان كثير
الأدب مليح الخطّ عارفا بالتواريخ حسن العبارة متواضعا، وكانت وفاته فى
ذى القعدة ودفن بمقابر الصوفيّة عند المنيبع.
وفيها توفّى أبو المحاسن «2» محمد بن نصر [الدين بن نصر بن «3» الحسين]
بن عتين الزرعى، أصله من حوران.
(6/293)
قال أبو المظفّر: «كان خبيث اللّسان هجّاء
فاسقا متهتّكا، عمل قصيدة سمّاها:
«مقراض الأعراض» خمسمائة بيت، لم يفلت أحد من أهل دمشق منها بأقبح هجو.
ونفاه السلطان صلاح الدين إلى الهند، فمضى ومدح ملوكها واكتسب مالا،
وعاد إلى دمشق. ومن هجوه فى السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب- رحمه
الله تعالى- قوله:
سلطاننا أعرج وكاتبه ... ذو عمش والوزير منحدب
وصاحب الأمر خلقه شرس ... وعارض الجيش داؤه عجب
والدّولعىّ الخطيب معتكف ... وهو على قشر بيضة يثب
ولابن باقا وعظ يغرّ به الن ... اس وعبد اللطيف محتسب
ولمّا نفى كتب من الهند إلى دمشق:
فعلام أبعدتم أخا ثقة ... لم يجترم ذنبا ولا سرقا
انفوا المؤذّن من بلادكم ... إن كان ينفى كلّ من صدقا
ولمّا عاد إلى دمشق هجا الملك العادل سيف الدين أبا بكر بن أيّوب
بقوله:
إن سلطاننا الذي نرتجيه ... واسع المال ضيّق الإنفاق
هو سيف كما يقال ولكن ... قاطع للرّسوم والأرزاق
قال: واستكتبه الملك المعظّم، وكان من أكبر سيّئات المعظّم. ومات عن
إحدى وثمانين سنة» . انتهى كلام أبى المظفّر باختصار.
وقال ابن خلّكان: «كان خاتمة الشعراء، لم يأت بعده مثله، ولا كان فى
أواخر عصره من يقاس به، ولم يكن شعره مع جودته مقصورا على أسلوب واحد.
ثم نعته بأشياء إلى أن قال: ولمّا ملك الملك العادل دمشق كتب إليه
قصيدته الرائيّة
(6/294)
يستأذنه فى الدخول إليها، ويصف دمشق ويذكر
ما قاساه فى الغربة؛ وقد أحسن فيها كلّ الإحسان واستعطفه كلّ
الاستعطاف، وأوّلها:
ماذا على طيف الأحبّة لو سرى ... وعليهم لو سامحونى فى الكرى
ثم وصف دمشق وقال:
فارفتها لا عن رضا وهجرتها ... لا عن قلّى ورحلت لا متخيّرا
أسعى لرزق فى البلاد مشتّت ... ومن العجائب أن يكون مقتّرا
وأصون وجه مدائحى متقنّعا ... وأكفّ ذيل مطامعى متستّرا
ومنها يشكو الغربة:
أشكو إليك نوى تمادى عمرها ... حتّى حسبت اليوم منها أشهرا
لا عيشتى تصفو ولا رسم «1» الهوى ... يعفو ولا جفنى يصافحه الكرى
أضحى عن الأحوى المريع محلّأ ... وأبيت عن ورد النّمير منفّرا
ومن «2» العجائب أن يقيل بظلّكم ... كلّ الورى وأبيت وحدى بالعرا
فلمّا وقف عليها العادل أذن له فى الدخول إلى دمشق، فلمّا دخلها قال:
هجوت الأكابر فى جلّق «3» ... ورعت الوضيع بسبّ الرّفيع
وأخرجت منها ولكنّنى ... رجعت على رغم أنف الجميع
وفيها توفّى أبو الخطّاب بن دحية المغربىّ. قال أبو المظفّر: كان فى
المحدّثين مثل ابن عنين فى الشعراء، يثلب علماء المسلمين ويقع فيهم،
ويتزيّد فى كلامه، فترك الناس الرواية عنه وكذّبوه. وكان الكامل مقبلا
عليه، فلمّا انكشف له حاله
(6/295)
أعرض عنه، وأخذ منه دار الحديث وأهانه،
فمات فى شهر ربيع الأوّل بالقاهرة ودفن بقرافة مصر.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الجمال أبو
حمزة أحمد ابن عمر بن الشيخ أبى عمر المقدسى. وعفيف الدين علىّ بن عبد
الصمد [بن محمد «1» بن مفرج] بن الرمّاح المصرىّ المقرئ النحوى. وأبو
الحسن [علىّ «2» ] بن أبى بكر بن روزبة القلانسىّ الصّوفىّ فى شهر ربيع
الآخر، وقد جاوز التسعين. والعلّامة أبو الخطّاب عمر [بن الحسن «3» ]
بن علىّ البلنسىّ المعروف بابن دحية فى شهر ربيع الأوّل عن سبع وثمانين
سنة. والفخر محمد بن إبراهيم بن مسلم الإربلىّ الصّوفى بإربل فى شوّال
أو شهر رمضان. وقاضى القضاة عماد الدين أبو صالح نصر بن عبد الرزاق ابن
الشيخ عبد القادر الجيلىّ الحنبلىّ فى شوّال.
امر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وسبع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإصبعان.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 634]
السنة التاسعة عشرة من ولاية الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر ابن
أيّوب على مصر، وهى سنة أربع وثلاثين وستمائة.
فيها نزلت التّتار على إربل وحاصرتها مدّة حتّى أخذوها عنوة، وقتلوا
كلّ من فيها وسبوا وفضحوا البنات، وصارت الابار والدّور قبورا للناس.
وكان أيدكين «4»
(6/296)
مملوك الخليفة بالقلعة فقاتلهم، فنقبوا
القلعة وجعلوا لها سردابا وطرقا، وقلّت عندهم المياه حتّى مات بعضهم
عطشا، فلم يبق سوى أخذها؛ فرحلوا عنها فى ذى الحجّة، وقد عجزوا عن حمل
ما أخذوا من الأموال والغنائم.
وفيها استخدم الملك الصالح نجم الدين أيّوب ابن الملك الكامل- صاحب
الترجمة- الخوارزميّة أصحاب جلال الدين، فانضمّوا عليه وانفصلوا من
الروم؛ وسرّ والده الملك الكامل بذلك.
وفيها بدت الوحشة بين الأخوين، وسببها أنّ الأشرف طلب من الكامل
الرّقّة وقال: الشرق كلّه صار له، وأنا أركب كلّ يوم فى خدمته، فتكون
الرّقّة برسم عليق دوابّى، فأبى الكامل وأغلظ فى الجواب، فوقعت الوحشه
بينهم بسبب ذلك.
وفيها توفى الناصح عبد الرحمن بن نجم بن عبد الوهّاب الحنبلىّ، ولد
بدمشق ونشأ بها، وتفقّه ووعظ وصنّف ودرّس بمدرسة ربيعة خاتون. ومات فى
غرّة المحرّم.
وفيها توفّى السلطان الملك العزيز محمد ابن السلطان الملك الظاهر غازى
ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب. كان صاحب حلب، وليها بعد وفاة
أبيه الظاهر.
ومولده فى ذى الحجّة سنة تسع أو عشر وستمائة. وتوفّى والده وهو طفل،
فنشأ تحت حجر شهاب الدين الخادم، فرتّب شهاب الدين أموره أحسنى ترتيب
إلى سنة تسع وعشرين وستمائة. استقلّ الملك العزيز هذا بالأمر إلى أن
توفّى بحلب فى شهر ربيع الأوّل. وكان حسن الصورة كريما عفيفا، ولم يبلغ
أربعا وعشرين سنة. ودفن بقلعة حلب، وإليه تنسب المماليك العزيزية الآتى
ذكرهم فى عدّة أماكن.
وفيها توفّى كيقباذ السلطان علاء الدين صاحب الروم. كان عاقلا شجاعا
مقداما جوادا، وهو الذي كسر الخوارزمىّ وكسر الكامل واستولى على بلاد
الشرق.
(6/297)
وكان الملك العادل زوّجه ابنته فأولدها
أولادا؛ وكان عادلا منصفا مهيبا، ما وقف له مظلوم إلّا وكشف ظلامته،
وكانت وفاته فى شوّال.
قلت: وبنو قرمان «1» ملوك الروم فى زماننا هذا يزعمون أنّهم من نسل
السلطان علاء الدين هذا- والله أعلم-.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الملك المحسن
أحمد ابن السلطان صلاح الدين فى المحرّم، وله سبع وخمسون سنة. والخطيب
أبو طاهر الخليل أحمد الجوسقىّ فى شهر ربيع الأوّل. وأبو منصور سعيد بن
محمد بن يس السفّار، وقد حجّ تسعا وأربعين حجّة، فى صفر. والحافظ أبو
الربيع سليمان بن موسى بن سالم الكلاعىّ «2» البلنسىّ فى ذى الحجّة،
وله سبعون سنة. والإمام ناصح الدين عبد الرحمن بن نجم بن عبد الوهاب
الحنبلىّ فى المحرّم، وقد نيّف على الثمانين. ومفتى حرّان ناصر «3»
الدّين عبد القادر بن عبد القاهر بن أبى الفهم الحنبلىّ فى شهر ربيع
الأوّل عن اثنتين وسبعين سنة. وعلىّ بن محمد بن جعفر بن كب «4»
المؤدّب. وكمال الدين علىّ بن أبى الفتح بن الكبارى الطبيب بحلب فى
المحرّم. وسلطان الروم علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو بن قلج أرسلان
السّلجوقىّ فى شوّال. والحافظ أبو الحسن محمد بن أحمد بن عمر القطيعىّ
«5» فى شهر ربيع الآخر عن تسع وثمانين سنة. والملك العزيز
(6/298)
محمد ابن الملك الظاهر غازى بن [صلاح الدين] يوسف صاحب حلب بها فى شهر
ربيع الأوّل. ومحتسب دمشق الفخر محمود بن عبد اللطيف. وأبو الحسن مرتضى
ابن أبى الجود حاتم بن المسلم الحارثىّ المصرىّ فى شوّال. وأبو بكر هبة
«1» الله بن عمر ابن الحسن القطّان، وكان آخر من روى عن أمّه كمال بنت
عبد الله بن السّمرقندىّ، وعن هبة الله الشّبلىّ، عاش نيفا وثمانين
سنة. وياسمين بنت سالم [بن «2» علىّ] بن البيطار يوم عاشوراء.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع سواء. مبلغ الزيادة ست
عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا. |