النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

 [ما وقع من الحوادث سنة 655]
ذكر سلطنة الملك المنصور علىّ بن أيبك التّركمانى على مصر
السلطان الملك المنصور نور الدين علىّ ابن السلطان الملك المعزّ عزّ الدين أيبك التّركمانىّ الصالحىّ النجمىّ، ملك الديار المصريّة بعد قتل أبيه المعزّ أيبك فى يوم الخميس خامس عشرين شهر ربيع الأوّل سنة خمس وخمسين وستمائة، وتمّ أمره وخطب له من الغد فى يوم الجمعة سادس عشرينه على منابر مصر وأعمالها. والمنصور هذا هو الثانى من ملوك مصر من الترك بالديار المصريّة.
وتسلطن المنصور هذا وعمره خمس عشرة سنة، وركب فى يوم الخميس ثانى شهر ربيع الآخر بشعار السلطنة من القلعة إلى قبة «1» النصر فى موكب هائل، ثم عاد ودخل القاهرة من باب النصر، وترجّل الأمراء ومشوا بين يديه ما خلا الأتابك علم الدين سنجر الحلبىّ، ثم صعد المنصور إلى القلعة وجلس بدار السلطنة ومدّ السّماط للأمراء فأكلوا، ووزر له وزير أبيه شرف الدين «2» الفائزىّ وانفضّ الموكب.
وفى يوم الجمعة ثالث «3» شهر ربيع الآخر خطب للملك المنصور وبعده لأتابكه

(7/41)


علم الدين «1» سنجر الحلبىّ المذكور. وفوّض القضاء بالقاهرة وأعمالها إلى القاضى بدر الدين «2» السّنجارىّ، وعزل تاج الدين «3» ابن بنت الأعزّ وأبقى عليه قضاء مصر القديمة وأعمالها.
وفى عاشر شهر ربيع الآخر قبض الأمير قطز وسنجر [الغتمى «4» ] وبهادر وغيرهم من الأمراء المعزّيّة على الأتابك سنجر الحلبىّ، وأنزلوه إلى الجبّ «5» بالقلعة، وكان القبض عليه لأمور: أحدها أنّه كان طمع فى السلطنة بعد قتل الملك المعزّ أيبك لمّا طلبته شجرة الدّرّ وعرضت عليه الملك، والثانى أنه بلغهم أنه ندم على ترك الملك وهو فى عزم الوثوب؛ فعاجلوه وقبضوا عليه. ولمّا قبض عليه اضطربت خشداشيته من المماليك الصالحيّة النّجميّة وخاف كلّ أحد على نفسه، فهرب أكثرهم إلى جهة الشام، فخرج فى إثرهم جماعة من الأمراء المعزّيّة وغيرهم، وتقنطر بالأمير عزّ الدين أيبك «6» الحلبىّ الكبير فرسه، وكذلك الأمير خاصّ ترك الصغير فهلكا خارج القاهرة وأدخلا ميتين، وكانوا ركبوا فى جماعة من المماليك الصالحيّة فى قصد الشام أيضا. واتّبع العسكر المهزومين إلى الشام، فقبض على أكثرهم وحملوا إلى القلعة واعتقلوا بها. وقبض أيضا على الوزير شرف الدين الفائزى. وفوّض أمر الوزارة إلى القاضى بدر الدين يوسف السّنجارىّ مضافا إلى القضاء، وأخذ موجود الفائزى

(7/42)


وكان له مال كثير. ثم قبض على بهاء الدين علىّ [بن محمد بن سليم «1» ] بن حنّا وزير شجرة الدّرّ، وأخذ خطّه بستّين ألف دينار. ثم خلع الملك المنصور على الأمير أقطاى «2» المستعرب باستقراره أتابكا عوضا عن سنجر الحلبىّ. ثم فى شهر رجب رفعت يد القاضى بدر الدين السّنجارىّ من الوزارة وأضيف إليه قضاء مصر القديمة، فكمل له قضاء الإقليم بكماله، وولى القاضى تاج الدين ابن بنت الأعزّ الوزارة.
ثم فى شعبان كثرت الأراجيف بين الناس بأنّ الأمراء والأجناد اتّفقوا على إزالة حكم مماليك الملك المعزّ من الدولة، وأنّ الملك المنصور تغيّر على الأمير سيف الدين قطز المعزّى، واجتمع الأمراء فى بيت الأمير بهاء الدين بغدى «3» مقدّم الحلقة، وتكلّموا إلى أن صلح الأمر بين الملك المنصور وبين مملوك أبيه الأمير قطز. وخلع عليه وطيّب قلبه؛ ثم وقع الكلام أيضا من المعزّيّة وغيرهم. فلمّا كان رابع شهر رمضان ركب الأمير بغدى وبدر الدين «4» بلغان وانضاف إليهما جماعة ووقفوا بآله الحرب، فخرج إليهم حاشية السلطان فقاتلوهم وهزموهم وقبضوا على بغدى بعد أن جرح وعلى بلغان وحملا إلى القلعة؛ ودخلت المعزّية إلى القاهرة، فقبضوا على الأمير عزّ الدين أيبك الأسمر وأرزن الرّومىّ وسابق الدين بوزنا الصّيرفىّ وغيرهم من المماليك الأشرفيّة ونهبت دورهم، فاضطربت القاهرة حتّى نودى بالأمان لمن دخل فى الطاعة وسكن الناس، وركب السلطان الملك المنصور فى خامس

(7/43)


شهر رمضان وشقّ القاهرة وفى خدمته الأمير قطز وباقى مماليك أبيه، ثم نزل أيضا فى عيد الفطر وصلّى بالمصلّى. وركب وعاد إلى القلعة ومدّ السّماط.
ثم ورد كتاب الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب الشام وحلب على الملك المنصور بمفارقة البحريّة والصالحيّة له (أعنى الأمراء والمماليك الذين خرجوا من القاهرة بعد القبض على علم الدين سنجر الحلبىّ المقدّم ذكره) . فلمّا وقف المصريّون على الكتاب ظنّوا أن ذلك خديعة من الملك الناصر فآحترزوا لأنفسهم.
ثم جهّز الملك المنصور عسكرا من المماليك والأمراء ومقدّمهم الدّمياطىّ «1» إلى الشام، فتوجّهوا ونزلوا بالعبّاسة؛ فوردت الأخبار على السلطان الملك المنصور بأنّ عساكر الملك الناصر وصلت إلى نابلس لقتال البحريّة الذين قدموا عليه من مصر ثم فارقوه، وكان البحرية نازلين بغزّة، ثم وردت الأخبار بأنّ البحريّة، وكان مقدّم البحريّة بلبان الرّشيدىّ وبيبرس البندقدارىّ، خرجوا من غزّة وكبسوا عسكر الملك الناصر وقتلوا منهم جماعة كثيرة ليلا. ثم ورد الخبر ثانيا بأنّ عسكر الملك الناصر كسروا البحريّة وأنّ البحريّة انحازوا إلى ناحية زغر «2» من الغور. ثم ورد الخبر أيضا بمجيء البحريّة إلى جهة القاهرة طائعين للسلطنة، فقدم منهم الأمير عزّ الدين أيبك الأفرم ومعه جماعة، فتلقّوا بالإكرام، وأفرج عن أملاك الأفرم وأرزاقه ونزل بداره بمصر. ثم بلغ السلطان أنّ البحرية (أعنى الذي بقى منهم) رحلوا من زغر طالبين بعض الجهات، فاتّضح من أمرهم أنّهم خرجوا من دمشق على حميّة وأنّهم قصدوا القدس الشريف، ومقطع القدس يوم ذاك سيف الدين كبك من جهة الملك الناصر

(7/44)


يوسف صاحب الشام وحلب، فطلبوا منه البحريّة أن يكون معهم فامتنع فاعتقلوه، وخطبوا بالقدس للملك المغيث بن العادل بن الكامل بن العادل بن أيّوب.
ثم جاءوا إلى غزّة وقبضوا على واليها (أعنى نائبها) وأخذوا حواصل الملك الناصر من غزّة والقدس وغيرهما «1» . ثم إنّهم أطمعوا الملك المغيث صاحب الكرك فى ملك مصر، وقالوا له: هذا ملك أبيك وجدّك وعمّك، ثم عزموا على قصد الديار المصريّة، فجاء الخبر إلى مصر بذلك فخرج إليهم العسكر المصرىّ، واجتمعوا بالصالحيّة «2» وأقاموا بها، فلمّا كان سحر ليلة السبت منتصف ذى القعدة وصلت البحريّة بمن معهم من عسكر الملك المغيث، ووقعت «3» الحرب بين الفريقين واشتدّ القتال بينهم وجرح جماعة، والمصريّون مع ذلك يزدادون كثرة وطلعت الشمس، فرأت البحريّة كثرة المصريّين فانهزموا وأسر منهم بلبان الرّشيدىّ وبه جراحات وهو من كبار القوم، وهرب بيبرس البندقدارىّ وبدر «4» الصّوابى إلى الكرك، وبعض البحريّة دخل فى العسكر المصرىّ، ودخل العسكر المصرىّ القاهرة، وزيّن البلد لهذا النصر وفرح الملك المنصور والأمير قطز بذلك.
وأمّا البحريّة فإنّهم توجّهوا إلى الملك المغيث صاحب الكرك وحسنّوا له أن يركب ويجيء معهم لأخذ مصر فأصغى لهم وتجهّز وخرج بعساكره من الكرك فى أوّل سنة ستّ وخمسين وستّمائة، وسار حتّى قدم غزّة، وأمر البحريّة راجع إلى بيبرس البندقدارىّ. فلمّا بلغ ذلك المصريّين خرج الأمير سيف الدين قطز بعساكر

(7/45)


مصر ونزل بالعبّاسة، فلمّا تكامل عسكره سار منه قاصدا الشاميّين، وخرج الملك المغيث من غزّة إلى الرمل فالتقى بالعسكر المصرىّ وتقاتلا قتالا شديدا فى يوم الثلاثاء الحادى والعشرين من شهر ربيع الآخر، فانكسر الملك المغيث بمن معه من البحريّة، وقبض على جماعة كثيرة من المماليك البحرية الصالحيّة، وهم: الأمير عزّ الدين أيبك الرّومى وعزّ الدين أيبك الحموىّ وركن الدين الصّيرفىّ «1» وابن أطلس خان الخوارزمىّ وجماعة كثيرة، فأحضروا بين يدى الأمير سيف الدين قطز والأمير الغتمىّ والأمير بهادر المعزّيّة فأمروا بضرب أعناقهم فضربت، وحملت رءوسهم إلى القاهرة وعلّقت بباب زويلة، ثم أنزلت من يومها لمّا أنكر قتلهم على المعزّية بعض أمراء مصر واستشنع ذلك.
وأمّا الملك المغيث فإنّه هرب هو والطواشى بدر الصّوابىّ وبيبرس البندقدارىّ ومن معهم، ووصلوا إلى الكرك فى أسوأ حال بعد أن نهب ما كان معهم من الثّقل والخيام والسلاح وغير ذلك وأقاموا بالكرك؛ وبينما هم فى ذلك أرسل الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب الشام جيشا مقدّمه الأمير «2» مجير الدين إبراهيم [بن «3» أبى بكر] بن أبى زكرى والأمير نور الدين علىّ بن الشجاع الأكتع فى طلب البحريّة، وخرجت البحريّة لمّا بلغهم ذلك إلى غزّة، والتقوا مع العسكر الشامىّ وتقاتلوا فآنكسر العسكر الشامىّ، وقبض على مجير الدين ونور الدين وحملوها البحريّة إلى الكرك، وقوى أمر البحريّة بهذه الكسرة واشتدّوا.
وأمّا الملك الناصر لمّا بلغه كسر عسكره تجهّز وخرج بنفسه لقتال البحريّة، وضرب دهليزه قبلى دمشق، فلمّا بلغ البحريّة ذلك توجّهوا نحو دمشق وضربوا

(7/46)


أطراف عساكر الملك الناصر، وخفّ بيبرس البندقدارىّ حتّى إنّه أتى فى بعض الأيام وقطع أطناب خيمة الملك الناصر المضروبة، وذلك قبل خروج الناصر من دمشق. وبينما الناس فى ذلك ورد الخبر بأخذ التّتار لبغداد وقتل هولاكو الخليفة المستعصم بالله وإخراب بغداد.
قلت: نذكر سبب أخذ هولاكو لبغداد ثم نعود إلى أمر المصريّين والشاميّين والبحريّة.
فأمّا أمر هولاكو فإنّه هولاكو: وقيل: هولاو [وقيل هلاوون «1» ] بن تولى خان ابن چنكز خان المغليّ، ولى الملك بعد موت أبيه تولى قان، واتّسعت ممالكه وعظم أمره وكثرت جيوشه من المغل والتّتار، ولا زال أمره فى زيادة حتى ملك مدينة ألموت «2» وقتل متولّيها شمس «3» الشموس وأخذ بلاده، ثم أخذ الروم وأبقى بها ركن الدين كيقباد بن غياث الدين كيخسرو صورة بلا معنى والحكم والتصرّف لغيره؛ وكان وزير الخليفة المستعصم بالله مؤيّد الدّين بن العلقمىّ ببغداد، وكان رافضيّا خبيثا حريصا على زوال الدولة العباسيّة ونقل الخلافة إلى العلويّين، يدبّر ذلك فى الباطن ويظهر للخليفة المستعصم خلاف ذلك، ولا زال يثير الفتن بين أهل السّنّة والرافضة حتّى تجالدوا بالسيوف، وقتل جماعة من الرافضة ونهبوا، فاشتكى أهل باب البصرة إلى الأمير مجاهد «4» الدين الدّوادار وللأمير أبى بكر ابن الخليفة فتقدّما إلى الجند بنهب

(7/47)


الكرخ فركبوا من وقتهم وهجموا على الرافضة بالكرخ وقتلوا منهم جماعة وارتكبوا معهم «1» العظائم فحنق الوزير ابن العلقمى ونوى الشرّ فى الباطن وأمر أهل الكرخ الرافضة بالصّبر والكفّ عن القتال، وقال لهم: أنا أكفيكم «2» فيهم وكان الخليفة المستنصر بالله قد استكثر من الجند قبل موته حتّى بلغ عدد عسكره مائة ألف، وكان الوزير ابن العلقمىّ مع ذلك يصانع التّتار فى الباطن ويكاتبهم ويهاديهم، فلمّا استخلف المستعصم بعد موت أبيه المستنصر، وكان المستعصم خليّا من الرأى والتدبير، فأشار عليه ابن العلقمىّ المذكور بقطع أرزاق أكثر الجند، وأنّه بمصانعة التتار وإكرامهم يحصل بذلك المقصود، ولا حاجة لكثرة الجند ففعل الخليفة ذلك! قلت: وكلمة الشيخ مطاعة!
ثم إنّ الوزير بعد ذلك كاتب التّتار وأطمعهم فى البلاد سرّا، وأرسل إليهم غلامه وأخاه وسهّل عليهم فتح العراق وأخذ بغداد، وطلب منهم أن يكون نائبهم بالبلاد فوعدوه بذلك، وتأهّبوا لقصد بغداد وكاتبوا لؤلؤا «3» صاحب الموصل فى تهيئة الإقامات والسلاح، فكاتب لؤلؤ الخليفة سرّا وحذّره، ثم هيّأ لهم الآلات والإقامات.
وكان الوزير ابن العلقمىّ المذكور ليس لأحد معه كلام فى تدبير أمر الخليفة، فصار لا يوصّل مكاتبات لؤلؤ ولا غيره للخليفة، وعمّى عنه الأخبار والنصائح، فكان يقرؤها هو ويجيب عنها بما يختار، فنتج أمر التّتار بذلك غاية النّتاج وأخذ أمر الخليفة والمسلمين فى إدبار! وكان تاج الدين بن صلايا نائب الخليفة بإربل «4»

(7/48)


حذّر الخليفة وحرّك عزمه، والخليفة لا يتحرّك ولا يستيقظ! فلمّا «1» تحقّق الخليفة حركة التّتار نحوه سيّر إليهم شرف «2» الدين بن محيى الدين ابن الجوزى رسولا يعدهم بأموال عظيمة، ثم سيّر مائة رجل إلى الدّربند يكونون فيه يطالعون الخليفة بالأخبار، فمضوا فلم يطلع لهم خبر، لأنّ الأكراد الذين كانوا هناك دلّوا التّتار عليهم، فهجموا عليهم وقتلوهم أجمعين.
ثم ركب هولاكو بن تولى خان بن چنكز خان فى جيوشه من المغل والتّتار وقصدوا العراق، وكان على مقدّمته الأمير بايجونوين «3» ، وفى جيشه خلق من أهل الكرخ الرافضة ومن عسكر بركة خان ابن عمّ هولاكو، ومدد من صاحب الموصل مع ولده الملك الصالح ركن الدين إسماعيل، فوصلوا قرب بغداد واقتتلوا من جهة البرّ الغربىّ عن دجلة، فخرج عسكر بغداد وعليهم ركن الدين الدّوادار، فالتقوا على نحو مرحلتين من بغداد، فانكسر البغداديّون وأخذتهم السيوف، وغرق بعضهم فى الماء وهرب الباقون. ثم ساق بايجونوين مقدّمة هولاكو فنزل القرية «4» مقابل دار الخلافة وبينه وبينها دجلة لا غير. وقصد هولاكو بغداد من البرّ الشرقىّ، وضرب سورا وخندقا على عسكره وأحاط ببغداد، فأشار الوزير ابن العلقمىّ على الخليفة المستعصم بالله بمصانعتهم. وقال له: أخرج إليهم أنا فى تقرير الصلح فخرج إليهم، واجتمع بهولاكو وتوثّق لنفسه وردّ إلى الخليفة، وقال: إنّ الملك قد رغب

(7/49)


فى أن يزوّج بنته بآبنك الأمير أبى بكر، ويبقيك على منصب الخلافة كما أبقى صاحب الروم فى سلطنته، ولا يطلب إلّا أن تكون الطاعة له كما كان أجدادك مع السلاطين السّلجوقيّة، وينصرف هو عنك بجيوشه! فتجيبه يا مولانا أمير المؤمنين لهذا، فإنّ فيه حقن دماء المسلمين، ويمكن أن تفعل بعد ذلك ما تريد! والرأى أن تخرج إليه؛ فسمع له الخليفة وخرج إليه فى جمع من الأعيان من أقاربه وحواشيه وغيرهم.
فلمّا توجّه إلى هولاكو لم يجتمع به هولاكو وأنزل فى خيمة؛ ثم ركب الوزير وعاد إلى بغداد بإذن هولاكو، واستدعى الفقهاء والأعيان والأماثل ليحضروا عقد بنت هولاكو على ابن الخليفة، فخرجوا من بغداد إلى هولاكو، فأمر هولاكو بضرب أعناقهم! ثم مدّ الجسر ودخل بايجونوين «1» بمن معه إلى بغداد وبذلوا السيف فيها واستمرّ القتل والنهب والسّبى فى بغداد بضعة وثلاثين يوما، فلم ينج منهم إلّا من اختفى. ثمّ أمر هولاكو بعدّ القتلى فبلغوا ألف ألف وثمانمائة ألف وكسرا.
وقال الذهبىّ- رحمه الله- فى تاريخ الإسلام: والأصحّ أنّهم بلغوا ثمانمائة ألف.
ثم نودى بعد ذلك بالأمان، فظهر من كان اختفى وهم قليل من كثير.
وأمّا الوزير ابن العلقمىّ فلم يتمّ له ما أراد، وما اعتقد أنّ التّتار يبذلون السيف مطلقا فى أهل السّنّة والرافضة معا، وراح مع الطائفتين أيضا أمم لا يحصون كثرة، وذاق ابن العلقمىّ الهوان والذّلّ من التّتار! ولم تطل أيامه بعد ذلك كما سيأتى ذكره. ثم ضرب هولاكو عنق مقدّم جيشه بايجونوين لأنّه بلغه عنه من الوزير ابن العلقمىّ أنّه كاتب الخليفة المستعصم لمّا كان بالجانب الغربىّ.
وأمّا الخليفة فيأتى ذكره فى الحوادث على عادة هذا الكتاب فى محلّه غير أنّنا نذكره هنا على سبيل الاستطراد. ولمّا تمّ أمر هولاكو طلب الخليفة وقتله خنقا. وقيل

(7/50)


غمّ فى بساط، وقيل جعله هو وولده فى عدلين وأمر برفسهما حتّى ماتا. ثم قتل الأمير مجاهد الدين الدّوادار، والخادم إقبال «1» الشّرابى صاحب الرّباط بحرم مكّة، والأستادار محيى «2» الدين ابن الجوزىّ وولداه «3» وسائر الأمراء الأكابر والحجّاب والأعيان، وانقضت الخلافة من بغداد وزالت أيامهم من تلك البلاد، وخربت بغداد الخراب العظيم، وأحرقت كتب العلم التى كانت بها من سائر العلوم والفنون التى ما كانت فى الدنيا؛ قيل: إنّهم بنوا بها جسرا من الطين والماء عوضا عن الآجرّ، وقيل غير ذلك. وكانت كسرة الخليفة يوم عاشوراء من سنة ستّ وخمسين وستّمائة المذكورة، ونزل هولاكو بظاهر بغداد فى عاشر المحرّم، وبقى السيف يعمل فيها أربعة وثلاثين يوما وآخر جمعة خطب الخطيب ببغداد، كانت الخطبة: الحمد لله الذي هدم بالموت مشيّد الأعمار، وحكم بالفناء على أهل هذه الدار، إلى أن قال:
اللهمّ أجرنا فى مصيبتنا التى لم يصب الإسلام وأهله بمثلها، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون! ثم عمل الشعراء والعلماء قصائد فى مراثى بغداد وأهلها، وعمل الشيخ تقي الدين إسماعيل [بن إبراهيم «4» ] بن أبى اليسر [شاكر بن عبد الله «5» التّنوخىّ] قصيدته المشهورة، وهى:
لسائل الدّمع عن بغداد أخبار ... فما وقوفك والأحباب قد ساروا
يا زائرين إلى الزّوراء لا تفدوا ... فما بذاك الحمى والدار ديّار
تاج الخلافة والرّبع الذي شرفت ... به المعالم قد عفّاه إقفار

(7/51)


أضحى لعطف البلى فى ربعه أثر ... وللدّموع على الآثار آثار
يا نار قلبى من نار لحرب وغى ... شبّت عليه ووافى الرّبع إعصار
علا الصليب على أعلى منابرها ... وقام بالأمر من يحويه زنّار
ومنها:
وكم بدور على البدريّة «1» انخسفت ... ولم يعد لبدور منه إبدار
وكم ذخائر أضحت وهى شائعة ... من النّهاب وقد حازته كفّار
وكم حدود أقيمت من سيوفهم ... على الرّقاب وحطّت فيه أوزار
ناديت والسّبى مهتوك يجرّهم ... إلى السّفاح من الأعداء دعّار
ومنها:
وهم يساقون للموت الذي شهدوا ... النار يا ربّ...... «2» ...... ولا العار
يا للرّجال لأحداث «3» تحدّثنا ... بما غدا فيه إعذار وإنذار
من بعد أسر بنى العبّاس كلّهم ... فلا أنار لوجه الصّبح إسفار
ما راق لى قطّ شىء بعده بينهم ... إلّا أحاديث أرويها وآثار
لم يبق للدّين والدنيا وقد ذهبوا ... شوق لمجد وقد بانوا وقد باروا
إنّ القيامة فى بغداد قد وجدت ... وحدّها حين للإقبال إدبار
آل النّبىّ وأهل العلم قد سبيوا «4» ... فمن ترى بعدهم تحويه أمصار.
ما كنت آمل أن أبقى وقد ذهبوا ... لكن أبى دون ما أختار أقدار

(7/52)


وهى أطول من ذلك. وجملة القصيدة ستة وستون بيتا. وقال غيره فى فقد الخلافة من بغداد بيتا مفردا وأجاد:
خلت المنابر والأسرّة منهم ... فعليهم حتّى الممات سلام
انتهى ذكر بغداد هنا، ولا بدّ من ذكر شىء منها أيضا فى الحوادث.
وأمّا أمر البحريّة فإنّه لمّا دخلت سنة سبع وخمسين وستمائة رحل الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب الشام بعساكر فى أثر البحريّة، فاندفعوا البحريّة أمامه إلى الكرك، فسار الناصر حتى نزل بركة «1» زيزاء ليحاصر الكرك، وصحبته الملك المنصور صاحب حماة؛ فأرسل الملك المغيث عمر «2» بن العادل بن الكامل صاحب الكرك رسله إلى الملك الناصر يطلب الصلح، وكان مع رسله الدار «3» القطبيّة ابنة الملك المفضّل «4» قطب الدّين بن العادل، وهى من عمّات الناصر والمغيث يتضرّعون إلى الناصر ويطلبون الصلح ورضاه على ابن عمه المغيث، فشرط عليه الناصر أن يقبض على من عنده من البحريّة، فأجاب إلى ذلك وقبض عليهم وجهّزهم إلى الملك الناصر على الجمال، وهو نازل ببركة زيزاء. فحملهم الملك الناصر إلى حلب واعتقلهم بقلعتها ما خلا الأمير بيبرس البندقدارىّ، فإنّه لمّا أحسّ بما وقع عليه الصلح هرب من الكرك فى جماعة من البحريّة وأتى إلى الملك الناصر صلاح الدين المذكور داخلا تحت طاعته، فأكرمه الملك الناصر وأكرم رفقته إكراما زائدا؛ وعاد الناصر إلى دمشق وفى خدمته الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارىّ وغيره من البحريّة.

(7/53)


وأمّا المصريّون فإنّه لمّا بلغ الملك المنصور عليّا والأمير قطز المعزّىّ ما وقع للبحريّة فرحا فرحا زائدا، وزيّنت مصر أيّاما لذلك؛ وصفا الوقت للأمير قطز.
وبينما هو فى ذلك ورد الخبر عليه بنزول هولاكو على مدينة آمد من ديار بكر، وأنّه فى قصد البلاد الشاميّة، وأنّ هولاكو بعث رسله إلى الملك السعيد نجم الدين إيلغازى صاحب ماردين يستدعيه إلى طاعته وحضرته، فسيّر إليه الملك السعيد ولده الملك المظفّر «1» قرا أرسلان وقاضى القضاة مهذّب الدين محمد [بن «2» مجلّى] والأمير سابق الدين بلبان وعلى أيديهم هديّة، وحمّلهم رسالة تتضمّن الاعتذار عن الحضور بمرض منعه الحركة، ووافق وصولهم إلى هولاكو أخذه لقلعة اليمانيّة وإنزاله من بها من حريم صاحب ميّافارقين وأولاده وأقاربه، وهم: ولده الملك الناصر صلاح الدين يوسف جفتاى، والملك السعيد عمر وابن أخيه الملك الأشرف أحمد وتاج الدين على ابن الملك العادل، فأدّوا الرسالة؛ فقال هولاكو: ليس مرضه بصحيح، وإنّما هو يتمارض مخافة الملك الناصر صاحب الشام، فإن انتصرت عليه اعتذر لى بزيادة المرض، وإن انتصر علىّ كانت له اليد البيضاء عنده، ثم قال: ولو كان للملك الناصر قوّة يدفعنى لم يمكّنى من دخول هذه البلاد؛ وقد بلغنى أنّه بعث حريمه إلى مصر؛ ثم أمر بردّ القاضى وحده فردّ القاضى وأخبر الملك السعيد بالجواب.
وأمّا هولاكو فإنّه لا زال يأخذ بلدا بعد أخرى إلى أن استولى على حلب والشام، واضمحلّ أمر الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب الشام بعد أمور ووقائع وقعت له، وانفلّ عنه أصحابه. فلمّا وقع ذلك فارقه الأمير بيبرس البندقدارىّ وقدم إلى مصر ومعه جماعة من البحريّة طائعا للملك المنصور هذا فأكرمه قطز

(7/54)


وأكرم رفقته وصاروا الجميع من عساكر مصر على العادة أوّلا. يأتى تفصيل ذلك فى ترجمة الملك المظفّر قطز. إن شاء الله تعالى.
ولمّا استفحل أمر قطز بديار مصر وصار هو المشار إليه فيها لصغر السلطان الملك المنصور علىّ، ولكثرة حواشى قطز المذكور، ثم تحقّق قطز مجىء التّتار إلى البلاد الشاميّة، وعلم أنّه لا بدّ من خروجه من الديار المصريّة بالعساكر للذّبّ عن المسلمين، فرأى أنّه لا يقع له ذلك، فإنّ الآراء مغلولة لصغر السلطان ولاختلاف الكلمة، فجمع قطز كمال الدّين بن العديم الحنفىّ وغيره من الأعيان والأمراء بالديار المصريّة، وعرّفهم أنّ الملك المنصور هذا صبّى لا يحسن التدبير فى مثل هذا الوقت الصّعب، ولا بدّ أن يقوم بأمر الملك رجل شهم يطيعه كلّ أحد، وينتصب للجهاد فى التّتار، فأجابه الجميع: ليس لها غيرك! وكان قطز قبل ذلك قد قبض على الملك المنصور علىّ هذا وعوّقه بالدور السلطانيّة، فخلع الملك المنصور فى الحال من الملك وبويع الأمير قطز ولقّب بالملك المظفّر سيف الدين قطز، واعتقل الملك المنصور ووالدته بالدور السلطانيّة من قلعة الجبل، وحلّف قطز الناس لنفسه وتمّ أمره، وذلك فى يوم السبت سابع عشر ذى القعدة سنة سبع وخمسين وستمائة. وكانت مدّة الملك المنصور فى السلطنة بالديار المصريّة سنتين وسبعة «1» أشهر واثنين وعشرين يوما، وبقى معتقلا سنين «2» كثيرة إلى أن تولّى الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقدارىّ، فنفاه هو ووالدته وأخاه ناصر الدين قاقان «3» إلى بلاد الأشكرى «4» فى ذى القعدة سنة ثمان وخمسين وستمائة.

(7/55)


قلت: والملك المظفر قطز هذا هو أوّل مملوك خلع ابن أستاذه من الملك وتسلطن عوضه، ولم يقع ذلك قبله من أحد من الملوك. وتمّت هذه السّنّة السيّئة فى حاصد إلى يوم القيامة. وبهذه الواقعة فسدت أحوال مصر.
السنة الأولى من ولاية الملك المنصور علىّ ابن الملك المعزّ أيبك التّركمانىّ على مصر، وهى سنة خمس وخمسين وستمائة، على أنّ والده الملك المعزّ حكم فيها نحوا من ثلاثة أشهر.
فيها أرسل الملك الناصر يوسف صاحب الشام ولده الملك العزيز بهديّة إلى هولاكو ملك التّتار وطاغيتهم.
وفيها قتلت الملكة شجرة الدرّ الملك المعزّ أيبك، ثم قتلت هى أيضا. وقد تقدّم ذكر ذلك كلّ واحد على حدته فى ترجمته من هذا الكتاب، فلا حاجة إلى الإعادة.
وفيها توفّى الأمير «1» عزّ الدين أيبك بن عبد الله الحلبىّ الكبير، كان من أعيان المماليك الصالحيّة النجميّة، وممّن يضاهى الملك المعزّ أيبك التّركمانىّ فى موكبه، وكانت له المكانة العظمى فى الدولة، كان الأمراء يعترفون له بالتقدّم عليهم، وكان له عدّة مماليك نجباء صاروا من بعده أمراء، منهم: ركن «2» الدين إياجى الحاجب، وبدر الدين بيليك الجاشنكير، وصارم «3» الدين أزبك الحلبىّ وغيرهم. ولما قتل الملك

(7/56)


المعزّ أيبك التركمانىّ حدّثته نفسه بالسلطنة، فلمّا قبض قطز على الأمير سنجر الحلبى، ركب أيبك هذا ومعه الأمراء الصالحيّة فتقنطر به فرسه فهلك خارج القاهرة وأدخل إليها ميتا؛ وكذلك وقع للامير خاصّ ترك. وقد تقدّم ذكر ذلك فى ترجمة الملك المنصور.
وفيها توفّى الشيخ الإمام العلّامة نجم الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن الحسن ابن عبد الله البغدادىّ البادرائىّ، ولد فى سنة أربع وتسعين وخمسمائة، وسمع الكثير وتفقّه وبرع وأفتى ودرّس، وترسّل عن الخليفة إلى ملوك الشام ومصر غير مرّة إلى هذه السنة، ولى قضاء القضاة ببغداد. ومات فى سلخ ذى القعدة.
وفيها توفّى الشيخ الأديب أبو الحسن علىّ بن محمد بن الرضا الموسوىّ الحسينىّ الشريف المعروف بابن دفتر خوان. ولد سنة تسع وثمانين بحماة، وكان فاضلا وله تصانيف وشعر جيّد، من ذلك قوله:
إذا لمت قلبى قال عيناك أبصرت ... وإن لمت عينى قالت الذنب للقلب
فعينى وقلبى قد تشاركن فى دمى ... فيا ربّ كن عونى على العين والقلب
وفيها توفّيت الصاحبيّة غازيّة خاتون بنت الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر ابن أيّوب، والدة الملك المنصور «1» صاحب حماة. كانت صالحة ديّنة دبّرت ملك ولدها المنصور بعد وفاة زوجها الملك المظفّر أحسن تدبير، وهى والدة الملك الأفضل نور الدين أبى الحسن علىّ أيضا. وكانت وفاتها فى أواخر ذى القعدة أو فى ذى الحجّة من السنة.

(7/57)


وفيها توفّى الشيخ الإمام العالم العلّامة المقرئ أبو عبد الله محمد بن أبى القاسم [قاسم «1» ] بن فيّره «2» بن خلف الرّعينىّ «3» الشاطبىّ الأصل المصرىّ المولد والدار الضّرير راوى «4» القصيدة المشهورة فى القراءات التى لم يسبق إلى مثلها التى سمّاها «حرز الأمانى ووجه التهانى» . ومولده فى حادى عشر ذى الحجّة سنة ست أو سبع وسبعين وخمسمائة بمصر، وتوفّى بها فى حادى عشر شوّال ودفن من يومه بسفح المقطّم، ولم يخلف بعده مثله. وكان الشيخ كثيرا ما ينشد هذا اللّغز وهو «نعش الموتى» واللّغز المذكور للخطيب أبى زكريّا يحيى بن سلامة الحصكفىّ، وهو:
أتعرف شيئا فى السماء نظيره ... إذا سار صاح الناس حين يسير
فتلقاه مركوبا وتلقاه راكبا ... وكلّ أمير يعتليه أسير
يحضّ على التّقوى وتكره قربه ... وتنفر منه النفس وهو نذير
وفيها توفّى الوزير الصاحب شرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزىّ، كان أوّلا نصرانيّا يلقّب بالأسعد، وهو منسوب بالفائزىّ إلى الملك الفائز إبراهيم ابن الملك العادل أبى بكر بن أيّوب، ثم أسلم وتنقّل فى الخدم حتّى ولى الوزارة. وكان عنده رياسة ومكارم وعقل وحسن تدبير، وخدم عدّة ملوك وكان محفوظا عندهم، وهو الذي هجاه الصاحب جمال الدين يحيى بن مطروح، وقيل بهاء الدين زهير بقوله:
لعن الله صاعدا ... وأباه فصاعدا
وبنيه فنازلا ... واحدا ثم واحدا

(7/58)


وفيها توفّى أبو الحسن المغربىّ المورقىّ «1» الشيخ نور الدين، كان من أقارب المورقى الملك المشهور ببلاد الغرب، مات بدمشق ودفن بقاسيون، وكان فاضلا أديبا شاعرا. ومن شعره من أبيات:
القضب راقصة والطير صادحة ... والستر مرتفع والماء منحدر
وقد تجلّت من اللذات أوجهها ... لكنّها بظلال الدّوح تستتر
فكلّ واد به موسى يفجّره ... وكلّ روض على حافاته الخضر
قلت: وهذا يشبه قول من قال فى مليح حليق:
مرّت الموسى على عارضه ... فكأنّ الماء بالآس غمر
مجمع البحرين أضحى خدّه ... إذ تلاقى فيه موسى والخضر
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى المحدّث أبو محمد عبد الرحمن بن أبى الفهم اليلدانىّ «2» فى شهر ربيع الأوّل، وله سبع وثمانون سنة.
والإمام شرف الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن أبى الفضل السّلمىّ المرسىّ فى نصف شهر ربيع الأوّل، وله ست وثمانون سنة. والإمام نجم الدين أبو محمد عبد الله بن أبى الوفاء البادرانىّ الشافعىّ فى ذى القعدة ببغداد.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وخمس وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 656]
السنة الثانية من ولاية الملك المنصور علىّ ابن الملك المعزّ أيبك على مصر، وهى سنة ست وخمسين وستمائة.

(7/59)


فيها استولى الطاغية هولاكو على بغداد، وقتل الخليفة المستعصم بالله ومعظم أهل بغداد؛ وقد تقدّم ذلك.
وفيها كان الوباء العظيم بدمشق وغيرها.
وفيها توفّى الأديب البارع شرف الدين أبو الطيب أحمد بن محمد بن أبى الوفا الربعىّ الموصلىّ المعروف بابن الحلاوى الشاعر المشهور، كان من أحسن الناس صورة وألطفهم أخلاقا مع الفضيلة التامة، ورحل البلاد ومدح الخلفاء والملوك وخدم الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤا صاحب الموصل ولبس زىّ الجند. وشعره فى نهاية الرّقّة والجزالة «1» ، وهو صاحب القصيدة التى أوّلها:
حكاه من الغصن الرّطيب وريقه ... وما الخمر إلّا وجنتاه وريقه
هلال ولكن أفق قلبى محلّه ... غزال ولكن سفح عينى عقيقه
وأسمر يحكى الأسمر اللّدن قدّه ... غدا راشقا قلب المحبّ رشيقه
على خدّه جمر من الحسن مضرم ... يشبّ ولكن فى فؤادى حريقه
أقرّ له من كلّ حسن جليله ... ووافقه من كلّ معنى دقيقه
بديع التّثنّى راح قلبى أسيره ... على أنّ دمعى فى العرام طليقه
على سالفيه للعذار جريرة ... وفى شفتيه للسّلاف عتيقه
يهدّد منه الطّرف من ليس خصمه ... ويسكر منه الرّيق من لا يذوقه
على مثله يستحسن الصّبّ هتكه ... وفى حبّه يجفو الصديق صديقه
من التّرك لا يصبيه وجد إلى الحمى ... ولا ذكر بانات الغوير تشوقه
ولا حلّ فى حىّ تلوح قبابه ... ولا سار فى ركب يساق وسوقه

(7/60)


ولا بات صبّا بالفريق «1» وأهله ... ولكن إلى خاقان يعزى فريقه
له مبسم ينسى المدام بريقه ... ويخجل نوّار الأقاحى بريقه
تداويت من حرّ الغرام ببرده ... فأضرم من ذاك الحريق رحيقه
إذا خفق البرق اليمانىّ موهنا ... تذكّرته فاعتاد قلبى خفوقه
حكى وجهه بدر السماء فلو بدا ... مع البدر قال الناس هذا شقيقه
رآنى خيالا حين وافى خياله ... فأطرق من فرط الحياء طروقه
فأشبهت منه الخصر سقما فقد غدا ... يحمّلنى كالخصر ما لا أطيقه
فما بال قلبى كلّ حبّ يهيجه ... وحتّام طرفى كلّ حسن يروقه
فهذا ليوم البين لم تطف ناره ... وهذا لبعد الدار ما جفّ موقد
ولله قلبى ما أشدّ عفافه ... وإن كان طرفى مستمرّا فسوقه
فما فاز إلّا من يبيت صبوحه ... شراب ثناياه ومنها غبوقه
وفيها توفّى الأمير بكتوت بن عبد الله سيف الدين العزيزىّ أستادار الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب الشام، كان من أكابر الأمراء فى الدولة الناصريّة، وكان حسن السّيرة مليح الشكل متجمّلا، كان موكبه يضاهى مواكب الملوك.
وفيها توفّى الملك الناصر أبو المظفّر وقيل أبو المفاخر داود صاحب الكرك ابن الملك المعظّم عيسى صاحب الشام ابن الملك العادل أبى بكر صاحب مصر ابن الأمير نجم الدين أيّوب. مولده فى جمادى الآخرة سنة ثلاث وستمائة؛ ووقع له أمور وحوادث ومحن تكرّر ذكرها فى عدّة تراجم من هذا الكتاب. وكان تغلّب على الشام بعد موت عمّه الملك الكامل محمد، وقدم مصر بعد ذلك غير مرّة وتوجّه إلى الشّرق، ووقع له أمور يطول شرحها إلى أن مات فى جمادى الأولى. وكان ملكا شجاعا

(7/61)


مقداما فاضلا أديبا شاعرا، وقد تقدّم من شعره عدّة أبيات يستعطف بها الملك الصالح نجم الدين أيّوب فى ترجمة الملك الصالح المذكور. ومن شعره أيضا:
لئن عاينت عيناى أعلام جلّق ... وبان من القصر المشيد قبابه
تيقّنت أنّ البين قد بان والنّوى ... نأى شحطها والعيش عاد شبابه «1»
وفيها توفّى العلّامة المفتن أبو الفضل وقيل أبو العلاء بهاء الدين زهير بن محمد ابن على بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن المنصور بن عاصم الأزدى المكّىّ القوصىّ المنشأ المصرىّ الدار، الكاتب الشاعر المشهور المعروف بالبهاء زهير صاحب الديوان المشهور. مولده بوادى نخلة بقرب مكّة فى خامس ذى الحجّة سنة إحدى وثمانين وخمسمائة؛ وربّى بصعيد مصر بقوص «2» ، وقرأ الأدب وسمع الحديث وبرع فى النّظم والنّثر والترسّل، وله الشعر الرائق الفائق، وكان رئيسا فاضلا حسن الأخلاق، اتّصل بخدمه الملك الصالح نجم الدين أيّوب فى حياة أبيه الملك الكامل، ودام فى خدمته إلى أن توفّى. وقد تقدّم من ذكره فى ترجمة الملك الصالح نبذة جيّدة. وكانت وفاة البهاء زهير هذا فى يوم الأحد قبل المغرب رابع ذى القعدة وقيل خامسه. ومن شعره- رحمه الله-:
ولمّا جفانى «3» من أحبّ وخاننى ... حفظت له الودّ الذي كان ضيّعا
ولو شئت قابلت الصدود بمثله ... ولكنى أبقيت للصلح موضعا
وقد كان ما قد كان بينى وبينه ... أكيدا ولكنّى رعيت وما رعى
سعى بيننا الواشى ففرّق بيننا ... لك الذنب يا من خاننى لا لمن سعى

(7/62)


ومن شعره أيضا قصيدته التى أوّلها:
رويدك قد أفنيت يا بين أدمعى ... وحسبك قد أحرقت يا شوق أضلعى
إلى كم أقاسى لوعة بعد لوعة ... وحتّى متى يا بين أنت معى معى
وقالوا علمنا ما جرى منك بعدنا ... فلا تظلمونى ما جرى غير أدمعى
وفيها توفّى الإمام الحافظ الحجّة أبو محمد زكىّ الدين عبد العظيم بن عبد القوىّ ابن عبد الله بن سلامة «1» بن سعد بن سعيد المنذرىّ الدّمشقىّ الأصل المصرىّ المولد والدار والوفاة. ولد سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، وسمع الكثير ورحل وكتب وصنّف وخرّج وأملى وحدّث بالكثير، وتخرّج به جماعة، وهو أحد الحفّاظ المشهورين.
وفيها توفّى الخليفة أمير المؤمنين المستعصم بالله أبو أحمد عبد الله ابن الخليفة المستنصر بالله منصور ابن الخليفة الظاهر بأمر الله محمد ابن الخليفة الناصر لدين الله أبى العباس أحمد ابن الخليفة المستضىء بالله أبى محمد الحسن ابن الخليفة المستنجد بالله أبى المظفّر يوسف ابن الخليفة المقتفى بالله أبى عبد الله محمد ابن الخليفة المستظهر بالله أبى العبّاس أحمد ابن الخليفة المقتدى بالله أبى القاسم عبد الله ابن الأمير محمد الذّخيرة، وهو غير خليفة، ابن الخليفة القائم بأمر الله عبد الله ابن الخليفة القادر بالله أبى العباس أحمد ابن الأمير إسحاق، وإسحاق غير خليفة، ابن الخليفة المقتدر بالله أبى الفضل جعفر ابن الخليفة المعتضد بالله أبى العباس أحمد ابن الأمير طلحة الموفّق، وطلحة غير خليفة أيضا، ابن الخليفة المتوكّل على الله أبى الفضل جعفر ابن الخليفة المعتصم بالله محمد ابن الخليفة الرشيد بالله هارون ابن الخليفة

(7/63)


المهدىّ بالله محمد ابن الخليفة أبى جعفر عبد الله المنصور بن محمد بن علىّ بن عبد الله ابن العبّاس بن عبد المطلب الهاشمىّ البغدادىّ، آخر خلفاء بنى العباس ببغداد، وبموته انقرضت الخلافة من بغداد. ولى الخلافة بعد وفاة والده المستنصر بالله فى العشرين من جمادى الأولى سنة أربعين وستمائة، ومات قتيلا بيد هولاكو طاغية التّتار فى هذه السنة. وقد تقدّم كيفية قتله فى ترجمة الملك المنصور علىّ هذا، وكانت مدّة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأيّاما. وتقدير عمره سبع وأربعون سنة. وكان قليل المعرفة بتدبير الملك نازل الهمة مهملا للأمور المهمّة محبّا لجمع الأموال يقدم على فعل ما يستقبح، أهمل أمر هولاكو حتّى كان فى ذلك هلاكه.
وشغرت الخلافة بعده سنين، وبقيت الدّنيا بلا خليفة حتّى أقام الملك الظاهر بيبرس البندقدارىّ بعض بنى العبّاس فى الخلافة. على ما يأتى ذكر ذلك فى ترجمة الظاهر بيبرس البندقدارىّ إن شاء الله تعالى.
وفيها توفّى الأمير الأديب الشاعر سيف الدين أبو الحسن علىّ بن عمر بن قزل المعروف بالمشدّ الشاعر المشهور. مولده بمصر فى شوّال سنة اثنتين وستمائة، وتولّى شدّ «1» الدواوين بمصر «2» مدّة سنين، وكان من أكابر الأمراء الفضلاء وهو قريب «3» الأمير جمال الدين بن يغمور، وله ديوان شعر مشهور بأيدى الناس، وتوفّى بدمشق فى يوم عاشوراء. ورثاه «4» بعض الفضلاء، فقال:

(7/64)


عاشور يوم قد تعاظم ذنبه ... إذ حلّ فيه كلّ خطب مشكل
لم يكفه قتل الحسين وما جرى ... حتّى تعدّى بالمصاب على على
ومن شعره- رحمه الله- بيت مفرد كلّ كلمة منه قلب نفسها وهو:
ليل أضاء هلاله ... أنّى يضيء بكوكب
ومن شعره أيضا، قوله:
وشادن أو ردنى جبّه ... لهيب حرّ الشوق والفرقه
أصبحت حرّانا إلى ريقه ... فليت لى من قلبه الرّقّه
وله أيضا مضمّنا مقتبسا:
وافى إلىّ وكأس الراج فى يده ... فخلت من لطفه أنّ النسيم سرى
لا تدرك الراح معنى من شمائله ... والشمس لا ينبغى أن تدرك القمرا
وله فى خود عمياء:
علقتها نجلاء مثل المها ... فخان فيها الزمن الغادر
أذهب عينيها فإنسانها ... فى ظلمة لا يهتدى حائر
تجرح قلبى وهى مكفوفة ... وهكذا قد يفعل الباتر
ونرجس اللحظ غدا ذابلا ... وا حسرتا لو أنّه ناظر
وله فى لاعب شطرنج:
لعبت بالشّطرنج مع شادن ... رشاقة الأغصان من قدّه
أحلّ عقد البند من خصره ... وألثم الشامات من خدّه «1»

(7/65)


وفيها توفّى الشيخ الإمام الأديب الرّبانىّ جمال الدين أبو زكريّا يحيى بن يوسف ابن يحيى بن منصور بن المعمّر بن عبد السلام الصّرصرىّ «1» الضّرير الشاعر المشهور.
كان من العلماء الفضلاء الزّهّاد العبّاد، وكان له اليد الطّولى فى النظم، وشعره فى غاية الجودة، ومدح النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقصائد لا تدخل تحت الحصر كثرة؛ قيل: إنّ مدائحه فى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم تقارب عشرين مجلّدا. ومن شعره من المدائح النبويّة قوله:
زار وهنّا ونحن بالزّوراء ... فى مقام خلا من الرّقباء
من حبيب القلوب طيف خيال ... فجلا نوره دجى الظّلماء
يا لها زورة على غير وعد ... بتّ منها فى ليلة سرّاء
نعمت عيشتى وطابت حياتى ... فى دجاها يا طلعة الغرّاء
ومنها:
يا هلال السرور يا قمر الأذ ... س ونجم الهدى وشمس البهاء
يا ربيع القلوب يا قرّة العي ... ن وباب الإحسان والنّعماء
ومنها:
سيّد حبّه فخار وتشري ... ف وعزّ باق لأهل الصّفاء
أحمد المصطفى السّراج المنير ال ... خير خاتم الأنبياء «2»
ومن شعره فى عدد الخلفاء بنى العبّاس إلى المستعصم آخر خلفاء بنى العبّاس ببغداد، قال

(7/66)


لكرب بنى العبّاس سفّاحهم جلا ... وجرّ لمنصور ومهدىّ الولا
وهاد وهارون الرشيد تلاهما ... أمين ومأمون ومعتصم الملا
وواثقهم من بعده متوكّل ... ومنتصر والمستعين بنو العلا
وطاب بمعتزّ جنى مهتد كما ... بمعتضد عيش لمعتمد حلا
قلت: لعله ما قال إلا:
... ... ... ... كما ... بمعتضد عيش لمعتضد حلا
لأن المعتمد عمّ المعتضد وتولى المعتضد الخلافة بعده. انتهى.
ومكتفيا فاعدد ومقتدرا وقد ... تلا قاهرا راض لمتّقى تلا
ومستكفيا ثم المطيع وطائعا ... وقادرهم والقائم أعدد محصّلا
وبالمقتدى مستظهر ساد مثلما ... بمسترشد والراشد المقتفى علا
بمستنجد والمستضىء وناصر ... وظاهر والمستنصر اجل مقفّلا
ومستعصم لا زال بالنصر قاهرا ... لأعدائه ما حنّت العيس فى الفلا
قال الذهبىّ: «حكى لنا شيخنا ابن الدّباهىّ «1» - وكان خال أمّه (يعنى الصّرصرىّ) - قال: بلغنا أنّه دخل عليه التّتار وكان ضريرا، فطعن بعكّازه بطن واحد فقتله، ثم قتل شهيدا بيد التّتار» . انتهى.
قلت: كلّ ذلك فى واقعة هولاكو المقدّم ذكرها.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الأمير سيف الدين المشدّ الشاعر صاحب الديوان، واسمه علىّ بن عمر بن قزل فى المحرّم، والشيخ يحيى ابن يوسف بن يحيى الصّرصرىّ الزاهد صاحب «الديوان» ، استشهد ببغداد

(7/67)


فى صفر فى أمم لا يحصون: منهم المستعصم بالله أبو أحمد عبد الله بن المستنصر، وله سبع وأربعون سنة، وكانت خلافته ستّ عشرة سنة. ومنهم أستاداره محيى الدين يوسف بن الشيخ أبى الفرج بن الجوزىّ. ومدرّس المستنصريّة الإمام أبو المناقب محمود بن أحمد بن محمود الزّنجانىّ «1» الشافعىّ، وله ثلاث وثمانون سنة. والمحدّث شمس الدين علىّ بن المظفّر بن القاسم النّشبىّ «2» فى شهر ربيع الأوّل. وأبو عمرو عثمان ابن علىّ القرشىّ بن خطيب القرافة فى شهر ربيع الآخر، وله أربع وثمانون سنة.
وأبو العزّ عبد العزيز بن محمد بن أحمد بن محمد بن صديق المؤدّب الحرّانىّ بدمشق.
والملك الناصر أبو المظفّر داود بن الملك المعظّم بن العادل فى جمادى الأولى، وله ثلاث وخمسون سنة. والمحدّث نجيب الدين نصر الله [ «3» بن المظفّر بن عقيل بن حمزة أبو الفتح] بن أبى العزّ الشّيبانىّ بن شقيشقة فى جمادى الآخرة، وقد جاوز السبعين.
وأبو الفضل عبد العزيز بن عبد الوهاب بن بنان «4» الكفر طابىّ فى شوّال، وله تسع وسبعون سنة. والأديب شرف الدين الحسين «5» بن إبراهيم الإربلىّ اللغوىّ فى ذى القعدة، وله ثمان وثمانون سنة. والحافظ زكىّ الدين عبد العظيم ابن عبد القوىّ المنذرىّ فى ذى القعدة، وله ستّ وسبعون سنة. والبهاء زهير بن محمد ابن علىّ المهلّبى الكاتب الشاعر. والعارف أبو الحسن علىّ بن عبد الله بن عبد الجبّار «6»

(7/68)


الشّاذلىّ الضّرير [بصحراء «1» ] عيذاب «2» فى ذى القعدة. وأبو العبّاس القرطبى أحمد بن عمر بن إبراهيم العدل بالإسكندريّة، وله ثمان وسبعون سنة. وخطيب مردا «3» أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن أحمد الحنبلىّ فى ذى الحجّة. والحافظ صدر الدين أبو على الحسن بن محمد بن محمد بن محمد البكرىّ بالقاهرة فى ذى الحجّة، وله اثنتان وثمانون سنة. والشيخ أبو عبد الله الفاسىّ محمد بن حسن شيخ الإقراء بحلب فى شهر ربيع الآخر.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وتسع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وخمس أصابع.
[ما وقع من الحوادث سنة 657]
السنة الثالثة من ولاية الملك المنصور علىّ ابن الملك المعزّ أيبك على مصر، وهى سنة سبع وخمسين وستمائة.

(7/69)


فيها خلع الملك المنصور علىّ المذكور بمملوك ابيه الملك المظفّر قطز المعزّىّ.
وقد تقدّم ذلك.
وفيها دخل هولاكو ديار بكر قاصدا حلب. يأتى ذكر ذلك كلّه فى ترجمة الملك المظفّر قطز إن شاء الله تعالى.
وفيها توفى الملك «1» الرحيم أبو الفضائل بدر الدين لؤلؤ بن عبد الله الأتابكىّ صاحب الموصل، كان من أجلّ الملوك. وطالت أيّامه بالموصل لأنّه أقام بتدبير أستاذه نور الدين أرسلان شاه بن عزّ الدين مسعود بن مودود بن زنكى بن آق سنقر التّركيّ، فلمّا توفّى نور الدين قام بتدبير ولده الملك القاهر عزّ الدين مسعود، فلما توفّى الملك القاهر سنة أربع عشرة وستمائة أقام صبّيين من ولده هما ابنا بنت مظفّر «2» الدين صاحب إربل [ثم إنّه أخنى على أولاد أستاذه فقتلهم غيلة «3» ] واحدا بعد واحد، ثم بعد ذلك استبدّ بمملكة الموصل وأعمالها سبعا وأربعين سنة. وكان كثير التجمّل بالرّسل والوافدين عليه، وكان له همّة عالية ومعرفة تامّة، وكان شديد البحث عن أخبار رعاياه ما يخفى عنه من أحوالهم إلّا ما قلّ، وكان يغرم على القصّاد والجواسيس فى كلّ سنة مالا عظيما، وكان إذا عدم من بلاده ما قيمته مائة درهم هان عليه أن يبذل عشرة آلاف دينار ليبلغ غرضه فى عوده، ولا يذهب مال رعيّته.
قلت: لله درّ هذا الملك! ما أحوج الناس إلى ملك مثل هذا يملك الدنيا بأسرها.
وكانت وفاته بالموصل وهو فى عشر التسعين سنة.

(7/70)


وفيها توفّى الأديب الفاضل أبو عبد الله بهاء الدين محمد بن مكّى بن محمد بن الحسن القرشىّ الدمشقىّ العدل المعروف بابن الدّجاجيّة، كان فاضلا شاعرا مطبوعا. ومن شعره قوله:
كم تكتم الوجد يا معنّى ... منّا وما يختفى اللهيب
سل عرب الواديين عمّن ... بانوا فما بيننا غريب
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال وفيها توفّى أبو الحسين أحمد بن محمد بن أحمد الأنصارىّ الإشبيلىّ بن السّرّاج مسند الغرب ببجاية «1» فى صفر، وله سبع وتسعون سنة، وكانت الرّحلة إليه من الأقطار. وصدر الدين أسعد بن عثمان [بن أسعد «2» ] بن المنجّى، ودفن بمدرسته الصّدريّة «3» فى شهر رمضان، والمقرئ شمس الدين أبو الفتح محمد [بن علىّ «4» ] بن موسى الأنصارىّ بدمشق فى المحرّم.
والملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل فى شعبان.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وست وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وإصبع واحدة.

(7/71)


ذكر سلطنة الملك المظفّر قطز على مصر
السلطان الملك المظفّر سيف الدين قطز بن عبد الله المعزّى الثالث من ملوك الترك بالديار المصريّة. وقطز (بضم القاف والطاء المهملة وسكون الزاى) ، وهو لفظ مغلىّ. تسلطن بعد خلع ابن أستاذه الملك المنصور علىّ ابن الملك المعزّ أيبك فى يوم السبت سابع عشر ذى القعدة سنة سبع وخمسين وستمائة، وذلك بعد أن عظمت الأراجيف بتحريك التّتار نحو البلاد الشاميّة وقطعهم الفرات وهجمهم بالغارات على البلاد الحلبيّة، وكان وصل إليه بسبب ذلك الصاحب كمال الدّين «1» عمر بن العديم رسولا من الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب والشام يطلب منه النّجدة على قتال التّتار، فأنزله قطز بالكبش «2» وجمع القضاة والفقهاء والأعيان لمشاورتهم فيما يعتمد عليه فى أمر التّتار وأن يؤخذ من الناس ما يستعان به على جهادهم، فحضروا فى دار السّلطنة بقلعة الجبل، وحضر الشيخ عزّ الدين ابن عبد السلام والقاضى بدر الدين السّنجارىّ قاضى الديار المصرية وغيرهما من العلماء، وجلس الملك المنصور علىّ فى دست السلطنة، وأفاضوا فى الحديث، فكان الاعتماد على ما يقوله ابن عبد السّلام، وخلاصة ما قال: إنّه إذا طرق العدوّ بلاد الإسلام وجب على العالم قتالهم، وجاز لكم أن تاخذوا من الرعيّة ما تستعينون به

(7/72)


على جهادكم، بشرط ألّا يبقى فى بيت المال شىء، وتبيعوا مالكم من الحوائص «1» المذهبة والآلات النفيسة، ويقتصر كلّ الجند على مركوبه وسلاحه ويتساووا هم والعامّة. وأمّا أخذ الأموال من العامّة مع بقايا فى أيدى الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا، وانفضّ المجلس على ذلك، ولم يتكلّم السلطان بكلمة فى المجلس لعدم معرفته بالأمور ولصغر سنّه؛ فلهج الناس بخلع المنصور وسلطنة قطز حتّى يقوم بهذا الأمر المهمّ، واتّفق ذلك بعد أيّام، وقبض قطز هذا على الملك المنصور علىّ، واحتجّ لكمال الدّين بن العديم وغيره بأنّه صبىّ لا يحسن تدبير الملك، وفى مثل هذا الوقت الصّعب لا بدّ أن يقوم بأمر الملك رجل شهم يطيعه الناس وينتصب للجهاد. وكان الأميران: علم الدين سنجر [الغتمىّ المعظّمىّ «2» ] وسيف الدين بهادر حين جرى هذا الأمر غائبين فى الصيد، فاغتنم قطز لغيبتهما الفرصة، فلمّا حضرا قبض عليهما واعتقلهما، وتسلطن. وركب بشعار الملك، وجلس على كرسىّ السلطنة وتمّ أمره. ولمّا وقع ذلك تقدّم قطز إلى برهان الدين الخضر «3» أن يتوجّه فى جواب رسالة الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب الشام صحبة الصاحب كمال الدين ابن العديم، ويعد الملك الناصر بالنّجدة وإنفاذ العساكر إليه؛ فتوجّها ووصلا إلى دمشق وأدّيا الرسالة؛ ولم يزل البرهان بدمشق إلى أن رحل الملك الناصر من دمشق إلى جهة الديار المصريّة جافلا من التّتار.

(7/73)


وكان الناصر لمّا تحقّق بحركة التّتار رحل إلى برزة شمالى دمشق، ونزل بها بعساكره واجتمع إليه أمم عظيمة من العرب والعجم والتّركمان والأتراك والمطوّعة؛ فلم يعجب الناصر حاله لما رأى من تخاذل عسكره، وعلم انّه إذا لاقى التّتار لم يثبت عسكره لهم لكثرتهم ولقوّتهم، فإنّ هولاكو فى خلق لا يحصيهم إلّا الله تعالى من المغل والكرج والعجم وغيرهم، ولم يكن من حين قدومهم على بلاد المسلمين من سنة ستّ عشرة وستمائة إلى هذه السنة يلقاهم عسكر إلّا فلّوه سوى وقائع كانت بينهم وبين جلال الدين «1» بن خوارزم شاه، انتصف جلال الدين فى بعضها، ثمّ كبسوه على باب آمد وبدّدوا جمعه، وأعقب ذلك موت جلال الدين بالقرب من ميّافارقين.
وأمّا أمر هلاكو فإنّه فى جمادى الأولى من هذه السنّة نزل حرّان واستولى عليها وملك بلاد الجزيرة، ثمّ سيّر ولده أشموط «2» بن هولاكو إلى الشام وأمره بقطع الفرات وأخذ البلاد الشاميّة، وسيّره فى جمع كثيف من التّتار فوصل أشموط إلى نهر الجوز «3» وتلّ باشر «4» ، ووصل الخبر إلى حلب من البيرة «5» بذلك. وكان نائب السلطان صلاح الدين يوسف بحلب ابنه الملك المعظّم توران شاه، فجفل الناس بين يدى

(7/74)


التّتار إلى جهة دمشق وعظم الخطب، واجتمع الناس من كلّ فجّ عند الملك الناصر بدمشق، واحترز الملك المعظّم توران شاه ابن الملك الناصر بحلب غاية الاحتراز. وكذلك جميع نوّاب البلاد الحلبيّة؛ وصارت حلب فى غاية الحصانة بأسوارها المحكمة البناء وكثرة الآلات. فلمّا كان العشر الأخير من ذى الحجّة [سنة «1» سبع وخمسين وستمائة] قصد التّتار حلب ونزلوا على قرية يقال لها سلمية «2» وامتدوا إلى حيلان «3» والحارى «4» ، وسيّروا جماعة من عسكرهم أشرفوا على المدينة. فخرج عسكر حلب ومعهم خلق عظيم من العوام والسّوقة، وأشرفوا على التّتار وهم نازلون على هذه الأماكن، وقد ركبوا جميعهم لانتظار المسلمين، فلمّا تحقّق المسلمون كثرتهم كرّوا راجعين إلى المدينة؛ فرسم الملك المعظّم بعد ذلك ألّا يخرج أحد من المدينة.
ولمّا كان غد هذا اليوم رحلت التّتار من منازلهم طالبين مدينة حلب، واجتمع عسكر المسلمين بالنّواشير وميدان «5» الحصا وأخذوا فى المشورة فيما يعتمدونه، فأشار عليهم الملك المعظّم أنّهم لا يخرجون أصلا لكثرة التّتار ولقوّتهم وضعف المسلمين على لقائهم، فلم يوافقه جماعة من العسكر وأبوا إلّا الخروج إلى ظاهر البلد لئلّا يطمع العدوّ فيهم؛ فخرج العسكر إلى ظاهر حلب وخرج معهم العوامّ والسّوقة واجتمعوا الجميع بجبل بانقوسا «6» ؛ ووصل جمع التّتار إلى أسفل الجبل فنزل إليهم جماعة من العسكر ليقاتلوهم؛ فلما رآهم التّتار اندفعوا بين أيديهم مكرا منهم وخديعة،

(7/75)


فتبعهم عسكر حلب ساعة من النهار؛ ثم كرّ التّتار عليهم فولّوا منهزمين إلى جهة البلد والتّتار فى أثرهم. فلما حاذوا جبل بانقوسا وعليه بقيّة عسكر المسلمين والعوامّ اندفعوا كلّهم نحو البلد والتّتار فى أعقابهم، فقتلوا من المسلمين جمعا كثيرا من الجند والعوامّ.
وممّن استشهد فى ذلك اليوم الأمير علم الدين زريق العزيزىّ- رحمه الله- وكان من أعيان الأمراء. ونازل التّتار المدينة فى ذلك اليوم إلى آخره، ثم رحلوا طالبين أعزاز فتسلّموها بالأمان.
ثم عادوا إلى حلب فى ثانى صفر من سنة ثمان وخمسين وستمائة وحاصروها حتّى استولوا عليها فى تاسع صفر بالأمان، فلمّا ملكوها غدروا بأهل حلب وقتلوا ونهبوا وسبوا وفعلوا تلك الأفعال القبيحة على عادة فعلهم. وبلغ الملك الناصر يوسف أخذ حلب فى منتصف صفر، فخرج الناصر من الشام بأمرائه نحو القبلة. وكان رسل التّتار بقرية حرستا «1» فأدخلوا دمشق ليلة الاثنين سابع عشر صفر. وقرئ بعد صلاة الظهر فرمان (أعنى مرسوما) جاء من عند ملك التّتار يتضمّن الأمان لأهل دمشق وما حولها، وشرع الأكابر فى تدبير أمرهم. ثم وصلت التّتار إلى دمشق فى سابع عشر شهر ربيع الأوّل، فلقيهم أعيان البلد أحسن ملتقى وقرئ ما معهم من الفرمان المتضمّن الأمان، ووصلت عساكرهم من جهة الغوطة مارّين من وراء الضّياع إلى جهة الكسوة «2» وأهلكوا فى ممرّهم جماعة كانوا قد تجمّعوا وتحزّبوا «3» .
وفى السادس والعشرين منه جاء منشور من هولاكو للقاضى كمال الدين عمر بن بندار «4»

(7/76)


التّفايسىّ بتفويض قضاء القضاة إليه بمدائن الشام إلى الموصل وميّافارقين وغير ذلك، وكان القاضى قبله صدر «1» الدين أحمد بن سنىّ الدولة. وتوجّه الملك الناصر نحو الديار المصريّة ونزل العريش ثم قطيا «2» بعد أن تفرّق عسكره عنه وتوجّه معظم عسكره إلى مصر قبله مع الأثقال. فلمّا وصل الناصر إلى قطيا عاد منها إلى جهة الشام لشىء بلغه عن الملك المظفّر صاحب مصر، ونزل بوادى «3» موسى ثم نزل بركة زيزاء «4» ، فكبسه التّتار بها وهو فى خواصّه وقليل من مماليكه، فاستأمن الناصر من التّتار وتوجّه إليهم، فلمّا وصل إليهم احتفظوا به وبقى معهم فى ذلّ وهوان إلى أن قتل على ما يأتى ذكره فى محله إن شاء الله تعالى.
وأمّا التّتار فإنّه بلغت غارتهم إلى غزّة وبلد الخليل «5» - عليه السلام- فقتلوا الرجال وسبوا النساء والصّبيان واستاقوا من الأسرى والأبقار والأغنام والمواشى شيئا كثيرا. كلّ ذلك والسلطان الملك المظفّر قطز سلطان مصر يتهيّأ للقاء التّتار.

(7/77)


فلمّا اجتمعت العساكر الإسلاميّة بالديار المصريّة ألقى الله تعالى فى قلب الملك المظفّر قطز الخروج لقتالهم بعد أن كانت القلوب قد أيست من النّصرة على التّتار، وأجمعوا على حفظ مصر لا غير لكثرة عددهم واستيلائهم على معظم بلاد المسلمين، وأنّهم ما قصدوا إقليما إلّا فتحوه ولا عسكرا إلّا هزموه، ولم يبق خارج عن حكمهم فى الجانب الشرقىّ إلّا الديار المصريّة والحجاز واليمن، وهرب جماعة من المغاربة الذين كانوا بمصر إلى الغرب، وهرب جماعة من الناس إلى اليمن والحجاز، والباقون بقوا فى وجل عظيم وخوف شديد يتوقّعون دخول العدوّ وأخذ البلاد؛ وصمّم الملك المظفّر- رحمه الله- على لقاء التّتار، وخرج من مصر فى الجحافل»
الشاميّة والمصريّة فى شهر رمضان، وصحبته الملك المنصور صاحب حماة؛ وكان الأتابك فارس الدين أقطاى المستعرب، الأمور كلّها مفوّضة إليه؛ وسيّر الملك المظفّر قطز إلى صاحب حماة، وهو بالصالحيّة، يقول: له لا تحتفل فى مدّ سماط، بل كلّ واحد من أصحابك يفطر على قطعة لحم فى صولقه «2» . وسافر الملك المظفّر بالعساكر من الصالحيّة ووصل غزّة والقلوب وجلة.
وأما كتبغانوين «3» مقدّم التّتار على عسكر هولاكو لمّا بلغه خروج الملك المظفّر قطز كان بالبقاع؛ فاستدعى الملك الأشرف [موسى «4» ابن المنصور صاحب حمص] وقاضى القضاة محيى «5» الدين واستشارهم فى ذلك، فمنهم من أشار بعدم الملتقى

(7/78)


والاندفاع بين يدى الملك المظفّر إلى حيث يجيئه مدد من هولاكو ليقوى على ملتقى العسكر المصرىّ، ومنهم من أشار بغير ذلك وتفرّقت الآراء، فاقتضى رأى كتبغانوين الملتقى، وتوجّه من فوره لما أراد الله تعالى من إعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشّرك وحزبه، بعد أن جمع كتبغانوين من فى الشام من التّتار وغيرهم، وقصد محاربة المسلمين، وصحبته الملك السعيد [حسن «1» ] ابن الملك العزيز عثمان. ثم رحل الملك المظفّر قطز بعساكره من غزّة ونزل الغور بعين جالوت «2» ، وفيه جموع التّتار فى يوم الجمعة خامس عشرين شهر رمضان، ووقع المصافّ بينهم فى اليوم المذكور، وتقاتلا قتالا شديدا لم ير مثله حتّى قتل من الطائفتين جماعة كثيرة وانكسرت ميسرة المسلمين كسرة شنيعة، فحمل الملك المظفّر- رحمه الله- بنفسه فى طائفة من عساكره وأردف الميسرة حتّى تحايوا وتراجعوا، واقتحم الملك المظفّر القتال وباشر ذلك بنفسه وأبلى فى ذلك اليوم بلاء حسنا، وعظم الحرب وثبت كلّ من الفريقين مع كثرة التتار. والمظفّر مع ذلك يشجّع أصحابه ويحسّن إليهم الموت، وهو يكرّ بهم كرّة بعد كرّة حتّى نصر الله الإسلام وأعزّه، وانكسرت التّتار وولّوا الأدبار على أقبح وجه بعد أن قتل معظم أعيانهم وأصيب مقدّم العساكر التّتاريّة كتبغانوين، فإنّه أيضا لمّا عظم الخطب باشر القتال بنفسه فأخزاه الله تعالى وقتل شرّ قتلة. وكان الذي حمل عليه وقتله الأمير جمال الدين آقوش الشّمسىّ- رحمه الله تعالى- وولّوا التّتار الأدبار لا يلوون على شىء، واعتصم منهم طائفة بالتلّ المجاور لمكان الوقعة، فأحدقت بهم العساكر وصابروهم على القتال حتّى أفنوهم قتلا، ونجا من نجا. وتبعهم الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارىّ فى جماعة من الشّجعان إلى أطراف البلاد؛

(7/79)


واستوفى أهل البلاد والضّياع من التّتار آثارهم، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة حتّى إنّه لم يسلم منهم إلّا القليل جدّا.
وفى حال الفراغ من المصافّ حضر الملك السعيد [حسن] ابن الملك العزيز عثمان ابن الملك العادل بين يدى السلطان الملك المظفّر قطز؛ وكان التّتار لمّا ملكوا قلعة البيرة وجدوه فيها معتقلا فأطلقوه وأعطوه باياس وقلعة الصّبيبة «1» فانضمّ على التّتار وبقى منهم، وقاتل يوم المصافّ «2» المسلمين قتالا شديدا، فلما أيّد الله المسلمين بنصره وحضر الملوك عند الملك المظفّر فحضر الملك السعيد هذا من جملتهم على رغم أنفه، فلم يقبل المظفّر عذره، وأمر بضرب عنقه فضربت فى الحال. ثم كتب الملك المظفّر كتابا إلى أهل دمشق يخبرهم فيه بالفتح وكسر العدوّ المخذول ويعدهم بوصوله إليهم ونشر العدل فيهم، فسرّ عوامّ دمشق وأهلها بذلك سرورا زائدا، وقتلوا فخر الدين محمد بن يوسف بن محمد الكنجىّ «3» فى جامع دمشق، وكان المذكور من أهل العلم، لكنّه كان فيه شرّ، وكان رافضيّا خبيثا وانضم على التّتار. وقتلوا أيضا بدمشق من أعوان التّتار ابن الماسكينى «4» ، وابن النّفيل «5» وغيرهما. وكان النّصارى بدمشق قد شمخوا وتجرّءوا على المسلمين واستطالوا بتردّد التّتار إلى كنائسهم.
وذهب بعضهم إلى هولاكو وجاءوا من عنده بفرمان يتضمّن الوصيّة بهم والاعتناء بأمرهم، ودخلوا بالفرمان من باب توما «6» وصلبانهم مرتفعة، وهم ينادون بارتفاع دينهم واتّضاع دين المسلمين، ويرشّون الخمر على الناس وفى أبواب المساجد، فحصل

(7/80)


عند «1» المسلمين من ذلك همّ عظيم. فلمّا هرب نوّاب التّتار حين بلغتهم الكسرة أصبح الناس وتوجّهوا إلى دور النّصارى ينهبونها ويأخذون ما استطاعوا منها، وأخربوا كنيسة اليعاقبة «2» وأحرقوا كنيسة مريم «3» حتّى بقيت كوما، وقتلوا منهم جماعة واختفى الباقون. وكانت النصارى فى تلك الأيام ألزموا المسلمين بالقيام فى دكاكينهم للصّليب، ومن لم يقم أخرقوا «4» به وأهانوه، وشقّوا السّوق على هذا الوجه إلى عند القنطرة آخر سويقة كنيسة مريم؛ فقام بعضهم على الدّكّان الوسطى من الصف الغربىّ بين القناطر وخطب وفضّل دين النّصارى ووضع من دين الإسلام، وكان ذلك فى ثانى عشرين شهر رمضان. ثم من الغد طلع المسلمون مع قضاتهم وشهودهم إلى قلعة دمشق وبها التّتار فأهانوهم التتار، ورفعوا قسّيس النّصارى عليهم، ثم أخرجوهم بالضرب؛ فصار ذلك كلّه فى قلوب المسلمين. انتهى.
ثمّ إنّ أهل دمشق هموا أيضا بنهب اليهود فنهبوا منهم يسيرا، ثم كفّوا عنهم.
ثمّ وصل الملك المظفّر قطز إلى دمشق مؤيّدا منصورا فانجبرت بذلك قلوب الرّعايا وتضاعف شكرهم لله تعالى. والتقاه أهل دمشق بعد أن عفّوا آثار النصارى وخرّبوا كنائسهم جزاء لما كانوا سلفوه من ضرب النواقيس على رءوس المسلمين، ودخولهم بالخمر إلى الجامع. وفى هذا المعنى يقول بعض شعراء دمشق:

(7/81)


هلك الكفر فى الشآم جميعا ... واستجدّ الإسلام بعد دحوضه
بالمليك المظفّر الملك الأر ... وع سيف الإسلام عند نهوضه
ملك [جاءنا «1» ] بعزم وحزم ... فآعتززنا بسمره وبيضه
أوجب الله شكر ذاك علينا ... دائما مثل واجبات فروضه
وفى نصرة الملك المظفّر هذا يقول الشيخ شهاب الدين أبو شامة:
غلب التّتار على البلاد فجاءهم ... من مصر تركى يجود بنفسه
بالشام أهلكهم وبدّد شملهم ... ولكلّ شىء آفة من جنسه
ثم قدم الخبر على السلطان بدمشق فى شوّال بأنّ المنهزمين من رجال التّتار ونسائهم لحقهم الطّلب من الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارىّ، فإنّ بيبرس كان تقدّم قبل السلطان إلى دمشق يتتبّع آثار التّتار إلى قرب حلب، فلمّا قرب منهم بيبرس سيّبوا ما كان فى أيديهم من أسارى المسلمين، ورموا أولادهم فتخطّفهم النّاس، وقاسوا من البلاء ما يستحقّونه.
وكان الملك المظّفر قطز قد وعد الأمير بيبرس بحلب وأعمالها، فلمّا انتصر على التّتار انثنى عزمه عن إعطائه حلب، وولّاها لعلاء الدّين [علىّ ابن «2» بدر الدين لؤلؤ] صاحب الموصل، فكان ذلك سبب الوحشة بين بيبرس وبين الملك المظفّر قطز.
على ما يأتى ذكره.
ولمّا قدم الملك المظفّر إلى دمشق أحسن إلى الناس وأجراهم على عوائدهم وقواعدهم إلى آخر أيّام الملك الناصر صلاح الدين يوسف. وسيّر الملك الأشرف صاحب حمص يطلب منه أمانا على نفسه وبلاده، وكان الأشرف أيضا ممّن انضاف

(7/82)


إلى التّتار فأمّنه وأعطاه بلاده وأقرّه عليها؛ فحضر الأشرف إلى خدمة الملك المظفّر ثم عاد إلى بلده. ثم توجّه الملك المظفّر صاحب حماة إلى حماة على ما كان عليه، وكان حضر مع الملك المظفّر قطز من مصر.
قلت: والملك المظفّر قطز هو أوّل من ملك البلاد الشاميّة واستناب بها من ملوك الترك.
ثمّ إنّ الملك المظفّر قطز رتّب أمور الشام واستناب بدمشق الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ الكبير. ثم خرج المظفّر من دمشق عائدا إلى مصر إلى أن وصل إلى القصير «1» ، وبقى بينه وبين الصالحيّة مرحلة واحدة، ورحلت العساكر إلى جهة الصالحيّة وضرب الدهليز السلطانىّ بها وبقى المظفّر مع بعض خواصّه وأمرائه؛ وكان جماعة قد اتّفقوا مع الأمير بيبرس البندقدارىّ على قتل الملك المظفّر: منهم الأمير سيف الدين أنص «2» من مماليك [نجم الدين «3» ] الرومى الصالحى، وعلم الدين صنغلى «4» ، و [سيف «5» الدين بلبان] الهارونىّ وغيرهم؛ كلّ ذلك لكمين كان فى نفس بيبرس، لأجل نيابة حلب. واتّفق عند القصير بعد توجّه العساكر إلى الصالحيّة أن ثارت أرنب فساق الملك المظفّر قطز عليها، وساق هؤلاء المتّفقون على قتله معه، فلمّا أبعدوا ولم يبق معه غيرهم، تقدّم إليه الأمير بيبرس البندقدارىّ وشفع عنده

(7/83)


شفاعة فى إنسان فأجابه، فأهوى بيبرس ليقبّل يده فقبض عليها؛ وحمل أنص «1» عليه، وقد أشغل بيبرس يده، وضربه بالسيف، ثمّ حمل الباقون عليه ورموه عن فرسه، ورشقوه بالنّشّاب فقتلوه، ثم حملوا على العسكر وهم شاهرون سيوفهم حتّى وصلوا إلى الدّهليز السلطانىّ بالصالحيّة؛ فنزلوا ودخلوا والأتابك «2» على باب الدّهليز فأخبروه بما فعلوا؛ فقال: من قتله منكم؟ فقال بيبرس: أنا، فقال: يا خوند، اجلس على مرتبة السلطان! يأتى بقية ذلك فى أوّل ترجمة الملك الظاهر بيبرس البندقدارىّ المذكور. إن شاء الله تعالى.
ولمّا وقع ذلك وبلغ الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ الكبير نائب دمشق عزّ عليه قتل الملك المظفّر، ثم دعا الناس لنفسه واستحلفهم وتلقّب بالملك المجاهد.
على ما يأتى ذكره أيضا. أمّا الملك المظفّر قطز فإنّه دفن موضع قتله- رحمه الله تعالى- وكثر أسف الناس وحزنهم عليه. قال الحافظ أبو عبد الله شمس الدين محمد الذهبىّ فى تاريخه- رحمه الله تعالى- بعد ما سمّاه ونعته قال:
وكان المظفّر أكبر مماليك الملك المعزّ أيبك التّركمانىّ، وكان بطلا شجاعا مقداما حازما حسن التدبير، يرجع إلى دين وإسلام وخير، وله اليد البيضاء فى جهاد التّتار، فعوّض الله شبابه بالجنّة ورضى عنه. وحكى الشيخ شمس «3» الدين الجزرىّ فى تاريخه

(7/84)


عن أبيه، قال: كان قطز فى رقّ ابن الزعيم «1» بدمشق فى القصّاعين «2» ، فضربه أستاذه فبكى ولم يأكل شيئا يومه، ثم ركب أستاذه للخدمه وأمر الفرّاش أن يترضّاه ويطعمه، قال: فحدّثنى الحاجّ علىّ الفراش قال: فجئته وقلت: ما هذا البكاء من لطشة؟ فقال: إنّما بكائى من لعنة أبى وجدّى وهم خير منه، فقلت: من أبوك؟ واحد كافر! فقال: والله ما أنا إلّا مسلم ابن مسلم، أنا محمود بن ممدود «3» ابن أخت خوارزم شاه من أولاد الملوك، فسكّتّه وترضّيته. وتنقّلت به الأحوال إلى أن تملّك مصر، ولمّا تملك أحسن إلى الحاج علىّ الفراش المذكور، وأعطاه خمسمائة دينار وعمل له راتبا. قال الذهبىّ أيضا: ولمّا تسلطن لم يبلغ ريقه ولا تهنّى بالسلطنة حتى امتلأت الشامات المباركة بالتّتار؛ ثم ساق الذهبىّ أمره مع التّتار بنحو ما حكيناه.
وقال الشيخ قطب الدين: حكى عن الملك المظفّر قطز أنّه قتل جواده يوم القتال مع التّتار، ولم يصادف المظفّر أحد من الأوشاقية «4» فبقى راجلا، فرآه بعض الأمراء الشجعان فترجّل له وقدّم له حصانه، فامتنع المظفّر من ركوبه وقال:
ما كنت لأمنع المسلمين الانتفاع بك فى هذا الوقت! ثم تلاحقت الأوشاقيّة إليه.
وقال ابن الجزرىّ فى تاريخه: حدّثنى أبى قال حدّثنى أبو بكر بن الدّريهم الإسعردىّ والزكىّ إبراهيم أستاذ الفارس أقطاى قالا: كنّا عند سيف الدين قطز لمّا تسلطن أستاذه الملك المعزّ أيبك التركمانىّ، فأمرنا قطز بالقعود، ثم أمر المنجّم فضرب الرّمل،

(7/85)


ثم قال له قطز: اضرب لمن يملك بعد أستاذى الملك المعزّ أيبك، ومن يكسر التّتار، فضرب وبقى زمانا يحسب، فقال: يطلع معى خمس حروف بلا نقط. فقال له قطز: لم لا تقول محمود بن ممدود، فقال: يا خوند لا ينفع غير هذا الاسم، فقال:
أنا هو، أنا محمود بن ممدود، وأنا أكسر التّتار وآخذ بثأر خالى خوارزم شاه، فتعجّبنا من كلامه، وقلنا: إن شاء الله يكون هذا يا خوند، فقال: اكتموا ذلك، وأعضى المنجّم ثلثمائة درهم.
قلت: ونقل الشيخ قطب الدين اليونينىّ فى تاريخه الذي ذيلّه على مرآة الزمان، فقال فى أمر المنجّم غير هذه الصورة. وسنذكرها فى سياق كلام قطب الدين المذكور. قال (أعنى قطب الدين) : كان المظفّر أخصّ مماليك الملك المعزّ وأقربهم إليه وأوثقهم عنده. وهو الذي قتل الأمير فارس الدين أقطاى الجمدار.
قال: وكان الملك المظفّر بطلا شجاعا مقداما حازما حسن التدبير لم يكن يوصف بكرم ولا شحّ بل كان متوسّطا فى ذلك، وذكر حكايته لمّا أن قتل جواده يوم الوقعة بنحو ممّا حكيناه، لكنّه زاد بأن قال: فلام المظفّر بعض خواصّه على عدم ركوبه، وقال: يا خوند- لو صادفك، والعياذ بالله تعالى- بعض المغل وأنت راجل كنت رحت وراح الإسلام! فقال: أما أنا فكنت رحت إلى الجنّة- إن شاء الله تعالى- وأما الإسلام فما كان الله ليضيعه؛ فقد مات الملك الصالح نجم الدين أيّوب، وقتل بعده ابنه الملك المعظّم توران شاه، وقتل الأمير فخر الدين ابن الشيخ مقدّم العساكر يوم ذاك، ونصر الله الإسلام بعد اليأس من نصره! (يعنى عن نوبة أخذ الفرنج دمياط) . ثم قال قطب الدين، بعد ما ساق توجّهه إلى دمشق وإصلاح أمرها إلى أن قال: وقتل الملك المظفّر قطز مظلوما بالقرب من القضير وهى المنزلة التى بقرب الصالحية، وبقى ملقى بالعراء فدفنه بعض من كان فى خدمته

(7/86)


بالقصير، وكان قبره يقصد للزيارة دائما. قال: واجتزت به فى شهر رمضان سنة تسع وخمسين وستمائة، وترحّمت عليه وزرته. وكان كثير الترحّم عليه والدعاء على من قتله. فلمّا بلغ بيبرس ذلك أمر بنبشه ونقله إلى غير»
ذلك المكان وعفّى أثره، ولم يعفّ خبره- رحمه الله تعالى وجزاه عن الإسلام خيرا- قال: ولم يخلّف ولدا ذكرا، وكان قتله يوم السبت سادس عشر ذى القعدة سنة ثمان وخمسين وستمائة.
قلت: فعلى هذا تكون مدّة سلطنة الملك المظفّر قطز سنة إلّا يومنا واحدا، فإنّه تسلطن فى يوم السبت سابع عشر ذى القعدة من سنة سبع وخمسين وستمائة، وقتل فيما نقله الشيخ قطب الدين فى يوم السبت سادس عشر ذى القعدة من سنة ثمان وخمسين وستمائة: انتهى. قال: حكى لى المولى علاء الدين بن غانم فى غرّة شوّال سنة إحدى وتسعين وستّمائة ببعلبكّ، قال: حدّثنى المولى تاج «2» الدين أحمد ابن الأثير- تغمده الله برحمته- ما معناه: أنّ الملك الناصر صلاح الدين يوسف- رحمه الله- لمّا كان على برزة فى أواخر سنة سبع وخمسين وصله قصّاد من الديار المصريّة بكتب يخبرونه فيها أنّ قطز تسلطن وملك الديار المصريّة وقبض على ابن أستاذه، قال المولى تاج الدين- رحمه الله-: فطلبنى السلطان الملك الناصر قرأت عليه الكتب، وقال لى: خذ هذه الكتب ورح إلى الأمير ناصر «3» الدين القيمرىّ، والأمير جمال «4» الدين بن يغمور أوقف كلّا منهما عليها، قال: فأخذتها

(7/87)


وخرجت فلما بعدت عن الدّهليز لقينى حسام الدين البركة خانى «1» وسلّم علىّ، وقال:
جاءكم بريدىّ أو قصّاد من الديار المصريّة؟ فورّيت وقلت: ما عندى علم بشىء من هذا، قال: قطز تسلطن وتملّك الديار المصريّة ويكسر التّتار؛ قال تاج الدين:
فبقيت متعجّبا من حديثه، وقلت له: إيش هذا القول، ومن أين لك هذا؟
قال: والله هذا قطز خشداشى، كنت أنا وإيّاه عند الهيجاوى «2» من أمراء مصر ونحن صبيان، وكان عليه قمل كثير، فكنت أسرّح رأسه على أنّنى كلّما أخذت منه قملة أخذت منه فلسا أو صفعته، ثم قلت فى غضون ذلك: والله ما أشتهى إلا أنّ الله يرزقنى إمرة خمسين فارسا، فقال لى: طيّب قلبك، أنا أعطيك إمرة خمسين فارسا، فصفعته وقلت: أنت تعطينى إمرة خمسين! قال: نعم فصفّعته، فقال لى: وأ لك علّة! إيش يلزم لك إلّا إمرة خمسين فارسا؟ أنا والله أعطيك، قلت: ويلك «3» ! كيف تعطينى؟ قال: أنا أملك الديار المصريّة، وأكسر التّتار وأعطيك الذي طلبت، قلت: ويلك أنت مجنون! أنت بقملك تملك الديار المصرية؟ قال: نعم، رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فى المنام وقال لى: أنت تملك الديار المصريّة وتكسر التّتار، وقول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حقّ لا شكّ فيه، قال: فسكتّ وكنت أعرف منه الصدق فى حديثه وعدم الكذب. قال تاج الدين:
فلمّا قال لى هذا، قلت له: قد وردت الأخبار بأنّه تسلطن، قال لى: والله وهو يكسر التّتار. قال تاج الدين: فرأيت حسام الدين البركة خانى- الحاكى ذلك- بالديار المصريّة بعد كسر التّتار فسلّم علىّ، وقال: يا مولاى تاج الدين،

(7/88)


تذكر ما قلت لك فى الوقت الفلانىّ؟ قلت: نعم، قال: والله حالما عاد الملك الناصر من قطيا دخلت الديار المصريّة أعطانى إمرة خمسين فارسا كما قال، لا زائد على ذلك. قال: وحكى لى عزّ «1» الدين محمد بن أبى الهيجاء ما معناه: أنّ سيف الدين بلغاق حدّثه أنّ الأمير بدر الدين بكتوت الأتابكىّ، حكى لى قال: كنت أنا والملك المظفّر قطز والملك الظاهر بيبرس- رحمهما الله تعالى- فى حال الصّبا كثيرا ما نكون مجتمعين فى ركوبنا وغير ذلك، فاتّفق أن رأينا منجّما فى بعض الطريق بالديار المصريّة، فقال له الملك المظفّر قطز: أبصر نجمى، فضرب بالرّمل وحسب وقال: أنت تملك هذه البلاد وتكسر التّتار، فشرعنا نهزأ به. ثم قال له الملك الظاهر بيبرس: أبصر نجمى، فقال: وأنت أيضا تملك الديار المصريّة وغيرها، فتزايد استهزاؤنا به، ثم قالا لى، لا بدّ أن تبصر نجمك، فقلت له: أبصر لى نجمى، فحسب وقال: أنت تخلص لك إمرة مائة فارس، يعطيك هذا، وأشار إلى الملك الظاهر، فاتّفق أن وقع الأمر كما قال، ولم يخرم منه شىء. وهذا من عجيب الاتّفاق. انتهت ترجمة الملك المظفّر قطز. ويأتى ذكر حوادثه على عادة هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
[ما وقع من الحوادث سنة 658]
السنة التى حكم فيها الملك المظفّر قطز على الديار المصريّة، وهى سنة ثمان وخمسين وستمائة على أنّه حكم من سنة سبع شهرين وقتل قبل انقضاء السنة أيضا بشهرين.
فيها كانت كاثنة التّتار مع الملك المظفّر قطز وغيره، حسب ما تقدّم ذكره من أنّهم ملكوا حلب والشام ثم رحلوا عنها.

(7/89)


وفيها غلت الأسعار بالبلاد الشاميّة.
وفيها توفّى الملك السعيد نجم الدين إيلغازى ابن الملك المنصور ناصر الدين أبى المظفّر أرتق بن أرسلان «1» بن نجم الدين إيلغازى ابن ألبى بن تمرتاش بن إيلغازى ابن أرتق، السلطان أبو الفتح صاحب ماردين. كان ملكا جليلا كبير القدر شجاعا جوادا حازما ممدّحا. مات فى ذى الحجّة، وملك ماردين بعده ابنه الملك المظفّر رحمه الله.
وفيها توفّى الملك المعظّم فخر الدين أبو المفاخر توران شاه ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب، كان قد كبرت سنّه وصار كبير البيت الأيّوبىّ، وكانت نفسه لا تحدّثه بالوثوب على الأمر، فلذلك عاش عيشا رغدا وطال عمره. وكان الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب الشام يعظّمه ويحترمه ويثق به. وهو غير الملك المعظم توران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب. وقد تقدّم قتل هذاك فى كائنة دمياط، وعدّ أيضا من ملوك مصر. وتوران شاه هذا هو ابن عم الملك الكامل محمد جدّ توران شاه هذاك. وهو أيضا غير توران شاه ابن الملك الكامل محمد المعروف بأقسيس «2» . انتهى. ومولد توران شاه هذا بالقاهرة فى سنة سبع وسبعين وخمسمائة ومات فى شهر ربيع الأوّل من هذه السنة بحلب.
وفيها قتل الأمير كتبغانوين مقدّم عساكر التّتار الذي قتل فى الوقعة التى كانت بينه وبين المظفّر قطز بعين جالوت المقدّم ذكرها. كان كتبغانوين عظيما عند

(7/90)


التّتار يعتمدون على رأيه وشجاعته وتدبيره، وكان بطلا شجاعا مقداما خبيرا بالحروب وافتتاح الحصون والاستيلاء على الممالك، وهو الذي فتح معظم بلاد العجم والعراق.
وكان هولاكو ملك التتار يثق به ولا يخالفه فيما يشير إليه ويتبرّك برأيه. يحكى عنه عجائب فى حروبه، وكانت مقتلته فى يوم الجمعة خامس عشرين شهر رمضان فى المصافّ على عين جالوت.
قلت: إلى سقر وبئس المصير، ولقد استراح الإسلام منه، فإنّه شرّ عصابة على الإسلام وأهله. ولله الحمد على هلاكه.
وفيها توفّى الملك المظفّر أبو المعالى ناصر الدين محمد ابن الملك المظفّر غازى بن أبى بكر «1» محمد العادل بن أيّوب صاحب ميّافارقين وتلك البلاد. ملكها فى سنة «2» خمس وأربعين وستمائة عقيب وفاة والده، [و] دام فى الملك سنين إلى أن جفل من التّتار بعد أن كان يداريهم سنين، وقدم على الملك الناصر صلاح الدين يوسف بدمشق واستنجده على التّتار فوعده الناصر بالنّجدة، وآخر الأمر أنّه رجع إلى بلاده، وحصره التّتار بها نحو سنتين حتّى استشهد بأيديهم- رحمه الله تعالى وعفا عنه-.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى واستشهد بحلب خلائق لا يحصون؛ منهم، إبراهيم بن خليل الأدمىّ. والرئيس أبو طالب عبد الرحمن ابن عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن العجمىّ، تحت عذاب التّتار. وبدمشق عبد الله ابن بركات بن إبراهيم [المعروف «3» بابن] الخشوعىّ فى صفر. والعماد عبد الحميد بن عبد الهادى المقدسىّ فى شهر ربيع الأوّل عن خمس وثمانين سنة. والملك المعظّم

(7/91)


توران شاه ابن السلطان صلاح الدين فى شهر ربيع الأوّل، وله إحدى وثمانون سنة.
والشمس محمد بن عبد الهادى أخو العماد بقرية ساوية «1» [من عمل نابلس] شهيدا. وقاضى القضاة صدر الدين أحمد ابن شمس «2» الدين أبى البركات يحيى بن هبة الله بن سنىّ الدولة ببعلبكّ، وقد قارب السبعين «3» فى جمادى الآخرة. وأبو الكرم لاحق بن عبد المنعم الأرتاحىّ «4» بالقاهرة، وله خمس وثمانون سنة. والحافظ المفيد محبّ الدين عبد الله بن أحمد المقدسىّ. والفقيه الكبير أبو عبد الله محمد بن أبى الحسين [أحمد «5» ] بن عبد الله اليونينىّ «6» فى رمضان، وله سبع وثمانون سنة فى المحرّم «7» . والحافظ البليغ أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبى بكر القضاعىّ البلنسىّ «8» الكاتب المعروف بالأبّار بتونس مقتولا. والملك الكامل الشهيد ناصر الدين محمد ابن المظفّر شهاب الدين غازى بن العادل. والملك المظفّر الشهيد سيف الدين فطز فى ذى القعدة، فتكوا به فى الرمل. وصاحب الصّبيبة الملك السعيد حسن بن العزيز عثمان بن العادل، قتل صبرا يوم عين جالوت بأمر الملك المظفّر. وفى آخرها صاحب ماردين الملك السعيد نجم الدين إيلغازى بن أرتق. والملك كتبغانوين رأس التّتار يوم عين

(7/92)


جالوت، قتله آقوش «1» الشّمسىّ. وحسام «2» الدين محمد بن أبى علىّ الهذبانىّ نائب السلطنة بمصر. والأمير مجير الدين إبراهيم [بن أبى «3» بكر] بن أبى زكرى بنابلس شهيدا بعد أن قتل جماعة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وست عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وإحدى عشرة إصبعا.

(7/93)


ذكر سلطنة الملك الظاهر بيبرس البندقدارىّ «1» على مصر
السلطان الملك القاهر ثم الظاهر ركن الدين أبو الفتوح «2» بيبرس بن عبد الله البندقدارىّ الصالحىّ النّجمىّ الأيّوبىّ التّركىّ، سلطان الديار المصريّة والبلاد الشاميّة والأقطار الحجازيّة، وهو الرابع من ملوك الترك. مولده فى حدود العشرين وستمائة بصحراء القبجاق «3» تخمينا والقبجاق قبيلة عظيمة فى التّرك، وهو (بكسر القاف «4» وسكون الباء ثانية الحروف وفتح الجيم ثم ألف وقاف ساكنة) ، وبيبرس (بكسر الباء الموحدة ثانية الحروف وسكون الياء المثناة من تحتها ثم فتح الباء الموحدة وسكون الراء والسين المهملتين) ومعناه باللغة التركيّة: أمير فهد. انتهى.
قلت: أخذ بيبرس المذكور من بلاده وأبيع بدمشق للعماد الصائغ. ثم اشتراه الأمير علاء الدين أيدكين الصالحى البندقدارىّ وبه سمّى البندقدارىّ.
قلت: والعجيب أن علاء الدين أيدكين البندقدارىّ المذكور عاش حتّى صار من جملة أمراء الظاهر بيبرس هذا. على ما سيأتى ذكره مفصّلا- إن شاء الله تعالى- حكى شيخ الشيوخ شرف الدين عبد «5» العزيز الأنصارىّ الحموىّ قال:

(7/94)


كان الأمير علاء الدين البندقدارىّ الصالحىّ لمّا قبض عليه وأحضر إلى حماة واعتقل بجامع قلعتها اتّفق حضور ركن الدين بيبرس مع تاجر، وكان الملك «1» المنصور (يعنى «2» صاحب حماة) إذ ذاك صبيا وكان إذا أراد شراء رقيق تبصره الصاحبة والدته، فأحضر بيبرس هذا مع آخر فرأتهما من وراء السّتر فأمرت بشراء خشداشه، وقالت: هذا الأسمر لا يكون بينك وبينه معاملة فإنّ فى عينيه شرّا لائحا فردّتهما جميعا؛ فطلب البندقدارىّ الغلامين يعنى بيبرس ورفيقه فاشتراهما وهو معتقل، ثم أفرج عنه فسار إلى مصر؛ وآل أمر ركن الدين إلى ما آل.
وقال الذهبىّ: اشتراه الأمير علاء الدين البندقدارىّ الصالحىّ فطلع بطلا شجاعا نجيبا لا ينبغى [أن] يكون إلّا عند ملك، فأخذه الملك الصالح منه. وقيل: بقى بيبرس المذكور فى ملك البندقدارىّ حتى صادره أستاذه الملك الصالح نجم الدين أيوب، وأخذ بيبرس هذا فيما أخذه منه فى المصادرة فى شهر شوّال سنة أربع وأربعين وستمائة.
قلت: وهذا القول هو المشهور.
ولمّا اشتراه الملك الصالح أعتقه وجعله من جملة مماليكه، وقدّمه على طائفة الجمداريّة لما رأى من فطنته وذكائه؛ وحضر مع أستاذه الملك الصالح واقعة دمياط.
وقال الشيخ عزّ الدين عمر بن علىّ بن إبراهيم بن شدّاد: أخبرنى الأمير بدر الدين بيسرى «3» الشّمسىّ أنّ مولد الملك الظاهر بأرض القبجاق سنة خمس وعشرين وستمائة

(7/95)


تقريبا. وسبب انتقاله من وطنه إلى البلاد أنّ التّتار لمّا أزمعوا على قصد بلادهم سنة تسع وثلاثين وستمائة، وبلغهم ذلك، كاتبوا أنس خان ملك أولاق «1» أن يعبروا بحر صوداق «2» إليه ليجيرهم من التّتار، فأجابهم إلى ذلك وأنزلهم واديا بين جبلين، وكان عبورهم إليه فى سنة أربعين وستمائة؛ فلما اطمأنّ بهم المقام غدر بهم وشنّ الغارة عليهم، فقتل منهم وسبى. قال بيسرى: وكنت أنا والملك الظاهر فيمن أسر؛ قال: وكان عمره إذ ذاك أربع عشرة سنة تقديرا، فبيع فيمن بيع وحمل إلى سيواس «3» ثمّ افترقنا واجتمعنا فى حلب فى خان ابن قليج ثم افترقنا؛ فاتّفق أن حمل إلى القاهرة فبيع على الأمير علاء الدين أيدكين البندقدارىّ وبقى فى يده إلى أن انتقل عنه بالقبض عليه فى جملة ما استرجعه الملك الصالح نجم الدين أيّوب منه، وذلك فى شوّال سنة أربع وأربعين وستمائة.
قلت: وهذا القول مطابق «4» لقولنا الذي ذكرناه. قال: ثم قدّمه الملك الصالح على طائفة الجمداريّة. انتهى.
وقال غيره: ولمّا مات الملك الصالح نجم الدين أيّوب وملك بعده ابنه الملك المعظّم توران شاه وقتل «5» وأجمعوا على الأمير عزّ الدين أيبك التّركمانىّ وولّوه الأتابكيّة،

(7/96)


ثم استقلّ بالملك وقتل الأمير فارس الدين أقطاى الجمدار، ركب الملك الظاهر بيبرس هذا والبحريّة وقصدوا قلعة الجبل؛ فلمّا لم ينالوا مقصودهم خرجوا من القاهرة مجاهرين بالعداوة للملك المعزّ أيبك التّركمانى ومهاجرين إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف [ابن الملك «1» العزيز محمد بن الظاهر غازى ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب] صاحب الشام. وهم: الملك الظاهر بيبرس هذا، وسيف الدين بلبان الرّشيدىّ، وعزّ الدين أزدمر السّيفىّ، وشمس الدين سنقر الرّومى، وشمس الدين سنقر الأشقر، وبدر الدين بيسرى الشّمسىّ، وسيف الدين قلاوون الألفى، وسيف الدين بلبان المستعرب وغيرهم؛ فلمّا شارفوا دمشق سيّر إليهم الملك الناصر طيّب قلوبهم، فبعثوا فخر «2» الدين إياز المقرئ يستحلفه لهم فخلف الناصر لهم ودخلوا دمشق فى العشر الأخير من شهر رمضان سنة اثنتين وخمسين وستمائة، فأكرمهم الملك الناصر صلاح الدين وأطلق للملك الظاهر بيبرس ثلاثين ألف درهم، وثلاثة قطر بغال وثلاثة قطر جمال وملبوسا، وفرّق فى بقيّة الجماعة الأموال والخلع على قدر مراتبهم. وكتب الملك المعزّ أيبك إلى الملك الناصر يحذّره منهم ويغريه بهم، فلم يصغ إليه الناصر، ودام على إحسانه إليهم. وكان عيّن الناصر لبيبرس إقطاعا بحلب، فطلب الملك الظاهر بيبرس من الملك الناصر أن يعوّضه عمّا كان له بحلب من الإقطاع بجينين «3» وزرعين «4» فأجابه الملك الناصر إلى

(7/97)


ذلك؛ فتوجّه بيبرس إليها وعاد، فاستشعر بيبرس من الملك الناصر بالغدر فتوجّه بمن معه ومن تبعه من خشداشيته إلى الكرك، واجتمعوا بصاحب الكرك الملك المغيث «1» عمر بن العادل أبى بكر بن الكامل محمد، فجهّز الملك المغيث عسكره مع بيبرس المذكور، وعدّة من كان جهّزه معه ستّمائة فارس، وخرج من عسكر مصر جماعة لملتقاه؛ فأراد بيبرس كبسهم فوجدهم على أهبة، ثم واقع المصريّين فانكسر ولم ينج منهم إلّا القليل، فالذى نجا من الأعيان: بيبرس وبيليك «2» الخازندار، وأسر بلبان الرّشيدى. وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه فى ترجمة المعزّ مجملا، ولكن نذكره هنا مفصّلا.
وعاد بيبرس هذا إلى الكرك وأقام بها، فتواترت عليه كتب المصريّين يحرّضونه على قصد الديار المصريّة، وجاءه جماعة كثيرة من عسكر الملك الناصر. فأخذ بيبرس يطمع الملك المغيث صاحب الكرك فى ملك مصر، ولا زال به حتّى ركب معه بعسكره ونزل غزّة، وندب الملك المعزّ أيبك عسكرا لقتالهم، وقدّم على العسكر المصرىّ مملوكه الأمير قطز والأمير أقطاى المستعرب، وساروا وهرب من عسكر مصر إلى بيبرس والمغيث الأمير عزّ الدين أيبك الرومىّ، والأمير بلبان الكافورىّ «3» والأمير سنقر شاه العزيرى، والأمير أيبك الخواشى «4» ، والأمير بدر الدين برخان «5» ، والأمير بغدى، وأيبك الحموىّ، وجمال الدين هارون القيمرىّ والجميع أمراء، واجتمعوا الجميع مع بيبرس والملك المغيث بعزّة، فقويت شوكتهما بهؤلاء، وساروا الجميع إلى الصالحيّة،

(7/98)


ولقوا عسكر مصر يوم الثلاثاء رابع عشر شهر ربيع الآخر سنة ست وخمسين، فاستظهر عسكر بيبرس والمغيث أوّلا، ثم عادت الكسرة عليهم لثبات قطز المعزّىّ، وهرب الملك المغيث ولحقه بيبرس، وأسر من عسكر بيبرس عزّ الدين أيبك الرومىّ، وركن الدين منكورس «1» الصّيرفىّ، وبلبان الكافورىّ وعزّ الدين أيبك الحموىّ، وبدر الدين بلغان الأشرفى، وجمال الدين هارون القيمرىّ، وسنقر شاه العزيزىّ، وبهاء «2» الدين أيدغدى الإسكندرانىّ، وبدر الدين برخان، وبغدى، وبيليك الخازندار «3» الظاهرىّ فضربت [أعناق «4» ] الجميع صبرا، ما خلا الخازندار [فإنّ جمال «5» الدين] الجوكندارى «6» شفع فيه، وخيّروه بين المقام والذّهاب فاختار الذّهاب إلى أستاذه، فأطلق وتوجّه إلى أستاذه، ولمّا أن وصل الملك المغيث إلى الكرك حصل بينه وبين ركن الدين بيبرس هذا وحشة؛ وأراد المغيث القبض عليه بعد أمور صدرت، فأحسّ بيبرس بذلك وهرب وعاد إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب الشام، بعد أن استحلفه على أن يعطيه خبز مائة فارس من جملتها قصبة نابلس، وجينين «7» وزرعين «8» فأجاب إلى نابلس لا غير. وكان قدومه على الناصر فى شهر رجب سنة سبع وخمسين وستّمائة، ومعه الجماعة الذين

(7/99)


حلف لهم الملك الناصر أيضا وهم: بيسرى الشّمسىّ وأيتمش «1» السّعدىّ وطيبرس «2» الوزيرىّ وآقوش الرومىّ الدّوادار «3» ، وكشتغدى «4» الشّمسىّ ولاجين الدّرفيل، وأيدغمش الحلبىّ «5» وكشتغدىّ الشرقى «6» وأيبك السيخى «7» وبيبرس خاص ترك الصغير، وبلبان المهرانىّ، وسنجر الباشقردى «8» وسنجر الهمامىّ، وأرسلان الناصرىّ ويكنى الخوارزمىّ، وسيف الدين طمان [الشّقيرى «9» ] ، وأيبك العلائىّ، ولاچين الشّقيرىّ، وبلبان الأقسيسىّ، وعلم الدين سلطان الإلدكزىّ، فأكرمهم الملك الناصر، ووفّى لهم بما حلف، وداموا على ذلك حتّى قبض الأمير قطز على ابن أستاذه الملك المنصور علىّ، وتسلطن وتلقّب بالملك المظفّر قطز، شرع بيبرس يحرّض الملك الناصر على التوجّه إلى الديار المصريّة ليملكها، فلم يجبه، فكلّمه بيبرس فى أن يقدّمه على أربعة آلاف فارس، أو يقدّم عليهم غيره، ويتوجّه بها إلى شطّ الفرات يمنع التّتار من العبور إلى الشام، فلم يمكّنه ابن «10» عمّه الملك الصالح إسماعيل لباطن كان له مع التّتار، قاتله الله! فاستمرّ بيبرس عند الناصر إلى سنة ثمان وخمسين فارقه بمن معه

(7/100)


وقصد الشّهرزوريّة «1» وتزوّج منهم؛ ثم أرسل إلى الملك المظّفر قطز من استحلفه له، فحلف قطز. ودخل بيبرس إلى القاهرة فى يوم السبت الثانى والعشرين من شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وخمسين، فركب الملك المظفّر قطز للقائه وأنزله فى دار الوزارة وأقطعه قصبة قليوب «2» ، فلم تطل مدّته بالقاهرة وتهيّأ الملك المظفّر قطز لقتال التّتار، وسيّر بيبرس هذا فى عسكر أمامه كالجاليش «3» ليتجسّس أخبار التّتار؛ فكان أوّل ما وقعت عينه عليهم ناوشهم بالقتال، فلما انقضت الوقعة بعين جالوت تبعهم بيبرس هذا، يقتل من وجده منهم، إلى حمص؛ ثم عاد فوافى الملك المظفّر قطز بدمشق، وكان وعده بنيابة حلب، فأعطاها قطز لصاحب الموصل، فحقد عليه بيبرس فى الباطن، واتّفق على قتله مع جماعة لمّا عاد الملك المظّفر إلى نحو الديار المصريّة. والذين اتّفقوا معه: بلبان الرّشيدىّ، وبهادر المعزّى، وبكتوت الجوكندار المعزىّ، وبيدغان الرّكنىّ، وبلبان الهارونىّ، وأنص الأصبهانىّ، واتّفقوا الجميع مع بيبرس على قتل الملك المظفّر قطز؛ وساروا معه نحو الديار المصريّة إلى أن وصل الملك المظفّر قطز إلى القصير «4» ، وبقى بينه وبين الصالحيّة مرحلة، ورحل العسكر طالبا الصالحيّة، وضرب دهليز السلطان بها، واتّفق عند القصير أن ثارت أرنب فساق المظفّر قطز، وساق هؤلاء المتّفقون على

(7/101)


قتله معه، فلمّا أبعدوا ولم يبق مع المظفّر غيرهم، تقدّم إليه ركن الدين بيبرس وشفع عنده فى إنسان فأجابه المظفّر، فأهوى بيبرس ليقبّل يده فقبض عليها، وحمل أنص «1» عليه وقد أشغل بيبرس يده وضربه أنص بالسيف، وحمل الباقون عليه ورموه عن فرسه ورشقوه بالنّشّاب إلى أن مات، ثم حملوا على العسكر وهم شاهرون سيوفهم حتّى وصلوا إلى الدّهليز السلطانىّ، فنزلوا ودخلوه والأتابك على باب الدهليز فأحبروه بما فعلوا، فقال فارس الدين الأتابك: من قتله منكم؟
فقال بيبرس: أنا؛ فقال: ياخوند، اجلس فى مرتبة السلطنة فجلس؛ واستدعيت العساكر للحلف، وكان القاضى برهان الدين قد وصل إلى العسكر متلقّيا للملك المظفّر قطز، فاستدعى وحلّف العسكر للملك الظاهر بيبرس، وتمّ أمره فى السلطنة وأطاعته العساكر؛ ثم ركب وساق فى جماعة من أصحابه حتّى وصل إلى قلعة الجبل فدخلها من غير ممانع، واستقرّ ملكه. وكانت البلد قد زيّنت للملك المظفّر فاستمرّت الزينة، وكان الذي ركب معه من الصالحيّة إلى القلعة وهم خواصّه من خشداشيته، وهم: فارس الدين الأتابك، وبيسرى، وقلاوون الألفىّ، وبيليك الخازندار، وبلبان الرشيدىّ؛ ثم فى يوم الأحد سابع عشر ذى القعدة وهو صبيحة قتل المظفّر قطز؛ وهو أوّل يوم من سلطنة الظاهر بيبرس جلس بالإيوان من قلعة الجبل.
قلت: ولم يذكر أحد من المؤرّخين لبسه خلعة السلطنة الخليفتى «2» ، ولعلّه اكتفى بالمبايعة والحلف. انتهى.
ولمّا جلس الظاهر بالإيوان رسم أن يكتب إلى الأقطار بسلطنته؛ فأوّل من بدأ به الملك الأشرف صاحب حمص، ثم الملك المنصور صاحب حماة؛ ثم الأمير

(7/102)


مظفّر الدين «1» صاحب صهيون «2» ثم إلى الإسماعيليّة، ثم إلى [الملك السعيد المظفّر علاء «3» الدين علىّ بن لؤلؤ] صاحب الموصل الذي صار نائب السلطنة بحلب، ثم إلى من فى بلاد الشام يعرّفهم بما جرى ثم أفرج عمّن بالحبوس من أصحاب الجرائم؛ واقرّ الصاحب زين الدين يعقوب بن الزّبير «4» على الوزارة، وتقدّم بالإفراج عن الأجناد المحبوسين والإنعام عليهم، وزيادة من رأى استحقاقه من الأمراء وخلع عليهم، وسيّر الأمير جمال الدين آقوش المحمّدى بتواقيع للامير سنجر الحلبى نائب دمشق، فتوجّه إليه فوجده قد تسلطن بدمشق ودعا لنفسه، وحلّف الأمراء، وتلقّب بالملك المجاهد؛ فعظم ذلك على الملك الظاهر بيبرس وأخذ فى إصلاح أمره معه والإحسان إلى خشداشيته البحريّة الصالحيّة؛ وأمّر أعيانهم. ثم إنّه أخرج الملك المنصور نور الدين عليّا ابن الملك المعزّ أيبك التّركمانىّ وأمّه وأخاه ناصر الدين قاقان من مصر إلى بلاد الأشكرى «5» ، وكانوا معتقلين بقلعة الجبل.
وكان بيبرس لمّا تسلطن لقّب نفسه الملك القاهر، فقال الوزير زين الدين يعقوب بن الزّبير، وكان فاضلا فى الأدب والترسّل وعلم التاريخ، فأشار بتغيير هذا اللّقب، وقال: ما لقّب به أحد فأفلح: لقّب به القاهر «6» بن المعتضد، فلم تطل مدّته

(7/103)


وخلع من الخلافة وسمل، ولقّب به القاهر «1» ابن صاحب الموصل فسمّ، فأبطل بيبرس اللّقب الأوّل، وتلقّب بالملك الظاهر.
وأمّا أمر دمشق ففى العشر الأخير من ذى القعدة أمر الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ الذي تسلطن بدمشق بتجديد عمارة [قلعة «2» ] دمشق، وزفّت بالمغانى والطبول والبوقات، وفرحت أهل دمشق بذلك، وحضر كبراء الدولة وخلع على الصّناع والنقباء، وعمل «3» الناس فى البناء حتّى النساء؛ وكان يوم الشروع فى تجديدها يوما مشهودا، ثم فى اليوم الأوّل من العشر الأوّل من ذى الحجّة دعا الأمير علم الدين سنجر الحلبى الناس بدمشق إلى الحلف له بالسلطنة فأجابوه، وحضر الجند والأكابر وحلفو له ولقّب بالملك المجاهد، وخطب له على المنابر، وضربت السّكّة باسمه؛ وكاتب الملك المنصور صاحب حماة ليحلف له فامتنع، وقال: أنا مع من يملك الديار المصريّة كائنا من كان.
ولمّا صحّ عند التّتار قتل الملك المظفّر قطز- رحمه الله تعالى- وكان النائب ابن صاحب الموصل أساء السيرة فى الجند والرعيّة، فاجتمع رأى الأمراء والجند بحلب على قبضه وإخراجه من حلب، وتحالفوا على ذلك، وعيّنوا للقيام بالأمر الأمير حسام الدين الجوكندارىّ العزيزىّ، فبينا هم على ذلك وردت عليهم بطاقة نائب البيرة «4» يخبر أنّ التّتار قاربوا البيرة لمحاصرتها، واستصرخ بهم لينجدوه بعسكر، وكان التّتار قد هدموا أبراج البيرة وأسوارها، وهى مكشوفة من جميع

(7/104)


جهاتها، فجرّد الملك السعيد ابن صاحب الموصل الذي هو نائب حلب عسكره إليها، وقدّم عليهم الأمير سابق الدين أمير مجلس الناصرىّ، فحضر الأمراء عنده، وقالوا له: هذا العسكر الذي جرّدته لا يمكنه ردّ العدوّ، ونخاف أن يحصل النّشوب بيننا وبين العدوّ، وعسكرنا قليل فيصل العدوّ إلى حلب، ويكون ذلك سببا لخروجنا منها فلم يقبل منهم، فخرجوا من عنده وهم غضبانون، وسار العسكر المذكور إلى البيرة فى قلّة. فلّما وصلوا إلى عمق البيرة صادفوا التتار بجموعهم، فاقتتلوا قتالا شديدا وقصد سابق الدين البيرة، فتبعه التّتار وقتلوا من أصحابه جماعة كثيرة، وما سلم منهم إلّا القليل؛ وورد هذا الخبر لحلب فجفل أهل حلب إلى جهة القبلة ولم يبق بها إلّا القليل، وندم الملك السعيد نائب حلب على مخالفة الأمراء، وقوى بذلك غضبهم عليه وقاطعوه، ووقعت بطاقة نائب البيرة، فيها: أنّ التّتار توجّهوا إلى ناحية منبج «1» ، فخرج نائب حلب وضرب دهليزه بباب إله «2» شرقىّ حلب، وبعد يومين وصل الأمير عزّ الدين أزدمر الدّاودار العزيزىّ، وكان قطز قد جعله نائبا باللّاذقيّة «3» وجبلة «4» ، فقصده خشداشيته بحلب؛ فلمّا قرب ركبت العزيزيّة والناصرية والتقوا به، فأخبرهم بأنّ الملك المظفّر قطز قتل، وأنّ ركن الدين بيبرس ملك الديار المصريّة، وأنّ سنجر الحلبىّ خطب لنفسه بدمشق، ونحن أيضا نعمل بعمل أولئك، ونقيم واحدا من الجماعة ونقبض على هذا (يعنى على

(7/105)


نائب حلب) ونقتصر على حلب وبلادها مملكة أستاذنا وابن أستاذنا فأجابوه إلى ذلك وتقرّر بينهم: أنّه حال دخولهم إلى المخيّم يمضى إليه الأمراء: حسام الدين الجوكندارى، وبكتمر الساقى وأزدمر الدّوادار؛ وكان الملك السعيد نائب حلب نازلا بباب لا فى بيت القاضى، وهو فوق سطحه والعساكر حوله، فعند ما طلعوا إليه وحضروا عنده على السطح شرعت أعوانهم فى نهب وطاقه «1» فسمع الضّجة فاعتقد أنّ التّتار قد كبست العسكر، ثم شاهد نهب العزيزيّة والناصريّة لوطاقه، ووثب الأمراء الذين عنده ليقبضوا عليه، فطلب منهم الأمان على نفسه فأمّنوه وشرطوا عليه أن يسلّم إليهم جميع ما حصّله من الأموال، ثم نزلوا به إلى الدار وقصدوا الخزانة، فما وجدوا فيها طائلا فهدّدوه، وقالوا له: أين الأموال التى حصّلتها؟ وطلبوا قتله، فقام إلى ساحة بستان فى الدار المذكورة وحفر وأخرج الأموال، وهى تزيد على أربعين ألف «2» دينار، ففرّقت على الأمراء على قدر منازلهم، ثمّ رسموا عليه جماعة من الجند وسيّروه إلى قلعة «3» حبسوه بها. ثمّ بعد أيّام قلائل دهم العدوّ حلب، فاندفع الأمير حسام الدين الجوكندارى المقدّم على عسكر حلب بمن معه إلى جهة دمشق، ودخلت التّتار حلب وأخرجوا من كان فيها إلى ظاهر حلب، ووضعوا السيف فيهم، فقتل بعضهم وفرّ بعضهم، ونزل العسكر الحلبىّ بظاهر حماة، فقام الملك المنصور بضيافتهم، ثمّ تقدّم التّتار إلى حماة، فلمّا قاربوا منها رحل صاحبها الملك المنصور ومعه الجوكندارى بعساكر حلب إلى حمص، ونزل التّتار على حماة فامتنعت عليهم، فاندفعوا من حماة طالبين العسكر، وجفل

(7/106)


الناس بين أيدهم، وخاف أهل دمشق خوفا شديدا، وأقاموا الجميع على حمص حتّى قدم إليهم التّتار فى أوائل المحرّم من سنة تسع وخمسين وستمائة، وكانوا فى ستّة «1» آلاف فارس، فخرج إليهم الملك المنصور صاحب حماة والأشرف صاحب حمص والجوكندارىّ العزيزىّ بعساكر حلب، وحملوا عليهم حملة رجل واحد فهزموهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وهرب الأمير بيدرا مقدّم التّتار فى نفر يسير، وكانت الوقعة عند قبر «2» خالد بن الوليد- رضى الله عنه- ثم عاد التتار إلى حلب وفعلوا بأهلها تلك الأفعال القبيحة على عادتهم.
وأمّا الملك الظاهر بيبرس صاحب الترجمة فإنّه كاتب أمراء دمشق يستميلهم إليه ويحضّهم على منابذة الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ والقبض عليه، فأجابوه إلى ذلك وخرجوا من دمشق منابذين لسنجر، وفيهم: الأمير علاء الدين أيدكين البندقدارىّ (أعنى أستاذ الملك الظاهر بيبرس المذكور) الذي قدّمنا من ذكره أنّ الملك الصالح نجم الدين أيّوب اشتراه منه. انتهى. والأمير بهاء الدين بغدى فتبعهم الحلبىّ بمن بقى معه من أصحابه، فحاربوه فهزموه وألجئوه إلى قلعة دمشق فأغلقها دونهم؛ وذلك فى يوم السبت حادى عشر صفر من السنة. ثم خرج الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ تلك الليلة من القلعة وقصد بعلبك، فدخل قلعتها ومعه قريب عشرين نفرا من مماليكه؛ فدخل الأمير علاء الدين أيدكين البندقدارىّ دمشق، واستولى عليها وحكم فيها نيابة عن الملك الظاهر بيبرس؛ ثم جهّز عسكرا

(7/107)


إلى بعلبكّ لحصار الحلبىّ وعليهم الأمير بدر الدين محمد بن «1» رحال وكان من الشّجعان، وأمير آخر، فحال وصولهما إلى بعلبكّ دخلا المدينة ونزلا بالمدرسة النّوريّة، وكان الحلبىّ لمّا وصلها جعل عنده طائفة كبيرة من أهل محلّه مقدّمهم على بن «2» عبور، فسيّر إليهم الأمير بدر الدين بن رحال وأفسدهم، فتدلّوا من القلعة ليلا ونزلوا إليه، فعند ذلك تردّدت المراسلات بين الحلبىّ وعلاء الدين البندقدارىّ حتّى استقرّ الحال على نزول الحلبىّ وتوجّهه إلى الملك الظاهر بيبرس بمصر، فخرج الحلبىّ من قلعة بعلبكّ راكبا [حصانه «3» و] فى وسطه عدّته وفى قرابه «4» قوسان وهو كالأسد، فجاء حتّى بعد عن القلعة، قدّم له بغلة فتحوّل إليها وقلع العدّة وركبها، وسار حتّى وصل إلى دمشق وسار منها إلى مصر، فأدخل على الملك ليلا بقلعة الجبل، فقام إليه واعتنقه وأدنى مجلسه منه وعاتبه عتابا لطيفا؛ ثم خلع عليه ورسم له بخيل وبغال وجمال وقماش وغير ذلك.
ثم التفت الملك الظاهر إلى إصلاح مملكته فخلع «5» على الصاحب بهاء الدين على بن «6» حنّا وزير شجرة الدّرّ بالوزارة، وذلك فى شهر ربيع الاوّل من سنة تسع وخمسين، وهى أوّل ولايته للوزر. ثمّ حضر عند الظاهر شخص وأنهى إليه أنّ الأمير عزّ الدين الصّقلىّ «7» يريد الوثوب على السلطان، واتّفق معه الأمير علم الدين سنجر الغتمىّ وبهادر [المعزّىّ «8» ] والشجاع بكتوت فقبض الملك الظاهر عليهم.

(7/108)


ثم تسلّم الملك الظاهر الكرك من نوّاب الملك المغيث فى هذه السنة. ثم قبض على الأمير بهاء الدين بغدى الأشرفىّ بدمشق وحمل إلى القاهرة وحبس بقلعة الجبل إلى أن مات.
ثم جهّز الملك الظاهر عسكرا لخروج التّتار من حلب فساروا إليها وأخرجوهم منها على أقبح وجه، كلّ ذلك والدنيا بلا خليفة من سنة ستّ وخمسين وستمائة.
ففى هذه السنة كان وصول المستنصر بالله الخليفة إلى مصر وبايعه الملك الظاهر بيبرس، وهو أبو القاسم أحمد، كان محبوسا ببغداد مع جماعة من بنى العبّاس فى حبس الخليفة المستعصم، فلمّا ملكت التّتار بغداد أطلقوهم، فخرج المستنصر هذا إلى عرب العراق، واختلط بهم إلى أن سمع بسلطنة الملك الظاهر بيبرس، وفد عليه مع جماعة من بنى مهارش، وهم عشرة أمراء مقدّمهم ابن قسا وشرف «1» الدين ابن مهنّا، وكان وصول المستنصر إلى القاهرة فى ثامن شهر رجب من سنة تسع وخمسين وستمائة؛ فركب السلطان للقائه ومعه الوزير بهاء الدين بن حنّا وقاضى القضاة تاج الدين بن بنت الأعزّ والشهود والرؤساء والقرّاء والمؤذّنون واليهود بالتوراة والنصارى بالإنجيل فى يوم الخميس؛ فدخل من باب النّصر وشقّ القاهرة، وكان لدخوله يوم مشهود.
فلمّا كان يوم الاثنين ثالث عشر الشهر جلس السلطان الملك الظاهر والخليفة بالإيوان وأعيان الدولة بأجمعهم وقرئ نسب الخليفة، وشهد عند القاضى

(7/109)


بصحته فأسجل عليه بذلك وحكم به وبويع بالخلافة «1» ، وركب من يومه وشقّ القاهرة فى وجوه الدولة وأعيانها، وكان أوّل من بايعه قاضى القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن بنت الأعزّ عند ما ثبت نسبه عنده، ثم السلطان، ثم الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام، ثم الأمراء والوزراء على مراتبهم. والمستنصر هذا هو الثامن والثلاثون من خلفاء بنى العباس- رضى الله عنهم- وهو المستنصر بالله أبو القاسم أحمد الأسمر ابن الظاهر بأمر الله محمد ابن الناصر لدين الله أحمد ابن المستضىء الحسن ابن الخليفة المستنجد بالله يوسف ابن الخليفة المقتفى لأمر الله محمد ابن الخليفة المستظهر بالله أحمد ابن الخليفة المقتدى بأمر الله عبد الله ابن الأمير محمد الذخيرة ابن الخليفة القائم بأمر الله عبد الله ابن الخليفة القادر بالله أحمد ابن الأمير إسحاق ابن الخليفة المقتدر بالله جعفر ابن الخليفة المعتضد بالله أحمد ابن الأمير طلحة الموفّق ابن الخليفة المتوكّل على الله جعفر ابن الخليفة المعتصم بالله محمد ابن الخليفة الرشيد هارون ابن الخليفة المهدى محمد ابن الخليفة أبى جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن عبّاس الهاشمىّ العباسىّ البغدادىّ. وقد تقدم أنّ الناس كانوا بغير خليفة منذ قتل التّتار ابن أخيه الخليفة المستعصم بالله فى أوائل سنة ست وخمسين وستّمائة إلى يومنا هذا، فكانت مدة شغور الخلافة ثلاث سنين ونصفا والناس بلا خليفة. وكان المستنصر هذا جسيما وسيما شديد السّمرة عالى الهمّة

(7/110)


شديد القوّة وعنده شجاعة وإقدام، وهو أخو الخليفة المستنصر ولقّب بلقبه، وهذا لم تجربه العادة من أنّ خليفة يلقّب بلقب خليفة تقدّمه من أهل بيته.
وفى يوم الجمعة سابع عشر الشهر خرج الخليفة المستنصر بالله وعليه ثياب سود إلى الجامع بالقلعة وخطب خطبة بليغة ذكر فيها شرف بنى العبّاس، ثم صلّى على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. ثم فى مستهلّ شعبان من سنة تسع وخمسين المذكورة تقدّم الخليفة بتفصيل خلعة سوداء وبعمل طوق ذهب وقيد ذهب «1» وبكتابة تقليد بالسلطنة للملك الظاهر بيبرس ونصب خيمة ظاهر القاهرة. فلمّا كان يوم الاثنين رابعه ركب الخليفة والسلطان والوزير والقضاة والأمراء ووجوه الدولة إلى الخيمة ظاهر القاهرة بقبّة النصر «2» ، فألبس الخليفة السلطان الملك الظاهر بيبرس خلعة السلطنة بيده وطوّقه وقيّده، وصعد فخر الدين إبراهيم بن لقمان رئيس الكتّاب منبرا نصب له فقرأ التقليد وهو من إنشائه وبخطّه. ثم ركب السلطان بالخلعة والطّوق والقيد ودخل من باب النّصر وقد زيّنت القاهرة له، وحمل الصاحب بهاء الدين التقليد على رأسه راكبا والأمراء يمشون بين يديه؛ فكان يوما يقصر اللسان عن وصفه. ونسخة التقليد:
«الحمد لله الذي أضفى «3» على الإسلام ملابس الشّرف، وأظهر بهجة درره، وكانت خافية، بما استحكم عليها من الصّدف، وشيّد ما وهى من علائه حتّى أنسى ذكر من

(7/111)


سلف، وقيّض لنصره ملوكا اتّفق عليهم «1» من اختلف، أحمده على نعمته التى رتعت «2» الأعين منها فى الرّوض الأنف، وألطافه «3» التى وقف الشكر عليها فليس له عنها منصرف؛ وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة توجب من المخاوف أمنا، وتسهّل من الأمور ما كان حزنا، وأشهد أنّ محمّدا عبده الذي جبر من الدّين وهنا، ورسوله الذي أظهر من المكارم فنونا لا فنّا، صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله الذين أصبحت مناقبهم باقية لا تفنى، وأصحابه الذين أحسنوا فى الدّين فاستحقّوا الزيادة بالحسنى. وبعد: فإنّ أولى الأولياء بتقديم ذكره، وأحقّهم أن يصبح القلم راكعا وساجدا فى تسطير مناقبه وبرّه، من سعى فأضحى سعيد «4» الجدّ متقدّما، ودعا إلى طاعته فأجاب من كان منجدا ومتهما، وما بدت يد فى المكرمات إلّا كان لها زندا ومعصما، ولا استباح بسيفه حمى وغى إلا أضرم منه نارا وأجراه دما. ولمّا كانت هذه المناقب الشريفة مختصّة بالمقام العالى المولوىّ السلطانىّ الملكىّ الظاهرىّ الرّكنىّ- شرّفه الله وأعلاه- ذكرها الديوان العزيز النّبوىّ الإمامىّ المستنصرىّ- أعزّ الله سلطانه- تنويها بشريف «5» قدره، واعترافا بصنعه الذي تنفد العبارة المسهبة ولا تقوم بشكره؛ وكيف لا وقد أقام الدولة العبّاسيّة بعد أن أقعدتها زمانة الزمان، وأذهبت «6» ما كان لها من محاسن وإحسان؛ وعتب دهرها المسىء لها فأعتب، وأرضى عنها «7» زمنها وقد كان صال عليها صولة مغضب؛ فأعاده لها سلما بعد أن كان

(7/112)


[عليها «1» ] حربا، وصرف إليها اهتمامه فرجع كلّ متضايق من أمورها واسعا رحبا؛ ومنح أمير المؤمنين عند القدوم عليه حنوّا وعطفا، وأظهر من الولاء رغبة فى [ثواب «2» ] الله ما لا يخفى؛ وأبدى من الاهتمام بأمر البيعة أمرا لو رامه غيره لامتنع عليه، ولو تمسّك بحبله متمسّك لانقطع به قبل الوصول إليه؛ ولكن الله ادّخر هذه الحسنة ليثقل بها [فى «3» ] الميزان ثوابه، ويخفّف بها يوم القيامة حسابه، والسعيد من خفّف حسابه! فهذه منقبة أبى الله إلّا أن يخلّدها فى صحيفة صنعه، ومكرمة قضت «4» لهذا البيت الشريف بجمعه، بعد أن حصل الإياس من جمعه. وأمير المؤمنين يشكر لك هذه الصنائع، ويعترف أنّه لولا اهتمامك لاتّسع الخرق على الراقع؛ وقد قلّدك الديار المصريّة والبلاد الشاميّة، والديار بكريّة، والحجازيّة واليمنيّة والفراتيّة؛ وما يتجدّد من الفتوحات غورا ونجدا؛ وفوّض أمر جندها ورعاياها إليك حين «5» أصبحت بالمكارم فردا» . ثم أخذ فى آخر التقليد «6» يذكر فضل الجهاد والرفق بالرعيّة وطوّل فى الكلام إلى الغاية. وهذا الذي ذكرناه من نسخة التقليد هو المراد.
ثم إنّ الملك الظاهر ولّى الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ «7» نيابة حلب لمّا بلغه أن البرنلى «8» تغلّب على حلب، وسيّر معه عسكرا فسار إليها الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ، ودخل إليها وملكها وخرج منها البرنلى وتوجّه إلى الرّقّة؛ ثم حشد وجمع العساكر وأخذ البيرة، ثمّ عاد إلى حلب وأخرج منها الحلبىّ بعد أمور ووقائع جرت بينهم.
فلمّا بلغ الملك الظاهر ذلك عزم على التوجّه إلى البلاد الشاميّة، وبرز من القاهرة

(7/113)


ومعه الخليفة المستنصر وأولاد صاحب الموصل، وكان خروجهم الجميع من القاهرة فى تاسع عشر شهر رمضان بعد أن رتّب السلطان الأمير «1» عزّ الدين أيدمر الحلبى نائب السلطنة بقلعة الجبل؛ والصاحب بهاء الدين بن حنّا مدبر الأمور، وخرج مع السلطان العساكر المصريّة وأقام ببركة الجبّ «2» إلى عيد الفطر؛ ثم سافر فى ثالث شوّال بعد ما عزل قاضى القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن بنت الأعزّ عن القضاء ببرهان الدين خضر السّنجارىّ، وسار السلطان حتّى دخل دمشق فى يوم الاثنين سابع ذى القعدة، وقدم عليه الملك الأشرف صاحب حمص فخلع عليه وأعطاه ثمانين ألف دينار وحملين ثيابا، وزاده على ما بيده من البلاد تلّ «3» باشر؛ ثم قدم عليه الملك المنصور صاحب حماة فخلع عليه وأعطاه ثمانين ألف درهم وحملين ثيابا، وكتب له توقيعا ببلاده التى بيده؛ ثم جهّز السلطان الخليفة وأولاد صاحب الموصل صحبته بتجمّل زائد وبرك «4» يضاهى برك السلطان من الأطلاب والخيول والجمال وأرباب الوظائف من الكبير إلى الصغير؛ قيل: إنّ الذي غرمه السلطان الملك الظاهر على تجهيز الخليفة وأولاد صاحب الموصل فوق الألف ألف دينار عينا.
ثم جهّز السلطان الأمير علاء الدين أيدكين البندقدارىّ لنيابة السلطنة بحلب، وأيدكين هذا هو أستاذ الملك الظاهر بيبرس صاحب الترجمة المقدّم ذكره، فسبحان من يعزّ ويذلّ! وبعث السلطان مع البندقدارىّ عسكر المحاربة البرنلى وصحبته أيضا الأمير بلبان الرّشيدىّ فخرجا من دمشق فى منتصف ذى القعدة؛ فلمّا وصلا حماة خرج البرنلى وقصد حرّان فتبعه الرشيدىّ بالعساكر، ودخل علاء الدّين البندقدارىّ

(7/114)


إلى حلب؛ ثم عاد الرّشيدىّ إلى أنطاكية ثم رحل عنها بعد ما حاصرها مدّة لمّا بلغه عود الملك الظاهر إلى مصر.
وأمّا الخليفة فإنّه لمّا توجّه نحو العراق ومعه أولاد صاحب الموصل، وهم:
الملك «1» الصالح وولده علاء الدين «2» والملك «3» المجاهد سيف الدين صاحب الجزيرة، والملك المظفّر «4» علاء الدّين صاحب سنجار، والملك الكامل ناصر الدين محمد؛ فلمّا وصلوا صحبة الخليفة إلى الرّحبة وافوا عليها الأمير يزيد بن علىّ بن حديثة «5» أمير آل فضل وأخاه الأخرس فى أربعمائة فارس من العرب. وفارق الخليفة أولاد صاحب الموصل من الرّحبة؛ وكان الخليفة طلب منهم المسير معه فأبوا، وقالوا: ما معنا مرسوم بذلك، وأرسلوا معه من مماليك والدهم نحو ستّين نفرا فانضافوا إليه، ولحقهم الأمير عز الدين أيدكين «6» من حماة ومعه ثلاثون فارسا. ورحل الخليفة بمن معه من الرّحبة بعد ما أقام بها ثلاثة أيّام، ونزل مشهد علىّ- رضى الله عنه- ثم رحل إلى قائم «7» عنقه، ثم إلى عانة «8» فوافوا الإمام الحاكم بأمر الله العبّاسىّ على عانة من ناحية الشرق ومعه نحو سبعمائة فارس من التّركمان. وكان البرنلى قد جهّزه من حلب، فبعث الخليقة المستنصر بالله إليهم واستمالهم؛ فلمّا جاوزوا الفرات فارقوا الحاكم فبعث إليه المستنصر بالله يطلبه إليه ويؤمّنه على نفسه ويرغّب إليه فى اجتماع الكلمة،

(7/115)


فأجاب ورحل إليه، فوفّى إليه المستنصر وأنزله معه فى الدّهليز. وكان الحاكم لمّا نزل على عانة امتنع أهلها منه، وقالوا: قد بايع الملك الظاهر خليفة وهو واصل فما نسلّمها إلّا إليه؛ فلمّا وصل المستنصر بالله إليها نزل إليه نائبها وكريم الدين ناظرها وسلّماها إليه وحملا له إقامة، فأقطعها الخليفة للأمير ناصر الدين أغلمش «1» أخى الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ. ثم رحل الخليفة عنها إلى الحديثة ففتحها أهلها له، فجعلها خاصّا له، ثم رحل عنها ونزل على شطّ قرية الناووسة «2» ؛ ثم رحل عنها قاصدا هيت «3» ، ولمّا اتّصل مجىء الخليفة المستنصر بالله بقرابغا مقدّم عسكر التّتار بالعراق، وبهادر «4» علىّ الخوارزمىّ شحنة بغداد وخرج قرابغا بخمسة آلاف فارس من التّتار على الشطّ العراقى وقصد الأنبار، فدخلها إغارة؛ وقتل جميع من فيها، ثم ردفه الأمير بهادر علىّ الخوارزمىّ بمن بقى ببغداد من عساكر التّتار، وكان قد بعث ولده إلى هيت متشوّقا لما يرد من أخبار المستنصر، وقرّر معه أنّه إذا اتّصل به خبره بعث بالمراكب إلى الشطّ الآخر وأحرقها؛ فلمّا وصل الخليفة هيت أغلق أهلها الباب دونه، فنزل عليها وحاصرها حتّى فتحها، ودخلها فى التاسع والعشرين من ذى الحجّة، ونهب من فيها من اليهود والنّصارى؛ ثم رحل عنها ونزل الدور «5» وبعث طليعة من عسكره مقدّمها الأمير أسد الدين محمود ابن الملك المفضّل موسى، فبات تجاه الأنبار «6» تلك اللّيلة، وهى ليلة الأحد ثالث المحرّم من سنة ستين وستمائة؛ فلمّا رأى قرابغا

(7/116)


الطليعة أمر من معه من العساكر بالعبور إليها فى المخائض والمراكب ليلا، فلمّا أسفر الصبح أفرد قرابغا من معه من عسكر بغداد ناحية.
وأمّا الخليفة فإنّه رتّب اثنى عشر طلبا، وجعل التّركمان والعربان ميمنة وميسرة وباقى العساكر قلبا؛ ثم حمل بنفسه مبادرا وحمل من كان معه فى القلب فآنكسر بهادر، ووقع معظم عسكره فى الفرات؛ ثم خرج كمين من التّتار، فلمّا رآه التّركمان والعرب هربوا، وأحاط الكمين بعسكر الخليفة فصدق المسلمون الحملة، فأفرج لهم التّتار، فنجا الحاكم وشرف «1» الدين بن مهنّا وناصر الدين بن صيرم وبوزنا «2» وسيف الدين بلبان الشّمسى وأسد الدين محمود وجماعة من الجند نحو الخمسين نفرا، وقتل الشريف نجم الدين [جعفر «3» ] أستادار الخليفة، وفتح الدين بن الشهاب أحمد، وفارس الدين «4» [أحمد «5» ] بن أزدمر اليغمورىّ، ولم يوقع للخليفة المستنصر على خبر، فقيل إنّه: قتل فى الوقعة وعفّى أثره؛ وقيل: إنّه نجا مجروحا فى طائفة من العرب فمات عندهم؛ وقيل: سلم وأضمرته البلاد.
وأمّا السلطان الملك الظاهر بيبرس فإنّه لمّا عاد إلى مصر عاد بعده بلبان الرشيدىّ فى أثره وعاد البرنلى إلى حلب ودخلها وملكها، فجرّد إليه الملك الظاهر عسكرا ثانيا، عليهم الأمير شمس الدين سنقر الرومىّ، وأمره بالمسير إلى حلب؛ ثمّ إلى الموصل وكتب إلى الأمير علاء الدين طيبرس نائب السلطنة بدمشق وإلى الأمير علاء الدين أيدكين البندقدارىّ يأمرهما أن يكونا معه بعسكرهما حيث توجّه يتوجّه الجميع، فسار الجميع إلى جهة حلب، فخرج البرنلى من حلب وتسلّم نوّاب أيدكين

(7/117)


البندقدارىّ حلب. ثم جاء مرسوم السلطان بتوجّه البندقدارىّ إلى حلب، ويعود طبيرس إلى دمشق ويعود سنقر الرومىّ إلى مصر، فعاد الرومىّ إلى القاهرة. فلمّا اجتمع بالسلطان أوغر خاطره على طبيرس، فكان ذلك سببا للقبض على طبيرس المذكور وحبسه بالقاهرة مدّة سنين.
ثم وصل إلى الديار المصريّة فى السابع والعشرين من شهر ربيع الآخر «1» الإمام الحاكم بأمر الله أبو العبّاس أحمد ابن الأمير أبى علىّ الحسن ابن الأمير أبى بكر بن الحسن «2» بن علىّ القبّى «3» ابن الخليفة المسترشد بالله أبى منصور الفضل ابن الخليفة المستظهر بالله أحمد العبّاسىّ.
قلت: ومن المستظهر يعرف نسبه من ترجمة المستنصر وغيره من أقاربه إلى العبّاس. ووصل صحبته شمس الدين صالح بن محمد بن أبى الرشيد الأسدىّ الحاكمىّ المعروف بابن البنّاء وأخوه محمد ونجم الدين محمد، واحتفل الملك الظاهر بيبرس بلقائه وأنزله بالبرج «4» الكبير داخل قلعة الجبل، ورتّب له ما يحتاج إليه، ووصل معه ولده. وبايعه بالخلافة فى يوم الخميس تاسع المحرّم من سنة إحدى وستين بقلعة الجبل. وكانت المسلمون بلا خليفة منذ استشهد الخليفة المستنصر بالله فى أوائل

(7/118)


السنة الحالية «1» ، وجلس السلطان بالإيوان لبيعته وحضر القضاة والأعيان وارباب الدولة، وقرئ نسبه على قاضى القضاة وشهد عنده جماعة بذلك، فأثبته ومدّ يده وبايعه بالخلافة، ثم بايعه السلطان ثم الوزير ثم الأعيان على طبقاتهم، وخطب له على المنابر، وكتب السلطان إلى الأقطار بذلك وأن يخطبوا باسمه، وأنزل إلى مناظر «2» الكبش فسكن بها إلى أن مات فى ليلة الجمعة ثامن عشر جمادى الأولى سنة إحدى وسبعمائة ودفن بجوار السيّدة نفيسة، وهو أوّل خليفة مات بالقاهرة من بنى العبّاس حسب ما يأتى ذكره- إن شاء الله تعالى- فى محلّه بأوسع من هذا.
وأمّا الملك الظاهر فإنّه تجهّز للسفر إلى البلاد الشاميّة، وخرج من الديار المصريّة فى يوم السبت سابع شهر ربيع الآخر من سنة إحدى وستين وستمائة.
وفى هذه السّفرة قبض على الملك المغيث صاحب الكرك الذي كان معه تلك الأيّام على قتال المصريين وغيرهم، ولما قبض عليه الظاهر بعث به إلى قلعة الجبل صحبة الأمير آق سنقر «3» الفارقانىّ، فوصل به إلى القاهرة فى يوم الأحد خامس عشر

(7/119)


جمادى الآخرة، فكان ذلك آخر العهد به. ثمّ عاد الملك الظاهر إلى الديار المصريّة فى يوم السبت سادس عشر شهر رجب. ولمّا دخل إلى القاهرة قبض على الأمير بلبان الرشيدى وأيبك الدّمياطى وآقوش البرنلى.
ثم فى هذه السنة شرع الملك الظاهر فى عمارة المدرسة «1» الظاهريّة ببين القصرين، وتمّت فى أوائل سنة اثنتين وستين وستمائة. ورتّب فى تدريس الإيوان القبلىّ القاضى تقىّ الدين محمد بن الحسين «2» بن رزين الشافعى، وفى تدريس الإيوان الذي يواجهه القاضى مجد الدين عبد «3» الرحمن بن العديم، والحافظ شرف «4» الدين الدّمياطى لتدريس الحديث فى الإيوان الشرقىّ، والشيخ كمال الدين المحلّى «5» فى الإيوان [الذي] يقابله

(7/120)


لإقراء القرآن بالروايات والطرق؛ ثم رتّب جماعة يقرءون السبع بهذا الإيوان أيضا بعد صلاة الصبح، ووقف بها خزانة كتب، وبنى إلى جانبها مكتبا لتعلم الأيتام وأجرى عليهم الخبز فى كلّ يوم، وكسوة الفصلين وسقاية تعين على الطّهارة؛ وجلس للتدريس بهذه المدرسة يوم الأحد ثالث «1» عشر صفر من سنة اثنين وستين، وحضر الصاحب بهاء الدين بن حنّا، والأمير جمال الدين بن يغمور؛ والأمير جمال الدين أيدغدى العزيزىّ وغيرهم من الأعيان.
وفى سنة إحدى وستين أيضا تسلّم الأمير بيليك العلائىّ حمص بعد وفاة صاحبها الملك الأشرف الأيّوبى. ثم أمر الملك الظاهر أيضا بإنشاء خان فى القدس الشريف للسبيل، وفوّض بناءه ونظره إلى الأمير جمال الدين محمد بن نهار «2» ؛ ولمّا تمّ الخان المذكور أوقف عليه قيراطا ونصفا بالمطر «3» ، وثلث وربع قرية المشيرفة من بلد بصرى «4» ، ونصف قرية لبنى «5» ، يصرف ريع ذلك فى خبز وفلوس وإصلاح نعال من يرد عليه من المسافرين المشاة. وبنى له طاحونا وفرنا، واستمر ذلك كلّه.
ثم ولّى الملك الظاهر فى سنة ثلاث وستين وستمائة فى كلّ مذهب قاضيا مستقلّا بذاته، فصارت قضاة القضاة أربعة، وسبب «6» ذلك كثرة توقّف قاضى القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن بنت الأعزّ فى تنفيذ الأحكام، وكثرة الشكاوى منه بسبب ذلك. فلمّا كان يوم الاثنين ثانى عشر ذى الحجّة شكا «7» القاضى المذكور الأمير جمال الدين أيدغدى العزيزىّ فى المجلس، وكان يكره القاضى تاج الدين

(7/121)


المذكور؛ فقال أيدغدى بحضرة السلطان: يا تاج الدين، نترك مذهب الشافعىّ لك، ونولّى معك من كلّ مذهب قاضيا، فمال الملك الظاهر إلى كلامه، وكان لأيدغدى منه محلّ عظيم؛ فولّى السلطان الشيخ صدر «1» الدين سليمان الحنفى قاضى قضاة الحنفيّة بالديار المصريّة، وكان للقضاة الحنفيّة أزيد من ثلثمائة سنة من أوّل الدولة الفاطميّة قد بطل حكمهم من ديار مصر استقلالا عند ما أبطل الفاطميّون القضاة من سائر المذاهب، وأقاموا قضاة الشّيعة بمصر. انتهى. وولىّ القاضى شرف «2» الدين عمر السّبكىّ المالكىّ قاضى قضاة المالكيّة. وولّى الشيخ شمس «3» الدين محمد ابن الشيخ العماد الحنبلى قاضى القضاة الحنابلة، وفوّض لكلّ واحد منهم أن يستنيب بالأعمال وغيرها؛ وأبقى على تاج الدين النّظر فى مال الأيتام، وكتب لهم التقاليد وخلع عليهم؛ ثم فعل ذلك ببلاد الشام كلّه.
قلت: وقد جمعت أسماء من ولى القضاء من المذاهب الأربعة من يوم رتّب الملك الظاهر بيبرس القضاة (أعنى من سنة ثلاث وستين وستمائة) إلى يومنا هذا على الترتيب على سبيل الاختصار لتكثر الفائدة فى هذا الكتاب، وإن كان يأتى ذكر غالبهم فى الوفيات فى حوادث الملوك على عادة هذا الكتاب، فذكرهم هنا جملة أرشق وأهون على من أراد ذلك، والله المستعان. فنقول:

(7/122)


[ذكر قضاة الشافعيّة]
كان قاضى قضاة الشافعيّة يوم ذاك القاضى تاج «1» الدين عبد الوهاب، وهى ولايته الثانية؛ وتوفّى سنة خمس وستين وستمائة. ثم القاضى تقىّ الدين محمد «2» بن رزين العامرىّ «3» سنة خمس وستين وستمائة، ومولده فى شعبان سنة ثلاث وستمائة، وتوفّى ثالث رجب سنة ثمانين وستمائة. ثم القاضى صدر «4» الدين عمر بن عبد الوهاب بن بنت الأعزّ سنة ثمان وسبعين وستمائة. ثم أعيد القاضى تقىّ الدين محمد بن رزين سنة تسع وسبعين وستمائة. ثمّ القاضى وجيه «5» الدين عبد الوهّاب البهنسىّ سنة ثمانين وستمائة. ثم القاضى تقىّ «6» الدين عبد الرحمن ابن القاضى تاج الدين عبد الوهّاب بن بنت الأعزّ سنة خمس وثمانين وستمائة. ثم القاضى بدر «7» الدين محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الحموىّ الكنانىّ سنة تسعين وستمائة. ثم أعيد القاضى تقىّ الدين عبد الرحمن بن بنت الأعزّ فى صفر سنة ثلاث وتسعين وستمائة. ثم ولى القاضى تقىّ «8» الدين محمد بن على بن دقيق العيد سنة خمس وتسعين وستمائة، ومولده فى شعبان سنة خمس وعشرين وستمائة، وتوفّى سنة اثنتين وسبعمائة. ثم أعيد القاضى بدر الدين محمد بن إبراهيم بن جماعة الحموىّ فى سنة أربع وسبعمائة. ثمّ ولى القاضى جمال «9» الدين

(7/123)


سليمان بن عمر الزّرعىّ سنة عشر وسبعمائة. ثم أعيد القاضى بدر الدين محمد بن إبراهيم ابن جماعة سنة إحدى عشرة وسبعمائة. ثم ولى القاضى جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزوينىّ سنة سبع وعشرين وسبعمائة، وتوفّى سنة تسع وثلاثين وسبعمائة. ثم ولى القاضى «1» عزّ الدين عبد العزيز ابن القاضى بدر الدين محمد بن إبراهيم بن جماعة الحموىّ سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة. ثم ولى القاضى بهاء الدين عبد الله [بن عبد الرحمن «2» ] ابن عقيل سنة تسع وخمسين وسبعمائة. ثم أعيد القاضى عزّ الدين عبد العزيز بن جماعة سنة تسع وخمسين وسبعمائة. ثم ولى القاضى بهاء الدين «3» محمد أبو البقاء بن عبد البرّ السّبكىّ فى سنة ست وستين وسبعمائة. ثم ولى القاضى برهان الدين إبراهيم بن عبد الرحيم [بن محمد «4» بن إبراهيم بن سعد الله] بن جماعة سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة. ثم ولى القاضى بدر الدين «5» محمد بن بهاء الدين محمد بن عبد البرّ السّبكىّ فى صفر سنة تسع وسبعين وسبعمائة. ثم أعيد القاضى برهان الدين إبراهيم بن جماعة سنة إحدى وثمانين وسبعمائة. ثم أعيد القاضى بدر الدين محمد بن أبى البقاء السّبكىّ فى صفر سنة أربع وثمانين وسبعمائة. ثم ولى القاضى ناصر الدين محمد [بن عبد الدائم ابن «6» محمد بن سلامة] ابن بنت الميلق فى شعبان سنة تسع وثمانين وسبعمائة، وامتحن وعزل. ثم ولى القاضى صدر الدين «7» محمد بن إبراهيم السلمىّ المناوىّ فى ذى القعدة سنة إحدى وتسعين وسبعمائة. ثم أعيد القاضى بدر الدين محمد بن أبى البقاء

(7/124)


السّبكىّ سنة إحدى وتسعين وسبعمائة. ثم ولى القاضى عماد الدين أحمد «1» الكركىّ فى رجب [سنة «2» اثنتين وتسعين، ثم عزل فى ذى الحجّة] سنة أربع وتسعين وسبعمائة. ثم أعيد القاضى صدر الدين محمد بن إبراهيم المناوىّ فى شعبان سنة خمس «3» وتسعين وسبعمائة. ثم أعيد القاضى بدر الدين محمد بن أبى البقاء السّبكىّ فى شهر ربيع الآخر سنة ست وتسعين وسبعمائة. ثم أعيد القاضى صدر الدين محمد ابن إبراهيم المناوىّ فى شعبان سنة سبع وتسعين وسبعمائة. ثم ولى القاضى تقىّ «4» الدين الزّبيرىّ فى جمادى الأولى سنة تسع وتسعين وسبعمائة. ثم أعيد القاضى صدر الدين المناوىّ فى شهر رجب سنة إحدى وثمانمائة. ثم ولى القاضى ناصر الدين «5» الصّالحىّ فى سلخ شعبان سنة ثلاث وثمانمائة. ثم ولى القاضى جلال الدين عبد الرحمن بن عمر ابن رسلان بن نصير البلقينىّ «6» فى جمادى الأولى سنة أربع وثمانمائة فى حياة والده.
ثم أعيد القاضى ناصر الدين الصالحى فى شوّال سنة خمس وثمانمائة، ومات فى المحرّم سنة ست وثمانمائة «7» . ثم ولى القاضى شمس الدين محمد الإخنائىّ «8» فى شهر الله المحرّم سنة ستّ وثمانمائة. ثم أعيد القاضى جلال الدين عبد الرحمن البلقينىّ فى شهر ربيع الأوّل سنة ستّ وثمانمائة، ومولده سنة إحدى «9» وستين وسبعمائة؛ وهكذا حكى لى

(7/125)


من لفظه،- رحمه الله- وتوفّى بالقاهرة فى شوّال سنة أربع وعشرين وثمانمائة.
ثم أعيد القاضى شمس الدين محمّد الإخنائىّ فى شهر شعبان سنة ستّ وثمانمائة.
ثم أعيد القاضى جلال الدين عبد الرحمن البلقينىّ فى ذى الحجّة من سنة ست وثمانمائة.
ثم أعيد القاضى شمس الدين الإخنائى فى ثانى عشرين جمادى الأولى سنة سبع وثمانمائة. ثم أعيد القاضى جلال الدين البلقينىّ فى ثالث عشر ذى القعدة سنة سبع وثمانمائة. ثم أعيد القاضى شمس الدين محمد الإخنائى فى حادى عشر صفر سنة ثمان وثمانمائة. ثم أعيد القاضى جلال الدين البلقينىّ فى خامس شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وثمانمائة، وهى ولايته الخامسة، ولم يزل فى هذه المرة قاضيا إلى أن توجّه صحبة الملك الناصر فرج إلى الشام سنة أربع عشرة وثمانمائة. ثم عزل بالقاضى شهاب الدين أحمد الباعونىّ «1» بدمشق فى المحرّم سنة خمس عشرة وثمانمائة. ثم أعيد القاضى جلال الدين البلقينىّ المذكور فى أوّل صفر من سنة خمس عشرة وثمانمائة، فاستمرّ فى القضاء إلى آخر جمادى الأولى سنة إحدى وعشرين وثمانمائة. ثم عزل بالقاضى شمس الدين محمد الهروىّ «2» فى سلخ جمادى الأولى سنة إحدى وعشرين وثمانمائة.
ثم أعيد القاضى جلال الدين البلقينىّ فى شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة، واستمرّ إلى أن مات فى شوّال كما تقدّم ذكره.
قلت: وقاضى القضاة جلال الدين المذكور هو صهرى وزوج كريمتى، ومات عنها. رحمهما الله تعالى وعفا عنهما.

(7/126)


ثم ولى القاضى ولىّ الدين أحمد «1» ابن الحافظ عبد الرحيم بن الحسين العراقىّ فى شوّال سنة أربع وعشرين وثمانمائة. ثم ولى القاضى علم الدين «2» صالح بن عمر البلقينىّ فى يوم السبت سادس ذى الحجّة سنة خمس وعشرين وثمانمائة. ثم ولى القاضى شهاب الدين «3» أحمد بن علىّ بن حجر فى سابع عشرين المحرّم سنة سبع وعشرين وثمانمائة. ثم أعيد القاضى شمس الدين الهروىّ فى سابع ذى القعدة سنة سبع وعشرين وثمانمائة. ثم أعيد القاضى شهاب الدين أحمد بن حجر فى ثانى رجب سنة ثمان وعشرين وثمانمائة. ثم أعيد القاضى علم الدين صالح البلقينىّ فى خامس عشرين صفر سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة. ثم أعيد القاضى شهاب الدين أحمد بن حجر فى رابع عشرين جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين وثمانمائة. ثم أعيد القاضى علم الدين صالح البلقينىّ فى خامس شوّال سنة أربعين وثمانمائة. ثم أعيد القاضى شهاب الدين أحمد بن حجر فى يوم الثلاثاء سادس شوّال سنة إحدى وأربعين وثمانمائة.
ثم ولى القاضى شمس «4» الدين محمد القاياتىّ فى يوم الخميس رابع عشر المحرّم سنة تسع وأربعين وثمانمائة، ومات فى ثامن عشرين المحرّم سنة خمسين وثمانمائة- رحمه الله تعالى- ثم أعيد القاضى شهاب الدين أحمد بن حجر فى خامس صفر سنة خمسين وثمانمائة.
ثم أعيد القاضى علم الدين صالح البلقينىّ فى يوم السبت مستهلّ سنة إحدى وخمسين

(7/127)


وثمانمائة. ثم ولى القاضى ولىّ «1» الدين محمد السّفطىّ فى يوم الخميس خامس عشر شهر ربيع الأوّل سنة إحدى وخمسين وثمانمائة. ثم أعيد القاضى شهاب الدين أحمد بن حجر فى ثامن شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة، ثم عزل نفسه ومات معزولا- رحمه الله تعالى-. ثم أعيد القاضى علم الدين صالح البلقينىّ فى سادس عشر جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة. ثم ولى القاضى شرف «2» الدين يحيى المناوىّ فى يوم الاثنين ثالث عشر رجب سنة ثلاث وخمسين وثمانمائة. ثم أعيد القاضى علم الدين صالح البلقينىّ فى يوم السبت ثامن عشرين صفر سنة سبع وخمسين وثمانمائة.
ذكر القضاة الحنفيّة
فالذى ولى أوّلا قاضى القضاة صدر «3» الدين سليمان. ثمّ من بعده قاضى القضاة معزّ الدين النّعمان بن الحسن [بن «4» يوسف] إلى أن توفّى فى سابع عشر شعبان سنة اثنتين وتسعين وستمائة. ثم ولى قاضى القضاة شمس الدين أحمد «5» السّروجىّ فاستمرّ إلى أن تسلطن الملك المنصور لاچين عزله. ثم ولى قاضى القضاة «6» حسام الدين الرازىّ فاستمرّ إلى أن قتل لاچين، نقل إلى قضاء دمشق سنة

(7/128)


ثمان وتسعين. ثم أعيد شمس الدين السّروجىّ، ثمّ عزل أوّل شهر ربيع الآخر سنة عشر وسبعمائة. ثم ولى بعده قاضى القضاة شمس «1» الدين محمد الحريرىّ إلى أن مات يوم السبت رابع جمادى الآخرة- رحمه الله- سنة ثمان وعشرين وسبعمائة. ثم ولى بعده قاضى القضاة برهان الدين إبراهيم «2» بن عبد الحقّ إلى أن عزل يوم الأحد ثامن عشر جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة. ثم ولى بعده قاضى القضاة حسام «3» الدين الغورىّ إلى أن كانت واقعة الأمير قوصون نهبوا الرسل والعامّة بيته وطلبوه ليقتلوه فهرب. ثم ولى بعده قاضى القضاة «4» زين الدين عمر البسطامىّ فى سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة إلى أن عزل فى سنة ثمان وأربعين وسبعمائة. ثم تولّاها من بعده قاضى القضاة علاء «5» الدين التّركمانىّ فى جمادى منها إلى أن توفّى عاشر المحرّم سنة خمسين. فولى بعده ولده قاضى القضاة جمال الدين عبد الله ابن التّركمانىّ إلى أن مات فى شعبان سنة تسع وستين وسبعمائة. فولى بعده قاضى القضاة سراج الدين عمر «6» الهندىّ إلى أن مات فى شهر رجب سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة، ثم ولى بعده قاضى القضاة صدر «7» الدين بن جمال الدين التّركمانىّ إلى أن

(7/129)


مات فى ذى القعدة سنة ست وسبعين. فوليها بعده قاضى القضاة «1» نجم الدين بن الكشك، طلب من دمشق فى المحرّم سنة سبع وسبعين وسبعمائة، ثم عزل عنها.
وتولى من بعده قاضى القضاة صدر «2» الدين علىّ بن أبى العز الأذرعىّ، ثم اعتفى عنها.
فتولّاها قاضى القضاة شرف الدين أبو العبّاس أحمد [بن «3» علىّ] بن منصور فى سنة سبع وسبعين، فاستمرّ إلى سادس عشرين شهر رجب عزل. ثم تولّاها بعده قاضى «4» القضاة جلال الدين جار الله، فاستمر قاضيا إلى أن مات فى يوم الاثنين رابع عشر شهر رجب سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة. فتولى بعده قاضى القضاة صدر الدين محمد بن علىّ بن منصور فى شهر رمضان سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة، فاستمرّ إلى أن مات فى شهر ربيع الأوّل سنة ستّ وثمانين وسبعمائة. فتولّاها بعده قاضى القضاة شمس الدين محمد «5» بن أحمد بن أبى بكر الطّرابلسىّ، فاستمرّ إلى بعد فتنة الأتابك «6» يلبغا الناصرىّ ومنطاش «7» مع الظاهر برقوق سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة عزل عنها. ثم تولّاها قاضى القضاة مجد الدين إسماعيل بن إبراهيم [بن محمد «8» بن علىّ بن موسى] الكنانىّ، أقام فيها قليلا ثمّ عزل. ثم تولّاها من بعده قاضى القضاة جمال الدين محمود [بن «9» محمد بن علىّ بن عبد الله] القيصرىّ العجمىّ مضافا لنظر

(7/130)


الجيش، فاستمرّ إلى أن مات فى ليلة الأحد سابع شهر ربيع الأوّل سنة تسع وتسعين وسبعمائة. ثم تولّاها من بعده قاضى القضاة شمس الدين الطّرابلسىّ ثانيا فى الشهر والسنة، فاستمرّ إلى أن مات فى آخر السنة المذكورة. وتولّى بعده قاضى القضاة جمال الدين يوسف بن موسى الملطىّ الحلبىّ فى يوم الخميس العشرين من شهر ربيع الآخر [سنة «1» ثمانمائة] ، طلب من حلب واستمرّ إلى أن مات فى ليلة الاثنين تاسع عشر شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانمائة. وتولّاها من بعده قاضى القضاة أمين «2» الدين عبد الوهّاب ابن القاضى شمس الدين الطرابلسىّ فى يوم الخميس ثانى عشر جمادى الآخرة من السنة، فاستمرّ إلى سادس عشرين شهر رجب سنة خمس وثمانمائة، عزل. فتولّاها من بعده قاضى «3» القضاة كمال الدين عمر بن العديم الحلبى، واستمرّ إلى أن مات فى ليلة السبت ثانى عشر جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة وثمانمائة، ومولده بحلب سنة إحدى «4» وسبعين وسبعمائة. فتولّاها من بعده ابنه القاضى ناصر الدين «5» محمد فى يوم الاثنين رابع عشر الشهر المذكور مضافا لمشيخة الشّيخونيّة «6» ، واستمرّ إلى أن صرف. وأعيد القاضى أمين الدين الطرابلسى ثانيا فى رابع عشرين

(7/131)


شهر رجب من سنة إحدى عشرة وثمانمائة، فاستمرّ القاضى أمين الدين إلى سابع المحرّم من سنة اثنتى عشرة وثمانمائة صرف. وأعيد قاضى القضاة ناصر الدين ابن العديم ثانيا؛ واستقرّ القاضى أمين الدين الطرابلسىّ فى مشيخة الشّيخونيّة عوضا عن ناصر الدين بن العديم المذكور.
قلت: وناصر الدين المذكور هو صهرى زوج كريمتى. انتهى.
واستمرّ ناصر الدين بن العديم إلى أن عزل، فتولّاها قاضى القضاة صدر الدين علىّ [بن محمد «1» بن محمد المعروف با] بن الأدمىّ الدّمشقىّ فى سنة خمس عشرة وثمانمائة، واستمرّ إلى أن مات فى يوم السبت ثامن شهر رمضان من سنة ست عشرة وثمانمائة.
ثم أعيد ناصر الدين بن العديم ثالثا، فاستمرّ إلى أن مات فى ليلة السبت تاسع شهر ربيع الآخر سنة تسع عشرة وثمانمائة، وشغرت الوظيفة الى أن طلب الملك المؤيّد شيخ شمس الدين محمد «2» الدّيرىّ من القدس، وقدم القاهرة فى ثالث عشر جمادى الأولى من سنة تسع عشرة المذكورة، ونزل بقاعة الحنفيّة بالمدرسة الصالحيّة «3» إلى أن استقرّ فى القضاء يوم الاثنين سابع عشره، واستمرّ إلى أن عزل برغبة منه.

(7/132)


وتولّاها من بعده قاضى القضاة «1» زين الدين عبد الرحمن التّفهنىّ فى يوم الجمعة سادس ذى القعدة سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة، واستمرّ إلى أن عزل. ثم تولّاها من بعده قاضى القضاة «2» بدر الدين محمود العينى فى يوم الخميس سابع عشرين شهر ربيع الآخر سنة تسع وعشرين وثمانمائة، واستقرّ التّفهنىّ المذكور فى مشيخة خانقاه شيخون، بعد موت شيخ الإسلام سراج «3» الدين عمر قارئ «الهداية» ، واستمرّ العينىّ إلى أن عزل.
ثم أعيد التّقهنىّ فى يوم الخميس سادس عشرين صفر سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة، فدام إلى أن صرف لطول مرضه. ثم أعيد قاضى القضاة العينى ثانيا فى سابع عشرين جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين وثمانمائة، فاستمرّ العينىّ إلى أن صرف فى دولة الملك العزيز «4» يوسف ابن الملك الأشرف برسباى بقاضى القضاة سعد الدين سعد «5» ابن القاضى شمس الدين محمد بن الدّيرىّ فى أوّل سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة «6» ...
قلت: وهؤلاء القضاة الذين استجدّهم الملك الظاهر بيبرس البندقدارىّ.
حسب ما ذكرناه فى أوّل الترجمة. وذلك بعد انقضاء الدولة الأيّوبيّة. وأمّا قبل خراب الديار المصرية فى الدّولة العبيديّة فكانت قضاة الحنفيّة هم حكّام مصر بل حكّام المشرق والمغرب إلى حدود نيّف وأربعمائة، لمّا حمل المعزّ بن باديس الناس

(7/133)


ببلاد المغرب على اتّباع مذهب الإمام مالك- رضى الله عنه- ثم ملكت العبيديّة مصر فمحوا آثار السّنّة وولّوا قضاة الشّيعة وبطل الأربعة مذاهب من مصر إلى أن زالت دولتهم وتولّى السلطان صلاح يوسف بن أيّوب- رحمه الله- فولّى قاضيا شافعيّا فقط كونه كان شافعيّا، وأذهب الرافضة، واستمرّ ذلك نحو تسعين سنة حتّى ولى الملك الظاهر بيبرس فجدّد المذاهب الثلاثة كما سقناه. انتهى.
ذكر القضاة المالكيّة
فالذى كان أوّلهم ولاية فى دولة الظاهر بيبرس هو القاضى شرف الدين «1» عمر السّبكىّ المالكىّ تغمّده الله برحمته وجميع المسلمين «2» ...
ذكر قضاة الحنابلة
فالذى ولّاه الملك الظاهر بيبرس هو قاضى القضاة شمس الدين أبو بكر «3» محمد الجمّاعيلىّ الحنبلىّ إلى أن امتحن وصرف فى ثانى شعبان سنة سبعين وستمائة، ولم يل بعد عزله بالقاهرة أحد من الحنابلة حتى توفّى شمس الدين المذكور فى يوم الخميس فى العشر الأوّل من المحرّم سنة ست وسبعين. ثم ولى بعده قاضى القضاة عزّ الدين

(7/134)


عمر بن عبد الله [بن عمر «1» ] بن عوض فى النصف من جمادى الأولى سنة ثمان وسبعين، فاستمرّ حتى مات سنة ستّ وتسعين وستمائة. ثم تولّى بعده قاضى القضاة شرف الدين أبو محمد «2» عبد الغنى الحرّانىّ إلى أن مات فى رابع عشرين شهر ربيع الأوّل سنة تسع وسبعمائة. ثم تولّى بعده قاضى القضاة سعد الدين مسعود بن أحمد الحارثىّ «3» فى ثالث شهر ربيع الآخر من السنة، وعزل بعد سنتين ونصف بقاضى القضاة تقىّ الدين «4» ابن قاضى القضاة عزّ الدين عمر فى حادى عشر شهر ربيع الأوّل سنة اثنتى عشرة وسبعمائة، بعد ما شغر منصب القضاء ثلاثة أشهر، فلم تطل «5» أيّامه وعزل بقاضى القضاة موفّق الدين عبد الله بن محمد بن عبد الملك المقدسىّ فى نصف جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة، فدام فى المنصب إلى أن مات فى المحرّم سنة تسع وستين وسبعمائة. ثم تولّى عوضه قاضى القضاة ناصر الدين نصر الله بن أحمد بن محمد العسقلانىّ حتّى مات فى ليلة الحادى والعشرين من شهر شعبان سنة خمس وتسعين وسبعمائة. ثم تولّى بعده ابنه قاضى القضاة برهان الدين إبراهيم بن نصر الله حتّى مات فى ثامن شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وثمانمائة. ثم تولّى عوضه أخوه قاضى القضاة موفّق الدين أحمد بن نصر الله، فدام حتّى صرف بقاضى القضاة نور الدين علىّ [بن خليل «6» بن علىّ بن أحمد بن عبد الله] الحكرىّ، فلم تطل مدّة الحكرىّ

(7/135)


وصرف. ثم أعيد موفّق الدين فاستمرّ إلى أن مات فى سنة ثلاث وثمانمائة. ثم تولّى بعده قاضى القضاة مجد الدين سالم [بن أحمد «1» ] فى ثالث عشرين شهر رمضان من سنة ثلاث فاستمرّ فى القضاء إلى أن صرف بقاضى القضاة علاء الدين علىّ [بن «2» محمود ابن أبى بكر] بن مغلى فى حدود سنة ست عشرة وثمانمائة، فاستمرّ علاء الدين بن مغلى فى القضاء إلى أن توفّى بالقاهرة فى العشرين من صفر سنة ثمان وعشرين وثمانمائة.
ثم تولّى بعده قاضى القضاة محبّ الدين أحمد بن نصر الله [بن أحمد بن «3» محمد بن عمر] البغدادىّ من التاريخ المذكور إلى أن صرفه الملك الأشرف بقاضى القضاة عزّ الدين عبد العزيز [بن علىّ بن العزّ بن «4» عبد العزيز] البغدادىّ فى ثالث عشر جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين، فدام القاضى عزّ الدين إلى أن صرف فى يوم الثلاثاء ثانى عشر صفر سنة ثلاثين وثمانمائة. ثم أعيد قاضى القضاة محبّ الدين، واستمرّ إلى أن مات فى يوم الأربعاء خامس عشر جمادى الأولى سنة أربع وأربعين وثمانمائة.
ثم تولى بعده قاضى القضاة بدر الدين محمد [بن «5» محمد] بن عبد المنعم البغدادىّ إلى أن مات فى ليلة الخميس سابع جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وثمانمائة.
ثم تولّى بعده قاضى القضاة عز الدين «6» أحمد فى يوم السبت تاسع جمادى الأولى المذكور.

(7/136)


قلت: وقد خرجنا عن المقصود فى ترجمة الملك الظاهر بيبرس بالإطالة فيما ذكرناه، غير أنّ ذلك كلّه هو أيضا ممّا يضاف إلى ترجمته، ولا بأس بالإطالة مع تحصيل الفائدة، ولنعد إلى ذكر السلطان الملك الظاهر بيبرس.
ثم أمر الملك الظاهر بأن يعمل بدمشق أيضا كذلك فى سنة أربع وستين فوقع ذلك، وولّى بها قضاة أربعة. ولمّا وقّع ولايته القضاء من كلّ مذهب بدمشق اتّفق أنّه كان لقب ثلاثة قضاة منهم شمس الدين، وهم: قاضى القضاة شمس «1» الدين أحمد بن محمد بن خلّكان الشافعىّ. وقاضى القضاة شمس الدين عبد «2» الله بن محمد بن عطا الأذرعىّ الحنفى. وقاضى القضاة شمس «3» الدين عبد الرحمن ابن الشيخ أبى «4» عمر الحنبلىّ «5» ؛ فقال بعض الشعراء رحمه الله فى هذا المعنى:
أهل الشآم استرابوا ... من كثرة الحكّام
إذ هم جميعا شموس ... وحالهم فى ظلام
وقال غيره:
بدمشق آية قد ... ظهرت للناس عاما
كلّما ولّى» شمس ... قاضيا زادت ظلاما

(7/137)


فتوحاته رحمه الله
ثم سافر الملك الظاهر من مصر إلى البلاد الشامية فى هذه السنة (أعنى سنة أربع وستين) فخرج منها فى يوم السبت مستهلّ شعبان، وجعل نائبه بديار مصر ولده الملك السعيد، وجعل الجيش فى خدمته والوزير بهاء الدين بن حنّا؛ وسار الملك الظاهر حتّى نزل عين جالوت وبعث عسكرا مقدّمه الأمير جمال الدين أيدغدىّ العزيزىّ، ثم عسكرا آخر مقدّمه الأمير سيف الدين قلاوون الألفى للإغارة على بلاد الساحل، فأغاروا على عكّا وصور وطرابلس وحصن الأكراد وسبوا وغنموا ما لا يحصى؛ ثم نزل الملك الظاهر بنفسه على صفد فى ثامن شهر رمضان، ونصب عليها المجانيق، ودام الاهتمام بعمل الآلات الحربيّة إلى مستهلّ شوّال شرع فى الزّحف والحصار وأخذ النّقوب من جميع الجهات إلى أن ملكها بكرة يوم الثلاثاء خامس عشر شوّال؛ واستمرّ الزّحف والقتال ونصب السلالم على القلعة وتسلطت عليها النقوب، والسلطان يباشر ذلك بنفسه، حتّى طلب أهل القلعة الأمان على أنفسهم وطلبوا اليمين على ذلك، فأجلس السلطان الملك الظاهر الأمير كرمون [أغا «1» ] التّتارىّ فى دست السلطنة، وحضرت رسلهم فاستحلفوه فخلف [لهم «2» كرمون التّتارىّ] وهم يظنونه الملك الظاهر، فإنه كان يشبه الملك الظاهر. وكان فى قلب الملك الظاهر منهم حزازة، ثم شرط عليهم ألّا يأخذوا معهم من أموالهم شيئا. فلمّا كان يوم الجمعة ثامن عشر شوّال طلعت السناجق على قلعة صفد، ووقف الملك الظاهر بنفسه على بابها وأخرج من كان فيها من الخيّالة والرجّالة والفلاحين؛ ودخل الأمير بدر الدين بيليك الخازندار وتسلّمها، واطّلع على أنّهم أخذوا شيئا كثيرا من التّحف

(7/138)


له قيمة، فأمر الملك الظاهر بضرب رقابهم فضربت على تلّ هناك، وكتبت البشائر بهذا النصر إلى مصر والأقطار، وزيّنت الديار المصريّة لذلك. ثم أمر الملك الظاهر بعمارة قلعة صفد وتحصينها ونقل الذخائر إليها والأسلحة، وأزال دولة الكفر، منها، ولله الحمد، وأقطع بلدها لمن رتّبه لحفظها من الأجناد، وجعل مقدّمهم الأمير علاء الدين الكبكى «1» ، وجعل فى نيابة السلطنة بالمدينة الأمير عزّ الدين العلائىّ، وولاية القلعة للأمير مجد الدين الطّورىّ.
ثم رحل الملك الظاهر إلى دمشق فى تاسع «2» عشر شوّال. ولمّا كان الملك الظاهر نازلا بصفد وصل إليه رسول صاحب صهيون بهديّة جليلة ورسالة مضمونها الاعتذار من تأخيره عن الحضور، فقبل الملك الظاهر الهديّة والعذر. ثمّ وصلت رسل صاحب سيس «3» أيضا بهديّة فلم يقبلها ولا سمع رسالتهم. ثم وصلت البريديّة «4» من متولّى قوص ببلاد الصّعيد بخبر أنّه استولى على جزيرة سواكن «5» وأنّ صاحبها هرب، وأرسل يطلب من الملك الظاهر الدخول فى الطاعة وإبقاء سواكن عليه، فرسم

(7/139)


له الملك الظاهر بذلك. ثم رحل الملك الظاهر من دمشق يوم السبت ثالث ذى القعدة وأمر العساكر بالتقدّم إلى بلاد سيس للإغارة عليها، وقدّم عليهم الملك المنصور «1» صاحب حماة وتدبير الأمور راجع إلى الأمير آق سنقر الفارقانىّ، فساروا حتّى وصلوا إلى الدّربند «2» الذي يدخلون منه إليها، وكان صاحبها قد بنى عليها أبرجة فيها المقاتلة؛ فلمّا رأوا العسكر تركوها ومضوا فأخذها المسلمون وهدموها، ودخلوا بلاد سيس فنهبوا وأسروا وقتلوا؛ وكان فيمن أسر ابن صاحب سيس وابن أخته وجماعة من أكابرهم، ودخلوا المدينة يوم السبت ثانى عشر ذى القعدة وأخذوا منها ما لا يحصى كثرة، وعادوا نحو دمشق. فلمّا قاربوها خرج الملك الظاهر لتلقّيهم فى ثانى ذى الحجّة، واجتاز بقارة «3» فى سادسه، فأمر بنهبها وقتل من فيها من الفرنج، فإنّهم كانوا يخيفون «4» السبيل ويستأسرون المسلمين، فأراح الله منهم وجعلت كنيستها جامعا، ورتّب بقارة خطيبا وقاضيا، ونقل إليها الرعية من المسلمين؛ ثم التقى العساكر وخلع عليهم وعاد معهم، فدخل دمشق، والغنائم والأسرى بين يديه، فى يوم الاثنين خامس «5» عشر شهر ذى الحجّة فأقام بها مدّة. ثم خرج منها طالبا الكرك فى مستهلّ المحرّم سنة خمس وستين وستّمائة، وأمر الملك الظاهر بعد خروجه من دمشق بعمارة جسر «6»

(7/140)


بالغور على [نهر «1» ] الشّريعة؛ وكان المتولّى لعمارته جمال الدين محمد بن نهار «2» وبدر الدين محمد بن رحال وهما من أعيان الأمراء؛ ولمّا تكامل عمارته اضطرب بعض أركانه، فقلق الملك الظاهر لذلك وأعاد الناس لإصلاحه فتعذّر ذلك لزيادة الماء، فاتّفق وقوف الماء عن جريانه حتّى أمكن إصلاحه؛ فلمّا تمّ إصلاحه عاد الماء إلى حاله؛ قيل إنّه كان وقع فى النهر قطعة كبيرة مما يجاوره من الأماكن العالية فسدّته من غير قصد. وهذا من عجيب الاتّفاق.
ثمّ عاد الملك الظاهر إلى ديار مصر وعند «3» عوده إليها وصل إليه رسل صاحب اليمن الملك المظفر «4» [شمس الدين] يوسف بن عمر ومعهم فيل وحمار وحش أبيض وأسود وخيول وصينى وتحف، وطلب معاضدة الملك الظاهر له وشرط له أن يخطب له ببلاده. ثمّ خرج السلطان فى يوم السبت فى ثانى جمادى الآخرة إلى بركة الجب «5» عازما على قصد الشام على حين غفلة، وجعل نائب السلطنة على مصر الأمير بيليك

(7/141)


الخازندار، ورحل فى سابع الشهر، فوردت عليه رسل صاحب يافا فى الطريق فاعتقلهم، وأمر العسكر بلبس آلة الحرب ليلا وسار فأصبح يافا، وأحاط بها من كل جانب، فهرب من كان فيها من الفرنج إلى قلعتها، فملك السلطان المدينة وطلب أهل القلعة الأمان، فأمّنهم وعوّضهم عما نهب لهم أربعين ألف درهم، فركبوا فى المراكب إلى عكّا؛ وكان أخذ قلعة يافا فى الثانى والعشرين من الشهر المذكور وأمر بهدمها؛ فلمّا فرغ السلطان من هدمها رحل عنها يوم الأربعاء ثانى عشر «1» شهر رجب طالبا للشّقيف «2» ، فنزل عليه يوم الثلاثاء وحاصرها حتّى تسلّمها يوم الأحد تاسع عشرين رجب؛ وكان الملك الظاهر أيضا ملك الباشورة «3» بالسيف فى السادس والعشرين منه؛ ثم رحل الملك الظاهر عنها بعد أن رتّب بها عسكرا فى عاشر شعبان، وبعث أكثر أثقاله إلى دمشق وسار إلى طرابلس فشنّ عليها الغارة وأخرب قراها وقطع أشجارها وغوّر أنهارها. ثم رحل «4» إلى حصن الأكراد ونزل بالمرج الذي تحته، فحضر إليه رسول من فيه بإقامة وضيافة، فردّها عليه وطلب منهم دية رجل من أجناده، كانوا قتلوه، مائة ألف دينار فأرضوه. فرحل إلى حمص ثم إلى حماة ثم

(7/142)


إلى أفامية «1» ثم سار ونزل منزلة أخرى؛ ثم رحل ليلا وأمر العسكر بلبس آلة الحرب، ونزل أنطاكية فى غرّة شهر رمضان، فخرج إليه جماعة من أهلها يطلبون الأمان وشرطوا شروطا لم يجب إليها، وزحف عليها فملكها يوم السبت رابع الشهر؛ ورتّب على أبوابها جماعة من الأمراء لئلّا يخرج أحد من الحرافشة بشىء من النهب، ومن يوجد معه شىء يؤخذ منه، فجمع من ذلك ما أمكن جمعه وفرّقه على الأمراء والأجناد بحسب مراتبهم. وحصر من قتل بأنطاكية فكانوا فوق الأربعين ألفا، وأطلق جماعة من المسلمين كانوا فيها أسراء من الحلبيّين، وكتب البشائر بذلك إلى مصر وإلى سائر الأقطار. وأنطاكية: مدينة عظيمة مشهورة، مسافة سورها اثنا عشر ميلا، وعدد أبراجها مائة وستة وثلاثون برجا، وعدد شرفاتها أربع وعشرون ألفا. ولم يفتحها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب- رحمه الله- فيما فتح «2» .
قلت: كم ترك الأوّل للآخر!
ولمّا ملك الملك الظاهر أنطاكية وصل إليه قصّاد من أهل القصير «3» يطلبون تسليمها إليه، فسيّر السلطان الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقانىّ بالعساكر إليها فوصلها

(7/143)


ووجد أكثر أهلها قد برح منها، فتسلّمها فى ثالث عشر شهر رمضان؛ وكان قد تسلّم دركوش «1» بواسطة فخر الدين الجناحىّ فى تاسع شهر رمضان وعاد إلى دمشق، فدخلها فى سابع عشرين شهر رمضان، وعيّد السلطان بقلعة دمشق. ثم عاد إلى القاهرة فدخلها آخر نهار الأربعاء حادى عشر ذى الحجّة. وبعد وصوله بمدّة جلس فى الإيوان بقلعة الجبل يوم الخميس تاسع «2» صفر، وأحضر القضاة والشهود والأعيان وأمر بتحليف الأمراء ومقدّمى الحلقة لولده الملك السعيد بركة خان [بولاية «3» عهده وخليفته من بعده] فحلفوا. ثم ركب الملك السعيد يوم الاثنين العشرين من الشهر بأبّهة السلطنة فى القلعة ومشى والده أمامه، وكتب تقليد «4» [له «5» ] وقرئ على الناس بحضور الملك الظاهر وسائر أرباب الدولة.
ثم فى يوم السبت ثانى عشر «6» جمادى الآخرة خرج الملك الظاهر من القاهرة متوجّها إلى الشام ومعه الأمراء بأسرهم جرائد، واستناب بالديار المصريّة فى خدمة ولده الأمير بدر الدين بيليك الخازندار. ومن هذا التاريخ علّم الملك السعيد على التواقيع وغيرها: ولمّا «7» صار الملك الظاهر بدمشق وصلت إليه كتب التّتار ورسلهم، والرسل: محبّ الدين دولة خان، وسيف الدين سعيد ترجمان وآخر، ومعهم جماعة من أصحاب سيس، فأنزلهم السلطان بالقلعة وأحضرهم من الغد وأدّوا الرسالة

(7/144)


ومضمونها «1» : أنّ الملك أبغا «2» بن هولاكو لمّا خرج من الشرق ملك جميع البلاد ومن خالفه قتل وأنت (يعنى للملك الظاهر) لو صعدت إلى السماء أو هبطت إلى الأرض ما تخلص منّا، فالمصلحة أن تجعل بيننا صلحا، وأنت مملوك أبعت فى سيواس فكيف تشاقق ملوك الأرض وأولاد ملوكها! فأجابه فى وقته بأنّه فى طلب جميع ما استولوا عليه من العراق والجزيرة والروم والشام وسفّرهم إليه بسرعة. ثم فى آخر شهر رجب خرج الملك الظاهر من دمشق ونزل خربة «3» اللّصوص فأقام بها أيّاما؛ ثم ركب ليلة الاثنين ثامن عشر شعبان ولم يشعر به أحد وتوجّه إلى القاهرة على البريد بعد أن عرّف الفارقانىّ أنّه يغيب أيّاما معلومة، وقرّر معه أنه يحضر الأطبّاء كلّ يوم ويستوصف منهم ما يعالج به متوعّك يشكو تغيير مزاجه، ليوهم الناس أنّ الملك الظاهر هو المتوعّك؛ فكان يدخل ما يصفونه «4» إلى الجيمة ليوهم العسكر صحّة ذلك، وسار الملك الظاهر حتّى وصل قلعة الجبل ليلة الخميس حادى عشرين شعبان، فأقام بالقاهرة أربعة أيّام؛ ثم توجّه ليلة الاثنين خامس عشرين الشهر على البريد، فوصل إلى العسكر يوم تاسع عشرين الشهر. وكان غرضه بهذا السّفر كشف أحوال ولده الملك السعيد وغير ذلك. ثم فى يوم الأحد سادس عشر «5» شهر رمضان

(7/145)


تسلّم نوّاب الملك الظاهر قلعة بلاطنس «1» وقلعة كرابيل «2» من عزّ الدين أحمد بن مظفّر الدين عثمان «3» بن منكورس صاحب صهيون «4» ، وعوّضه غيرهما قرية تعرف بالخميلة «5» من أعمال شيزر «6» . ثم فى يوم الخميس العشرين من شهر رمضان توجّه الملك الظاهر إلى صفد فأقام بها يومين ثم شنّ الغارة على بلد صور، وأخذ منها شيئا كثيرا. ثم عاد الملك الظاهر إلى دمشق وعيّد «7» بها. ثم خرج منها فى خامس عشرين شوّال يريد الكرك فوصله فى أوائل ذى القعدة. ثم توجّه فى سادسه إلى الحجاز، وصحبته بيليك الخازندار والقاضى صدر الدين سليمان الحنفى وفخر الدين إبراهيم بن لقمان وتاج الدين ابن الأثير ونحو ثلثمائة مملوك وجماعة من أعيان الحلقة، فوصل المدينة الشريفة فى العشر الأخير من الشهر فأقام بها ثلاثة أيام، وكان جمّاز «8» قد طرق المدينة وملكها، فلمّا قدم الظاهر هرب؛ فقال الملك الظاهر: لو كان جمّاز يستحقّ القتل ما قتلته! لأنه فى حرم النّبيّ صلّى الله عليه وسلم؛ ثم تصدّق فى المدينة بصدقات كثيرة، وخرج منها متوجّها إلى مكّة فوصلها فى ثامن ذى الحجّة، فخرج إليه أبو نمىّ وعمّه إدريس صاحبا مكّة، وبذلا له الطاعة فخلع عليهما وسارا بين يديه إلى عرفات، فوقف بها يوم الجمعة ثم عاد إلى منّى، ثم إلى مكّة وطاف بها طواف الإفاضة، وصعد الكعبة

(7/146)


وغسلها بماء الورد وطيّبها بيده، وأقام يوم الاثنين ثم ركب وتوجّه إلى المدينة الشريفة، فزار بها قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثانيا. ثم توجّه إلى الكرك فوصله فى يوم الخميس تاسع عشرين ذى الحجة فصلّى به الجمعة. ثم توجّه إلى دمشق فوصل يوم الأحد ثانى المحرّم سنة ثمان وستين وستمائة فى السّحر، فحرج الأمير جمال الدين آقوش فصادفه فى سوق الخيل واجتمع به. ثم سار إلى حلب فوصلها فى سادس المحرّم؛ ثم خرج منها فى عاشره وسار «1» إلى حماة ثم إلى دمشق ثم إلى مصر، وصحبته الأمير عزّ الدين الأفرم فدخلها يوم الأربعاء رابع «2» صفر، واتّفق ذلك اليوم دخول ركب الحاجّ، وكانت العادة يوم ذاك بدخول الحاج إلى القاهرة بعد عاشر صفر، فأقام الملك الظاهر بالقاهرة أيّاما، وخرج منها فى صفر المذكور إلى الإسكندرية ومعه ولده الملك السعيد وسائر الأمراء فصيّد أيّاما وعاد إلى نحو القاهرة فى يوم الثلاثاء ثامن شهر ربيع الأوّل، وخلع فى هذه السّفرة على الأمراء وفرّق فيهم الخيل والحوائص الذهب والسيوف المحلّاة والذهب والدراهم والقماش وغير ذلك، فلم يقم بالقاهرة إلا مدّة يسيرة، وخرج منها متوجّها إلى الشام فى يوم الاثنين حادى عشرين شهر ربيع الأوّل فى طائفة يسيرة من أمرائه وخواصّه، فوصل إلى دمشق فى يوم الثلاثاء سابع «3» شهر ربيع الآخر، ولقى أصحابه فى الطريق مشقّة شديدة من البرد. ثم خرج عقيب ذلك إلى الساحل «4» وأسر ملك عكّا؛ وقتل وأسر وسبى. ثم

(7/147)


قصد الغارة على المرقب «1» فوجد من الأمطار والثلوج ما منعه، فرجع إلى حمص فأقام بها نحو عشرين يوما. ثم خرج إلى جهة حصن «2» الأكراد ونزل تحتها، وأقام يركب كلّ يوم ويعود من غير قتال إلى الثامن والعشرين من شهر رجب، فبلغه أنّ مراكب الفرنج دخلت ميناء الإسكندرية وأخذت «3» مركبين للمسلمين، فرحل من فوره إلى نحو الديار المصريّة فوصلها ثانى عشر شعبان، فحين دخوله إلى مصر امر بعمارة القناطر التى على بحر أبى المنجّا «4» ، وهى من المبانى العجيبة فى الحسن والإتقان؛ وبينما هو فى ذلك ورد عليه البريد من الشام أنّ الفرنج قاصدون الساحل، والمقدّم عليهم

(7/148)


شارل «1» أخو ريدا «2» فرنس، وربّما كان محطّهم عكّا؛ فتقدّم الملك الظاهر إلى العسكر بالتوجّه إلى الشام. ثم ورد الخبر أيضا بأنّ اثنى عشر مركبا للفرنج عبروا على الإسكندرية ودخلوا ميناءها وأخذوا مركبا للتّجار واستأصلوا ما فيه وأحرقوه، ولم يجسر والى الإسكندرية أن يخرج الشوانى من الصناعة لغيبة رئيسها فى مهمّ استدعاه الملك الظاهر بسببه. ولمّا بلغ الملك الظاهر ذلك بعث أمر بقتل الكلاب فى الإسكندرية وألّا يفتح أحد حانوتا بعد المغرب ولا يوقد نارا فى البلد ليلا، ثم تجهّز بسرعة وخرج نحو دمياط يوم الخميس خامس ذى القعدة فى البحر. وفى ذى الحجّة أمر السلطان بعمل جسرين: أحدهما من مصر إلى الجزيرة «3» (أعنى الروضة) ، والآخر من الجزيرة إلى الجيزة على مراكب لتجوز العساكر عليهما. ثم عاد الملك الظاهر من دمياط بسرعة ولم يلق حربا؛ وخرج من مصر إلى عسقلان فى يوم السبت عاشر صفر سنة تسع وستين وستمائة فى جماعة يسيرة من الأمراء والأجناد، فوصل إلى عسقلان وهدم من سورها ما كان أهمل هدمه فى أيّام الملك الصالح، ووجد فيما هدم كوزان مملوءان ذهبا مقدار ألفى دينار ففرّقها على من صحبه، وورد عليه الخبر وهو بعسقلان بأنّ عسكر ابن أخى بركة خان المغلىّ كسر عسكر أبغا بن هولاكو، فسرّ الملك الظاهر بذلك سرورا زائدا. وعاد إلى مصر يوم السبت ثامن شهر ربيع الأوّل. وفى هذه السنة انتهى الجسر والقناطر الذي عمل على بحر أبى المنجا، ووقف عليه الملك الظاهر وقفا يعمر منه ما دثر منه على طول السنين. وفى هذه

(7/149)


السنة أيضا بنى الملك الظاهر جامع المنشيّة «1» ، وأقيمت فيه الخطبة يوم «2» الجمعة ثامن عشرين شهر ربيع الآخر من سنة تسع وستين وستمائة المذكورة. ثم فى السنة المذكورة أيضا خرج الملك الظاهر من الديار المصريّة متوجّها إلى نحو حصن الأكراد فى ثانى عشر جمادى الآخرة، ودخل دمشق يوم الخميس ثامن شهر رجب، وكان معه فى هذه السّفرة ولده الملك السعيد والصاحب بهاء الدين بن حنّا، واستخلف بمصر الأمير شمس الدين اقسنقر الفارقانىّ، وفى الوزارة الصاحب تاج الدين ابن حنّا. ثمّ خرج الملك الظاهر من دمشق فى يوم السبت عاشره وتوجّه بطائفة من العسكر إلى جهة، وولده وبيليك الخازندار بطائفة أخرى إلى جهة، وتواعدوا الاجتماع فى يوم واحد بمكان معيّن ليشنّوا الغارة على جبلة «3» واللّاذقيّة «4» والمرقب»
وعرقة «6» ومرقيّة «7» والقليعات «8» وصافيثا «9» والمجدل وأنطرطوس «10» ، فلمّا اجتمعوا [على] أن يشنّوا الغارة فتحوا صافيثا والمجدل، ثم ساروا ونزلوا حصن الأكراد يوم الثلاثاء تاسع «11» عشر شهر رجب من سنة تسع وستين وستمائة؛ وأخذوا فى نصب المجانيق وعمل

(7/150)


الستاير «1» ، ولهذا الحصن ثلاثة أسوار؛ فاشتدّ عليه الزحف والقتال وفتحت الباشورة الأولى يوم الخميس حادى عشرين الشهر، وفتحت الثانية يوم السبت سابع شعبان، وفتحت الثالثة الملاصقة للقلعة فى يوم الأحد خامس عشره، وكان المحاصر لها الملك السعيد ابن الملك الظاهر ومعه بيليك الخازندار وبيسرى، ودخلت العساكر البلد بالسيف وأسروا من فيه من الجبليّة والفلّاحين ثم أطلقوهم. فلمّا رأى أهل القلعة ذلك أذعنوا بالتسليم وطلبوا الأمان، فأمّنهم الملك الظاهر وتسلّم القلعة يوم الاثنين ثالث «2» عشرين شعبان، وكتبت البشائر بهذا الفتح إلى الأقطار، وأطلق الملك الظاهر من كان فيها من الفرنج فتوجّهوا إلى طرابلس. ثم رحل الملك الظاهر بعد أن رتّب الأمير عزّ الدين أيبك الأفرم لعمارته، وأقيمت فيه الجمعة، ورتّب نائبا وقاضيا. ولمّا وقع ذلك بعث صاحب أنطرطوس إلى الملك الظاهر يطلب المهادنة، وبعث إليه بمفاتيح أنطرطوس فصالحه على نصف ما يتحصّل من غلال بلده، وجعل عندهم نائبا من قبله. ثم صالح صاحب المرقب على المناصفة أيضا، وذلك فى يوم الاثنين مستهلّ شهر رمضان من سنة تسع وستين، وقرّرت الهدنة عشر سنين وعشرة أشهر وعشرة أيّام.
ثم سار الملك الظاهر فى يوم الأحد رابع عشر شهر رمضان فأشرف على حصن ابن «3» عكّار، وعاد إلى المرج «4» فأقام به إلى أن سار ونزل على الحصن المذكور ثانيا فى يوم الاثنين ثانى عشرين شهر رمضان، ونصب المجانيق عليه فى يوم الثلاثاء،

(7/151)


وفى يوم الأحد ثامن «1» عشرينه رمى المنجنيق الذي قبالة الباب الشرقىّ رميا كثيرا فخسف خسفا كبيرا إلى جانب البدنة، ودام ذلك إلى اللّيل فطلبوا الأمان على أنفسهم من القتل وأن يمكّنهم من التوجّه إلى طرابلس فأجابهم، فخرجوا يوم الثلاثاء سلخ الشهر؛ وكتبت البشائر بالفتح والنصر إلى سائر الأقطار. ثم فى يوم السبت رابع شوّال خيّم السلطان الملك الظاهر بعساكر [هـ] على طرابلس فسيّر صاحبها «2» إليه يستعطفه فبعث إليه الملك الظاهر [فارس «3» الدين] الأتابك [و «4» ] سيف الدين [بلبان «5» ] الرومىّ على أن يكون له من أعمال طرابلس نصف بالسويّة، وأن يكون له دار وكالة فيها، وأن يعطى جبلة واللّاذقيّة بخراجهما من يوم خروجهما عن الملك الناصر إلى يوم تاريخه، وأن يعطى نفقات العساكر من يوم خروجه؛ فلمّا علم الرساله عزم على القتال وحصّن طرابلس، فنصب الملك الظاهر المجانيق؛ ثم تردّدت الرّسل ثانيا وتقرر الصلح أن تكون عرقة وجبلة «6» وأعمالها للبرنس صاحب طرابلس، وأن يكون ساحل «7» أنطرطوس والمرقب وبانياس وبلاد هذه النواحى بينه وبين الدّاويّة «8» ، والتى كانت خاصا لهم، وهى بارين «9» وحمص القديمة تعود خاصا للملك الظاهر، وشرط أن تكون عرقة وأعمالها، وهى ست وخمسون قرية، صديقة من الملك الظاهر عليه، فتوقّف صاحب طرابلس وأنف؛ فلمّا بلغ الملك الظاهر امتناعه صمّم على ما شرط عليه حتى أجابه، وعقد الصلح بينهما مدّة عشر سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام.

(7/152)


وفى يوم السبت حادى عشر شوّال رحل الملك الظاهر عن مرج صافيثا، وأذن إلى صاحب حماة وصاحب حمص بالعود إلى بلادهم، وسار الظاهر حتى دخل دمشق يوم الأربعاء خامس عشر شوّال، وعزل القاضى شمس الدين أحمد بن خلّكان عن قضاء دمشق، وكانت مدّة ولايته عشر سنين، وولّى عوضه القاضى عزّ «1» الدين محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق المعروف بابن الصائغ. ثم فى يوم الجمعة رابع «2» عشرين شوّال خرج الملك الظاهر من دمشق قاصدا القرين «3» ، فنزل عليه يوم الاثنين سابع «4»
عشرين الشهر، ونصب عليه المجانيق، ولم يكن به نساء ولا أطفال بل مقاتلة، فقاتلوا قتالا شديدا، وأخذت النّقوب للحصن من كلّ جانب، فطلب من فيه الأمان، فأمّنوا يوم الاثنين ثالث عشر ذى القعدة، وتسلّم السلطان الحصن بما فيه من السلاح ثمّ هدمه، وكان بناؤه من الحجر الصّلد وبين كلّ حجرين عود حديد ملزوم بالرصاص، فأقاموا فى هدمه اثنى عشر يوما وفى حصاره خمسة عشر يوما.
وفى يوم الاثنين سادس عشرين «5» الشهر نزل الملك الظاهر على كردانة قرية قريبة من عكّا، ولبس العسكر وسار إلى عكّا وأشرف عليها، ثم عاد إلى منزله. ثمّ رحل منها يوم الثلاثاء قاصدا مصر، فدخلها يوم الخميس ثالث عشر ذى الحجّة، وكان جملة ما صرفه الملك الظاهر فى هذه السّفرة من حين خروجه من مصر إلى حين عوده إليها ما ينيف على مائة «6» ألف دينار وثمانين ألف دينار عينا. وفى اليوم الثانى من وصوله إلى قلعة الجبل قبض على جماعة من الأمراء منهم: الأمير علم الدين سنجر

(7/153)


الحلبىّ الكبير، الذي كان تسلطن بدمشق فى أوّل سلطنة الملك الظاهر بيبرس، والأمير جمال الدين آقوس المحمّدىّ، والأمير جمال الدين أيدغدى الحاجبىّ الناصرىّ، والأمير شمس الدين سنقر المسّاح «1» والأمير سيف الدين بيدغان «2» الرّكنى والأمير علم الدين سنجر طرطح وغيرهم، وحبسوا الجميع بقلعة الجبل؛ وسبب ذلك أنّه بلغه أنّهم تآمروا على قبضه لمّا كان بالشّقيف، فأسّرها فى نفسه إلى وقتها. وكان بلغ الملك الظاهر وهو على حصن الأكراد أنّ صاحب قبرص خرج منها فى مراكبه إلى عكا، فأراد السلطان اغتنام خلوّها، فجّهز سبعة عشر شينيّا، فيها الرئيس ناصر الدين عمر بن منصور رئيس مصر وشهاب الدين محمد بن إبراهيم بن عبد السلام رئيس الإسكندرية، وشرف [الدين «3» ] علوى بن أبى المجد بن علوى العسقلانى رئيس دمياط، وجمال الدين مكّى بن حسّون مقدّما على الجميع؛ فوصلوا الجزيرة ليلا، فهاجت عليهم ريح طردتهم عن المرسى، وألقت بعض الشّوانى على بعض، فتحطّم منها أكثر من أحد عشر شينيّا وأخذ من فيها من الرجال والصنّاع أسراء، وكانوا زهاء ألف وثمانمائة نفس، وسلم الرئيس ناصر الدين وابن حسّون فى الشّوانى السالمة، وعادت إلى مراكزها؛ فعظم ذلك على الملك الظاهر بيبرس إلى الغاية.
وفى يوم الاثنين سابع عشر ذى الحجّة أمر الملك الظاهر بإراقة الخمور فى سائر بلاده، وأوعد من يعصرها بالقتل، فأريق على الأجناد والعوامّ منها ما لا تحصى قيمته، وكان ضمان ذلك فى ديار مصر خاصّة ألف دينار فى كلّ يوم، وكتب بذلك توقيع قرئ على منبر مصر والقاهرة. وفى العشر الأخير من ذى الحجّة اهتمّ الملك

(7/154)


الظاهر بإنشاء شوان عوضا عمّا ذهب على قبرص، وانتهى العمل من الشوانى فى يوم الأحد رابع عشر المحرّم سنة سبعين، وركب السلطان إلى الصّناعة «1» لإلقاء الشّوانى فى بحر النيل، وركب السلطان فى شينىّ منها ومعه الأمير بدر الدين بيليك الخازندار، فلمّا صار الشّينى فى الماء مال بمن فيه فوقع الخازندار منه إلى البحر، فنهض بعض رجال الشّينى ورمى بنفسه خلفه فأدركه وأخذ بشعره وخلّصه، وقد كاد يهلك، فخلع عليه الملك الظاهر وأحسن إليه.
وفى ليلة السبت السابع والعشرين منه خرج الملك الظاهر من الديار المصريّة إلى الشام فى نفر يسير من خواصّه وأمرائه ودخل حصن الكرك، وخرج منه وصحب معه نائبه الأمير عزّ الدين أيدمر وسار إلى دمشق، فوصل إليه يوم الجمعة ثانى عشر صفر، فعزل عنها الأمير جمال الدين آقوش النّجيبىّ، وولّى مكانه الأمير عزّ الدين أيدمر المعزول عن نيابة الكرك. ثم خرج منها إلى حماة فى سادس عشره ثم عاد منها فى السادس والعشرين.
وفيها أمر ملك التّتار أبغا بن هولاكو عساكره بقصد البلاد الشاميّة، فخرج عسكره فى عدّة عشرة آلاف فارس وعليهم الأمير صمغرا «2» والبرواناه «3» ، فلمّا بلغهم أنّ الملك الظاهر بالشام أرسلوا ألفا وخمسمائة من المغل ليتجسّسوا الأخبار ويغيروا

(7/155)


على أطراف بلاد حلب، وكان مقدّمهم أمال «1» بن بيجونوين «2» ووصلت غارتهم إلى عينتاب «3» ثم إلى قسطون «4» ووقعوا على تركمان نازلين بين حارم وأنطاكية فاستأصلوهم؛ فتقدّم الملك الظاهر بتجفيل البلاد ليحمل التّتار الطمع فيدخلوا فيتمكّن منهم. وبعث إلى مصر بخروج العساكر فخرجت ومقدّمها الأمير بيسرى، فوصلوا إلى السلطان فى خامس «5» الشهر وخرج بهم فى السابع منه، فسبق إلى التّتار خبره، فولّوا على أعقابهم. وكان الظاهر لمّا مرّ بحماة استصحب معه الملك المنصور صاحب حماة، ونزل الظاهر حلب يوم الاثنين ثانى عشر شهر ربيع الآخر «6» من سنة سبعين وستمائة وخيّم بلليدان الأخضر، ثم جهّز الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقانىّ فى عسكر وأمره أن يمضى إلى بلاد حلب الشماليّة ولا يتعرّض ببلاد صاحب سيس، وجهّز الأمير علاء الدين طيبرس الوزيرىّ فى عسكر وأمره بالتوجّه إلى حرّان. فأمّا الفارقانىّ فإنه سار خلف التّتار إلى مرعش «7» فلم يجد منهم أحدا، تم عاد إلى حلب فوجد الملك الظاهر مقيما بها، وقد أمر بإنشاء دار شمالىّ القلعة كانت تعرف بدار الأمير بكتوت، أستادار الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب واضاف إليها دارا أخرى، ووكّل بعمارتها الأمير عزّ الدين آقوش الأفرم.
ولمّا عاد الفارقانىّ إلى حلب رحل الملك الظاهر منها نحو الديار المصريّة فى ثامن عشرين شهر ربيع الآخر، ودخل مصر فى الثالث والعشرين من جمادى الأولى.

(7/156)


ولمّا وصل الظاهر إلى مصر قبض على الأمراء الذين كانوا مجرّدين على قاقون «1» بسبب الفرنج لمّا أغاروا على الساحل ما عدا آقوش الشّمسىّ ثم شفع فيهم فأطلقهم.
وفى يوم الأربعاء ثالث جمادى الآخرة عدّى الملك الظاهر إلى برّ الجيزة فأخبر أن ببوصير «2» السّدر مغارة فيها مطلب، فجمع لها خلقا فحفروا مدى بعيدا، فوجدوا قطاطا ميتة وكلاب صيد وطيورا وغير ذلك من الحيوانات ملفوفا فى عصائب وخرق، فإذا حلّت اللفائف ولاقى الهواء ما كان فيها صار هباء منثورا؛ وأقام الناس ينقلون من ذلك مدّة ولم ينفد ما فيها، فأمر الملك الظاهر بتركها وعاد من الجيزة.
وفى يوم السبت سابع عشرين جمادى الآخرة ركب السلطان الملك الظاهر إلى الصّناعة «3» ليرى الشوانى التى عملت وهى أربعون شينيّا فسرّ بها. وعند عوده إلى القلعة ولدت زرافة بقلعة الجبل [وهذا «4» أمر لم يعهد] وأرضع ولدها لبن بقرة.
ثم سافر الملك الظاهر إلى الشام فى شعبان وسار حتى وصل الساحل وخيّم بين قيساريّة وأرسوف، وكان مركّزا بها الفارقانىّ فرحل الفارقانىّ عنها إلى مصر.
ثم إنّ الملك الظاهر شنّ الغارة على عكا، فطلب منه أهلها الصلح وتردّدوا فى ذلك حتى تقرّرت الهدنة بينهم مدّة عشر سنين وعشرة أشهر وعشرة أيّام وعشر ساعات، أوّلها ثانى عشرين شهر رمضان سنة سبعين وستمائة.

(7/157)


ثم رحل الملك الظاهر إلى خربة اللّصوص، ثم سار منها إلى دمشق فدخلها فى الثامن من شوّال؛ وبينما هو فى دمشق تردّدت الرسل بينه وبين التّتار وانفصل الأمر من غير اتّفاق. وفى ذى الحجّة توجّه الملك الظاهر من دمشق إلى حصن الأكراد لينقل حجارة المجانيق إليها «1» ورؤية ما عمّر فيها ففعل «2» ذلك. ثم سار إلى حصن عكّار «3» فأشرف عليها. ثم عاد إلى دمشق فى خامس المحرّم من سنة إحدى وسبعين وستمائة، وفى ثانى عشر المحرّم المذكور أفرج «4» الملك الظاهر عن الأمير أيبك النّجيبى الصغير، وأيدمر الحلّىّ العزيزىّ وكانا محبوسين بالقاهرة. ثم خرج الملك الظاهر من دمشق فى المحرم أيضا عائدا إلى الديار المصريّة وصحبته الأمير بدر الدين بيسرىّ والأمير آقوش الرومىّ وجرمك «5» الناصرىّ، فوصل إليها فى يوم السبت ثالث عشرين المحرّم، فأقام بالقاهرة إلى ليلة الجمعة تاسع عشرينه، خرج من مصر وتوجّه إلى دمشق فدخل قلعتها ليلة الثلاثاء رابع صفر، فأقام بدمشق إلى خامس جمادى الأولى اتّصل به أنّ فرقة من التّتار قصدت الرّحبة، فبرز إلى القصير «6» فبلغه أنّهم عادوا من الرّحبة ونزلوا على البيرة، فسار إلى حمص وأخذ مراكب الصيّادين على الجمال ليجوز عليها، ثم سار حتّى وصل إلى الباب من أعمال حلب،

(7/158)


وبعث جماعة من الأجناد والعربان لكشف أخبارهم، وسار إلى منبج فعادوا وأخبروا أنّ طائفة من التّتار مقدار ثلاثة آلاف فارس على شطّ الفرات ممّا يلى الجزيرة، فرحل «1» عن منبج يوم الأحد ثامن عشر جمادى الأولى ووصل شطّ الفرات، وتقدّم إلى العسكر بخوضها، فخاض الأمير سيف الدين قلاوون الألفىّ والأمير بدر الدين بيسرى فى أوّل الناس، ثم تبعهما هو بنفسه وتبعته العساكر، فوقعوا على التّتار فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأسروا تقدير مائتى نفس ولم ينج منهم إلّا القليل، وتبعهم بيسزى إلى قريب «2» سروج ثم عاد. وكان على «3» البيرة جماعة كثيرة من عسكر التّتار، وكانوا قد أشرفوا على أخذها، فلمّا بلغهم الخبر رحلوا عن البيرة؛ ودخلها السلطان فى ثانى عشرين الشهر وخلع على نائبها وفرّق فى أهلها مائة ألف درهم، وأنعم عليهم ببعض ما تركه التّتار عندهم لمّا هربوا. ثم رحل الملك الظاهر عنها بعساكره وعاد إلى دمشق. وفى هذه النّصرة قال العلّامة شهاب «4» الدين أبو الثناء محمود كاتب الإنشاء- رحمه الله- قصيدة طنانة؛ أوّلها:
سر حيث شئت لك المهيمن جار ... واحكم فطوع مرادك الأقدار
لم يبق للدين الذي أظهرته ... يا ركنه عند الأعادى ثار
لمّا تراقصت الرءوس وحرّكت ... من مطربات قسّيك الأوتار
خضت الفرات بسابح أقصى منى ... هوج الصّبا من نعله «5» آثار
حملتك أمواج الفرات ومن رأى ... بحرا سواك تقلّه الأنهار
وتقطّعت فرقا ولم يك طودها ... إذ ذاك إلا جشك الجرّار

(7/159)


رشّت دماؤهم الصعيد فلم يطر ... منهم على الجيش السعيد غبار
شكرت مساعيك المعاقل والورى ... والتّرب والآساد والأطيار
هذى منعت وهؤلاء حميتهم ... وسقيت تلك وعمّ ذا الإيسار
فلأملأنّ الدهر فيك مدائحا ... تبقى بقيت وتذهب الأعصار
وهى أطول من ذلك. وقال الشيخ ناصر الدين «1» حسن بن النّقيب الكنانىّ الشاعر- رحمه الله تعالى- قصيدة وكان حاضر الوقعة منها:
ولمّا ترامينا الفرات بخيلنا ... سكرناه «2» منا بالقوى والقوائم
فأوقفت التيّار عن جريانه ... إلى حيث عدنا بالغنى والغنائم
وقال الموفّق «3» عبد الله بن عمر الأنصارى- رحمه الله- وأجاد:
الملك الظاهر سلطاننا ... نفديه بالأموال والأهل
اقتحم الماء ليطفى به ... حرارة القلب من المغل
ثم توجّه الملك الظاهر إلى نحو الديار المصريّة، فخرج ولده الملك السعيد لتلقّيه فى يوم الثلاثاء تاسع عشر جمادى الآخرة، فاجتمع به بين القصير «4» والصالحيّة فى يوم الجمعة ثانى «5» عشرينه، فترجلا واعتنقا طويلا؛ ثم ركبا وسارا جميعا إلى القلعة وبين يديهم أسارى التّتار ركّابا على الخيل، ثم فى سابع شهر رجب أفرج الملك الظاهر عن الأمير عز الدين أيبك الدّمياطى من الاعتقال، وكانت مدّة اعتقاله تسع سنين وعشرة أيام، ثم خلع الملك الظاهر على أمراء الدولة ومقدّمى الحلقة وأعطى،

(7/160)


كلّ واحد منهم ما يليق به من الخيل والذهب والحوائص والثّياب والسيوف، وكان قيمة ما صرفه فيهم فوق ثلثمائة ألف دينار، وفى سادس عشرين شعبان أفرج الملك الظاهر عن الأمير علم الدين سنجر الحلبى الغتمى المعزّىّ. وفى يوم الاثنين ثانى عشر شوّال استدعى الملك الظاهر الشيخ خضرا إلى القلعة وأحضره بين يديه.
قلت: والشيخ خضر هذا هو صاحب الزاوية «1» بالحسينية بالقرب من جامع الظاهر «2» . انتهى. وأحضر معه جماعة من الفقراء حاققوه على أشياء كثيرة منكرة، وكثر

(7/161)


بينه وبينهم فيها المقالة ورموه بفواحش كثيرة ونسبوه إلى قبائح عظيمة؛ فرسم الملك الظاهر باعتقاله، وكان للشيخ خضر المذكور منزلة عظيمة عند الملك الظاهر بحيث إنّه كان ينزل عنده فى الجمعة المرّة والمرّتين ويباسطه ويمازحه ويقبل شفاعته ويستصحبه فى سائر سفراته، ومتى فتح مكانا أفرض له منه أوفر نصيب، فامتدّت يد الشيخ خضر بذلك فى سائر المملكة يفعل ما يختار لا يمنعه أحد من النوّاب، حتّى إنّه دخل إلى كنيسة قمامة «1» ذبح قسّيسها بيده، وانتهب ما كان فيها تلامذته، وهجم كنيسة اليهود بدمشق ونهبها، وكان فيها ما لا يعبّر من الأموال «2» ، وعمرها مسجدا وعمل بها سماعا ومدّ بها سماطا. ودخل كنيسة الإسكندريّة وهى عظيمة عند النصارى فنهبها وصيّرها مسجدا، وسمّاها المدرسة «3» الخضراء وأنفق فى تعميرها مالا كثيرا

(7/162)


من بيت المال. وبنى له الملك الظاهر زاوية بالحسينية ظاهر القاهرة ووقف عليها وحبس عليها أرضا تجاورها تحتكر للبناء. وبنى لأجله جامع الحسينية.
وفى يوم الاثنين سابع المحرّم سنة اثنتين وسبعين وستمائة جلس الملك الظاهر بدار «1» العدل وحكّم بين الناس ونظر فى أمور الرعيّة، فأنصف المظلوم وخلّص الحقوق ومال على القوىّ ورفق بالضعيف. وفى العاشر منه هدمت غرفة على باب قصر من قصور الخلفاء الفاطميّين بالقاهرة، ويعرف هذا الباب بباب «2» البحر، وهو من بناء الخليفة الحاكم بأمر الله منصور المقدّم ذكره، فوجد فى القصر الذي هدم امرأة فى صندوق منقوش عليها كتابة اسم الملك الظاهر «3» بيبرس هذا وصفته، وبقى منها ما لم يمكن قراءته.
وفيها قبض على ملك الكرج «4» وهو أنّه كان قد خرج من بلاده قاصدا زيارة القدس الشريف متنكّرا فى زىّ الرهبان ومعه جماعة يسيرة من خواصّه، فسلك بلاد

(7/163)


الروم إلى سيس فركب البحر إلى عكّا، ثم خرج منها إلى بيت المقدس فاطّلع الأمير بدر الدين الخازندار على أمره وهو على يافا، فبعث إليه من قبض عليه، فلمّا حضر بين يديه بعثه مع الأمير ركن الدين منكورس إلى السلطان؛ وكان السلطان قد توجّه إلى دمشق فوصل إلى دمشق فى رابع عشر جمادى الأولى، فأقبل عليه السلطان وسأله حتى اعترف، فحبسه فى برج من أبراج قلعة دمشق، وأمره أن يبعث من جهته إلى بلاده من يعرّفهم بأسره، فبعث نفرين. وخرج الملك الظاهر من دمشق ثالث عشرين جمادى الآخرة، وقدم القاهرة يوم الخميس «1» سابع شهر رجب من سنة اثنتين وسبعين المذكورة. ثم فى يوم الخميس خامس عشرين شهر رمضان أمر السلطان العسكر أن يركب بالزينة الفاخرة ويلعب فى الميدان تحت القلعة، فاستمرّ ذلك كلّ يوم إلى يوم عيد الفطر ختن السلطان الملك الظاهر ولده خضرا ومعه جماعة من أولاد الأمراء وغيرهم، وكان الملك السعيد ابن الملك الظاهر فى يوم الأربعاء سابع «2» عشر شهر رمضان خرج من القاهرة وتوجّه إلى دمشق ومعه شمس الدين آقسنقر الفارقانىّ وأربعون نفرا من خواصّه على خيل البريد، وعاد إلى القاهرة فى يوم الخميس الرابع والعشرين من شوّال.
وفى يوم الأحد سابع صفر من سنة ثلاث وسبعين وستمائة ركب الملك الظاهر الهجن وتوجّه إلى الكرك ومعه بيسرى وأتامش السّعدى، وسبب توجّهه أن وقع بالكرك برج فأحبّ أن يكون إصلاحه بحضوره. ثم عاد إلى مصر فدخلها فى يوم الثلاثاء ثانى عشرين شهر ربيع الأوّل، فأقام بها مدّة يسيرة. ثم توجّه إلى دمشق وأقام به إلى أن أرسل فى رابع «3» عشرين المحرّم سنة أربع وسبعين وستمائة الأمير

(7/164)


بدر الدين بيليك الخازندار على البريد إلى مصر لإحضار الملك السعيد، فعاد به إلى دمشق فى يوم الأربعاء سادس صفر من السنة. وفى الثالث والعشرين من جمادى الأولى فتح حصن القصير «1» وهو بين حارم وأنطاكية، وكان فيه قسّيس عظيم عند الفرنج يقصدونه للتبرّك به، وكان الملك الظاهر قد أمر التّركمان وبعض العرب بمحاصرته، وبعد أخذه عاد الملك الظاهر إلى مصر فلم تطل مدّته به وعاد إلى دمشق، فدخله يوم ثالث المحرّم من سنة خمس وسبعين، فأقام به مدة يسيرة أيضا، وعاد إلى الديار المصريّة فى يوم الاثنين ثالث شهر ربيع «2» الآخر؛ وأمر بعمل عرس ولده الملك السعيد، واهتمّ فى ذلك إلى يوم الخميس خامس جمادى الأولى أمر العسكر بالركوب إلى الميدان «3» الأسود تحت القلعة فى أحسن زىّ، وأقاموا يركبون كلّ يوم كذلك ويتراكضون فى الميدان، والناس تزدحم للفرجة عليهم خمسة أيام، وفى اليوم السادس افترق الجيش فرقتين، وحملت كلّ فرقة على الأخرى وجرى من اللعب والزينة ما لا يوصف، وفى اليوم السابع خلع على سائر الأمراء والوزراء والقضاة والكتّاب والأطباء مقدار ألف وثلثمائة خلعة، وأرسل

(7/165)


إلى دمشق الخلع ففرقت كذلك، وفى يوم الخميس مدّ السّماط فى الميدان المذكور فى أربعة خيم، وحضر السّماط من علا ومن دنا، ورسل التتار ورسل الفرنج، وعليهم الخلع أيضا، وجلس السلطان فى صدر الخيمة على تخت من آبنوس وعاج مصفّح بالذهب مسمّر بالفضّة غرم عليه ألف دينار؛ ولمّا انقضى السّماط قدّم الأمراء الهدايا من الخيل والسلاح والتّحف وسائر الملابس، فلم يقبل السلطان من أحد منهم سوى ثوب واحد جبرا له؛ فلمّا كان وقت العصر ركب إلى القلعة وأخذ فى تجهيز ما يليق بالزّفاف والدخول، ولم يمكّن أحد من نساء الأمراء على الإطلاق من الدخول إلى البيوت، ودخل الملك السعيد إلى الحمّام ثم دخل إلى بيته الذي هيّى له بأهله، وحملت العروس فدخل عليها. ولمّا بلغ الملك المنصور «1» صاحب حماة ذلك قدم القاهرة مهنّئا للسلطان ومعه هديّة سنيّة، فوصل القاهرة فى ثامن جمادى الآخرة، فركب الملك السعيد لتلقّيه ونزل بالكبش «2» ، وأقام مدّة يسيرة ثم عاد إلى بلده.
ثم خرج الملك الظاهر بعد ذلك من القاهرة فى يوم الخميس العشرين من شهر رمضان بعد أن استناب الأمير آق سنقر الفارقانىّ الأستادار نائبا عنه فى خدمة ولده الملك السعيد، وترك معه من العسكر بالديار المصريّة لحفظ البلاد خمسة آلاف فارس، ورحل من المنزلة يوم السبت ثانى عشر شوّال قاصدا بلاد الروم فدخل دمشق ثم خرج منها ودخل حلب يوم الأربعاء مستهلّ ذى القعدة، وخرج منها

(7/166)


يوم الخميس إلى حيلان «1» ، فترك بها بعض الثّقل، وأمر الأمير نور الدين «2» علىّ بن جبل مجلىّ نائب حلب أن يتوجّه إلى الساجور «3» ويقيم على الفرات بمن معه من عسكر حلب ويحفظ معابر الفرات لئلا يعبر منها أحد من التّتار قاصدا الشام، ووصل إلى «4» الأمير نور الدين الأمير شرف الدين عيسى بن مهنّا وأقام عنده، فبلغ نوّاب التّتار ذلك فجهّزوا إليهم جماعة من عرب خفاجة «5» لكبسهم فحشدوا وتوجّهوا نحوهم. فاتّصل بالأمير علىّ نائب حلب الخبر وكان يقظا، فركب إليهم والتقاهم وكسرهم أقبح كسرة، وأخذ منهم ألفا ومائتى جمل.
وأمّا الملك الظاهر فإنّه ركب من حيلان يوم الجمعة ثالث الشهر، وسار إلى عينتاب، ثم إلى دلوك «6» ، ثم إلى منزلة «7» أخرى ثم إلى كينوك «8» ، ثم إلى كك صو (ومعناه الماء «9» الأزرق باللّغة التركيّة) . ثم رحل «10» عنه إلى أقجادر بند فقطعه فى نصف نهار؛

(7/167)


فلمّا خرجت عساكره وملكت المفاوز، قدّم الأمير شمس الدين سنقر الأشقر على جماعة من العسكر وأمره بالمسير بين يديه، فوقع على كتيبة التّتار وعدّتهم ثلاثة آلاف فارس، ومقدّمهم كراى فهزمهم سنقر الأشقر وأسر منهم طائفة، وذلك فى يوم الخميس تاسع ذى القعدة.
ثم ورد الخبر على الملك الظاهر بأنّ عسكر الروم والتّتار مع البرواناه اجتمعوا على نهر جيحان «1» ، فلمّا صعد العسكر الجبل أشرف على صحراء «2» أبلستين فشاهد التّتار قد رتّبوا عساكرهم أحد عشر طلبا فى كلّ طلب ألف فارس، وعزلوا عسكر الروم عنهم خوفا من باطن يكون لهم مع المسلمين، وجعلوا عسكر الكرج طلبا واحدا؛ فلمّا تراءى الجمعان حملت ميسرة التّتار حملة واحدة وصدموا سنجق الملك الظاهر، ودخلت طائفة منهم بينهم، وشقّوا الميسرة وساقوا إلى الميمنة؛ فلمّا رأى الملك الظاهر ذلك أردفهم بنفسه، ثم لاحت منه التفاتة فرأى الميسرة قد أتت عليها ميمنة التّتار، فأمر الملك الظاهر جماعة من أصحابه الشّجعان بإردافها، ثم حمل هو بنفسه- رحمه الله- فلمّا رأته العساكر حملت نحوه برمّتها حملة رجل واحد، فترجّل التّتار عن خيولهم وقاتلوا قتال الموت فلم يغن عنهم ذلك شيئا، وصبر لهم الملك الظاهر وعسكره وهو يكرّ فى القوم كالأسد الضّارى ويقتحم الأهوال بنفسه ويشجّع أصحابه ويطيّب لهم الموت فى الجهاد إلى أن أنزل الله تعالى نصره عليه، وانكسر التّتار أقبح كسرة وقتلوا وأسروا وفرّ من نجا منهم، فاعتصموا بالجبال فقصدتهم العساكر الإسلاميّة وأحاطوا بهم، فترجّلوا عن خيولهم وقاتلوا فقتل منهم جماعة كثيرة، وقتل

(7/168)


ممّن قاتلهم من عساكر المسلمين الأمير ضياء الدين [محمود «1» ] بن الخطير، وكان من الشّجعان الفرسان، والأمير شرف «2» الدين قيران العلائىّ، والأمير عزّ الدين أخو المحمّدىّ «3» ، وسيف الدين قفجاق «4» الجاشنكير، والأمير [عز الدين «5» ] أيبك الشّقيفىّ- رحمهم الله تعالى وأسكنهم الجنّة-. وأسر من كبار الروميّين مهذّب «6» الدين ابن معين الدين البرواناه، وابن بنت معين الدين المذكور، والأمير نور «7» الدين جبريل [بن جاجا] ، والأمير قطب الدين محمود أخو مجد الدين الأتابك، والأمير سراج الدين إسماعيل [بن «8» جاجا] ، والأمير سيف الدين سنقر «9» جاه الزّوباشىّ، والأمير نصرة الدين بهمن أخو تاج الدين كيوى (يعنى الصهر) صاحب سيواس «10» ، والأمير كمال الدين إسماعيل عارض الجيش، والأمير حسام الدين كاوك «11» ، والأمير سيف الدين بن الجاويش «12» ، والأمير شهاب الدين غازى بن على شير التّركمانى،

(7/169)


فوبّخهم السلطان الملك الظاهر من كونهم قاتلوه فى مساعدة التتار الكفرة، ثم سلّمهم لمن احتفظ بهم. وأسر من مقدّمى التّتار على الألوف والمئين بركة «1» صهر أبغا بن هولاكو ملك التّتار، وسرطق، وخيز كدوس «2» وسركده «3» وتماديه «4» . ولمّا أسر من أسر وقتل من قتل نجا البرواناه وساق حتّى دخل قيصريّة «5» يوم الأحد ثانى عشر ذى القعدة «6» واجتمع بالسلطان غياث الدين، والصاحب فخر الدين، والأتابك مجد الدين، والأمير جلال الدين المستوفى، والأمير بدر الدين ميكائيل النائب فأخبرهم بالكسرة، وقال لهم: إنّ التّتار المنهزمين متى دخلوا قيصريّة فتكوا «7» بمن فيها حنقا على المسلمين، وأشار عليهم بالخروج منها فخرج السلطان غياث الدين بأهله وماله إلى توقات «8» وبينها وبين قيصريّة أربعة أيام. وعملت شعراء الإسلام فى هذه الوقعة عدّة قصائد ومدائح، من ذلك ما قاله العلّامة شهاب الدين أبو الثناء محمود كاتب الدّرج قصيدته التى أوّلها:
كذا فلتكن فى الله تمضى «9» العزائم ... وإلّا فلا تجفو الجفون الصّوارم

(7/170)


عزائم حاذتها الرياح فأصبحت ... مخلّفة تبكى عليها الغمائم
سرت من حمى مصر إلى الروم فاحتوت ... عليه [و «1» ] سوراه الظّبا واللهاذم
بجيش تظلّ الأرض منه كأنّها ... على سعة الأرجاء فى الضّيق خاتم
كتائب كالبحر الخضمّ جيادها ... إذا ما تهادت موجه المتلاطم
تحيط بمنصور اللّواء مظفّر ... له النّصر والتأبيد عبد وخادم
مليك يلوذ الدين من عزمايه ... بركن له الفتح المبين دعائم
مليك لأبكار الأقاليم نحوه ... حنين كذا تهوى الكرام الكرائم
فكم وطئت طوعا وكرها جياده ... معاقل قرطاها «2» السّها والنعائم
مليك به للدين فى كلّ ساعة ... بسائر للكفّار منها مآتم
جلاحين أقذى «3» [ناظر] الكفر للهدى ... ثغورا بكى الشيطان وهى بواسم
إذا رام شيئا لم يعقه لبعدها ... وشقّتها عنه الإكام الطّواسم
فلو نازع النّسرين أمرا لناله ... وذا واقع عجزا وذا بعد حائم
ولمّا رمى الروم المنيع بخيله ... ومن دونه سدّ من الصخر عاصم
يروم عقاب الجوّ قطع عقابه ... إليه فلا تقوى عليها القوادم
ومنها:
وسالت عليهم «4» أرضهم بمواكب ... لها النّصر طوع والزمان مسالم
أدارت بهم سورا منيعا مشرّفا ... بسمر العوالى ما له الدهر هادم

(7/171)


من التّرك أمّا فى المغانى فإنّهم ... شموس وأما فى الوغى فضراغم
غدا ظاهرا بالظاهر النصر فيهم ... تبيد الليالى والعدا وهو دائم
فأهووا إلى لئم الأسنّة فى الوغى ... كأنّهم العشّاق وهى المباسم
وصافحت البيض الصّفاح رقابهم ... وعانقت السّمر القدود النواعم
فكم حاكم منهم على ألف دارع ... غدا حاسرا والرمح [فى «1» ] فيه حاكم
وكم ملك منهم رأى وهو موثق ... خزائن ما يحويه وهى غنائم
ومنها:
فلا زلت منصور اللّواء مؤيّدا ... على الكفر ما ناحت وأبكت حمائم
ثم جرّد الملك الظاهر الأمير سنقر الأشقر لإدراك ما فات من التّرك «2» والتوجّه إلى قيصريّة، وكتب معه كتابا بتأمين أهلها وإخراج الأسواق والتعامل بالدراهم الظاهريّة. ثم رحل الملك الظاهر بكرة السبت حادى عشر ذى القعدة قاصدا قيصريّة، فمرّ فى طريقه بقرية أهل الكهف «3» ثم إلى قلعة سمندو «4» فنزل إليه واليها مذعنا للطاعة، ثم سار إلى قلعة درندة «5» وقلعة فالو «6» ففعل متولّيها كذلك، ثم نزل بقرية من قرى قيصريّة فبات بها، فلمّا أصبح رتّب عساكره وخرج أهل

(7/172)


قيصريّة بأجمعهم مستبشرين بلقائه، وكانوا لنزوله نصبوا الخيام بوطاة «1» ، فلمّا قرب الظاهر منها ترجّل وجوه الناس على طبقاتهم ومشوا بين يديه إلى أن وصلها.
فلمّا كان يوم الجمعة سابع عشر الشهر ركب السلطان للجمعة، فدخل قيصريّة ونزل دار السلطنة وجلس على التّخت وحضر بين يديه القضاة والفقهاء والصوفيّة والقرّاء وجلسوا فى مراتبهم على عادة ملوك السّلجوقيّة، فأقبل عليهم السلطان ومدّ لهم سماطا فأكلوا وانصرفوا، ثمّ حضر الجمعة بالجامع وخطب له، وحضّر بين يديه الدراهم التى ضربت له باسمه. وكتب إليه البرواناه يهنّئه بالجلوس على تخت الملك بقيصريّة، فكتب الملك الظاهر إليه بعوده ليولّيه مكانه، فكتب إليه يسأله أن ينتظره خمسة عشر يوما، وكان مراد البرواناه أن يصل أبغا ويحثّه على المسير ليدرك الملك الظاهر بالبلاد، فاجتمع تتاوون «2» بالأمير شمس الدين سنقر الأشقر وعرّفه مكر البرواناه فى ذلك، فكان ذلك سببا لرحيل الملك الظاهر عن قيصريّة مع ما انضاف إلى ذلك من قلق العساكر؛ فرحل يوم الاثنين، وكان على اليزك «3» عزّ الدين أيبك الشّيخىّ، وكان الملك الظاهر ضربه بسبب سبقه الناس فغضب وهرب إلى التّتار.
وكان أولاد قرمان «4» قد رهنوا أخاهم الصغير علىّ بك بقيصريّة، فأخرجه الملك الظاهر وأنعم عليه، وسأل السلطان فى تواقيع وسناجق له ولإخوته فأعطاه، وتوجّه نحو إخوته بجبل لارندة «5» .

(7/173)


وعاد السلطان وأخذ فى عوده أيضا عدّة بلاد إلى أن وصل مكان المعركة يوم السبت، فرأى القتلى، فسأل عن عدّتهم فأخبر أنّ المغل خاصّة ستة آلاف وسبعمائة وسبعون نفسا؛ ثم رحل حتّى وصل أقجا دربند «1» ، بعث الخزائن والدّهليز والسناجق صحبة الأمير بدر الدين بيليك الخازندار ليعبر بها الدّربند، وأقام السلطان فى ساقة العسكر بقيّة اليوم ويوم الأحد، ورحل يوم الاثنين فدخل الدّربند.
ثم سار إلى أن وصل دمشق فى سابع المحرّم سنة ست وسبعين وستمائة، ونزل بالجوسق المعروف بالقصر «2» الأبلق جوار الميدان الأخضر وتواترت عليه الأخبار بوصول أبغا ملك التّتار إلى مكان الوقعة، فجمع السلطان الأمراء وضرب مشورة، فوقع الاتفاق على الخروج من دمشق بالعساكر وتلقّيه حيث كان، فأمر الملك الظاهر بضرب الدّهليز على القصير، وفى أثناء ذلك وصل رجل من التّركمان وأخبر أنّ أبغا عاد إلى بلاده هاربا خائفا؛ ثمّ وصل الأمير سابق الدين بيسرى أمير مجلس الملك الناصر صلاح الدين، وهو غير بيسرى الكبير، وأخبر بمثل ما أخبر التركمانىّ، فعند ذلك أمر الملك الظاهر بردّ الدّهليز إلى الشام. وكان عود أبغا من ألطاف الله تعالى بالمسلمين، فإنّ الملك الظاهر فى يوم الجمعة نصف المحرّم من سنة ست وسبعين ابتدأ به مرض الموت.

(7/174)


ذكر مرض الملك الظاهر ووفاته
لمّا كان يوم الخميس رابع عشر المحرّم سنة ستّ وسبعين وستمائة جلس الملك الظاهر بالجوسق الأبلق بميدان دمشق يشرب القمزّ «1» وبات على هذه الحالة، فلمّا كان يوم الجمعة خامس عشره وجد فى نفسه فتورا وتوعّكا فشكا ذلك إلى الأمير شمس الدين «2» سنقر الألفىّ السلحدار فأشار عليه بالقىء، فاستدعاه فاستعصى عليه القىء، فلمّا كان بعد صلاة الجمعة ركب من الجوسق إلى الميدان على عادته، والألم مع ذلك يقوى عليه، وعند الغروب عاد إلى الجوسق. فلمّا أصبح اشتكى حرارة فى باطنه فصنع له بعض خواصّه دواء، ولم يكن عن رأى طبيب فلم ينجع وتضاعف ألمه، فأحضر الأطبّاء فأنكروا استعماله الدواء، وأجمعوا على استعمال دواء مسهل فسقوه فلم ينجع، فحرّكوه بدواء آخر كان سبب الإفراط فى الإسهال ودفع دما، فتضاعفت حمّاه وضعفت قواه، فتخيّل خواصّه أنّ كبده يتقطّع وأنّ ذلك عن سمّ سقيه فعولج بالجوهر، وأخذ أمره فى انحطاط، وجهده المرض وتزايد به إلى أن قضى نحبه يوم الخميس بعد صلاة الظهر الثامن والعشرين «3» من المحرّم، فاتّفق رأى الأمراء على إخفائه وحمله إلى القلعة لئلّا تشعر العامّة بوفاته، ومنعوا من هو داخل من المماليك من الخروج ومن هو خارج منهم من الدخول. فلمّا كان آخر الليل حمله من كبار الأمراء سيف الدين قلاوون الألفىّ وشمس الدين سنقر الأشقر، وبدر الدين بيسرى، وبدر الدين بيليك الخازندار، وعزّ الدين آقوس الأفرم،

(7/175)


وعزّ الدين أيبك الحموى، وشمس الدين سنقر الألفىّ الظاهرى، وعلم الدّين سنجر الحموىّ أبو خرص، وجماعة من أكابر خواصّه. وتولّى غسله وتحنيطه وتصبيره وتكفينه مهتاره «1» الشّجاع عنبر، والفقيه كمال الدين الإسكندرى المعروف بابن المنبجىّ «2» ، والأمير عز الدين الأفرم؛ ثم جعل فى تابوت وعلّق فى بيت من بيوت البحريّة بقلعة دمشق إلى أن حصل الاتّفاق على موضع دفنه. ثم كتب الأمير بدر الدين بيليك الخازندار إلى ولده الملك السعيد مطالعة بيده وسيّرها إلى مصر على يد بدر الدين بكتوت الجوكندارىّ الحموىّ، وعلاء الدين أيدغمش الحكيمىّ الجاشنكير، فلمّا وصلا وأوصلاه المطالعة خلع عليهما وأعطى كلّ واحد منهما خمسين ألف درهم، على أنّ ذلك بشارة بعود السلطان إلى الديار المصريّة. ولمّا كان يوم السبت ركب الأمراء إلى سوق الخيل بدمشق على عادتهم ولم يظهروا شيئا من زىّ الحزن. وكان أوصى أن يدفن على الطريق السالكة قريبا من داريّا «3» وأن يبنى عليه هناك، فرأى ولده الملك السعيد أن يدفنه داخل السور، فابتاع دار العقيقىّ بثمانية «4» وأربعين ألف درهم نقرة «5» ، وأمر أن تغيّر معالمها وتبنى مدرسة [للشافعية «6» والحنفية] : انتهى.
وأمّا الملك السعيد فإنّه جهّز الأمير علم الدين سنجر الحموى المعروف بأبى خرص، والطواشى صفىّ الدين جوهر الهندىّ إلى دمشق لدفن والده الملك الظاهر، فلمّا وصلاها اجتمعا بالأمير عز الدين أيدمر نائب السلطنة بدمشق، وعرّفاه المرسوم

(7/176)


فبادر إليه، وحمل الملك الظاهر من القلعة إلى التّربة ليلا على أعناق الرجال، ودفن بها ليلة الجمعة خامس شهر رجب الفرد، وكان قد ظهر موته بدمشق فى يوم السبت رابع عشر صفر، وشرع العمل فى أعزيته بالبلاد الشاميّة والديار المصريّة.
قال الأمير بيبرس «1» الدّوادار فى تاريخه- وهو أعرف بأحواله من غيره- قال: وكان القمر قد كسف كسوفا كاملا أظلم له الجوّ وتأوّل ذلك المتأولّون بموت رجل جليل القدر؛ فقيل: إنّ الملك الظاهر لمّا بلغه ذلك حذر على نفسه وخاف وقصد أن يصرف التأويل إلى غيره لعلّه يسلم من شرّه، وكان بدمشق شخص من أولاد الملوك الأيّوبيّة، وهو الملك القاهر بهاء الدين عبد الملك ابن السلطان الملك المعظّم عيسى ابن السلطان الملك العادل أبى بكر بن أيّوب، فأراد الظاهر، على ما قيل، اغتياله بالسمّ، فأحضره فى مجلس شرابه فأمر الساقى أن يسقيه قمزّا ممزوجا، فيما يقال، بسمّ، فسقاه الساقى تلك الكأس فأحسّ به وخرج من وقته، ثم غلط الساقى وملأ الكأس المذكورة وفيها أثر السمّ، ووقعت الكأس فى يد الملك الظاهر فشربه، فكان من أمره ما كان. انتهى كلام بيبرس الدّوادار باختصار.
قلت: وهذا القول مشهور وأظنّه هو الأصحّ فى علّة موته، والله أعلم.
وكانت مدّة ملكه تسع عشرة سنة وشهرين ونصفا، وملك بعده ابنه الملك السعيد ناصر الدين محمد المعروف ببركة خان؛ وكان تسلطن فى حياته من مدّة سنين حسب ما تقدّم ذكره.
وكان الملك الظاهر رحمه الله ملكا شجاعا مقداما غازيا مجاهدا مرابطا خليقا بالملك خفيف الوطأة سريع الحركة يباشر الحروب بنفسه.

(7/177)


قال الحافظ أبو عبد الله الذهبىّ فى تاريخه بعد ما أثنى عليه: «وكان خليقا بالملك لولا ما كان فيه من الظّلم، والله يرحمه ويغفر له، فإنّ له أياما بيضا فى الإسلام ومواقف مشهورة وفتوحات معدودة» . انتهى كلام الذهبى باختصار.
وقال الشيخ قطب الدين اليونينىّ فى الذّيل على مرآة الزمان فى موت «1» الملك الظاهر هذا نوعا ممّا قاله الأمير بيبرس الدّاوادار لكنّه زاد أمورا نحكيها، قال:
حكى لى ابن شيخ «2» السلامية عن الأمير أزدمر العلائىّ نائب السلطنة بقلعة صفد قال: كان الملك الظاهر مولعا بالنجوم وما يقوله أرباب التقاويم، كثير البحث عن ذلك، فأخبر أنّه يموت فى سنة ستّ وسبعين ملك بالسمّ، فحصل عنده من ذلك أثر كبير، وكان عنده حسد شديد لمن يوصف بالشجاعة، واتّفق أنّ الملك القاهر عبد الملك بن المعظّم عيسى الآتى ذكره لمّا دخل مع الملك الظاهر إلى الروم، وكان يوم المصافّ، فدام الملك القاهر فى القتال فتأثّر الظاهر منه، ثم انضاف إلى ذلك أنّ الملك الظاهر حصل منه فى ذلك اليوم فتور على خلاف العادة، وظهر عليه الخوف والنّدم على تورّطه فى بلاد الروم، فحدّثه الملك القاهر عبد الملك المذكور بما فيه نوع من الإنكار عليه والتّقبيح لأفعاله، فأثّر «3» ذلك عنده أثرا آخر.
فلمّا عاد الظاهر من غزوته سمع الناس يلهجون بما فعله الملك القاهر، فزاد على ما فى نفسه وحقد عليه، فخيّل فى ذهنه أنّه إذا سمّه كان هو الذي ذكره أرباب النجوم، فأحضره عنده ليشرب القمزّ معه، وجعل الذي أعدّه له من السمّ فى ورقة

(7/178)


فى جيبه من غير أن يطّلع على ذلك أحد، وكان للسلطان هنّا بات «1» ثلاثة مختصّة به مع ثلاثة سقاة لا يشرب فيها إلّا من يكرمه السلطان، فأخذ الملك الظاهر الكأس بيده وجعل فيه ما فى الورقة خفية، وأسقاه للملك القاهر وقام الملك الظاهر إلى الخلاء وعاد، فنسى الساقى وأسقى الملك الظاهر فيه وفيه بقايا السمّ. انتهى كلام قطب الدين.
وخلّف الملك الظاهر من الأولاد: الملك السعيد ناصر الدين محمد بركة خان.
ومولده فى صفر سنة ثمان وخمسين وستمائة بضواحى مصر، وأمّه بنت الأمير حسام الدين بركة خان بن دولة خان الخوارزمىّ. والملك [نجم الدين «2» ] خضرا، أمّه أم ولد. والملك بدر الدين سلامش. وولد له من البنات سبع. وأما زوجاته فأمّ الملك السعيد بنت بركة خان، وبنت الأمير سيف الدين نوكاى «3» التّتارىّ، وبنت الأمير سيف الدين كراى التّتارىّ، وبنت الأمير سيف نوغاى التّتارىّ، وشهرزوريّة تزوّجها لمّا قدم غزّة وحالف الشّهرزوريّة قبل سلطنته، فلما تسلطن طلّقها.
وأمّا وزراؤه- لمّا تولى السلطنة استمرّ زين الدين يعقوب بن عبد الرفيع بن الزّبير، ثم صرفه واستوزر الصاحب بهاء الدّين علىّ بن محمد بن سليم بن حنّا. وكان للملك الظاهر أربعة آلاف مملوك مشتريات أمراء وخاصّكيّة «4» وأصحاب وظائف.

(7/179)


وأمّا سيرته وأحكامه وشرف نفسه حكى: أنّ الأشرف صاحب حمص كتب إليه يستأذنه فى الحجّ، وفى ضمن الكتاب شهادة عليه أنّ جميع ما يملكه انتقل عنه إلى الملك الظاهر، فلم يأذن له الملك الظاهر فى تلك السنة غضبا منه لكونه كتب ذلك، واتّفق أنّ الأشرف مات بعد ذلك فتسلّم الملك الظاهر حصونه التى كانت بيده ولم يتعرّض للتركة، ومكّن ورثته من الموجود والأملاك، وكان شيئا كثيرا إلى الغاية، ودفع الملك الظاهر إليهم الشهادة وقد تجنّبوا التّركة لعلمهم بالشهادة.
ومنها أن شعرا «1» بانياس وهى إقليم يشتمل على أرض «2» كثيرة عاطلة بحكم استيلاء الفرنج على صفد، فلمّا افتتح صفد أفتاه بعض العلماء باستحقاق الشعرا فلم يرجع إلى الفتيا، وتقدّم أمره أنّ من كان له فيها ملك قديم فليتسلّمه.
وأمّا صدقاته فكان يتصدّق فى كلّ سنة بعشرة آلاف إردب قمح فى الفقراء والمساكين وأرباب الزوايا، وكان يرتّب لأيتام الأجناد ما يقوم بهم على كثرتهم، ووقف وقفا على تكفين أموات الغرباء بالقاهرة ومصر، ووقفا ليشترى به خبز ويفرّق فى فقراء المسلمين، وأصلح قبر خالد بن الوليد- رضى الله عنه- بحمص، ووقف وقفا على من هو راتب فيه من إمام ومؤذّن وغير ذلك، ووقف على قبر أبى عبيدة بن الجرّاح- رضى الله عنه- وقفا مثل ذلك، وأجرى على أهل الحرمين والحجاز وأهل بدر وغيرهم ما كان انقطع فى أيّام غيره من الملوك.

(7/180)


وأمّا عمائره: المدارس والجوامع والأسبلة والأربطة فكثيرة، وغالبها معروفة به، وكان يخرج كلّ سنة جملة مستكثرة يستفكّ بها من حبسه القاضى من المقلّين، وكان يرتّب فى أوّل شهر رمضان بمصر والقاهرة مطابخ لأنواع الأطعمة، وتفرّق على الفقراء والمساكين.
وأمّا حرمته ومهابته، منها: أنّ يهوديا دفن بقلعة جعبر عند قصد التّتار لها مصاغا وذهبا وهرب بأهله إلى الشام واستوطن حماة، فلمّا أمن كتب إلى صاحب حماة يعرّفه ويسأله أن يسيّر معه من يحفظه ليأخذ خبيئته ويدفع لبيت المال نصفه، فطالع صاحب حماة الملك الظاهر بذلك، فردّ عليه الجواب أنّه يوجّهه مع رجلين ليقضى حاجته؛ فلّما توجهوا مع اليهودىّ ووصلوا إلى الفرات امتنع من كان معه من العبور فعبر اليهودىّ وحده، فلمّا وصل وأخذ فى الحفر هو وابنه وإذا بطائفة من العرب على رأسه، فسألوه عن حاله فأخبرهم، فأرادوا قتله وأخذ المال، فأخرج لهم كتاب الملك الظاهر مطلقا إلى من عساه يقف عليه، فلمّا رأوا المرسوم كفّوا عنه وساعدوه حتّى استخلص ماله. ثم توجّهوا به إلى حماة وسلّموه إلى صاحب حماة، وأخذوا خطّه بذلك.
ومنها: أنّ جماعة من التّجّار خرجوا من بلاد العجم قاصدين مصر، فلمّا مرّوا بسيس منعهم صاحبها من العبور، وكتب إلى أبغا ملك التّتار، فأمره أبغا بالحوطة عليهم وإرسالهم إليه، وبلغ الملك الظاهر خبرهم، فكتب إلى نائب حلب بأن يكتب إلى نائب سيس، إن هو تعرّض لهم بشىء يساوى درهما واحدا أخذت «1» عوضه مرارا، فكتب إليه نائب حلب بذلك فأطلقهم، وصانع أبغا بن هولاكو

(7/181)


على ذلك بأموال جليلة حتّى لا يخالف مرسوم الظاهر، وهو تحت حكم غيره لا تحت حكم الظاهر.
ومنها: أن تواقيعه التى كانت بأيدى التّجار المتردّدين إلى بلاد القبجاق [بإعفائهم «1» من الصادر والوارد] كان يعمل بها حيث حلّوا من مملكة بركة خان ومنكوتمر وبلاد فارس وكرمان.
ومنها: أنّه أعطى بعض التّجّار مالا ليشترى به مماليك وجوارى من التّرك فشرهت نفس التاجر فى المال فدخل به قراقوم «2» من بلاد التّرك واستوطنها، فوقع الملك الظاهر على خبره، فبعث إلى منكوتمر فى أمره فأحضروه إليه تحت الحوطة إلى مصر. وله أشياء كثيرة من ذلك.
وكان الملك الظاهر يحبّ أن يطّلع على أحوال أمرائه وأعيان دولته حتى لم يخف عليه من أحوالهم شىء. وكان يقرّب أرباب الكمالات من كلّ فنّ وعلم. وكان يميل إلى التاريخ وأهله ميلا زائدا ويقول: سماع التاريخ أعظم من التجارب.
وكانت ترد عليه الأخبار وهو بالقاهرة بحركة العدوّ، فيأمر العسكر بالخروج وهم زيادة على ثلاثين ألف فارس، فلا يبيت منهم فارس فى بيته، وإذا خرج من القاهرة لا يمكّن من العود «3» إليها ثانيا.
قلت: كان الملك الظاهر- رحمه الله- يسير على قاعدة ملوك التّتار وغالب أحكام چنكز خان من أمر «اليسق والتّورا» ، واليسق: هو الترتيب، والتّورا:

(7/182)


المذهب باللغة التركية؛ وأصل لفظة اليسق: سى يسا، وهى لفظة مركبة من كلمتين صدر الكلمة: سى بالعجمى، وعجزها يسا بالتركىّ، لأنّ سى بالعجمى ثلاثة، ويسا بالمغلىّ الترتيب، فكأنّه قال: التراتيب الثلاثة. وسبب هذه الكلمة أنّ چنكز خان ملك المغل كان قسّم ممالكه فى أولاده الثلاثة، وجعلها ثلاثة أقسام، وأوصاهم بوصايا لم يخرجوا عنها التّرك إلى يومنا هذا، مع كثرتهم واختلاف أديانهم، فصاروا يقولون: سى يسا (يعنى التراتيب الثلاثة التى رتّبها چنكز خان) ، وقد أوضحنا هذا فى غير هذا الكتاب «1» بأوسع من هذا. انتهى. فصارت التّرك يقولون: «سى يسا» فثقل ذلك على العامّة فحرّفوها على عادة تحاريفهم، وقالوا: سياسة. ثم إنّ الترك أيضا حذفوا صدر الكلمة، فقالوا: يسا مدّة طويلة، ثم قالوا: يسق، واستمرّ ذلك إلى يومنا هذا. انتهى.
قلت: والملك الظاهر هذا هو الذي ابتدأ فى دولته بأرباب الوظائف من الأمراء والأجناد، وإن كان بعضها قبله فلم تكن على هذه الصّيغة أبدا؛ وأمثّل لذلك مثلا فيقاس عليه، وهو أنّ الدّوادار كان قديما لا يباشره إلا متعمّم يحمل الدّواة ويحفظها. وأمير مجلس «2» هو الذي كان يحرس مجلس قعود السلطان وفرشه.
والحاجب «3» هو البوّاب الآن، لكونه يحجب الناس عن الدخول؛ وقس على هذا.
فجاء الملك الظاهر جدّد جماعة كثيرة من الأمراء والجند ورتّبهم فى وظائف:

(7/183)


كالدّوادار والخازندار «1» وأمير آخور والسّراخور «2» والسّقاة والجمداريّة «3» والحجّاب ورءوس النّوب «4» وأمير سلاح وأمير مجلس وأمير شكار «5» .
فأمّا موضوع أمير سلاح فى أيّام الملك الظاهر فهو الذي كان يتحدّث على السّلاح داريّة، ويناول السلطان آلة الحرب والسّلاح فى يوم القتال وغيره، مثل يوم الأضحى وما أشبهه. ولم يكن إذ ذاك فى هذه المرتبة (أعنى الجلوس رأس ميسرة السلطان) ، وإنّما هذا الجلوس كان إذ ذاك مختصّا بأطابك «6» . ثم بعده فى الدولة الناصريّة محمد بن قلاوون برأس نوبة الأمراء كما سيأتى ذكره فى محلّه. وتأييد ذلك يأتى فى أوّل ترجمة الملك الظاهر برقوق، فإنّ برقوق نقل أمير سلاح قطلوبغا «7»

(7/184)


الكوكائىّ إلى حجوبيّة الحجّاب. وأمير مجلس كان موضوعها فى الدولة الظاهريّة بيبرس يتحدّث على الأطبّاء والكحّالين والمجبّرين، وكانت وظيفة جليلة أكبر قدرا من أمير سلاح.
وأمّا الدّواداريّة فكانت وظيفة سافلة. كان الذي يليها أوّلا غير جندى، وكانت نوعا من أنواع المباشرة، فجعلها الملك الظاهر بيبرس على هذه الهيئة، غير أنّه كان الذي يليها أمير عشرة. ومعنى دوادار باللغة العجمية: ماسك الدّواة، فإنّ لفظة «دار» بالعجمىّ: ماسك، لا ما يفهمه عوامّ المصرييّن أنّ دارا هى الدار التى يسكن فيها، كما يقولون فى حقّ الزّمام: زمام الآدر؛ وصوابه زمام دار. وأوّل من أحدث هذه الوظيفة ملوك السّلجوقيّة. والجمدار، الجمى هى البقجة باللغة العجمية، ودار تقدّم الكلام عليه، فكأنّه قال: ماسك البقجة التى للقماش. وقس على هذا فى كلّ لفظ يكون فيه دار من الوظائف.
وأمّا رأس نوبة فهى عظيمة عند التّتار، ويسمّون الذي يليها «يسوول» بتفخيم السين. والملك الظاهر أوّل من أحدثها فى مملكة مصر. والأمير آخور أيضا وظيفة عظيمة؛ والمغل تسمى الذي يليها «آق طشى» . وأمير آخور لفظ مركب من فارسى وعربى، فأمير معروف وآخور هو اسم المذود بالعجمىّ، فكأنّه يقول:
أمير المذود الذي يأكل فيه الفرس. وكذلك السلاخورى وغيره؛ مما أحدثها «1» الملك الظاهر أيضا.
وأمّا الحجوبيّة فوظيفة جليلة فى الدولة التركيّة، وليس هى الوظيفة التى كان يليها حجبة الخلفاء، فأولئك كانوا حجبة يحجبون الناس عن الدخول على الخليفة، ليس من شأنهم الحكم بين الناس والأمر والنهى؛ وهى ممّا جدده الملك

(7/185)


الظاهر بيبرس، لكنها عظمت فى دولة الملك الناصر محمد بن قلاوون حتّى عادلت النّيابة «1» .
وأمّا ما عدا ذلك من الوظائف فأحدثها الملك الناصر محمد بن قلاوون كما سيأتى بيانه فى تراجمه الثلاث من هذا الكتاب، بعد أن جدّد والده الملك المنصور قلاوون وظائف أخركما سيأتى ذكره أيضا فى ترجمته على ما شرطناه فى هذا الكتاب من أنّ كلّ من أحدث شيئا عزيناه له. وممّا أحدثه الملك الظاهر أيضا البريد فى سائر ممالكه، بحيث إنّه كان يصل إليه أخبار أطراف بلاده على اتّساع مملكته فى أقرب وقت.
وأمّا ما افتتحه من البلاد وصار إليه من أيدى المسلمين فعدّة بلاد وقلاع.
والذي افتتحه من أيدى الفرنج- خذلهم الله-: قيساريّة، وأرسوف، وصفد، وطبريّة، ويافا، والشّقيف، وأنطاكية، وبغراس، والقصير، وحصن الأكراد وعكّار «2» ، والقرين «3» ، وصافيثا، ومرقيّة. وناصفهم على المرقب وبانياس وبلاد أنطرطوس وعلى سائر ما بقى فى أيديهم من البلاد والحصون وغيرها. واستعاد من صاحب سيس دربساك، ودركوش، ورعبان «4» ، والمرزبان «5» وبلادا أخر. والذي

(7/186)


صار إليه من أيدى المسلمين: دمشق وبعلبك وعجلون وبصرى وصرخد والصّلت، وكانت هذه البلاد التى تغلّب عليها الأمير علم الدين سنجر الحلبى بعد موت الملك المظفّر قطز، لما تسلطن بدمشق وتلقّب بالملك المجاهد. انتهى. وحمص، وتدمر، والرّحبة، ودلويا «1» ، وتلّ باشر، وهذه البلاد انتقلت إليه عن الملك الأشرف صاحب حمص فى سنة اثنتين وستين «2» وستمائة. وصهيون وبلاطنس، وبرزيه، وهذه منتقلة إليه عن الأمير سابق الدين سليمان بن سيف الدين أحمد وعمّه عزّ الدين.
وحصون الإسماعيلّية «3» وهى: الكهف، والقدموس، والمينقة «4» ، والعلّيقة، والخوابى «5» ، والرّصافة، ومصياف «6» ، والقليعة «7» . وأمّا انتقل إليه عن الملك المغيث ابن الملك العادل أبى بكر ابن الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبى بكر بن أيّوب: الشّوبك، والكرك. وما انتقل إليه عن التّتار: بلاد حلب الشماليّة بأسرها، وشيزر، والبيرة.

(7/187)


وفتح الله على يديه بلاد «1» النّوبة، وفيها من البلاد ممّا يلى أسوان جزيرة بلاق «2» ؛ ويلى

(7/188)


هذه البلاد بلاد «1» العلى وجزيرة «2» ميكائيل؛ وفيها بلاد وجزائر الجنادل «3» وهى

(7/189)


أيضا بلاد، ولمّا فتحها أنعم بها على ابن عمّ المأخوذة منه، ثم ناصفه عليها، ووضع عليه عبيدا وجوارى وهجنا وبقرا، وعن كلّ بالغ من رعيّته دينارا فى كلّ سنة.
وكانت حدود مملكة الملك الظاهر من أقصى بلاد النّوبة إلى قاطع الفرات. ووفد عليه من التّتار زهاء عن ثلاثة آلاف فارس، فمنهم من أمره طبلخاناه، ومنهم من جعله أمير عشرة إلى عشرين، ومنهم من جعله من السّقاة، ثم جعل منهم سلحداريّة وجمداريّة ومنهم من أضافه إلى الأمراء.
وأمّا مبانيه فكثيرة منها ما هدمه التّتار من المعاقل والحصون. وعمّر بقلعة الجبل دار الذهب، وبرحبة «1» الحبارج قبّة عظيمة محمولة على اثنى عشر عمودا من الرخام الملوّن، وصور فيها سائر حاشيته وأمرائه على هيئتهم، وعمّر بالقلعة أيضا طبقتين مطلّتين على رحبة الجامع «2» وأنشأ برج «3» الزاوية المجاورة لباب القلعة «4» ، وأخرج منه

(7/190)


رواشن، وبنى عليه قبّة وزخرف سقفها، وأنشأ جواره طباقا للمماليك أيضا.
وأنشأ «1» برحبة باب القلعة دارا كبيرة لولده الملك السعيد، وكان فى موضعها حفير فعقد عليه ستة عشر عقدا، وأنشأ دورا كثيرة بظاهر القاهرة [ممّا يلى القلعة «2» وإصطبلات] برسم الأمراء، فإنّه كان يكره سكنى الأمير بالقاهرة مخافة من حواشيه على الرعيّة.
وأنشأ حمّاما «3» بسوق الخيل لولده الملك السعيد، وأنشأ الجسر «4» الأعظم والقنطرة التى على الخليج، وأظنّها قنطرة «5» السّباع، وأنشأ الميدان بالبورجى «6» ونقل إليه النخيل بالثمن الزائد من الديار المصريّة، فكانت أجرة نقله ستة عشر ألف دينار، وأنشأ به

(7/191)


المناظر والقاعات والبيوتات. وجدّد جامع «1» الأنور (أعنى جامع الظافر العبيدىّ) المعروف الآن بجامع الفاكهيّين والجامع «2» الأزهر، وبنى جامع «3» العافية بالحسينيّة وأنفق عليه فوق الألف ألف درهم، وأنشأ قريبا منه زاوية «4» الشيخ خضر وحمّاما وطاحونا وفرنا وعمّر بالمقياس «5» قبّة رفيعة [مزخرفة «6» ] ، وأنشأ عدّة جوامع بالديار المصريّة؛ وجدّد قلعة الجزيرة «7» ، وقلعة العمودين «8» ببرقة، وقلعة «9» السّويس، وعمّر جسرا بالقليوبيّة، والقناطر على

(7/192)


بحر «1» أبى المنجّا وقنطرة بمنية السّيرج «2» ، وقنطرتين «3» عند القصير على بحر إبراش بسبعة أبواب مثل قنطرة بحر أبى المنجّا، وأنشأ فى الجسر الذي يسلك فيه إلى دمياط ستّ عشرة قنطرة، وبنى على خليج الإسكندرية قريبا من قنطرتها [القديمة «4» ] قنطرة عظيمة بعقد واحد، وحفر خليج الإسكندرية «5» وكان قد ارتدم بالطّين، وحفر بحر أشموم «6» ، وكان قد عمى، وحفر ترعة «7» الصلاح وخورسخا «8» وحفر المحامدى والكافورى، وحفر فى ترعة أبى الفضل ألف قصبة، وحفر بحر «9» الصّمصام بالقليوبيّة، وحفر بحر «10» سردوس.

(7/193)


وتمّم عمارة حرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعمل منبره، وجعل بالضريح النّبوىّ درابزينا، وذهّب سقوفه وجدّدها وبيّض حيطانه؛ وجدّد البيمارستان بالمدينة النبويّة، ونقل إليه سائر المعاجين والأكحال والأشربة، وبعث إليه طبيبا [من الديار «1» المصريّة] .
وجدّد فى الخليل عليه السلام قبّته، ورمّ شعثه وأصلح أبوابه [وميضأته «2» ] وبيّضه وزاد فى راتبه. وجدّد بالقدس الشريف ما كان قد تهدّم من [قبّة «3» ] الصخرة، وجدّد قبّة السلسلة وزخرفها وأنشأ بها خانا للسبيل، نقل بابه من دهليز كان للخلفاء المصريّين بالقاهرة، وبنى به مسجدا وطاحونا وفرنا وبستانا. وبنى على قبر موسى عليه السلام قبّة ومسجدا، وهو عند الكثيب الأحمر قبلى أريحا «4» ووقف عليه وقفا. وجدّد بالكرك برجين كانا صغيرين فهدمهما وغيّرهما «5» . ووسّع عمارة مشهد جعفر «6» الطيّار- رضى الله عنه- ووقف عليه وقفا زيادة على وقفه على الزائرين له والوافدين عليه. وعمر جسرا بقرية دامية بالغور على نهر الشّريعة، ووقف عليه وقفا برسم ما عساه يتهدّم منه. وأنشأ جسورا كثيرة بالغور والساحل.

(7/194)


وأنشأ قلعة قاقون «1» وبنى بها جامعا ووقف عليه وقفا، وبنى على طريقها حوضا للسبيل. وجدّد جامع مدينة الرملة، وأصلح جامعا لبنى أميّة «2» ووقف عليه وقفا.
وعدّة جوامع ومساجد بالساحل.
وجدّد باشورة لقلعة صفد وأنشأها بالحجر الهرقلىّ، وعمّر لها «3» أبراجا وبدنات، وصنع بغلات مصفّحة دائر الباشورة بالحجر المنحوت، وأنشأ بالقلعة صهريجا كبيرا مدرّجا من أربع جهاته، وبنى عليه برجا زائد [الارتفاع «4» ] ، قيل إن ارتفاعه مائة ذراع، وبنى تحت البرج حمّاما، وصنع الكنيسة جامعا وأنشأ رباطا ثانيا، وبنى حمّاما ودارا لنائب السلطنة.
وكانت قلعة الصّبيبة قد أخربها التّتار، ولم يبقوا منها إلّا الآثار فجدّدها، وأنشأ لجامعها منارة، وبنى بها دارا لنائب السلطنة، وعمل جسرا يمشى عليه إلى القلعة.
وكان التّتار قد هدموا شراريف قلعة دمشق، ورءوس أبراجها، فجدّد ذلك كلّه، وبنى فوق برج الزاوية المطلّ على الميادين وسوق الخيل طارمة كبيرة، وجدّد منظرة على قائمة مستجدّة على البرج المجاور لباب النصر، وبيّض البحرة وجدّد دهان سقوفها: وبنى حمّاما «5» خارج باب النصر بدمشق، وجدّد ثلاثة إسطبلات على الشّرف الأعلى، وبنى القصر الأبلق بالميدان بدمشق وما حوله من العمائر. وجدّد مشهد زين العابدين رضى الله عنه بجامع دمشق، وأمر بترخيم الحائط الشمالى،

(7/195)


وتجديد باب البريد «1» وفرشه بالبلاط. ورمّ شعث مغارة الدم «2» . وجدّد المبانى التى هدموها التّتار من قلعة صرخد. وجدّد قبر نوح عليه السلام بالكرك. وجدّد أسوار حصن الأكراد، وعمّر قلعتها. وعمّر جوامع ومساجد بالساحل يطول الشرح فى ذكرها حذفتها خوف الإطالة.
وبنى فى أيامه بالديار المصريّة ما لم يبن فى أيام الخلفاء المصريّين، ولا ملوك بنى أيّوب من الأبنية والرّباع والخانات والقواسير والدّور والمساجد والحمّمات، من قريب مسجد التّبن «3» إلى أسوار القاهرة إلى الخليج وأرض «4» الطّبّالة، واتّصلت العمائر إلى باب المقسم «5» إلى اللّوق «6» إلى البورجى «7» ؛ ومن الشارع إلى الكبش «8»

(7/196)


وحدرة «1» ابن قميحة إلى تحت القلعة ومشهد «2» السيدة نفيسة رضى الله عنها إلى السّور القراقوشىّ «3» . وكلّ ذلك من كثرة عدله وإنصافه للرعيّة والنّظر فى أمورهم وإنصاف الضعيف من المستضعف والذّبّ عنهم من العدوّ المخذول رحمه الله وعفا عنه.
ذكر ما كان ينوب دولته من الكلف- كانت عدّة العساكر بالديار المصريّة أيّام الملك الكامل محمد وولده الملك الصالح أيّوب عشرة آلاف فارس، فضاعفها أربعة أضعاف؛ وكان اولئك الذين كانوا قبله العشرة آلاف مقتصدين فى الملبوس والنفقات والعدد، وهؤلاء (أعنى عسكر الظاهر الأربعين ألفا) ، كانوا بالضدّ من ذلك؛ وكانت كلف ما يلوذ بهم من إقطاعهم، وهؤلاء كلفهم على الملك الظاهر؛ ولذلك تضاعفت الكلف فى أيّامه. فإنّه كان يصرف فى كلف مطبخ أستاذه الملك الصالح أيّوب ألّف رطل [لحم «4» ] بالمصرىّ خاصّة نفسه فى كلّ يوم؛

(7/197)


والمصروف فى مطبخ الملك الظاهر عشرة آلاف رطل كلّ يوم عنها وعن توابلها عشرون ألف درهم نقرة «1» ، ويصرف فى خزانة «2» الكسوة فى كل يوم عشرون ألف درهم، ويصرف فى الكلف الطارئة المتعلّقة بالرّسل والوفود فى كلّ يوم عشرون ألف درهم، ويصرف عن قرط دوابّه ودوابّ من يلوذ به فى كلّ سنة ثمانمائة ألف درهم، ويقوم بكلف الخيل والبغال والجمال والحمير من العلوفات خمس عشرة ألف عليقة فى اليوم، عنها ستمائة إردب؛ وما كان «3» يقوم به لمن أوجب نفقته وألزمها عليه تطحن وتحمل إلى المخابز المعدّة لعمل الجرايات خلا ما يصرف على أرباب الرواتب فى كلّ شهر عشرون ألف إردب؛ وذلك بالديار المصريّة خاصة. وهذا خلاف «4» الطوارئ التى كانت تفد عليه فما يمكن حصرها. وكلف أسفاره وتجديد السلاح فى كلّ قليل؛ وما كان عليه من الجوامك «5» والجرايات لمماليكه ولأرباب الخدم؛ فكان ديوانه يفى بذلك كلّه؛ ويحمل لحاصله جملة كبيرة فى السنة من الذهب.
وكان سبب ذلك أنه رفع أيدى الأقباط من غالب تعلّقاته فافتقر أكثرهم فى أيّامه؛ وباشروا الصنائع كالتجارة والبناية؛ ولا زال أمرهم على ذلك حتى تراجع فى أواخر الدولة الناصريّة محمد بن قلاوون. انتهت ترجمة الملك الظاهر بيبرس، رحمه الله تعالى.

(7/198)


ونذكر بعض أحواله، إن شاء الله تعالى، فى حوادث سنينه كما هو عادة هذا الكتاب على سبيل الاختصار. وقد أطلت فى ترجمته وهو مستحقّ لذلك، لأنّه فرع فاق أصله، كونه كان من جملة مماليك الملك الصالح نجم الدين أيّوب فزادت محاسنه عليه.
وأمّا من يأتى بعده فلا سبيل إليه. ويعجبنى فى هذا المعنى المقالة الثانية عشرة من قول الشيخ الإمام العالم العارف الرّبّانىّ شرف الدين عبد المؤمن بن هبة الله الأصفهانىّ المعروف بشوروة «1» رحمه الله فى كتابه الذي فى اللّغة وسمّاه «أطباق الذهب» يشتمل على مائة مقالة [واثنتين] أحسن فيها غاية الإحسان، وهى:
«ليس الشريف من تطاول وتكاثر «2» ، إنّما الشريف من تطوّل وآثر؛ وليس المحسن من روى القرآن، إنّما المحسن من أروى الظمآن؛ وليس البرّ إبانة الحروف بالإمالة والاشباع، لكنّ البرّ إغاثة الملهوف بالإنالة والإشباع؛ ولا خير فى زكأة «3» لا يسدى معروفا، ولا بركة فى لبنة «4» لا تروى «5» خروفا؛ فوا [ها] «6» لك، لمن تدّخر أموالك! أنفق ألفك، قبل أن يقسم خلفك؛ إنّ منازل الخلق سواسية، إلّا من له يد مواسية؛ فأرفعهم أنفعهم، وأسودهم أجودهم، وأفضلهم أبذلهم؛ وخير الناس من سقى ملواحا «7» ،

(7/199)


ونصب للجنّة ملواحا «1» ؛ والكرم نوعان، أحسنهما إطعام الجوعان؛ والحازم من قدّم الزاد لعقبة العقبى، وآتى المال على حبّه ذوى القربى» . انتهت المقالة. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
[ما وقع من الحوادث سنة 659]
السنة الأولى من ولاية السلطان الملك الظاهر بيبرس البندقدارىّ على مصر، وهى سنة تسع وخمسين وستمائة، على أنّه حكم فى آخر السنة الماضية نحو الشهر.
قلت: ودخلت سنة تسع وخمسين المذكورة وليس للمسلمين خليفة، وكان أوّلها يوم الاثنين لأيّام خلون من كانون أحد شهور الروم؛ وكانون بالقبطىّ كيهك. فدخلت السنة والسلطان بديار مصر الملك الظاهر بيبرس، وصاحب مكّة نجم الدين «2» أبو نمىّ بن أبى سعد الحسنىّ، وصاحب المدينة جمّاز بن شيحة الحسينىّ، وصاحب دمشق وبعلبكّ وبانياس والصّبيبة الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ، تغلّب عليها وتسلطن وتلقّب بالملك المجاهد، ونائب حلب من قبل الملك الظاهر بيبرس الأمير حسام الدين لاچين الجوكندار العزيزىّ، وصاحب الموصل الملك الصالح إسماعيل ابن الملك الرحيم لؤلؤ، وصاحب جزيرة ابن عمر أخوه الملك المجاهد سيف الدين إسحاق بن لؤلؤ المذكور، وصاحب ماردين الملك السعيد نجم الدين إيلغازى الأرتقىّ، وصاحب بلاد الروم ركن الدين قليج أرسلان ابن السلطان غياث الدين كيخسرو بن علاء الدين كيقباد السّلجوقىّ وأخوه عزّ الدين كيكاوس،

(7/200)


والبلاد بينهما مناصفة، وصاحب الكرك والشّوبك الملك المغيث [فتح «1» الدين عمر] ابن الملك العادل ابن الملك الكامل ابن الملك العادل بن أيّوب، وصاحب حماة الملك المنصور «2» محمد الأيّوبىّ، وصاحب حمص وتدمر والرّحبة الملك الأشرف مظفّر الدين موسى، وصاحب مرّاكش من بلاد المغرب أبو حفص «3» عمر الملقّب بالمرتضى، وصاحب تونس أبو «4» عبد الله محمد بن أبى زكريّا، وصاحب اليمن الملك المظفّر «5» شمس الدين يوسف بن عمر التّركمانىّ من بنى رسول.
وفيها كانت كسرة التّتار على حمص، وقد تقدّم ذكر ذلك.
وفيها ملك السلطان الملك الظاهر دمشق وأخرج منها علم الدّين سنجر الحلبىّ، وولّى نيابتها الأمير علاء الدين أيدكين البندقدارىّ، أستاذ الملك الظاهر بيبرس هذا، الذي أخذه الملك الصالح نجم الدين أيّوب منه، حسب ما ذكرنا ذلك أوّل ترجمة الملك الظاهر.
وفيها وصل الخليفة المستنصر بالله إلى القاهرة وبويع بالخلافة، وسافر صحبة الملك الظاهر إلى الشام، ثم فارقه وتوجّه إلى العراق فقتل، وقد مرّ ذكر ذلك كلّه أيضا.
وفيها توفّى الملك الصالح نور الدين إسماعيل ابن الملك المجاهد أسد الدين شير كوه بن محمد بن أسد الدين شير كوه الكبير، كان الملك الصالح هذا صاحب حمص

(7/201)


ملكها بعد موت أبيه، وكان له اختصاص كبير بابن عمّه الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب والشام، وكان الصالح هذا يدارى التّتار ولا يشاققهم، وآخر الأمر أنه قتل فى وقعة هولاكو بيد التّتار رحمه الله تعالى لمّا توجّه إليهم صبحبة الملك الناصر صلاح الدين يوسف المذكور، وكان عنده حزم وشجاعة.
وفيها توفّى الشيخ الأديب الفقيه مخلص الدين إسماعيل بن عمر [بن «1» يوسف] ابن قرناص الحموىّ الشاعر المشهور، كان فصيحا شاعرا من بيت علم وأدب.
ومن شعره رحمه الله تعالى:
أمّا والله لو شقّت قلوب ... ليعلم ما بها من فرط حبّى
لأرضاك الذي لك فى فؤادى ... وأرضانى رضاك بشقّ قلبى
وفيها توفّى الملك السعيد إيلغازى نجم الدين [ابن «2» أبى الفتح أرتق بن إيلغازى ابن ألبى بن تمرتاش بن إيلغازى] الأرتقى صاحب ماردين، مات فى سادس صفر، وقيل فى ذى الحجّة سنة ثمان وخمسين.
وفيها توفّى الشيخ الإمام الواعظ المحدّث أبو عمرو عثمان بن مكّى بن عثمان السّعدىّ الشّارعىّ الشّافعىّ، سمع الكثير واعتنى به والده فأسمعه من نفسه وغيره، وكان ينشد لأبى العتاهية:
اصبر لدهر نال من ... ك فهكذا مضت الدّهور
فرح وحزن مرّة ... لا الحزن دام ولا السّرور
وفيها توفّى الأديب الفاضل نور الدين أبو الحسن علىّ بن يوسف بن أبى المكارم عبد الله الأنصارىّ المصرىّ المعروف بالعطّار، كان شاعرا فاضلا، مات قبل الأربعين سنة من عمره. ومن شعره ملغزا فى كوز الزّير:

(7/202)


وذى أذن بلا سمع ... له قلب «1» بلا لبّ
مدى الأيّام فى خفض ... وفى رفع وفى نصب
إذا استولى على الحبّ ... فقل ما شئت فى الصّبّ «2»
وفيها كانت مقتلة السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف، وكنيته أبو المظفّر، ابن السلطان الملك العزيز محمد ابن السلطان الملك الظاهر غازى ابن السلطان صلاح الدين يوسف ابن الأمير نجم الدين أيّوب الأيّوبى الحلبىّ، وكان صاحب حلب ثم صاحب الشام. ولد بقلعة حلب فى شهر رمضان سنة سبع وعشرين وستمائة، وسلطنوه عند موت أبيه سنة أربع وثلاثين، وقام بتدبير مملكته الأمير شمس الدين لؤلؤ الأمينى، وعز الدين بن المحلى «3» ، والوزير الأكرم «4» جمال الدين القفطىّ، والطواشى جمال الدولة إقبال الخاتونىّ، والأمر كلّه راجع لأمّ [أبيه «5» ] الصاحبة صفيّة خاتون بنت الملك العادل أبى بكر بن أيّوب. وماتت سنة أربعين واستقلّ «6» الملك الناصر هذا وأمر ونهى. ووقع للملك الناصر هذا أمور ووقائع ومحن، وهو الذي كان الملك الظاهر بيبرس لمّا خرج من مصر فى نوبة البحريّة توجّه إليه وصار فى خدمته. وقد مرّ ذكره فى مواطن كثيرة من هذا الكتاب، من قدومه نحو القاهرة فى جفلة التّتار، ورجوعه من قطية «7» إلى البلاد الشاميّة، وغير ذلك، ثم آل أمره إلى أن توجّه إلى ملك التّتار هولاكو وتوجّه معه أخوه

(7/203)


الملك الظاهر سيف الدين غازى، وكان رشّح للملك، والملك الصالح نور الدين إسماعيل صاحب حمص المقدّم ذكره فى هذه السنة؛ ولمّا وصل الملك الناصر إلى هولاكو أحسن إليه وأكرمه إلى أن بلغه كسرة عين جالوت غضب عليه وأمر بقتله، فاعتذر إليه فأمسك عن قتله، لكن أعرض عنه، فلمّا بلغه كسرة بيدرا «1» على حمص قتله وقتل أخاه سيف الدين غازيا «2» المذكور، وقتل الملك الصالح نور الدين صاحب حمص وجميع من كان معه سوى ولده الملك العزيز. وكان الملك الناصر مليح الشكل إلّا أنّه كان أحول؛ وكان عنده فصاحة ومعرفة بالأدب، وكان كريما عاقلا فاضلا جليلا متجمّلا فى مماليكه وملبسه ومركبه، وكان فصيحا شاعرا لطيفا.
قال ابن العديم «3» : أنشدنى لنفسه. (يعنى الملك الناصر هذا) .
البدر يجنح للغروب ومهجتى ... لفراق مشبهه أسى تتقطّع
والشّرب قد خاط النعاس جفونهم ... والصبح من جلبابه يتطلّع
قال وأنشدنى لنفسه رحمه الله تعالى:
اليوم يوم الأربعا ... فيه يطيب المرتعى
يا صاحبى أما ترى ... شمل المنى قد جمّعا
وقد حوى مجلسنا ... جلّ السرور أجمعا
فقم بنا نشربها ... ثلاثة وأربعا

(7/204)


من كفّ ساق أهيف ... شبيه بدر طلعا
فى خدّه وثغره ... ورد ودرّ صنعا
يسطو ويرنو تارة ... والليث والظبى معا
وله لمّا مرّت به التّتار على حلب، وهى خاوية على عروشها وقد تهدّمت والنّيران بها تعمل، فقال:
يعزّ علينا أن نرى ربعكم يبلى ... وكانت به آيات حسنكم تتلى
وله يشتاق إلى حلب ومنازلها:
سقى «1» حلب الشّهباء فى كل لزبة ... سحابة غيث نوءها ليس يقلع
فتلك ديارى لا العقيق ولا الغضا ... وتلك ربوعى لا زرود ولعلع
قلت: وقد ذكرنا من محاسنه وفضله نبذة كبيرة فى تاريخنا «المنهل الصافى، والمستوفى بعد الوافى» إذ هو كتاب تراجم يحسن التطويل فيه. انتهى.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الجمال عثمان بن مكىّ ابن السّعدىّ الشارعىّ الواعظ فى شهر ربيع الآخر، وله خمس وسبعون سنة.
وأبو الحسن محمد بن الأنجب «2» بن أبى عبد الله الصوفىّ فى رجب، وله ثلاث وثمانون سنة. وحافظ المغرب أبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن سيّد الناس اليعمرىّ بتونس فى رجب، وله واحد وستون عاما. وكمال الدين أبو حامد محمد ابن القاضى صدر الدين عبد الملك بن عيسى بن درباس الصدر العدل فى شوّال، وله اثنتان وثمانون سنة. وصاحب الشام الملك الناصر يوسف بن العزيز قتل صبرا،

(7/205)


وله اثنتان وثلاثون سنة، وقتل معه شقيقه الملك الظاهر غازى، والملك الصالح إسماعيل ابن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه صاحب حمص. وتوفى بصهيون صاحبها مظفّر الدين عثمان بن منكورس فى شهر ربيع الأوّل عن سنّ عالية؛ تملّك بعد أبيه ثلاثا وثلاثين «1» سنة، وولى بعد ابنه محمد.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 660]
السنة الثانية من ولاية الملك الظاهر بيبرس على مصر، وهى سنة ستين وستمائة.
فيها استولى الملك الظاهر بيبرس صاحب الترجمة على دمشق وبعلبكّ والصّبيبة وحلب وأعمالها خلا البيرة.
وفيها استولى التّتار على الموصل، وقتلوا الملك الصالح صاحبها الذي كان خرج مع الخليفة المستنصر من ديار مصر؛ على ما يأتى ذكرهما فى محلّه من هذه السنة.
وفيها توفّى الخليفة أمير المؤمنين المستنصر بالله أبو القاسم أحمد ابن الخليفة الظاهر بأمر الله محمد ابن الناصر لدين الله أحمد، الذي بويع بالقاهرة بالخلافة بعد شغور الخلافة نحو سنتين ونصف، وخرج الملك الظاهر بيبرس معه إلى البلاد الشاميّة، وقد مرّ ذكر قدومه القاهرة وبيعته وسفره وقتله ورفع نسبه إلى العبّاس رضى الله عنه فى ترجمة الملك الظاهر هذا، ولا حاجة للإعادة؛ ومن أراد ذلك فلينظره هناك.

(7/206)


وفيها قتل الملك الصالح إسماعيل ابن الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل.
وقد ذكرنا وفوده على الملك وخروجه مع أخيه والخليفة المستنصر بالله المقدّم ذكره، فلا حاجة لذكره هنا ثانيا؛ قتل بأيدى التّتار فى ذى القعدة، وكان عارفا عادلا حسن السّيرة.
وفيها توفّى الأمير سيف الدين بلبان «1» الزردكاش، كان من أعيان أمراء دمشق، وكان الأمير طيبرس «2» الوزيرى نائب الشام إذا خرج من الشام استنابه عليها، وكان ديّنا خيّرا. مات بدمشق فى ذى الحجّة.
وفيها توفّى الحسن بن محمد بن أحمد بن نجا الشيخ الأديب أبو محمد الغنوىّ النّصيبىّ الشافعىّ الإربلىّ المنشأ الضّرير الملقّب بالعزّ. قال صاحب الذّيل على مرآة الزمان: المشهور بعدم الدّين والزّندقة. كان فاضلا فى العربيّة والنحو والأدب وعلوم الأوائل، منقطعا فى منزله يتردّد إليه من يقرأ عليه تلك العلوم، وكان يتردّد إليه جماعة من المسلمين واليهود والنصارى والسامرة يقرئ الجميع؛ قال: وكان يصدر عنه من الأقوال ما يشعر بانحلال عقيدته. ومات فى شهر ربيع الاخر بدمشق. ومن شعره قوله:
توهّم واشينا بليل مزاره ... فهم ليسعى بيننا بالتباعد
فعانقته حتّى اتحدنا تعانقا ... [فلمّا «3» ] أتانا ما رأى غير واحد
قال الشهاب «4» محمود: ولمّا أنشدت هذين البيتين يعنى قول العزّ.
توهم واشينا بليل مزاره

(7/207)


بين يدى الملك الناصر صلاح الدين صاحب دمشق قال: لا تلمه فإنّه لزمه «1» لزوم أعمى؛ فلمّا بلغ العزّ قول الملك الناصر؛ قال: والله هذا الكلام أحلى من شعرى.
وفيها توفّى الشيخ الإمام العلّامة شيخ الإسلام عزّ الدين أبو محمد عبد العزيز ابن عبد السلام بن أبى القاسم بن الحسن بن محمد بن المهذّب السلمى الدّمشقىّ الشافعىّ المعروف بابن عبد السلام. مولده سنة سبع أو ثمان وسبعين وخمسمائة.
قال الذهبىّ: وتفقّه على الإمام فخر «2» الدين ابن عساكر، وقرأ الأصول والعربيّة، ودرّس وأفتى وصنّف وبرع فى المذهب وبلغ رتبة الاجتهاد، وقصده الطلبة من الآفاق وتخرّج به أئمة، وله التصانيف المفيدة والفتاوى السديدة، وكان إماما ناسكا عابدا، وتولّى قضاء مصر القديمة مدّة، ودرّس بعدّة بلاد. ومات فى عاشر جمادى الأولى.
وفيها توفّى الشيخ الإمام الواعظ عزّ الدين أبو محمد عبد العزيز ابن الشيخ الإمام العلّامة أبى المظفر شمس الدين يوسف بن قزأوغلى الدمشقىّ الحنفىّ هو ابن صاحب مرآة الزمان. كان عزّ الدين فقيها واعظا فصيحا مفتنّا درّس بعد أبيه فى المدرسة المعزّية ووعظ وكان لوعظه موقع فى القلوب، وكانت وفاته بدمشق فى شوّال ودفن عند أبيه بسفح قاسيون.
وفيها توفّى الإمام العلّامة كمال الدين أبو القاسم عمر بن أحمد بن هبة الله بن محمد ابن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير بن هارون بن موسى بن عيسى بن عبد الله

(7/208)


ابن محمد بن أبى جرادة عامر بن ربيعة بن خويلد بن عوف بن عامر بن عقيل العقيلىّ الحلبىّ الفقيه الحنفى الكاتب المعروف بابن العديم، ورفع نسبه بعض المؤرّخين إلى غيلان. مولده بحلب فى العشر الأوّل من ذى الحجّة سنة ستّ وثمانين وخمسمائة، وسمع الحديث من أبيه وعمّه أبى غانم «1» محمد ومن غيرهما، وحدّث بالكثير فى بلاد متعدّدة، ودرّس وأفتى وصنّف، وكان إماما عالما فاضلا مفتنّا فى علوم كثيرة، وهو أحد الرؤساء المشهورين والعلماء المذكورين. وأمّا خطّه ففى غاية الحسن يضاهى ابن البوّاب «2» الكاتب؛ وقيل: إنّه هو الذي اخترع قلم الحواشى، وعرّض بهذا فى شعره القيسرانىّ رحمه الله تعالى بقوله:
بوجه معذّبى آيات حسن ... فقل ما شئت فيه ولا تحاشى
ونسخة حسنة قرئت وصحّت ... وها خطّ الكمال على الحواشى
وجمع لحلب تاريخا كبيرا فى غاية الحسن، ومات وبعضه مسودّة.
قلت: وذيّل عليه القاضى علاء الدين «3» علىّ ابن خطيب الناصريّة قاضى قضاة الشافعية بحلب ذيلا «4» إلّا أنّه قصير إلى الرّكبة، وقفت عليه فلم أجده جال حول الحمى، ولا سلك فيه مسلك المذيّل عليه من الشروط، إلّا أنّه أخذ علم التاريخ بقوّة الفقه، على أنّه كان من الفضلاء العلماء ولكنّه ليس من خيل هذا الميدان، وكان يقال فى الأمثال: من مدح بما ليس فيه فقد تعرّض للضّحكة. انتهى.

(7/209)


ومحاسن ابن العديم كثيرة وعلومه غزيرة، وهم بيت علم ورياسة وعراقة.
يأتى ذكر جماعة من ذرّيّته وأقاربه فى هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. ومن شعر الصاحب كمال الدين المذكور ممّا كتبه على ديوان الشيخ أيدمر «1» مولى وزير الجزيرة، وهو:
وكنت أظنّ التّرك تختصّ أعين ... لهم إن رنت بالسّحر منها وأجفان
إلى أن أتانى من بديع قريضهم ... قواف هى السحر الحلال وديوان
فأيقنت أنّ السحر أجمعه «2» لهم ... يقرّ لهم هاروت فيه وسحبان
ومن شعره أيضا رحمه الله وأجاد فيه إلى الغاية:
فواعجبا من ريقها وهو طاهر ... حلال وقد أمسى علىّ محرّما
هو الخمر لكن أين للخمر طعمه ... ولذّته مع أنّنى لم أذقهما
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال. وفيها توفّى العلّامة عزّ الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمىّ الدّمشقى بالقاهرة فى جمادى الأولى عن ثلاث وثمانين سنة. والصاحب كمال الدين عمر بن أحمد بن هبة الله بن العديم العقيلىّ بعد ابن عبد السلام بأيام، وكان له اثنتان وسبعون سنة. ونقيب الأشراف بهاء الدين علىّ بن محمد بن إبراهيم بن أبى الجنّ «3» الحسينىّ فى رجب عن إحدى وثمانين سنة.
وضياء الدين عيسى بن سليمان التّغلبىّ فى رمضان، وله تسعون سنة. واستشهد فى المصافّ المستنصر بالله أحمد ابن الظاهر محمد ابن الناصر فى أوائل المحرّم بالعراق،

(7/210)


وتفرّق جمعه. وقتلت التّتار فى ذى القعدة الملك الصالح ركن الدين إسماعيل بن لؤلؤ صاحب الموصل بعد الأمان. وفى شهر ربيع الآخر العزّ الضرير الفيلسوف حسن ابن محمد بن أحمد الإربلى، وله أربع وسبعون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وسبع أصابع. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا سواء.
[ما وقع من الحوادث سنة 661]
السنة الثالثة من ولاية السلطان الملك الظاهر بيبرس على مصر، وهى سنة إحدى وستين وستمائة.
فيها بايع السلطان الملك الظاهر بيبرس المذكور الخليفة الحاكم بأمر الله أبا العباس أحمد ابن الأمير أبى علىّ الحسن؛ وقيل: ابن محمد بن الحسن بن علىّ القبّى ابن الخليفة الراشد، وهو التاسع والثلاثون من خلفاء بنى العبّاس، وهو أوّل خليفة من بنى العبّاس سكن بمصر ومات بها؛ وبويع يوم الخميس تاسع المحرّم من سنة إحدى وستين وستمائة، وكان وصوله إلى الديار المصريّة فى السنة الحاليّة.
وفيها هلك ريدا «1» فرنس، واسمه بواش المعروف بالفرنسيس ملك الفرنج الذي كان ملك دمياط فى دولة الملك الصالح أيّوب.
وفيها توفّى المحدّث الفاضل عزّ الدين أبو محمد عبد الرّزاق [بن رزق «2» الله] ابن أبى بكر بن خلف الرّسعنىّ «3» ، كان إماما فاضلا شاعرا محدّثا. ومن شعره:
[و «4» ] لو أنّ إنسانا يبلّغ لوعتى ... وشوقى وأشجانى إلى ذلك الرّشا

(7/211)


لأسكنته عينى ولم أرضها له ... فلولا لهيب القلب أسكنته الحشا
وفيها توفّى الأمير مجير الدين «1» أبو الهيجاء [بن «2» ] عيسى الأزكشىّ الكردىّ الأموىّ، كان عن أعيان الأمراء وشجعانهم، ولمّا ولى الملك المظفّر قطز السلطنة، وولّى الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ نيابة الشام جعله مشاركا له فى الرأى والتدبير فى نيابة الشام، وكان الملك الأشرف موسى بن العادل سجنه «3» مدّة لأمر اقتضى ذلك. فلمّا كان فى السجن كتب بعض الأدباء يقول:
يا أحمد ما زلت عماد الدين ... يا أشجع من أمسك رمحا بيمين
لا تيئسنّ إن حصلت فى سجنهم ... ها يوسف قد أقام فى السجن سنين
وكان مولده بمصر فى سنة ثمان وستين وخمسمائة؛ ومات فى جمادى الأولى بمدينة إربل.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى عبد الغنى بن سليمان ابن بنين البنانىّ فى شهر ربيع الأوّل، وله ستّ وثمانون سنة، وهو آخر من روى عن عمر «4» . والعلّامة علم الدين القاسم بن أحمد الأندلسىّ فى رجب بدمشق، وله ستّ وثمانون سنة. والإمام تقىّ الدين أبو القاسم عبد الرحمن بن مرهف النّاشرىّ «5» المصرىّ المقرئ فى شعبان، وله إحدى وثمانون سنة. والإمام كمال الدين علىّ بن شجاع ابن سالم العبّاسىّ الضّرير فى ذى الحجّة، وله تسعون سنة إلّا شهرا.

(7/212)


أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وسبع أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث عشرة إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 662]
السنة الرابعة من ولاية السلطان الملك الظاهر بيبرس على مصر، وهى سنة اثنتين وستين وستمائة.
فيها انتهت عمارة مدرسة «1» السلطان الملك الظاهر بيبرس ببين القصرين من القاهرة. وقد تقدّم ذكرها فى ترجمته.
وفيها استدعى الملك الظاهر الأمير علاء الدين أيدكين البندقدارىّ إلى القاهرة؛ وأمره أن يجعل نائبه بحلب بعد خروجه الأمير نور الدين علىّ بن مجلّى ففعل ذلك، وقدم القاهرة؛ فلمّا وصل إليها عزله وأقام نور الدين عوضه فى نيابة حلب. وقد تقدّم أنّ علاء الدين أيدكين هو أستاذ الملك الظاهر بيبرس الذي اشتراه منه الملك الصالح نجم الدين أيّوب.
وفيها كان الغلاء بديار مصر فبلغ الإردبّ القمح مائة «2» درهم وخمسة دراهم نقرة «3» ، والشّعير سبعين درهما الإردبّ، وثلاثة أرطال خبز بالمصرىّ بدرهم نقرة، ورطل اللحم بالمصرىّ وهو مائة وأربعة وأربعون درهما بدرهم «4» ؛ وكان هذا الغلاء عظيما بديار مصر. فلمّا وقع ذلك فرّق الملك الظاهر الفقراء على الأغنياء والأمراء وألزمهم بإطعامهم، ثم فرّق من شونه القمح على الزوايا والأربطة، ورتّب للفقراء

(7/213)


كلّ يوم مائة اردبّ مخبوزة تفرّق بجامع ابن طولون. ودام على ذلك إلى أن دخلت السنة الجديدة والمغلّ الجديد؛ وأبيع القمح فى الإسكندريّة فى هذا الغلاء الإردبّ بثلاثمائة وعشرين درهما.
وفيها أحضر بين يدى السلطان طفل ميّت له رأسان «1» وأربع أعين وأربع أيد وأربع أرجل، فأمر بدفنه.
وفيها توفّى القاضى كمال الدين أبو «2» العبّاس أحمد بن عبد الله بن عبد الرحمن الأسدىّ الحلبىّ الشافعىّ المعروف بابن الأستاذ قاضى حلب، مولده سنة إحدى عشرة وستمائة، سمع الكثير وحدّث ودرّس، وكان فاضلا عالما مشكور السّيرة مات فى شوّال.
وفيها توفّى شيخ الشيوخ الصاحب شرف الدين عبد العزيز بن محمد بن عبد المحسن «3» بن منصور الأنصارىّ الأوسىّ الدمشقىّ المولد الحموىّ الدار والوفاة الإمام الأديب العلّامة، مولده يوم الأربعاء ثانى عشرين جمادى الأولى سنة ستّ وثمانين وخمسمائة، وسمع الحديث وتفقّه وبرع فى الفقه والحديث والأدب، وأفتى ودرّس وتقدّم عند الملوك، وترسّل عنهم غير مرّة. وكانت له الوجاهة التامّة وله اليد الطّولى فى الترسّل والنظم، وشعره فى غاية الحسن. ومن شعره- رحمه الله- قوله:
إنّ قوما يلحون فى حبّ سعدى ... لا يكادون يفقهون حديثا

(7/214)


سمعوا وصفها ولاموا عليها ... أخذوا طيّبا وأعطوا خبيثا
وله رحمه الله:
قلت وقد عقرب صدغا له ... عن شقّة الحاجب لم يحجب
قدّست يا ربّ الجمال الذي ... ألّف بين النون والعقرب
وله عفا الله عنه:
مرضت ولى جيرة كلّهم ... عن الرّشد فى صحبتى حائد
فأصبحت فى النقص مثل الذي ... ولا صلة لى ولا عائد
وله غفر الله له:
ولقد عجبت لعاذلى فى حبّه ... لمّا دجى ليل العذار المظلم
أو ما درى من سنّتى وطريقتى ... أنّى أميل مع السواد الأعظم
قلت: وقد استوعبنا ترجمة شيخ الشيوخ بأوسع من ذلك فى تاريخنا «المنهل الصافى» وذكرنا من محاسنه وشعره نبذة كبيرة، وكانت وفاته ليلة الجمعة ثامن شهر رمضان بحماة رحمه الله تعالى.
وفيها توفّى الملك المغيث فتح الدين أبو الفتح عمر صاحب الكرك ابن السلطان الملك العادل أبى بكر محمد ابن السلطان الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبى بكر محمد ابن الأمير نجم الدين أيّوب الأيّوبىّ المصرىّ ثم الكركىّ. وقد ذكرنا من أمره نبذة كبيرة فى ترجمة عمّه الملك الصالح ثم من بعده فى عدّة تراجم لا سيما لمّا توجّه إليه الملك الظاهر بيبرس مع جماعة البحريّة، وأقام عنده وحرّكه على ملك مصر حسب ما تقدّم ذكر ذلك كلّه. انتهى.

(7/215)


قلت: ومولد الملك المغيث هذا بالديار المصريّة وربّى يتيما عند عمّاته القطبيّات بنات الملك العادل، والقطبيات عرفن بالقطبيات لأنهنّ أشقّاء الملك المفضّل «1» قطب الدين ابن الملك العادل، وبقى المغيث هذا عندهنّ إلى أن أخرج إلى الكرك واعتقل بها ثم ملكها بعد موت عمّه الملك الصالح نجم الدين أيّوب، ووقع له بها أمور، إلى أن قدم فى العام الماضى على الملك الظاهر بيبرس بمصر، فقبض عليه وقتله فى محبسه، رحمه الله تعالى، لما كان فى نفسه منه أيام كان بخدمته فى الكرك مع البحريّة.
وفيها توفّى الأمير حسام الدين لاچين بن عبد الله العزيزىّ [الجوكندار «2» ] ، كان من أكابر الأمراء وأعظمهم، وكان شجاعا جوادا ديّنا له اليد البيضاء فى غزو التّتار، وكان يجمع الفقراء ويصنع لهم الأوقات «3» والسماعات، وكان كبير القدر عظيم الشأن، رحمه الله تعالى.
وفيها توفّى الشيخ محيى الدين أبو بكر محمد بن محمد بن إبراهيم بن الحسين بن سراقة الأنصارىّ الأندلسىّ الشاطبىّ، كان فاضلا محدّثا، سمع الكثير وولى مشيخة دار الحديث بحلب، ثم ولى مشيخة الحديث بمصر بالمدرسة «4» الكامليّة وحدّث بها.
ومن شعره، رحمه الله تعالى:
وصاحب كالزّلال يمحو ... صفاؤه الشكّ باليقين
لم يحص إلّا الجميل منّى ... كأنّه كاتب اليمين

(7/216)


قلت: وهذا بعكس قول الأديب شهاب «1» الدين المنازىّ، رحمه الله تعالى:
وصاحب خلته خليلا ... وما جرى غدره ببالى
لم يحص إلّا القبيح منّى ... كأنّه كاتب الشمال
وفيها توفّى الملك الأشرف مظفّر الدين موسى ابن الملك المنصور إبراهيم بن الملك المجاهد أسد الدين شير كوه بن محمد ابن الملك المنصور أسد الدين شير كوه الكبير، ملك الأشرف هذا حمص بعد وفاة أبيه، وطالت مدّته به ووقع له أمور، وكان فيه مداراة، للتّتار واستمرّ على ذلك إلى أن توفى بحمص فى حادى عشر صفر قبل صلاة الجمعة، ودفن ليلا على جدّه الملك المجاهد أسد الدين شير كوه.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى المحدّث ضياء الدين علىّ بن محمد البالسىّ «2» فى صفر، وله سبع وخمسون سنة. وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم الأنصارىّ البابشرقىّ فى شهر ربيع الأوّل. والحافظ رشيد الدين أبو الحسين يحيى ابن علىّ الأموىّ العطّار المالكىّ فى جمادى الأولى، وله ثمان وسبعون سنة. وأبو الطاهر إسماعيل بن «3» صارم الخيّاط بعده بأيام. والخطيب عماد الدين عبد الكريم [ابن «4» جمال الدين أبى القاسم عبد الصمد] بن محمد الأنصارىّ بن الحرستانىّ «5» فى جمادى الأولى. والورع الزاهد أبو القاسم بن منصور «6» فى شعبان. والإمام محيى الدين

(7/217)


أبو بكر محمد بن محمد بن سراقة الشاطبىّ بمصر، وله سبعون سنة. وشيخ الشيوخ شرف الدين عبد العزيز بن محمد بن عبد المحسن الأنصارىّ بحماة فى رمضان. والملك المغيث فتح الدين عمر بن العادل أبى بكر بن الكامل محمد صاحب الكرك، أعدمه الملك الظاهر. والأمير الكبير حسام الدين لا چين الجوكندار العزيزىّ فى المحرّم، ودفن بقاسيون. وصاحب حمص الملك الأشرف موسى ابن المنصور إبراهيم بن أسد الدين بحمص فى صفر، وله خمس وثلاثون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وأربع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا واثنتا عشرة إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 663]
السنة الخامسة من ولاية الملك الظاهر بيبرس على مصر، وهى سنة ثلاث وستين وستمائة.
فيها ولّى الملك الظاهر بيبرس من كلّ مذهب قاضيا وقد تقدّم ذكر ذلك.
وفيها توفّى الأديب البارع شرف الدين محاسن [الكتبىّ «1» ] الصّورىّ، كان عالما فاضلا أديبا شاعرا، ومات فى شهر رجب. ومن شعره، رحمه الله:
عتبت علىّ فقلت إن عاتبتها ... كان العتاب لوصلها استهلاكا
وأردت أن تبقى المودّة بيننا ... موقوفة فتركت ذاك لذاك
وفيها توفّى الأمير جمال الدين موسى بن يغمور بن جلدك بن بليمان «2» بن عبد الله أبو الفتح، مولده فى جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وخمسمائة بالقوب «3» من أعمال

(7/218)


قوص «1» بصعيد مصر وسمع الحديث، وتنقّل فى الولايات الجليلة مثل نيابة السلطنة بالقاهرة ونيابة دمشق، ولم يكن فى الأمراء من يضاهيه فى منزلته وشجاعته وقربه من الملوك، وكان أميرا جليلا خبيرا حازما سيوسا مدبّرا جوادا ممدّحا، وكان الملك الظاهر إذا عمل مشورة وتكلّم جمع خشداشيته من الأمراء فلا يصغى إلّا إلى قول ابن يغمور هذا ويفعل ما أشار به عليه. وكانت وفاته فى مستهلّ شعبان بالقصير «2» من أعمال الفاقوسيّة بين الغرابى والصالحيّة «3» . ومن شعره قوله:
ما أحسن ما جاء كتاب الحبّ ... يبدى حرقا كأنّه عن قلبى
فازددت بما قرأت شوقا وضمّا ... لا يبرّده إلا نسيم القرب
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى المحدّث معين الدين إبراهيم بن عمر بن عبد العزيز القرشىّ الزّكوىّ. والحافظ زين الدين أبو البقاء خالد ابن يوسف بن سعد النابلسىّ بدمشق، وله ثمان وسبعون سنة فى سلخ جمادى الأولى. والأمير الكبير جمال الدين موسى بن يغمور. والنجيب فراس بن علىّ بن زيد العسقلانىّ التاجر. وقاضى الديار المصريّة بدر الدين يوسف بن الحسن السّنجارىّ فى رجب. والشيخ أبو القاسم الحوّارىّ «4» الزاهد.

(7/219)


أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وأربع عشرة إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 664]
السنة السادسة من ولاية الملك الظاهر بيبرس على مصر، وهى سنة أربع وستين وستمائة.
فيها توفّى شهاب الدين أبو العبّاس أحمد بن صالح، كان فاضلا أديبا. ومن شعره، رحمه الله، فى مكار مليح:
علقته مكاريا ... شرّد عن عينى الكرى
قد أشبه البدر فلا ... يملّ من طول السّرى
وفيها توفّى طاغية التّتار وملكهم هولاكو وقيل هولاوون وقيل هولاو بن تولى خان بن چنكز خان المغلى التّركىّ، ملك مكان أبيه بعد موته وكان من أعظم ملوك التّتار، وكان حازما شجاعا مدبرا، استولى على الممالك والأقاليم فى أيسر مدّة، وفتح بلاد خراسان وأذربيجان وعراق العجم وعراق العرب والموصل والجزيرة وديار بكر والشام والروم والشرق وغير ذلك. وهو الذي قتل الخليفة المستعصم المقدّم ذكره، وكان على قاعدة المغل لا يتديّن بدين، وإنّما كانت زوجته ظفر خاتون قد تنصّرت، فكانت تعضد النصارى وتقيم شعائرهم فى تلك البلاد. وكان هولاكو سعيدا فى حروبه لا يروم أمرا إلّا ويسهل عليه، وكانت وفاته بعلّة الصّرع، وكان الصّرع يعتريه من عدّة سنين فى كلّ وقت، حتّى إنّه كان يعتريه فى اليوم الواحد المرّة والمرّتين والثلاث، ثم زاد به فمرض ولم يزل ضعيفا نحو شهرين وهلك، فأخفوا موته وصبّروه حتى حضر ولده أبغا وجلس مكانه فى الملك، وقيل: إنّه لم يدفن

(7/220)


وعلّق بسلاسل، ومات وله ستّون سنة أو نحوها. وخلّف من الأولاد الذكور سبعة عشر ولدا: وهم أبغا الذي ملك بعده وأشموط وتمشين «1» وتكشى «2» وكان [تكشى «3» فاتكا] جبّارا، وأجاى وتستز «4» ومنكوتمر الذي التقى مع الملك المنصور قلاوون على حمص وانهزم جريحا، كما سيأتى ذكره إن شاء الله تعالى، وباكودر وأرغون وتغاى «5» تمر والملك أحمد وجماعة أخر.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو الفضل إسماعيل ابن إبراهيم بن يحيى القرشى بن الدّرجىّ فى صفر «6» . والشيخ جمال الدين أحمد بن عبد الله بن شعيب التّميمىّ فى شهر ربيع «7» الاخر، وله اثنتان وسبعون سنة.
ورضىّ الدين إبراهيم بن البرهان عمر الواسطىّ التاجر بالإسكندرية فى رجب، وله إحدى وسبعون سنة، وخلّف أموالا عظيمة. والأمير الكبير جمال الدين أيدغدى العزيزىّ. والشيخ أحمد بن سالم المصرىّ النحوىّ فى شوّال بدمشق.
والطاغية هولاكو بمراغة «8» .
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وسبع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا واثنتا عشرة إصبعا.