النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

 [ما وقع من الحوادث سنة 685]
السنة الثامنة من ولاية الملك المنصور قلاوون على مصر، وهى سنة خمس وثمانين وستمائة.
فيها استولى الملك المنصور قلاوون على الكرك وانتزعها من يد الملك المسعود خضر ابن الملك الظاهر بيبرس.
وفيها توفّى الشيخ معين الدين أبو عمرو عثمان بن سعيد بن عبد «1» الرحمن بن أحمد ابن تولوا الفهرىّ، مولده بتنّيس «2» سنة خمس وستمائة، ومات بمصر فى شهر ربيع الأوّل، ودفن بالقرافة الصغرى، وسمع الحديث وتفقّه وكان له معرفة بالأدب وله يد طولى فى النظم، وشعره فى غاية الجودة. ومن شعره وقد أمر قاضى مصر بقطع أرزاق الشعراء من الصدقات سوى أبى الحسين «3» الجزّار. فقال:
تقدّم القاضى لنوّابه ... بقطع رزق البرّ والفاجر
ووفّر الجزّار من بينهم ... فاعجب للطف التّيس بالجازر
وفيها توفّى الشيخ شهاب الدين أبو عبد الله محمد بن عبد المنعم بن محمد الأنصارىّ الصوفى الفقيه الشافعى، الشاعر المشهور المعروف بابن الخيمىّ، كان إمام عصره فى الأدب ونظم الشعر مع مشاركة فى كثير من العلوم. ومولده سنة اثنتين وستمائة، وتوفى بمشهد الحسين بالقاهرة فى شهر رجب، وقد أوضحنا أمره مع نجم الدين ابن إسرائيل لمّا تداعيا القصيدة التى أوّلها:

(7/369)


يا مطلبا ليس لى فى غيره أرب ... إليك آل التّقصّى وانتهى الطّلب
فى تاريخنا «المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى» وذكرنا أمرهما لمّا أمرهما ابن الفارض بنظم قصيدتين فى الرّوىّ والقافية وذكرنا القصيدتين أيضا بكمالهما، ثم حكم ابن الفارض بالقصيدة لشهاب الدين هذا. والقصيدة التى نظمها شهاب الدين ابن الخيمىّ هذا لمّا أمره ابن الفارض بالنظم أوّلها:
لله قوم بجرعاء الحمى غيب ... جنوا علىّ ولمّا أن جنوا عتبوا
والتى نظمها ابن إسرائيل.
لم يقض من حبّكم بعض الذي يجب ... قلب متى ما جرى تذكاركم يجب
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى المسند أبو العبّاس أحمد بن شيبان الصالحىّ فى صفر، وقد قارب التسعين. والعلّامة جمال الدين محمد ابن أحمد بن محمد البكرىّ. والشهاب محمد بن عبد المنعم بن محمد الأنصارىّ ابن الخيمىّ الشاعر فى رجب، وله ثلاث وثمانون سنة. والشيخ عبد الرحيم بن محمد ابن أحمد بن فارس العلثىّ «1» بن الزّجّاج فى المحرّم. وأمة الحقّ شاميّة ابنة صدر الدين الحسن بن محمد بن محمد البكرىّ فى رمضان. والإمام صفىّ الدين خليل بن أبى بكر ابن محمد المراغىّ فى ذى القعدة. وقاضى القضاة بهاء الدين يوسف ابن القاضى محيى الدين [يحيى «2» ] بن الزكى فى ذى الحجّة، وله ستّ وأربعون سنة. والمقرئ «3» برهان الدين إبراهيم بن إسحاق بن المظفّر الوريرىّ فى ذى الحجّة قافلا من الحجّ. وخطيب كفر بطنا «4»

(7/370)


جمال الدين محمد بن عمر الدّينورىّ فى رجب، وله اثنتان وسبعون سنة.
والمقرئ الشيخ حسن بن عبد الله بن ويحيان «1» الرّاشدىّ «2» فى صفر.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع، وقيل خمس، وست أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وأربع أصابع.
[ما وقع من الحوادث سنة 686]
السنة التاسعة من ولاية الملك المنصور قلاوون على مصر، وهى سنة ست وثمانين وستمائة.
فيها توفّى الشيخ الإمام العارف بالله تعالى قطب زمانه شهاب الدين أبو العبّاس أحمد بن عمر المرسىّ الأنصارىّ الإسكندرىّ المالكىّ الصالح المشهور، كان علّامة زمانه فى العلوم الإسلاميّة، وله القدم الراسخة فى علم التحقيق، وله الكرامات الباهرة، وكان يقول: شاركنا الفقهاء فيما هم فيه، ولم يشاركونا فيما نحن فيه. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلىّ: أبو العبّاس بطرق السماء أعلم منه بطرق الأرض. انتهى.
قلت: وكان لديه فضيلة ومشاركة، وله كرامات وأحوال مشهورة عنه، وللناس فيه اعتقاد كبير لا سيّما أهل الإسكندرية، وقد شاع ذكره وبعد صيته بالصلاح والزّهد، وكان من جملة الشهود بالثّغر، وبها توفّى ودفن وقبره «3» يقصد للزيارة.

(7/371)


وفيها توفّى الشيخ شرف الدين أبو الربيع سليمان بن بليمان بن أبى الجيش ابن عبد الجبّار بن بليمان الهمذانىّ الأصل الرّعبانىّ «1» المولد، الإربلىّ المنشأ، الشاعر المشهور صاحب النوادر، كان من شعراء الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد صاحب الشام، وكان أبوه صائغا وتعانى هو أيضا الصّياغة، قيل إنّه جاء إليه مملوك مليح من مماليك الملك الأشرف موسى، وقال له: عندك خاتم لإصبعى؟ فقال له: لا، إلا عندى إصبع مليح لخاتمك. ومات بدمشق فى ليلة عاشر صفر. ومن شعره:
وما زالت الرّكبان تخبر عنكم ... أحاديث كالمسك الذّكىّ بلامين
إلى أن تلاقينا فكان الذي وعت «2» ... من القول أذنى دون ما أبصرت عينى
ولمّا قامر التّلعفرىّ «3» بثيابه وأخفافه قال فيه شرف الدين هذا قصيدة وأنشدها للملك الناصر بحضرة التّلعفرىّ. فلمّا فرغ من إنشادها قال له التّلعفرىّ: ما أنا جندىّ

(7/372)


حتى أقامر بأخفافى. فقال له شرف الدين: بخفاف امرأتك. فقال: مالى امرأة، فقال له: لك مقامرة من بين الحجرين إمّا بالخفاف أو بالنّعال «1» . انتهى.
قلت: وأنا مسامح التّلعفرىّ على القمار، لحسن ما قاله من رائق الأشعار:
فمن كان ذا عذر قبلت اعتذاره ... ومن لاله عذر فعندى له عذر
وفيها توفّى الشيخ الإمام المحدّث قطب الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن علىّ بن محمد بن الحسن بن أحمد «2» بن عبد الله بن ميمون القيسىّ الشّاطبىّ المحدّث الإمام العلّامة، كان شيخ الكامليّة بالقاهرة المعروف بابن القسطلانيّ التّوزرىّ «3» الأصل المصرى المولد المكّىّ المنشأ الشافعىّ المذهب، مولده سنة أربع عشرة وستمائة، ومات يوم السبت ثامن عشر المحرّم، ودفن بالقرافة الصغرى، وكان مجموع الفضائل، رحمه الله.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الإمام النّحوىّ بدر الدين محمد ابن الشيخ جمال الدين بن «4» مالك فى المحرّم. والإمام قطب الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن علىّ القسطلانيّ بالقاهرة فى المحرّم. وقاضى القضاة برهان الدين الخضر بن الحسن بن علىّ السّنجارىّ بمصر فى صفر. والحكيم عماد الدين محمد بن عبّاس الرّبغىّ الدّنيسرىّ، وله إحدى وثمانون سنة. وشرف الدين سليمان ابن بليمان الإربلىّ الشاعر. والمحدث وجيه الدين عبد الرحمن بن حسن السّبتىّ فى جمادى الأولى. والمسند عزّ الدين أبو العزّ عبد العزيز بن عبد المنعم [بن «5» علىّ] ابن الصّيقل الحرّانىّ فى شهر رجب.

(7/373)


أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وأصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشر أصابع.
[ما وقع من الحوادث سنة 687]
السنة العاشرة من ولاية الملك المنصور قلاوون على مصر، وهى سنة سبع وثمانين وستمائة.
فيها توفّى الشيخ المعتقد الصالح برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن معضاد بن شدّاد الجعبرىّ الأصل والمولد المصرىّ الدار والوفاة، الصالح المشهور، نشأ بجعبر ثم انتقل إلى الديار المصريّة واستوطنها ولزم مسجده، وكان يعظ به ويجتمع عنده خلق كثير، ولأصحابه فيه عقيدة حسنة، وله مقالات كثيرة، وكان زاهدا عابدا، سمع الحديث وروى عن السّخاوىّ «1» وغيره، وكان غزير الفضيلة حلو العبارة.
قال الصلاح الصّفدىّ: أخبرنى الشيخ الإمام العلّامة أثير «2» الدين أبو حيّان من لفظه قال: رأيت المذكور بالقاهرة، وحضرت مجلسه أنا والشيخ نجم الدين بن مكّىّ، وجرت لنا معه حكاية، وكان يجلس للعوامّ يذكّرهم ولهم فيه اعتقاد، وكان يدرى شيئا من الحديث، وله مشاركة فى أشياء من العلوم وفى الطب، وله شعر جيّد.
وأنشد له قصيدة أذكر منها القليل:
عشقوا الجمال مجرّدا بمجرّد الر ... وح الزكيّة عشق من زكّاها
متجرّدين عن الطّباع ولؤمها ... متلبّسين عفافها وتقاها
انتهى كلام الصّفدىّ.

(7/374)


وقال القطب اليونينىّ: وأظنّه نيّف على الثمانين من العمر، ولمّا مرض مرض الموت أمر أن يخرج به إلى مكان مدفنه، فلما رآه قال له: «قبير جاك دبير» . ومات بعد ذلك بيوم فى يوم السبت رابع عشرين المحرّم بالقاهرة ودفن من يومه بالحسينيّة «1» خارج باب النّصر، وقبره «2» معروف هناك يقصد للزيارة.
قلت: ويعجبنى فى هذا المعنى المقالة السابعة الزّهديّة من مقالات الشيخ العارف الرّبانىّ شرف الدين عبد المؤمن بن هبة الله الأصفهانىّ المعروف بشوروة من كتابه «أطباق الذهب» وهى:
طوبى للتّقىّ الخامل، الذي سلم عن إشارة الأنامل؛ وتعسا لمن قعد فى الصوامع، ليعرف بالأصابع؛ خزائن الأمناء مكتومة، وكنوز الأولياء مختومة؛ والكامل كامن «3» بتضاءل، والناقص قصير يتطاول؛ والعاقل قبعة «4» ، والجاهل طلعة؛ فاقبع قبوع الحيّات، واكمن فى الظّلمات، كمون «5» ماء الحياة؛ وصن كنزك فى التّراب، وسيفك فى القراب؛ وعفّ آثارك بالذّيل المسحوب، واستر رواءك بسفعة «6» الشّحوب؛ فالنباهة فتنة، والوجاهة محنة؛ فكن كنزا مستورا، ولا تكن سيفا مشهورا؛ إنّ الظالم جدير أن يقبر ولا يحشر، والبالى خليق أن يطوى ولا ينشر؛ ولو عرف

(7/375)


الجذل «1» صولة النّجار، وعضّة المنشار؛ لما تطاول شبرا، ولا تخايل كبرا، وسيقول البلبل المعتقل: يا ليتنى كنت غرابا، ويقول الكافر يا ليتنى كنت ترابا» . انتهى.
وفيها توفّى الشيخ ناصر الدين أبو محمد حسن بن شاور بن طرخان الكنانىّ ويعرف بابن الفقيسىّ وبابن النّقيب الشاعر المشهور، كان من الفضلاء الأدباء، ومات ليلة الأحد منتصف شهر ربيع الأوّل ودفن بسفح المقطّم، وله تسع وسبعون «2» سنة؛ وكان بينه وبين العلّامة شهاب الدين محمود صحبة ومجالسة ومذاكرة فى القريض.
ومن شعره:
نهيناه عن فعل القبيح فما انتهى ... ولا ردّه ردع وعاد وعادى
وقلنا له دن بالصّلاح فقلّما ... رأينا فتى عانى الفساد فسادا
وله:
وجرّدت مع فقرى وشيخوختى التى ... تراها فنومى عن جفونى مشرّد
فلا يدّعى غيرى مقامى «3» فإنّنى ... أنا ذلك الشيخ الفقير المجرّد
وله:
حدّثت عن ثغره المحلّى ... فمل إلى خدّه المورّد
خدّ وثغر فجلّ ربّ ... بمبدع الحسن قد تفرّد
وله:
يا من أدار سلافة «4» من ريقه ... وحبابها الثّغر الشّنيب الأشنب
تفّاح خدّك بالعذار ممسّك ... لكنّه بدم القلوب مخضّب

(7/376)


وله:
أنا العذرىّ فاعذرنى وسامح ... وجرّ علىّ بالإحسان ذيلا
ولمّا صرت كالمجنون عشقا ... كتمت زيارتى وأتيت ليلا
وفيها توفّى الملك الصالح على ابن السلطان الملك المنصور قلاوون، كان والده المنصور قلاوون قد جعله ولىّ عهده وسلطنه فى حياته حسب ما تقدم ذكره فى سنة تسع وسبعين وستمائة، فدام فى ولاية العهد إلى هذه السنة مرض ومات بعد أيّام فى رابع شعبان بقلعة الجبل، ووجد عليه أبوه الملك المنصور قلاوون كثيرا، فإنّه كان نجيبا عاقلا خليقا للملك.
وفيها توفّى الشيخ الطبيب علاء الدين علىّ بن أبى الحرم «1» القرشى الدّمشقىّ المعروف بابن النّفيس الحكيم الفاضل العلّامة فى فنّه، لم يكن فى عصره من يضاهيه فى الطّبّ والعلاج والعلم، اشتغل على المهذّب «2» الدّخوار حتى برع، وانتهت إليه رياسة فنّه فى زمانه، وهو صاحب التصانيف المفيدة، منها: «الشامل فى الطب» ، و «المهذّب فى الكحل» ، و «الموجز «3» » ، و «شرح القانون لابن سينا» . ومات فى ذى القعدة بعد أن أوقف داره وأملاكه وجميع ما يتعلّق به على البيمارستان المنصورىّ بالقاهرة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الشيخ إبراهيم بن معضاد الجعبرىّ بالقاهرة فى المحرّم عن نيّف وثمانين سنة. والإمام أبو العبّاس أحمد بن أحمد بن عبد الله [بن أحمد «4» بن محمد بن قدامة] المقدسىّ الفرضىّ. وخطيب

(7/377)


القدس قطب الدين أبو الزّكاء «1» عبد المنعم بن يحيى الزّهرىّ فى رمضان. والجمال أحمد بن أبى بكر بن سليمان بن الحموىّ. والشيخ الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن عبد العزيز اللّورى «2» شيخ المالكية فى صفر.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وأربع أصابع.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وأربع أصابع.
[ما وقع من الحوادث سنة 688]
السنة الحادية عشرة من ولاية الملك المنصور قلاوون على مصر، وهى سنة ثمان وثمانين وستمائة.
فيها فتحت طرابلس وما أضيف إليها بعد أمور ووقائع حسب ما ذكرناه فى أصل هذه الترجمة مفصّلا.
وفيها توفّى الشيخ علم الدين أحمد ابن الصاحب صفىّ «3» الدين يوسف بن عبد الله ابن شكر المعروف بابن الصاحب، كان نادرة زمانه فى المجون والهزل وإنشاد الأشعار والبلّيقات «4» وكان بقى فى آخر عمره فقيرا مجرّدا، وكان اشتغل فى صباه وحصّل ودرس، وكان لديه فضيلة وذكاء وحسن تصور، إلّا أنه تمفقر فى آخر عمره وأطلق طباعه على التّكدى وصار يجارد «5» الرؤساء، ويركب فى قفص [على «6» رأس] حمّال ويتضارب الحمّالون على حمله، لأنّه كان مهما فتح له من الرؤساء كان للّذى يحمله،

(7/378)


فكان يستمرّ راكبا فى القفص والحمّال يدور به فى أماكن الفرج والنّزه، وكان يتعمّم بشرطوط «1» طويل جدّا رقيق العرض ويعاشر الحرافيش، وكان له أولاد رؤساء، ويقال: إنّ الصاحب بهاء الدين بن حنّا هو الذي أحوجه إلى أن ظهر بذلك المظهر، وأخمله وجنّنه لكونه كان من بيت وزارة، فكان ابن الصاحب هذا إذا رأى الصاحب بهاء الدين بن حنّا ينشد:
اشرب «2» وكل وتهنّا ... لابدّ أن تتعنّى
محمد وعلىّ ... من أين لك يا بن حنا
قال الشيخ صلاح الدين الصّفدىّ: «أخبرنى من لفظه الحافظ نجم الدين أبو محمد الحسن «3» خطيب صفد، قال: رأيته (يعنى ابن الصاحب) أشقر أزرق العينين عليه قميص أزرق، وبيده عكّاز حديد. قال: وأخبرنى من لفظه الحافظ فتح «4» الدين ابن سيّد الناس، قال: كان ابن الصاحب يعاشر الفارس أقطاى فاتّفق أنّهم كانوا يوما على ظهر النّيل فى شختور «5» ، وكان الملك الظاهر بيبرس مع الفارس أقطاى وجرى بينهم أمر، ثم ضرب الدهر ضربانه حتّى تسلطن الملك الظاهر بيبرس وركب يوما إلى الميدان، ولم يكن عمّر قنطرة «6» السّباع، وكان التوجه إلى الميدان من على باب زويلة على باب الخرق «7» ، وكان ابن الصاحب هذا نائما على قفص صيرفىّ

(7/379)


من تلك الصّيارف برّا باب زويلة، ولم يكن أحد يتعرّض لابن الصاحب، فمرّ به الملك الظاهر فلم يشعر إلا وابن الصاحب يضرب بمفتاح فى يده على خشب الصيرفى قويّا، فالتفت الظاهر فرآه فقال: هاه! علم الدين؟ فقال: إيش علم الدين أنا جيعان! فقال: أعطوه ثلاثة آلاف درهم. وكان ابن الصاحب أشار بتلك الدّقّة إلى دقّة مثلها يوم المركب» . انتهى [كلام الصّفدى] .
قلت: ومن نوادره اللّطيفة أنّه كان بالقاهرة إنسان [كثيرا «1» ما] يجرّد الناس فسمّوه زحل، فلمّا كان فى بعض الأيام وقف ابن الصاحب على دكّان حلوى يزن دراهم يشترى بها حلوى، وإذا بزحل قد أقبل من بعيد، فقال ابن الصاحب للحلاوى «2» : أعطنى الدراهم، ما بقى لى حاجة بالحلوى، فقال: لم؟ قال: أما ترى زحل قارن المشترى فى الميزان! وله من هذا أشياء كثيرة ذكرنا منها نبذة فى ترجمته فى تاريخنا «المنهل الصافى» . ومن شعره:
يا نفس ميلى إلى التّصابى ... فاللهو منه الفتى يعيش
ولا تملّى من سكر يوم ... إن أعوز الخمر فالحشيش
وله فى المعنى:
فى خمار الحشيش معنى مرامى ... يا أهيل العقول والأفهام
حرّموها من غير عقل ونقل ... وحرام تحريم غير الحرام
قلت: وأحسن ما قيل فى هذا المعنى قول القائل ولم أدر لمن هو:
وخضراء ما الحمراء تفعل فعلها ... لها وثبات فى الحشى وثبات
تؤجّج نارا فى الحشى وهى جنّة ... وتروى مرير الطّعم وهى نبات

(7/380)


وفيها توفّى الشيخ الأديب البارع المفتّن شمس الدين محمد بن عفيف الدين سليمان ابن على التّلمسانىّ الشاعر المشهور، كان شابّا فاضلا ظريفا، وشعره فى غاية الحسن والجودة. وديوان شعره مشهور بأيدى الناس، ومن شعره:
ياسا كنّا قلبى المعنّى ... وليس فيه سواك ثانى
لأىّ معنى كسرت قلبى ... وما التقى فيه ساكنان
وله فى ذمّ الحشيش:
ما للحشيشة فضل عند آكلها ... لكنه غير مصروف إلى رشده
صفراء فى وجهه خضراء فى فمه ... حمراء فى عينه سوداء فى كبده
وله أيضا:
لى من هواك بعيده وقريبه ... ولك الجمال بديعه وغريبه
يا من أعيد جماله بجلاله ... حذرا عليه من العيون تصيبه
إن لم تكن عينى فإنّك نورها ... أو لم تكن قلبى فإنت حبيبه
هل رحمة أو حرمة لمتيّم ... قد قلّ منك نصيره ونصيبه
ألف القصائد فى هواك تغزّلا ... حتّى كأنّ بك النسيب نسيبه
لم تبق لى سرّا أقول تذيعه ... عنّى ولا قلب أقول تنيبه «1»
كم ليلة قضّيتها متسهّدا ... والدمع يجرح مقلتى مسكوبه
والنجم أقرب من لقاك مناله ... عندى وأبعد من رضاك مغيبه
والجوّ «2» قد رقّت علىّ شماله ... وجفونه وشماله وجنوبه

(7/381)


هى مقّلة سهم الفراق يصيبها ... ويسحّ وابل دمعها فيصوبه
وجوّى تضرّم جمره لولا ندى ... قاضى القضاة قضى علىّ لهيبه
وله:
أخجلت بالثّغر ثنايا الأقاح ... يا طرّة الليل ووجه الصّباح
وأعجمت أعينك السّحر مذ ... أعربت «1» منهن صفاحا فصاح
فيالها سودا مراضا غدت ... تسلّ للعاشق بيضا صحاح
يا للهوى من مسعد مغرما ... رأى حمام الأيك غنّى فناح «2»
يا بانة مالت بأعطافه ... علّمتنى كيف تهزّ الرّماح
وأنت يا أسهم ألحاظه ... أثخنت والله فؤادى جراح
الذين ذكر الذهبى وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى كمال الدين أحمد ابن يوسف بن نصر الفاضلىّ. والمفتى فخر الدين عبد الرحمن بن يوسف البعلبكّىّ الحنبلى فى رجب. ورئيس الشهود زين الدين المهذب ابن أبى الغنائم التّنوخىّ.
والعلّامة شمس الدين الأصيهانىّ الأصولى محمد بن محمود بالقاهرة فى رجب. والمقرئ تقىّ الدين يعقوب «3» بن بدران الجرائدىّ بالقاهرة فى شعبان. والمسندة العابدة زينب بنت مكّىّ فى شوّال، ولها أربع وتسعون سنة. والعماد أحمد ابن الشيخ العماد إبراهيم ابن عبد الواحد المقدسىّ. والإمام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن الكمال عبد الرحيم ابن عبد الواحد «4» المقدسىّ فى جمادى الأولى.

(7/382)


أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشر أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشر أصابع.
[ما وقع من الحوادث سنة 689]
السنة الثانية عشرة من ولاية السلطان الملك المنصور قلاوون على مصر، وهى سنة تسع وثمانين وستمائة.
فيها كانت وفاة صاحب الترجمة الملك المنصور قلاوون فى ذى القعدة حسب ما تقدّم ذكره، وتسلطن بعده ابنه الملك الأشرف خليل.
وفيها توفّى الشيخ الإمام أبو المعالى برهان الدين أحمد بن ناصر بن طاهر الحسينىّ الحنفىّ إمام المقصورة الحنفية الشمالية بجامع دمشق، كان إماما عالما فاضلا زاهدا صالحا متعبّدا مفتنّا مشتغلا بما هو فيه من الاشتغال بالعلم والأوراد والقراءة إلى أن مات فى يوم السبت ثانى عشرين شوّال، وتولّى بعده الإمامة الشيخ نجم الدين يعقوب البروكارىّ «1» الحنفىّ، وسلك مسلكه.
وفيها توفّى الأمير حسام الدين أبو سعيد طرنطاى بن عبد الله المنصورىّ الأمير الكبير، كان أوحد أهل عصره، كان عظيم دولة أستاذه الملك المنصور قلاوون؛ وكان المنصور قد جعله نائبه بسائر الممالك، وكان هو المتصرّف فى مملكته.
فلمّا مات الملك المنصور قلاوون وتسلطن ولده الملك الأشرف خليل استنابه أيّاما إلى أن رتّب أموره ودبّره ودبّر أحواله، وكان عظيم التنفيذ سديد الرأى، مفرط الذكاء غزير العقل؛ فلمّا رسخت قدم الأشرف فى السلطنة أمسكه، وكان فى نفسه

(7/383)


منه أيّام والده، وبسط عليه العذاب إلى أن مات شهيدا وصبر على العذاب صبرا لم يعهد مثله عصر إلى أن هلك، ولمّا غسّلوه وجدوه قد تهرّأ لحمه وتزايلت أعضاؤه، وأنّ جوفه كان مشقوقا، كلّ ذلك ولم يسمع منه كلمة. وكان بينه وبين الأمير علم الدين سنجر الشّجاعىّ عداوة على الرّتبة، فسلّمه الأشرف إلى الشّجاعىّ وأمره بتعذيبه، فبسط الشجاعىّ عليه العذاب أنواعا إلى أن مات، فحمل إلى زاوية الشيخ عمر السّعودىّ «1» ، فغسّلوه وكفّنوه ودفنوه بظاهر الزاوية. وكان له مواقف مع العدوّ، وغزوات مشهورة وفتوحات. وبنى مدرسة حسنة بقرب داره بخط البندقانيّين «2» بالقاهرة، وقبّة برسم الدفن، وله أوقاف على الأسرى وغيرها. وكان فيه محاسن لولا شحّه وبذاءة لسانه لكان أوحد أهل زمانه، وخلّف أموالا جمّة.

(7/384)


قال الشيخ قطب الدين اليونينىّ قال الشيخ تاج «1» الدين الفزارى: حدّثنى تاج «2» الدين بن الشّيرازى المحتسب: أنّهم وجدوا فى خزانة طرنطاى من الذهب العين ألفى ألف «3» دينار وأربعمائة ألف دينار وألفى حياصة ذهب وألف وسبعمائة كلّوته مزركشة، ومن الدراهم ما لا يحصى؛ فاستولى الأشرف خليل على ذلك كلّه، وفرّقه على الأمراء والمماليك فى أيسر مدّة؛ واحتاج أولاد طرنطاى هذا وعياله من بعده إلى الطلب من الناس من الفقر.
وقال غيره: وجد لطرنطاى ألف ألف دينار وستمائة ألف دينار. ثم ذكر أنواع الأقمشة والخيول والجمال والبغال والمتاجر ما يستحى من ذكره كثرة. ومات طرنطاى المذكور ولم يبلغ خمسين سنة من العمر.
وفيها توفّى الأمير علاء الدين طيبرس بن عبد الله الصالحىّ المعروف بالوزيرىّ، كان أحد الأمراء المشهورين بالشجاعة والإقدام، وكان من المبرّزين وله التقدّم فى الدول والوجاهة، ولم يزل على ذلك إلى أن مات، رحمه الله تعالى.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى العلّامة رشيد الدين عمر بن إسماعيل الفارقى خنق فى المحرّم وقد كمّل التسعين. والإمام نور الدين على ابن ظهير بن شهاب بن الكفتى المقرئ الزاهد فى شهر ربيع الآخر. وقاضى الحنابلة نجم الدين أحمد ابن الشيخ شمس الدين عبد الرحمن بن أبى عمر فى جمادى الأولى،

(7/385)


وله ثمان وثلاثون سنة. وخطيب دمشق جمال الدين عبد الكافى بن عبد الملك ابن عبد الكافى الربعى فى سلخ جمادى الأولى. والزاهد فخر الدين أبو طاهر إسماعيل عزّ القضاة بن علىّ بن محمد «1» الصوفىّ فى رمضان. والشيخ شمس الدين عبد الرحمن ابن الزّين أحمد بن عبد الملك المقدسى فى ذى القعدة. والسلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفىّ الصالحىّ فى ذى القعدة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا، ولم يوفّ فى هذه السنة.
انتهى الجزء السابع من النجوم الزاهرة ويليه الجزء الثامن، وأوّله: ذكر ولاية الملك الأشرف خليل على مصر

(7/386)


استدراكات على بعض تعليقات وردت فى الجزءين الرابع والخامس من هذا الكتاب، لحضرة الأستاذ محمد رمزى بك
قنطرة عبد العزيز بن مروان
بما أن الشرح الخاص بتعيين موقع هذه القنطرة المدرج فى صفحة 44 بالجزء الرابع من هذه الطبعة جاء غير واف فيستبدل به الشرح الآتى:
لما تكلم المقريزى على ظواهر القاهرة المعزية (ص 108 ج 2) قال: كان أوّل الخليج الكبير عند وضع القاهرة بجانب خط السبع سقايات وكان ما بين هذا الخط وبين المعاريج بمدينة مصر (مصر القديمة) غامرا بماء النيل.
ولما تكلم على قناطر الخليج الكبير (ص 146 ج 2) قال: ان قنطرة ابن مروان كانت فى طرف الفسطاط بالحمراء القصوى بناها عبد العزيز بن مروان والى مصر فى سنة 69 هـ. وموضعها خلف السبع سقايات على فم الخليج الكبير وكان المرور على هذه القنطرة بين الحمراء القصوى وجنان الزهرى.
ولما تكلم على حكر أقبقا (ص 116 ج 2) قال: وفى هذا الحكر تقع قنطرة عبد العزيز بن مروان.
وقد تبيّن لى من البحث: (أوّلا) أن خط السبع سقايات هو الذي عرف فيما بعد بحكر أقبقا أى أن مكانهما واحد، وفقط اختلفت التسمية باختلاف الزمن والمناسبات. (ثانيا) أن حكر أقبقا مكانه اليوم المنطقة التى فيها حارة السيدة زينب وفروعها وجنينة لاظ وشوارعها. (ثالثا) أن النيل كان يجرى وقت فتح العرب لمصر فى الجهة الغربية من جنينة لاظ حيث الطريق المسماة شارع بنى الأزرق وما فى امتداده جنوبا وشمالا. (رابعا) أن فم الخليج المصرى كان فى ذاك الوقت واقعا حذاء مدخل الشارع المذكور من جهة شارع الخليج.

(7/387)


ومما ذكر يتضح أن قنطرة عبد العزيز بن مروان التى كانت على فم الخليج الكبير مكانها اليوم النقطة الواقعة بشارع الخليج المصرى تجاه مدخل حارة حكر أقبقا بأرض جنينة لاظ التى هى جزء من حكر أقبقا، وهذا الخط هو الجزء الشمالى من الحمراء القصوى ويقابله على الشاطئ الأيسر للخليج أرض جنان الزهرى حيث خط الناصرية الآن وما فى امتداده إلى شارع غيط العدة.
بستان الخشاب
بما أن الشرح الخاص بتحديد هذا البستان المدرج فى صفحة 44 بالجزء الرابع من هذه الطبعة جاء غير واف فيستبدل به الشرح الآتى:
تكلم المقريزى على هذا البستان فى جملة مواضع بالجزء الثانى من خططه فذكره عند الكلام على ظواهر القاهرة المعزية (ص 108) وعلى بر الخليج الغربى (ص 113) وعلى الخليج الناصرى (ص 145) وعلى قنطرة السد (ص 146) وعلى قنطرة الفخر (ص 148) وعلى الميدان الناصرى (ص 200) وعلى حكر الست حدق (ص 116) ويستفاد مما ذكر فى المواضع المذكورة البيان الآتى:
(أوّلا) أن بستان الخشاب كان واقعا فى المنطقة التى تحدّ اليوم من الشمال بشوارع المبتديان ومضرب النشاب والبرجاس والجزء الغربى من شارع إسماعيل باشا إلى النيل. ومن الغرب نهر النيل. ومن الجنوب مستشفى قصر العينى وشارع بستان الفاضل وما فى امتداده من الجهة الشرقية إلى شارع الخليج المصرى. ومن الشرق شارع الخليج المصرى وشارع سعد الدين إلى أن يتقابل مع الحد البحرى.
(ثانيا) أن هذا البستان كان منقسما إلى قسمين الشرقى منهما وهو الواقع بين شارع المنيرة وشارع الخليج المصرى وكان يعرف بالمريس حيث كان يسكنه طائفة من السودان وبه يتخذون المزر وهو نوع من البوظة يسميه أهل السودان المريسة، والقسم الغربى وهو الواقع بين شارع المنيرة وشاطئ النيل كان يعرف

(7/388)


بالميدان الناصرى، ومكانه اليوم خط القصر العالى المسمى «جاردن ستى» وكان بالجهة الجنوبية من هذا الميدان على شاطئ سيالة جزيرة الروضة عند كوبرى محمد على يوجد مواقع فم الخليج الناصرى وقنطرة الفخر وموردة الجبس وموردة البلاط.
أرض الطبّالة
بما أن الشرح الخاص بتحديد هذه الأرض المدرج فى صفحة 12 بالجزء الخامس من هذه الطبعة جاء غير واف بالنسبة للحد الغربى للأرض المذكورة فيستبدل به الشرح الآتى:
يستفاد مما ذكره المقريزى فى خططه عند الكلام على جزيرة الفيل (ص 185 ج 2) أن أرض الطبالة كانت ممتدّة إلى شاطئ النيل القديم تجاه جزيرة الفيل التى كانت وسط النيل. ومكانها اليوم منطقة شبرا بالقاهرة. ومن هذا يتضح أن أرض الطبالة كانت واقعة فى المنطقة التى تحدّ اليوم من الشرق بشارع الخليج المصرى. ومن الشمال بشارع الظاهر فشارع وقف الخربوطلى وما فى امتداده حتى يتقابل بشارع مهمشة. ومن الغرب بشارع غمرة إلى محطة كوبرى الليمون فميدان محطة مصر إلى ميدان باب الحديد حيث كان النيل يجرى قديما. ومن الجنوب بشارع الفجالة وسكة الفجالة ويدخل فيها الآن محطة كوبرى الليمون والفجالة وبركة الرطلى. وباقى الشرح الوارد بالجزء الخامس صحيح.
تنبيه: التعليقات الخاصة بالأماكن الأثرية على اختلاف أنواعها، والمدن والقرى القديمة وغيرها مع تعيين وتحديد مواضعها هى من وضع حضرة الأستاذ محمد رمزى بك المفتش بوزارة المالية سابقا. فنسدى إليه جزيل الشكر ونسأل الله جلّت قدرته أن يجزيه خير الجزاء عن خدمته للعلم وأهله.

(7/389)


استدراكات على الجزء السادس من النجوم الزاهرة
نبّهنا إليها الأستاذ الشيخ محمد أحمد دهمان من علماء دمشق قنسدى إليه جزيل الشكر (1) ورد فى ص 35 س 15: «تسلّم أصحابه مدينة غزة وبيت جبريل والماطرون» وذكرنا فى الحاشية رقم 3 أن تصويبه الماطرون عن شرح القاموس ومعجم البلدان لياقوت. والصواب أنه النطرون بالنون، لأن الماطرون اسم موضعين بالقرب من دمشق، وفتوحات صلاح الدين كانت فى فلسطين، كما فى سيرة صلاح الدين والروضتين وتاريخ أبى الفدا وتاريخ ابن الوردى فى حوادث سنة 583 هـ.
(2) ورد فى ص 99 س 11 و 12: «وبنت تربة بقاسيون على نهر بردى» .
وعلقنا عليه فى الحاشية رقم 5 أن «بردى نهر بدمشق» . وصوابه: «وبنت تربة بقاسيون على نهر يزيد» ، لأنّ نهر بردى لا يمرّ بقاسيون، وإنما يمرّ به نهر يزيد.
ولا تزال هذه التربة حتى اليوم على حافة نهر يزيد (راجع شذرات الذهب فى حوادث سنة 581 هـ) .
(3) ورد فى ص 121 س 9: «بمرج عدواء» . وعلقنا عليها فى الحاشية رقم 9 نقلا عن ابن الأثير رواية أخرى: «أنه بمرج الريحان» . وصوابه:
«بمرج عذراء» وهو مرج مشهور خارج دمشق قرب قرية يقال لها عذراء، كما فى شرح القاموس مادّة «مرج» .
(4) ورد فى ص 150 س 5: «وأما الأفضل فإنه سار إلى مصر فأرسل العادل وراءه أبا محمد نجيب الدين إليه بالزبدائى» . وعلقنا عليه فى الحاشية رقم 2 بأن الزبدانى: نهر بدمشق. وصوابه: الزبدانى: كورة مشهورة معروفة بين دمشق وبعلبك (راجع تقويم البلدان لأبى الفدا إسماعيل ومعجم البلدان لياقوت) .

(7/390)


(5) ورد فى ص 218 س 11: «ودفن بقاسيون» . وعلقنا عليه فى الحاشية رقم 3 بأن زواية الأصلين: «مات بقاسيون» وما أثبتناه عن شذرات الذهب وعقد الجمان. وتعتبر قاسيون مقبرة دمشق. والصواب فى ذلك أن قاسيون:
جبل شمالى دمشق يطل عليها. وفى عصر نور الدين الأتابكى هاجرت طائفة من المقادسة هربا من إرهاق الصليبين لهم فسكنوا هذا الجبل وبنوا فيه دورا ومساجد فأصبح إحدى ضواحى دمشق التى لها مقبرة لا أنه مقبرة فقط فعليه تكون عبارة الأصلين صحيحة.
(6) ورد فى ص 240 س 16: «فلما كان الغد أقبلت الأطلاب» وذكرنا فى الحاشية رقم 6 أن الأطلاب: العساكر. ونزيد عليه أن الأطلاب لفظة استعملت فى كتب التاريخ من عصر نور الدين الأتابكى إلى آخر أيام دولة المماليك الشراكسة، ويراد بها فرق الجيش وكتائبه، والظاهر أنه مشتق من طلب الشيء إذا حاول أخذه فهو طالب وجمعه طلب وجمع الطلب أطلاب، ويدلّ على ذلك ما جاء فى ص 293 من هذا الجزء: «قطع التتار دجلة فى مائة طلب، كل طلب فى خمسمائة فارس» .
(7) ورد فى ص 266 ص 4: «ودفن بقرب الصليحية» . وذكرنا فى الحاشية رقم 1 رواية أخرى نقلا عن شذرات الذهب: «بقرب القليجية» .
وصوابه ما ورد فى شذرات الذهب. والقليجية: مدرسة بدمشق معروفة، تنسب إلى قليج أرسلان.
(8) ورد فى ص 268 س 4 فى الكلام على ترجمة الملك المعظم عيسى:
«ودفن مع والدته فى القبة عند الباب» وعلقنا على ذلك فى الحاشية رقم 1 نقلا عن ابن خلكان بأنه: نقل إلى تربته فى مدرسته التى أنشأها بظاهر دمشق على الشرف الأعلى مطلة على الميدان الأخضر الكبير» . وعلقنا أيضا فى الحاشية رقم 2 نقلا عن ابن خلكان وشذرات الذهب أنه: «دفن خارج باب النصر أحد

(7/391)


أبواب دمشق فى مدرسة شمس الدولة» . وكلا التعليقين خطأ. وصوابه أن الملك المعظم عيسى دفن فى مدرسته التى أنشأها بصالحية دمشق. وبالرجوع إلى تاريخ ابن خلكان وجدناه بعد أن انتهى من ترجمة الملك المعظم عيسى يقول: «وتوفى عز الدين أيبك صاحب صرخد، إلى أن قال: ودفن خارج باب النصر فى مدرسة شمس الدولة وحضرت الصلاة عليه ودفنه ثم نقل إلى تربته فى مدرسته التى أنشأها بظاهر دمشق على الشرف الأعلى مطلة على الميدان الأخضر الكبير» . ولا يخفى أن هذا الكلام الذي أدمجه ابن خلكان فى ترجمة الملك المعظم عيسى على عز الدين أيبك (راجع ابن خلكان فى ترجمة الملك المعظم عيسى وشذرات الذهب فى حوادث سنة 624 هـ) .
(9) ورد فى ص 317 س 3 «وإمام الربوة» وعلقنا على ذلك فى الحاشية رقم 3: «يريد ربوة دمشق وهى مغارة لطيفة الخ» . وصوابه: «وبالربوة مغارة لطيفة ... الخ» راجع نزهة الأنام فى محاسن الشام، نسخة مخطوطة محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 1642 تاريخ) .
(10) ورد فى ص 329 س 7: «ودام الحصار إلى أن قدم البادرانى للصلح» وذكرنا فى الحاشية رقم 1 أن البادرانى، نسبه إلى بادران: قرية بأصبهان.
وهو عز الدين رسول الخليفة، قدم للصلح بين الملك الصالح نجم الدين والحلبيين.
وصوابه: «البادرائىّ» بالهمزة. وهو نجم الدين أبو محمد عبد الله بن أبى الوفا الشافعى الفرضى الذي قدم من عند المستنصر للصلح. وقال السيوطى فى لب اللباب فى تحرير الأنساب: «البادرائى» : نسبة إلى بادرايا،: قرية من عمل واسط» . وراجع شذرات الذهب ج 5 ص 269 فى حوادث سنة 655 هـ وتنبيه الطالب للعليمىّ.

(7/392)


[الجزء الثامن]
بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله وصحابته والمسلمين الجزء الثامن من كتاب النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة
[ما وقع من الحوادث سنة 690]
ذكر ولاية الملك الأشرف خليل على مصر
هو السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفىّ الصالحىّ النّجمىّ، جلس على تخت الملك يوم وفاة أبيه فى يوم الأحد سابع «1» ذى القعدة سنة تسع وثمانين وستمائة. وكان والده قلاوون قد سلطنه فى حياته بعد موت أخيه الملك «2» الصالح علىّ بن قلاوون فى سنة سبع وثمانين وستمائة، والمعتدّ به جلوسه الآن على تخت الملك بعد موت أبيه. وجدّد له الأمراء والجند الحلف فى يوم الاثنين ثامن ذى القعدة المذكور. وطلب من القاضى فتح الدين بن عبد الظاهر تقليده «3» ، فأخرجه إليه مكتوبا بغير علامة الملك المنصور، وكان

(8/3)


ابن عبد الظاهر قد قدّمه إليه ليعلّم عليه فلم يرض، وتقدّم طلب الأشرف وتكرّر؛ وابن عبد الظاهر يقدّمه إلى الملك المنصور، والمنصور يمتنع إلى أن قال له:
يا فتح الدين، أنا ما أولّى خليلا على المسلمين! ومعنى ذلك أنّ الملك المنصور قلاوون كان قد ندم على توليته السلطنة من بعده. فلمّا رأى الأشرف التقليد بلا علامة، قال: يا فتح الدين، السلطان امتنع أن يعطينى وقد أعطانى الله! ورمى التقليد من يده وتمّ أمره، ورتّب أمور الديار المصريّة، وكتب بسلطنته إلى الأقطار، وأرسل الخلع إلى النوّاب بالبلاد الشامية.
وهو السلطان الثامن من ملوك الترك وأولادهم. ثم خلع على أرباب وظائفه بمصر، والذين خلع عليهم من الأعيان: الأمير بدر الدين بيدرا «1» المنصورىّ نائب السلطنة بالديار المصريّة، ووزيره ومدبّر مملكته شمس الدين محمد بن السّلعوس الدّمشقىّ، وهو فى الحجاز الشريف. وعلى بقيّة أرباب وظائفه على العادة والنوّاب بالبلاد الشاميّة يوم ذاك. فكان نائبه بدمشق وما أضيف إليها من الشام الأمير حسام الدين لاچين «2» المنصورىّ. ونائب السلطنة بالممالك الحلبيّة وما أضيف إليها الأمير شمس الدين قرا سنقر المنصورىّ. ونائب الفتوحات الساحليّة والأعمال الطرابلسيّة والقلاع الإسماعيليّة «3» الأمير سيف الدين بلبان «4» السّلحدار المعروف بالطبّاخى.
ونائبه بالكرك والشوبك وما أضيف إلى ذلك الأمير ركن الدين بيبرس «5» الدّوادار المنصورىّ، صاحب التاريخ المعروف «بتاريخ بيبرس الدوادار» . وصاحب حماة

(8/4)


والمعرّة الملك المظفّر تقىّ الدين محمود ابن الملك المنصور محمد الأيّوبىّ. والذين هم تحت طاعته من الملوك صاحب مكّة المشرّفة الشريف نجم الدين أبو نمىّ محمد بن إدريس «1» بن علىّ بن قتادة الحسنىّ، وصاحب اليمن الملك المظفّر شمس «2» الدين يوسف ابن عمر، فهؤلاء الذين أرسل إليهم بالخلع والتقاليد. انتهى.
ولمّا رسخت قدم الملك الأشرف هذا فى الملك أخذ وأعطى وأمر ونهى؛ وفرّق الأموال وقبض على جماعة من حواشى والده، وصادرهم على ما يأتى ذكره.
ولمّا استهلّت سنة تسعين وستّمائة أخذ الملك الأشرف فى تجهيزه «3» إلى السّفر للبلاد الشاميّة، وإتمام ما كان قصده والده من حصار عكّا، وأرسل إلى البلاد الشاميّة وجمع العساكر وعمل آلات الحصار، وجمع الصّنّاع إلى أن تمّ أمره، خرج بعساكره من الديار المصريّة فى ثالث شهر ربيع الأوّل من سنة تسعين المذكورة، وسار حتّى نازل عكّا فى يوم الخميس رابع شهر ربيع الآخر، ويوافقه خامس نيسان «4» ، فاجتمع عنده على عكّا من الأمم ما لا يحصى كثرة. وكان المطّوّعة أكثر من الجند ومن فى الخدمة. ونصب عليها المجانيق «5» الكبار الفرنجيّة خمسة عشر منجنيقا، منها ما يرمى بقنطار دمشقىّ وأكبر، ومنها دونه. وأمّا المجانيق الشيطانيّة

(8/5)


وغيرها فكثيرة «1» ، ونقب عدّة نقوب. وأنجد أهل عكّا صاحب قبرس «2» بنفسه وفى ليلة قدومه عليهم أشعلوا نيرانا عظيمة لم ير مثلها فرحا به، وأقام عندهم قريب ثلاثة أيام، ثم عاد عند ما شاهد انحلال أمرهم وعظم ما دهمهم. ولم يزل الحصار عليها والجدّ فى أمر قتالها إلى أن انحلّت عزائم من بها وضعف أمرهم واختلفت كلمتهم.
هذا والحصار عمّال فى كلّ يوم، واستشهد عليها جماعة من المسلمين.
فلمّا كان سحر يوم الجمعة سابع عشر جمادى الأولى ركب السلطان والعساكر وزحفوا عليها قبل طلوع الشمس، وضربوا الكوسات فكان لها أصوات مهولة وحسّ عظيم مزعج، فحال ملاصقة العسكر لها وللأسوار هرب الفرنج وملكت المدينة بالسيف، ولم تمض ثلاث ساعات من النهار المذكور إلّا وقد استولى المسلمون عليها ودخلوها؛ وطلب الفرنج البحر فتبعتهم العساكر الإسلاميّة تقتل وتأسر فلم ينج منهم إلّا القليل؛ ونهب ما وجد من الأموال والذخائر والسلاح وعمل الأسر والقتل فى جميع أهلها، وعصى الدّيويّة «3» والإسبتار «4» واستتر الأرمن فى أربعة أبراج شواهق فى وسط البلد فحصروا فيها.
فلمّا كان يوم السبت ثامن «5» عشر الشهر، وهو ثانى يوم فتح المدينة، قصد جماعة من الجند وغيرهم الدار والبرج الذي فيه الدّيويّة فطلبوا الأمان فأمّنهم السلطان وسيّر لهم صنجقا، فأخذوه ورفعوه على برجهم وفتحوا الباب، فطلع إليهم جماعة

(8/6)


كثيرة من الجند وغيرهم، فلمّا صاروا عندهم تعرّض بعض الجند والعوامّ للنهيب، ومدّوا أيديهم إلى من عندهم من النساء والأصاغر، فغلّق الفرنج الأبواب ووضعوا فيهم السيف، فقتلوا جماعة من المسلمين، ورموا الصّنجق وتمسّكوا بالعصيان وعاد الحصار عليهم. وفى اليوم المذكور نزل من كان ببرج الإسبتار الأرمن بالأمان فأمّنهم السلطان على أنفسهم وحريمهم على يد الأمير زين الدين كتبغا المنصورىّ، وتمّ القتال على برج الدّيويّة ومن عنده إلى يوم الأحد التاسع عشر «1» من جمادى الأولى طلب الدّيويّة ومن بقى فى الأبراج «2» الأمان، فأمّنهم السلطان على أنفسهم وحريمهم على أن يتوجّهوا حيث شاءوا. فلما خرجوا قتلوا منهم فوق الألفين وأسروا مثلهم، وساقوا إلى باب الدّهليز النساء والصّبيان، وكان من جملة حنق السلطان عليهم مع ما صدر منهم أن الأمير آقبغا المنصورىّ أحد أمراء الشام كان طلع إليهم فى جملة من طلع فأمسكوه وقتلوه، وعرقبوا ما عندهم من الخيول، وأذهبوا ما أمكنهم إذهابه؛ فتزايد الحنق عليهم. وأخذ الجند وغيرهم من السّبى والمكاسب ما لا يحصى.
ولمّا علم من بقى منهم ما جرى على إخوانهم تمسّكوا بالعصيان، وامتنعوا من قبول الأمان وقاتلوا أشدّ قتال، واختطفوا خمسة نفر من المسلمين ورموهم من أعلى البرج فسلم منهم نفر واحد ومات الأربعة. ثم فى يوم الثلاثاء ثامن عشرين «3» جمادى المذكورة أخذ البرج الذي تأخّر بعكا، وأنزل من فيه بالأمان، وكان قد غلّق من سائر جهاته. فلمّا نزلوا منه وحوّلوا معظم ما فيه سقط على جماعة من المسلمين المتفرّجين وممّن قصد النّهب فهلكوا عن آخرهم. ثمّ بعد ذلك عزل السلطان النساء والصّبيان

(8/7)


ناحية وضرب رقاب الرجال أجمعين وكانوا خلائق كثيرة. والعجب أن الله سبحانه وتعالى قدّر فتح عكّا فى مثل اليوم الذي أخذها الفرنج فيه، ومثل الساعة التى أخذوها فيها، فإنّ الفرنج كانوا استولوا على عكّا فى يوم الجمعة سابع عشر «1» جمادى الآخرة [سنة سبع «2» وثمانين وخمسمائة] فى الساعة الثالثة من النهار، وأمّنوا من كان بها من المسلمين ثم قتلوهم غدرا، وقدّر الله تعالى أنّ المسلمين استرجعوها منهم فى هذه المرّة يوم الجمعة فى الساعة الثالثة من النهار، ووافق السابع عشر «3» من جمادى الأولى، وأمّنهم السلطان ثمّ قتلهم كما فعل الفرنج بالمسلمين، فانتقم الله تعالى من عاقبتهم.
وكان السلطان عند منازلته عكّا قد جهّز جماعة من الجند مقدّمهم الأمير علم الدين سنجر الصّوابى الجاشنكير إلى صور لحفظ الطّرق وتعرّف الأخبار، وأمره بمضايقة صور. فبينما هو فى ذلك لم يشعر إلّا بمراكب المنهزمين من عكّا قد وافت الميناء التى لصور، فحال بينها وبين الميناء؛ فطلب أهل صور الأمان فأمّنهم على أنفسهم وأموالهم ويسلّموا صور فأجيبوا إلى ذلك، فتسلّمها. وصور من أجلّ الأماكن ومن الحصون المنيعة، ولم يفتحها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب فيما فتح من الساحل، بل كان صلاح الدين كلّما فتح مكانا وأمّنهم أوصلهم إلى صور هذه لحصانتها ومنعتها، فألقى الله تعالى فى قلوب أهلها الرّعب حتّى سلّموها من غير قتال ولا منازلة، ولا كان الملك الأشرف فى نفسه شىء من أمرها البتّة.
وعند ما تسلّمها جهّز إليها من أخربها وهدم أسوارها وأبنيتها، ونقل من رخامها وأنقاضها شىء كثير. ولمّا تيسر أخذ صور على هذه الصورة قوى عزم الملك

(8/8)


الأشرف على أخذ غيرها. ولمّا كان الملك الأشرف محاصرا لعكّا استدعى الأمير حسام الدين لا چين المنصورىّ نائب الشام، وهو الذي تسلطن بعد ذلك حسب ما يأتى ذكره، والأمير ركن الدين بيبرس المعروف بطقصو فى ليلة الاثنين ثالث عشر جمادى الأولى إلى المخيّم وأمسكهما وقيّدهما، وجهّزهما فى بكرة نهار الاثنين إلى قلعة صفد، ومنها إلى قلعة الجبل. وكان تقدّم قبل ذلك بستّة أيام مسك الأمير سنجر المعروف بأبى خرص وجهّزه إلى الديار المصريّة محتاطا عليه. ثم استقرّ الملك الأشرف بالأمير علم الدين سنجر «1» الشّجاعى المنصورىّ فى نيابة الشام عوضا عن الأمير لاچين المذكور.
وعند ما أمسك الأشرف هذين الأميرين الكبيرين حصل للناس قلق شديد وخشوا من حدوث أمر يكون سببا لتنفيس الخناق عن أهل عكّا، فكفى الله تعالى ذلك.
ثم أمسك الأشرف الأمير علم الدين «2» أيدغدى الإلدكزىّ نائب صفد وما معها لأمر نقمه عليه وصادره، وجعل مكانه الأمير علاء الدين أيدكين «3» الصالحىّ العمادىّ، وأضاف إليه مع ولاية صفد عكّا وما استجد من الفتوحات الأشرفيّة. ثم «4» لما فرغ الأشرف من مصادرة أيدكين المذكور ولّاه برّصفد عوضا عن علم الدين سنجر الصّوابىّ. ثم استدعى الملك الأشرف الأمير بيبرس الدّوادار المنصورى الخطائى المؤرّخ نائب الكرك وعزله، وولّى عوضه الأمير آقوش «5» الأشرفىّ. ثم رحل الملك الأشرف عن عكّا فى بكرة نهار الاثنين خامس جمادى الآخرة، ودخل دمشق يوم الاثنين ثانى

(8/9)


عشره بعد أن زيّنت له دمشق غاية الزينة، وعملت القباب بالشوارع من قريب المصلّى «1» إلى الباب «2» الجديد، وحصل من الاحتفال لقدومه ما لا يوصف، ودخل وبين يديه الأسرى من الفرنج تحتهم الخيول وفى أرجلهم القيود، ومنهم الحامل من سناجق الفرنج المنكّسة، وفيهم من حمل رمحا عليه من رءوس قتلى الفرنج؛ فكان لقدومه يوم عظيم. وأقام الأشرف بدمشق إلى فجر نهار الأربعاء تاسع عشر شهر رجب. وعاد إلى الديار المصريّة فدخلها يوم الاثنين تاسع شعبان؛ فاحتفل أيضا أهل مصر لملاقاته احتفالا عظيما أضعاف احتفال أهل دمشق، وعند دخوله إلى مصر أطلق رسل صاحب عكّا الذين كانوا معوّقين بالقاهرة. ثم إنّ الأمير علم الدين سنجر الشجاعىّ نائب الشام فتح صيدا بعد حصار كبير بالأمان فى يوم السبت خامس عشر شهر رجب. ولمّا أخذت هذه البلاد فى هذه السنة أمر السلطان أن تخرّب قلعة جبيل وأسوارها بحيث يلحقها بالأرض فخرّبت أصلا؛ ثم أخذت عثليث «3» بعد شهر.
وأمّا أهل أنطرطوس لمّا بلغهم أخذ هذه القلاع عزموا على الهرب، فجرّد الأمير سيف الدين بلبان الطّباخى عسكرا، فلمّا أحاطوا بها ليلة الخميس خامس شعبان

(8/10)


ركبوا البحر وهربوا إلى جزيرة أرواد «1» ، وهى بالقرب منها، فندب إليها السّعدىّ بما كان أحضره من المراكب والشوانى فأخلوها. وكان فتح هذه المدن الستّ فى ستة شهور.
ثم رسم الملك الأشرف بالقبض على الأمير علم الدين سنجر الدوادار؛ فقبض عليه فى شهر رمضان، وجهّز الى الديار المصريّة بعد أن أحيط على جميع موجوده، ثم أفرج الملك الأشرف على جماعة من الأمراء ممّن كان قبض عليهم وحبسهم.
وهم: الأمير لا چين المنصورىّ الذي تسلطن بعد ذلك، وبيبرس طقصو الناصرىّ، وسنقر الأشقر الصالحىّ، وبدر الدين بيسرى الشمسىّ، وسنقر الطويل المنصورىّ، وبدر الدين خضر بن جودى القيمرىّ. وفى شهر رمضان سنة تسعين وستمائة المذكورة أنعم السلطان الملك الأشرف على علم الدين سنجر المنصورىّ المعروف بأرجواش خبزا وخلع عليه وأعيد إلى ولاية قلعة دمشق. ثم طلب الملك الأشرف قاضى القدس بدر الدين «2» محمد بن إبراهيم بن جماعة إلى الديار المصرية وولّاه قضاءها بعد عزل قاضى القضاة تقي الدين «3» ابن بنت الأعز. واستمرّ الملك الأشرف بالديار المصريّة إلى أن تجهّز وخرج منها قاصدا البلاد الشامية فى يوم السبت ثامن شهر ربيع الآخر من سنة إحدى وتسعين وستمائة، وسار حتّى دخل دمشق فى يوم السبت سادس جمادى الأولى. وفى ثامن جمادى الأولى أحضر السلطان الأموال وأنفق فى جميع العساكر المصريّة والشامية. ووصل الملك المظفر تقىّ الدين صاحب

(8/11)


حماة لتلقّى الملك الأشرف فالتقاه فزاد السلطان فى إكرامه، واستعرض الجيوش عليه وأمر بتسفيرهم قدّام الملك المظفّر المذكور. ثم توجّه الملك الأشرف من دمشق بجميع العساكر قاصدا حلب، فوصلها فى ثامن عشرين جمادى الأولى، ثم خرج منها ونزل على قلعة الروم بعساكره وحاصرها إلى أن افتتحها بالسيف عنوة فى يوم السبت حادى عشر شهر رجب، وكتب البشائر إلى الأقطار بأخذها. ثم عاد السلطان إلى دمشق وترك بقلعة الروم الشّجاعىّ وعساكر الشام ليعمّروا ما انهدم منها فى الحصار.
وكان دخول السلطان إلى دمشق فى يوم الثلاثاء تاسع عشر شعبان بعد أن عزل الأمير قرا سنقر المنصورىّ عن نيابة حلب بالأمير بلبان الطبّاخى، وولّى عوضا عن الطّباخى فى الفتوحات طغريل الإيغانى. ولمّا كان السلطان بدمشق عمل عسكره النّوروز كعادتهم بالديار المصريّة، وعظم ذلك على أهل دمشق لعدم عادتهم بذلك.
وفى يوم الجمعة ثامن عشرين شهر رمضان قبض السلطان على الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، وعلى الأمير ركن الدين طقصو، وهرب الأمير حسام الدين لاچين المنصورىّ ونادوا عليه بدمشق: من أحضره فله ألف دينار، ومن أخفاه شنق.
ثمّ ركب الملك الأشرف ومماليكه فى طلب لاچين المذكور، وأصبح يوم العيد والسلطان فى البرية مهجّج، وكانوا عملوا السّماط كجارى العادة فى الأعياد، وأطلعوا المنبر إلى الميدان الأخضر وطلع الخطيب موفّق «1» الدين فصلّى فى الميدان بالعوامّ، وعاد السلطان بعد صلاة العصر إلى دمشق، ولم يقع للاچين على خبر. ثم سيّر الملك الأشرف طقصو وسنقر الأشقر تحت الحوطة إلى الديار المصريّة. وأمّا لاچين فإنّ العرب أمسكوه وأحضروه إلى الملك الأشرف فأرسله الملك الأشرف مقيّدا

(8/12)


إلى مصر. وفى سادس شوّال ولّى السلطان الأمير عزّ الدين أيبك الحموىّ نيابة دمشق عوضا عن الشّجاعىّ.
ثم خرج الأشرف من دمشق قاصدا الديار المصريّة فى ليلة الثلاثاء عاشر شوّال، وكان قد رسم الأشرف لأهل الأسواق بدمشق وظاهرها أنّ كلّ صاحب حانوت يأخذ بيده شمعة ويخرج إلى ظاهر البلد، وعند ركوب السلطان يشعلها؛ فبات أكثر أهل البلد بظاهر دمشق لأجل [الوقدو «1» ] الفرجة! فلمّا كان الثّلث الأخير من الليل ركب السلطان وأشعلت الناس الشموع، فكان أوّل الشمع من باب النصر وآخر الوقيد عند مسجد القدم «2» ، لأنّ والى دمشق كان قد رتّبهم من أوّل الليل، فكانت ليلة عظيمة لم ير مثلها. وسافر السلطان حتّى دخل الديار المصريّة يوم الأربعاء ثانى ذى القعدة من باب النصر وخرج من باب زويلة، واحتفل أهل مصر لدخوله احتفالا عظيما، وكان يوم دخوله يوما مشهودا. ولمّا أن طلع السلطان إلى قلعة الجبل أنعم على الأمير قرا سنقر المنصورىّ المعزول عن نيابة حلب بإمرة مائة فارس بديار مصر. ثم أفرج عن الأمير حسام الدين لاچين المنصورىّ وأعطاه أيضا خبز مائة فارس بديار مصر، وسببه أنّ السلطان عاقب سنقر الأشقر وركن الدين طقصو فاعترفوا أنّهم كانوا يريدون قتله، وأنّ لا چين لم يكن معهم ولا كان له اطّلاع على الباطن فخنقهم وأفرج عن لاچين بعد ما كان وضع الوتر فى حلقه لخنقه، فضمنه خشداشه الأمير بدر الدين بيدرا المنصورىّ نائب السلطان، وعلم الدين سنجر الشجاعىّ وغيرهما.

(8/13)


قلت وسنقر الأشقر هو الذي كان تسلطن بدمشق فى أوائل سلطنة الملك المنصور قلاوون، ووقع له معه تلك الأمور المذكورة فى عدّة أماكن. وأمّا لاچين هذا فهو الذي تسلطن بعد ذلك وتلقّب بالملك المنصور حسب ما يأتى ذكره.
وكلّما ذكرنا من حينئذ لاچين فهو المنصور ولا حاجة للتعريف به بعد ذلك.
ثم إنهم أخرجوا الأمراء المخنّقين وسلّموهم إلى أهاليهم، وكان السلطان خنق معهما ثلاثة أمراء أخر فأخرجوا الجميع ودفنوا؛ ثم غرّق السلطان جماعة أخرى، وقيل إنّ ذلك كان فى مستهلّ سنة اثنتين وتسعين وستّمائة. واستمرّ السلطان بمصر إلى أن تجهّز وخرج منها إلى الشام فى جمادى الأولى من سنة اثنتين وتسعين وستمائة المذكورة، وسار حتّى دخل دمشق فى يوم الأحد تاسع جمادى الآخرة؛ ونزل بالقصر «1» الأبلق من الميدان الأخضر.
ولمّا استقر ركابه بدمشق شرع فى تجهيز العساكر إلى بلاد سيس «2» والغارة عليها، فوصل رسل صاحب سيس بطلب الصلح ورضا السلطان عليه، ومهما طلب منه من القلاع والمال أعطاه وشفع الأمراء فى صاحب سيس، واتّفق الحال على أن يتسلّم نوّاب السلطان من صاحب سيس ثلاث قلاع، وهى:
بهسنا»
ومرعش «4» وتلّ حمدون «5» ففرح الناس بذلك، لأنه كان على المسلمين من بهسنا

(8/14)


أذّى عظيم. وأقام السلطان بدمشق إلى مستهلّ شهر رجب توجّه منها، وصحبته عسكر الشام والأمراء وبعض عساكر مصر. وأمّا الضعفاء من عسكر مصر فأعطاهم السلطان دستورا بعودتهم إلى الديار المصريّة. وسار السلطان حتّى وصل إلى حمص، ثم توجّه منها إلى سلمية «1» مظهرا أنّه متوجّه إلى ضيافة الأمير حسام الدين مهنّا بن عيسى بن مهنّا أمير آل فضل، وكان خروج السلطان من دمشق فى ثانى شهر رجب، فلمّا كان بكرة يوم الأحد سابع شهر رجب وصل الأمير لاچين وصحبته مهنّا إلى دمشق وهو مقبوض عليه، أمسكه السلطان لمّا انقضت الضيافة وولّى غوضه شخصا من أولاد عمّه، وهو الأمير محمد بن علىّ بن حذيفة. وفى بقيّة النهار وصل السلطان إلى دمشق، ورسم للأمير بيدرا أن يأخذ بقيّة العساكر ويتوجّه إلى مصر، وأن يركب تحت الصناجق عوض السلطان وبقى السلطان مع خواصّه بدمشق بعدهم ثلاثة أيام؛ ثم خرج من دمشق [فى يوم السبت «2» ثالث عشر رجب] وعاد إلى جهة الديار المصريّة فى العشر الأخير من شهر رجب من سنة اثنتين وتسعين وستمائة؛ ثم إن السلطان أمر الأمير عزّ الدين أيبك الحموىّ الأفرم أمير جاندار «3» نائب الشام أن يسافر إلى الشوبك ويخرّب قلعتها، فكلّمه الأفرم فى بقائها فانتهره، وسافر من يومه، وتوجّه الأفرم إلى الشّوبك وأخربها غير القلعة. وكان ذلك غاية ما يكون من الخطأ وسوء التدبير، وكان أخرب قبل ذلك أيضا عدّة أماكن بقلعة الجبل،

(8/15)


وبقلعة دمشق أيضا أخرب عدّة قاعات ومبانى هائلة. وأمّا قلاع السواحل فأخرب غالبها، وكان يقصد ذلك لمعنى يخطر بباله.
ثم فى العشرين من ذى الحجّة نصب السلطان ظاهر القاهرة خارج باب النصر القبق، وصفة ذلك أن ينصب صار طويل ويعمل على رأسه قرعة من ذهب أو فضّة ويجعل فى القرعة طير حمام، ثمّ يأتى الرامى بالنّشّاب وهو سائق فرسه ويرمى عليه، فمن أصاب القرعة وطيّر الحمام خلع عليه خلعة تليق به، ثم يأخذ القرعة. وكان ذلك بسبب طهور أخى الملك الأشرف؛ وهو الملك الناصر محمد بن قلاوون، وطهور ابن أخيه الأمير مظفّر الدين موسى ابن الملك الصالح علاء الدين علىّ بن قلاوون، فآحتفل السلطان لطهورهما وعمل مهمّا عظيما. وكان الطهور فى يوم الاثنين ثانى عشرين ذى الحجّة. وعند ما طهّروهم رموا الأمراء الذهب لأجل النّقوط؛ فإن كان الأمير أمير مائة فارس رمى مائة دينار، وإن كان أمير خمسين فارسا رمى خمسين دينارا، وقس على ذلك سائر الأمراء؛ ورمى حتى مقدّمو الحلقة والأجناد، فجمع من ذلك شىء كثير؛ وهو آخر فرح عمله الأشرف هذا.
ثم بعد فراغ المهمّ بمدّة يسيرة، نزل السلطان الملك الأشرف المذكور من قلعة الجبل متوجّها إلى الصّيد فى ثانى المحرّم سنة ثلاث وتسعين وستمائة وصحبته وزيره الصاحب شمس الدين بن السّلعوس، ونائب سلطنته الأمير بدر الدين بيدرا وجميع الأمراء، فلمّا وصل إلى الطّرّانة «1» فارقه وزيره ابن السّلعوس المذكور وتوجّه إلى الإسكندرية.

(8/16)


وأمّا السلطان فإنّه نزل بالحمّامات «1» لأجل الصّيد، وأقام إلى يوم السبت ثانى عشر المحرّم. فلمّا كان قرب العصر وهو بأرض تروجة «2» حضر إليه الأمير بدر الدين بيدرا نائب السلطنة ومعه جماعة كثيرة من الأمراء؛ وكان السلطان بكرة النهار قد أمره أن يأخذ العسكر والدّهليز ويمشى عوضه تحت الصناجق وأن يتقدّمه، ويبقى السلطان يتصيّد وحده بقيّة يومه ويعود العشيّة إلى الدّهليز، فتوجّه بيدرا على ذلك؛ وأخذ السلطان الملك الأشرف يتصيّد ومعه شخص واحد يقال له شهاب الدين [أحمد بن «3» ] الأشلّ أمير شكار «4» ، وبينما السلطان فى ذلك أتاه هؤلاء: بيدرا ورفقته، فأنكر السلطان مجيئهم، وكان فى وسط السلطان بند حرير وليس معه بمجة «5» لأجل الصيد، وكان أوّل من ابتدره الأمير بيدرا فضربه بالسيف ضربة قطع بها يده مع كتفه، فجاء الأمير حسام الدين لاچين، وهو الذي تسلطن بعد ذلك بمدّة، وقال لبيدرا: يا نحس! من يريد ملك مصر والشام تكون هذه ضربته! ثمّ ضربه على كتفه فحلّها، ووقع السلطان على الأرض، فجاء بعدهما الأمير بهادر رأس نوبة «6» ، وأخذ السيف ودسّه فى دبره وأطلعه من حلقه، وبقى يجيء واحد من الأمراء بعد

(8/17)


واحد ويظهرون ما فى أنفسهم منه، ثم تركوه فى مكانه وانضموا على الأمير بيدرا وحلفوا له، وأخذوه تحت الصناجق وركبوا سائرين بين يديه طالبين القاهرة.
وقيل فى قتله وجه آخر.
قال القطب اليونينىّ: «ومما حكى لى الأمير سيف الدين بن المحفّدار:
كيف كان قتل السلطان الملك الأشرف خليل؟ قال: سألت الأمير شهاب الدين أحمد بن الأشلّ أمير شكار السلطان، كيف كان قتل السلطان الأشرف؟ فقال [ابن] الأشلّ: بعد رحيل الدّهليز (يعنى مدورة السلطان والعساكر) جاء إليه الخبر أنّ بتروجة طيرا كثيرا، فقال السلطان: امش بنا حتى نسبق الخاصّكيّة «1» ، فركبنا وسرنا، فرأينا طيرا كثيرا فرماه السلطان بالبندق، فأصرع شيئا كثيرا، ثم إنّه التفت إلىّ وقال: أنا جيعان «2» ، فهل معك شىء تطعمنى؟ فقلت: والله ما معى سوى فرّوجة ورغيف خبز، قد ادّخرته لنفسى فى صولقى «3» ، فقال لى: ناولنى إيّاه، فأخذه وأكله جميعه، ثم قال لى: أمسك لى فرسى حتّى أنزل وأريق الماء، فقلت له:
ما فيها حيلة! أنت راكب حصانا وأنا راكب حجرة «4» وما يتفقوا، فقال لى: انزل أنت واركب خلفى وأركب أنا الحجرة التى لك، والحجرة مع الحصان تقف، قال:
فنزلت وناولته لجام الحجرة، ثم إنّى ركبت خلفه، ثمّ إنّ السلطان نزل وقعد يريق الماء، وشرع يولغ بذكره ويمازحنى، ثم قام وركب حصانه ومسك لى الحجرة، ثم إنّى ركبت. فبينما أنا وإيّاه نتحدّث وإذا بغبار عظيم قد ثار وهو قاصد نحونا، فقال لى السلطان: سق واكشف لى خبر هذا الغبار، قال: فسقت، وإذا الأمير

(8/18)


بدر الدين بيدرا والأمراء معه، فسألتهم عن سبب مجيئهم فلم يردّوا علىّ جوابا ولا التفتوا إلى كلامى، وساقوا على حالهم حتّى قربوا من السلطان، فكان أوّل من ابتدره بيدرا بالضّربة قطع بها يده وتمّم الباقى قتله» . انتهى.
وأمّا أمر بيدرا فإنّه لمّا قتل السلطان بايع الأمراء بيدرا بالسلطنة ولقّبوه بالملك الأوحد وبات تلك الليلة، فإنّ قتل الأشرف كان بين الظّهر والعصر.
وأصبح ثانى يومه سار بيدرا بالعساكر إلى نحو الديار المصريّة؛ وبينما بيدرا سائر بعساكره وإذا بغبار عظيم قد علا وملأ الجوّ وقرب منه، وإذا بطلب عظيم فيه نحو ألف وخمسمائة فارس من الخاصّكيّة الأشرفيّة، ومعهم الأمير زين الدين كتبغا، وهو الذي تسلطن بعد ذلك بمدّة على ما يأتى ذكره. والأمير حسام الدين الأستادار طالبين بيدرا بدم أستاذهم السلطان الملك الأشرف خليل المذكور وأخذ الثّأر منه ومن أصحابه. وكان ذلك بالطرّانة فى يوم الأحد أوّل النهار، فما كان غير ساعة إلا والتقوا، وكان بيدرا لمّا رآهم صفّ من معه من أصحابه للقتال، فصدموه الأشرفيّة صدمة صادقة وحملوا عليه حملة واحدة فرّقوا شمله، وهرب أكثر من كان معه؛ فحينئذ أحاطوا ببيدرا وقبضوا عليه وحزّوا رأسه، وقيل: إنهم قطعوا يده قبل أن يحزّوا رأسه؛ كما قطعت يد أستاذهم الملك الأشرف بضربة السيف، ولمّا حزّوا رأسه حملوه على رمح وسيّروه إلى القاهرة، فطافوا به ثم عادوا نحو القاهرة حتى وصلوا برّ الجيزة، فلم يمكّنهم الأمير علم الدين سنجر الشّجاعىّ من التعدية إلى برّ مصر، لأنّ السلطان الملك الأشرف كان قد تركه فى القلعة عند سفره نائب السلطنة بها، فلم يلتفتوا إليه وأرادوا التعدية؛ فأمر الشجاعىّ المراكب والشوانى فعدّت إلى برّ القاهرة، وبقى العسكر والأمراء على جانب البحر مقيمين حتى مشت بينهم الرّسل على أن يمكّنهم الشجاعىّ من العبور حتّى يقيموا عوض السلطان أخاه الملك

(8/19)


الناصر محمد بن قلاوون وهو صغير، تسكينا لما وقع وإخمادا للفتنة، فأجلسوه على تخت الملك بقلعة الجبل فى رابع عشر المحرّم من سنة ثلاث وتسعين وستمائة المذكورة، وأن يكون نائب السلطنة الأمير زين الدين كتبغا، والوزير الأمير علم الدين سنجر الشجاعىّ، وحسام الدين أستاذ الدار أتابك العساكر.
قلت: وساق الشيخ قطب الدين اليونينىّ واقعة الملك الأشرف هذا وقتله وقتل بيدرا بأطول من هذا؛ قال الشيخ قطب الدين:
«وحكى لى الأمير سيف الدين بن المحفّدار أمير جاندار قال: كان السلطان الملك الأشرف قد أنفذنى فى أوّل النهار إلى الأمير بدر الدين بيدرا يأمره أن يأخذ العساكر ويسير بهم، فلمّا جئت إليه وقلت له: السلطان يأمرك أن تسير الساعة تحت الصناجق بالأمراء والعسكر، قال: فنفر فىّ بيدرا، ثم قال: السمع والطاعة؛ قال: ورأيت فى وجهه أثر الغيظ والحنق وقال: وكم يستعجلنى! فظهر فى وجهه شىء ما كنت أعهده منه؛ ثم إنّى تركته ومشيت حملت الزّردخاناه «1» والثّقل الذي لى وسرت، فبينما أنا سائر أنا ورفيقى الأمير صارم الدين الفخرىّ وركن الدين أمير جاندار عند المساء، وإذا بنجّاب سائر، فسألت عن السلطان أين تركته؟ فقال:
طوّل الله أعماركم فيه؛ فبينما نحن متحيّرون فى أمره، وإذا بالسناجق التى للسلطان قد لاحت وقربت والأمراء تحتها، والأمير بدر الدين بيدرا بينهم وهم محدقون به؛ قال: فجئنا وسلّمنا عليه، فقال له الأمير ركن الدين بيبرس أمير جاندار: يا خوند، هذا الذي فعلته كان بمشورة الأمراء؟ قال: نعم، إنّما قتلته بمشورتهم وحضورهم،

(8/20)


وها هم كلّهم حاضرون، وكان من جملة من هو حاضر الأمير حسام الدين لاچين المنصورىّ، والأمير شمس الدين قراسنقر المنصورىّ، والأمير بدر الدين بيسرىّ، وأكثر الأمراء سائقون معه؛ قال: ثم إنّ بيدرا شرع يعدّد سيئّات السلطان ومخازيه ومناحسه وإهماله أمور المسلمين واستهزاءه بالأمراء ومماليك أبيه ووزارته لأبن السّلعوس، قال: ثم إنّه سألنا هل رأيتم الأمير زين الدين كتبغا؟ فقلنا له:
لا، فقال بعض الأمراء: يا خوند، هل كان عنده علم بالقضيّة؟ فقال: نعم، وهو أوّل من أشار بهذا الأمر.
فلمّا كان ثانى يوم وإذا بالأميرين «1» : زين الدين كتبغا وحسام الدين أستاذ الدار قد جاءوا فى طلب كبير فيه مماليك السلطان الملك الأشرف نحو من ألفى فارس وفيهم جماعة من العسكر والحلقة، فالتقوه بالطّرّانة يوم الأحد أوّل النهار. ثم ساق قطب الدين فى أمر الواقعة نحوا ممّا ذكرناه من أمر بيدرا وغيره، إلى أن قال:
وتفرّق جمع الأمير بيدرا. قال ابن المحفّدار: فلمّا رأينا مالنا بهم طاقة التجأنا إلى جبل هناك شمالىّ «2» ، واختلطنا بذلك الطّلب الذي فيه كتبغا، ورأينا بعض أصحابنا، فقال [لنا «3» ] : شدّوا بالعجلة مناديلكم فى رقابكم إلى تحت آباطكم، فهى الإشارة بيننا وإلّا قتلوكم أو شلحوكم، فعملنا «4» مناديلنا فى رقابنا إلى تحت آباطنا، وكان ذلك سبب سلامتنا، فحصل لنا به نفع كثير من جهة الأمير زين الدين كتبغا ومن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، وسلمت بذلك أنفسنا وأثقالنا [وأهلونا «5» ] وأموالنا؛ ثم ظهر لهم أنّنا لم يكن لنا فى باطن القضيّة علم. قال: وسرنا إلى قلعة

(8/21)


الجبل. وذكر سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون حسب ما نذكره فى ترجمته إن شاء الله تعالى فيما يأتى.
قال: ولمّا كان يوم خامس «1» عشرين المحرّم أحضر إلى قلعة الجبل أميران وهما سيف الدين بهادر رأس نوبة وجمال الدين آقوش الموصلىّ الحاجب، فحين حضروا اجتمعوا الأشرفيّة عليهم فضربوا رقابهم وعلّقوا رأس بهادر على باب «2» داره الملاصقة لمشهد الحسين «3» بالقاهرة. وبهارد هذا هو الذي حطّ السيف فى دبر الملك الأشرف بعد قتله وأخرجه من حلقه. ثم أخذوا جنّته وجثة آقوش وأحرقوهما فى قمين جير.
وأمّا الأمير حسام الدين لاچين المنصورىّ، والأمير شمس الدين قرا سنقر فإنّهما اختفيا ولم يظهر لهما خبر، ولا وقع لهما على أثر. ثم أحضر المماليك الأشرفيّة سبعة أمراء، وهم: سيف الدين نوغيه، وسيف الدين ألناق، وعلاء الدين ألطنبغا الجمدار، وشمس الدين سنقر «4» مملوك لاچين، وحسام الدين طرنطاى السّاقى، ومحمد خواجا «5» ، وسيف الدين أروس فى يوم الاثنين خامس صفر إلى قلعة الجبل، فلمّا رآهم السلطان الملك الناصر محمد أمر بقطع أيديهم أوّلا، وبعد ذلك يسمّرون على الجمال وأن تعلّق أيديهم فى حلوقهم ففعل ذلك، ورأس بيدرا أيضا على رمح يطاف به معهم بمصر «6»

(8/22)


والقاهرة، وبقوا على هذه الحالة إلى أن ماتوا، وكلّ من مات منهم سلّم إلى أهله والجميع دفنوهم بالقرافة.
قلت: وقريب ممّا وقع لبيدرا هذا وأصحابه أوائل ألفاظ المقالة الخامسة عشرة من «كتاب أطباق الذهب» للشيخ الإمام الربّانى شرف الدين عبد المؤمن الأصفهانىّ المعروف بشوروة «1» ، وهى قوله:
«من الناس من يستطيب ركوب الأخطار، وورود التّيار، ولحوق العار والشّنار، ويستحبّ وقد النار، وعقد الزّنّار، لأجل الدينار؛ ويستلذّ سفّ الرّماد، ونقل السّماد، وطىّ البلاد، لأجل الأولاد؛ ويصبر على نسف الجبال، ونتف السّبال «2» ، لشهوة المبال؛ ويبدّل الإيمان»
بالكفر، ويحفر الجبال بالظّفر، للدنانير الصّفر؛ ويلج ما ضغى «4» الأسود، للدراهم السّود؛ لا يكره صداعا، [إذا نال كراعا «5» ] ؛ ويلقى النوائب بقلب صابر، فى هوى الشيخ أبى جابر «6» ؛ ويأبى العزّ طبيعة، ويرى الذّلّ شريعة؛ وإن رزق لعيعة «7» ، يراها صنيعة، يؤمّ راسه وترضّ أضراسه؛ وإن أعطى درهما، يراه مرهما.
ومن الناس من يختار العفاف، ويعاف الإسفاف؛ يدع الطعام طاويا، ويذر الشراب صاديا، ويرى المال رائحا غاديا؛ يترك الدنيا لطلّابها، ويطرح الجيفة لكلابها؛ لا يسترزق لئام الناس، ويقنع بالخبز الناس «8» ؛ يكره المنّ والأذى، ويعاف

(8/23)


الماء على القذى؛ إن أثرى جعل موجوده معدوما، وإن أقوى «1» حسب قفاره مأدوما؛ جوف خال، وثوب «2» بال، ومجد عال؛ ووجه مصفرّ، عليه قرّ؛ وثوب أسمال، وراء عزّ [و] جمال؛ وعقب مشقوق، وذيل مفتوق، يجرّه فتى مغبوق. شعر:
لله تحت قباب العزّ طائفة ... أخفاهم فى رداء الفقر إجلالا
هم السلاطين فى أطمار مسكنة ... استعبدوا من ملوك الأرض أقيالا
غبر ملابسهم شمّ معاطسهم ... جرّوا على فلك الخضراء أذيالا
هذى المناقب لا ثوبان من عدن «3» ... خيطا قميصا فصارا بعد أسمالا
هذى المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
هم الذين جبلوا برآء من التّكلّف، «يحسبهم الجاهل أغنياء من التّعفّف» . انتهى ما ذكرناه من المقالة الخامسة عشرة وإن كنّا خرجنا عن المقصود من كون غالبها من غير ما نحن فيه، غير أنّنى لم أذكرها بتمامها هنا إلّا لغرابتها. انتهى.
ولمّا مات الملك الأشرف خليل هذا، وتمّ أمر أخيه الملك الناصر محمد فى السلطنة، استقرّ الأمير زين الدين كثبغا المنصورىّ نائب السلطنة، وسنجر الشّجاعىّ مدبّر المملكة وأتابك العساكر، وبقيّة الأمور تأتى فى أوّل سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون بأوضح من هذا
ولمّا قتل الملك الأشرف خليل المذكور بقى ملقى إلى أن خرج والى تروجة من بعد قتله بيومين، ومعه أهل تروجة، وأخذوه وغسّلوه وكفّنوه وجعلوه فى تابوت

(8/24)


فى دار الوالى إلى أن سيّروا من القاهرة الأمير سعد الدين كوجبا الناصرىّ إلى مصرعه، فأخذه فى تابوت ووصل به إلى القاهرة سحر يوم الخميس ثانى عشرين صفر، فدفن فى تربة «1» والدته بجوار أخيه الملك الصالح علىّ بن قلاوون- رحمهما الله تعالى- ورثاه ابن حبيب بقصيدة، أوّلها:
تبّا لأقوام تمالك رقّهم ... فتكوا وما رقّوا لحالة مثرف
وافوه غدرا ثم صالوا جملة ... بالمشرفىّ على المليك الأشرف
وافى شهيدا نحو روضات الرّضا ... يختال بين مزهّر ومزخرف
ومضى يقول لقاتليه تربّصوا ... بينى وبينكم عراض الموقف

(8/25)


وقال النّويرىّ فى تاريخه: كان ملكا مهيبا شجاعا مقداما جسورا جوادا كريما بالمال، أنفق على الجيش فى هذه الثلاث سنين ثلاث نفقات: الأولى فى أوّل جلوسه فى السلطنة من مال طرنطاى، والثانية عند توجّهه الى عكّا، والثالثة عند توجّهه الى قلعة الروم. انتهى كلام النّويرىّ باختصار.
وقال الشيخ صلاح الدين خليل بن أيبك الصّفدىّ فى تاريخه: «وكان قبل ولاية الملك الأشرف يؤخذ عند باب الجابية «1» بدمشق عن كلّ حمل خمسة دراهم مكسا، فأوّل ما تسلطن وردت إلى دمشق مسامحة بإسقاط هذا، وبين سطور المرسوم بقلم العلامة بخطه: لتسقط عن رعايانا هذه الظّلامة، ويستجلب لنا الدعاء من الخاصّة والعامّة» . انتهى كلام الصفدىّ.
وقال الحافظ أبو عبد الله الذّهبىّ فى تاريخه، بعد أن ساق من أحواله قطعة جيّدة، فقال: «ولو طالت أيّامه أو حياته لأخذ العراق وغيرها، فإنّه كان بطلا شجاعا مقداما مهيبا عالى الهمّة يملأ العين ويرجف القلب، رأيته مرّات، وكان ضخما سمينا كبير الوجه بديع الجمال مستدير اللّحية، على وجهه رونق الحسن وهيبة السلطنة، وكان إلى جوده وبذله الأموال فى أغراضه المنتهى. وكان مخوف السطوة، شديد الوطأة، قوىّ البطش؛ تخافه الملوك فى أمصارها، والوحوش العادية «2» فى آجامها. أباد جماعة من كبار الدولة. وكان منهمكا فى «3» اللذات، لا يعبأ بالتحرّز لنفسه لفرط شجاعته، ولم أحسبه بلغ ثلاثين سنة، ولعلّ الله عزّ وجلّ قد

(8/26)


عفا عنه وأوجب له الجنّة لكثرة جهاده، وإنكائه فى الكفّار» . انتهى كلام الذهبى باختصار.
قلت: وكان الأشرف مفرط الشجاعة والإقدام، وجمهور الناس على أنه أشجع ملوك الترك قديما وحديثا بلا مدافعة، ثم من بعده الملك الناصر فرج ابن الملك الظاهر برقوق، وشهرتهما فى ذلك تغنى عن الإطناب فى ذكرهما.
وكانت مدّة مملكة الأشرف هذا على مصر ثلاث سنين وشهرين وخمسة أيام، لأنّ وفاة والده كانت فى يوم السبت سادس ذى القعدة سنة تسع وثمانين وستمائة.
وجلس الأشرف المذكور على تخت الملك فى صبيحة دفن والده فى يوم الاثنين «1» ثامن ذى القعدة. وقتل فى يوم السبت «2» ثانى عشر المحرّم سنة ثلاث وتسعين وستمائة.
انتهى.
وقال الشيخ قطب الدين البونينىّ: ومات (يعنى الملك الأشرف) شهيدا مظلوما فإنّ جميع من وافق على قتله كان قد أحسن إليه ومنّاه وأعطاه وخوّله، وأعطاهم ضياعا بالشام، ولم تتجدد فى زمانه مظلمة، ولا استجدّ ضمان مكس، وكان يحبّ الشأم وأهله، وكذلك أهل الشأم كانوا يحبونه- رحمه الله تعالى وعفا عنه-.
السنة الأولى من سلطنة الملك الأشرف صلاح الدين خليل على مصر وهى سنة تسعين وستمائة. على أنه حكم من الماضية من يوم الاثنين ثامن ذى القعدة إلى آخرها. انتهى.

(8/27)


فيها (أعنى سنة تسعين وستمائة) توفّى الشيخ عزّ الدين أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن طرخان الأنصارىّ السّويدىّ «1» الطبيب المشهور، وهو من ولد سعد بن معاذ الأوسىّ- رضى الله عنه- كان قد تفرّد فى آخر عمره بمعرفة الطبّ، وكان له مشاركة جيّدة فى العربيّة والتاريخ، واجتمع بأكابر الأطبّاء وأفاضل الحكماء، مثل المهذّب «2» عبد الرحيم بن علىّ الدّخوار وغيره، وقرأ علم الأدب على جماعة من العلماء، وكان له نظم جيّد. من ذلك قوله فى خضاب اللّحية:
لو أنّ تغيير لون شيبى ... يعيد ما فات من شبابى
لما وفى لى بما تلاقى ... روحى من كلفة الخضاب
قلت: ويعجبنى قول الشيخ صفىّ «3» الدين عبد العزيز الحلّى فى هذا المعنى:
قالوا اخضب الشيب فقلت اقصروا ... فإنّ قصد الصدق من شيمتى
فكيف أرضى بعد ذا أنّني ... أوّل ما أكذب فى لحيتى
غيره فى المعنى:
يا خاضب اللّحية ما تستحى ... تعاند الرحمن فى خلقته
أقبح شئ قيل بين الورى ... أن يكذب الإنسان فى لحيته
ومن شعر عزّ الدين صاحب الترجمة [مواليا «4» ] :
البدر والسعد ذا شبهك وذا نجمك ... والقدّ واللّحظ ذا رمحك وذا سهمك
والبغض والحبّ ذا قسمى وذا قسمك ... والمسك والحسن ذا خالك وذا عمّك

(8/28)


وفيها توفّى ملك التّتار أرغون بن أبغا بن هولاكو عظيم التّتار وملكهم، قيل:
إنه اغتيل بالسمّ، وقيل: إنّه مات حتف أنفه، واتّهم الترك اليهود بقتله فمالوا عليهم بالسيوف فقتلوهم ونهبوا أموالهم، واختلفت كلمة التّتار فيمن يقيمونه بعده فى الملك، فمالت طائفة إلى بيدو «1» ولم يوافقوا [على] كيختو «2» ، فرحل كيختو إلى الروم.
وكان أرغون هذا قد عظم أمره عند التّتار بعد قتل عمّه أحمد «3» ، ورسخت قدمه فى الملك، وكان شهما شجاعا مقداما، حسن الصورة، سفّا كاللدماء، شديد الوطأة.
وفيها توفّى الشيخ عفيف الدين أبو الربيع سليمان بن علىّ بن عبد الله بن علىّ ابن يس العابدى ثم الكوفىّ ثم التّلمسانىّ «4» المعروف بالعفيف التّلمسانىّ، الصوفىّ الشاعر المشهور، كان فاضلا ويدّعى العرفان، ويتكلّم فى ذلك على اصطلاح القوم.
قال الشيخ قطب الدين: «ورأيت جماعة ينسبونه إلى رقّة الدّين، وتوفّى وقد جاوز الثمانين «5» سنة من العمر، وكان حسن العشرة كريم الأخلاق له حرمة ووجاهة، وخدم فى عدّة جهات.

(8/29)


قلت: وقد تقدّم ذكر ولده الأديب الظريف «1» شمس الدين محمد أنّه مات فى حياة والده العفيف هذا. انتهى.
وكان العفيف المذكور من الشعراء المجيدين وله ديوان شعر كبير. ومن شعره:
يشكو إلى أردافه خصره ... لو تسمع الأمواج شكوى الغريق
يا ردفه رقّ على خصره ... فإنّه حمّل ما لا يطيق
وله:
إن كان قتلى فى الهوى يتعيّن ... يا قاتلى فبسيف جفنك «2» أهون
حسبى وحسبك أن تكون مدامعى ... غسلى وفى ثوب السّقام أكفّن
عجبا لخدّك وردة فى بانة ... والبان «3» فوق الغصن ما لا يمكن
أدنته لى سنة الكرى فلثمته ... حتى تبدّل بالشّقيق السّوسن
ووردت كوثر ثغره فحسبتنى ... فى جنّة من وجنتيه أسكن
ما راعنى إلا بلال الخال فو ... ق الخدّ فى صبح الجبين يؤذّن
قلت: وهذا مأخوذ من قول الحاجرى «4» من قصيدة:
أقام بلال الخال فى صحن خدّه ... يراقب من لآلاء غرّته الفجرا
ومنه أيضا أخذ الشيخ جمال الدين «5» محمد بن نباتة المصرىّ قوله:
وانظر إلى الخال فوق الثغر دون لمى ... تجد بلالا يراعى الصبح فى السّحر

(8/30)


قلت: وقد سبق إلى هذا المعنى أمير المؤمنين عبد الله «1» بن المعتزّ بقوله:
أسفر ضوء الصبح من وجهه ... فقام خال الخدّ فيه بلال
كأنّما الخال على خدّه ... ساعة هجر فى زمان الوصال
قلت وقد استوعبنا من ذكر العفيف هذا فى ترجمته فى تاريخنا «المنهل الصافى والمستوفىّ بعد الوافى» نبذة كبيرة فلينظر هناك.
وفيها توفّى الشيخ الإمام العلّامة فقيه الشام تاج الدين أبو محمد عبد الرحمن بن إبراهيم بن سباع بن ضياء الفزارىّ البدرىّ المصرىّ الأصل الدمشقى الشافعىّ المعروف بالفركاح «2» . ولد فى شهر ربيع الأوّل سنة أربع وعشرين وستّمائة.
قال الصّفدىّ: تفقّه فى صغره على الشيخ عزّ «3» الدين بن عبد السلام، والشيخ تقىّ «4» الدين بن الصّلاح، وبرع فى المذهب وهو شابّ، وجلس للاشتغال وله بضع وعشرون سنة، ودرّس فى سنة ثمان وأربعين، وكتب فى الفتاوى وقد أكمل الثلاثين.
ولمّا قدم النووىّ «5» من بلده أحضروه ليشتغل عليه، فحمل همّه وبعث به إلى مدرّس الرّواحيّة «6» ليصحّ له بها بيت ويرتفق بمعلومها. وكانت الفتاوى تأتيه من الأقطار.

(8/31)


وإذا سافر لزيارة القدس يترامى أهل البرّ على ضيافته، وكان أكبر من الشيخ محيى الدين النّووىّ بسبع سنين، وهو أفقه نفسا وأذكى وأقوى مناظرة من الشيخ محيى الدين بكثير، وقيل إنه كان يقول: إيش قال النّووىّ فى مزبلته! (يعنى عن الروضة «1» ) ، قال: وكان الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام يسمّيه «الدّويك» لحسن بحثه. انتهى كلام الصّفدىّ باختصار.
ومن شعره ما كتبه لزين الدين «2» عبد الملك بن العجمى ملغزا فى اسم بيدرا.
يا سيّدا ملأ الآفاق قاطبة ... بكلّ فنّ من الألغاز مبتكر
ما اسم مسمّاه بدر وهو مشتمل ... عليه فى اللفظ إن حقّقت فى النظر
وإن تكن مسقطا ثانيه مقتصرا ... عليه فى الحذف أضحى واحد البدر
وله [أيضا دو بيت «3» ]
ما أطيب ما كنت من الوجد لقيت ... إذ أصبح بالحبيب صبّا وأبيت
واليوم صحا قلبى من سكرته ... ما أعرف فى الغرام «4» من أين أتيت
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى مسند العالم فخر الدين علىّ بن البخارىّ المقدسىّ فى ربيع الآخر، وله خمس وتسعون سنة «5» . والمعمّر شهاب الدين غازى بن أبى الفضل [بن عبد الوهاب أبو محمد «6» ] الحلاوىّ فى صفر.

(8/32)


وفخر الدين عمر بن يحيى الكرخىّ فى شهر ربيع الآخر، وله إحدى وتسعون سنة. والعلّامة تاج الدين عبد الرحمن بن إبراهيم بن سباع الفزارىّ الشافعىّ فى جمادى الآخرة، وله ست وستون سنة «1» . والشيخ العفيف التّلمسانىّ الشاعر سليمان بن علىّ فى رجب، وله ثمانون سنة. والمقرئ شهاب الدين محمد بن عبد الخالق بن مزهر فى رجب. والقاضى شمس الدين عبد الواسع بن عبد الكافى الأبهرىّ «2» فى شوّال.
والمسند نجم الدين يوسف بن يعقوب بن محمد [بن علىّ «3» ] بن المجاور فى ذى القعدة والمسند شمس الدين محمد بن [عبد «4» ] المؤمن بن أبى الفتح الصالحىّ فى ذى الحجّة، وهو آخر من سمع من الكندىّ «5» . والإمام شمس الدين أحمد بن عبد الله بن الزّبير الخابورىّ خطيب حلب فى المحرّم.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وثلاث أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وسبع أصابع.
[ما وقع من الحوادث سنة 691]
السنة الثانية من ولاية الملك الأشرف خليل على مصر، وهى سنة إحدى وتسعين وستمائة.
فيها فى يوم الجمعة رابع عشرين صفر ظهر بقلعة الجبل حريق عظيم فى بعض خزائن الخاصّ، وأتلف شيئا عظيما من الذخائر والنفائس والكتب وغيرها.

(8/33)


وفيها توفّى الصاحب تاج الدين أحمد بن [المولى «1» ] شرف الدين سعيد ابن شمس الدين محمد بن الأثير الحلبى الكاتب المنشئ. وأولاد ابن الأثير هؤلاء غير بنى الأثير الموصليّين. وكان تاج الدين هذا بارعا فاضلا معظّما فى الدّول باشر الإنشاء بدمشق ثم بمصر للملك الظاهر بيبرس، ثم للملك المنصور قلاوون، وكان له نظم ونثر ولكلامه رونق وطلاوة. ومن عجيب ما اتّفق أنّ الأمير عز الدين أيدمر السّنانىّ النّجيبىّ الدّوادار أنشد تاج الدين المذكور عند قدومه إلى القاهرة فى الأيام الظاهريّة أوّل اجتماعه به، ولم يكن يعلم اسمه ولا اسم أبيه، قول الشاعر:
كانت مساءلة الرّكبان تخبرنى ... عن أحمد بن سعيد أحسن الخبر
حتّى التقينا فلا والله ما سمعت ... أذنى بأحسن ممّا قد رأى بصرى
فقال له تاج الدين: يا مولانا، أتعرف أحمد بن سعيد؟ فقال: لا، فقال: المملوك أحمد بن سعيد. ولم يزل تاج الدين هذا يترقّى الى أن ولى كتابة السرّ بمصر بعد موت فتح الدين محمد بن عبد الظاهر الآتى ذكره. ولمّا ولى كتابة السرّ سافر مع السلطان الى الديار المصريّة فأدركه أجله فمات بغزّة «2» ودفن هناك؛ وولى بعده كتابة السرّ ابنه عماد الدين «3» إسماعيل مدّة إلى أن عزل بشرف الدين عبد الوهاب بن فضل «4» الله العمرىّ.
وكان تاج الدين فاضلا نبيلا، وله يد فى النظم والنثر. ومن شعره القصيدة التى أوّلها:
أتتنى «5» أياديك التى لو تصوّرت ... محاسنها كانت من الأنجم الزّهر

(8/34)


وفيها توفى القاضى فتح الدين محمد ابن القاضى محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر ابن نشوان بن عبد الظاهر الجذامىّ الرّوحىّ «1» المصرىّ المعروف بابن عبد الظاهر صاحب ديوان الإنشاء ومؤتمن المملكة بالديار المصريّة. مولده بالقاهرة فى سنة ثمان وثلاثين وستمائة وسمع الحديث وتفقّه ومهر فى الإنشاء، وساد فى الدولة المنصوريّة قلاوون برأيه وعقله وحسن سياسته، وتقدّم على والده فكان والده من جملة الجماعة الذين يصرفهم أمره ونهيه. وقد تقدّم ذكره فى ترجمة الملك المنصور قلاوون والتعريف بحاله. ومن شعر فتح الدين المذكور لمّا توجّه إلى دمشق صحبة السلطان وحصل له توعّك فكتب إلى والده يقول:
إن شئت تبصرنى «2» وتبصر حالتى ... قابل إذا هبّ النسيم قبولا
تلقاه مثلى رقّة ونحافة ... ولأجل قلبك لا أقول عليلا
فهو الرسول اليك منى ليتنى ... كنت اتّخذت مع الرسول سبيلا
وله:
ذو قوام يحور منه اعتدال ... كم طعين به من العشّاق
سلب القضب لينها فهى غيظا ... واقفات تشكوه بالأوراق
قلت: وأجاد شمس الدين محمد بن العفيف فى هذا المعنى حيث قال:
قدّه حاز اعتدالا ... فله فتك ونسك
سلب الأغصان لينا ... فهى بالأوراق تشكو

(8/35)


الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى سيف الدين عبد الرحمن بن محفوظ الرّسعنىّ «1» فى المحرّم. وخطيب دمشق زين الدين عمر بن مكّى الوكيل «2» فى ربيع الأوّل. والمقرئ رضىّ الدين جعفر بن القاسم [المعروف «3» با] بن دبوقا الرّبعىّ فى رجب. والعدل علاء الدين علىّ بن أبى بكر بن أبى الفتح بن محفوظ [بن «4» الحسن] بن صصرّى الضرير فى شعبان. والموقّعان: سعد الدين [سعد «5» الله] ابن مروان الفارقىّ، وفتح الدين محمد بن محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وستّ عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا سواء.
[ما وقع من الحوادث سنة 692]
السنة الثالثة من ولاية الملك الأشرف خليل على مصر، وهى سنة اثنتين وتسعين وستمائة.
فيها حصل ببلاد غزّة والرّملة «6» وقاقون «7» والكرك «8» زلزلة عظيمة، وكان معظم تأثيرها بالكرك بحيث انهدم ثلاثة أبراج من قلعتها، وبنيان كثير من دورها وأماكنها.
وكانت الزّلزلة المذكورة فى صفر.

(8/36)


وفيها كانت وفاة الأمير الكبير شمس الدين سنقر بن عبد الله العلائىّ، ثم الصالحىّ النّجمىّ المعروف بالأشقر، كان من كبار الأمراء ممّن تملّك الشام فى أوائل سلطنة الملك المنصور قلاوون ودعا لنفسه وتلقّب «بالملك الكامل» وخطب له على منابر الشام، وضرب الدرهم والدينار باسمه. وقد أوضحنا من أمره نبدة كبيرة فى عدّة مواضع من ترجمة الملك المنصور قلاوون وغيره. ووقع له مع الملك المنصور أمور أسفرت بعد سنين على أنّه دخل تحت طاعته، وصار من جملة أكابر أمرائه. واستمرّ سنقر على ذلك إلى أن مات الملك المنصور قلاوون وملك بعده ابنه الملك الأشرف خليل صاحب الترجمة؛ قبض عليه فى هذه السنة وخنقه وخنق معه جماعة من الأمراء لأمر اقتضاه رأيه. والأمراء الذين قتلوا معه مثل: الأمير ركن الدين طقصو الناصرىّ، وجرمك الناصرىّ وبلبان الهارونىّ؛ وكان معهم الأمير حسام الدين لاچين المنصورىّ الذي تسلطن بعد ذلك، فوضع السلطان الوتر فى رقبته لخنقه فانقطع الوتر؛ فقال لاچين: يا خوند، إيش ذنبى! مالى ذنب إلّا أنّ طقصو حموى وأنا أطلّق بنته، فرقّوا له خشداشيته لأمر سبق فى علم الله وقبلّوا الأرض وسألوا السلطان فيه، وضمنه خشداشه الأمير بدر الدين بيدرا نائب السلطنة، فأطلقه السلطان وأعاده إلى رتبته، وأخذ سنقر الأشقر هذا ودفن بالقرافة. وكان سنقر المذكور أميرا شجاعا مقداما كريما حسن السياسة مهابا جليلا معظّما فى الدّول، وخوطب بالسلطنة سنين عديدة إلى أن ضعف أمره ونزل من قلعة صهيون بالأمان، وقدم على الملك المنصور قلاوون فأكرمه قلاوون، ودام على ذلك إلى أن مات. وكان سنقر شجاعا أشقر عبل البدن جهورىّ الصوت مليح الشكل. رحمه الله تعالى.

(8/37)


وفيها توفّى الشيخ الصالح القدوة المعتقد شيخ الشام أبو إسحاق إبراهيم ابن الشيخ السيد العارف أبى محمد عبد الله الأرموىّ «1» بزاويته بجبل قاسيون بعد الظهر وكانت جنازته مشهودة، رحمه الله.
وفيها توفّى الصاحب محيى الدين عبد الله بن رشيد الدين عبد الظاهر بن نشوان ابن عبد الظاهر السّعدىّ الموقّع كاتب الإنشاء بالديار المصريّة. وقد تقدّم ذكر ولده القاضى فتح الدين فى السنة الماضية. كان محيى الدين هذا من سادات الكتاب ورؤسائهم وفضلائهم. ومولده فى سنة عشرين وستمائة بالقاهرة، ومات يوم الأربعاء ثالث شهر رجب ودفن بالقرافة بتربته»
التى أنشأها. وهو صاحب النظم الرائق والنثر الفائق. ومن شعره قوله:
يا قاتلى بجفون «3» ... قتيلها ليس يقبر
إن صبّروا عنك قلبى ... فهو القتيل المصبّر
وله وأجاد إلى الغاية:
نسب الناس للحمامة حزنا ... وأراها فى الشّجو ليست هنالك
خضبت كفّها وطوّقت الجي ... د وغنّت وما الحزين كذلك
وله مضمّنا:
لقد قال كعب فى النّبيّ قصيدة ... وقلنا عسى فى مدحه نتشارك
فإن شملتنا بالجوائز رحمة ... كرحمة كعب فهو كعب مبارك

(8/38)


وله:
سلّفتنا على العقول السّلافه ... فتقاضت ديونها بلطافه
ضيّفتنا بالنّشر والبشر واليس ... ر ألا هكذا تكون الضّيافه
وقد سقنا من ترجمته فى تاريخنا «المنهل الصافى» عدّة أخر غير هؤلاء المقطّعات.
وفيها توفّى الأمير علم الدين سنجر بن عبد الله الحلبى، الأمير الكبير أحد الموصوفين بالشجاعة والإقدام، وقد شهد عدّة حروب، وله مواقف مشهورة مع العدوّ.
وكان أبيض الرأس واللّحية من أبناء الثمانين، وكان ولى نيابة دمشق فى آخر سنة ثمان وخمسين وستمائة. ولمّا تسلطن الملك الظاهر ركن الدين بيبرس لم يبايعه سنجر هذا ودعا لنفسه وحلّف الأمراء وتسلطن بدمشق ولقّب «بالملك المجاهد» ، فلم يتمّ له ذلك حسب ما تقدّم ذكره فى أوّل ترجمة الملك الظاهر بيبرس، وقبض الظاهر عليه وحبسه مدّة سنين إلى أن مات. وتسلطن بعده ولده الملك السعيد أفرج عنه وأمّره، فدام على ذلك إلى أن تسلطن الملك المنصور قلاوون، وخرج عليه الأمير سنقر الأشقر المقدّم ذكره وتسلطن بدمشق، ندب المنصور لحربه علم الدين سنجر هذا، وأضاف إليه العساكر المصريّة، فخرج إليه وقاتله وكسره وأخرجه من دمشق، ثمّ عاد إلى الديار المصريّة، فأنعم عليه المنصور قلاوون بأشياء كثيرة، ثم خانه وقبض عليه وحبسه إلى أن مات. فلمّا تسلطن ولده الملك الأشرف خليل أفرج عنه وأكرمه ورفع منزلته. وكان سبب مسك قلاوون له أنّه لمّا كسر سنقر الأشقر عظم فى أعين الناس ولهج بعض الناس بتسميته «بالملك المجاهد» كما كان تلقّب أوّلا لمّا ادّعى السلطنة، فبادره قلاوون وقبض عليه. وكان سنجر هذا من بقايا الأمراء الصالحيّة النّجميّة، رحمه الله تعالى.

(8/39)


الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الشيخ الزاهد إبراهيم ابن العارف الشيخ عبد الله الأرموىّ فى المحرّم. وكمال الدين أحمد بن محمد النّصيبىّ الحلبىّ فى المحرّم. والمقرئ جمال الدين إبراهيم بن داود الفاضلىّ فى أوّل جمادى الأولى. والإمام القدوة تقىّ الدين إبراهيم بن علىّ بن الواسطى الحنبلىّ فى جمادى الآخرة، وله تسعون سنة. والسيف علىّ بن الرّضى عبد الرحمن المقدسىّ فى شوّال.
والمحدّث التقى عبيد [بن «1» محمد بن عبّاس] الإسعردىّ. وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم ابن ترجم المصرىّ راوى التّرمذىّ «2» .
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وعشر أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا واثنتا عشرة إصبعا. انتهت ترجمة الملك الأشرف خليل.

(8/40)


[ما وقع من الحوادث سنة 693]
ذكر سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون الأولى على مصر
هو السلطان الملك الناصر أبو الفتوح ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحىّ النّجمىّ الألفىّ سلطان الديار المصريّة وابن سلطانها، مولده بالقاهرة فى سنة أربع وثمانين وستمائة بقلعة «1» الجبل، ووالده الملك المنصور قلاوون يحاصر حصن المرقب «2» ، وجلس على تخت الملك بعد قتل أخيه الملك الأشرف صلاح الدين خليل بن قلاوون فى يوم الاثنين رابع عشر المحرّم، وقيل يوم الثلاثاء خامس عشر المحرّم، من سنة ثلاث وتسعين وستمائة، لأنّ الملك الأشرف قتل بتروجة «3» فى يوم السبت ثانى عشر المحرّم وقتل قاتله الأمير بدر الدين بيدرا فى يوم الأحد ثالث عشر المحرّم، ثم اتّفقوا على سلطنة الملك الناصر محمد هذا عوضا عن أخيه، فتمّ له ذلك.
فتكون سلطنته فى أحد اليومين المذكورين تخمينا لما وقع فى ذلك من الاختلاف بين المؤرّخين. انتهى.
والملك الناصر هذا هو السلطان التاسع من ملوك التّرك بالديار المصريّة، ولما استقر فى السلطنة رتّبوا الأمير زين الدين كتبغا المنصورىّ نائب السلطنة بالديار المصريّة عوضا عن بيدرا، والأمير علم الدين سنجر الشجاعى وزيرا ومدبّرا للمملكه وأتابك العساكر؛ ثم قبضوا على جماعة من قتلة الملك الأشرف خليل حسب ما تقدّم ذكره، وتمّ ذلك ودام إلى العشرين من صفر. فبلغ الأمير زين الدين كتبغا أنّ الأمير علم الدين

(8/41)


سنجر الشجاعىّ يريد الوثوب عليه وقبضه وقتله. وكان الذي أخبره بذلك سيف الدين قنقغ «1» التّتارى، وأعلمه بما فى باطن الشجاعىّ؛ والسبب فى «2» اطّلاعه على ما فى باطن الشجاعىّ أنّ هذا قنقغ هاجر من بلاد التّتار فى زمن الملك الظاهر بيبرس، وأقام بمصر وأقطع فى الحلقة فرزقه الله تعالى اثنى عشر ولدا كلّهم ذكور، منهم: ستة أولاد فى خدمة الملك الأشرف، وخمسة فى خدمة الشجاعىّ، وواحد منهم صغير؛ وجميع أولاده شباب ملاح من أجمل الناس صورة. وكان لقنقغ هذا منزلة عظيمة عند الشجاعىّ وكلمته مسموعة، وشفاعته مقبولة؛ وله اطّلاع على أمور الدولة بسبب أولاده، فعلم بما دبّره الشجاعىّ، فحملته الجنسيّة حتّى أعلم الأمير كتبغا على ما فى باطن الشجاعىّ؛ فاحترز كتبغا على نفسه وأعلم الأمراء بالخبر، وكان الأمراء كارهين الشجاعىّ. فلمّا كان يوم الخميس ثانى عشرين صفر ركب الأمير كتبغا إلى سوق «3» الخيل فنزل إليه من القلعة أمير يقال له البندقدارىّ «4» وقال له من قبل الشجاعىّ:
أين حسام الدين لاچين المنصورى؟ أحضره الساعة؛ فقال له كتبغا: ما هو عندى، وكان لاچين من يوم قتل الأشرف قد اختفى، والمماليك الأشرفيّة قد أعياهم أمره

(8/42)


من كثرة التفتيش عليه، فقال له البندقدارىّ: بلى، لاچين عندك، ثم مدّ يده إلى سيفه ليضربه به، فجدب سيف الدين بلبان الأزرق مملوك كتبغا سيفه وعلا «1» به البندقدارىّ من ورائه وضربه ضربة حلّ بها كتفه ويده، ثم إنّهم تكاثروا عليه وأنزلوه عن فرسه وذبحوه، وهمّ مماليك كتبغا. وذلك فى وسط سوق الخيل، ومال غالب العسكر من الأمراء والمقدّمين وأجناد الحلقة والتتار والأكراد إلى كتبغا وانضمّوا عليه، ومالت البرجيّة «2» وبعض الخاصّكيّة إلى سنجر الشجاعىّ، لأنّ الشجاعىّ كان أنفق فيهم فى الباطن فى يوم واحد ثمانين ألف دينار، واتّفق معهم أيضا أنّ كلّ من جاء برأس أمير كان له إقطاعه؛ وكان الاتّفاق معهم أنّه فى يوم الخميس وقت الموكب لمّا يطلع الأمير كتبغا إلى القلعة ويمدّوا السّماط يمسك هو

(8/43)


ومن اتّفق معه من الأمراء يقبضون عليهم. فاستعجل البندقدارىّ ونزل إلى سوق الخيل وفعل ما ذكرناه.
ولمّا وقع ذلك تحقّق الأمراء صحّة ما نقل إليهم الأمير زين الدين كتبغا عن الشجاعىّ، فاجتمع فى الحال الأمراء عند كتبغا بسوق الخيل وركبت التّتار جميعهم وجماعة من الشّهرزوريّة والأكراد وجماعة من الحلقة كراهية منهم فى الشجاعىّ، وخرج الشجاعىّ بمن معه إلى باب القلعة، فإنّ إقامته كانت بالقلعة وأمر بضرب الكوسات «1» فضربت، وبقى يطلب أن يطلع إليه أحد من الأمراء والمقدّمين فلم يجبه أحد؛ وكان قد أخرج صحبته الذهب فى الصّرر وبقى كلّ من جاء إليه يعطيه صرّة؛ فلم يجئ إليه إلّا أناس قليلون ما لهم مرتبة. وشرع كتبغا ومن معه فى حصار القلعة وقطعوا عنها الماء وبقوا ذلك اليوم محاصرين. فلمّا كان ثانى يوم نزلت البرجيّة من القلعة على حميّة وتلاقوا مع كتبغا وعساكره وصدموه صدمة كسروه فيها كسرة شنيعة وهزموه إلى بئر «2» البيضاء، وتوجّه كتبغا إلى جهة بلبيس «3» ؛ فلمّا سمعوا باقى الأمراء بذلك

(8/44)


ركب الأمير بدر الدين بيسرىّ المنصورىّ والأمير بدر الدين بكتاش الفخرىّ أمير سلاح وبقيّة العساكر المصريّة، وتوجهت الجميع إلى نصرة الأمير كتبغا وأصحابه، وقاتلوا المماليك البرجية حتّى كسروهم وردّوهم إلى أن أدخلوهم إلى قلعة الجبل؛ ثم جدّوا فى حصار القلعة ومن فيها، وعاد الأمير كتبغا وقد قوى عضده بخشداشيته والأمراء؛ ودام الحصار على القلعة إلى أن طلعت الستّ خوند والدة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى أعلى السّور وكلّمتهم بأن قالت لهم: إيش هو غرضكم حتى إننا نفعله لكم؟ فقالوا: مالنا غرض إلّا مسك الشجاعىّ وإخماد الفتنة، ونحن لو بقيت بنت عمياء من بنات أستاذنا الملك المنصور قلاوون كنّا مماليكها لا سيما ولده الملك الناصر محمد حاضر وفيه كفاية. فلمّا علمت ذلك رجعت واتّفقت مع الأمير حسام الدين لاچين أستاذ الدار، وغلقوا باب القلّة «1» من القلعة وهى التى عليها المعتمد، وبقى الشجاعى بداره بالقلعة محصورا. فلمّا رآه أصحابه أنّه فى أنحس حال شرعوا فى النزول إلى عند الأمير كتبغا، فبقى جمع الشجاعىّ يقلّ وجمع كتبغا يكثر إلى يوم السبت رابع عشرين صفر ضجر الشجاعىّ وطلب الأمان فلم يوافقوه الأمراء؛ وطلع وقت صلاة الظهر «2» بعض الأمراء وجماعة من الخاصّكّية وفيهم آقوش «3» المنصورىّ إلى عند الشجاعى

(8/45)


يطلبونه إلى عند السلطان وإلى والدته [فى «1» ] صورة أنهم يريدون يستشيرونه فيما يعملون، فمشى معهم قليلا وتكاثروا عليه المماليك وجاء آقوش من ورائه وضربه بالسيف ضربة قطع بها يده، ثم بادره بضربة ثانية أبرى بها رأسه عن جسده، وأخذوا رأسه فى الحال ورفعوه على سور القلعة، ثم عادوا ونزلوا [به «2» ] إلى كتبغا ودقّوا البشائر وفتحوا باب القلّة، وأخذوا رأس الشجاعىّ وجعلوه على رمح وأعطوه للمشاعليّة فجبوا عليه مصر والقاهرة، فحصّل المشاعليّة مالا كثيرا لبغض الناس قاطبة فى الشجاعىّ؛ فقيل: إنهم كانوا يأخذون الرأس من المشاعليّة ويدخلونه بيتهم فتضربه النسوة بالمداسات لما فى نفوسهم منه. وسبب ذلك ما كان اشتمل عليه من الظلم ومصادراته للعالم وتنوّعه فى الظلم والعسف حسب ما يأتى ذكره فى الوفيات بأوسع من هذا. وأغلقت القاهرة خمسة أيام إلى أن طلع كتبغا إلى القلعة فى يوم الثلاثاء سابع عشرين صفر ودقّت البشائر وفتحت الأبواب وجدّدت الأيمان «3» والعهود للملك الناصر محمد بن قلاوون وأن يكون الأمير كتبغا نائب السلطنة.
ولمّا تمّ ذلك قبض كتبغا على جماعة من الخاصّكيّة والبرجيّة المتّفقين مع الشجاعىّ، ثم أفرج عن جماعة من الأمراء كان قبض عليهم فى المخيم، وهم: الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير الذي تسلطن بعد ذلك على ما يأتى ذكره، والأمير سيف الدين برلغى، والأمير القمامىّ «4» وسيف الدين قبجق «5» المنصورىّ، والأمير بدر الدين

(8/46)


عبد الله، والأمير سيف الدين بورى «1» [السلاح دار] والأمير زين «2» الدين عمر، والأمير سيف الدين قرمشى «3» ، والأمير علاء الدين مغلطاى المسعودىّ وغيرهم. وأخذ الأمير زين الدين كتبغا وأعطى فى الملك وانفرد بتدبير الأمر ومشى مع الملك الناصر محمد مشى المملوك مع أستاذه.
ثمّ بعث بتقليد نائب الشام على عادته، وهو الأمير أيبك الحموىّ. ثم بعد ذلك نزل السلطان الملك الناصر محمد بن قلعة الجبل فى موكب هائل بأبّهة السلطنة، وتوجّه إلى ظاهر القاهرة ثمّ عاد وشقّ القاهرة، ودخل من باب «4» النصر وخرج من باب «5» زويلة عائدا إلى القلعة، والأمراء مشاة بين يديه حتّى الأمير كتبغا، وكان ذلك فى يوم الأحد رابع عشرين «6» شهر رجب. ولمّا كان سابع عشرين شهر رمضان ظهر الأمير حسام الدين لاچين المنصورىّ من اختفائه واجتمع بالأمير كتبغا خفية،

(8/47)


فتكلّم كتبغا فى أمره مع الأمراء، فاتّفقوا على إظهار أمره لما رأوا فى ذلك من إصلاح الحال، فطيّب كتبغا خاطر الأمير حسام الدين لاچين ووعده أن يتكلّم فى أمره مع السلطان والمماليك الأشرفيّة. ولا زال كتبغا بالسلطان والحاشية حتى رضّاهم عليه وطيّب قلوبهم إلى أن كان يوم عيد الفطر، ظهر حسام الدين لاچين من دار كتبغا، وحضر السّماط وقبّل الأرض بين يدى السلطان الملك الناصر محمد، فخلع عليه السلطان وطيب قلبه، ولم يعاتبه بما فعل مع أخيه الملك الأشرف خليل مراعاة لخاطر كتبغا. ثم خلع عليه الأمير كتبغا أيضا، وحملت إليه الهدايا والتّحف من الأمراء وغيرهم؛ كلّ ذلك لأجل خاطر كتبغا. واصطلحت أيضا معه المماليك الأشرفيّة على ما فى نفوسهم منه من قتل أستاذهم بأمر كتبغا لهم وإلحاحه عليهم فى ذلك حتى قبلوا كلامه. وكانت مكافأة لاچين لكتبغا بعد هذا الإحسان كله بأن دبّر عليه حتّى أخذ الملك منه وتسلطن عوضه على ما يأتى ذكره وبيانه إن شاء الله تعالى.
ثمّ خلع السلطان على الصاحب تاج «1» الدين محمد ابن الصاحب فخر «2» الدين محمد ابن الصاحب بهاء «3» الدين علىّ بن حنّا باستقراره فى الوزارة بالديار المصريّة.
ثمّ استهلت سنة أربع وتسعين وستمائة والخليفة الحاكم بأمر الله أبو العبّاس أحمد. وسلطان مصر والشام الملك الناصر محمد بن قلاوون، ومدبّر مملكته الأمير كتبغا المنصورىّ. ولمّا كان عاشر المحرّم ثار جماعة من المماليك الأشرفيّة خليل فى الليل بمصر والقاهرة وعملوا عملا قبيحا وفتحوا أسواق السلاح بالقاهرة بعد حريق باب «4» السعادة، وأخذوا خيل السلطان وخرقوا ناموس الملك، وذلك كلّه بسبب

(8/48)


ظهور الأمير حسام الدين لاچين وعدم قتله؛ فإنّه كان ممّن باشر قتل أستاذهم الملك الأشرف خليل، فحماه الأمير كتبغا ورعاه، وأيضا قد بلغهم خلع أخى أستاذهم الملك الناصر محمد بن قلاوون من السلطنة وسلطنة كتبغا فتزايدت وحشتهم وترادفت عليهم الأمور، فاتّفقوا ووثبوا فلم ينتج أمرهم. فلمّا أصبح الصباح قبض عليهم الأمير كتبغا وقطع أيدى بعضهم وأرجلهم وكحّل البعض وقطع ألسنة آخرين وصلب جماعة منهم على باب زويلة؛ ثم فرّق بقيّة المماليك على الأمراء والمقدّمين، وكانوا فوق الثلاثمائة نفر وهرب الباقون؛ فطلب الأمير زين الدين كتبغا الخليفة والقضاة والأمراء وتكلّم معهم فى عدم أهليّة الملك الناصر محمد للسلطنة لصغر سنّه، وأنّ الأمور لابدّ لها من رجل كامل تخافه الجند والرعيّة وتقف عند أوامره ونواهيه.
كلّ ذلك كان بتدبير لاچين فإنّه لمّا خرج من إخفائه علم أنّ المماليك الأشرفيّة لا بدّ لهم من أخذ ثار أستاذهم منه. وأيضا أنّه علم أنّ الملك الناصر محمد متى ترعرع وكبر لا يبقيه لكونه كان ممّن قتل أخاه الملك الأشرف خليلا، فلمّا تحقق ذلك أخذ يحسّن للأمير كتبغا السلطنة وخلع ابن استاذه الملك الناصر محمد بن قلاوون وسلطنته، وكتبغا يمتنع من ذلك فلا زال به لاچين حتّى حذّره وأخافه عاقبة ذلك، وقال له:
متى كبر الملك الناصر لا يبقيك البتّة، ولا يبقى أحدا ممّن تعامل على قتل أخيه الملك الأشرف، وأنّ هؤلاء الأشرفيّة ما دام الملك الناصر محمد فى الملك شوكتهم قائمة، والمصلحة خلعه وسلطنتك. فمال كتبغا إلى كلامه، غير أنّه أهمل الأمر وأخذ فى تدبير ذلك على مهل. فلمّا وقع من الأشرفيّة ما وقع وثب وطلب الخليفة والقضاة حسب ما ذكرناه. ولمّا حضر الخليفة والقضاة واتّفق رأى الأمراء والجند على خلع السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون من الملك وسلطنة كتبغا هذا عوضه؛ فوقع ذلك وخلع الملك الناصر محمد من السلطنة وتسلطن كتبغا وجلس على تخت الملك

(8/49)


فى يوم خلع الملك الناصر، وهو يوم الخميس ثانى عشر المحرّم سنة أربع وتسعين وستمائة بعد واقعة المماليك الأشرفيّة بيومين، وأدخل الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى الدور بالقلعة، وأمره كتبغا بألّا يركب ولا يظهر. وكان عمره يوم خلع نحو العشر سنين.
وكانت مدّة سلطنته فى هذه المرّة الأولى سنة واحدة إلا ثلاثة أيام أو أقلّ. ويأتى بقية ترجمته فى سلطنته الثانية والثالثة إن شاء الله تعالى.
السنة «1» الأولى من سلطنة الملك الناصر محمد الأولى على مصر على أنّه لم يكن له من السلطنة فيها إلّا مجرّد الاسم فقط، وإنّما كان الأمر أوّلا للأمير علم الدين سنجر الشجاعى ثم للأمير كتبغا المنصورىّ، وهى سنة ثلاث وتسعين وستمائة، على أنّ الأشرف قتل فى أوائلها فى المحرّم حسب ما تقدّم ذكره.
فيها توفّى الصاحب فخر الدين أبو العبّاس إبراهيم بن لقمان بن أحمد بن محمد الشّيبانىّ الإسعردىّ ثم المصرىّ، رئيس الموقّعين بالديار المصريّة، ثم الوزير بها ولى الوزارة مرّتين، وكان مشكور السّيرة قليل الظّلم كثير العدل والإحسان للرعيّة.
وفى أيام وزارته سعى فى إبطال مظالم كثيرة، وكان يتولّى الوزارة بجامكيّة «2» الإنشاء، وعند ما يعزلونه من الوزارة يصبح يأخذ غلامه الحرمدان «3» خلفه، ويروح يقعد فى ديوان الإنشاء وكأنّه ما تغيّر عليه شىء، وكان أصله من العدن «4» من بلاد إسعرد وتدرّب فى الإنشاء بالصاحب بهاء الدين «5» زهير حتى برع فى الإنشاء وغيره.

(8/50)


قال الذهبىّ: رأيته شيخا بعمامة صغيرة وقد حدّث عن ابن رواح «1» وكتب عنه البرزالىّ «2» والطّلبة. انتهى. وكان ابن لقمان المذكور فاضلا ناظما ناثرا مترسّلا، ومات بالقاهرة فى جمادى الآخرة ودفن بالقرافة. ومن شعره:
كن كيف شئت فإنّنى بك مغرم ... راض بما فعل الهوى المتحكّم
ولئن كتمت عن الوشاة صبابتى ... بك فالجوانح بالهوى تتكلّم
أشتاق من أهوى وأعجب أنّنى ... أشتاق من هو فى الفؤاد مخيّم
يا من يصدّ عن المحبّ تدلّلا ... وإذا بكى وجدا غدا يتبسّم
أسكنتك القلب الذي أحرقته ... فحذار من نار به تتضرّم
وفيها قتل الأمير علم الدين سنجر بن عبد الله الشّجاعىّ المنصورىّ، كان من مماليك الملك المنصور قلاوون، وترقّى حتّى ولى شدّ الدواوين، ثم الوزارة بالديار المصريّة فى أوائل دولة الناصر، وساءت سيرتة وكثر ظلمه، ثم ولى نيابة دمشق فتلطّف بأهلها وقلّ شرّه، ودام بها سنين إلى أن عزل بالأمير عزّ الدين أيبك الحموىّ، وقدم إلى القاهرة. وكان موكبه يضاهى موكب السلطان من التجمّل، ومع ظلمه كان له ميل لأهل العلم وتعظيم الإسلام، وهو الذي كان مشدّ عمارة البيمارستان «3» المنصورىّ ببين القصرين «4» فتمّمه فى مدّة يسيرة، ونهض بهذا العمل العظيم وفرغ منه فى أيّام قليلة، وكان يستعمل فيه الصنّاع والفعول بالبندق حتّى لا يفوته من هو بعيد عنه فى أعلى سقالة كان. ويقال إنّه يوما وقع بعض الفعول من أعلى السقالة بجنبه فمات، فما اكترث سنجر هذا ولا تغيّر من مكانه وأمر بدفنه. ثم عمل الوزارة أيضا

(8/51)


فى أوائل دولة الناصر محمد بن قلاوون أكثر من شهر حسب ما تقدّم ذكره، وحدّثته نفسه بما فوق الوزارة، فكان فى ذلك حتفه وقتله حسب ما ذكرناه فى أوّل ترجمة الملك الناصر هذا، وفرح أهل مصر بقتله فرحا زائدا حتّى إنّه لمّا طافت المشاعليّة برأسه على بيوت الكتّاب القبط بلغت اللّطمة على وجهه بالمداس نصفا، والبولة عليه درهما، وحصّلوا المشاعليّة جملا من ذلك.
قلت: وهذا غلط فاحش من المشاعليّة، قاتلهم الله! لو كان من الظلم ما كان هو خير من الأقباط النصارى. ولمّا كان على نيابة دمشق وسّع ميدانها أيّام الملك الأشرف، فقال الأديب علاء الدين الوداعىّ «1» فى ذلك:
علم الأمير بأنّ سلطان الورى ... يأتى دمشق ويطلق الأموالا
فلأجل ذا قد زاد فى ميدانها ... لتكون أوسع للجواد مجالا
قال الصلاح الصّفدىّ: أخبرنى من لفظه شهاب الدين «2» بن فضل الله قال أخبرنى والدى عن قاضى القضاة نجم الدين ابن الشيخ شمس الدين شيخ الجبل قال: كنت ليلة نائما فاستيقظت وكأن من أنبهنى وأنا أحفظ كأنّما قد أنشدت ذلك:
عند الشجاعىّ أنواع منوّعة ... من العذاب فلا ترحمه بالله
لم تغن عنه ذنوب قد تحمّلها ... من العباد ولا مال ولا جاه
قال: ثم جاءنا الخبر بقتله بعد أيام قلائل فكانت قتلته فى تلك الليلة التى أنشدت فيها الشعر. انتهى.
قلت: وهذا من الغرائب. وقد ذكرنا من أحوال سنجر هذا فى تاريخنا المنهل الصافى نبذة كبيرة كونه كتاب تراجم وليس للإطناب لهؤلاء هنا محلّ. انتهى.

(8/52)


وفيها توفّى قتيلا الملك كيختو ملك التّتار قتله ابن أخيه بيدو «1» .
قلت: وهنا نكتة غريبة لم يفطن إليها أحد من مؤرّخى تلك الأيام، وهى أنّ سلطان الديار المصرية الملك الأشرف خليل بن قلاوون قتله نائبه الأمير بيدرا، وملك التتار كيختو هذا أيضا قتله ابن أخيه بيدرا «2» ، وكلاهما فى سنة واحدة، وذاك فى الشرق وهذا فى الغرب. انتهى.
وملك بعد كيختو بيدو المذكور الذي قتله.
قلت: وكذلك وقع للأشرف خليل؛ فإن بيدرا ملك بعده يوما واحدا وتلقّب بالملك الأوحد. وعلى كلّ حال فإنّهما تشابها أيضا. انتهى. وكان بيدو الذي ولى أمر التّتار يميل إلى دين النّصرانيّة، وقيل إنه تنصّر، لعنه الله، ووقع له مع الملك غازان أمور يطول شرحها.
وفيها قتل الوزير الصاحب شمس الدين محمد بن عثمان بن أبى الرجاء التّنوخىّ الدمشقىّ التاجر المعروف بابن السّلعوس. قال الشيخ صلاح الدين الصّفدى: كان فى شبيبته يسافر بالتجارة، وكان أشقر سمينا أبيض معتدل القامة فصيح العبارة حلو المنطق وافر الهيبة كامل الأدوات خليقا للوزارة تامّ الخبرة زائد الإعجاب عظيم التّيه، وكان جارا للصاحب تقىّ الدين البيّع «3» ، فصاحبه ورأى فيه الكفاءة فاخذ له حسبة دمشق، ثم توجّه إلى مصر وتوكّل للملك الأشرف خليل فى دولة أبيه، فجرى عليه نكبة من السلطان فشفع فيه مخدومه الأشرف خليل، وأطلقه من الاعتقال، وحج فتملّك الأشرف فى غيبته. وكان محبّا له فكتب إليه بين الأسطر: يا شقير، يا وجه الخير، قدّم السّير. فلمّا قدم وزره. وكان إذا ركب تمشى الأمراء الكبار فى خدمته. انتهى.

(8/53)


قلت: وكان فى أيام وزارته يقف الشجاعىّ المقدّم ذكره فى خدمته، فلمّا قتل مخدومه الملك الأشرف وهو بالإسكندريّة قدم القاهرة فطلب إلى القلعة فأنزله الشجاعىّ من القلعة ماشيا، ثم سلّمه من الغد إلى عدوّه الأمير بهاء الدين قراقوش [الظاهرىّ «1» ] مشدّ الصّحبة، قيل: إنّه ضربه ألفا ومائة مقرعة، ثم تداوله المسعودىّ «2» وغيره وأخذ منه أموالا كثيرة، ولا زال تحت العقوبة حتى مات فى صفر. ولما تولّى الوزارة كتب إليه بعض أحبّائه من الشام يحذّره من الشجاعىّ:
تنبّه يا وزير الأرض واعلم ... بأنّك قد وطئت على الأفاعى
وكن بالله معتصما فإنّى ... أخاف عليك من نهش الشجاعى
فبلغ الشجاعىّ، فلما جرى ما جرى طلب أقاربه وأصحابه وصادرهم، فقيل له:
عن الناظم، فقال: لا أوذيه فإنّه نصحه فىّ وما انتصح. وقد أوضحنا أمره فى المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى بأطول من هذا. انتهى.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى المقرئ شمس الدين محمد بن عبد العزيز الدّمياطىّ بدمشق فى صفر. وقاضى القضاة شهاب الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن خليل الخويّىّ «3» . والسلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل ابن قلاوون، فتكوا به فى المحرّم. ونائبه بيدرا قتل من الغد. ووزيره الصاحب شمس الدين محمد بن عثمان بن السّلعوس هلك تحت العذاب.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع. مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وسبع أصابع. وثبت إلى سادس عشر توت.

(8/54)


[ما وقع من الحوادث سنة 694]
ذكر سلطنة الملك العادل زين الدّين كتبغا على مصر
هو السلطان الملك العادل زين الدين كتبغا بن عبد الله المنصورىّ التركىّ المغلىّ سلطان الديار المصريّة؛ جلس على تخت الملك بعد أن خلع ابن أستاذه الملك الناصر محمد بن قلاوون فى يوم الخميس ثانى عشر المحرّم سنة أربع وتسعين وستّمائة باتّفاق الأمراء على سلطنته. وهو السلطان العاشر من ملوك التّرك بالديار المصريّة، وأصله من التّتار من سبى وقعة حمص «1» الأولى التى كانت فى سنة تسع وخمسين وستمائة؛ فأخذه الملك المنصور قلاوون وأدّبه ثم أعتقه؛ وجعله من جملة مماليكه، ورقّاه حتّى صار من أكابر أمرائه، واستمرّ على ذلك فى الدولة الأشرفيّة خليل بن قلاوون إلى أن قتل، وتسلطن أخوه الملك الناصر محمد بن قلاوون فى سنة ثلاث وتسعين وأقام الناصر فى الملك إلى سنة أربع وتسعين «2» ووقع الاتفاق على خلعه وسلطنة كتبغا هذا، فتسلطن وتلقّب بالملك العادل، وسنّه يوم ذاك نحو الأربعين سنة، وقيل خمسين سنة. وقد تقدّم سبب خلع الملك الناصر محمد وسلطنة كتبغا هذا فى آخر ترجمة الملك الناصر محمد فلا حاجة فى الإعادة.
وقال الشيخ شمس الدين بن الجزرىّ قال: حكى لى الشيخ أبو الكرم النّصرانىّ الكاتب، قال: لمّا فتح هولاكو حلب بالسيف ودمشق بالأمان طلب هولاكو نصير «3» الدين الطّوسىّ وكان فى صحبته، وقال له: اكتب أسماء مقدّمى عسكرى، وأبصر أيّهم يملك مصر، ويقعد على تخت الملك بها حتّى أقدّمه؟ قال: فحسب

(8/55)


نصير الدّين [أسماء «1» ] المقدّمين؛ فما ظهر له من الأسماء اسم من يملك الديار المصريّة غير اسم كتبغا. وكان كتبغا «2» صهر هولاكو، فقدّمه على العساكر فتوجّه بهم كتبغا فآنكسر على عين «3» جالوت «4» ، فتعجّب هولاكو من هذه الواقعة وظنّ أنّ نصير الدين قد غلط فى حسابه. وكان كتبغا هذا من جملة من كان فى عسكر هولاكو من التّتار ممّن لا يؤبه إليه من الأصاغر، وكسبه قلاوون فى الواقعة؛ فكان بين المدّة نحو من خمس وثلاثين سنة، حتّى قدّر الله تعالى بما قدّر من سلطنة كتبغا هذا. انتهى.
ولمّا تمّ أمر كتبغا فى الملك وتسلطن مدّ سماطا عظيما وأحضر جميع الأمراء والمقدّمين والعسكر وأكلوا السّماط، ثم تقدّموا وقبّلوا الأرض ثم قبّلوا يده وهنّئوه بالسلطنة، وخلع على الأمير حسام الدين لا چين وولّاه نيابة السلطنة بالديار المصريّة، وولّى عز الدين الأفرم أمير جاندار، والأمير سيف الدين بهادر حاجب الحجّاب؛ ثم خلع على جميع الأمراء والمقدّمين ومن له عادة بلبس الخلع [عند «5» تولية الملك كما جرت العادة] . وفى يوم الخميس تاسع عشر المحرّم ركب جميع الأمراء والمقدّمين

(8/56)


وجميع من خلع عليه وأتوا إلى سوق «1» الخيل وترجّلوا وقبّلوا الأرض، ثم كتب بسلطنة الملك العادل إلى البلاد الشاميّة وغيرها. وزيّنت مصر والقاهرة لسلطنته.
ولمّا كان يوم الأربعاء مستهلّ شهر ربيع الأوّل «2» ركب السلطان الملك العادل كتبغا بأبّهة السلطنة وشعار الملك من قلعة الجبل ونزل وسار إلى ظاهر القاهرة نحو قبّة «3» النصر، وعاد من باب النصر «4» وشقّ القاهرة حتّى خرج من باب زويلة عائدا إلى قلعة الجبل، كما جرت العادة بركوب الملوك. ولم تطل مدّة سلطنته حتى وقع الغلاء والفناء بالديار المصرية وأعمالها؛ ثمّ انتشر ذلك بالبلاد الشاميّة جميعها فى شوّال من هذه السنة، وارتفع سعر القمح حتّى بيع كلّ اردبّ بمائة وعشرين درهما بعد أن كان بخمسة وعشرين درهما الإردبّ، وهذا فى هذه السنة، وأما فى السنة الآتية التى هى سنة خمس وتسعين وستمائة فوصل سعر القمح إلى مائة وستين «5» درهما الإردبّ.
وأمّا الموت فإنّه فشا بالقاهرة وكثر، فأحصى من مات بها وثبت اسمه فى ديوان [المواريث «6» ] فى ذى الحجّة فبلغوا سبعة عشر ألفا وخمسمائة. وهذا سوى من لم يرد اسمه فى ديوان المواريث من الغرباء والفقراء ومن لم يطلق من الديوان. ورحل جماعة كثيرة من أهل مصر عنها إلى الأقطار من عظم الغلاء وتخلخل «7» أمر الديار المصريّة. وفى هذه السنة حجّ الأمير أنس بن الملك العادل كتبغا صاحب الترجمة، وحجّت معه والدته وأكثر حرم السلطان، وحجّ بسببهم خلق كثير من نساء الأمراء

(8/57)


بتجمّل زائد، وحصل بهم رفق كبير لأهل مكّة والمدينة والمجاورين، وشكرت سيرة ولد السلطان أنس المذكور وبذل شيئا كثيرا لصاحب مكّة.
ثم استهلّت سنة خمس وتسعين وستمائة وخليفة المسلمين الحاكم بأمر الله أبو العبّاس أحمد الهاشمىّ البغدادىّ العباسىّ. وسلطان الديار المصريّة والبلاد الشاميّة والشماليّة والفراتيّة والساحليّة الملك العادل زين الدين كتبغا المنصورىّ. ووزيره الصاحب فخر الدين عمر ابن الشيخ مجد الدين بن الخليلىّ. ونائب السلطنة بالديار المصريّة الأمير حسام الدين لاچين المنصورىّ. وصاحب مكّة، شرّفها الله تعالى، الشريف نجم الدين أبو نمىّ محمد «1» الحسنىّ المكّى. وصاحب المدينة النبويّة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، عزّ الدين جمّاز بن شيحة الحسينىّ.
وصاحب اليمن ممهّد الدين عمر ابن الملك المظفّر شمس الدين يوسف ابن الملك المنصور عمر [بن «2» علىّ] بن رسول. وصاحب حماة بالبلاد الشاميّة الملك المظفّر تقىّ الدين محمود ابن الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك المظفّر تقىّ الدين محمود [ابن «3» الملك المنصور محمد بن تقي الدين عمر] بن شاهنشاه «4» بن أيّوب. وصاحب ماردين [الملك «5» السعيد شمس الدين داود ابن] الملك المظفّر فخر «6» الدين ألبى أرسلان ابن الملك السعيد شمس الدين قرا أرسلان بن أرتق الأرتقىّ. وصاحب الروم السلطان غياث الدين مسعود ابن السلطان عز الدين [كيكاوس «7» ] ابن السلطان

(8/58)


غياث الدين كيخسرو بن سلجوق السّلجوقى. وملك التّتار غازان ويقال قازان، وكلاهما يصحّ معناه، واسمه الحقيقىّ محمود بن أرغون بن أبغا بن هولاكو، وهو مظهر الإسلام وشعائر الإيمان. ونائب دمشق الأمير عزّ الدين أيبك الحموىّ المنصورىّ.
وكان الموافق لأوّل هذه السنة عاشر «1» بابه أحد شهور القبط المسمّى بالرومىّ تشرين الأوّل.
وقال الشيخ قطب الدين اليونينىّ: وفى العشر الأوّل من المحرّم حكى جماعة كثيرة من أهل دمشق واستفاض ذلك فى دمشق وكثر الحديث فيه عن قاضى جبّة «2» أعسال، وهى قرية من قرى دمشق، أنّه تكلّم ثور بقرية من قرى جبّة أعسال، وملخّصها: أنّ الثور خرج مع صبىّ يشرب ماء من هناك فلمّا فرغ حمد الله تعالى فتعجّب الصبى! وحكى لسيّده مالك الثور فشكّ فى قوله، وحضر فى اليوم الثانى بنفسه، فلمّا شرب الثور حمد الله تعالى؛ ثم فى اليوم الثالث حضر جماعة وسمعوه يحمد الله تعالى؛ فكلّمه بعضهم فقال الثور: «إنّ الله كان كتب على الأمّة سبع سنين جدبا، ولكن بشفاعة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أبدلها بالخصب، وذكر أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أمره بتبليغ ذلك، وقال الثور: يا رسول الله ما علامة صدقى عندهم؟ قال: أن يموت عقب الإخبار. قال الحاكى لذلك: ثم تقدّم الثور على مكان عال فسقط ميتا، فأخذ الناس من شعره للتّبرّك، وكفّن ودفن. انتهى.
قلت: وهذه الحكاية غريبة الوقوع والحاكى لها ثقة حجّة، وقد قال: إنّه استفاض ذلك بدمشق. انتهى.

(8/59)


وأمّا أمر الديار المصريّة فإنه عظم أمر الغلاء بها حتّى أكل بعضهم الميتات والكلاب، ومات خلق كثير بالجوع. والحكايات فى ذلك كثيرة، وانتشر الغلاء شرقا وغربا. وبينما السلطان الملك العادل كتبغا فيما هو فيه من أمر الغلاء ورد عليه الخبر فى صفر بأنّه قد وصل إلى الرّحبة «1» عسكر كثير نحو عشرة آلاف بيت من عسكر بيدو ملك التّتار طالبين الدخول فى الإسلام خوفا من السلطان غازان، ومقدّمهم أمير اسمه طرغاى «2» ، وهو زوج بنت هولاكو؛ فرسم الملك العادل إلى الأمير علم الدين سنجر [الدوادارى «3» ] بأن يسافر من دمشق إلى الرّحبة حتّى يتلقاهم، فخرج إليهم، ثم خرج بعده الأمير «4» سنقر الأعسر شادّ دواوين دمشق، ثم ندب الملك العادل أيضا الأمير قرا سنقر «5» المنصورىّ بالخروج من القاهرة، فخرج حتّى وصل إلى دمشق لتلقى المذكورين، ورسم له أن يحضر معه فى عوده إلى مصر جماعة من أعيانهم، فوصل قرا سنقر إلى دمشق وخرج لتلقّيهم، ثم عاد إلى دمشق فى يوم الاثنين ثالث عشرين شهر ربيع الأوّل، ومعه من أعيانهم مائة فارس وثلاثة عشر فارسا؛ وفرح الناس بهم وبإسلامهم وأنزلوهم بالقصر الأبلق من الميدان.
وأمّا الأمير علم الدين سنجر الدّوادارى فبقى مع الباقين، وهم فوق عشرة آلاف ما بين رجل كبير وكهل وصغير وامرأة ومعهم ماشية كثيرة ورخت «6» عظيم، وأقام قرا سنقر بهم أيّاما، ثم سافر بهم إلى جهة الديار المصرية، وقدموا القاهرة فى آخر شهر ربيع الآخر، فأكرمهم السلطان الملك العادل كتبغا ورتّب لهم الرواتب.

(8/60)


ثمّ بدا للملك العادل كتبغا السفر إلى البلاد الشاميّة لأمر مقدّر اقتضاه رأيه، وأخذ فى تجهيز عساكره وتهيّأ للسفر، وخرج بجميع عساكره وأمرائه وخاصّكيته فى يوم السبت سابع عشر شوّال وسار حتّى دخل دمشق، فى يوم السبت خامس عشر ذى القعدة وخامس ساعة من النهار المذكور ودخل دمشق والأمير بدر الدين بيسرى حامل الجتر «1» على رأسه، ونائب سلطنته الأمير حسام الدين لاچين المنصورى ماشيا بين يديه، ووزيره الصاحب «2» فخر الدين بن الخليلىّ، واحتفل أهل دمشق لقدومه وزيّنت المدينة وفرح الناس به.
ولمّا دخل الملك العادل إلى دمشق وأقام بها أيّاما عزل عنها نائبها الأمير عزّ الدين أيبك الحموىّ، وولّى عوضه فى نيابة دمشق مملوكه الأمير سيف الدين أغزلوا «3» العادلى وعمره نحو من اثنتين وثلاثين سنة، وأنعم على الأمير عزّ الدين أيبك الحموىّ بخبز أغزلو بمصر، وخرجا من عند السلطان وعليهما الخلع، هذا متولّ وهذا منفصل. ثم سافر السلطان الملك العادل من دمشق فى ثانى عشر ذى الحجّة بأكثر العسكر المصرىّ وبقيّة جيش الشام إلى جهة قرية جوسية «4» ، وهى ضيعة اشتراها له الصاحب شهاب الدين الحنفىّ فتوجّه إليها، ثم سافر منها فى تاسع عشر ذى الحجّة إلى حمص ونزل عند البحرة بالمرج «5» بعد ما أقام فى البريّة أيّاما لأجل الصيد، وحضر

(8/61)


إليه نوّاب البلاد الحلبيّة جميعها؛ ثم عاد إلى دمشق ودخلها بمن معه من العساكر ضحا نهار الأربعاء ثانى المحرّم من سنة ست وتسعين وستمائة. وأقام بدمشق إلى يوم الجمعة رابع المحرّم ركب السلطان الملك العادل المذكور بخواصّه وأمرائه إلى الجامع لصلاة الجمعة فحضر وصلّى بالمقصورة؛ وأخذ من الناس قصصهم حتى إنّه رأى شخصا بيده قصّة فتقدّم إليه بنفسه خطوات وأخذها منه؛ ولمّا جلس الملك العادل للصلاة بالمقصورة جلس عن يمينه الملك المظفّر تقىّ الدين محمود صاحب حماة، وتحته بدر الدّين «1» أمير سلاح، ثم من تحته نائب دمشق أغزلو العادلىّ؛ وعن يسار السلطان الشيخ حسن «2» بن الحريرى وأخواه، ثم نائب السلطنة لاچين المنصورىّ، ثم تحته نائب دمشق الأمير عزّ الدين أيبك الحموىّ (أعنى الذي عزل عن نيابة دمشق) ، ثم من تحته الأمير بدر الدين بيسرى، ثم قرا سنقر المنصورى، ثم الحاج بهادر «3» حاجب الحجّاب؛ ثم الأمراء على مراتبهم ميمنة وميسرة.
فلمّا انقضت الصلاة خرج من الجامع والأمراء بين يديه والناس يبتهلون بالدعاء له، وأحبّه أهل دمشق وشكرت سيرته، وحمدت طريقته. ثم فى يوم الخميس سابع عشر المحرّم أمسك السلطان الأمير أسندمر «4» وقيّده وحبسه بالقلعة. وفى يوم الاثنين حادى عشرين المحرّم عزل السلطان الأمير شمس الدين سنقر الأعسر عن شدّ دواوين دمشق ورسم له بالسفر صحبة السلطان إلى مصر، وولّى عوضه فتح الدين «5» ابن صبرة.

(8/62)


ولمّا كان بكرة يوم الاثنين المذكور خرج السلطان الملك العادل من دمشق بعساكره وجيوشه نحو الديار المصريّة، وسار حتى نزل باللّجّون «1» بالقرب من وادى فحمة «2» فى بكرة يوم الاثنين ثامن عشرين المحرّم من سنة ست وتسعين، وكان الأمير حسام الدين لاچين المنصورىّ نائب السلطنة قد اتّفق مع الأمراء على الوثوب على السلطان الملك العادل كتبغا هذا والفتك به، فلم يقدر عليه لعظم شوكته؛ فدبّر أمرا آخر وهو أنّه ابتدأ أوّلا بالقبض على الأميرين: بتخاص وبكتوت الأزرق العادليين، وكانا شهمين شجاعين عزيزين عند أستاذهما الملك العادل المذكور، فركب لاچين بمن وافقه من الأمراء على حين غفلة وقبض على الأميرين المذكورين وقتلهما فى الحال، وقصد مخيّم السلطان فمنعه بعض مماليك السلطان قليلا وعوّقوه عن الوصول إلى الملك العادل. وكان العادل لمّا بلغه هذا الأمر علم أنّه لا قبل «3» له على قتال لاچين لعلمه بمن وافقه من الأمراء وغيرهم وخاف على نفسه، وركب من خيل النّوبة فرسا تسمّى حمامة وساق لقلّة سعده ولزوال ملكه راجعا إلى الشام، ولو أقام بمخيّمه لم يقدر لاچين على قتاله وأخذه، فما شاء الله كان! وساق حتى وصل إلى دمشق يوم الأربعاء آخر المحرّم قرب العصر، ومعه أربعة أو خمسة من

(8/63)


خواصّه. وكان وصل إلى دمشق يوم الأربعاء آخر المحرّم أوّل النهار أمير شكار السلطان، وأخبر نائب الشام بصورة الحال وهو مجروح، فتهيأ نائب الشام الأمير أغزلو العادلىّ واستعدّ وأحضر أمراء الشام عند السلطان ورسم بالاحتياط على نوّاب الأمير حسام الدين لاچين وعلى حواصله بدمشق، وندم الملك العادل على ما فعله مع لاچين هذا من الخير والمدافعة عنه، من كونه كان أحد من أعانه على قتل الأشرف، وعلى أنّه ولّاه نيابة السلطنة، وفى الجملة أنّه ندم حيث لا ينفعه الندم! وعلى رأى من قال:" أشبعتهم سبّا وفازوا بالإبل" ومثله أيضا قول القائل:
من راقب الناس مات غمّا ... وفاز باللّذة الجسور
ثم إنّ الملك العادل طلب قاضى قضاة دمشق بدر الدين «1» بن جماعة فحضر بين يدى السلطان هو وقاضى القضاة حسام «2» الدين الحنفىّ، وحضرا عند الملك العادل تجليف الأمراء والمقدّمين وتجديد المواثيق منهم، ووعدهم وطيّب قلوبهم.
وأمّا الأمير حسام الدين لاچين فإنّه استولى على دهليز السلطان والخزائن والحرّاس والعساكر من غير ممانع، وتسلطن فى الطريق ولقّب بالملك المنصور حسام الدين لاچين، وتوجّه إلى نحو الديار المصريّة وملكها وتمّ أمره، وخطب له بمصر وأعمالها والقدس والساحل جميعه.
وأمّا الملك العادل فإنّه أقام بقلعة دمشق هذه الأيّام كلّها لا يخرج منها، وأمّر جماعة بدمشق، وأطلق بعض المكوس بها، وقرئ بذلك توقيع يوم الجمعة سادس عشر صفر بعد صلاة الجمعة بالجامع. وبينما هو فى ذلك ورد الخبر على أهل دمشق بأنّ

(8/64)


مدينة صفد زيّنت لسلطنة لاچين ودقّ بها البشائر، وكذلك نابلس والكرك.
فلمّا بلغ الملك العادل ذلك جهّز جماعة من عسكر دمشق مقدّمهم الأمير طقصبا الناصرىّ بكشف هذا الأمر وتحقيق الخبر، فتوجّهوا يوم الخميس ثانى عشرين صفر فعلموا بعد خروجهم فى النهار المذكور بدخول الملك المنصور لاچين إلى مصر وسلطنته، فرجعوا وعلموا عدم الفائدة فى توجّههم. ثم فى الغد من يوم الجمعة ثالث عشرين صفر ظهر الأمر بدمشق وانكشف الحال وجوهر الملك العادل كتبغا بذلك، وبلغه أنّه لمّا وصل العسكر إلى غزّة ركب الأمير حسام الدين لاچين فى دست السلطنة، وحمل البيسرى على رأسه الجتر وحلفوا له، ونعت بالملك المنصور.
ثم فى يوم السبت رابع عشرين صفر وصل إلى دمشق الأمير كجكن «1» ومعه جماعة من الأمراء كانوا مجرّدين إلى الرّحبة، فلم يدخلوا دمشق بل توجّهوا إلى جهة ميدان الحصا، وأعلن الأمير كجكن أمر الملك المنصور لاچين، وعلم جيش دمشق بذلك، فخرج إليه طائفة بعد طائفة، وكان قبل ذلك قد توجّه أميران من أكابر أمراء دمشق إلى جهة الديار المصريّة. فلمّا تحقّق الملك العادل كتبغا بذلك وعلم انحلال أمره وزوال دولته بالكليّة أذعن بالطاعة لأمراء دمشق، وقال لهم: الملك المنصور لاچين خشداشى وأنا فى خدمته وطاعته، وحضر الأمير سيف الدين جاغان الحسامىّ إلى قلعة دمشق إلى عند الملك العادل كتبغا، فقال له كتبغا: أنا أجلس فى مكان بالقلعة حتّى نكاتب السلطان ونعتمد على ما يرسم به. فلمّا رأى الأمراء منه ذلك تفرّقوا وتوجّهوا إلى باب الميدان وحلفوا للملك المنصور لاچين وأرسلوا البريد إلى القاهرة بذلك، ثم احتفظوا بالقلعة وبالملك العادل كتبغا، ولبس عسكر دمشق آلة الحرب وسيّروا عامّة نهار السبت بظاهر دمشق وحول القلعة؛ والناس فى هرج

(8/65)


واختباط وأقوال مختلفة، وأبواب دمشق مغلّقة سوى باب النصر «1» ، وباب القلعة مغلّق فتح منه خوخته، واجتمع العامّة والناس من باب القلعة إلى باب النصر وظاهر البلد حتّى سقط منهم جماعة كثيرة فى الخندق فسلم جماعة وهلك دون العشرة، وأمسى الناس يوم السبت وقد أعلن باسم الملك المنصور لاچين لا يخفى أحد ذلك، وشرع [وقت «2» العصر فى] دقّ البشائر بالقلعة. ثم فى سحر يوم الأحد ذكره المؤذّنون بجامع دمشق، وتلوا قوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ ...
إلى آخرها.
وأظهروا اسم المنصور والدعاء له، ثم ذكره قارئ المصحف بعد صلاة الصبح بمقصورة جامع دمشق، ودقّت البشائر على أبواب جميع أمراء دمشق دقّا مزعجا، وأظهروا الفرح والسرور وأمر بتزين أسواق البلد جميعها فزيّنت مدينة دمشق، وفتحت دكاكين دمشق وأسواقها واشتغلوا بمعايشهم، وتعجّب الناس من تسليم الملك العادل كتبغا الأمر إلى الملك المنصور لاچين على هذا الوجه الهيّن من غير قتال ولا حرب مع ما كان معه من الأمراء والجند، ولو لم يكن معه إلّا مملوكه الأمير أغزلو العادلىّ نائب الشام لكفاه ذلك. على أنّ الملك المنصور لاچين كان أرسل فى الباطن عدّة مطالعات لأمراء دمشق وأهلها واستمال غالب أهل دمشق، فما أحوجه الملك العادل كتبغا لشىء من ذلك بل سلّم له الأمر على هذا الوجه الذي ذكرناه. خذلان من الله تعالى.
وأمّا الأمير سيف الدين أغزلو العادلىّ مملوك الملك العادل كتبغا نائب الشام لمّا رأى ما وقع من أستاذه لم يسعه إلا الإذعان للملك المنصور وأظهر الفرح به

(8/66)


وخلف له. وقال: الملك المنصور لاچين- نصره الله- هو الذي كان عيّننى لنيابة دمشق، وأستاذى الملك العادل كتبغا استصغرنى فأنا نائيه. ثم سافر هو والأمير جاغان الحسامى إلى نحو الديار المصريّة.
وأمّا لاچين فإنّه تسلطن يوم الجمعة عاشر صفر وركب يوم الخميس سادس عشر صفر وشقّ القاهرة وتمّ أمره. وأمّا الملك العادل كتبغا هذا فإنّه استمرّ بقلعة دمشق إلى أن عاد الأمير جاغان المنصورىّ الحسامىّ إلى دمشق فى يوم الاثنين حادى عشر شهر ربيع الأوّل، وطلع من الغد إلى قلعة دمشق ومعه الأمير الكبير حسام الدين الظاهرىّ أستاذ الدار فى الدولة المنصوريّة والأشرفيّة، والأمير سيف الدين كحكن، وحضر قاضى القضاة بدر الدين بن جماعة قاضى دمشق ودخلوا الجميع إلى الملك العادل كتبغا، فتكلّم معهم كلاما كثيرا بحيث إنّه طال المجلس كالعاتب عليهم، ثم إنّه حلف يمينا طويلة يقول فى أوّلها: أقول وأنا كتبغا المنصورىّ، ويكرّر اسم الله تعالى فى الحلف مرّة بعد مرّة، أنّه يرضى بالمكان الذي عيّنه له السلطان الملك المنصور حسام الدين لاچين ولا يكاتب ولا يسارر، وأنّه تحت الطاعة، وأنه خلع نفسه من الملك وأشياء كثيرة من هذا النّموذج، ثم خرجوا من عنده. وكان المكان الذي عيّنه له الملك المنصور لاچين قلعة صرخد، ولم يعيّن المكان المذكور فى اليمين. ثم ولّى الملك المنصور نيابة الشام للأمير قبجق المنصورىّ وعزل أغزلوا العادلىّ، فدخل قبجق إلى دمشق فى يوم السبت «1» سادس عشر شهر ربيع الأوّل، وتجهّز الملك العادل كتبغا وخرج من قلعة دمشق بأولاده وعياله ومماليكه

(8/67)


وتوجّه إلى صرخد فى ليلة الثلاثاء تاسع «1» عشر شهر ربيع الأوّل المذكور، وجرّدوا معه جماعة من الجيش نحو مائتى فارس إلى أن أوصلوه إلى صرخد. فكانت مدّة سلطنة الملك العادل كتبغا هذا على مصر سنتين وثمانية وعشرين يوما، وقيل سبعة عشر يوما، وتسلطن من بعده الملك المنصور حسام الدين لاچين حسب ما تقدّم ذكره.
ثم كتب له الملك المنصور حسام الدين لاچين تقليدا بنيابة صرخد، فقبل الملك العادل ذلك وباشر نيابة صرخد سنين إلى أن نقله السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون فى سلطنته الثانية من نيابة صرخد إلى نيابة حماة. وصار من جملة نوّاب السلطنة، وكتب له عن السلطان كما يكتب لأمثاله من النوّاب، وسافر فى التجاريد فى خدمة نوّاب دمشق وحضر الجهاد؛ ولم يزل على نيابة حماة حتى مات بها فى ليلة الجمعة «2» يوم عيد الأضحى وهو فى سنّ الكهوليّة. ودفن بحماة، ثم نقل منها ودفن بتربته التى أنشأها بسفح جبل قاسيون دمشق غربىّ الرّباط الناصرى، وله عليها أوقاف. وكان ملكا خيّرا ديّنا عاقلا عادلا سليم الباطن شجاعا متواضعا، وكان يحبّ الفقهاء والعلماء والصلحاء ويكرمهم إكراما زائدا، وكان أسمر اللون قصيرا دقيق الصّدر قصير العنق، وكان له لحية صغيرة فى حنكه، أسر صغيرا من عسكر هولاكو. وكان لمّا ولى سلطنة مصر والشام تشاءم الناس به، وهو أنّ النيل قد بلغ فى تلك السنة ست عشرة ذراعا ثم هبط من ليلته فشرقت البلاد وأعقبه غلاء عظيم حتى أكل الناس الميتة. وقد تقدّم ذكر ذلك فى أوّل ترجمته. ومات الملك العادل

(8/68)


كتبغا المذكور بعد أن طال مرضه واسترخى حتى لم يبق له حركة. وترك عدّة أولاد.
وتولّى نيابة حماة بعده الأمير بتخاص المنصورىّ نقل إليها من نيابة الشّوبك. وقد تقدّم التعريف بأحوال كتبغا هذا فى أوائل ترجمته وفى غيرها فيما مرّ ذكره. وأمر كتبغا هذا هو خرق العادة من كونه كان ولى سلطنة مصر أكثر من سنتين وصار له شوكة ومماليك وحاشية، ثم يخلع ويصير من جملة نوّاب السلطان بالبلاد الشاميّة؛ فهذا شىء لم يقع لغيره من الملوك. وأعجب من هذا أنّه لما قتل الملك المنصور لاچين وتحيّر أمراء مصر فيمن يولّونه السلطنة من بعده لم يتعرّض أحد لذكره ولا رشّح للعود البتّة حتى احتاجوا الأمراء وبعثوا خلف الملك الناصر محمد بن قلاوون من الكرك، وأتوا به وسلطنوه.
قلت: وما أظنّ أنّ القلوب نفرت منه إلا لما رأوه من دنىء همّته عند ما خلع من السلطنة وتسليمه للامر من غير قتال ولا ممانعة، وكان يمكنه أن يدافع بكلّ ما تصل القدرة إليه ولو ذهبت روحه عزيزة غير ذليلة، وما أحسن قول عبد المطّلب جدّ نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم واسمه شيبة الحمد:
لنا نفوس لنيل المجد عاشقة ... وإن تسلّت أسلناها على الأسل
لا ينزل المجد إلّا فى منازلنا ... كالنّوم ليس له مأوى سوى المقل
وقول عنترة أيضا:
أروم من المعالى منتهاها ... ولا أرضى بمنزلة دنيّه
فإمّا أن أشال على العوالى ... وإمّا أن توسّدنى المنيّه
ويعجبنى المقالة الثامنة من تأليف العلّامة شرف الدين عبد المؤمن بن هبة الله الأصفهانى المعروف بشوروة فإنّ أوائلها تقارب ما نحن فيه، وهى:

(8/69)


رتبة الشرف، لا تنال بالتّرف «1» ؛ والسعادة أمر لا يدرك، إلا بعيش يفرك «2» ، وطيب يترك؛ ونوم يطرد، وصوم يسرد «3» ؛ وسرور عازب «4» ، وهمّ لازب «5» ؛ ومن عشق المعالى ألف الغمّ، ومن طلب اللآلئ ركب اليمّ؛ ومن قنص الحيتان «6» ورد النهر، ومن خطب الحصان «7» نقد المهر؛ كلّا أين أنت من المعالى! إنّ السّحوق «8» جبّار وأنت قاعد، والفيلق جرّار «9» وأنت واحد؛ العقل يناديك وأنت أصلخ «10» ، ويدنيك ويحول بينكما البرزخ؛ لقد أزف الرحيل فاستنفد جهدك، وأكثب «11» الصيد فضمّر فهدك؛ فالحذر يترصّد الانتهاز، والحازم يهيّئ أسباب الجهاز؛ تجرّع مرارة النوائب فى أيّام معدوده، لحلاوة معهودة غير محدوده؛ وإنما هى محنة بائده، تتلوها فائده؛ وكربة نافده، بعدها نعمة خالده، [وغنيمة «12» بارده] ؛ فلا تكرهنّ صبرا أو صابا «13» ، يغسل عنك أو صابا «14» ؛ ولا تشربنّ وردا يعقبك سقاما، ولا تشمّن وردا يورثك زكاما؛ [ما ألين «15» الرّيحان لولا وخز البهمى «16» ، وما أطيب الماذىّ لولا حمة «17» الحمى] ! فلا تهولنّك مرارات ذاقها عصبه، إنما يريد الله ليهديهم بها؛ ولا تروقنّك حلاوات نالها فرقه، إنما يريد الله ليعذّبهم بها. انتهى.

(8/70)


السنة الأولى من سلطنة الملك العادل كتبغا المنصورىّ على مصر، وهى سنة أربع وتسعين وستمائة.
كان فيها الغلاء العظيم بسائر البلاد ولا سيّما مصر والشام، وكان بمصر مع الغلاء وباء عظيم أيضا وقاسى الناس شدائد فى هذه السنة واستسقى الناس بمصر من عظم الغلاء والفناء.
وفيها أسلم ملك التّتار غازان وأسلم غالب جنده وعساكره، على ما حكى الشيخ علم الدين «1» البرزالىّ.
وفيها توفّى السلطان الملك المظفّر شمس الدين أبو المحاسن يوسف ابن السلطان الملك المنصور نور الدين عمر بن علىّ بن رسول التّركمانىّ الأصل الغسّانىّ صاحب بلاد اليمن، مات فى شهر رجب بقلعة تعزّ «2» من بلاد اليمن، وقيل: اسم رسول محمد ابن هارون بن أبى الفتح بن نوحى بن رستم من ذرّيّة جبلة بن الأيهم، قيل: إنّ رسولا جدّ هؤلاء ملوك اليمن كان انضم لبعض الخلفاء العباسيّة، فاختصه بالرسالة إلى الشام وغيرها فعرف برسول، وغلب عليه ذلك. ثم انتقل من العراق إلى الشام ثم إلى مصر، وخدم هو وأولاده بعض بنى أيّوب، وهو مع ذلك له حاشية وخدم.
ولمّا أرسل السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب أخاه الملك المعظّم توران شاه

(8/71)


إلى اليمن أرسل الملك المنصور عمر «1» والد صاحب الترجمة معه كالوزير له واستحلفه على المناصحة، فسار معه إلى اليمن. فلمّا ملك الملك المسعود أقسيس ابن الملك الكامل محمد بن أبى بكر بن أيّوب اليمن بعد توران شاه قرّب عمر المذكور وزاد فى تعظيمه وولّاه الحصون، ثمّ ولّاه مكة المشرفة ورتّب معه ثلثمائة فارس، وحصل بينه وبين صاحب مكة حسن بن قتادة وقعة انكسر فيها حسن ودخل المنصور مكة واستولى عليها، وعمّر بها المسجد «2» الذي اعتمرت منه عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها فى سنة تسع عشرة وستمائة، ثم عمّر فى ولايته لمكة أيضا دار «3» أبى بكر الصدّيق، رضى الله عنه فى زقاق «4» الحجر فى سنة ثلاث وعشرين وستمائة، ثم استنابه الملك المسعود على اليمن لمّا توجّه إلى الديار المصرية، واستناب على صنعاء «5» أخاه بدر الدين حسن بن علىّ

(8/72)


ابن رسول. ولمّا عاد الملك المسعود إلى اليمن قبض على نور الدين هذا وعلى أخيه بدر الدين حسن المذكور وعلى أخيه فخر الدين وعلى شرف الدين موسى تخوّفا منهم لما ظهر من نجابتهم فى غيبته، وأرسلهم إلى الديار المصريّة محتفظا بهم خلا نور الدين عمر (أعنى الملك المنصور) فإنّه أطلقه من يومه لأنه كان يأنس إليه، ثم استحلفه وجعله أتابك عسكره؛ ثم استنابه الملك المسعود ثانيا لمّا توجّه إلى مصر، وقال له:
إن متّ فأنت أولى بالملك من إخوتى لخدمتك لى، وإن عشت فأنت على حالك، وإياك أن تترك أحدا من أهلى يدخل اليمن، ولو جاءك الملك الكامل. ثم سار الملك المسعود إلى مكة فمات بها. فلما بلغ الملك المنصور ذلك استولى على ممالك اليمن بعد أمور وخطوب، واستوسق له الأمر، فكانت مدّة مملكته باليمن نيّفا على عشرين سنة. ومات بها فى ليلة السبت تاسع ذى القعدة سنة «1» سبع وأربعين وستمائة، وملك بعده ابنه الملك المظفّر يوسف هذا، وهو ثانى سلطان من بنى رسول باليمن؛ وأقام الملك المظفّر هذا فى الملك نحوا من ستّ وأربعين سنة. وكان ملكا عادلا عفيفا عن أموال الرعيّة، حسن السّيرة كثير العدل، وملك بعده ولده الأكبر الملك الأشرف ممهّد «2» الدّين عمر فلم يمكث الأشرف بعد أبيه إلا سنة «3» ومات، وملك أخوه الملك المؤيّد هزبر الدّين داود «4» . ومات الملك المظفّر هذا مسموما سمّته بعض جواريه. ومات وقد جاوز الثمانين. وخلّف من الأولاد الملك الأشرف الذي ولى بعده، والمؤيّد داود والواثق [إبراهيم «5» ] والمسعود [تاج الدين حسن «6» ] والمنصور [أيوب «7» ] . انتهى.

(8/73)


وفيها توفّى العلّامة جمال الدين أبو غانم محمد ابن الصاحب كمال الدين أبى القاسم عمر بن أحمد بن هبة الله بن أحمد بن أبى جرادة الحلبىّ الحنفىّ المعروف بابن العديم.
مات بمدينة حماة، وكان إماما فاضلا بارعا من بيت غلم ورياسة.
وفيها قتل الأمير عساف «1» ابن الأمير أحمد بن حجّىّ أمير العرب من آل مرى، وكان أبوه أكبر عربان آل برمك، وكان يدّعى أنه من نسل البرامكة من العبّاسة أخت هارون الرشيد. وقد ذكرنا ذلك فى وفاة أبيه الأمير شهاب الدين أحمد.
وفيها توفّى الأمير بدر الدين بكتوت بن عبد الله الفارسىّ الأتابكىّ، كان من خيار الأمراء وأكابرهم وأحسنهم سيرة.
وفيها توفّى شيخ الحجاز وعالمه الشيخ محبّ الدين أحمد بن عبد الله بن محمد بن أبى بكر بن محمد بن إبراهيم الطّبرىّ المكىّ الشافعىّ فقيه الحرم بمكة- شرفها الله تعالى- ومفتيه، ومولده فى سنة أربع عشرة وستّمائة بمكّة. وكانت وفاته فى ذى القعدة «2» . وقال البرزالىّ «3» : ولد بمكّة فى يوم الخميس السابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وستمائة.
قلت: ونشأ بمكّة وطلب العلم وسمع الكثير ورحل البلاد.
وقال جمال الدين الإسنائىّ «4» : إنّه تفقّه بقوص «5» على الشيخ مجد الدين «6» القشيرىّ. انتهى.

(8/74)


وذكر نحو ذلك القطب «1» الحلبىّ فى تاريخ مصر، وحدّث وخرّج لنفسه أحاديث عوالى.
قال أبو حيّان «2» : إنّه وقع له وهم فاحش فى القسم الأول وهو التّساعىّ، وهو إسقاط رجل من الإسناد حتى صار له الحديث تساعيّا فى ظنّه. انتهى.
قلت: وقد استوعبنا سماعاته ومصنّفاته ومشايخه فى ترجمته من تاريخنا المنهل الصافى، والمستوفى بعد الوافى مستوفاة فى الكتاب المذكور. وكان له يد فى النظم، فمن ذلك قصيدته الحائيّة:
ما لطرفى عن الجمال براح ... ولقلبى به غذا ورواح
كلّ معنى يلوح فى كلّ حسن ... لى إليه تقلّب وارتياح
ومنها:
فيهم يعشق الجمال ويهوى ... ويشوق الحمى وتهوى الملاح
وبهم يعذّب الغرام ويحلو ... ويطيب الثناء والامتداح
لا تلم يا خلىّ قلبى فيهم ... ما على من هوى الملاح جناح
ويح قلبى وويح طرفى إلى كم ... يكتم الحبّ والهوى فضّاح
صاح عرّج على العقيق وبلّغ ... وقباب فيها الوجوه الصباح
والقصيدة طويلة كلّها على هذا المنوال.
وفيها توفّى سلطان إفريقيّة وابن سلطانها وأخو سلطانها عمر بن أبى زكريّا يحيى ابن عبد الواحد بن عمر الهنتاتىّ «3» الملقّب بالمستنصر بالله والمؤيّد به، وولى سلطنة

(8/75)


تونس «1» بعد وفاة أخيه إبراهيم فيما أظنّ، وقتل الدعىّ «2» الذي كان غلب عليها، وملك البلاد ودام فى الملك إلى أن مات فى ذى الحجّة. وكان عهد لولده عبد الله بالملك، فلمّا احتضر أشار عليه الشيخ أبو محمد المرجانى «3» بأن يخلعه لصغر سنّه فخلعه، وولّى ولد الواثق محمد بن يحيى بن محمد الملقّب بأبى عصيدة الآتى ذكر وفاته فى سنة تسع وسبعمائة. وكان المستنصر هذا ملكا عادلا حسن السيرة وفيه خبرة ونهضة وكفاية ودين وشجاعة وإقدام. رحمه الله تعالى.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الزاهد القدوة أبو الرجال بن مرى بمنين «4» فى المحرّم. وعزّ الدين أبو بكر محفوظ بن معتوق التاجر ابن البزورىّ «5» فى صفر. والإمام عزّ الدين أحمد بن إبراهيم بن الفاروثىّ «6» فى ذى الحجة.

(8/76)


وصاحب اليمن الملك المظفّر يوسف بن عمر فى رجب؛ وكانت دولته بضعا وأربعين سنة. وشيخ الحجاز محبّ الدين الطّبرىّ. وأبو الفهم «1» أحمد بن أحمد بن محمد بن عبد الرحمن الحسينىّ النقيب فى المحرّم. والعلّامة تاج «2» الدين أبو عبد الله محمد بن عبد السلام بن المطهّر «3» بن أبى عصرون التميمى مدرّس الشاميّة «4» الصغرى فى ربيع الأوّل. ومحيى الدين عبد الرحيم بن عبد المنعم [بن خلف «5» بن عبد المنعم] بن الدّميرى فى المحرّم، وله تسعون سنة. والزاهد القدوة شرف الدين محمد بن عبد الملك «6» اليونينىّ المعروف بالأرزونى»
. والزاهد المقرئ شرف الدين محمود بن محمد التّادفىّ «8» بقاسيون فى رجب. والعلّامة زين الدين [أبو البركات «9» ] المنجّا بن عثمان بن أسعد

(8/77)


ابن المنجا الحنبلىّ فى شعبان، وله خمس وستون سنة. وقاضى القضاة شرف الدين الحسن بن عبد الله ابن الشيخ أبى عمر المقدسىّ الحنبلىّ. وناصر الدين نصر الله بن محمد بن عيّاش الحدّاد فى شوّال. والعدل كمال الدين عبد الله بن محمد [بن نصر «1» ] ابن قوام فى ذى القعدة. وأبو الغنائم بن محاسن الكفرابى. والمقرئ موفّق الدين محمد بن أبى العلاء [محمد «2» بن علىّ] ببعلبكّ «3» فى ذى الحجة. والمقرئ أبو القاسم عبد الرحمن ابن عبد الحليم سحنون «4» المالكىّ فى شوّال بالإسكندريّة. والعلّامة الصاحب محيى الدين محمد بن يعقوب [بن إبراهيم «5» بن هبة الله بن طارق بن سالم] بن النحّاس الحلبىّ الحنفى فى آخر السنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ذراع وأصابع. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا. وكان الوفاء فى سادس أيام النّسىء