النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

*** [ما وقع من الحوادث سنة 615]
السنة التاسعة عشرة من ولاية الملك العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى التى مات فيها العادل فى جمادى الآخرة حسب ما تقدّم ذكره، وهى سنة خمس عشرة وستمائة.

(6/221)


وفيها نزلت الفرنح على دمياط فى شهر ربيع الأوّل، وكان العادل بمرج الصّفّر، فبعث بالعساكر التى كانت معه إلى مصر إلى ولده الكامل، وأقام المعظّم بالساحل بعسكر الشام فى مقابلة الفرنج ليشغلهم عن دمياط.
وفيها استدعى الملك العادل صاحب الترجمة ابنه الملك المعظّم المقدّم ذكره وقال له: قد بنيت هذا الطّور «1» ، وهو يكون سببا لخراب الشام، وقد سلّم الله من كان فيه من أبطال المسلمين، وسلاح الدنيا والذخائر؛ وأرى من المصلحة خرابه ليتوفّر من فيه من المسلمين والعدد على حفظ دمياط، وأنا أعوّضك عنه؛ فتوقّف المعظّم وبقى أيّاما لا يدخل إلى أبيه العادل، فبعث إليه العادل ثانيا وأرضاه بالمال، ووعده فى مصر ببلاد، فأجاب المعظّم وبعث ونقل ما كان فيه.
وفيها فى يوم الجمعة ثانى عشر شهر ربيع الآخر كسر الملك الأشرف موسى صاحب خلاط وديار بكر وحلب ابن الملك العادل هذا ملك الروم كيكاوس.
وفيها أيضا بعث الأشرف المذكور بالأمير سيف الدين بن كهدان والمبارز ابن خطلخ بجماعة من العساكر نجدة إلى أخيه الملك الكامل بدمياط، كلّ ذلك والقتال عمّال بين الملك الكامل والفرنج على ثغر دمياط.
وفيها فى آخر جمادى الأولى أخذ الفرنج برج السّلسلة «2» من الكامل، فأرسل الكامل شيخ الشيوخ صدر الدين إلى أبيه العادل وأخبره، فدقّ العادل بيده على صدره، ومرض من قهره مرض الموت.

(6/222)


وفيها فى جمادى الآخرة التقى الملك المعظّم الفرنج بساحل الشام وقاتلهم فنصره الله عليهم، وقتل منهم مقتلة، وأسر من الدّاويّة «1» مائة فارس، وأدخلهم القدس منكّسى الأعلام.
وفيها وصل رسول خوارزم شاه إلى الملك العادل هذا وهو بمرج الصّفّر، فبعث بالجواب الخطيب «2» الدّولعىّ ونجم الدين خليل [بن «3» علىّ الحنفى] قاضى العسكر، فوصلا همذان فوجدا الخوارزمىّ قد اندفع بين يدى الخطا [والتتار «4» ] ، وقد خامر عليه عسكره، فسارا إلى حدّ بخارى؛ فاجتمعا بولده الملك جلال الدين فأخبرهما بوفاة العادل صاحب الترجمة مرسلهما، فرجعا إلى دمشق.
وفيها حجّ بالناس من بغداد أقباش «5» الناصرى.
وفيها توفّى عبد الله بن الحسين أبو القاسم عماد الدين الدّامغانىّ الحنفىّ قاضى القضاة ببغداد؛ ومولده فى شهر رجب سنة أربع وستين وخمسمائة. وكان له صمت ووقار ودين وعصمة وعفّة وسيرة حسنة مع العلم والفضل، وكانت وفاته فى ذى القعدة ودفن بالشّونيزيّة.
وفيها توفّى كيكاوس «6» الأمير عزّ الدين صاحب الروم، كان جبّارا ظالما سفّاكا للدماء، ولمّا عاد إلى بلده من كسرة الأشرف موسى اتّهم أقواما من أمراء دولته

(6/223)


أنهم قصّروا فى قتال الحلبيّين، وسلق منهم جماعة فى القدور، وجعل آخرين فى بيت وأحرقه؛ فأخذه الله بغتة. ومات سكران فجأة؛ وقيل: بل ابتلى فى بدنه، وتقطّعت أوصاله. وكان أخوه علاء الدين كيقباد محبوسا فى قلعة، وقد أمر كيكاوس بقتله، فبادروا وأخرجوه، وأقاموه فى الملك. وكانت وفاة كيكاوس فى شوّال، وهو الذي أطمع الفرنج فى دمياط.
وفيها توفّى خوارزم شاه واسمه محمد بن تكش بن إيل أرسلان بن أتسر ابن محمد بن أنوشتكين السلطان علاء الدين المعروف بخوارزم شاه.
قال ابن واصل «1» : نسبه ينتهى إلى إيلتكين أحد مماليك السلطان ألب أرسلان ابن طغرلبك السّلجوقىّ، وكانت سلطنة خوارزم شاه المذكور فى سنة ست وتسعين وخمسمائة عند موت والده السلطان علاء الدين تكش.
وقال عز الدين بن الأثير: كان صبورا على التعب وإدمان السّير غير متنعّم ولا مقبل على اللّذات، إنّما همّته فى الملك وتدبيره وحفظه وحفظ رعيّته، وكان فاضلا عالما بالفقه والأصول وغيرهما، وكان مكرما للعلماء محبّا لهم محسنا إليهم يحبّ مناظرتهم بين يديه ويعظم أهل الدين ويتبرّك بهم.
- قلت: وهذا بخلاف ما ذكره أبو المظفّر ممّا حكاه عن الشيخ شهاب الدين السّهروردىّ، لمّا توجه إلى خوارزم شاه هذا رسولا من قبل الخليفة الناصر لدين الله فإنّه ذكر عنه أشياء من التكبّر والتعاظم عليه، وعدم الالتفات له، وإنّه صار لا يفهم كلام السّهروردىّ إلّا بالتّرجمان؛ ولعلّه كان فعل ذلك لإظهار العظمة، وهو نوع من تجاهل العارف- قال: وكان أعظم ملوك الدنيا واتّسعت ممالكه شرقا وغربا

(6/224)


وهابته الملوك حتّى لم يبق إلّا من دخل تحت طاعته وصار من عسكره. ومحق أبوه التّتار بالسيف وملك منهم البلاد. ووقع له أمور طويلة حتّى إنّه نزل همذان، وكان فى عسكره سبعون ألفا من الخطا؛ فكاتب القمّىّ «1» عساكره ووعدهم بالبلاد، فآتّفقوا مع الخطا على قتله. وكان خاله من الخطا وحلّفوه ألّا يطلعه على ما دبّروا عليه، فجاء إليه فى الليل وكتب فى يده صورة الحال «2» ، فقام وخرج من وقته ومعه ولداه: جلال الدين وآخر؛ ولمّا خرج من الخيمة دخل الخطا والعساكر من بابها ظنّا منهم أنّه فيها، فلم يجدوه فنهبوا الخزائن، يقال: إنّه كان فى خزائنه عشرة آلاف ألف دينار، وألف حمل قماش أطلس، وعشرون ألف فرس وبغل، وكان له عشرة آلاف مملوك، فتمزّق الجميع وهرب ولداه إلى الهند، وهرب خوارزم شاه إلى الجزيرة، وفيها قلعة ليتحصّن بها، فمات دون طلوع القلحة المذكورة فى هذه السنة، وقيل: فى سنة سبع «3» عشرة وستمائة. والله أعلم.
وفيها توفّى الملك القاهر عزّ الدّين مسعود [بن أرسلان «4» بن مسعود بن مودود ابن زنكى أبو الفتح] صاحب الموصل، وترك ولدا صغيرا اسمه محمود، فأخرج الأمير بدر الدين لؤلؤ زنكىّ أخا «5» القاهر من الموصل واستولى عليها، ودبّر مملكة محمود المذكور.

(6/225)


الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الشهاب فتيان بن علىّ الشاغورىّ»
الأديب. وصاحب الروم السلطان عزّ الدين كيكاوس، وولى بعده علاء الدين أخوه. وصاحب الموصل عزّ الدين مسعود بن أرسلان شاه الاتابكىّ.
وصاحب مصر وغيرها السلطان الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيّوب فى جمادى الآخرة عن سبع وسبعين سنة. وأبو الفتوح محمد بن محمد [بن «2» محمد] بن عمروك البكرىّ النّيسابورىّ الصّوفىّ فى جمادى الآخرة، وهو فى عشر المائة.
والشمس أبو القاسم أحمد بن عبد الله بن عبد الصمد السلمىّ العطّار فى شعبان.
والحافظ أبو العبّاس أحمد بن أحمد بن أحمد بن كرم البندنيجىّ «3» فى رمضان عن أربع وسبعين سنة، سمع ابن الزّاغونىّ «4» . وأمّ المؤيّد زينب بنت عبد الرحمن بن الحسن الشّعريّة، ولها إحدى وتسعون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وستّ أصابع. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وستّ أصابع.

(6/226)


ذكر سلطنة الملك الكامل على مصر
أعنى بذلك استقلالا بعد وفاة أبيه العادل، لأنّ الكامل هذا كان متولّى سلطنة مصر فى حياة والده العادل، لمّا قسم العادل الممالك فى أولاده من سنين عديدة؛ أعطى المعظّم عيسى دمشق، وأعطى الأشرف موسى الشرق، وأعطى الملك الكامل محمدا هذا مصر، وصار هو يتنقّل فى ممالك أولاده، والعمدة فى كلّ الممالك عليه إلى أن مات الملك العادل تفرّد الملك الكامل محمد بالخطبة فى ديار مصر وأعمالها، واستقلّ بأمورها وتدبير أحوالها، وذلك من يوم وفاة والده الملك العادل المذكور، وهو من يوم الجمعة سابع جمادى الآخرة من سنة خمس عشرة وستمائة.
قلت: وقد تقدّم نسب الملك الكامل هذا فى ترجمة عمه السلطان صلاح الدين، واستوعبنا ذلك من عدّة أقوال وحررناه، فلينظر هناك.
قال أبو المظفّر: «ولد الكامل سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، وكان أكبر أولاد العادل بعد مودود «1» ، وكان العادل قد عهد إليه لما رأى من ثباته وعقله وسداده.
وكان شجاعا ذكيّا فطنا يحبّ العلماء والأمائل ويلقى عليهم المشكلات، ويتكلّم على صحيح مسلم بكلام مليح، ويثبت بين يدى العدوّ. وأمّا عدله فإليه المنتهى» انتهى كلام أبى المظفّر باختصار.
وقال الحافظ أبو عبد الله شمس الدين محمد الذهبىّ فى تاريخ الإسلام: «الملك الكامل محمد السلطان ناصر الدين أبو المعالى وأبو المظفّر ابن السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيّوب بن شادى صاحب مصر. ولد بمصر سنة ست وسبعين وخمسمائة.

(6/227)


- قلت: وهذا بخلاف ما نقله أبو المظفّر فى سنة مولده، وعندى أنّ أبا المظفر أثبت لصحبته بأخيه المعظم عيسى، وكونه أيضا عصرى الملك الكامل هذا-.
والله أعلم.
قال (أعنى الذهبىّ) : وأجاز له العلّامة عبد الله «1» بن برّى، وأبو عبد الله ابن صدقه «2» الحرّانىّ، وعبد الرحمن بن الخرقىّ، قرأت بخطّ ابن مسدىّ «3» فى معجمه. كان الكامل محبّا للحديث وأهله، حريصا على حفظه ونقله، وللعلم عنده شرف؛ خرّج له أبو القاسم «4» بن الصّفراوىّ أربعين حديثا، وسمعها جماعة.
وحكى لى عنه مكرم الكاتب أنّ أباه العادل استجاز له السّلفىّ قبل موت السّلفىّ بأيّام، قال ابن المسدىّ: ثم وقفت أنا على ذلك وأجاز لى [و] لابنى. قال الذهبىّ:
وتملّك الديار المصريّة أربعين سنة، شطرها فى أيّام والده. وقيل: بل ولد فى ذى القعدة سنة خمس وسبعين. قلت: وهذا قول ثالث فى مولده.

(6/228)


وقال الحافظ عبد العظيم «1» المنذرىّ استادار الحديث بالقاهرة (يعنى بذلك المدرسة «2» الكامليّة ببين القصرين) . قال: وعمّر القبّة «3» على ضريح الشافعىّ، وأجرى الماء من بركة الحبش «4» إلى حوض السّبيل «5» والسّقاية، وهما على باب القبّة المذكورة،

(6/229)


ووقف غير ذلك من الوقوف على أنواع من أعمال البر بمصر وغيرها. وله المواقف المشهودة فى الجهاد بدمياط المدّة الطويلة، وأنفق الأموال الكثيرة، وكافح العدوّ المخذول برّا وبحرا ليلا ونهارا. يعرف ذلك من مشاهده. ولم يزل على ذلك حتّى أعزّ الله الإسلام وأهله، وخذل الكفر وأهله. وكان معظّما للسّنّة النبويّة وأهلها، راغبا فى نشرها والتمسّك بها، مؤثّرا الاجتماع مع العلماء والكلام معهم حضرا وسفرا.
انتهى كلام المنذرى باختصار.
وقال القاضى شمس الدين ابن خلّكان فى تاريخه بعد ما ساق نسبه وذكره نحوا ممّا ذكرناه حتّى قال: «ولمّا وصل الفرنج إلى دمياط كما تقدّم ذكره، كان الملك الكامل فى مبدأ استقلاله بالسلطنة، وكان عنده جماعة كثيرة من أكابر الأمراء:
منهم: عماد الدين أحمد بن المشطوب، فاتّفقوا مع أخيه الملك الفائز سابق الدين إبراهيم ابن الملك العادل، وانضموا إليه، فظهر للملك الكامل منهم أمور تدلّ على أنّهم عازمون على تفويض الملك إليه وخلع الكامل، واشتهر ذلك بين الناس؛ وكان الملك الكامل يداريهم لكونه فى قبالة العدوّ ولا يمكنه المقاهرة «1» ، وطوّل روحه معهم، ولم يزل على ذلك حتّى وصل إليه أخوه الملك المعظّم عيسى صاحب دمشق يوم الخميس تاسع عشر ذى القعدة من سنة خمس عشرة وستمائة، فأطلعه الكامل فى الباطن على صورة الحال، وأنّ رأس هذه الطائفة ابن المشطوب، فجاءه يوما على غفلة فى خيمته واستدعاه فخرج إليه، فقال [له «2» ] : أريد أن أتحدّث [معك «3» ] سرّا فى خلوة، فركب فرسه (يعنى [ابن] المشطوب) . وسار معه جريدة، وقد جرّد المعظّم جماعة ممّن يعتمد عليهم ويثق إليهم، وقال لهم: اتّبعونا، ولم يزل المعظّم يشغله

(6/230)


بالحديث ويخرج معه من شىء إلى شىء حتّى أبعد عن المخيّم، ثم قال له: يا عماد الدين هذه البلاد لك، [و «1» ] نشتهى أن تهبها لنا، ثم أعطاه شيئا من النفقة، وقال لأولئك المجرّدين: تسلّموه حتّى تخرجوه من الرمل، فلم يسعه إلا الامتثال لانفراده وعدم القدرة على الممانعة فى تلك الحال؛ ثم عاد المعظّم إلى أخيه الملك الكامل وعرّفه صورة ما جرى. ثم جهّز أخاه الملك الفائز المذكور إلى الموصل لإحضار النجدة منها [و «2» ] من بلاد الشرق فمات بسنجار «3» . وكان ذلك خديعة لإخراجه من البلاد. فلمّا خرج هذان الشخصان من العسكر تحلّلت عزائم من بقى من الأمراء الموافقين لهما، ودخلوا فى طاعة الملك الكامل كرها لا طوعا. وجرى فى قصّة دمياط ما هو مشهور فلا حاجة للإطالة فى ذكره.
ولمّا ملك الفرنج دمياط وصارت فى أيديهم خرجوا منها قاصدين القاهرة ومصر [و «4» ] نزلوا فى رأس الجزيرة «5» التى دمياط فى برّها، وكان المسلمون قبالتهم فى القرية المعروفة بالمنصورة «6» ، والبحر حائل بينهم، وهو بحر «7» أشموم، ونصر الله- سبحانه وتعالى- بمنّه

(6/231)


وجميل لطفه المسلمين عليهم كما هو مشهور؛ ورحل الفرنج عن منزلتهم ليلة الجمعة سابع رجب سنة ثمانى عشرة وستمائة، وتمّ الصلح بينهم وبين المسلمين فى حادى عشر الشهر المذكور، ورحل الفرنج عن البلاد فى شعبان من السنة المذكورة، وكانت مدّة إقامتهم فى بلاد الإسلام «1» ما بين الشام والديار المصريّة أربعين شهرا وأربعة عشر يوما؛ وكفى الله- تعالى- المسلمين شرّهم والحمد لله على ذلك.
- قلت ونذكر أمر دمياط من كلام أبى المظفّر فى آخر هذه الترجمة بأوسع من ذلك، لأنّه معاصر الكامل وصاحب المعظّم، فهو أجدر بهذه الواقعة-.
فلمّا استراح خاطر الملك الكامل من جهة هذا العدوّ تفرّغ للأمراء الذين كانوا متحاملين «2» عليه فنفاهم عن البلاد وبدّد شملهم وشرّدهم، ودخل القاهرة وشرع فى عمارة البلاد واستخراج الأموال من جهاتها، وكان سلطانا عظيم القدر جميل الذكر محبّا للعلماء متمسّكا بالسّنة، حسن الاعتقاد معاشرا لأرباب الفضائل حازما فى أموره لا يضع الشيء إلّا فى مواضعه من غير إسراف ولا إقتار، وكان يبيت عنده كلّ ليلة [جمعة «3» ] جماعة من الفضلاء يشاركهم فى مباحثهم، ويسألهم عن المواضع المشكلة فى كلّ فنّ، وهو معهم كواحد منهم، وكان- رحمه الله- يعجبه هذان البيتان وينشدهما كثيرا وهما:

(6/232)


ما كنت [من] قبل ملك قلبى ... تصدّ عن مدنف حزين
وإنّما قد طمعت لمّا ... حللت فى موضع حصين
قال: ولمّا مات أخوه الملك المعظّم عيسى صاحب الشام، وقام ابنه الملك الناصر صلاح الدين دواد مقامه، خرج الملك الكامل من الديار المصريّة قاصدا أخذ دمشق منه؛ وجاءه أخوه الملك الأشرف مظفّر الدين موسى، واجتمعا على أخذ دمشق بعد فصول يطول شرحها. وملك الكامل دمشق فى أوّل شعبان سنة ست وعشرين وستمائة، وكان يوم الاثنين؛ فلمّا ملكها دفعها لأخيه الملك الأشرف، وأخذ عوضها من بلاد الأشرف: حرّان والرّها وسروج والرّقّة ورأس «1» العين؛ وتوجّه إليها بنفسه فى تاسع شهر رمضان من السنة. قال ابن خلّكان: واجتزت بحرّان فى شوّال سنة ستّ وعشرين وستمائة والملك الكامل مقيم به بعساكر الديار المصريّة؛ وجلال الدين خوارزم شاه يوم ذاك محاصر لخلاط، وكانت لأخيه الملك الأشرف. ثم رجع إلى الديار المصريّة؛ ثم تجهّز فى جيش عظيم، وقصد آمد فى سنة تسع وعشرين وستمائة فأخذها مع حصن كيفا والبلاد من الملك المسعود بن الملك الصالح أبى الفتح «2» محمود بن نور الدين محمد بن فخر الدين قرا أرسلان بن ركن الدولة داود بن قطب «3» الدين سقمان؛ ويقال سكمان بن أرتق، قال: ثمّ مات أخوه الملك الأشرف وجعل ولىّ عهد أخاه الملك الصالح إسماعيل بن العادل، فقصده الملك الكامل أيضا، وانتزع منه دمشق بعد مصالحة جرت بينهما فى التاسع من جمادى

(6/233)


الأولى سنة خمس وثلاثين وستمائة، وأبقى له بعلبكّ وأعمالها، وبصرى وأرض السّواد «1» وتلك البلاد. ولمّا ملك البلاد المشرقيّة: آمد وتلك النواحى استخلف فيها ولده الملك الصالح نجم الدين أيّوب، واستخلف ولده الأصغر الملك العادل سيف الدين أبا بكر بالديار المصريّة. وقد تقدّم فى ترجمة الملك العادل أنّه سيّر ولده الملك المسعود أقسيس «2» إلى اليمن، وكان أكبر أولاد الملك الكامل. وملك الملك المسعود مكّة- حرسها الله تعالى- وبلاد الحجاز مضافة إلى اليمن، وكان رحيل الملك المسعود من الديار المصريّة متوجّها إلى اليمن فى يوم الاثنين سابع عشر رمضان سنة إحدى عشرة وستمائة، ودخل مكّة فى ثالث ذى القعدة من السنة، وخطب له بها وحجّ؛ ودخل زبيد وملكها مستهلّ المحرّم سنة اثنتى عشرة وستمائة. ثم ملك مكّة فى شهر ربيع الآخر سنة عشرين وستمائة، أخذها من الشريف حسن بن قتادة الحسبنىّ.
قلت: وقد ذكرنا خروج الملك المسعود إلى اليمن من وقته فى ترجمة جدّه الملك العادل. وتوفّى الملك المسعود فى حياة والده الملك الكامل بمكّة فى ثالث جمادى الأولى سنة ست وعشرين وستمائة. وكان مولده فى سنة سبع «3» وتسعين وخمسمائة وأظنّه أكبر أولاد الكامل. والله أعلم.
قال ابن خلّكان: واتّسعت المملكة للملك الكامل، ولقد حكى لى من حضر الخطبة يوم الجمعة بمكّة أنّه لمّا وصل الخطيب إلى الدعاء للملك الكامل قال: سلطان مكّة وعبيدها، واليمن وزبيدها ومصر وصعيدها، والشام وصناديدها، والجزيرة ووليدها، سلطان القبلتين وربّ العلامتين وخادم الحرمين الشريفين الملك الكامل

(6/234)


أبو المعالى ناصر الدين محمد خليل أمير المؤمنين. قال: ولقد رأيته بدمشق سنة ثلاث وثلاثين وستمائة عند رجوعه من بلاد المشرق، واستنقاذه إيّاها من الأمير علاء الدين كيقباد بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود [بن قليج أرسلان «1» ] بن سليمان [بن قتلمش «2» ] بن إسرائيل بن سلجوق بن دقماق السّلجوقىّ صاحب الروم.
وهى وقعة مشهورة يطول شرحها؛ وفى خدمته يومئذ بضعة عشر ملكا، منهم:
[أخوه «3» ] الملك الأشرف، ولم يزل فى علوّ شأنه وعظيم سلطانه إلى أن مرض بعد أخذه دمشق ولم يركب، وكان ينشد فى مرضه كثيرا:
يا خليلىّ خبّرانى بصدق ... كيف طعم الكرى فإنّى نسيته
ولم يزل كذلك إلى أن توفّى يوم الأربعاء بعد العصر، ودفن بالقلعة بمدينة دمشق يوم الخميس الثانى والعشرين من رجب سنة خمس وثلاثين وستمائة، وأنا بدمشق يومئذ، وحضرت الصّيحة يوم السبت فى جامع دمشق، لأنّهم أخفوا موته إلى وقت صلاة الجمعة، فلمّا دنت الصلاة قام «4» بعض الدّعاة [على العريش الذي] بين يدى المنبر وترحّم على الملك الكامل، ودعا لولده الملك العادل صاحب مصر، وكنت حاضرا فى ذلك الوقت، فضجّ الناس ضجّة واحدة، وكانوا قد أحسّوا بذلك، لكنهم لم يتحقّقوا إلّا ذلك الوقت، وترتّب ابن أخيه الملك الجواد مظفّر الدين يونس ابن شمس الدين مودود بن الملك العادل فى نيابة السلطنة بدمشق عن الملك العادل بن الكامل صاحب مصر باتفاق الأمراء الذين كانوا حاضرين ذلك الوقت بدمشق؛ ثم بنى له تربة مجاورة للجامع، ولها شبّاك إلى الجامع، ونقل إليها. قال: وأمّا ولده الملك العادل [فإنه «5» ] أقام فى المملكة إلى يوم الجمعة ثامن ذى الحجة من سنة سبع وثلاثين وستمائة،

(6/235)


فقبض عليه أمراء دولته بظاهر بلبيس» . انتهى كلام ابن خلّكان على جليّته.
ونذكر أيضا من أحوال الكامل نبذة جيّدة من أقوال غيره من المؤرّخين. إن شاء الله تعالى.
قال بعضهم: كان الملك الكامل فاضلا عالما شهما مهيبا عاقلا محبّا للعلماء، وله شعر حسن، واشتغال فى العلم. قيل: إنّه شكا إليه ركبدار أستاذه بأنّه استخدمه ستة أشهر بلا جامكيّة، فأنزل أستاذه من فرسه وألبسه ثياب الركبدار، وألبس الركبدار ثيابه، وأمره بخدمة الركبدار وحمل مداسه ستة أشهر حتّى شفع فيه.
وكانت الطرق آمنة فى زمانه. ولمّا بعث ابنه الملك المسعود أقسيس وافتتح اليمن والحجاز ثم مات قبله كما ذكرناه ورث منه أموالا عظيمة، ففرّق غالبها فى وجوه البرّ والصدقات. وكانت راية الملك الكامل صفراء. وفيه يقول البهاء زهير:
- رحمه الله تعالى-.
بك «1» اهتزّ عطف الدّين فى حلل النّصر ... وردّت على أعقابها ملّة الكفر
وأقسم إن ذاقت بنو الأصفر الكرى ... لما حلمت إلّا بأعلامك الصفر
ثلاثة أعوام أقمت وأشهرا ... تجاهد فيهم لا بزيد ولا عمرو
وليلة غزو «2» للعدوّ كأنّها ... بكثرة من أرديته ليلة النّحر
فياليلة قد شرّف الله قدرها ... فلا غرو إن سمّيتها ليلة القدر
وقال: وكان فيه جبروت مع سفك الدماء.
وذكر الشيخ شمس «3» الدين محمد بن إبراهيم الجزرىّ: أنّ عماد الدين يحيى البيضاوىّ الشريف قال: حكى لى الخادم الذي للكامل قال: طلب منّى الكامل

(6/236)


طستا حتّى يتقيّأ فيه فأحضرته، وكان الملك الناصر داود على الباب، جاء ليعود عمّه الكامل؛ فقلت: داود على الباب، فقال: ينتظر موتى! فانزعج، فخرجت وقلت: ما ذاك وقتك السلطان منزعج، فنزل إلى داره؛ ودخلت إلى السلطان فوجدته قد قضى والطست بين يديه وهو مكبوب على المخدّة.
وقال ابن واصل: حكى لى طبيبه قال: أصابه لمّا دخل قلعة دمشق زكام، فدخل الحمّام وصبّ على رأسه ماء شديد الحرارة، اتّباعا لقول محمد «1» بن زكريّا الرازىّ فى كتاب سمّاه «طبّ ساعة «2» » ؛ قال فيه: من أصابه زكام يصبّ على رأسه ماء شديد الحرارة انحلّ زكامه لوقته، وهو لا ينبغى أن يعمل على إطلاقه؛ قال الطبيب: فانصبّ من «3» دماغه إلى فم معدته فتورّمت، وعرضت له حمّى شديدة، وأراد القىء فنهاه الأطبّاء، وقالوا: إن تقيّأ هلك، فخالفهم وتقيّأ فهلك لوقته.
قال ابن واصل: وحكى لى الحكم رضىّ الدين قال: عرضت له خوانيق، وتقيّأ دما كثيرا ومدّة؛ فأراد القىء أيضا فنهاه موفّق الدين إبراهيم، وأشار عليه بعض الأطباء بالقىء فتقيّأ، فانصبّت بقيّة المادة إلى قصبة الرئة وسدّتها فمات.
وقال ابن واصل: وكان ملكا جليلا حازما، سديد الآراء حسن التدبير لممالكه عفيفا حليما؛ عمّرت فى أيّامه الديار المصريّة عمارة كبيرة، وكان عنده مسائل غريبة من الفقه والنحو يوردها، فمن أجابه حظى عنده.

(6/237)


ذكر أخذ دمياط
قال أبو المظفّر فى تاريخه: «فى شعبان أخذ الفرنج دمياط، وكان المعظّم قد جهّز إليها الناهض بن الجرخى «1» فى خمسمائة راجل، فهجموا على الخنادق فقتل ابن الجرخى ومن كان معه، وصفّوا رءوس القتلى على الخنادق، وكان الفرنج قد طمّوها (يعنى الخنادق) وضعف أهل دمياط وأكلوا الميتات، وعجز الملك الكامل عن نصرتهم، ووقع فيهم الوباء والفناء، فراسلوا الفرنج على أن يسلّموا إليهم البلد ويخرخوا منه بأموالهم وأهلهم، واجتمعوا؟؟؟ وحلّفوهم على ذلك، فركبوا فى المراكب وزحفوا فى البرّ والبحر، وفتح لهم أهل دمياط الأبواب، فدخلوا ورفعوا أعلامهم على السّور، وغدروا بأهل دمياط، ووضعوا فيهم السيف قتلا وأسرا، وباتوا تلك الليلة بالجامع يفجرون بالنساء، ويفتضّون البنات، وأخذوا المنبر والمصاحف ورءوس القتلى، وبعثوا بها إلى الجزائر، وجعلوا الجامع كنيسة؛ وكان أبو الحسن ابن قفل «2» بدمياط، فسألوا عنه، فقيل لهم: هذا رجل صالح من مشايخ المسلمين يأوى اليه الفقراء، فما تعرّضوا له. ووقع على المسلمين «3» كآبة عظيمة. وبكى الكامل والمعظّم بكاء شديدا، ثم تأخّرت العساكر عن تلك المنزلة. ثم قال الكامل لأخيه المعظّم:
قد فات المطلوب، وجرى المقدر بما هو كائن، وما فى مقامك هاهنا فائدة؛ والمصلحة أن تنزل إلى الشام تشغل خواطر الفرنج، وتستجلب العساكر من بلاد الشرق.
قال أبو المظفّر: فكتب المعظّم إلىّ وأنا بدمشق كتابا بخطّه، يقول- فى أوّله «4» -

(6/238)


قد علم الأخ العزيز بأن قد جرى على دمياط ما جرى، وأريد أن تحرّض الناس على الجهاد، ونعرّفهم ما جرى على إخوانهم أهل دمياط من الكفرة أهل العناد.
وإنّى كشفت ضياع الشام فوجدتها ألفى قرية، منها ألف وستّمائة أملاك لأهلها، وأربعمائة سلطانيّة، وكم مقدار ما تقوم به هذه الأربعمائة من العساكر؟ وأريد أن تخرج الدماشقة ليذبّوا عن أملاكهم الأصاغر «1» منهم والأكابر. ويكون لقاؤنا وهم صحبتك إلى نابلس فى وقت سمّاه. قال: فجلست بجامع دمشق وقرأت كتابه عليهم، فأجابوا بالسمع والطاعة، [وقالوا «2» : نمتثل أمره بحسب الاستطاعة] . وتجهّزوا؛ فلمّا حلّ ركابه بالساحل وقع التقاعد، وكان تقاعدهم سببا لأخذه الثمن والخمس من أموالهم «3» . وكتب إلىّ يقول: إذا لم يخرجوا فسر أنت إلينا، فخرجت إلى الساحل وهو نازل على قيسارية، فأقمنا حتّى فتحها عنوة، ثم سرنا إلى النفر «4» ففتحه وهدمه؛ وعاد إلى دمشق بعد أن أخرج «5» العساكر إلى السواحل. واستمرّ الملك الكامل على مقاتلة الفرنج إلى أن فتح الله عليه فى سنة ثمانى عشرة وستمائة، وطلب من إخوته النجدة، وتوجّه المعظّم فى أوّل السنة إلى أخيه الأشرف موسى، واجتمعا على حرّان.
وكتب صاحب ماردين إلى الأشرف يسأله أن يصعد المعظّم إليه، فسأله فسار إلى ماردين، فتلقّاه صاحب ماردين من دنيسر، وأصعده إلى القلعة وخدمه خدمة

(6/239)


عظيمة، وقدّم له التّحف والجواهر «1» وتحالفا واتّفقا على ما أرادا، ثم عاد المعظّم إلى أخيه الأشرف. وجاء خبر دمياط. وكان المعظّم أحرص الناس على خلاص دمياط والغزاة، وكان مصافيا لأخيه الكامل، وكان الأشرف مقصّرا فى حقّ الكامل مباينا له فى الباطن؛ فلمّا اجتمعت العساكر على حرّان قطع بهم المعظّم الفرات، وسار الأشرف فى آثاره، ونزل المعظّم حمص والأشرف سلمية. قال: وكنت قد خرجت من دمشق إلى حمص لطلب الغزاة، فإنّهم كانوا «2» على عزم الدخول إلى طرابلس، فاجتمعت بالمعظّم فى شهر ربيع الآخر فقال لى: قد سحبت الأشرف إلى هاهنا وهو كاره، وكلّ يوم أعتبه فى تأخّره وهو يكاسر «3» وأخاف من الفرنج أن يستولوا على مصر، وهو صديقك؛ وأشتهى أن تقوم تروح إليه فقد سألنى عنك [مرارا «4» ] ؛ ثم كتب إلى [أخيه «5» ] كتابا بخطّه نحو ثمانين سطرا، فأخذته ومضيت إلى سلمية؛ وبلغ الأشرف وصولى فخرج من الخيمة وتلقّانى وعاتبنى على انقطاعى، [عنه «6» ] وجرى بينى وبينه فصول؛ وقلت له: المسلمون فى ضائقة، وإذا أخذ الفرنج الديار المصريّة ملكوا إلى حضرموت، وعفّوا آثار مكّة والمدينة والشام [وأنت «7» تلعب] ، قم الساعة وارحل؛ فقال: ارموا الخيام [والدهليز «8» ] ، وسبقته إلى حمص فتلقّانى المعظّم؛ وقال: ما نمت البارحة ولا أكلت اليوم شيئا، فقلت: غدا يصبّح أخوك الأشرف حمص.
فلمّا كان من الغد أقبلت الأطلاب «9» وجاء طلب الأشرف، والله ما رأيت أجمل منه ولا أحسن رجالا ولا أكمل عدّة، وسرّ المعظّم سرورا عظيما؛ وجلسوا تلك الليلة

(6/240)


يتشاورون، فاتّفقوا على الدخول فى السحر إلى طرابلس، وكانوا على حال، فأنطق الله الملك الأشرف من غير قصد وقال للمعظّم: ياخوند «1» ، عوض ما ندخل الساحل وتضعف خيلنا وعساكرنا ويضيع الزمان ما نروج إلى دمياط ونستريح؟ فقال له المعظّم- قول رماة البندق قال-: نعم، فقبّل المعظّم قدمه ونام الأشرف، فخرج المعظّم من الخيمة كالأسد الضارى يصيح: الرحيل الرحيل إلى دمياط؛ وما كان يظنّ أنّ الأشرف يسمح بذلك، وساق المعظّم إلى دمشق وتبعته العساكر، ونام الأشرف فى خيمته إلى قرب الظهر، وانتبه فدخل الحمّام فلم ير [حول «2» ] خيمته أحدا، فقال: وأين العساكر؟ فأخبروه الخبر فسكت، وساق إلى دمشق فنزل القصير يوم الثلاثاء رابع جمادى الأولى، فأقام إلى سلخه، وعرض العساكر تحت قلعة دمشق، وكان هو وأخوه المعظّم فى الطّيارة بقلعة دمشق، وساروا إلى مصر.
وأمّا الفرنج فإنّهم خرجوا بالفارس والراجل، وكان البحر زائدا جدّا، فجاءوا إلى ترعة فأرسوا عليها، وفتح المسلمون عليهم الترع من كلّ مكان، وأحدق بهم عساكر الكامل، فلم يبق [لهم «3» ] وصول إلى دمياط؛ وجاء أسطول المسلمين فأخذوا مراكبهم، ومنعوهم أن تصل إليهم الميرة من دمياط، وكانوا خلقا عظيما، وانقطعت أخبارهم عن دمياط، وكان فيهم مائة كند «4» وثمانمائة من الخيّالة المعروفين وملك عكّا والدوك؟ «5» واللوكان نائب البابا؛ ومن الرجّالة مالا يحصى، فلمّا عاينوا الهلاك أرسلوا إلى الكامل يطلبون الصلح والرهائن، ويسلّمون دمياط؛ فمن حرص «6» الكامل على

(6/241)


خلاص دمياط أجابهم، ولو أقاموا يومين أخذوا برقابهم؛ فبعث إليهم الكامل ابنه الملك الصالح نجم الدين أيّوب، وابن أخيه شمس الملوك؛ وجاء ملوكهم إلى الكامل ممّن سمّينا، فالتقاهم وأنعم عليهم وضرب لهم الخيام. ووصل المعظّم والأشرف فى تلك الحال إلى المنصورة فى ثالث رجب، فجلس الكامل مجلسا عظيما فى خيمة كبيرة عالية، وقد مدّ سماطا عظيما، وأحضر ملوك الفرنج [والخيّالة «1» ] ، ووقف المعظّم والأشرف والملوك فى خدمته، وقام الحلّى «2» الشاعر- رحمه الله تعالى- فأنشد:
هنيئا فإنّ السعد راح مخلّدا ... وقد أنجز الرحمن بالنصر موعدا
حبانا إله الخلق فتحا بدا لنا ... مبينا وإنعاما وعزّا مؤبّدا
تهلّل وجه الدهر «3» بعد قطوبه ... وأصبح وجه الشرك بالظلم أسودا
ولمّا طغى البحر الخضمّ بأهله ال ... طغاة وأضحى بالمراكب مزبدا
أقام لهذا الدّين من سلّ سيفه ... صقيلا كما سلّ الحسام مجرّدا
فلم ينج إلّا كلّ شلو مجدّل ... ثوى منهم أو من تراه مقيّدا
ونادى لسان الكون فى الأرض رافعا ... عقيرته فى الخافقين ومنشدا
أعبّاد عيسى إنّ عيسى وحزبه ... وموسى جميعا يخدمون محمّدا
وهذا من أبيات كثيرة.
قلت: صحّ للشاعر فيما قصد من التورية فى المعظّم عيسى والأشرف موسى، لمّا وقفا فى خدمة الكامل محمد، فلله دره! لقد أجاد فيما قال.

(6/242)


ووقع الصلح بين الملك الكامل وبين الفرنج فى يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رجب سنة ثمانى عشرة وستمائة، وسار بعض الفرنج فى البرّ وبعضهم فى البحر إلى عكّا، وتسلّم الكامل دمياط.
قلت: ويعجبنى قول البارع كمال الدين «1» علىّ بن النّبيه فى مدح مخدومه الملك الأشرف موسى لمّا حضر مع أخيه المعظّم إلى دمياط فى هذه الكائنة قصيدته التى أوّلها:
للذّة العيش والأفراح «2» أوقات ... فانشر لواء له بالنصر عادات
إلى أن قال منها:
دمياط طور ونار الحرب موقدة ... وأنت موسى وهذا اليوم ميقات
ألق العصا تتلقّف كلّ ما صنعوا ... ولا تخف ما حبال القوم حيّات
وهى قصيدة طويلة مثبتة فى ديوان ابن النبيه.
قال أبو المظفّر قال فخر الدين ابن «3» شيخ الشيوخ: «4» لمّا حضر الفرنج دمياط صعد الكامل على مكان عال، وقال لى: ما ترى ما أكثر الفرنج! ما لنا بهم طاقة؛ [قال «5» ] فقلت [له «6» ] : أعوذ بالله من هذا الكلام؛ قال: ولم؟ قلت لأنّ السعد [موكّل «7» ] بالمنطق، قال: فأخذت الفرنج دمياط بعد قليل، فلمّا طال الحصار صعد يوما على مكان عال، وقال: يا فلان، ترى الفرنج ما أقلّهم! والله ما هم شىء؛

(6/243)


فقلت: أخذتهم والله؛ قال: وكيف؟ قلت: قلت فى يوم كذا وكذا: كذا وكذا، فأخذوا دمياط، وقد قلت اليوم: كذا، والملوك منطّقون بخير وشرّ؛ فأخذ دمياط بعد قليل» . انتهى. وقد تقدّم ذكر الكامل فى أوائل الترجمة من قول جماعة من المؤرّخين، ويأتى أيضا- من ذكره فى السنين المتعلّقة به- نبذة كبيرة. إن شاء الله تعالى. والله الموفّق لذلك بمنّه وكرمه.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 616]
السنة الأولى من ولاية الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة ستّ عشرة وستّمائة، وقد تقدّم أنّ الكامل كان ولى مصر فى حياة والده العادل سنين عديدة فلا عمدة بولايته تلك الأيام، فإنّه كان كالنائب بمصر لأبيه العادل، ولا عبرة إلّا بعد استقلاله بسلطنة مصر بعد وفاة أبيه.
فيها (أعنى سنة ستّ عشرة وستمائة) أخرب الملك المعظّم عيسى صاحب دمشق القدس، لأنّه كان توجّه إلى أخيه الملك الكامل صاحب الترجمة فى نوبة دمياط فى المرّة الأولى، فبلغه أنّ الفرنج على عزم أخذ القدس، فاتّفق الأمراء على خرابه؛ وقالوا: قد خلا الشام من العساكر، فلو أخذ الفرنج القدس حكموا على الشام جميعه. وكان بالقدس [أخوه] العزيز عثمان، وعزّ الدين أيبك أستادار، فكتب إليهما المعظّم بخرابه، فتوقّفا وقالا: نحن نحفظه، فكتب إليهما المعظّم ثانيا:
لو أخذوه لقتلوا كلّ من فيه وحكموا على الشام وبلاد الإسلام، فألجأت الضرورة إلى خرابه. فشرعوا فى خراب السور أوّل يوم من المحرّم، ووقع فى البلد ضجّة عظيمة. وخرج النساء المخدّرات والبنات والشيوخ وغيرهم إلى الصخرة «1» والأقصى

(6/244)


وقطعوا شعورهم ومزّقوا ثيابهم، وفعلوا أشياء من هذه الفعال؛ ثم خرجوا هاربين وتركوا أموالهم وأهاليهم، وما شكّوا أنّ الفرنج تصبّحهم، وامتلأت بهم الطّرقات؛ فتوجّه بعضهم إلى مصر، [وبعضهم «1» الى الكرك] ، وبعضهم إلى دمشق، وكانت البنات المخدّرات يمزّقن ثيابهنّ ويربطنها على أرجلهن من الحفا؛ ومات خلق كثير من الجوع والعطش، ونهبت الأموال التى كانت لهم بالقدس، وبلغ ثمن القنطار الزيت عشرة دراهم، والرّطل النّحاس نصف درهم؛ وذمّ الناس المعظّم؛ فقال بعض أهل العلم فى ذلك:
فى رجب حلّل الحميّا «2» ... وأخرب القدس فى المحرّم
وقال القاضى مجد الدين محمد بن عبد الله الحنفىّ قاضى الطّور «3» فى خراب القدس:
مررت على القدس الشريف مسلّما ... على ما تبقّى من ربوع كأنجم
ففاضت دموع العين منّى صبابة ... على ما مضى من عصرنا «4» المتقدّم
وقد رام علج أن يعفّى رسومه ... وشمّر عن كفّى لئيم مذمّم
فقلت له شلّت يمينك خلّها ... لمعتبر أو سائل أو مسلّم
فلو كان يفدى بالنفوس فديته ... بنفسى وهذا الظنّ فى كلّ مسلم
وفيها حجّ بالناس من العراق أقباش [بن عبد الله «5» ] الناصرىّ، ومن الشام مملوك الملك المعظّم عيسى.

(6/245)


وفيها توفّيت ستّ الشام بنت الأمير نجم الدّين أيّوب أخت السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب، كانت سيّدة الخواتين فى زمنها، كانت كثيرة البرّ والصدقات، كانت تعمل فى دارها الأشربة والمعاجين والعقاقير كلّ سنة بألوف دنانير وتفرّقها على الناس، وكان بابها ملجأ للقاصدين؛ وكان زوجها ابن عمّها الأمير ناصر الدين محمد بن شيركوه صاحب حمص، وهى أمّ حسام الدّين [محمد بن عمر «1» بن] لاچين، وصاحبة الأوقاف والأربطة بدمشق وغيرها- رحمها الله تعالى-.
وفيها توفّى محمد بن زنكى الملك المنصور صاحب سنجار، كان ملكا عادلا عاقلا جوادا، خلّف عدّة أولاد: سلطان شاه وزنكى ومظفّر الدّين، وعدّة بنات.
وكان من بيت ملك وسلطنة.
وفيها توفّى علىّ بن القاسم بن علىّ بن الحسن بن هبة الله بن عساكر ابن صاحب تاريخ دمشق. كان فاضلا سمع الحديث وتفقّه وسافر إلى بغداد، فلمّا عاد قطع عليه الطريق، فأصابه جراح فمات منه بعد أيّام.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى العدل أبو منصور سعيد بن محمد بن سعيد الرزّاز فجأة فى المحرّم. وأبو منصور عتيق «2» بن أحمد فى صفر.
والعلّامة أبو البقاء عبد الله بن الحسين بن أبى البقاء العكبرىّ الضّرير فى شهر ربيع الآخر. وقد قارب الثمانين. وأبو البركات داود بن أحمد بن محمد [بن «3» منصور ابن ثابت] بن ملاعب الأزجىّ الوكيل فى رجب، ولد فى أوّل سنة اثنتين وأربعين.
وأبو الفضل أحمد بن محمد بن سيّدهم الأنصارىّ بن الهرّاس الجابى «4» فى شعبان،

(6/246)


وله أربع وثمانون سنة. وأبو الفرج عبد الرحمن بن محمد بن علىّ الأنبارىّ الكاتب سبط قاضى القضاة أبى الحسن «1» بن الدّامغانىّ، وله تسعون سنة. وأبو يعلى حمزة ابن السيّد [المعروف «2» با] بن أبى لقمة الصفّار فى شهر رمضان، وهو أصغر من أخيه «3» .
وأبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن مسعود [بن سعد «4» بن علىّ] بن الناقد المقرئ، ويقال: كان آخر من قرأ المصباح «5» على مؤلّفه الشّهرزورىّ «6» ، مات فى شوّال عن ستّ وثمانين سنة. والخاتون ستّ الشام أخت الملك العادل فى ذى القعدة. والعلّامة افتخار الدين أبو هاشم عبد المطّلب بن الفضل الهاشمىّ الحنفىّ بحلب.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع ونصف إصبع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا سواء.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 617]
السنة الثانية من ولاية الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة سبع عشرة وستمائة.
فيها قتل صاحب سنجار أخاه، فسار الملك الأشرف موسى أخو الملك الكامل هذا إليها، فأخذها وعوّض صاحبها الرّقّة.
وفيها نزل الملك الأشرف المذكور على الموصل نجدة لبدر الدين على بن زين الدين، وعزم على قصد إربل، فبعث الخليفة من ردّه عن إربل وأصلح بينهما.

(6/247)


وفيها فى شهر رجب كانت واقعة البرلّس «1» بين الكامل صاحب الترجمة وبين الفرنج، ونصر الله الكامل وقتل منهم عشرة آلاف وغنم خيولهم وسلاحهم ورجعوا إلى دمياط مهزومين.
وفيها عزل الملك المعظّم عيسى صاحب دمشق [المبارز «2» ] المعتمد عن ولاية دمشق، وولّى عوضه عليها العزيز خليلا.
وفيها كان أوّل ظهور التّتار وعبورهم جيحون، وكان أوّل ظهورهم من [ما] وراء النهر سنة خمس عشرة وستمائة، وقبل عبورهم «3» جيحون قصدوا بخارى وسمرقند، وقتلوا أهلها وسبوهم، وحصروا خوارزم شاه، فآنضمّ إليهم «4» الخطا، وصاروا تبعا لهم.
وكان خوارزم شاه قد أخلى البلاد من الملوك، فلم يجدوا أحدا يردّهم، ووصلوا فى هذه السنة إلى الرّىّ وقزوين وهمذان، وقتلوا أهلها وأحرقوا مساجدها، ثم فعلوا بأذربيجان كذلك.
وفيها حجّ بالناس من العراق أقباش الناصرىّ وقتل بمكّة، ولم يحجّ أحد من العجم [بسبب «5» التّتار] ، وعاد الحجّ البغدادىّ من على الشام. وحجّ بالناس من الشام [المبارز «6»
] المعتمد.

(6/248)


وفيها توفّى الملك الفائز إبراهيم ابن الملك العادل أبى بكر ابن الأمير نجم الدين أيّوب أخو الملك الكامل صاحب الترجمة. وقد تقدّم أنّه كان يريد الوثوب على أخيه الملك الكامل، واتّفق مع ابن المشطوب حتّى أخرجهما أخوه الملك المعظّم عيسى من مصر؛ فمات الفائز بين سنجار والموصل، فحمل إلى سنجار ودفن بتربة عماد الدّين زنكى والد السلطان الملك العادل نور الدين محمود الشهيد، ومات وهو فى عنفوان شبيبته.
وفيها توفّى الأمير أقباش بن عبد الله الناصرى. قال أبو المظفّر: «اشتراه الخليفة (يعنى الناصر لدين الله) وهو ابن خمس عشرة سنة بخمسة آلاف دينار، ولم يكن بالعراق أجمل صورة منه، ثم قرّبه إليه ولم يكن يفارقه؛ فلمّا ترعرع ولّاه إمرة الحاجّ والحرمين، وكان متواضعا محبوبا إلى القلوب. قتل بمكّة المشرّفة فى واقعة بين أشراف مكّة، خرج ليصلح بينهم فقتل. وكان قتله فى سادس «1» عشر ذى الحجّة.
وفيها توفّى الشيخ عبد الله «2» بن عثمان بن جعفر بن محمد اليونينىّ «3» ، أصله من قرية من قرى بعلبك يقال لها «يونين» . كان صاحب رياضات وكرامات ومجاهدات ومكاشفات، وكان من الأبدال. وكانت وفاته يوم السبت فى العشر الأوّل من ذى الحجّة- رحمه الله-.
وفيها توفّى الشريف قتادة بن إدريس أبو عزيز «4» الحسينىّ المكىّ أمير مكّة.
كان شيخا عارفا منصفا نقمة على عبيد مكّة المفسدين، وكان الحاجّ فى أيّامه فى أمان

(6/249)


على أموالهم ونفوسهم، وكان يؤذّن فى الحرم ب «حىّ على خير العمل» على قاعدة الرافضة، وما كان يلتفت إلى أحد من خلق الله تعالى، ولا وطئ بساط الخليفة ولا غيره، وكان يحمل إليه من بغداد فى كلّ سنة الذهب والخلع وهو بداره فى مكّة، وهو يقول: أنا أحقّ بالخلافة [من الناصر «1» لدين الله] ، ولم يرتكب كبيرة فيما قيل.
قلت: وأىّ كبيرة أعظم من الرّفض وسبّ الصحابة! - رضى الله عنهم-.
وفيها توفّى محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيّوب الملك المنصور صاحب حماة.
كان شجاعا محبّا للعلماء والفضلاء، مات بحماة ودفن بها. وقام بعده ولده الأكبر الملك الصالح الناصر قليج أرسلان. وجرى له مع الملك الكامل صاحب الترجمة أمور وفصول.
وفيها توفّى محمود بن محمد بن قرا أرسلان بن أرتق الملك الصالح ناصر الدين صاحب آمد، كان شجاعا عاقلا جوادا محبّا للعلماء، وكان الأشرف يحبّه، وجاء إلى الأشرف وخدمه غير مرّة؛ ومات بآمد فى صفر. وقام بعده ولده مسعود، وكان مسعود ضدّ اسمه بخيلا فاسقا، حصره الملك الكامل هذا وظفر به وأخذه إلى مصر وأحسن إليه؛ فكاتب الروم وسعى فى هلاك الكامل، فحبسه الكامل- لمّا سمع ذلك- فى الجبّ «2» مدّة ثم أطلقه، فمضى إلى التتار، وكان معه الجواهر والأموال فقتلته التتار، وأخذوا جميع ما كان معه.

(6/250)


الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى عبد الرحمن بن أحمد ابن هديّة «1» الورّاق فى شهر ربيع الأوّل، وقد جاوز التسعين، وهو آخر من روى عن عبد الوهّاب الأنماطىّ «2» . وشيخ الشيوخ صدر الدين أبو الحسن محمد بن أبى الفتح عمر بن علىّ بن محمد بن حمّويه فى جمادى الأولى ذاهبا فى الرسليّة من الكامل بالموصل، وله أربع وسبعون سنة. وصاحب حماة الملك المنصور محمد ابن تقىّ الدّين عمر بن شاهنشاه. والزاهد الكبير الشيخ عبد الله اليونينىّ فى ذى الحجّة ببعلبك. وصاحب مكّة قتادة بن إدريس الحسينىّ. وأبو الحسن المؤيّد بن محمد ابن على الطّوسى المقرئ فى شوّال.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع ونصف إصبع.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وثمانى أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 618]
السنة الثالثة من ولاية الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيوب على مصر، وهى سنة ثمانى عشرة وستمائة.
فيها توفّى إسماعيل «3» بن عبد الله أبو طاهر الأنماطىّ المحدّث، كان إماما فاضلا سمع الكثير ولقى الشيوخ وحدّث، وتوفّى بدمشق فى شهر رجب وكان ثقة.
وفيها توفّى محمد بن خلف بن راجح المقدسىّ ويلقّب بالشهاب والد القاضى نجم الدين «4» ، كان زاهدا عابدا فاضلا فى فنون العلوم.

(6/251)


وفيها توفّى محمد بن محمد الشيخ الإمام النحوى التّكريتىّ، كان بارعا فى النحو والأدب والشعر. ومن شعره قوله:
من كان ذمّ الرّقيب يوما ... فإنّنى للرقيب شاكر
لم أروجه الرقيب وقتا ... إلّا ووجه الحبيب حاضر
وله فى مجنونة:
أمسيت «1» مجنونا بمجنونة ... يغار من قامتها الغصن
فمن عذيرى من هوى ظبية ... قد عشقتها الإنس والجنّ
قلت: وطريف قول الشيخ زين الدّين عمر بن الوردىّ «2» - رحمه الله- فى هذا المعنى «3» :
زاد «4» جنونى بذى جنون ... معذّر والعذار زين
قالوا به عارض وعين ... قلت وبى عارض وعين
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى شهابّ الدين محمد ابن خلف بن راجح المقدسىّ فى صفر، وله ثمان وستون سنة. وأبو محمد هبة الله ابن الخضر بن هبة الله [بن أحمد بن عبد الله «5» ] بن طاوس فى جمادى الأولى، وله إحدى وثمانون سنة. وأبو نصر موسى ابن الشيخ عبد القادر الجيلىّ فى جمادى الآخرة.
واستشهد بهمذان خلق بأيدى التتار، منهم: الإمام تقىّ الدين أبو جعفر محمد بن

(6/252)


محمود بن إبراهيم الحمّامىّ الواعظ. وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن هبة الله الرّوذراورىّ «1» .
وبهراة أبو روح [عبد المعزّ «2» ] بن محمد الهروىّ. وبنيسابور أبو بكر القاسم بن عبد الله ابن عمر بن الصّفّار. وأبو النّجيب إسماعيل «3» بن عثمان بن إسماعيل بن أبى القاسم القارئ الصوفى.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وستّ أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإصبعان.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 619]
السنة الرابعة من ولاية الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة تسع عشرة وستمائة.
فيها ظهر جراد بالشام أكل الشجر والزروع والثمر ولم ير مثله.
وفيها نقلت رمّة الملك العادل أبى بكر من قلعة دمشق إلى مدرسته التى عند دار العقيقىّ «4» ، فدفن بها.
وفيها توفّى مسمار بن عمر «5» بن محمد الشيخ أبو بكر بن العويس البغدادىّ فى شعبان بالموصل، وكان. فاضلا ثقة.
وفيها توفّى نصر بن أبى الفرج الفقيه الحنبلىّ، كان إمام الحنابلة بمكّة، جاور بمكّة سنين، ثم خرج إلى اليمن فمات بالمهجّم «6» ودفن به، وكان صالحا متعبّدا لا يفتر عن الطّواف.

(6/253)


وفيها توفّى الأمير قطب الدين أحمد ابن الملك العادل أبى بكر بن أيّوب أخو الملك الكامل محمد هذا. مات بالفيّوم «1» فنقل إلى القاهر ودفن بها.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الحافظ أبو الفتوح نصر بن أبى الفرج البغدادىّ ابن الحصرىّ المقرئ الحنبلىّ فى المحرّم، وله ثلاث وثمانون سنة. والحافظ أبو الطاهر تقىّ الدين إسماعيل بن عبد الله بن عبد المحسن المصرىّ «2» ابن الأنماطىّ فى رجب كهلا. وأبو بكر مسمار بن عمر بن محمد بن العويس النّيّار «3» بالموصل فى شعبان. والقدوة الشيخ علىّ [بن أبى بكر محمد «4» بن عبد الله] بن إدريس اليعقوبىّ فى ذى القعدة. وأبو سعد ثابت بن مشرف المعمار فى ذى الحجّة.

(6/254)


أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وسبع أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 620]
السنة الخامسة من ولاية الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة عشرين وستمائة.
قال أبو شامة: ففيها عاد الملك الأشرف موسى من مصر [إلى الشام قاصدا «1» بلاده بالشرق] ، فالتقاه أخوه المعظّم عيسى وعرض عليه النزول [بالقلعة «2» ] فامتنع، ونزل بجوسق والده العادل، وبدت الوحشة بين الإخوة الثلاثة (يعنى الكامل «3» محمدا صاحب الترجمة، والمعظّم عيسى صاحب دمشق، والأشرف موسى صاحب خلاط وغيرها) . قال: ثم رحل الأشرف سحرا على ضمير «4» ثم سار إلى حرّان، وكان [الأشرف «5» ] قد استناب أخاه شهاب الدين غاز يا صاحب ميّافارقين على خلاط، [لمّا سافر «6» إلى مصر] وجعله ولىّ عهده، ومكّنه من بلاده؛ فسوّلت له نفسه العصيان، وحسّن له ذلك الملك المعظّم وكاتبه وأعانه، وكذا كاتبه صاحب إربل [والمشارقة «7» ] ، فأرسل الأشرف إلى غازى المذكور يطلبه فامتنع، فأرسل إليه: يا أخى لا تفعل، أنت ولىّ عهدى والبلاد فى حكمك فأبى؛ فجمع الأشرف عساكره وقصده، ووقع له معه أمور حتّى هزمه، ثم رضى عنه الأشرف حسب ما نذكره فى السنة الآتية.
وفيها كانت بين التّتار الذين جاءوا إلى الدّربند «8» وبين القبجاق «9» والروس «10» وقعة هائلة، وصبر الفريقان أيّاما، ثم انهزم القبجاق والروس، ولم يسلم منهم إلّا اليسير.

(6/255)


وفيها توفّىّ عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر شيخ الإسلام موفّق الدين أبو محمد المقدسىّ الجمّاعيلىّ الدمشقىّ الصالحىّ الحنبلى صاحب التصانيف.
ولد بجمّاعيل فى شعبان سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وقرأ القراءات واشتغل فى صغره وسمع من أبيه سنة نيّف وخمسين، ورحل إلى البلاد وسمع الكثير، وكتب وصنّف وبرع فى الفقه والحديث، وأفتى ودرّس وشاع ذكره وبعد صيته.
وكانت وفاته فى يوم عيد الفطر، وله ثمانون سنة.
وفيها توفّى عبد الرحمن بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين الإمام المفتى فخر الدين أبو منصور الدّمشقىّ الشافعىّ المعروف بابن عساكر شيخ الشافعيّة بالشام. ولد فى سنة خمسين وخمسمائة، وسمع من عميّه: [الصائن «1» ] هبة الله، والحافظ أبى القاسم وجماعة أخر، وتفقّه على حميه قطب الدين «2» النّيسابورىّ، وكان بارعا مفتنّا مدرّسا فقيها عالما محدّثا، وكانت وفاته فى شهر رجب.
وفيها توفّى ملك الغرب يوسف بن محمد بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن ابن علىّ السلطان المستنصر بالله الملقّب بأمير المؤمنين المكنى أبا يعقوب القيسىّ المغربىّ صاحب بلاد المغرب، لم يكن فى بنى عبد المؤمن أحسن صورة منه، ولا أبلغ خطابا، ولكنّه كان مشغولا باللّذات؛ ومات وهو شابّ فى هذه السنة، ولم يخلّف ولدا؛ فاتفق أهل دولته على تولية الأمر لأبى محمد عبد الواحد بن يوسف ابن عبد المؤمن بن علىّ، فولى ولم يحسن التدبير ولا المداراة. وكان مولد يوسف صاحب الترجمة فى سنة أربع وتسعين وخمسمائة، وأمّه أم ولد روميّة اسمها قمر، وكانت دولته عشر «3» سنين وشهرين.

(6/256)


الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو سعد عبد السلام ابن المبارك [بن «1» عبد الجبّار بن محمد بن عبد السلام] بن البرد «2» عول فى المحرّم، وله تسع وثمانون سنة. والعلّامة فخر الدين أبو منصور عبد الرحمن بن محمد بن الحسن ابن عساكر الشافعىّ فى رجب، وله سبعون سنة. والعلامة موفّق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسىّ شيخ الحنابلة فى يوم الفطر، وله ثمانون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع ونصف إصبع.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا سواء.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 621]
السنة السادسة من ولاية الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة إحدى وعشرين وستمائة.
فيها استردّ الملك الأشرف موسى مدينة خلاط من أخيه شهاب الدين غازى، وأبقى عليه ميّافارقين، ورضى عنه بعد أمور وقعت بينهما، وقد تقدّم ذكر ذلك أيضا.
وفيها ظهر السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه بعد ما انفصل عن بلاد الهند وكرمان، واستولى على أذربيجان وحكم عليها. وراسله الملك المعظّم عيسى ليعينه على قتال أخيه الملك الأشرف موسى؛ ثم كتب المعظّم أيضا لصاحب إربل فى هذا المعنى، وبعث ولده الملك الناصر داود إليه رهينة.
وفيها استولى بدر الدين لؤلؤ على الموصل وأظهر أنّ الملك محمود «3» بن القاهر قد توفّى، وكان قد أمر بخنقه.

(6/257)


وفيها بنى الملك الكامل صاحب الترجمة دار «1» الحديث الكامليّة بالقاهرة فى بين القصرين، وجعل أبا «2» الخطّاب بن دحية شيخها.
وفيها قدم الملك مسعود أضسيس «3» (المشهور بأقسيس) على أبيه الملك الكامل من اليمن طائعك، وعزمه أخذ الشام من عمّه الملك المعظّم عيسى، وقدّم لأبيه أشياء «4» عظيمة، منها مائتا خادم.
قال ابن الأثير: وفيها عادت التتار من بلاد القبجاق ووصلت إلى الرّىّ، وكان من سلم من أهلها قد عمّروها، فلم يشعروا إلّا بقدوم التتار بغتة، فوضعوا فيهم السيف، ثم فعلوا بعدّة بلاد أخر كذلك، فما شاء الله كان.
وفيها حدثت واقعه قبيحة من الكرج، وهو أنّ الكرج- لعنهم الله- لم يبق فيهم من بيت الملك أحد سوى امرأة فملّكوها عليهم. قال ابن الأثير: ثم طلبوا لها زوجا يتزوّجها وينوب عنها فى الملك، ويكون من بيت مملكة. وكان صاحب أرزن الروم مغيث الدين طغرل شاه بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان وهو من الملوك السّلجوقيّة وله ولد، فأرسل إلى الكرج يخطب الملكة لولده فامتنعوا، وقالوا: لا يملكنا مسلم، فقال لهم: إنّ ابنى يتنصّر ويتزوّجها، فأجابوه فتنصّر وتزوّج بها، وأقام عندها حاكما فى بلادهم، فنعوذ بالله من الخذلان! وكانت الملكة تهوى مملوكا، فكان هذا الزوج يسمع عنها من القبائح أشياء ولا يمكنه الكلام لعجزه، فدخل يوما فرآها مع المملوك، فأنكر ذلك، فقالت: إن رضيت بذا وإلّا

(6/258)


أنت أخبر بما أفعله معك!. [فقال: إنّنى لا «1» أرضى بهذا] فنقلته إلى بلد [آخر «2» ] ووكّلت به من يحفظه وحجرت عليه؛ وأحضرت لها رجلين وصفا لها بحسن الصورة فتزوّجت بأحدهما، وبقى معها ذاك يسيرا، ثمّ فارقته وأحضرت آخر من كنجة «3» وهو مسلم، فطلبت منه أن يتنصّر ويتزوّجها فلم يفعل، فأرادت أن تتزوّجه [وهو مسلم «4» ] فقام عليها الأمراء ومعهم إبوانى «5» مقدّمهم؛ وقالوا لها: فضحتينا بين الملوك بما تفعلين! [ثم «6» تريد بن أن يتزوّجك مسلم، وهذا لا نمكّنك منه أبدا] ، والأمر بينهم متردّد، والرجل الكنجىّ عندهم [لم يجبهم إلى «7» الدخول فى النّصرانيّة] ، وهى تهواه. انتهى كلام ابن الأثير.
وفيها توفّى فخر الدين أبو المعالى محمد بن أبى الفرج الموصلىّ المقرئ ببغداد فى شهر رمضان. وكان إماما فاضلا بارعا فى فنون. ومن شعره «مواليا» :
ساق قمر بكفّه شمس ضحا ... قد أسكرنى من راحتيه وصحا
لو أمكننى والراح فى راحته ... فى الحان شربت كفّه والقدحا
قلت: ويعجبنى فى هذا المعنى قول أبى الحسن علىّ بن عبد الغنىّ الفهرىّ القيروانىّ الضّرير المعروف بالحصرىّ الشاعر المشهور، ووفاته سنة ثمان [وثمانين «8» ] وأربعمائة، وهما:
أقول له وقد حيّا بكأس ... لها من مسك ريقته ختام
أمن خدّيك يعصر قال كلّا ... متى عصرت من الورد المدام
وفيها توفّى القاضى أبو البركات عبد القوىّ بن عبد العزيز بن الجبّاب السّعدىّ فى شوّال، وله خمس وثمانون سنة. وكان عالما بارعا ديّنا عفيفا أفتى ودرّس سنين.

(6/259)


الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفىّ أبو جعفر محمد بن هبة الله بن مكرّم الصوفىّ ببغداد فى المحرّم. وأبو طالب عبد الرحمن بن محمد بن عبد السميع الهاشمىّ المقرئ بواسط. وأبو العبّاس أحمد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن صرمى «1» الأزجىّ فى شعبان. وفخر الدين أبو المعالى محمد بن أبى الفرج الموصلىّ البغدادىّ المقرئ فى رمضان.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع سواء. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 622]
السنة السابعة من ولاية الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة اثنتين وعشرين وستمائة.
فيها فى شهر ربيع الأول وصل السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه إلى دقوقا «2» فافتتحها بالسيف، وأحرق البلد ونهب أهلها، وفعل فيها ما لا تفعله الكفّار لكونهم شتموه ولعنوه على الأسوار؛ ثم عزم على قصد بغداد، فانزعج الخليفة الناصر لدين الله واستعدّ لقتاله وأنفق ألف ألف دينار فى هذا المعنى.
قال أبو المظفّر: «قال لى الملك المعظّم عيسى: كتب إلىّ جلال الدين يقول:
تحضر أنت ومن عاهدنى فنتّفق حتّى نقصد الخليفة، فإنّه كان السبب فى هلاك المسلمين، وفى هلاك أبى، وفى مجىء الكفّار إلى البلاد؛ ووجدنا كتبه إلى الخطا

(6/260)


وتواقيعه لهم بالبلاد والخلع والخيل؛ فقال المعظّم: فكتبت إليه: أنا معك على كلّ أحد»
إلّا على الخليفة فإنّه إمام المسلمين!» . انتهى.
قلت: ثم وقع لجلال الدين المذكور فى هذه السنة أمور ووقائع مع غير الخليفة من الملوك يطول شرحها. يأتى ذكر بعضها إن شاء الله.
وفيها توفّى الخليفة الناصر لدين الله أمير المؤمنين أبو العبّاس أحمد ابن الخليفة المستضىء بالله أبى محمد الحسن ابن الخليفة المستنجد بالله أبى المظفر يوسف ابن الخليفة المقتفى بأمر الله أبى عبد الله محمد ابن الخليفة المستظهر بالله أحمد الهاشمىّ العباسىّ البغدادىّ. ولد يوم الاثنين عاشر شهر رجب سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، وبويع بالخلافة بعد موت أبيه المستضىء فى أوّل ذى القعدة سنة خمس وسبعين وخمسمائة. وأمّه أمّ ولد تركيّة.
قال الشيخ شمس الدين: «وكان أبيض اللّون تركىّ الوجه مليح العينين، أنور الجبهة، أقنى الأنف، خفيف العارضين، أشقر اللّحية رقيق المحاسن. كان نقش خاتمه: «رجائى من الله عفوه» . لم يل الخلافة قبله أحد من بنى العبّاس أطول مدّة منه، إلّا ما ذكرنا من خلفاء العبيديّة المستنصر معدّ» انتهى. وفى أيّام الناصر لدين الله ظهرت الفتوّة ببغداد ورمى البندق ولعب الحمام [المناسيب «2» ] ، وافتنّ الناس فى ذلك، ودخل فيه الأجلّاء ثم الملوك؛ فألبسوا الملك العادل ثم أولاده سراويل الفتوّة، ولبسها أيضا الملك شهاب الدين صاحب غزنة والهند من الخليفة الناصر لدين الله، ولبسها جماعة أخر من الملوك. وأمّا لعب الحمام فخرج فيه عن الحدّ، يحكى عنه أنّه لمّا دخلت التّتار البلاد وملكوا من [ما] وراء النهر إلى العراق، وقتلوا تلك المقتلة

(6/261)


من المسلمين، التى ما نكب المسلمون بأعظم منها، دخل عليه الوزير فقال له: آه يا مولانا، إنّ التّتار قد ملكت البلاد وقتلت المسلمين! فقال له الناصر لدين الله:
دعنى أنا فى شىء أهمّ من ذلك! طيرتى البلقاء، لى ثلاثة أيام ما رأيتها! وفى هذه الحكاية كفاية إن صحّت عنه. وكانت وفاته فى سلخ شهر رمضان «1» ، وكانت خلافته سبعا وأربعين سنة. وبويع بعده لولده أبى نصر ولقّب بالظاهر بأمر الله، فكانت خلافة الظاهر المذكور تسعة أشهر ومات. حسب ما يأتى ذكره.
وفيها توفّى السلطان الملك الأفضل علىّ ابن السلطان صلاح الدين يوسف ابن الأمير نجم الدين أيّوب فى يوم الجمعة من شهر ربيع الأوّل من السنة، وهو الذي كان ملك الشام فى حياة أبيه ثمّ من بعده، ووقع له تلك الأمور مع أخيه وعمّه العادل، وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه؛ وتنقّلت به الأحوال إلى أن صار صاحب سميساط، وبقى بها إلى أن مات فى هذه السنة. وكان مولده بمصر فى سلطنة والده سنة خمس وستين وخمسمائة. وكان فاضلا شاعرا حسن الخطّ قليل الحظّ غير مسعود فى حركاته- رحمه الله تعالى- ومن شعره- ممّا كتبه إلى الخليفة لمّا خرج من دمشق، واتّفق عليه الملك العادل عمّه والعزيز أخوه-:
مولاى إنّ أبا بكر وصاحبه ... عثمان قد غصبا بالسيف حقّ على
فانظر إلى حظّ هذا الاسم كيف لقى ... من الأواخر ما لاقى من الأول
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الواعظ أبو إسحاق إبراهيم بن المظفّر [بن إبراهيم «2» ] بن البرنىّ «3» بالموصل فى المحرّم. والخطيب المفسّر فخر

(6/262)


الدين محمد بن الخضر بن محمد [بن الخضر بن علىّ «1» بن عبد الله] بن تيميّة الحرّانى فى صفر.
والملك الأفضل علىّ بن السلطان صلاح الدين بسميساط فى صفر، وله سبع وخمسون سنة. وأبو الحسن علىّ بن أبى الكرم [نصر بن «2» المبارك] الجلال بن البنّاء بمكّة فى شهر ربيع الأوّل. وعبد المحسن خطيب الموصل ابن عبد الله بن أحمد الطّوسى فى شهر ربيع الأوّل. وقاضى القضاة بالقاهرة زين الدين علىّ ابن العلّامة يوسف بن عبد الله بن بندار الدّمشقىّ. والوزير الكبير صفىّ الدين عبد الله بن علىّ الشّيبىّ «3» ابن شكر بالقاهرة فى شعبان. ومجد الدين أبو المجد محمد بن الحسين القزوينى الصوفىّ بالموصل فى شعبان. والناصر لدين الله أبو العبّاس أحمد بن المستضىء بالله حسن بن المستنجد فى سلخ شهر رمضان، وله سبعون سنة، وكانت خلافته سبعا وأربعين سنة.
وفخر الدين محمد بن إبراهيم بن أحمد الفارسىّ الخبرىّ «4» الصوفىّ بمصر فى ذى الحجّة، وله أربع وتسعون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع ونصف إصبع. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وتسع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 623]
السنة الثامنة من ولاية الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة ثلاث وعشرين وستمائة.
فيها قدم الشيخ محيى الدين «5» بن الجوزىّ إلى دمشق رسولا إلى الملك المعظّم عيسى صاحب دمشق، ومعه الخلع له ولإخوته أولاد العادل من الخليفة الظاهر

(6/263)


بأمر الله أبى نصر محمد العبّاسىّ المتولّى الخلافة بعد وفاة والده الناصر لدين الله.
[ومضمون «1» رسالته طلب رجوع المعظّم عن موالاة ابن الخوارزمىّ] .
قال أبو المظفّر سبط ابن الجوزىّ، قال لى الملك المعظّم، قال خالك:
المصلحة رجوعك عن هذا الخارجىّ (يعنى جلال الدين [بن] الخوارزمىّ وترجع إلى إخوتك ونصلح بينكم؛ قال: فقلت لخالك: إذا رجعت عن [ابن] الخوارزمىّ وقصدنى إخوتى تنجدوننى؟ قال: نعم؛ فقلت: مالكم عادة تنجدون أحدا! هذه كتب الخليفة الناصر لدين الله عندنا، ونحن على دمياط نكتب ونستصرخ به، فيجىء الجواب بأنّا قد كتبنا إلى ملوك الجزيرة ولم يفعلوا. قال: قلت: مثلى معكم كمثل رجل كان يخرج إلى الصلاة وبيده عكّاز خوفا من الكلاب، فقال له بعض أصدقائه: أنت شيخ كبير، وهذا العكّاز يثقلك، وأنا أدلك على شىء يغنيك عن حمله، قال: وما هو؟ قال: تقرأ سورة يس عند خروجك من الدار، وما يقربك كلب، وأقام مدّة فرأى الشيخ حامل العكّاز، فقال له: أما قد علّمتك ما يغنيك عن حمله؟ فقال: هذا العكّاز لكلب لا يعرف القرآن. وقد اتّفق إخوتى علىّ، وقد أنزلت [ابن] الخوارزمىّ على خلاط، إن قصدنى أخى الأشرف «2» منعه؛ وإن قصدنى أخى الكامل (يعنى صاحب الترجمة) فأنا له. ثم اصطلح الإخوة بعد ذلك فى السنة.
وفيها توفّى كافور بن عبد الله شبل الدولة الحسامىّ «3» خادم ستّ الشام بنت أيّوب. كان عاقلا ديّنا صالحا، بنى مدرسته على نهر ثورا بدمشق لأصحاب أبى حنيفة- رضى الله عنه- والخانقاه إلى جانب مدرسته. وكانت وفاته بدمشق فى شهر رجب.

(6/264)


وفيها توفّى الخليفة أمير المؤمنين الظاهر بأمر الله أبو نصر محمد ابن الخليفة الناصر لدين الله أبى العباس أحمد الهاشمىّ العباسىّ البغدادىّ. ولى الخلافة بعد وفاة أبيه فى السنة الماضية فلم تطل مدّته فيها، ووقع له شدائد إلى أن مات فى شهر رجب؛ وامّه أمّ ولد. وكانت خلافته تسعة أشهر وأيّاما، وكان مولده فى المحرّم سنة «1» سبعين وخمسمائة، وكان جميل الصورة أبيض مشربا بحمرة حلو الشمائل شديد القوى.
أفضت الخلافة إليه، وله اثنتان وخمسون سنة إلا أشهرا، فقيل له: ألا تنفسح؟
فقال: قد فات الزرع! فقيل له: يبارك الله فى عمرك، فقال: من فتح دكّانا بعد العصر إيش يكسب!. وكان خيّرا عادلا قطع الظّلامات والمكوس، حتّى قيل:
إنّ جملة ما قطع من الظّلامات والمكوس ثمانية آلاف دينار فى كلّ سنة، وتصدّق فى ليلة العبد بمائة ألف دينار. وسببه أنّه لمّا ولى الخلافة ولّى الشيخ عماد «2» الدين ابن الشيخ عبد القادر الجيلىّ القضاء، فما قبل عماد الدين إلّا بشرط أن يورّث ذوى الأرحام، فقال له الخليفة: أعط كلّ ذى حقّ حقّه واتّق الله ولا لتثق بسواه؛ فكلّمه القاضى أيضا فى الأوراق التى ترفع إلى الخليفة؛ وهو أنّ حرّاس الدروب كانت ترفع إلى الخليفة فى صبيحة كلّ يوم ما يكون عندهم من أحوال الناس الصالحة والطالحة، فأمر الظاهر بتبطيل ذلك، وقال: أىّ فائدة فى كشف أحوال الناس! فقيل له: إن تركت ذلك فسدت أحوال الرعيّة، فقال: نحن ندعو لهم بالإصلاح.
ثم أعطى القاضى المذكور عشرة آلاف دينار يفى بها ديون من فى السجون من الفقراء، ثم فرّق بقيّة المائة الألف الدينار فى العلماء والفقراء. ولمّا مات الظاهر تولّى الخلافة بعده ولده المستنصر بالله أبو جعفر.

(6/265)


الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو المحاسن محمد بن السيد بن أبى لقمة الأنصارىّ الصفّار فى شهر ربيع الأوّل عن أربع وتسعين سنة.
وقاضى الشام جمال الدين يونس بن بدران القرشىّ المصرىّ الشافعىّ فى شهر ربيع الأوّل، ودفن بقرب الصليحيّة «1» . وشمس الدين أحمد بن عبد الواحد المقدسىّ الملقّب بالبخارىّ الفقيه المناظر فى جمادى الآخرة، وله تسع وخمسون سنة. والتقىّ خزعل «2» ابن عسكر المصرىّ النحوىّ اللغوىّ بدمشق. والمحارى «3» الزاهد أبو محمد عبد الرحمن ابن عبد الله بن علوان بحلب فى جمادى الآخرة، وله تسعون سنة. والعلّامة إمام الدين عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم بن الفضل الرافعىّ القزوينىّ صاحب الشرح «4» . والظاهر بأمر الله أبو نصر محمد بن الناصر لدين الله فى رجب، وله ثلاث وخمسون سنة، وكانت خلافته عشرة أشهر. وبويع بعده ابنه المستنصر.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وإصبع واحدة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 624]
السنة التاسعة من ولاية الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيّوب على مصر، وهى سنة أربع وعشرين وستمائة.
فيها عاد الملك الأشرف موسى ابن الملك العادل إلى بلاده بعد أن صالح أخاه الملك المعظّم عيسى ابن الملك العادل، وكلاهما أخو الملك الكامل هذا.

(6/266)


وفيها حجّ بالناس من الشام الشجاع [علىّ «1» ] بن السلّار، ومن ميافارقين الشهاب غازى ابن الملك العادل.
وفيها توفّى السلطان الملك المعظّم شرف الدين عيسى ابن الملك العادل أبى بكر ابن أيّوب بن شادى الأيّوبىّ صاحب الشام. قال أبو المظفّر: وفيها توفّى الملك المعظّم العالم الفقيه المجاهد فى سبيل الله الغازى النحوىّ اللغوىّ. ولد بالقاهرة سنة ستّ وسبعين وخمسمائة، ونشأ بالشام وقرأ القرآن وتفقّه على مذهب أبى حنيفة بجمال «2» الدين الحصيرىّ، وحفظ المسعودىّ، واعتنى «بالجامع «3» الكبير» ، وقرأ الأدب [والنحو «4» ] على تاج الدين «5» الكندىّ، فأخذ عنه «كتاب سيبويه» وشرحه الكبير للسيرافىّ، «والحجّة فى القراءات» لأبى علىّ الفارسىّ «والحماسة» ، وقرأ عليه «الإيضاح» لأبى علىّ حفظا؛ ثمّ ذكر مسموعاته فى الحديث وغيره إلى أن قال:
وشرح الجامع الكبير، وصنّف الردّ «6» على الخطيب، والعروض، وله «ديوان شعر» .
قال: وكان شجاعا مقداما كثيرا لحياء متواضعا مليح الصورة ضحوكا غيورا جوادا حسن السّيرة. وأطلق أبو المظفّر عنان القلم فى ميدان محاسنه حتّى إنّه ساق ترجمته فى عدّة أوراق فى مرآة الزمان.

(6/267)


قلت: ويحقّ له ذلك، فإنّ المعظّم كان فى غاية ما يكون من الكمال فى عدّة علوم وفنون، وهو رجل بنى أيّوب وعالمهم بلا مدافعة، ومحاسنه أشهر من أن تذكر.
وكانت وفاته- رحمه الله- فى ثالث ساعة من نهار الجمعة أوّل يوم من ذى الحجّة، ودفن بقلعة دمشق، ثم نقل بعد ذلك من قلعة دمشق ودفن مع والدته «1» فى القبّة عند «2» الباب. وخلّف عدّة أولاد: الملك الناصر داود، والملك المغيث عبد العزيز، والملك القاهر عبد الملك؛ ومن البنات تسعا، وقيل إحدى عشرة. وتولّى ابنه الناصر داود دمشق بعده إلى أن أخذها منه عمّه الملك الكامل صاحب الترجمة.
وفيها توفّى الملك چنكز خان التركىّ، طاغية التّتار وملكهم الأوّل الذي خرّب البلاد وأباد العباد، وليس للتتار ذكر قبله.
قلت: هو صاحب «التورا» «واليسق» ، وقد أوضحنا أمره فى غير هذا الكتاب، وذكرنا أصله واعتقاد التتار فيه وأشياء كثيرة. والتورا باللغة التركية هو المذهب، واليسق هو الترتيب، وأصل كلمة اليسق سى يسا، وهو لفظ مركّب من أعجمىّ وتركىّ، ومعناه: التراتيب الثلاث، لأنّ سى بالعجمى فى العدد ثلاثة، ويسا بالتركى: الترتيب؛ وعلى هذا مشت التتار من يومه إلى يومنا هذا، وانتشر ذلك فى سائر الممالك حتّى ممالك مصر والشام، وصاروا يقولون: «سى يسا» فثقلت عليهم فقالوا: «سياسة «3» » على تحاريف أولاد العرب فى اللغات الأعجمية. ولمّا أن تسلطن الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البند قدارىّ أحبّ أن يسلك فى ملكه بالديار المصريّة طريقة چنكزخان هذا وأموره، ففعل ما أمكنه، ورتّب فى سلطنته

(6/268)


أشياء كثيرة؛ لم تكن قبله بديار مصر: مثل ضرب البوقات، وتجديد الوظائف، على ما نذكره- إن شاء الله تعالى- فى ترجمته. واستمرّ أولاد چنكزخان فى ممالكه التى قسمها عليهم فى حياته، ولم يختلف منهم واحد على واحد، ومشوا على ما أوصاهم به، وعلى طريقته «التورا» و «اليسق» إلى يومنا هذا. انتهى.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى داود بن معمّر بن عبد الواحد بن الفاخر القرشىّ فى رجب أو فى شعبان، وله تسعون سنة. وطاغية التتار چنكزخان فى شهر رمضان. وقاضى القضاة بحرّان أبو بكر عبد الله بن نصر الحنبلىّ، وله خمس وسبعون سنة. وأبو محمد عبد البرّ «1» ابن الحافظ ابن العلاء الهمذانىّ بروذراور «2» فى شعبان. والبهاء عبد الرحمن بن إبراهيم المقدسىّ الحنبلىّ الفقيه المحدّث فى ذى الحجّة، وله تسع وستون سنة. والملك المعظّم شرف الدين عيسى بن العادل فى ذى القعدة، وله ثمان وأربعون سنة. وأبو الفرج الفتح بن عبد الله [بن محمد «3» ابن علىّ بن هبة الله] بن عبد السلام الكاتب فى المحرّم، وله سبع وثمانون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع أذرع «4» واثنتا عشرة إصبعا. هكذا وجدته مكتوبا، ولعلّه وهم من الكاتب.