النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة
[ما وقع من
الحوادث سنة 675]
السنة السابعة عشرة من ولاية الملك الظاهر بيبرس على مصر، وهى سنة خمس
وسبعين وستمائة.
فيها توفّى إبراهيم بن سعد [الله «6» ] بن جماعة بن علىّ بن جماعة بن
حازم بن صخر أبو إسحاق الحموىّ الكنانىّ المعروف بابن جماعة، سمع الفخر
«7» بن عساكر وغيره وحدّث. ومولده يوم الاثنين منتصف رجب سنة ستّ «8»
وتسعين وخمسمائة بحماة، وهو والد القاضى بدر «9» الدين بن جماعة. مات
يوم عيد النّحر
(7/251)
وفيها توفّى الأمير ناصر الدين محمد بن
أيبك [بن «1» عبد الله بن] الإسكندرىّ، وكان ممّن جمع بين حسن الصورة
وحسن السّيرة ووفور العقل والرياسة ومكارم الأخلاق. مات غريقا، مرّ
بفرسه على جسر حجر فزلق الفرس ووقع به فى النهر وخرج الفرس سباحة ومات
هو. فكأنّ «2» الجلال بن الصفّار الماردينىّ عناه بقوله:
يأيّها الرّشأ المكحول ناظره ... بالسّحر «3» حسبك قد أحرقت أحشائى
إنّ انغماسك فى التّيار حقّق أنّ ... الشمس تغرب فى عين من الماء
أو بقوله «4» أيضا. وقيل إنهما لأبى إسحاق «5» الشّيرازىّ، والله أعلم:
غريق كانّ الموت رقّ لحسنه ... فلان له فى صفحة الماء جانبه
أبى الله أن يسلوه قلبى فإنّه ... توفّاه فى الماء الذي أنا شاربه
وفيها توفّى الشيخ المعتقد الصالح أبو الفتيان أحمد بن علىّ بن إبراهيم
[بن «6» محمد] ابن أبى بكر المقدسىّ «7» الأصل البدوىّ المعروف بأبى
اللّثامين السطوحىّ «8» . مولده
(7/252)
سنة ستّ وتسعين وخمسمائة، وتوفّى فى سنة
خمس وسبعين فى شهر ربيع الأوّل، ودفن بطندتا «1» وقبره يقصد للزيارة
هناك، وكان من الأولياء المشهورين، وسمّى بأبى اللّثامين لملازمته
اللّثامين صيفا وشتاء، وكان له كرامات ومناقب جمة، رحمه الله تعالى
ونفعنا ببركاته.
وفيها توفّى العلّامة بدر الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن
محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن حفّاظ «2» السّلمىّ الحنفىّ المعروف
بابن الفويرة «3» . مات بدمشق فى يوم السبت حادى عشرين جمادى الأولى
وقال الحافظ عبد القادر فى طبقاته «4» :
رأيت بخط الحافظ الدّمياطىّ فى مشيخته أنّه توفّى ليلة الجمعة فجأة
منتصف شهر ربيع الآخر سنة أربع وسبعين وستمائة. وكان إماما عالما
متبحّرا فى العلوم، درّس
(7/253)
بالشّبليّة «1» [بجبل»
] الصالحيّة وأفتى سنين وبرع فى الفقه والعربيّة وسمع الكثير، وكان
يكتب خطّا حسنا، وله معرفة أيضا بالأصول والأدب وله نظم رائق، وكان
رئيسا وعنده ديانة ومروءة ومكارم أخلاق. ومن شعره [فى مليح شاعر «3» ]
:
وشاعر يسحرنى طرفه ... ورقّة الألفاظ من شعره
أنشدنى نظما بديعا فما ... أحسن ذاك النظم من ثغره
وله فى معذّر:
عاينت حبّة «4» خاله ... فى روضة من جلّنار
فغدا فؤادى طائرا ... فاصطاده شرك العذار
وله:
كانت دموعى حمرا يوم بينهم ... فمذ نأوا قصّرتها لوعة الحرق
قطفت باللّحظ وردا من خدودهم ... فاستقطر البعد ماء الورد من حدقى
وقيل إنّه رئى فى المنام بعد موته فسئل عمّا لقى بعد موته فكان جوابه.
ما كان لى من شافع عنده ... إلّا اعتقادى أنّه واحد
وفيها توفّى الشيخ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الوهاب بن منصور
الحرّانىّ الحنبلىّ، كان فقيها إماما عالما عارفا بعلم الأصول والخلاف
والفقه ودرّس
(7/254)
وأفتى واشتغل [على الشيخ «1» علم الدين
القاسم فى الأصول والعربيّة] ومات فى جمادى الأولى. ومن شعره قوله:
طار قلبى يوم ساروا فرقا ... وسواء فاض دمعى أورقا
حار فى سقمى من بعدهم ... كلّ من فى الحىّ داوى أورقى
بعدهم لاطلّ وادى المنحنى ... وكذا بان الحمى لا أورقا
وفيها توفى الأديب الشاعر شهاب الدين أبو المكارم محمد بن يوسف بن
مسعود ابن بركة الشيبانى التّلعفرىّ «2» الشاعر المشهور، مولده سنة
ثلاث وتسعين وخمسمائة بالموصل، ومات بحماة فى شوّال. كان أديبا فاضلا
حافظا للأشعار وأيّام العرب وأخبارها، وكان يتشيّع، وكان من شعراء
الملك الأشرف موسى شاه أرمن، وكان التّلعفرىّ هذا مع تقدّمه فى الأدب
وبراعته ابتلى بالقمار، ووقع له بسبب القمار أمور منها: أنه نودى بحلب
من قبل السلطان: من فامر مع الشّهاب التلعفرىّ قطعنا يده، فضاقت عليه
الأرض، فجاء إلى دمشق ولم يزل يستجدى ويقامر حتى بقى فى اتون من الفقر.
قلت: وديوان شعره لطيف فى غاية الحسن وهو موجود بأيدى الناس. ومن شعره
قصيدته المشهورة:
أىّ دمع من الجفون أساله ... إذ أتته مع النسيم رساله
حمّلته الرياح أسرار عرف ... أودعتها السحائب الهطّاله
يا خليلى وللخليل حقوق ... واجبات الأداء «3» فى كلّ حاله
(7/255)
سل عقيق الحمى وقل إذ تراه ... خاليا من
ظبائه المختاله
أين تلك المراشف العسليّ ... ات وتلك المعاطف العسّاله
وليال قضيتها كلأل ... بغزال تغار منه الغزاله
بابلىّ الألحاظ والريق والأل ... فاظ كلّ مدامة سلساله
من بنى التّرك كلّما جذب القو ... س رأينا فى برجه «1» بدر هاله
أوقع «2» الوهم حين يرمى فلم ند ... ر يداه أم عينه النّبّاله
قلت لمّا لوى ديون وصالى ... وهو مثر وقادر لا محاله
بيننا الشرع قال سربى فعندى ... من صفاتى لكلّ دعوى دلاله
وشهودى من خال حدّى و [من «3» ] قد ... ى شهود معروفة بالعداله
أنا وكلت مقلتى فى دم الخل ... ق فقالت «4» قبلت هذى الوكاله
وله موشّحة مدح بها شهاب الدين «5» الأعزازىّ، ثم وقع بينهما وتهاجيا.
وأوّل الموشّحة:
ليس «6» يروى ما بقلبى من ظما ... غير برق لائح من إضم
إن تبدّى لك بان الأجرع ... وأثيلات النّقا من لعلع
(7/256)
يا خليلى قف على الدّار معى ... وتأمّل كم
بها من مصرع
واحترز واحذر فأحداق الدّمى ... كم أراقت فى رباها من دم
حظّ قلبى فى الغرام الوله ... فعذولى فيك «1» ما لى وله
حسبى «2» الليل فما أطوله ... لم يزل آخره أوّله
فى هوى أهيف معسول اللّمى ... ريقه كم قد شفى من ألم
«3» وله فى القمار:
ينشرح الصدر لمن لاعبنى ... والأرض بى ضيّقة فروجها
كم شوّشت شيوشها «4» عقلى وكم ... عهدا سقتنى عامدا بنوجها
ومن شعره وأجاد، عفا الله عنه:
أحبّ الصالحين ولست منهم ... رجاء أن أنال بهم شفاعه
وأبغض من به أثر المعاصى ... وإن كنّا سواء فى البضاعه
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى القاضى شمس
الدين علىّ بن محمود الشهرزورىّ مدرّس القيمريّة فى شوّال. والشيخ قطب
الدين أحمد بن عبد السلام [بن المطهّر «5» بن عبد الله بن محمد بن هبة
الله بن علىّ] بن أبى عصرون بحلب
(7/257)
فى جمادى الآخرة. والإمام شمس الدين محمد
بن عبد الوهّاب بن منصور الحرّانىّ الحنبلىّ فى جمادى الأولى. والشهاب
محمد بن يوسف بن مسعود التّلّعفرىّ الشاعر بحماة فى شوّال، وله ثلاث
وثمانون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وثلاث عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وإحدى عشرة إصبعا «1» .
(7/258)
[ما وقع من
الحوادث سنة 676]
ذكر ولاية «1» السلطان الملك السعيد محمد ابن الملك الظاهر بيبرس على
مصر
هو السلطان الملك السعيد ناصر الدين أبو المعالى محمد المدعو بركة خان
ابن السلطان الملك الظاهر بيبرس البندقدارىّ الصالحىّ النّجمىّ، الخامس
من ملوك التّرك بمصر. سمّى بركة خان على اسم جدّه لأمّه بركة خان «2»
بن دولة خان الخوارزمىّ.
تسلطن الملك السعيد هذا فى حياة والده حسب ما ذكرناه فى ترجمة والده فى
يوم الخميس ثالث «3» عشر شوّال سنة اثنتين وستّين وستمائة. وأقام على
ذلك سنين، وليس له من السلطنة إلّا مجرّد الاسم، إلى أن توفّى أبوه
الملك الظاهر بيبرس فى يوم الخميس بعد صلاة الظهر التاسع والعشرين من
المحرّم من سنة ستّ وسبعين وستمائة بدمشق. اتفق رأى الأمراء [على «4» ]
إخفاء موت الظاهر، وكتب الأمير بيليك الخازندار عرّف الملك السعيد هذا
بذلك على يد الأمير بدر الدين بكتوت
(7/259)
الجوكندار الحموىّ، وعلى يد الأمير علاء
الدين أيدغمش الحكيمىّ «1» الجاشنكير.
فلمّا بلغ الملك السعيد موت والده الملك الظاهر أخفاه أيضا، وخلع
عليهما وأعطى كلّ واحد منهما خمسين «2» ألف درهم، على أنّ ذلك بشارة
بعود السلطان إلى الديار المصريّة. وسافرت العساكر من دمشق إلى جهة
الديار المصريّة فدخلوها يوم الخميس سادس عشرين صفر من سنة ستّ وسبعين
وستمائة، ومقدّمهم الأمير بدر الدين بيليك الخازندار؛ ودخلوا مصر وهم
يخفون موت الملك الظاهر فى الصورة الظاهرة، وفى صدر الموكب مكان تسيير
السلطان تحت العصائب «3» ، محفّة وراءها السّلحدارية «4» والجمداريّة
«5» وغيرهم من أرباب الوظائف توهم أنّ السلطان فى المحفّة مريض، هذا مع
عمل جدّ فى إظهار ناموس السلطنة والحرمة للمحفّة والتأدّب مع من فيها
حتى تمّ لهم ذلك.
قلت: لله درّهم من أمراء وحاشية! ولو كان ذلك فى عصرنا هذا ما قدر
الأمراء على إخفاء ذلك من الظهر إلى العصر.
ولمّا وصلوا إلى قلعة الجبل، ترجّل الأمراء والعساكر بين يدى المحفّة،
كما كانت العادة فى الطريق فى كل منزلة من حين خروجهم من دمشق إلى أن
وصلوا إلى قلعة الجبل من باب السرّ، وعند دخولها إلى القلعة اجتمع
الأمير بدر الدين بيليك الخازندار بالملك السعيد هذا، وكان الملك
السعيد لم يركب لتلقّيهم، وقبّل الأرض ورمى بعمامته ثم صرخ، وقام
العزاء فى جميع القلعة، ولوقتهم جمعوا الأمراء
(7/260)
والمقدّمين والجند وحلّفوهم بالإيوان
المجاور لجامع «1» القلعة للملك السعيد، واستثبت له الأمر على هذه
الصورة، وخطب له يوم الجمعة [سابع «2» عشرين صفر] بجوامع القاهرة ومصر،
وصلّى على والده صلاة الغائب.
ومولد الملك السعيد هذا فى صفر سنة ثمان وخمسين وستمائة؛ وقيل: سنة سبع
وخمسين بالعشّ «3» من ضواحى مصر، ونشأ بديار مصر تحت كنف والده إلى أن
سلطنه فى حياته؛ كما تقدّم ذكره.
وأمّا الأمير بدر الدين بيليك الخازندار فإنّه لم تطل مدّته، ومات فى
ليلة الأحد سابع شهر ربيع الأوّل. وخلع الملك السعيد على الأمير شمس
الدين آق سنقر الفارقانىّ بنيابة السلطنة عوضا عن بيليك الخازندار
المذكور.
وفى سادس عشر شهر ربيع الأوّل [يوم «4» الأربعاء] ركب السلطان الملك
السعيد من القلعة تحت العصائب على عادة والده وسار إلى تحت الجبل «5»
الأحمر، وهذا أوّل ركوبه بعد قدوم العسكر، ثم عاد وشقّ القاهرة وسرّ
الناس به سرورا زائدا، وكان
(7/261)
عمره يومئذ تسع عشرة سنة، وطلع القلعة
وأقام إلى يوم الجمعة خامس «1» عشرين شهر ربيع الأوّل المذكور قبض على
الأمير سنقر الأشقر وعلى الأمير بدر الدين بيسرى وحبسهما بقلعة الجبل.
ثم فى يوم السبت ثامن عشر شهر ربيع الآخر قبض الملك السعيد على الأمير
آق سنقر الفارقانىّ نائب السلطنة بديار مصر المقدّم ذكره.
ثم فى تاسع عشر الشهر المذكور أفرج الملك السعيد عن الأمير سنقر الأشقر
وبيسرى وخلع عليهما وأعادهما إلى مكانتهما.
وفى يوم الاثنين رابع جمادى الأولى فتحت المدرسة «2» التى أنشأها
الأمير آق سنقر الفارقانىّ المجاورة للوزيريّة «3» بالقاهرة وجعل شيخها
على مذهب أبى حنيفة رضى الله عنه.
وفى يوم الجمعة [رابع عشر «4» جمادى الآخرة] قبض الملك السعيد على خاله
الأمير بدر الدين محمد ابن الأمير حسام الدين بركة خان الخوارزمىّ
وحبسه بقلعة الجبل لأمر
(7/262)
نقمه عليه، ثم أفرج عنه فى ليلة «1» خامس
عشرينه، وخلع عليه وأعاده إلى منزلته.
وكان الملك السعيد هذا أمر ببناء مدرسة لدفن أبيه فيها، حسب ما أوصى
«2» به والده، فنقل تابوت الملك الظاهر بيبرس فى ليلة الجمعة خامس شهر
رجب من قلعة دمشق إلى التربة المذكورة بدمشق داخل باب الفرج قبالة
المدرسة «3» العادليّة، والتربة المذكورة كانت دار الشريف العقيقى «4»
فاشتريت وهدمت، وبنى موضع بابها قبّة الدفن وفتح لها شبابيك على الطريق
وجعل بقيّة الدار مدرسة على فريقين:
حنفيّة وشافعيّة. وكان دفنه بها فى نصف الليل ولم يحضره سوى الأمير عزّ
الدين أيدمر الظاهرىّ نائب الشام، ومن الخواصّ دون العشرة لا غير.
ثم وقع الاهتمام إلى السّفر للبلاد الشامية وتجهّز السلطان والعساكر.
فلمّا كان يوم السبت سابع ذى القعدة برز الملك السعيد بالعساكر من قلعة
الجبل إلى مسجد
(7/263)
التّبن «1» خارج القاهرة فأقام به إلى يوم
السبت حادى عشرينه، انتقل بخواصّه إلى الميدان «2» الذي أنشأه بين مصر
والقاهرة، ودخلت العساكر إلى منازلهم، وبطلت حركة السفر بعد أن أعاد
قاضى القضاة شمس الدين أحمد بن خلّكان إلى قضاء دمشق وأعمالها من
العريش الى سلمية، وتوجّه ابن خلكان إلى الشام، وطلع الملك السعيد إلى
قلعة الجبل وأبطل حركة السفر بالكليّة إلى وقت يريده حسب ما وقع
الاتفاق عليه، واستمرّ بالقلعة إلى أن أمر العساكر بالتأهب إلى السفر
وتجهّز هو أيضا لأمر اقتضى ذلك.
وخرج من الديار المصريّة فى العشر الأوسط من ذى القعدة من سنة سبع
وسبعين وستمائة وخرج من القاهرة بعساكره وأمرائه، وسار حتى وصل إلى
الشام فى خامس ذى الحجّة، فخرج أهل دمشق إلى ملتقاه وزيّنوا له البلد
وسرّوا بقدومه سرورا زائدا. وعمل عيد النّحر بقلعة دمشق وصلّى العيد
بالميدان الأخضر.
وورد عليه الخبر بموت الصاحب بهاء الدين «3» على بن محمد بن سليم بن
حنّا بالقاهرة، فقبض السلطان على حفيده الصاحب تاج الدين «4» محمد،
وضرب الحوطة على موجوده بسبب موت جدّه الصاحب بهاء الدين المذكور.
(7/264)
ثم أرسل السلطان الملك السعيد إلى برهان
«1» الدين الخضر بن الحسن السّنجارىّ باستقراره وزيرا بالديار المصرية
ثم خلع السلطان على الصاحب فتح الدين عبد الله [ابن محمد «2» بن أحمد
بن خالد بن نصر] بن القيسرانىّ بوزارة دمشق، وبسط يده فى بلاد الشام
وأمر القضاة وغيرهم بالركوب معه.
ثم جهّز السلطان العساكر إلى بلاد سيس للنّهب والإغارة «3» ، ومقدّمهم
الأمير سيف الدين قلاوون الألفىّ. وأقام الملك السعيد بدمشق فى نفر
يسير من الأمراء والخواصّ، فصار فى غيبة العسكر يكثر التردّد الى
الربعية «4» من قرى المرج يقيم فيها أيّاما ثمّ يعود. ثم أسقط السلطان
ما كان قرّره والده الملك الظاهر على بساتين دمشق فى كلّ سنة، فسرّ
الناس بذلك وتضاعفت أدعيتهم له واستمرّ السلطان بدمشق إلى أن وقع الخلف
فى العشر الأوسط من شهر ربيع الأوّل من سنة ثمان وسبعين بين المماليك
الخاصّكيّة الملازمين لخدمته وبين الأمراء لأمور «5» يطول شرحها.
(7/265)
وعجز الملك السعيد عن تلافى ذلك، وخرج عن
طاعته الأمير سيف الدين كوندك «1» الظاهرىّ نائب السلطنة ومقدّم
العساكر مغاضبا للسلطان الملك السعيد، وخرج معه نحو أربعمائة مملوك من
الظاهريّة: منهم جماعة كثيرة مشهورة بالشجاعة ونزلوا بمنزلة القطيّفة
«2» فى انتظار العساكر التى ببلاد سيس ففى العشر الأخير من شهر ربيع
الأوّل عادت العساكر من بلاد سيس إلى جهة دمشق فنزلوا بمرج عذراء «3»
إلى القصير «4» ؛ وكان قد اتّصل بهم سيف الدين كوندك ومن معه
واستمالوهم فلم يدخل العسكر دمشق، وأرسلوا إلى الملك السعيد فى معنى
الخلف الذي حصل بين الطائفتين، وكان كوندك مائلا إلى الأمير بيسرى.
ولمّا اجتمع بالأمير سيف الدين قلاوون الألفى والأمير بدر الدين بيسرى
والأمراء الكبار أوحى إليهم عن السلطان ما غلّت صدورهم، وخوّفهم من
الخاصّكيّة وعرّفهم أنّ نيّتهم لهم غير جميلة، وأنّ الملك السعيد موافق
على ذلك وأكثر من القول المختلق؛ فوقع الكلام بين الأمراء الكبار وبين
السلطان الملك السعيد، وتردّدت الرّسل بينهم، فكان من جملة ما اقترح
الأمراء على الملك السعيد إبعاد الخاصّكيّة عنه، وألّا يكون لهم فى
الدولة تدبير ولا حديث، بل يكونوا على أخبازهم ووظائفهم مقيمين؛ فلم
يجب الملك السعيد إلى ذلك؛ فرحل العسكر من مرج عذراء إلى ذيل عقبة
الشّحورة «5» بأسرهم ولم يعبروا المدينة بل جعلوا طريقهم من المرج،
وأقاموا بهذه المنزلة ثلاثة أيام، والرّسل تتردّد بينهم وبين
(7/266)
الملك السعيد؛ ثم رحلوا ونزلوا بمرج «1»
الصّفّر وعند رحيلهم رجع الأمير عزّ الدين أيدمر الظاهرى نائب الشام
وأكثر عسكر دمشق، وقدموا مدينة دمشق ودخلوا فى طاعة السلطان. وفى يوم
رحيلهم من مرج الصّفّر سيّر الملك السعيد والدته بنت بركة خان فى محفّة
وفى خدمتها الأمير شمس الدين قرا سنقر، وكان من الذين لم يتوجّهوا إلى
بلاد سيس ولحقوا العسكر؛ فلمّا سمعوا بوصولها خرج الأمراء الأكابر
المقدّمون لملتقاها، وترجّلوا بأجمعهم وقبّلوا الأرض أمام المحفّة،
وبسطوا الحرير العتّابى «2» وغيره تحت حوافر بغال المحفّة ومشوا أمام
المحفّة حتى نزلت فى المنزلة، فلمّا استقرّت بها تحدّثت معهم فى الصلح
والانقياد واجتماع الكلمة، فذكروا ما بلغهم من تغيّر السلطان عليهم،
وموافقته الخاصّكيّة على ما يرومونه من إمساكهم وإبعادهم؛ فحلفت لهم
على بطلان ما نقل إليهم، فاشترطوا شروطا كثيرة التزمت لهم بها، وعادت
إلى ولدها وعرّفته الصورة؛ فمنعه من حوله من الخاصّكيّة من الدخول تحت
تلك الشروط، وقالوا: ما القصد إلّا إبعادنا عنك حتّى يتمكنوا منك
وينزعوك من الملك، فمال إلى كلامهم وأبى قبول تلك الشروط.
فلمّا بلغ العسكر ذلك رحل من مرج الصّفّر قاصدا الديار المصريّة؛ فخرج
السلطان الملك السعيد بنفسه فيمن معه من الخاصّكيّة جريدة، وساق فى
طلبهم ليتلافى الأمر إلى أن بلغ رأس «3» الماء، فوجدهم قد عدوه
وأبعدوا، فعاد من يومه ودخل قلعة دمشق فى الليل وهى ليلة الخميس سلخ
شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وسبعين وستمائة. وأصبح فى يوم الجمعة مستهلّ
شهر ربيع الآخر خرج السلطان
(7/267)
الملك السعيد بجميع من تحلّف معه من
العساكر المصريّة والشاميّة إلى جهة الديار المصريّة بعد أن صلّى
الجمعة بها، وسار بمن معه فى طلب العساكر المقدّم ذكرهم، وجهّز والدته
وخزائنه إلى الكرك؛ وسار حتّى وصل إلى بلبيس يوم الجمعة خامس عشر شهر
ربيع الآخر المذكور، فوجد العسكر قد سبقه إلى القاهرة؛ فأمر بالرحيل من
بلبيس؛ فلمّا أخذت العساكر فى الرحيل من بلبيس بعد العصر فارق الأمير
عزّ الدين أيدمر الظاهرىّ نائب الشام وصحبته أكثر أمراء دمشق السلطان
الملك السعيد، وانضاف إلى المصريّين، وبلغ الملك السعيد ذلك فلم يكترث؛
وركب بمن بقى معه من خواصّه وعساكره وسار بهم حتّى وصل ظاهر القاهرة؛
وكان نائبه بالديار المصريّة الأمير عز الدين أيبك الأفرم، وهو بقلعة
الجبل والعساكر محدقة بها، فتقدّم الملك السعيد بمن معه لقتال العساكر،
وكان الذي بقى مع السلطان الملك السعيد جماعة قليلة بالنسبة إلى من
يقاتلونه، ووقع المصافّ بينهم وتقاتلوا فحمل الأمير علم الدين سنجر
الحلبىّ من جهة الملك السعيد وشقّ الأطلاب ودخل إلى قلعة الجبل بعد أن
قتل من الفريقين نفر يسير، وملك القلعة وشال علم السلطان، ثم نزل وفتح
للملك السعيد طريقا وطلع به إلى القلعة.
وأمّا سنقر الأشقر فإنّه بقى فى المطريّة «1» وحده وصار لا إلى هؤلاء
ولا إلى هؤلاء.
ولمّا طلع السلطان إليها أحاطت العساكر بها وحاصروها وقاتلوا من بها
قتالا شديدا
(7/268)
وضايقوها وقطعوا الماء الذي يطلع إليها
وزحفوا عليها فجدّوا فى القتال، ورأى الملك السعيد تخلّى من كان معه
وتخاذل من بقى معه من الخاصّكيّة، وعلم أنّه لا طاقة له بهم، وكان
المشار إليه فى العسكر المخامر الأمير سيف الدين قلاوون الألفىّ، وهو
حمو الملك السعيد فإنّ الملك السعيد كان تزوّج ابنته قبل ذلك بمدّة «1»
، فجرت المراسلات بينهم وكثر الكلام وتردّدت الرّسل غير مرّة، حتّى
استقرّ الحال على أن الملك السعيد يخلع من السلطنة وينصّبون فى السلطنة
أخاه بدر الدين سلامش ابن الملك الظاهر بيبرس، ويقطعون الملك السعيد
هذا وأخاه نجم الدين خضرا الكرك والشّوبك وأعمالهما؛ فسيّر الملك
السعيد الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ والقاضى تاج الدين محمد بن
الأثير إلى الأمير سيف الدين قلاوون وأعيان الأمراء ليستوثق لنفسه
منهم، فحلفوا له على الوفاء بما التزموه من إعطاء الكرك والشّوبك له
ولأخيه.
وخرج من قلعة الجبل يوم الأحد سابع عشر شهر ربيع الآخر المذكور ونزل
إلى دار
(7/269)
العدل «1» التى على باب القلعة، وكانت مركز
الأمير قلاوون فى حال المصافّ والقتال، وكان الحصار ثلاثة أيام بيوم
القدوم لا غير.
ولمّا حضر الملك السعيد إلى عند قلاوون أحضر أعيان القضاة والأمراء
والمفتين وخلعوا الملك السعيد هذا من السلطنة وسلطنوا مكانه «2» أخاه
بدر الدين سلامش ولقّبوه بالملك العادل سلامش، وعمره يومئذ سبع سنين
وجعلوا أتابكه الأمير سيف الدين قلاوون الألفى الصالحىّ النّجمىّ.
واستمرّت بنت قلاوون عند زوجها الملك السعيد المذكور إلى ما سيأتى
ذكره.
ثم أخذ قلاوون فى تحليف الأمراء للملك العادل فحلفوا له بأجمعهم على
العادة، وضربت السّكّة فى أحد الوجهين: اسم الملك العادل والآخر اسم
قلاوون، وخطب لهما أيضا معا على المنابر، واستمرّ الأمر على ذلك؛
وتصرّف قلاوون فى المملكة والخزائن، وعامله الأمراء والجيوش بما
يعاملون به السلطان. ثم عمل قلاوون بخلع الملك السعيد محضرا شرعيّا
ووضع الأمراء خطوطهم عليه وشهادتهم فيه، وكتب فيه المفتون والقضاة
وأعطوا الملك السعيد الكرك وعملها، وأخاه نجم الدين خضرا الشّوبك
وعملها. وخرج الملك السعيد من قلعة الجبل إلى بركة «3» الحجّاج متوجّها
إلى الكرك فى يوم الاثنين ثامن عشر شهر ربيع الآخر المذكور من سنة ثمان
وسبعين (أعنى ثانى يوم من خلعه) ومعه جماعة من العسكر صورة ترسيم،
ومقدّمهم الأمير
(7/270)
سيف الدين بيدغان الرّكنى، ثم بدا لهم أن
يرجعوا به إلى القلعة فعادوا إليها فى نهار الاثنين لأمر أرادوه
وقرّروه معه ثم أمروه بالتوجّه؛ فخرج وسافر ليلة الثلاثاء إلى الكرك
بمن معه فوصلها يوم الاثنين خامس عشرين شهر ربيع الآخر المذكور، وتسلّم
أخوه نجم الدين خضر الشّوبك، وكان الأمير بيدغان ومن معه قد فارقوا
الملك السعيد من غزّة ورجعوا إلى الديار المصريّة؛ وأقام الملك السعيد
بالكرك وزال ملكه؛ فكانت مدّة حكمه وسلطنته بعد موت أبيه الملك الظاهر
بيبرس إلى يوم خلعه سنتين وشهرين «1» وخمسة عشر يوما، واستمرّ بالكرك
مع مماليكه وعياله، وقصده الناس والأجناد، فصار ينعم على من يقصده،
واستكثر من استخدام المماليك.
ثم رسم الأمير سيف الدين قلاوون بانتقال الملك خضر من الشّوبك إلى عند
أخيه الملك السعيد بالكرك، وتسلّم نوّاب قلاوون الشّوبك؛ ودام الملك
السعيد على ذلك حتى خلع سلامش من السلطنة وتسلطن قلاوون حسب ما يأتى
ذكر ذلك كلّه فى ترجمتهما.
فلمّا تسلطن قلاوون بلغه عن الملك السعيد أنّه استكثر من استخدام
المماليك وأنّه ينعم على من يقصده فاستوحش منه، وتأثّر من ذلك. فمرض
الملك السعيد بعد ذلك بمدّة يسيرة وتوفّى، رحمه الله تعالى، فى يوم
الجمعة حادى عشر ذى القعدة سنة ثمان وسبعين وستمائة بالكرك، ودفن من
يومه بأرض «2» مؤتة عند جعفر بن أبى طالب، رضى الله عنه، ثم نقل بعد
ذلك إلى دمشق فى سنة «3» ثمانين وستمائة فدفن إلى جنب والده الملك
الظاهر بيبرس بالتّربة التى أنشأها قبالة المدرسة العادليّة «4»
السّيفيّة، وألحده
(7/271)
قاضى القضاة عزّ الدين محمد «1» بن الصائغ.
وكانت مدة إقامته بالكرك بعد أن خلع من السلطنة ستة أشهر وخمسة وعشرين
يوما. ووجد الناس عليه كثيرا وعمل عزاؤه بسائر البلاد، وخرجت الخوندات
حاسرات بجواريهنّ يلطمن بالملاهى والدّفوف أياما عديدة، ويسمعن الملك
المنصور قلاوون الكلام الخشن وأنواع السبّ وهو لا يتكلّم، فإنّه نسب
اليه أنه اغتاله بالسمّ لمّا سمع كثرة استخدامه للمماليك وغيرهم.
قلت: ولا يبعد ذلك عن الملك المنصور قلاوون لكثرة تخوّفه من عظم شوكته
وكثرة مماليك والده وحواشيه. وأبغض الناس الملك المنصور قلاوون سنينا
كثيرة إلى أن أرضاهم بكثرة الجهاد والفتوحات؛ وأبغض الملك المنصور
قلاوون حتى ابنته زوجة الملك السعيد المذكور، فإنّها وجدت على زوجها
الملك السعيد وجدا عظيما وتألّمت لفقده؛ ولم تزل باكية عليه حزينة لم
تتزوّج بعده إلى أن توفّيت بعد زوجها الملك السعيد بمدّة طويلة فى
مستهلّ شهر رجب سنة سبع وثمانين وستمائة.
وكانت شقيقة الملك الأشرف خليل بن قلاوون، ودفنت فى تربة «2» معروفة
بوالدها بين مصر والقاهرة.
(7/272)
وصلّى على الملك السعيد بدمشق صلاة الغائب
يوم الجمعة رابع وعشرين ذى الحجّة. ثم أنعم الملك المنصور بالكرك بعد
موته على أخيه خضر ولقّب بالملك المسعود خضر.
وكان الملك السعيد، رحمه الله، سلطانا جليلا كريما سخىّ الكفّ، كثير
العدل فى الرعيّة، محسنا للخاصّ والعامّ، لا يردّ سائلا ولا يخيّب
آملا، وكان متواضعا بشوشا، حسن الأخلاق ليس فى طبعه عسف ولا ظلم، كثير
الشفقة والرحمة على الناس، ليّن الكلمة محبّا لفعل الخير، قليل الحجاب
على الناس يتصدّى للأحكام بنفسه، وكان لا يميل لسفك الدماء مع قدرته
على ذلك، وكان يوم دخوله إلى قلعة الجبل ولد له مولود ذكر من بعض
حظاياه فى شهر ربيع الآخر من هذه السنة.
وكان يحبّ التجمّل ويكثر من الإنعام على الناس ويخلع حتّى فى الأعزية.
ولمّا مات خاله الأمير بدر الدين محمد بن بركة خان بن دولة خان، وكان
من أعيان الأمراء بالديار المصريّة فى الدولة الظاهريّة، وكان حصل له
عند إفضاء الملك لابن أخته الملك السعيد تقدّم كبير ومكانة عالية،
وتوجّه معه إلى دمشق فمرض بها إلى أن توفّى ليلة الخميس تاسع شهر ربيع
الأوّل، ودفن بسفح قاسيون بالتّربة المجاورة لرباط الملك الناصر صلاح
الدين يوسف؛ ومقدار عمره خمسون سنة، عمل «1» له
(7/273)
عدّة أعزية وقرئ بالتّربة عدّة ختمات، حضر
إحداها ابن أخته الملك السعيد، ومدّ خوان فيه من عظيم فاخر الأطعمة
والحلاوات، فأكل من حضر، وخلع الملك السعيد على والدته ومماليكه
وخواصّه وهو فى العزاء فلبسوا الخلع وقبّلوا الأرض، وكانت الخلع خارجة
عن الحدّ. فهذا أيضا ممّا يدلّ على كرمه ووسع نفسه وكثرة إنعامه حتّى
فى الأعزية، رحمه الله تعالى. انتهت ترجمة الملك السعيد.
ويأتى ذكر حوادث سنين سلطنته على عادة هذا الكتاب، إن شاء الله تعالى.
السنة الأولى من ولاية الملك السعيد محمد بركة خان على مصر، وهى سنة
ستّ وسبعين وستمائة.
فيها توفى الشيخ كمال الدين أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل [
«1» بن إبراهيم ابن فارس] الإسكندرى المقرئ، كان عارفا بالقراءات،
وانتفع به خلق كثير، وتولّى نظر حبس دمشق، ونظر بيت المال بها مضافا
إلى نظر الحبس، وباشر عدّة وظائف دينيّة. ومات فى صفر. وكان رئيسا
فاضلا.
وفيها توفّى الأمير جمال الدين آقوش بن عبد الله المحمّدىّ الصالحىّ
النّجمىّ، كان من أعيان الأمراء ومن أكابرهم، وكان الملك الظاهر بيبرس
يخافه، فحبسه مدّة طويلة ثم أفرج عنه فمات فى شهر ربيع الأوّل، ودفن
بتربته «2» بالقرافة الصغرى.
(7/274)
وفيها توفّى الأمير عزّ الدين أيبك بن عبد
الله الموصلىّ الظاهرىّ نائب السلطنة بحمص، وكان ولى حمص مدّة ثم عزله
الملك الظاهر عنها ونفاه إلى حصن «1» الأكراد، وكان شجاعا مقداما.
وفيها توفّى الأمير عزّ الدين أيبك بن عبد الله الدّمياطىّ الصالحىّ
النّجمىّ أحد أكابر الأمراء المقدّمين على الجيوش، كان قديم الهجرة
[بينهم «2» ] فى علوّ المنزلة وسموّ المكانة، وكان الملك الظاهر أيضا
حبسه مدّة طويلة ثم أطلقه وأعاده إلى مكانته.
ومات بالقاهرة فى شعبان ودفن بتربته التى أنشأها بين القاهرة ومصر فى
القبّة «3» المجاورة لحوض السبيل «4» المعروف به.
(7/275)
وفيها توفّى الأمير عزّ الدين أيدمر بن عبد
الله العلائىّ نائب قلعة صفد، حضر بعد موت الملك الظاهر إلى القاهرة
ومات بها ودفن بالقرافة الصغرى، وكان ديّنا عفيفا أمينا، وهو أخو
الأمير علاء الدين أيدكين الصالحىّ.
وفيها توفّى الأمير بدر الدين بيليك بن عبد الله الظاهرىّ الخازندار
نائب السلطنة بالديار المصريّة بل بالممالك كلّها. قد تقدّم من ذكره
نبذة جيّدة فى عدّة مواطن، وهو الذي أخفى موت الملك الظاهر حتى قدم به
إلى مصر حسب ما تقدّم ذكره، وكانت وفاته بالقاهرة فى سادس شهر ربيع
الأوّل بقلعة الجبل ودفن بتربته «1» التى أنشأها بالقرافة الصغرى، وحزن
الناس عليه حزنا شديدا حتى شمل مصابه الخاصّ والعامّ، وعمل عزاؤه
بالقاهرة ثلاثة أيام، فى الليل بالشّموع وأنواع الملاهى. وصدّع موته
القلوب وأبكى العيون؛ وقيل: إنّه مات مسموما، وكان عمره خمسا وأربعين
سنة، ومحاسنه كثيرة يطول الشرح فى ذكرها.
وفيها توفّى الشيخ المعتقد خضر بن أبى بكر [محمد «2» ] بن موسى أبو
العبّاس المهرانىّ العدوىّ، كان أصله من قرية المحمّديّة من أعمال
جزيرة ابن عمر، وهو شيخ الملك الظاهر بيبرس، وصاحب الزاوية «3» التى
بناها له الملك الظاهر بالحسينيّة على الخليج «4» بالقرب من جامع «5»
الظاهر. وقد تقدّم من ذكره فى ترجمة الملك الظاهر ما يغنى عن الإعادة
هاهنا. وكان الشيخ خضر بشّر الملك الظاهر قبل سلطنته بالملك، فلمّا
تسلطن صار له فيه العقيدة العظيمة حتّى إنّه كان ينزل إليه فى الجمعة
المرّة والمرّتين،
(7/276)
وكان يطلعه على غوامض أسراره، ويستشيره فى
أموره، ويستصحبه فى أسفاره، وفيه يقول الشريف محمد بن «1» رضوان
الناسخ.
ما الظاهر السلطان إلا مالك الد ... نيا بذاك لنا الملاحم تخبر
ولنا دليل واضح كالشمس فى ... وسط السماء بكلّ عين تنظر
لمّا رأينا الخضر يقدم جيشه ... أبدا علمنا أنّه الإسكندر
وكان الشيخ يخبر الملك الظاهر بأمور قبل وقوعها فتقع على ما يخبره، ثم
تغيّر الملك الظاهر عليه لأمور بلغته عنه وأحضر السلطان من حاققه،
وذكروا عنه من القبائح ما لم يصدر عن مسلم! والله أعلم بصحّة ذلك؛
فآستشار الملك الظاهر الأمراء فى أمره، فمنهم من أشار بقتله، ومنهم من
أشار بحبسه، فمال الظاهر إلى قتله ففهم خضر؛ فقال للظاهر: اسمع ما أقول
لك، إنّ أجلى قريب من أجلك، وبينى وبينك مدّة أيّام يسيرة، فمن مات
منّا لحقه صاحبه عن قريب! فوجم الملك الظاهر وكفّ عن قتله، فحبسه فى
مكان لا يسمع له فيه حديث، وكان حبسه فى شوّال سنة إحدى وسبعين
وستمائة، وتوفّى يوم الخميس أو فى ليلة الجمعة سادس المحرّم سنة ست
وسبعين وستمائة، ودفن بزوايته بالحسينيّة. وكان الملك الظاهر بدمشق،
فلمّا بلغه موته اضطرب وخاف على نفسه من الموت لما كان قال له الشيخ
خضر: إنّ أجله من أجله قريب، فمرض الظاهر بعد أيام يسيرة ومات، فكان
بين الشيخ خضر وبين الملك الظاهر دون الشهر. انتهى.
(7/277)
وفيها توفّى شيخ الإسلام محيى الدين أبو
زكريّا يحيى بن شرف بن مرى «1» بن الحسن ابن الحسين النّووىّ «2»
الفقيه الشافعىّ الحافظ الزاهد صاحب المصنّفات المشهورة.
ولد فى العشر الأوسط من المحرّم سنة إحدى وثلاثين وستمائة، ومات ليلة
الأربعاء رابع عشرين شهر رجب بقرية نوى.
قلت: وفضله وعلمه وزهده أشهر من أن يذكر. وقد ذكرنا من أمره نبذة كبيرة
فى تاريخنا «المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى» ؛ إذ هو كتاب تراجم
يحسن الإطناب فيه. انتهى.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الملك القاهر
عبد الملك بن المعظّم [عيسى «3» ] بن العادل [أبى بكر «4» بن أيّوب] فى
المحرّم مسموما.
والسلطان الملك الظاهر ركن الدين الصالحىّ بيبرس فى أواخر المحرّم
بالقصر «5» الأبلق،
(7/278)
وله بضع وخمسون سنة. وكمال الدين إبراهيم
بن الوزيرى نجيب الدين [أحمد «1» ] بن إسماعيل [بن إبراهيم «2» ] بن
فارس التّميمىّ الكاتب المقرئ فى صفر، وله ثمانون سنة.
والواعظ نجم الدين علىّ بن علىّ بن إسفنديار بدمشق فى رجب، وله خمس «3»
وأربعون سنة وأشهر. وبيليك الظاهرىّ الخازندار نائب مصر. والصاحب معين
الدين سليمان بن علىّ [بن محمد «4» بن حسن] البرواناه الرومىّ، قتله
أبغا فى المحرّم. والشيخ خضر بن أبى بكر العدوىّ شيخ السلطان. والشيخ
الإمام شمس الدين محمد [بن إبراهيم ابن «5» عبد الواحد بن علىّ بن سرور
قاضى القضاة أبو بكر وأبو عبد الله المعروف ب] ابن العماد الحنبلىّ فى
المحرّم بمصر. والقاضى تقىّ الدين محمد بن حياة الرّقّىّ قاضى حلب
بتبوك «6» فى المحرّم.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ست أذرع وثلاث عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وثمانى أصابع.
[ما وقع من الحوادث سنة 677]
السنة الثانية من ولاية الملك السعيد على مصر، وهى سنة سبع وسبعين
وستمائة.
(7/279)
فيها توفّى الشيخ الإمام زين الدين أبو
العباس إبراهيم بن أحمد بن أبى الفرج «1» الدّمشقىّ الحنفىّ المعروف
بابن السّديد إمام مقصورة الحنفيّة «2» شمالى جامع دمشق وناظر وقفها.
كان إماما فقيها ديّنا كثير الخير غزير المروءة. مات فى جمادى الأولى
ببستانه بالمزّة «3» ودفن بسفح قاسيون.
وفيها توفّى الأمير شمس الدّين آق سنقر بن عبد الله الفارقانىّ، كان
أصله من مماليك الأمير نجم الدين حاجب الملك الناصر صلاح الدين يوسف
صاحب الشام، ثم انتقل إلى ملك السلطان الملك الظاهر بيبرس، وتقدّم عنده
وجعله أستادارا كبيرا. وكان للملك الظاهر عدّة أستادارية، وكان الملك
الظاهر كثير الوثوق به فى أموره ويستنيبه فى غيبته ويقدّمه على عساكره،
ولمّا صار الأمر إلى الملك السعيد جعله نائبه لسائر الممالك بعد بيليك
الخازندار، فلمّا ثارت الخاصّكيّة قبضوا عليه وقتلوه، وقيل إنّه بقى فى
هذه السنة، والأصحّ أنّهم قبضوا عليه وسجنوه إلى أن مات فى جمادى
الأولى من هذه السنة. وكان أميرا كبيرا جسيما شجاعا مقداما مهابا ذا
رأى وتدبير وعقل ودهاء، كثير البرّ والصدقات عالى الهمّة، وله مدرسة
«4» عند داره داخل باب سعادة «5» بالقاهرة.
(7/280)
وفيها توفّى الأمير جمال الدين آقوش بن عبد
الله النّجيبىّ الصالحىّ النّجمىّ الأيّوبىّ، كان مقرّبا عند أستاذه
الملك الصالح وولّاه أستادارا، وكان كثير الاعتماد عليه. ثم ولّاه
الملك الظاهر بيبرس نيابة دمشق فأقام بها تسع سنين، ثم عزله وتركه
بطّالا بالقاهرة إلى أن مات بها فى ليلة الجمعة خامس شهر ربيع الآخر
بداره «1» بدرب ملوخيّا من القاهرة، ودفن يوم الجمعة بتربته «2»
بالقرافة الصغرى.
وفيها توفّى الشيخ جمال الدين طه بن إبراهيم بن أبى بكر بن أحمد بن
بختيار الهذبانى الإربلىّ، كان عنده فضيلة وأدب ورياسة، وله يد فى
النظم. ومات فى جمادى الأولى. ومن شعره فى النهى عن النظر فى النجوم:
دع النجوم لطرقىّ «3» يعيش بها ... وبالعزيمة فانهض أيّها الملك
إنّ النّبيّ وأصحاب النّبيّ نهوا ... عن النجوم وقد أبصرت ما ملكوا
وفيها توفّى قاضى القضاة مجد الدين أبو المجد عبد الرحمن بن عمر بن
أحمد بن هبة الله العقيلىّ الحلبىّ الحنفىّ ابن الصاحب كمال الدين عمر
«4» بن العديم. كان إماما
(7/281)
عالما فاضلا كبير الديانة والورع، كان جمع
بين العلم والعمل والرياسة، ولى قضاء دمشق مع عدّة تداريس، ولم يزل
قاضيا إلى أن توفّى بظاهر دمشق بجوسقه «1» الذي على الشّرف [الأعلى «2»
] القبلى فى يوم الثلاثاء سادس عشر شهر ربيع الاخر، ودفن فى تربة
أنشأها قبالة الجوسق المذكور. ومن شعره ما كتبه لخاله عون الدين سليمان
«3» ابن العجمىّ بسبب ابن مالك، فقال:
أمولاى عون الدين يا راويا لنا ... حديث المعالى عن عطاء ونافع
بعيشك حدّثنى حديث ابن مالك ... فأنت له يا مالكى خير شافع
وفيها توفّى الشيخ موفّق الدين أبو محمد عبد الله بن عمر بن نصر الله
الأنصارىّ، كان أديبا فاضلا. قال الشيخ قطب الدين اليونينىّ فى الذيل
على المرآة: «صاحبنا [كان أديبا فاضلا «4» مقتدرا على النظم] ، وله
مشاركة فى علوم كثيرة، منها: الكحل والطبّ، وغير ذلك من الفقه والنحو
والأدب، ويعظ الناس، حلو النادرة حسن المحاضرة» . انتهى كلام قطب
الدين. قلت ومن شعره:
قلبى وطرفى فى ديارهم ... هذا يهيم بها وذا يهمى
رسم الهوى لما وقفت بها ... للدمع أن يجرى على الرسم
وفيها توفّى الأديب نجم الدين أبو المعالى محمد بن سوّار بن إسرائيل بن
الخضر بن إسرائيل الشّيبانىّ الدمشقىّ المولد والدار والوفاة، كان
أديبا فاضلا قادرا على النظم
(7/282)
صوفيّا. وقد ذكرنا حكايته مع الشّهاب «1»
الخيمىّ لمّا ادّعى كلّ منهما القصيدة البائية التى أوّلها:
يا مطلبا ليس لى فى غيره أرب
وتداعيا عند الشيخ شرف الدين عمر بن الفارض فأمر ابن الفارض أن يعمل كل
منهما قصيدة على الوزن والقافية فعملا ذلك، فحكم ابن الفارض بالقصيدة
للشهاب الخيمىّ. وقد ذكرنا القصائد الثلاث فى «المنهل الصافى» فى ترجمة
شهاب الدين الخيمىّ. وابن إسرائيل هذا ممّن تكلّموا فيه ورموه
بالاتّحاد.
والله أعلم بحاله. ومن شعر ابن إسرائيل هذا على مذهب القوم:
خلا منه طرفى وامتلا منه خاطرى ... فطرفى له شاك وقلبى شاكر
ولو أنّنى أنصفت لم تشك مقلتى ... بعادا ودارات الوجود مظاهر
وله أيضا:
يا من تناءى وفؤادى داره ... مضناك قد أقلقه تذكاره
صددت عنه قبل ما وصلته ... وكان قبل سكره خماره
وفيها توفّى الشيخ الإمام العلّامة مجد الدين أبو عبد الله محمد بن
أحمد بن عمر ابن أحمد بن أبى شاكر الإربلىّ الأديب الفقيه الحنفىّ
المعروف بابن الظّهير. مولده بإربل فى ثانى صفر سنة اثنتين وستمائة
ونشأ بها، وطلب العلم وتفقّه وبرع فى الفقه والأصول والعربيّة، وقدم
دمشق وتصدّى بها للإقراء والتدريس ودرّس بالقايمازيّة «2»
(7/283)
بدمشق؛ وهو من أعيان شيوخ الأدب وفحول
المتأخرين وله ديوان شعر، وسمع الحديث ببغداد من أبى بكر بن الخازن «1»
والكاشغرىّ «2» [و] بدمشق من السّخاوىّ «3» وكريمة «4» وتاج «5» الدين
بن حمّويه؛ وروى عنه أبو شامة «6» والقوصىّ «7» والدّمياطى «8» والشهاب
«9» محمود، وعليه تدرّب فى الأدب، و [أبو الحسين «10» ] اليونينىّ
والحافظ «11» جمال الدين المزّىّ.
ولمّا مات رثاه تلميذه الشّهاب محمود بقصيدة أوّلها:
تمكّن «12» ليلى واطمأنّت كواكبه ... وسدّت على صبح «13» الغداة مذاهبه
بكته معاليه ولم ير قبله ... كريم مضى والمكرمات نوادبه «14»
ومن شعر ابن الظّهير:
قلبى «15» وطرفى ذا يسيل دما وذا ... دون «16» الورى أنت العليم بقرحه
(7/284)
وهما بحبّك شاهدان وإنّما ... تعديل كلّ
منهما فى جرحه
والقلب منزلك القديم فإن تجد ... فيه سواك من الأنام فنحّه
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الأديب نجم
الدين محمد [بن «1» سوّار] بن إسرائيل الحريرى «2» الشاعر المشهور فى
شهر ربيع الآخر. والإمام مجد الدين محمد بن أحمد بن عمر بن الظّهير
الحنفىّ الأديب فى شهر ربيع الآخر أيضا.
والأمير شمس الدين آق سنقر الفارقانىّ فى الحبس فى جمادى الأولى.
والأمير جمال الدين آقوش النّجيبىّ بالقاهرة فى شهر ربيع الآخر. وشيخ
الحنفية وقاضيهم الصّدر سليمان بن أبى العزّ بن وهيب «3» الحنفى فى
شعبان، وله ثلاث وثمانون سنة.
والصاحب مجد الدين أبو المجد عبد الرحمن بن أبى القاسم عمر بن أحمد بن
هبة الله العقيلىّ قاضى الحنفية فى شهر ربيع الآخر، وله ثلاث وستون
سنة. والوزير بهاء الدين علىّ بن محمد بن سليم «4» المصرىّ بن حنّا فى
ذى القعدة. والمحدّث ناصر الدين محمد ابن عربشاه «5» الهمذانىّ فى
جمادى الأولى. والمحدّث شهاب الدين أحمد بن محمد بن عيسى الجزرىّ. وأبو
المرجىّ «6» المؤمّل بن محمد بن علىّ [بن محمد «7» بن علىّ بن منصور
عزّ الدين] البالسىّ فى رجب.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وإحدى وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وخمس أصابع.
(7/285)
ذكر سلطنة الملك العادل سلامش «1» على مصر
هو السلطان الملك العادل بدر الدين سلامش ابن السلطان الملك الظاهر ركن
الدين بيبرس البندقدارىّ الصالحىّ النجمىّ السادس من ملوك الترك بمصر.
تسلطن بعد خلع أخيه الملك السعيد أبى المعالى ناصر الدين محمد بركة خان
باتّفاق الأمراء على سلطنته، وجلس على سرير الملك فى يوم الأحد سابع
عشر شهر ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وستمائة وعمره يوم تسلطن سبع سنين.
وجعلوا أتابكه ومدبّر مملكته الأمير سيف الدين قلاوون الصالحى
النّجمىّ. وضربت السّكّة على أحد الوجهين باسم الملك العادل سلامش هذا،
وعلى الوجه الآخر اسم الأمير قلاوون؛ وخطب لهما أيضا على المنابر.
واستمرّ الأمر على ذلك وصار الأمير قلاوون هو المتصرّف فى الممالك
والعساكر والخزائن، ولم يكن لسلامش فى السلطنة مع قلاوون إلّا مجرّد
الاسم فقط. وأخذ قلاوون فى الأمر لنفسه. فلمّا استقام له الأمر دخل
إليه الأمير شمس الدين سنقر الأشقر ووافقه على السلطنة وأخفى ذلك لكونه
كان خشداشه، وكان الأمير عزّ الدين أيدمر نائب الشام عاد إلى الشام بمن
معه بعد خلع الملك السعيد، فوصل إلى دمشق يوم الأحد مستهلّ جمادى
الأولى، فخرج لتلقّيه من كان تخلّف بدمشق من الأمراء والجند، والمقدّم
عليهم الأمير جمال الدين آقوش الشمسىّ. وكان قلاوون قد كاتب آقوش فى
أمر أيدمر هذا والقبض عليه، فلمّا وصلوا إلى مصلّى العيد بقصر حجّاج
احتاط الأمير جمال الدين آقوش الشمسى والأمراء الذين معه على الأمير
أيدمر نائب الشام وأخذوه بينهم، وفرّقوا بينه وبين عسكره الذين حضروا
معه من الديار المصريّة، ودخلوا إلى
(7/286)
دمشق من باب «1» الجابية، ورسموا عليه بدار
فى دمشق؛ ثمّ نقلوه إلى قلعة دمشق واعتقلوه بها. وكان الملك السعيد قبل
أن يخرج من الشام سلّم قلعة دمشق للأمير علم الدين سنجر الدّويدارىّ
وجعله النائب عنه أيضا فى البلد. ثمّ أرسل قلاوون جمال الدين آقوش
الباخلى وشمس الدين سنقر جاه [الكنجىّ «2» ] إلى البلاد الشاميّة وعلى
يدهم نسخة الأيمان بالصورة التى استقرّ الحال عليها بمصر، وأحضروا
الأمراء والجند والقضاة والعلماء وأكابر البلد للحلف، وكان معهم نسخة
بالمكتوب المتضمّن خلع الملك السعيد وتولية الملك العادل سلامش، فقرئ
ذلك على الناس وحلفوا واستمرّ الحلف أيّاما. ثمّ إنّ الأمير قلاوون
ولّى خشداشه الذي اتّفق معه على السلطنة، وهو الأمير شمس الدين سنقر
الأشقر، نيابة الشام وأعمالها فتوجّه سنقر الأشقر إليها، ودخلها يوم
الأربعاء ثالث جمادى الآخرة من سنة ثمان وسبعين المذكورة بتجمّل زائد،
فكان موكبه يضاهى موكب السلطان، وعند وصوله إلى دمشق أمر الأمير علم
الدين سنجر الدّويدارىّ بالنزول من قلعة دمشق فنزل فى الحال. وصفا
الوقت للأمير قلاوون بمسك أيدمر نائب الشام، وبخروج سنقر الأشقر من
الديار المصريّة وانبرم أمره مع الأمراء والخاصّكيّة، واتّفقوا معه على
خلع الملك العادل سلامش من السلطنة وتوليته إيّاها. فلمّا كان يوم
الثلاثاء حادى عشرين شهر رجب سنة ثمان وسبعين وستمائة اجتمع الأمراء
والقضاة والأعيان بقلعة الجبل وخلعوا الملك العادل بدر الدين سلامش من
السلطنة لصغر سنّه، وتسلطن عوضه أتابكه الأمير سيف الدين قلاوون الألفى
الصالحىّ النّجمىّ،
(7/287)
ونعت بالملك المنصور، على أنّه كان هو
المتصرّف فى المملكة منذ خلع الملك السعيد وتسلطن الملك العادل سلامش،
ولم يكن لسلامش فى أيام سلطنته غير الاسم، وقلاوون هو الكلّ! وكان عدم
سلطنة قلاوون قبل سلامش أنّه خاف ثورة المماليك الظاهريّة عليه، فإنّهم
كانوا يوم ذاك هم معظم عسكر الديار المصريّة، وأيضا كانت بعض القلاع فى
يد نوّاب الملك السعيد فلمّا مهّد أمره تسلطن. ولمّا بلغ سنقر الأشقر
سلطنة قلاوون داخله الطّمع فى الملك وأظهر العصيان، على ما سيأتى ذكره
فى ترجمة الملك المنصور قلاوون إن شاء الله تعالى.
وكانت مدّة سلطنة الملك العادل بدر الدين سلامش على مصر ثلاثة أشهر
وستّة «1» أيام. ولزم الملك العادل سلامش داره عند أمّه إلى أن أرسله
الملك المنصور قلاوون إلى الكرك، فأقام به عند أخيه الملك خضر «2»
مدّة؛ ثم رسم الملك المنصور بإحضاره «3» إلى القاهرة فحضر إليها، وبقى
خاملا إلى أن مات الملك المنصور قلاوون وتسلطن من بعده ولده الملك
الأشرف خليل بن قلاوون، جهزه وأخاه الملك خضرا وأهله إلى مدينة اسطنبول
بلاد الأشكرى، فأقام هناك إلى أن توفّى بها فى سنة تسعين وستمائة. وكان
شابّا مليحا جميلا تامّ الشكل رشيق القدّ طويل الشّعر ذا حياء
(7/288)
ووقار وعقل تامّ. مات وله من العمر قريب من
عشرين سنة؛ قيل: إنّه كان أحسن أهل زمانه، وبه افتتن جماعة من الناس،
وشبّب به الشعراء وصار يضرب به المثل فى الحسن حتى يقول القائل: «ثغر
سلامسىّ» . انتهت ترجمة الملك العادل سلامش، رحمه الله.
ما وقع من الحوادث سنة السنة التى حكم فيها الملك السعيد إلى سابع عشر
شهر ربيع الآخر، ثم حكم من سابع عشر شهر ربيع الآخر إلى حادى عشرين شهر
رجب الملك العادل سلامش، ثم فى باقيها الملك المنصور سيف الدين قلاوون
الألفىّ، وهى سنة ثمان وسبعين وستمائة.
فيها كان خلع ولدى الملك الظاهر بيبرس من السلطنة: الملك السعيد محمد
بركة خان، والملك العادل بدر الدين سلامش، وتسلطن بعد سلامش الأمير
قلاوون.
وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه.
وفيها توفّى الفقيه المحدّث صفىّ الدين أبو [محمد «1» ] إسحاق [بن «2»
] إبراهيم بن يحيى الشّقراوىّ «3» الحنبلى، ولد بشقراء من ضياع برزة
«4» من عمل دمشق سنة خمس وستمائة.
ومات بدمشق فى ذى الحجّة، وكان فاضلا فقيها سمع الكثير وحدّث.
وفيها توفّى الأمير جمال الدين آقوش بن عبد الله الرّكنىّ المعروف
بالبطاح «5» أحد أكابر أمراء دمشق، عاد من تجريدة سيس مريضا ومات بحلب
ونقل إلى حمص فدفن عند قبر خالد بن الوليد، رضى الله عنه. والركنى:
نسبة الى أستاذه
(7/289)
الأمير ركن الدين بيبرس الصالحىّ النّجمىّ
الذي لقى الفرنج بأرض غزّة وكسرهم، وهو غير الملك الظاهر بيبرس.
وفيها توفّى الأمير جمال الدين آقوش بن عبد الله الشّهابىّ السّلحدار،
كان أيضا فى تجريدة سيس وعاد مريضا، وتوفّى بحماة ثم نقل إلى دمشق ودفن
عند خشداشه أيدكين [بن عبد الله «1» ] الشهابى، نسبة إلى الطّواشى شهاب
الدين رشيد الخادم الصالحىّ الكبير وهو أستاذهما.
وفيها توفّى الأمير نور الدين أبو الحسن علىّ بن عمر بن مجلّىّ
الهكّارىّ، كان من أجل الأمراء وأعظمهم، ولى نيابة حلب، وكان حسن
السيرة عالى الهمة كريم الأخلاق شجاعا مقداما عارفا مدبّرا معظّما فى
الدّول. مات بعد عزله عن نيابة حلب فى مرض موته باستعفائه عنها بها فى
شهر ربيع الآخر ودفن بها، وقد نيّف على السبعين سنة، رحمه الله تعالى.
وفيها توفّى الشيخ جمال الدين أبو زكريّا يحيى بن أبى المنصور بن أبى
الفتح ابن رافع بن علىّ الحرّانىّ الحنبلىّ المعروف بابن الصّيرفىّ،
كان إماما فقيها عالما مفتنّا فى الفقه متبحّرا فيه كثير الإفادة،
وأفتى ودرّس وانتفع به الطلبة، ومات فى صفر.
الذين ذكر الذهبى وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى السلطان الملك
السعيد ناصر الدين محمد بن الظاهر بالكرك فى ذى القعدة، وله عشرون سنة
وأشهر.
والمسند أبو العبّاس أحمد بن أبى الخير سلامة بن إبراهيم الحدّاد
الحنبلىّ يوم عاشوراء.
والإمام جمال الدين يحيى بن أبى المنصور بن الصّيرفىّ الحرّانىّ فى
صفر، وله خمس
(7/290)
وتسعون سنة. وصفىّ الدين إسحاق بن إبراهيم
الشّقراوىّ. وفاطمة بنت الملك المحسن «1» ببزاعة «2» .
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ست أذرع سواء. مبلغ الزيادة
ثمانى عشرة ذراعا وإصبع واحدة.
(7/291)
ذكر سلطنة الملك
المنصور سيف الدين قلاوون على مصر
السلطان الملك المنصور سيف الدين أبو المعالى وأبو الفتح «1» قلاوون بن
عبد الله الألفىّ التركىّ الصالحىّ النّجمىّ السابع من ملوك الترك
بالديار المصرية، والرابع ممن مسّه الرّقّ.
ملك الديار المصرية بعد خلع الملك السعيد وصار مدبّر مملكة الملك
العادل بدر الدين سلامش إلى أن خلع سلامش وتسلطن الملك المنصور قلاوون
هذا من بعده فى حادى «2» عشرين، وقيل عشر شهر رجب سنة ثمان وسبعين
وستمائة، وجلس على سرير الملك بأبّهة السلطنة وشعار الملك وتمّ أمره.
ولمّا استقل بالمملكة أمسك جماعة كثيرة من المماليك والأمراء الظاهريّة
وغيرهم، واستعمل مماليكه على البلاد والقلاع، فلم يبلع ريقه حتّى خرج
عليه الأمير شمس الدين سنقر الأشقر نائب دمشق، فإنّه لمّا وصل إليه
البريد إلى دمشق بسلطنة المنصور قلاوون فى يوم الأحد سادس «3» عشرى
رجب، وعلى يده نسخة يمين التّحليف للأمراء والجند وأرباب الدولة وأعيان
الناس، فأحضروا إلى دار «4» السعادة بدمشق وحلفوا إلّا الأمير سنقر
الأشقر نائب الشام، فإنّه لم يحلف ولا رضى بما جرى من خلع سلامش وسلطنة
قلاوون،
(7/292)
فلم يلتفت أهل دمشق إلى كلامه. وخطب بجامع
دمشق للملك المنصور قلاوون وجوامع الشام بأسرها خلا مواضع يسيرة
توقّفوا، ثم خطبوا بعد ذلك.
وأمّا الملك المنصور قلاوون فإنّه فى شهر رمضان عزل الصاحب برهان الدين
السّنجارىّ «1» عن الوزارة بالديار المصريّة، وأمره بلزوم مدرسة «2»
أخيه قاضى القضاة بدر الدين السّنجارىّ بالقرافة الصغرى، واستقرّ مكانه
فى الوزاره الصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان صاحب ديوان الإنشاء
الشريف بالديار المصريّة، وتولّى عوضه صحابة الديوان القاضى فتح الدين
محمد ابن القاضى محيى الدين [عبد «3» الله] بن عبد الظاهر، وهو أوّل
كاتب سرّ كان فى الدولة التّركية وغيرها، وإنما كانت هذه الوظيفة فى
ضمن الوزارة، والوزير هو المتصرّف فى الديوان، وتحت يده جماعة من
الكتاب الموقّعين، وفيهم رجل كبير كنائب كاتب السّر الآن، سمّى فى
الآخر صاحب ديوان الإنشاء. ومن الناس من قال: إنّ هذه الوظيفة قديمة.
واستدلّ بقول صاحب صبح الأعشى وغيره ممّن كتب للنبىّ، صلى الله عليه
وسلم، ومن بعده.
وردّ على من قال ذلك جماعة أخر، وقالوا: ليس فى ذكر من كتب للنبىّ،
صلّى الله عليه وسلّم، وغيره من الخلفاء دلاله على وظيفة كتابة السّر،
وإنّما هو دليل لكلّ كاتب كتب لملك أو سلطان أو غيرهما كائنا من كان،
فكلّ كاتب كتب عند رجل يقول: هو أنا ذاك الكاتب، وإذا الأمر احتمل
واحتمل سقط الاحتجاج به. ومن قال: إنّ هذه الوظيفة ما أحدثها إلّا
الملك المنصور قلاوون فهو الأصح، ونبيّن ذلك، إن شاء الله تعالى، فى
أواخر هذه الترجمة، وتذكر من ذكره
(7/293)
صاحب صبح الأعشى وغيره من الكتّاب من عهد
النّبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، إلى يومنا هذا على سبيل الاختصار.
انتهى. وقد خرجنا عن المقصود.
وأمّا سنقر الأشقر فإنّه فى يوم الجمعة رابع عشرى «1» ذى القعدة من
السنة ركب من دار السعادة بدمشق بعد صلاة العصر ومعه جماعة من الأمراء
والجند، وهم رجّالة وهو راكب وحده وقصد القلعة من الباب الذي يلى
المدينة فهجمها بمن كان معه، وطلعها وجلس بها من ساعته وحلّف الأمراء
والجند ومن حضر وتسلطن وتلقب «بالملك الكامل» ، ونادت المنادية فى
المدينة بسلطنته واستقلاله بالممالك الشاميّة، وفى بكرة يوم السبت خامس
عشرين ذى القعدة طلب القضاة والعلماء ورؤساء البلد وأكابره وأعيانه إلى
مسجد أبى الدّرداء، رضى الله عنه، بقلعة دمشق وحلّفهم وحلّف بقيّة
الناس على طاعته؛ ثم وجّه العساكر فى يوم الأربعاء تاسع عشرينه إلى
بلاد غزّة لحفظ البلاد ومغلّها ودفع من يأتى إليها من الديار المصريّة.
وخرجت سنة ثمان وسبعين وليس للملك المنصور قلاوون حكم إلّا على الديار
المصرية وأعمالها فقط.
ولمّا استهلت سنة تسع وسبعين والملك المنصور سلطان مصر، والملك الكامل
شمس الدين سنقر الأشقر سلطان دمشق وما والاها، وصاحب الكرك الملك
المسعود خضر ابن الملك الظاهر بيبرس، وصاحب حماة والمعرّة الملك
المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك تقي الدين محمود الأيّوبىّ؛ والعراق
والجزيرة والموصل وإربل وأذربيجان وديابكر وخلاط وخراسان والعجم وما
وراء ذلك بيد التّتار والروم؛ وصاحب اليمن الملك المظفّر شمس الدين
يوسف بن عمر [بن علىّ بن»
رسول] ، وصاحب مكّة، شرّفها الله تعالى، الشريف نجم الدين أبو نمىّ
الحسنىّ، وصاحب المدينة الشريفة،
(7/294)
على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، الأمير
عزّ الدين جمّاز بن شيحة الحسينىّ؛ ذكرنا هؤلاء تنبيها للناظر فى
الحوادث الآتية، ليكون فيما يأتى على بصيرة. انتهى.
ثم إنّ السلطان الملك المنصور قلاوون فى أوّل سنة تسع وسبعين وستّمائة
المذكورة جهّز عسكرا لغزّة، فلمّا قاربوها لقيهم عسكر الملك الكامل
سنقر الأشقر وقاتلوهم حتّى نزحوهم عنها، وانكسر العسكر المصرىّ وقصد
الرّمل واطمأنّ الشاميّون بغزّة ونزلوا بها ساعة من النهار، وكانوا فى
قلّة، فكرّ عليهم عساكر الديار المصريّة ثانيا وكبسوهم ونالوا منهم
منالا كبيرا، ورجع عسكر الشام منهزما إلى مدينة الرّملة «1» .
وأمّا الملك الكامل سنقر الأشقر فإنّه قدم عليه بدمشق الأمير شرف الدين
عيسى ابن مهنّا ملك العرب بالبلاد الشرقيّة والشماليّة؛ ودخل على
الكامل وهو على السّماط فقام له الكامل، فقبّل عيسى الأرض وجلس عن
يمينه فوق من حضر.
ثم وصل إلى الملك الكامل أيضا الأمير شهاب الدين أحمد بن حجّىّ بن بريد
«2» ملك العرب بالبلاد الحجازيّة فأكرمه الملك الكامل غاية الإكرام.
وأمّا الملك المنصور لما بلغه ما وقع لعسكره بغزّة جهّز عسكرا آخر
كثيفا إلى دمشق لقتال الملك الكامل سنقر الأشقر، ومقدّمهم الأمير علم
الدين سنجر الحلبىّ، وخرجوا من مصر وساروا إلى جهة الشام، فصار عسكر
دمشق الذي بالرّملة كلّما تقدّم العسكر المصرىّ منزلة تأخّر هو منزلة
إلى أن وصل أوائلهم إلى دمشق فى أوائل صفر. وفى يوم الأربعاء ثانى عشر
صفر المذكور خرج الملك الكامل من دمشق بنفسه بجميع من عنده من العساكر،
وضرب دهليزه بالجسورة «3» وخيّم هناك
(7/295)
بجميع الجيش، واستخدم المماليك وأنفق
الأموال، وجمع خلقا عظيما وحضر عنده عرب الأميرين: ابن مهنّا وابن
حجّىّ ونجدة حلب ونجدة حماة، مقدّمهما الملك الأفضل نور الدين علىّ أخو
صاحب حماة؛ ورجّالة كثيرة من جبال بعلبكّ، ورتّب العساكر والأطلاب
بنفسه وصفّ العساكر ميمنة وميسرة ووقف هو تحت عصائبه؛ وسار العسكر
المصرى أيضا بترتيب هائل وعساكر كثيرة، والأطلاب أيضا مرتّبة، والتقى
الجيشان فى يوم الأحد [سادس «1» عشر صفر] وقت طلوع الشمس فى المكان
المذكور وتقاتلا أشدّ قتال، وثبت كلّ من الطائفتين ثباتا لم يسمع بمثله
إلّا نادرا لا سيّما الملك الكامل سنقر الأشقر، فإنّه ثبت وقائل بنفسه
قتالا شديدا، واستمرّ المصافّ بين الطائفتين إلى الرابعة من النهار ولم
يقتل من الفريقين إلا نفر يسير جدّا، وأمّا الجراح فكثيرة. فلمّا كانت
الساعة الرابعة من النهار خامر أكثر عسكر دمشق على الملك الكامل سنقر
الأشقر وغدروا به وانضافوا إلى العسكر المصرىّ، وكان «2» لما وقع العين
على العين قبل أن يلتحم القتال انهزم عساكر حماة وتخاذل عسكر الشام على
الكامل، فمنهم: من دخل بساتين دمشق واختفى بها، ومنهم من دخل دمشق
راجعا، ومنهم من ذهب إلى طريق بعلبكّ، فلم يلتفت الملك الكامل لمن ذهب
منه من العساكر وقاتل، فلمّا انهزم عنه من ذكرنا فى حال القتال ضعف
أمره ومع هذا استمرّ يقاتل بنفسه ومماليكه إلى أن رأى الأمير عيسى بن
مهنّا الهزيمة على الملك الكامل أخذه ومضى به إلى الرّحبة «3» ، وأنزله
عنده ونصب له بيوت الشّعر.
وأمّا الأمير شهاب الدين أحمد بن حجّىّ فإنّه دخل إلى دمشق بالأمان،
ودخل وطاعة الملك المنصور قلاوون.
(7/296)
وأمّا عساكر الشام فإنهم اجتمعوا على القصب
من عمل حمص، ثم عاد أكثر الأمراء إلى جهة دمشق وطلبوا الأمان من مقدّم
العساكر المصرية الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ.
وأمّا العساكر المصرية فإنّهم ساقوا من وقتهم إلى مدينة دمشق وأحاطوا
بها، ونزلوا بخيامهم ولم يتعرّضوا للزحف، وراسلوا من بالقلعة إلى العصر
من ذلك النهار، وفتح من المدينة باب الفرج ودخل منه إلى دمشق بعض
مقدّمى الجيش؛ ثم طلب من بالقلعة الأمان فأمّنهم سنجر الحلبى، ففتحت
القلعة فدخلوا إليها من الباب الذي داخل المدينة وتسلّموها بالأمان
وأفرجوا عن جماعة كثيرة من الأمراء وغيرهم، كان اعتقلهم سنقر الأشقر،
منهم: الأمير ركن الدين «1» بيبرس العجمىّ المعروف بالجالق، والجالق:
اسم للفرس الحادّ المزاج باللغة التركية، والأمير حسام الدين لاچين «2»
المنصورىّ، والقاضى تقىّ الدين توبة «3» التّكريتىّ وغيرهم.
وكتب الأمير علم الدين سنجر الحلبىّ بالنصر إلى الملك المنصور قلاوون
فسرّ المنصور بذلك، ودقّت البشائر لذلك أياما بالديار المصرية وزيّنت
القاهرة ومصر.
وأما سنجر الحلبىّ فإنه لما ملك دمشق وقلعتها جهز فى الحال قطعة جيّدة
من الجيش المصرىّ تقارب ثلاثة آلاف فارس فى طلب سنقر الأشقر ومن معه من
الأمراء والجند. ثم حضر جواب الملك المنصور قلاوون بسرعة يتضمّن: بأننا
قد عفونا عن جميع الناس الخاصّ والعام أرباب السيوف والأقلام،
وأمّنّاهم على أنفسهم وأهليهم وأموالهم؛ وحضر التشريف للأمير حسام
الدين لاچين المنصورى
(7/297)
السّلحدار بنيابة دمشق، فلبس الخلعة وقبّل
الأرض؛ ثم أردف الأمير سنجر الحلبىّ العسكر الذي كان توجّه لقتال سنقر
الأشقر بعسكر آخر، مقدّمه الأمير عزّ الدين الأفرم، فلحق بمن كان توجّه
قبله وسار الجميع فى طلب سنقر الأشقر. فلّما بلغ سنقر ذلك رحل عن عيسى
بن مهنّا وتوجّه فى البريّة إلى الحصون التى كانت بقيت فى يد نوّابه،
فتحصّن هو ومن معه بها فى أواخر الشهر المذكور وهى: صهيون، كان بها
أولاده وخزائنه ودخلها هو أيضا، وبلاطنس وحصن برزيه وحصن عكّار «1»
وجبلة واللّاذقيّة وغيرها؛ ثم عادت العساكر إلى دمشق وتردّدت الرسل
بينهم وبين سنقر الأشقر.
وبينما هم فى ذلك وردت الأخبار فى أوائل جمادى الآخرة أنّ التّتار
قصدوا البلاد الشاميّة، فخرج من كان بدمشق من العساكر الشاميّة
والمصريّة، ومقدّمهم الأمير ركن الدين اياجى «2» ، ولحقهم العساكر
الذين كانوا فى طلب سنقر الأشقر، ونزل الجميع بظاهر حماة؛ وكانوا
كاتبوا الملك المنصور قلاوون بمجيء التّتار. فجهّز إليهم فى الحال
عسكرا عليه الأمير بدر الدين بكتاش النّجمىّ، فلحق بهم الأمير بكتاش
«3» المذكور بمن معه من العسكر المصرىّ، واجتمع الجميع على حماة
وأرسلوا كشّافة فى العشر الأوسط من جمادى الآخرة إلى بلاد التّتار. هذا
وقد جفل غالب من بالبلاد الشاميّة وخرجوا عن دورهم ومنازلهم ولم يبق
هناك إلّا من عجز عن الحركة. وكان سبب حركة التّتار أنّهم لمّا سمعوا
اختلاف الكلمة، وظنّوا أنّ
(7/298)
سنقر الأشقر بمن معه يتّفق معهم على قتال
الملك المنصور قلاوون. فأرسل أمراء العساكر المصريّة إلى سنقر الأشقر
يقولون له: هذا العدوّ قد دهمنا وما سببه إلا الخلف بيننا! وما ينبغى
هلاك الإسلام، والمصلحة أنّنا نجتمع على دفعه؛ فامتثل سنقر ذلك وأنزل
عسكره من صهيون وأمر رفيقه الحاج أزدمر أن يفعل كذلك من شيزر، وخيّمت
كلّ طائفة تحت قلعتها، ولم يجتمعوا بالمصريين، غير أنهم اتّفقوا على
اجتماع الكلمة ودفع العدوّ المخذول عن الشام؛ واستمرّوا على ذلك إلى
يوم الجمعة حادى عشرين جمادى الآخرة. وصل طائفة كبيرة من عساكر التّتار
إلى حلب ودخلوها من غير مانع يمنعهم عنها، وأحرقوا الجوامع والمساجد
والمدارس المعتبرة ودار السلطنة ودور الأمراء، وأفسدوا إفسادا كبيرا
على عادة أفعالهم القبيحة، وأقاموا بها يومين على هذه الصورة؛ ثم رحلوا
عنها فى يوم الأحد ثالث عشرينه راجعين إلى بلادهم بعد أن تقدّمتهم
الغنائم التى كسبوها وكان شيئا كثيرا. وكان سبب رجوعهم لمّا بلغهم
اتّفاق الطائفتين على قتالهم؛ وقيل فى رجوعهم وجه آخر، وهو أن بعض من
كان استتر بحلب يئس عن نفسه «1» من الحياة؛ فطلع منارة الجامع وكبّر
بأعلى صوته على التّتار، وقال: جاء النّصر من عند الله وأشار بمنديل
كان معه إلى ظاهر البلد، وأوهم أنّه أشار به إلى عسكر المسلمين، وجعل
يقول فى خلال ذلك: اقبضوهم من البيوت مثل النّساء! فتوهّم التّتار من
ذلك وخرجوا من البلد على وجوههم وسلم الذي فعل ذلك.
وأمّا سنقر الأشقر فإنّ جماعة من الأمراء والأعيان الذين كانوا معه
فرّوا إلى العسكر المصرىّ ودخلوا تحت طاعة الملك المنصور قلاوون.
(7/299)
وأمّا الملك المنصور قلاوون فإنّه لما طال
عليه أمر سنقر الأشقر وأمر التّتار جمع أعيان مملكته فى هذا الشهر
بقلعة الجبل، وجعل ولده الأمير علاء «1» الدين عليّا ولىّ عهده، ولقبه
«الملك الصالح» ، وخطب له على المنابر. ثم تجهّز السلطان وخرج من
الديار المصريّة بعساكره، وسار حتى وصل إلى غزّة بلغه رجوع العدو
المخذول، فأقام بالرّملة وتوقّف عن التوجّه إلى دمشق لعدم الحاجة إلى
ذلك، وقصد تخفيف الوطأة عن البلاد وأهلها. ثم رحل يوم الخميس عاشر
شعبان راجعا من الرّملة إلى الديار المصريّة، فدخلها وأقام بها أقلّ من
أربعة أشهر. ثم بدا له التوجّه إلى الشام ثانيا، فتجهّز وتجهّزت عساكره
وخرج بهم من مصر فى يوم الأحد مستهلّ ذى الحجّة قاصدا الشام، وترك ولده
الملك الصالح عليّا يباشر الأمور عنه بالديار المصريّة.
وسار الملك المنصور قلاوون حتى وصل إلى الرّوحاء من عمل الساحل، ونزل
عليها فى يوم الثلاثاء سابع عشر ذى الحجّة، وأقام قبالة عكّا، فراسلته
الفرنج من عكّا فى تجديد الهدنة، فإنّها كانت انقضت مدّتها، وأقام بهذه
المنزلة حتى استهلّت سنة ثمانين وستّمائة رحل عنها يوم الخميس عاشر
المحرّم. ونزل اللّجّون «2» ، وحضر رسل الفرنج بها بحضرة الأمراء،
وسمعوا رسالة الفرنج، فآستشارهم السلطان فحصل الاتّفاق على الهدنة،
وحلف لهم الملك المنصور على الصورة التى وقع الاتّفاق عليها، وانبرم
الصلح وانعقدت الهدنة فى يوم الأحد ثالث عشر المحرّم. ثم قبض الملك
المنصور على الأمير كوندك «3» الظاهرىّ وعلى جماعة من الأمراء
الظاهريّة لمصلحة اقتضاها الحال، وعند قبضهم هرب الأمير سيف الدين
بلبان الهارونىّ ومعه
(7/300)
جماعة وقصدوا صهيون إلى عند سنقر الأشقر،
وركبت الخيل فى طلبهم فلم يدركوهم، ثم هرب الأمير أيتمش السّعدىّ أيضا
ومعه جماعة إلى صهيون من منزلة خربة «1» اللّصوص.
ثم سار الملك المنصور إلى دمشق فدخلها فى يوم السبت تاسع عشره، وأقام
بدمشق الى أن قدم عليه فى صفر الملك المنصور محمد صاحب حماة، فخرج
الملك المنصور قلاوون لتلقّيه وأكرمه. ثم تردّدت الرسل بين السلطان
الملك المنصور قلاوون وبين سنقر الأشقر فى تقرير قواعد الصلح. فلمّا
كان يوم الأحد رابع شهر ربيع الأوّل من سنة ثمانين وستمائة وصل من جهة
سنقر الأشقر الأمير علم الدين سنجر الدّويدارىّ «2» ومعه خازندار سنقر
الأشقر فى معنى الصلح والوقوف على اليمين، فحلف الملك المنصور قلاوون
يوم الاثنين خامسه، ونادت المنادية فى دمشق بانتظام الصلح واجتماع
الكلمة، فرجع رسل سنقر الأشقر ومعهم الأمير فخر «3» الدين اياز المقرئ
ليحضر يمين سنقر الأشقر، فحلفه وعاد إلى دمشق يوم الاثنين ثانى عشره،
فضربت البشائر بالقلعة وسرّ الناس بذلك غاية السرور. وصورة ما انتظم
الصلح عليه أنّ سنقر الأشقر يرفع يده عن شيزر ويسلّمها إلى نوّاب الملك
المنصور قلاوون، وعوّضه قلاوون عنها فامية وكفر طاب وأنطاكية
والسّويديّة «4» وبكاس ودركوش بأعمالها كلّها وعدّة ضياع معروفة، وأن
يقيم على ذلك، وعلى ما كان استقرّ بيده عند الصلح، وهو صهيون وبلاطنس
وحصن برزة وجبلة واللّاذقيّة
(7/301)
بستمائة فارس، وأنه يسلّم الأمر إلى الملك
المنصور قلاوون؛ وخوطب سنقر الأشقر فى مكاتباته «بالمقرّ العالى
المولوى السّيّدىّ العالمىّ العادلىّ الشمسىّ» ولم يصرح فى مخاطباته
بالملك ولا بالأمير، وكان يخاطب قبل ذلك فى مكاتباته من الملك المنصور
قلاوون إلى الجناب العالى الأميرى الشمسىّ. انتهى.
وبينما السلطان فى ذلك ورد عليه مجىء التّتار إلى البلاد الشامية وهو
بدمشق، فتهيّأ لقتالهم وأرسل يطلب العساكر المصرية، وبعد قليل حضرت
عساكر مصر إلى دمشق واجتمعت العساكر عند السلطان، ولم يتأخر أحد من
التّركمان والعربان وسائر الطوائف. ووصل الخبر بوصول التّتار إلى أطراف
بلاد حلب، فخلت حلب من أهلها وجندها ونزحوا إلى جهة حماة وحمص، وتركوا
الغلال والحواصل والأمتعة، وخرجوا جرائد على وجوههم؛ ثم ورد الخبر
بوصول منكوتمر بن هولاكو ملك التّتار إلى عينتاب وما جاورها فى يوم
الأحد سادس عشرين جمادى [الاخرة «1» ] فخرج الملك المنصور قلاوون
بعساكره فى يوم الأحد المذكور وخيّم بالمرج، ووصل التتار الى بغراس،
فقدّم الملك المنصور عسكره أمامه، ثم سافر هو بنفسه فى سلخ جمادى
الآخرة المذكور، وسار حتى نزل السلطان بعساكره على حمص فى يوم الأحد
ثالث «2» عشرين شهر رجب، وراسل سنقر الأشقر بالحضور إليه بمن معه من
الأمراء والعساكر، وكذلك الأمير أيتمش السّعدىّ الذي كان هرب من عند
السلطان لما قبض على الأمراء الظاهريّة؛ فامتثل سنقر الأشقر أمر
السلطان بالسمع والطاعة وركب من وقته بجماعته، وحضر إلى عند الملك
المنصور قلاوون، واستحلفه لأيتمش السّعدىّ يمينا ثانية ليزداد طمأنينة،
ثم أحضره وتكامل حضورهم
(7/302)
عند السلطان، وعامل السلطان سنقر الأشقر
بالاحترام التامّ والخدمة البالغة والإقامات العظيمة والرّواتب
الجليلة. وشرعت التّتار تتقدّم قليلا قليلا بخلاف عادتهم، فلمّا وصلوا
حماة أفسدوا بنواحيها، وشعّثوا وأحرقوا بستان الملك المنصور صاحب حماة
وجوسقه وما به من الأبنية. واستمرّ عسكر السلطان بظاهر حمص على حاله
إلى أن وصلت التّتار إليه فى يوم الخميس رابع عشر شعبان، فركب الملك
المنصور بعساكره وصافف العدوّ، والتقى الجمعان عند طلوع الشمس، وكان
عدد التّتار على ما قيل مائة ألف فارس أو يزيدون، وعسكر المسلمين على
مقدار النّصف من ذلك أو أقلّ، وتواقعوا من ضحوة النهار إلى آخره، وعظم
القتال بين الفريقين وثبت كلّ منهم.
قال الشيخ قطب الدين اليونينىّ: «وكانت وقعة عظيمة لم يشهد مثلها فى
هذه الأزمان ولا من سنين كثيرة، وكان الملتقى فيما بين مشهد خالد بن
الوليد، رضى الله عنه، إلى الرّستن «1» والعاصى، واضطربت ميمنة
المسلمين، وحملت التّتار على ميسرة المسلمين فكسروها وانهزم من كان
بها، وكذلك انكسر جناح القلب الأيسر وثبت الملك المنصور سيف الدين
قلاوون، رحمه الله تعالى، فى جمع قليل بالقلب ثباتا عظيما، ووصل جماعة
كثيرة من التّتار خلف المنكسرين من المسلمين إلى بحيرة حمص، وأحدق
جماعة من التّتار بحمص، وهى مغلقة الأبواب، وبذلوا نفوسهم وسيوفهم فيمن
وجدوه من العوامّ والسّوقة والغلمان والرّجّالة المجاهدين بظاهرها،
فقتلوا منهم جماعة كثيرة، وأشرف الإسلام على خطّة صعبة! ثم إنّ أعيان
الأمراء ومشاهيرهم وشجعانهم: مثل سنقر الأشقر المقدّم ذكره، وبدر الدين
بيسرى،
(7/303)
وعلم الدين سنجر الدّويدارىّ، وعلاء الدين
طيبرس الوزيرى، وبدر الدين بيليك أمير سلاح، وسيف الدين أيتمش
السّعدىّ، وحسام الدين لاچين المنصورىّ، والأمير حسام الدين طرنطاى «1»
وأمثالهم لمّا رأوا ثبات السلطان ردّوا على التّتار وحملوا عليهم حملات
حتّى كسروهم كسرة عظيمة، وجرح منكوتمر مقدّم التّتار، وجاءهم الأمير
شرف الدين عيسى بن مهنّا فى عربه «2» عرضا فتّمت هزيمتهم، وقتلوا منهم
مقتلة عظيمة تجاوز الوصف، واتّفق أنّ ميسرة المسلمين كانت انكسرت كما
ذكرنا، والميمنة ساقت على العدوّ ولم يبق مع السلطان إلّا النّفر
اليسير، والأمير حسام الدّين طرنطاى قدّامه بالسناجق، فعادت الميمنة
الذين كسروا ميسرة المسلمين فى خلق عظيم ومرّوا به، وهو فى ذلك النّفر
تحت السناجق (يعنى الملك المنصور قلاوون) والكوسات تضرب. قال: ولقد
مررت به فى ذلك الوقت وما حوله من المقاتلة ألف فارس إلا «3» دون ذلك،
فلمّا مرّوا به (يعنى ميمنة التّتار التى كانت كسرت ميسرة المسلمين)
ثبت لهم ثباتا عظيما، ثم ساق عليهم بنفسه فانهزموا أمامه لا يلوون على
شىء، وكان ذلك تمام النّصر؛ وكان انهزامهم عن آخرهم قبل الغروب،
وافترقوا فرقتين: فرقة أخذت جهة سلمية والبرّيّة، وفرقة أخذت جهة حلب
والفرات.
ولمّا انقضى الحرب فى ذلك النهار عاد السلطان إلى منزلته، وأصبح بكرة
يوم الجمعة سادس عشر رجب «4» جهّز السلطان وراءهم جماعة كثيرة من
العسكر والعربان، ومقدّمهم الأمير بدر الدين بيليك الأيدمرىّ، وكان
لمّا لاحت الكسرة على المسلمين
(7/304)
نهب لهم من الأقمشة والأمتعة والخزائن
والسلاح ما لا يحصى كثرة، وذهب ذلك كلّه أخذته الحرافشة «1» من
المسلمين مثل الغلمان وغيرهم. وكتبت البشائر بهذا النصر العظيم إلى
سائر البلاد، وحصل للناس السرور الذي لا مزيد عليه، وعملت «2» القلاع
وزيّنت المدن» .
وأمّا أهل دمشق فإنّه كان ورد عليهم الخبر أوّلا بكسرة المسلمين، ووصل
إليهم جماعة ممّن كان انهزم؛ فلمّا بلغهم النصر كان سرورهم أضعاف سرور
غيرهم.
وكان أهل البلاد الشامية من يوم خرج السلطان من عندهم إلى ملتقى
التّتار وهم يدعون الله تعالى فى كلّ يوم ويبتهلون إليه، وخرج أهل
البلاد بالنساء والأطفال إلى الصّحارى والجوامع والمساجد، وأكثروا من
الابتهال إلى الله، عزّ وجلّ، فى تلك الأيام لا يفترون عن ذلك حتى ورد
عليهم هذا النصر العظيم ولله الحمد، وطابت قلوب الناس، وردّ من كان نزح
عن بلاده وأوطانه واطمأنّ كلّ أحد وتضاعف شكر الناس لذلك. وقتل فى هذه
الوقعة من التّتار ما لا يحصى كثرة؛ وكان من استشهد من عسكر المسلمين
دون المائتين على ما قيل؛ وممّن قتل الأمير الحاج أزدمر، وسيف الدين
بلبان الرّومىّ، وشهاب الدين توتل «3» الشّهرزورىّ، [وناصر «4» الدين
بن جمال الدين الكاملىّ] ، و [عزّ الدين بن النّصرة] من «5» بيت
الأتابك صاحب الموصل وكان أحد الشّجعان المفرطين فى الشجاعة، رحمهم
الله تعالى أجمعين.
(7/305)
ثم إن السلطان انتقل من منزلته بظاهر حمص
إلى البحيرة التى بحمص ليبعد عن الجيف، ثم توجّه عائدا إلى دمشق فدخلها
يوم الجمعة الثانى والعشرين من شعبان قبل الصلاة، وخرج الناس إلى ظاهر
البلد للقائه، فدخل دمشق وبين يديه جماعة من أسرى التّتار وبأيديهم
رماح عليها رءوس القتلى من التّتار، فكان يوما مشهودا. ودخل السلطان
الشام وفى خدمته جماعة من الأعيان، منهم: سنقر الأشقر الذي كان تسلطن
وتلقّب بالملك الكامل، وأيتمش السعدىّ، و [الأمير علم الدين «1» سنجر]
الدّويدارىّ، وبلبان الهارونىّ؛ ثم قدم بعد ذلك [الأمير «2» بدر الدين]
الأيدمرىّ بمن معه من العسكر عائدا من تتبّع التّتار بعد ما أنكى فيهم
نكاية عظيمة، ووصل إلى حلب وأقام بها، وسيّر أكثر من معه يتبعونهم،
فهلك من التّتار خلق كثير غرقوا بالفرات عند عبورهم. وعند ما عدوه نزل
إليهم أهل البيرة فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأسروا منهم جمعا كثيرا،
وتفرّق جمع التّتار وأخذت أموالهم.
وأقام السلطان بدمشق إلى ثانى شهر رمضان خرج منه عائدا إلى الديار
المصريّة، وخرج الناس لوداعه مبتهلين بالدعاء له، وسار حتى دخل الديار
المصريّة يوم ثانى عشرين الشهر بعد أن احتفل أهل مصر لملاقاته، وزيّنت
الديار المصرية زينة لم ير مثلها من مدّة سنين، وعملت «3» بها القلاع،
وشقّ القاهرة فى مروره إلى قلعة الجبل حتى طلع إليها؛ فكان هذا اليوم
من الأيام المشهودة، وتضاعف سرور الناس بسلامته وبنصر المسلمين على
العدوّ المخذول.
ثمّ إنّ السلطان عقيب دخوله إلى مصر قبض على الأمير ركن الدين اياجى
الحاجب، وبهاء الدين يعقوب مقدّم الشّهرزوريّة بقلعة الجبل. واستمرّ
السلطان
(7/306)
بمصر إلى خامس ذى القعدة من السنة قبض على
الأمير أيتمش السّعدىّ بقلعة الجبل وحبسه بها، ثم أرسل إلى نائب دمشق
بالقبض على الأمير بلبان الهارونىّ بدمشق فقبض عليه.
وفى هذه السنة (أعنى سنة ثمانين وستمائة) تربت جزيرة «1» كبيرة ببحر
النيل تجاه قرية بولاق «2»
(7/307)
واللّوق «1» ، وانقطع بسببها مجرى البحر ما
بين قلعة المكس «2» وساحل
(7/308)
باب «1» البحر، والرّملة «2» [و] بين جزيرة
الفيل «3» وهو المار تحت منية السّيرج، وانسدّ هذا البحر ونشف
بالكلّية، واتصل ما بين المقس وجزيرة الفيل بالمشى، ولم يعهد
(7/309)
فيما تقدّم، وحصل لأهل القاهرة مشقّة من
نقل الماء الحلو لبعد البحر، فأراد السلطان حفره فنهوه عن ذلك، وقالوا
له: هذا ينشف إلى الأبد، فتأسّف السلطان وغيره على ذلك.
قلت: وكذا وقع، ونحن الآن لا نعرف أين كان جريان البحر المذكور إلّا
بالحدس، لإنشاء الأملاك والبساتين والعمائر والحارات فى محلّ مجرى
البحر المذكور، فسبحان القادر على كلّ شىء!
ثم فى أوّل سنة إحدى وثمانين وستمائة ورد الخبر على السلطان أنّه تسلطن
فى مملكة التّتار مكان أبغا بن هولاكو أخوه لأبيه أحمد بن هولاكو، وهو
مسلم حسن الإسلام وعمره يومئذ مقدار ثلاثين سنة، وأنّه وصلت أوامره إلى
بغداد تتضمّن إظهار شعائر الإسلام وإقامة مناره، وأنّه أعلى كلمة
الدين، وبنى الجوامع والمساجد والأوقاف ورتّب القضاة، وأنه انقاد إلى
الأحكام الشرعية، وأنّه ألزم أهل الذّمّة بلبس الغيار «1» ، وضرب
الجزية عليهم، ويقال إنّ إسلامه كان فى حياة والده هولاكو، فسرّ
السلطان بذلك سرورا عظيما. وبعد مدّة قبض السلطان على
(7/310)
الأمير بدر الدين بيسرى، وعلى علاء الدين
كشتغدى الشّمسىّ واعتقلهما بقلعة الجبل، وذلك فى يوم الأحد مستهلّ صفر
من السنة. واستمرّ السلطان على ذلك إلى يوم الأربعاء «1» ثانى عشرين
شعبان طافوا بكسوة البيت العتيق التى عملت برسم الكعبة، عظّمها الله
تعالى، بمصر والقاهرة على العادة، ولعبت مماليك السلطان الملك المنصور
قلاوون أمام الكسوة بالرّماح والسلاح.
قلت: وأظنّ هذا هو أوّل ابتداء سوق المحمل المعهود الآن، فإنّنا لم نقف
فيما مضى على شىء من ذلك مع كثرة التفاتنا إلى هذا المعنى، ولهذا غلب
على ظنّى من يوم ذاك بدأ السوق المعهود الآن، ولم يكن إذ ذاك على هيئة
يومنا هذا، وإنّما ازداد بحسب اجتهاد المعلّمين، كما وقع ذلك فى غيره
من الفنون والملاعيب والعلوم، فإن مبدأ كلّ أمر ليس كنهايته، وإنّما
شرع كلّ معلّم فى اقتراح نوع من أنواع السّوق إلى أن انتهى إلى ما نحن
عليه الآن، ولا سبيل إلى غير ذلك.
يعرف ما قلته من له إلمام بالفنون والعلوم إذا كان له ذوق وعقل. وعلى
هذه الصيغة أيضا اللعب بالرمح فإنّ مماليك قلاوون هم أيضا أحدثوه، وإن
كانت الأوائل كانت تلعبه، فليس كان لعبهم على هذه الطريقة؛ وأنا أضرب
لك مثلا لمصداق قولى فى هذا الفنّ، وهو أنّ مماليك الملك الظاهر برقوق
كان أكثرهم قد حاز من هذا الفنّ طرفا جيّدا، وصار فيهم من يضرب بلعبه
المثل، وهم جماعة كثيرة يطول الشرح فى ذكرهم، ومع هذا أحدث معلّمو
زماننا هذا أشياء لم يعهدوها أولئك من تغيير القبض على الرمح فى مواطن
كثيرة فى اللّعب، حتى إنّ لعب زماننا هذا يكاد أنّه يخالف لعب أولئك فى
غالب قبوضاتهم وحركاتهم. وهذا أكبر شاهد لى على ما نقلته من أمر
المحمل، وتعداد فنونه، وكثرة ميادينه، واختلاف
(7/311)
أسمائها لتغيير لعب الرمح فى هذه المدّة
اليسيرة من صفة إلى أخرى، فكيف وهذا الذي ذكرناه من ابتداء السوق من
سنة إحدى وثمانين وستمائة! فمن باب أولى تكون زيادات أنواع سوق المحمل
أحقّ بهذا لطول السنين، ولكثرة من باشره من المعلّمين الأستاذين،
ولتغير الدّول، ولمحبّة الملوك وتعظيمهم لهذا الفن، ولإنفاق سوق من كان
حاذقا فى هذا الفن. وقد صنّفت أنا ثمانية ميادين كلّ واحد يخالف الآخر
فى نوعه لم أسبق إلى مثلها قديما ولا حديثا، لكنّنى لم أظهرها لكساد
هذا الفنّ وغيره فى زماننا هذا، ولعدم الإنصاف فيه وكثرة حسّاده ممّن
يدّعى فيه المعرفة وهو أجنبىّ عنها، لا يعرف اسم نوع من أندابه «1» على
جليّته بل يدّعيه جهلا، ويقوى على دعواه بالشّوكة والعصبيّة. ولله درّ
القائل:
أيّها المدّعى سليمى كفاحا ... لست منها ولا قلامة ظفر
إنّما أنت من سليمى كواو ... ألحقت فى الهجاء ظلما بعمرو
وشاهدى أيضا قول العلّامة جار «2» الله محمود الزّمخشرىّ وأجاد، رحمه
الله تعالى:
وأخّرنى دهرى وقدّم معشرا ... على «3» أنّهم لا يعلمون وأعلم
ومذ أفلح الجهّال أيقنت «4» أنّنى ... أنا الميم والأيام أفلح أعلم
قلت: وتفسير الأفلح هو مشقوق الشّفة العليا، والأعلم مشقوق الشّفة
السّفلى، وفائدة ذلك أن مشقوق الشفتين العليا والسّفلى لا يقدر أن
يتلفّظ بالميم ولا ينطق بها. فانظر إلى حسن هذا التخيّل والغوص على
المعانى.
(7/312)
وما أحسن قول الإمام العلّامة القاضى «1»
الفاضل عبد الرحيم وزير السلطان صلاح الدّين، وهو:
ما ضرّ جهل الجاهلي ... ن ولا انتفعت أنا بحذقى
وزيادة فى الحذق فه ... ى زيادة فى نقص رزقى
وقول الشّريف «2» الرّضى فى المعنى:
ما قدر فضلك ما أصبحت ترزقه ... ليس الحظوظ على الأقدار والمهن
قد كنت قبلك من دهرى على حنق ... فزاد ما بك فى غيظى على الزمن
وفى المعنى:
كم فاضل فاضل أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الألباب حائرة ... وصيّر العالم النّحرير زنديقا
قلت: ويعجبنى المقالة السادسة عشرة من كتاب «أطباق الذهب» للعلّامة شرف
الدين عبد المؤمن الأصفهانىّ المعروف بشوروة «3» ، وهى:
«طبع الكريم لا يحتمل حمة «4» الضّيم، وهواء الصيف لا يقبل غمّة الغيم؛
والنّبيل يرضى النّبال والحسام، ويأبى أن يسام «5» ؛ ولأن يقتل صبرا،
ويودع قبرا؛ أحبّ إليه من أن يصيبه نشّاب الجفاء، من جفير «6» الأكفاء؛
يهوى المنيّة، ولا يرضى الدّنيّة؛ يستقبل السيف، ولا يقبل الحيف؛ إن
سيم أخذته الهزّة، وإن ضيم أخذته
(7/313)
العزّة؛ إن عاشرته سال عذبا، وإن عاسرته
سلّ عضبا «1» ؛ إن شاربته تخمّر، وإن حاربته تنمّر؛ يرى العزّ مغنما،
والذّل مغرما، وكان كأنف اللّيث لا يشتمّ مرغما!.
فيا هذا كن فى الدنيا مىّ الأنف منيع الجناب، أبىّ النفس طرير «2»
النّاب؛ ولا تصحب الدنيا صحبة بعال «3» ، ولا تنظر إلى أبنائها إلّا من
عال؛ ولا تخفض جناحك لبنيها، ولا تضعضع ركنك لبانيها؛ ولا تمدّن عينيك
إلى زخارفها، ولا تبسط يدك إلى مخارفها؛ وكن من الأكياس، واتل على
اللّئام سورة الناس «4» ، ولا تصعّر خدّك للناس» . انتهى.
قلت: وقد خرجنا عن المقصود غير أنّنا وجدنا المقال فقلنا. ولنعد إلى ما
نحن فيه من ترجمة الملك المنصور قلاوون.
ودام السلطان الملك المنصور بديار مصر إلى سنة ثلاث وثمانين وستمائة،
توفّى صاحب حماة الملك المنصور محمد الأيّوبىّ، فأنعم السلطان الملك
المنصور على ولده بسلطنة حماة، وولّاه مكان والده المنصور. ثم تجهّز
السلطان فى السنة المذكورة وخرج من الديار المصريّة بعسكره متوجّها إلى
الشام فى أواخر جمادى الأولى، وسار حتى دخل دمشق فى ثانى عشر جمادى
الآخرة، وأقام بدمشق إلى أن عاد إلى جهة الديار المصريّة فى الثّلث
الأخير من ليلة السبت ثالث عشرين شعبان، وسار حتى دخل مصر فى النصف من
شهر رمضان، وأقام بديار مصر إلى أوّل سنة أربع وثمانين وستمائة تجهّز
وخرج منها بعساكره إلى جهة الشام، وسافر حتى دخل دمشق يوم السبت ثانى
عشرين المحرّم من السنة المذكورة، وعرض العسكر الشامى عدّة أيّام،
وخرجوا جميعا قاصدين المرقب فى يوم الاثنين ثانى صفر. وكان
(7/314)
قد بقى فى يد سنقر الأشقر قطعة من البلاد،
منها: بلاطنس وصهيون وبرزيه وغير ذلك، وكان عمل السلطان فى الباطن
انتزاع ما يمكن انتزاعه من يد سنقر الأشقر المذكور وإفساد نوّابه.
فاتّفق الحال بين نوّاب السلطان وبين نوّاب سنقر الأشقر على تسليم
بلاطنس فسلّمت فى أوّل صفر. ووافى السلطان البشرى بتسليمها وهو على
عيون القصب فى توجّهه إلى حصار المرقب فسرّ بذلك واستبشر بنيل مقصوده
من المرقب؛ وكان فى نفس السلطان من أهل المرقب لما فعلوا مع عسكره ما
فعلوا فى السنين الماضية، فنازل السلطان حصن المرقب فى يوم الأربعاء
عاشر صفر، وشرع العسكر فى عمل الستائر والمجانيق. فلمّا انتهت الستائر
التى للمجانيق حملتها المقاتلة لباب الحصن، فسقطت السّتارة إلى بركة
كبيرة كان عليها جماعة من أصحاب الأمير علم الدين سنجر الدّويدارىّ،
منهم شمس الدين سنقر أستاداره وعدّة من مماليكه فاستشهدوا جميعهم،
رحمهم الله تعالى.
ثمّ فى يوم الأحد «1» رابع عشره، حضر رسل الفرنج من عند ملكهم
الإسبتار، وسألوا السلطان الصّلح والأمان لأهل المرقب على نفوسهم
وأموالهم ويسلّمون الحصن المذكور، فلم يجبهم السلطان إلى ذلك، وكملّ
نصب المجانيق ورمى بها وشعّث الحصن وهدم معظم أبراجه واستمرّ الحال إلى
سادس عشر شهر ربيع الأوّل، زحف السلطان على الحصن فأذعن من فيه
بالتسليم؛ وحصلت المراسلة فى معنى ذلك.
فلمّا كان يوم الجمعة ثامن عشر شهر ربيع الأوّل المذكور سلّم، ورفعت
عليه الأعلام الإسلاميّة ونزل من به بالأمان على أرواحهم فركبوا، وجهّز
معهم من أوصلهم إلى أنطرطوس. [و «2» ] بالقرب من هذا الحصن [مرقيّة «3»
] وهى بلدة صغيرة على البحر، وكان
(7/315)
صاحبها قد بنى فى البحر برجا «1» عظيما لا
يرام ولا تصله النّشّاب ولا حجر المنجنيق وحصّنه؛ واتفق حضور رسل صاحب
طرابلس إلى السلطان بطلب مراضيه، فآقترح عليه خراب هذا البرج وإحضار من
كان فيه أسيرا من الجبيليّين «2» الذين كانوا مع صاحب جبيل «3» فأحضر
من بقى منهم فى قيد الحياة واعتذر عن هدم البرج بأنّه ليس له، ولا هو
تحت حكمه؛ فلم يقبل السلطان اعتذاره وصمّم على طلبه منه، فقيل: إنّه
اشتراه من صاحبه
(7/316)
بعدّة قرى وذهب كثير، ودفعه إلى السلطان،
فأمر بهدمه فهدم واستراح الناس منه. وحصل الاستيلاء فى هذه الغزوة على
المرقب وأعماله ومرقيّة. والمرقب هو من الحصون المشهورة بالمنعة
والحصانة وهو كبير جدا، ولم يفتحه السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب
فيما فتح، فأبقاه السلطان الملك المنصور بعد أن أشير عليه بهدمه، ورمّم
شعثه واستناب فيه بعض أمرائه ورتّب أحواله. وكتبت البشائر بهذا الفتح
إلى الأقطار.
ولمّا كان السلطان الملك المنصور على حصار المرقب جاءته البشرى بولادة
ولده «الملك الناصر محمد بن قلاوون» ، فمولد الملك الناصر محمد هذه
السنة، فيحفظ إلى ما يأتى ذكره فى ترجمته، إن شاء الله تعالى، فإنّه
أعظم ملوك الترك بلا مدافعة.
ولمّا فتح السلطان الملك المنصور المرقب عملت الشعراء فى ذلك عدّة
قصائد، فمن ذلك ما قاله العلّامة شهاب الدين أبو الثّناء محمود، وهى
قصيدة طنّانة أوّلها:
الله أكبر هذا النّصر والظّفر ... هذا هو الفتح لا ما تزعم السّير
هذا الذي كانت «1» الآمال إن طمحت ... إلى الكواكب ترجوه وتنتظر
فانهض وسر واملك الدّنيا فقد نحلت ... شوقا منابرها وارتاحت السّرر
كم رام قبلك هذا الحصن من ملك ... فطال عنه وما فى باعه قصر
وكيف تمنحه الأيّام مملكة ... كانت لدولتك الغرّاء تدّخر
وكيف يسمو إليها من تأخّر عن ... إسعاده «2» منجداك القدر والقدر
(7/317)
غرّ العدا منك حلم تحته همم ... لأشقر
البرق من تحجيلها غرر
لها وإن أشبهت لطف النّسيم سرى ... معنى العواصف لا تبقى ولا تذر
أوردتها المرقب العالى وليس سوى ... ماء المجرّة فى أرجائها نهر
كأنّه وكأنّ الجوّ يكنفه ... وهم تمثّله فى طيّها الفكر
يختال كالغادة العذراء قد نظمت ... منه مكان اللآلى الأنجم الزّهر
له الهلال سوار والسّها شنف ... والقلب «1» قلب ومسودّ الدّجى طرر
تعلو الرياح إليه كى تحيط به «2» ... [خبرا] وتدنو وما فى ضمنها خبر
ويومض البرق يهفو نحوه ليرى ... أدنى رباه ويأتى وهو معتذر
وليس يروى بماء السّحب مصعدة ... إليه من فيه إلّا وهو منحدر
ومنها:
وأضرمت حوله نار لها لهب ... من السّيوف ومن نبل الوغى شرر
ومنها:
كأنّها ومجانيق الفرنج لها ... فرائس الأسد فى أظفارها الظّفر
وكم شكا الحصن ما يلقى فما اكترثت ... يا قلبها أحديد أنت أم حجر
وللنقوب دبيب فى مفاصله ... تثير سقما ولا يبدو له أثر
أضحى به مثل صبّ لا تبين به ... نار الهوى وهى «3» فى الأحشاء تستعر
ومنها:
ركبت فى جندك الأولى إليه ضحا ... والنصر يتلوك منه جندك الأخر
قد زال تجلى قواه عن قواعده ... وخرّ أعلاه نحو الأرض يبتدر
(7/318)
وساخ وانكشفت أقباؤه وبدا ... لديك من
مضمرات النصر ما ستروا
فمال يهوى إليهم كلّ ليث وغى ... له من البيض ناب والقنا ظفر
ومنها بعد أبيات كثيرة براعة المقطع:
إن لم يوفّ الورى بالشكر ما فتحت ... يداك فالله والأملاك قد شكروا
ثم سار الملك المنصور قلاوون من المرقب إلى دمشق وأقام بها أياما، ثم
خرج منها عائدا إلى نحو الديار المصريّة فى بكرة الاثنين ثانى عشر
جمادى الأولى؛ فدخل الديار المصريّة فى أوائل شهر رجب.
ولمّا دخل القاهرة وأقام بها أخذ فى عمل أخذ الكرك من الملك المسعود
نجم الدين خضر ابن السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقدارىّ
حتى أخذت، وورد عليه الخبر بأخذها فى ليلة الجمعة سابع صفر [سنة «1»
خمس وثمانين وستمائة] ودقّت البشائر بالديار المصريّة ثلاثة أيام.
ثمّ فى سنة ستّ وثمانين وستمائة جهّز السلطان طائفة من العسكر بالديار
المصريّة صحبة الأمير حسام الدين طرنطاى إلى الشام لحصار صهيون وبرزيه
وانتزاعهما من يد سنقر الأشقر، فسار حسام الدين المذكور بمن معه حتى
وصل دمشق فى أثناء المحرّم، واستصحب معه الأمير حسام الدين لاچين نائب
الشام، وتوجّه الجميع إلى صهيون بالمجانيق فوصلوها وشرعوا فى حصارها؛
وكان سنقر الأشقر قد استعدّ لهم وجمع إلى القلعة خلقا كثيرا؛ فحاصروه
أيّاما، ثم بعد ذلك توجّه الأمير حسام الدين إلى برزيه وحصرها واستولى
عليها، وهى ممّا يضرب المثل بحصانتها. ولمّا فتحها وجد فيها خيولا
لسنقر الأشقر. ولمّا فتحت برزيه لانت عريكة سنقر الأشقر،
(7/319)
وأجاب إلى تسليم صهيون على شروط اشترطها،
فأجابه طرنطاى إليها، وحلف له بما وثق به من الأيمان، ونزل من قلعة
صهيون بعد حصرها شهرا واحدا، وأعين على نقل أثقاله بجمال كثيرة وحضر
بنفسه وأولاده وأثقاله وأتباعه إلى دمشق. ثم توجّه إلى الديار المصريّة
صحبة طرنطاى المذكور ووفّى له بجميع ما حلف عليه؛ ولم يزل يذبّ عنه
أيام حياته أشدّ ذبّ. وأعطى السلطان لسنقر الأشقر بالديار المصريّة خبز
مائة فارس، وبقى وافر الحرمة إلى آخر أيام الملك المنصور قلاوون.
وانتظمت صهيون وبرزيه فى سلك الممالك المنصورية.
ثم خرج الملك المنصور من الديار المصرية قاصدا الشام فى يوم سابع عشرين
شهر رجب سنة ستّ وثمانين وسار حتى وصل غزّة أقام بتلّ العجول «1» أياما
إلى شوّال، ثم رجع إلى الديار المصرية فدخلها يوم الاثنين ثالث عشرين
شوّال، ولم يعلم أحد ما كان غرضه فى هذه السّفرة. وفى شوّال هذا سلطن
الملك المنصور ولده الملك الأشرف صلاح الدين خليلا وجعله مكان أخيه
الملك الصالح علاء الدين علىّ بعد موته، ودقّت البشائر لذلك سبعة أيام
بالديار المصرية وغيرها، وحلف الناس له والعساكر، وخطب له بولاية
العهد.
ثمّ فى سنة ثمان وثمانين وستّمائة فتحت طرابلس، وهو أنّ صاحب طرابلس
كان وقع بينه وبين سير تلميه «2» الفرنجىّ، وكان من أصحاب صاحب
(7/320)
الحصن «1» الذي أخربه صاحب طرابلس رضاء
للملك المنصور قلاوون حسب ما تقدّم ذكره.
فحصلت بينه وبين صاحب طرابلس وحشة بسبب ذلك، واتّفق موت صاحب الحصن،
وسأل سير تلميه من السلطان الملك المنصور المساعدة، وأن يتقدّم للأمير
«2» بلبان الطّبّاخى السّلحدار أن يساعده على تملّك طرابلس، على أن
تكون مناصفة، وبذل فى ذلك بذولا كثيرة، فسوعد إلى أن تمّ له مراده،
ورأى أنّ الذي بذله للسلطان لا يوافقه الفرنج عليه، فشرع فى باب
التّسويف والمغالطة ومدافعة الأوقات؛ فلمّا علم السلطان باطن أمره عزم
على قتاله قبل استحكام أمره، فتجهّز وخرج من الديار المصريّة بعساكره
لحصار طرابلس، وسار حتّى وصل دمشق وأقام بها، ثم تهيّأ وخرج منها،
ونازل طرابلس فى مستهلّ شهر ربيع الأوّل، ونصب عليها المجانيق وضايقها
مضايقة شديدة إلى أن ملكها بالسيف فى الرابعة من نهار الثلاثاء رابع
شهر ربيع الآخر، وشمل القتل والأسر لسائر من كان بها، وغرق منهم فى
الماء جماعة كثيرة، ونهب من الأموال والذخائر والمتاجر وغير ذلك ما لا
يوصف، ثم أحرقت وخرّب سورها، وكان من أعظم الأسوار وأمنعها. ثم تسلّم
حصن أنفة «3» وكان أيضا لصاحب طرابلس
(7/321)
فأمر السلطان بتخريبه، ثم تسلّم السلطان
البترون وجميع ما هناك من الحصون.
وكان لطرابلس مدّة طويلة بأيدى الفرنج من سنة ثلاث وخمسمائة إلى الآن.
قلت: وكان فتح طرابلس الأوّل فى زمن معاوية بن أبى سفيان، رضى الله
عنه، وتنّقلت فى أيدى الملوك، وعظمت فى زمن بنى عمّار قضاة طرابلس
وحكّامها. فلمّا كان فى آخر المائة الخامسة ظهرت طوائف الفرنج فى الشام
واستولوا على البلاد فامتنعت عليهم طرابلس مدّة حتّى ملكوها بعد أمور
فى سنة ثلاث وخمسمائة، واستمرّت فى أيديهم إلى أن فتحها الملك المنصور
قلاوون فى هذه السنة.
وقال شرف الدين محمد بن موسى المقدسىّ الكاتب فى «السّيرة المنصوريّة»
:
إن طرابلس كانت عبارة عن ثلاثة حصون مجتمعة باللسان الرومى، وكان فتحها
على يد سفيان بن مجيب «1» الأزدىّ، بعثه لحصارها معاوية بن أبى سفيان
فى خلافة عثمان بن عفّان، رضى الله عنه، انتهى كلام شرف الدين باختصار.
قلت: وأما طرابلس القديمة كانت من أحسن المدن وأطيبها، ثمّ بعد ذلك
اتخذوا مكانا على ميل من البلدة وبنوه مدينة صغيرة بلا سور، فجاء مكانا
ردىء الهوى والمزاج من الوخم. انتهى.
ولمّا فتحت طرابلس كتبت الشائر إلى الآفاق بهذا النصر العظيم، ودقّت
البشائر والتهانى وزيّنت المدن وعملت القلاع فى الشوارع وسرّ الناس
بهذا النصر غاية السّرور. وأنشأ فى هذا المعنى القاضى تاج الدين ابن
الأثير كتابا إلى صاحب اليمن بأمر الملك المنصور يعرّفه بهذا الفتح
العظيم وبالبشارة به. وأوّله:
(7/322)
[بسم «1» الله الرحمن الرحيم أعزّ الله]
نصر المقام العالىّ السلطانىّ الملكىّ المظفّرىّ الشمسىّ. ثم استطرد
وحكى أمر الفتح وغيره إلى أن قال فأحسن فيما قال: وكانت الخلفاء
والملوك فى ذلك الوقت ما فيهم إلا من هو مشغول بنفسه، مكبّ على مجلس
أنسه؛ يرى السلامة غنيمة، وإذا عنّ له وصف الحرب لم يسأل [منها «2»
إلا] عن طرق الهزيمة؛ قد بلغ أمله من الرتبة، وقنع [من «3» ملكه كما
يقال با] لسكة والخطبة؛ أموال تنهب، وممالك تذهب؛ لا يبالون «4» بما
سلبوا، وهم كما قيل:
إن قاتلوا قتلوا أو طاردوا طردوا ... أو حاربوا حربوا أو غالبوا غلبوا
إلى أن أوجد الله من نصر دينه، وأذلّ الكفر وشياطينه «5» . انتهى.
قلت: والكتاب هذا خلاصته والذي أعجبنى منه.
وعمل الشعراء فى هذا الفتح عدّة قصائد، فمن ذلك ما قاله العلّامة شهاب
الدين أبو الثّناء محمود كاتب الدّرج المقدّم ذكره يمدح الملك المنصور
قلاوون ويذكر فتحه طرابلس، والقصيدة أولها:
علينا لمن أولاك نعمته الشكر ... لأنّك للإسلام يا سيفه ذخر
ومنّا لك الإخلاص فى صالح الدّعا ... إلى من له فى أمر نصرتك الأمر
ولله فى إعلاء ملكك فى الورى ... مراد وفى التأييد يوم الوغى سرّ
ألا هكذا يا وارث الملك فليكن ... جهاد العدا لا ما توالى به الدّهر
(7/323)
ومنها:
نهضت إلى عليا طرابلس التى ... أقلّ عناها أنّ خندقها البحر
والقصيدة «1» طويلة كلّها على هذا المنوال، أضربت عنها خوف الإطالة.
انتهى.
ثم عاد الملك المنصور إلى الديار المصريّة فى جمادى الآخرة من السنة،
واستمرّ بالقاهرة إلى أوّل سنة تسع وثمانين وستمائة، جهّز الأمير حسام
الدين طرنطاى كافل الممالك الشاميّة إلى بلاد الصّعيد، ومعه عسكر جيّد
من الأمراء والجند، فسكّن تلك النواحى وأباد المفسدين وأخذ خلقا عظيما
من أعيانهم رهائن، وأخذ جميع أسلحتهم وخيولهم، وكان معظم سلاحهم السيوف
والحجف «2» والرماح، وأحضروا إلى السلطان من ذلك عدّة أحمال، ففرّق
السلطان من الخيول والسلاح فيمن أراد من الأمراء والجند وأودع الرهائن
الحبوس.
وفى هذه السنة أيضا عاد الأمير عزّ الدين أيبك الأفرم من غزو بلاد
السودان بمغانم كثيرة ورقيق كثير من النساء والرجال وفيل صغير.
ثم فى هذه السنة أيضا رسم السلطان ألّا يستخدم أحد من الأمراء وغيرهم
فى دواوينهم أحدا من النصارى واليهود وحرّض على ذلك، فامتثل ذلك
الأمراء جميعهم.
وفى هذه السنة عزم السلطان الملك المنصور على الحجّ فبلغه خبر فرنج
عكّا، ففتر عزمه وتهيّأ للخروج إلى البلاد الشاميّة، ورأى أن يقدّم
غزوهم والانتقام على الحجّ؛ وأخذ فى تجهيز العساكر والبعوث، وضرب
دهليزه خارج القاهرة، وباب الدهليز إلى
(7/324)
جهة عكّا. وخرج من القاهرة إلى مخيّمه وهو
متوعّك لأيام خلت من شوّال، ولا زال متمرّضا بمخيّمه عند مسجد «1»
التبن خارج القاهرة إلى أن توفّى به فى يوم السبت سادس ذى القعدة من
سنة تسع وثمانين وستمائة، وحمل إلى القلعة ليلة الأحد.
وتسلطن من بعده ولده الملك الأشرف صلاح الدين خليل الذي كان عهد له
بالسلطنة قبل تاريخه حسب ما ذكرناه. وكثر أسف الناس عليه.
قال الحافظ أبو عبد الله شمس الدين محمد الذهبىّ فى «تاريخ الإسلام»
بعد ما سماه ولقّبه قال: اشترى بألف دينار، ولهذا كان فى حال إمرته
يسمّى بالألفىّ، وكان من أحسن الناس صورة فى صباه، وأبهاهم وأهيبهم فى
رجوليّته، كان تامّ الشكل مستدير اللّحية قد وخطه الشّيب، على وجهه
هيبة الملك وعلى أكتافه حشمة السلطنة، وعليه سكينة ووقار، رأيته مرات
آخرها منصرفه من فتح طرابلس. وكان من أبناء الستين. ثم قال: وحدّثنى
أبى أنه كان معجم اللسان لا يكاد يفصح بالعربية، وذلك لأنه أتى به من
بلاد التّرك وهو كبير. ثم قال بعد كلام آخر:
وعمل بالقاهرة ببين القصرين تربة عظيمة ومدرسة كبيرة، قال: وبيمارستانا
للمرضى «2» .
(7/325)
قلت: ومن عمارته البيمارستان المذكور وعظم
أوقافه تعرّف همّته، ونذكر عمارة البيمارستان إن شاء الله تعالى بعد
ذلك. انتهى.
وقال غيره: وكان يعرف أيضا قلاوون الآقسنقرىّ الكاملىّ الصالحىّ
النّجمىّ، لأن الأمير آق سنقر الكاملى كان اشتراه من تاجره بألف دينار،
ثم مات الأمير آق سنقر المذكور بعد مدّة يسيرة، فارتجع هو وخشداشيته
إلى الملك الصالح نجم الدين أيّوب فى سنة سبع وأربعين وستمائة، وهى
السنة التى مات فيها الملك الصالح أيّوب، وهذا القول هو الصحيح فى أصل
مشتراه.
قلت: ولمّا طلع الملك المنصور قلاوون إلى قلعة الجبل ميّتا، أخذوا فى
تجهيزه وغسله وتكفينه إلى أن تمّ أمره، وحملوه وأنزلوه إلى تربته ببين
القصرين فدفن بها. وكانت مدّة ملكه إحدى عشرة سنة وثلاثة أشهر، رحمه
الله تعالى، وكان سلطانا كريما حليما شجاعا مقداما عادلا عفيفا عن سفك
الدماء مائلا إلى فعل الخير والأمر بالمعرف، وله مآثر كثيرة:
منها البيمارستان الذي أنشأه ببين القصرين، وتمّم عمارته فى مدة يسيرة،
وكان مشدّ عمارته الأمير علم الدين «1» سنجر الشّجاعىّ المنصورى وزير
الديار المصرية ومشدّ
(7/326)
دواوينها، ثمّ ولى نيابة دمشق ونهض بهذا
العمل العظيم وفرغ منه فى أيّام قلائل، ولمّا كمل عمارة الجميع امتدحه
معين الدين «1» بن تولوا بقصيدة أوّلها:
أنشأت مدرسة ومارستانا ... لتصحّح الأديان والأبدانا
قلت: وهذا البيمارستان وأوقافه وما شرطه فيه لم يسبقه إلى ذلك أحد
قديما ولا حديثا شرقا ولا غربا. وجدّد عمارة قلعة حلب وقلعة كركر «2»
وغير موضع.
وأمّا غزواته فقد ذكرناها فى وقتها. وجمع من المماليك خلقا عظيما لم
يجمعهم أحد قبله، فبلغت عدّتهم اثنى عشر ألفا، وصار منهم الأمراء
الكبار والنوّاب، ومنهم من تسلطن من بعده على ما يأتى ذكره. وتسلطن
أيضا من ذريّته سلاطين كثيرة آخرهم الملك المنصور حاجّىّ الذي خلعه
الملك الظاهر برقوق. وأعظم من هذا أنّه من تسلطن من بعده من يوم مات
إلى يومنا هذا، إمّا من ذريته، وإمّا من مماليكه أو مماليك مماليك
أولاده وذريّته، لأنّ يلبغا مملوك السلطان حسن، وحسن ابن محمد بن
قلاوون، وبرقوق مملوك يلبغا، والسلاطين بأجمعهم مماليك برقوق وأولاده.
انتهى. وكان من محاسن الملك المنصور قلاوون أنّه لا يميل إلى جنس بعينه
بل كان ميله لمن يتخيّل فيه النّجابة كائنا من كان.
قلت: ولهذا طالت مدّة مماليكه وذرّيته باختلاف أجناس مماليكه، وكانت
حرمته عظيمة على مماليكه لا يستطيع الواحد منهم أن ينهر غلامه ولا
خادمه خوفا
(7/327)
منه، ولا يتجاهر أحد منهم بفاحشة، ولا
يتزوّج إلا إن زوّجه هو بعض جواريه؛ هذا مع كثرة عددهم.
قلت رحمه الله تعالى: لو لم يكن من محاسنه إلّا تربية مماليكه وكفّ
شرّهم عن الناس لكفاه ذلك عند الله تعالى، فإنّه كان بهم منفعة
للمسلمين، ومضرّة للمشركين وقيامهم فى الغزوات معروف، وشرّهم عن
الرعيّة مكفوف؛ بخلاف زماننا هذا، فإنّه مع قلّتهم وضعف بنيتهم وعدم
شجاعتهم، شرّهم فى الرّعية معروف، ونفعهم عن الناس مكفوف؛ هذا مع عدم
التجاريد والتقاء الخوارج وقلّة الغزوات، فإنّه لم يقع فى هذا القرن،
وهو القرن التاسع، لقاء مع خارجىّ غير وقعة تيمور، وافتضحوا منه غاية
الفضيحة، وسلّموا البلاد والعباد وتسحّب أكثرهم من غير قتال.
وأمّا الغزوات فأعظم ما وقع فى هذا القرن «1» فتح قبرس «2» ، وكان
النصر فيها من الله سبحانه وتعالى، انكسر صاحبها وأخذ من جماعة يسيرة،
تلقّاهم بعض
(7/328)
عساكره. خذلان من الله تعالى! وقع ذلك كلّه
قبل وصول غالب عسكر المسلمين.
وأمّا غير ذلك من الغزوات فسفر فى البحر ذهابا وإيابا، فكيف لو كان
هؤلاء أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب عند ما غزا الساحل، وغاب
عن الديار المصريّة نحو العشر سنين، لا يفارق فيها الخيم والتّشتّت عن
الأوطان واتّصال الغزوة بالغزوة! أو لو كانوا أيّام الملك الكامل محمد
لمّا قاتل الفرنج على دمياط نحو الثلاث سنين لم يدخل فيها مصر إلى أن
فتح الله عليه، أو لو كانوا أيّام الملك الظاهر بيبرس وهو يتجرّد ويغزو
فى السنة الواحدة المرّة والمرّتين والثلاث وهلمّ جرّا! إلى أيّام
الملك الأشرف شعبان بن حسين لمّا أخذت الإسكندرية. وهذا شىء معروف لا
يشاحّ فيه أحد. وأعجب من هذا كلّه أنّ أولئك كانوا على حظّ وافر من
الأدب والحشمة والتواضع مع الأكابر، وإظهار الناموس وعدم الازدراء بمن
هو دونهم، وهؤلاء است فى الماء وأنف فى السماء، لا يهتدى أحدهم لمسك
لجام الفرس، وإن تكلّم تكلّم بنفس؛ ليس لهم صناعة، إلّا نهب البضاعة؛
يتقوّون على الضعيف، ويشرهون حتّى فى الرّغيف؛ جهادهم الإخراق بالرئيس،
وغزوهم فى التّبن والدريس؛ وحظّهم منقام، ولا مروءة لهم والسلام.
انتهى.
قال ابن كثير فى حقّ الملك المنصور قلاوون المذكور: اشتراه الملك
الصالح نجم الدين أيّوب من الملك الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن
أيّوب بألف دينار، فلذلك سمّى بالألفىّ.
قلت: وهذا بخلاف ما نقله الشيخ صلاح الدين خليل بن أيبك الصّفدىّ فى
أنّ الذي اشتراه بألف دينار إنّما هو الأمير آق سنقر الكاملىّ، والأرجح
عندى ما قاله الصّفدىّ فى أنّ الذي اشتراه بألف دينار إنما هو الأمير
آق سنقر من وجوه عديدة.
(7/329)
قال ابن كثير أيضا: وكان الملك المنصور قد
أفرد من مماليكه ثلاثة آلاف وسبعمائة مملوك من الأمراء والجراكسة
وجعلهم بالقلعة، وسمّاهم «البرجيّة» ، وأقام نوّابه فى البلدان من
مماليكه، وهم الذين غيروا ملابس الدولة الماضية.
قال الصلاح الصّفدىّ: ولبسوا أحسن الملابس، لأنّ فى الدولة الماضية
الصلاحيّة كان الجميع يلبسون كلّوتات «1» صفر مضرّبة بكلبندات «2» بغير
شاشات «3» ،
(7/330)
وشعورهم مضفورة ديابيق «1» فى أكياس حرير
ملوّنة، وكان فى خواصرهم موضع الحوائص «2» بنود ملوّنة أو بعلبكّية،
وأكمام أقبيتهم «3» ضيّقة على زى ملابس الفرنج، وأخفافهم برغالى «4» أو
سقامين «5» ومن فوق قماشهم كمرات «6» بحلق وإبزيم «7» ، وصوالقهم «8»
كبار يسع كلّ صولق نصف ويبة أو أكثر، ومنديلهم كبير طوله ثلاث أذرع،
فأبطل المنصور ذلك كلّه بأحسن منه، وكانت الخلع للأمراء المقدّمين
المروزىّ،
(7/331)
فخصّص الملك المنصور من الأمراء بلبس
الطّرد وحش «1» أربعة من خشداشيته، وهم: سنقر الأشقر الذي كان تسلطن
ولقّب بالملك الكامل والبيسرى والأيدمرىّ والأفرم. وباقى الأمراء
والخاصّكيّة والبرّانيّة تلبس المروزىّ والطبلخانات بالملّون، والعشرات
بالعتّابى «2» .
قلت: وهذا أيضا بخلاف زماننا فإنّه لبس فيه أوباش الناس الخلع
السّنيّة، وأعجب من هذا أنّه لمّا لبس هؤلاء الخلع السّنيّة زالت تلك
الأبّهة والحشمة عن الخلع المذكورة وصارت كمن دونها من الخلع فى أعين
الناس لمعرفتهم بمقام اللابس. انتهى.
قلت: والآن نذكر ما وعدنا بذكره فى أوائل ترجمة الملك المنصور قلاوون
من أمر كتّاب السّرّ، لأنّه هو الذي أحدث هذه الوظيفة وسمّى صاحبها
بكاتب السّرّ على ما نبيّنه من أقوال كثيرة:
منها أنّه لمّا كان أيّام الملك الظاهر بيبرس كان الدّوادار يوم ذاك
بلبان بن عبد الله الرومى. قال الشيخ صلاح الدين خليل الصّفدىّ: كان من
أعيان الأمراء (يعنى عن بلبان المذكور) ومن نجبائهم، وكان الملك الظاهر
بيبرس يعتمد عليه ويحمّله أسراره إلى القصّاد. ولم يؤمّره إلا الملك
السعيد ابن الملك الظاهر بيبرس.
(7/332)
واستشهد بمصافّ حمص سنة ثمانين وستمائة،
وكان يباشر وظيفة الدّواداريّة ولم يكن معه كاتب سرّ، فاتّفق أنّه قال
يوما لمحيى الدين بن عبد الظاهر: اكتب إلى فلان مرسوما أن يطلق له من
الخزانة العالية بدمشق عشرة آلاف درهم، نصفها عشرون ألفا، فكتب المرسوم
كما قال له وجهّزه إلى دمشق، فأنكروه وأعادوه إلى السلطان، وقالوا: ما
نعلم! هل هذا المرسوم بعشرين نصفها عشرة أو بعشرة نصفها خمسة؟ فطلب
السلطان محيى الدين وأنكر عليه ذلك، فقال: يا خوند، هكذا قال لى الأمير
سيف الدين بلبان الدّوادار؛ فقال السلطان: ينبغى أن يكون للملك كاتب
سرّ يتلقّى المرسوم منه شفاها. وكان الملك المنصور قلاوون حاضرا من
جملة الأمراء فسمع هذا الكلام. وخرج الملك الظاهر عقيب ذلك إلى نوبة
أبلستين، فلمّا توفّى الملك الظاهر وملك الملك المنصور قلاوون اتّخذ
كاتب سرّ. انتهى.
كلام الصّفدىّ باختصار.
قلت: وفى هذه الحكاية دلالة على أن وظيفة كتابة السرّ لم تكن قبل ذلك
أبدا، لقوله: ينبغى للملك أن يكون له كاتب سرّ يتلقّى المرسوم منه
شفاها. وأيضا تحقيق ما قلناه: أنّ وظيفة كتابة السرّ لم تكن قديما،
وإنّما كانت الملوك لا يتلقّى الأمور عنهم إلّا الوزراء.
قضية فخر الدين بن لقمان مع القاضى فتح الدين محمد بن عبد الظاهر فى
الدولة الأشرفيّة خليل بن قلاوون، وهو أنه لمّا توزّر فخر الدين بن
لقمان قال له الملك المنصور:
من يكون عوضك فى الإنشاء؟ قال: فتح الدين بن عبد الظاهر، فولّى فتح
الدين وتمكّن عند السلطان وحظى عنده؛ وفتح الدين هذا هو الذي قلنا عنه
فى أوّل الكتاب إنه أوّل كاتب سرّ كان، وظهر اسم هذه الوظيفة من ثمّ.
انتهى. وحظى فتح الدين
(7/333)
عند السلطان إلى الغاية. فلمّا كان بعض
الأيام دخل فخر الدين بن لقمان على السلطان فأعطاه السلطان كتابا
يقرؤه، فلمّا دخل فتح الدين أخذ السلطان الكتاب منه وأعطاه لفتح الدين،
وقال لفخر الدين: تأخّر! فعظم ذلك على فخر الدين بن لقمان.
قلت: ولولا أنّ هذه الواقعة خرق العادة ما غضب ابن لقمان من ذلك، لأنّ
العادة كانت يوم ذاك لا يقرأ أحد على السلطان كتابا بحضرة الوزير.
انتهى.
ومنها واقعة القاضى فتح الدين المذكور مع شمس «1» الدين ابن السّلعوس
لمّا ولى الوزارة للملك الأشرف خليل بن قلاوون، فإنّه قال لفتح الدين:
اعرض علىّ كلّ ما تكتبه عن السلطان كما هى العادة، فقال فتح الدين: لا
سبيل إلى ذلك، فلما بلغ الملك الأشرف هذا الخبر من الوزير المذكور،
قال: صدق فتح الدين، فغضب من ذلك الوزير ابن السّلعوس.
قلت: وعندى دليل آخر أقوى من جميع ما ذكرته، أنّه لم أقف على ترجمة رجل
فى الإسلام شرقا ولا غربا نعت بكاتب السرّ قبل فتح الدين هذا، وفى هذا
كفاية. وما ذكره صاحب صبح الأعشى وغيره ممّن كتبوا للنبىّ صلّى الله
عليه وسلّم ومن بعده ليس فى ذلك دليل على أنّهم كتّاب السّرّ؛ بل ذلك
دليل لكلّ كاتب كتب عن مخدومه كائنا من كان. ونحن أيضا نذكر الذين
ذكرهم صاحب صبح الأعشى وغيره من الكتّاب، ونذكر أيضا من ألحقناه بهم من
كتّاب السّرّ إلى يومنا هذا، ليعلم بذلك صدق مقالتى بذكرهم وألقابهم
وزمانهم. انتهى. قال: اعلم أنّ كتّاب النّبيّ، صلّى الله عليه وسلّم،
كانوا نيّفا على ستة وثلاثين كاتبا، لكن المشهور منهم: أبو بكر وعمر
وعثمان وعلىّ ومعاوية بن أبى سفيان ومروان بن الحكم.
(7/334)
قلت: وفى مروان خلاف، لأنّ الحافظ أبا عبد
الله الذهبىّ قال فى ترجمة مروان بن الحكم: له رؤية إن شاء الله، ولم
يعدّه من الصحابة، فكيف يكون من الكتّاب! وأيضا حذف جماعة من كبار
الصحابة كتّاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأثبت مروان هذا، وفى
صحبته خلاف. ولولا خشية الإطالة لذكرنا من ذكره الحافظ العلامة مغلطاى
«1» ممّن كتب للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم ليعلم بذلك غلط من عدّ مروان
من الكتّاب. انتهى. قال: ولمّا توفّى النّبيّ، صلّى الله عليه وسلّم
وصارت الخلافة إلى أبى بكر كتب عنه عمر بن الخطّاب وعثمان وعلىّ رضى
الله عنهم. فلمّا استخلف عمر كتب عنه عثمان وعلىّ ومعاوية وعبد «2»
الله بن خلف الخزاعىّ، وكان زيد بن ثابت «3» وزيد بن أرقم «4» يكتبان
على بيت المال. فلمّا استخلف عثمان كتب عنه مروان بن الحكم. فلمّا
استخلف علىّ كتب عنه عبد الله بن رافع مولى النّبيّ صلّى الله عليه
وسلّم وسعيد بن نمران «5» . فلمّا استخلف الحسن كتب عنه كتّاب أبيه.
فلمّا بايعوا معاوية كتب عنه عبد الله بن أوس، وكتب عبد الله المذكور
عن ابنه يزيد أيضا، وابن أبيه معاوية بن يزيد. فلمّا خلع معاوية ابن
يزيد نفسه وتولّى مروان بن الحكم كتب عنه سفيان «6» الأحول وقيل عبيد
الله بن أوس.
فلمّا استخلف عبد الملك بن مروان كتب عنه روح بن زنباع الجذامىّ. فلما
استخلف الوليد كتب عنه قرّة بن شريك، ثم قبيصة بن ذؤيب، ثم الضحّاك ابن
زمل «7» . فلما استخلف سليمان كتب عنه يزيد بن المهلّب، ثم عبد العزيز
بن
(7/335)
الحارث. فلما استخلف الإمام عمر بن عبد
العزيز رضى الله عنه كتب عنه رجاء بن حيوة الكندىّ، ثم ابن أبى رقيّة
«1» ؛ فلما استخلف يزيد بن عبد الملك كتب عنه سعيد بن الوليد الأبرش،
ثم محمد بن عبد الله بن حارثة الأنصارىّ.
فلما استخلف هشام بن عبد الملك أبقاهما على عادتهما، واستكتب معهما
سالما مولاه. فلما استخلف الوليد بن يزيد كتب عنه العباس بن مسلم. فلما
استخلف يزيد بن الوليد كتب عنه ثابت بن سليمان. فلما استخلف «2»
إبراهيم بن الوليد كتب عنه أيضا ثابت على عادته. فلما صارت الخلافة إلى
مروان بن محمد بن مروان كتب عنه عبد الحميد بن يحيى مولى بنى عامر إلى
حين انقراض الدول الأمويّة. ثم صارت الخلافة لبنى العباس فاتخذوا
كتّابهم وزراء، وكان أوّل خلفاء بنى العباس أبو العباس عبد الله ابن
محمد السفّاح فاتخذ أبا سلمة [حفص بن سليمان «3» ] الخلّال، وهو أوّل
وزير وزر فى الإسلام؛ ثم استوزر معه [خالد «4» بن] برمك وسليمان بن
مخلد والربيع بن يونس، فتراكمت عليهم الأشغال، واتّسعت عليهم الأمور،
فأفردوا للمكاتبات ديوانا، وكانوا يعبّرون عنه تارة بصاحب ديوان
الرسائل، وتارة بصاحب ديوان المكاتبات، وتفرّقت دواوين الإنشاء فى
الأقطار، فكان بكلّ مملكة ديوان إنشاء؛ وكانت الديار المصريّة من حين
الفتح الإسلامى وإلى الدولة الطّولونية إمارة، ولم يكن لديوان الإنشاء
فيها كبير أمر. فلما استولى أحمد بن طولون عظمت مملكتها وقوى أمرها
فكتب عنه أبو جعفر محمد بن أحمد بن مودود. وكتب لولده خمارويه إسحاق بن
نصر
(7/336)
العبادىّ. وتوالت دواوين الإنشاء بذلك إلى
حين انقراض الدولة الإخشيدية.
ثم كانت الدولة الفاطمية فعظم ديوان الإنشاء بها، ووقع الاعتناء به
واختيار بلغاء الكتّاب ما بين مسلم وذمّىّ، فكتب للعزير بن المعزّ فى
الدولة الفاطمية أبو المنصور بن جورس «1» النّصرانىّ، ثم كتب لابنه
الحاكم ومات فى أيامه، وكتب للحاكم بعده القاضى أبو الطاهر النهركىّ
«2» . ثم تولى الظاهر بن الحاكم فكتب عنه أبو الطاهر المذكور. ثم تولى
المستنصر فكتب عنه القاضى ولى الدين «3» بن خيران، وولىّ الدولة موسى
بن الحسن بعد «4» انتقاله إلى الوزارة، وأبو «5» سعيد العميدىّ.
ثم تولى الآمر والحافظ فكتب عنهما الشيخ أبو الحسن علىّ بن أبى أسامة
الحلبىّ إلى أن توفّى فى أيام الحافظ، فكتب بعده ولده أبو المكارم إلى
أن توفّى، ومعه»
الشيخ أمين الدين تاج الرياسة أبو القاسم علىّ بن سليمان بن منجب «7»
المعروف بابن الصّيرفىّ، والقاضى كافى الكفاة محمود ابن القاضى الموفّق
أسعد بن قادوس، وابن أبى الدّم اليهودىّ، ثم كتب بعد أبى المكارم «8»
القاضى الموفّق بن الخلّال «9» بقية أيام الحافظ إلى آخر أيام العاضد
آخر خلفائهم، وبه تخرّج القاضى الفاضل عبد الرحيم البيسانىّ.
ثم أشرك العاضد مع الموفّق بن الخلّال فى ديوان الإنشاء القاضى جلال
الدين محمودا
(7/337)
الأنصارىّ. ثم كتب القاضى الفاضل بين يدى
الموفّق بن الخلّال فى وزارة صلاح الدين يوسف بن أيّوب. ثم كانت الدولة
الأيّوبية، فكتب للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب القاضى الفاضل
المذكور، ثم أضيفت اليه الوزارة. ثم كتب بعد الناصر لابنه العزيز
ولأخيه العادل أبى بكر، ثم مات العادل والفاضل.
قلت: هنا مجازقة لم يكتب القاضى الفاضل للعادل وكان بينهما مشاحنة،
ومات الفاضل قبل وصول العادل إلى مصر، وقيل وقت دخول العادل من باب
النصر إلى القاهرة كانت جنازة القاضى الفاضل خارجة. وقد ذكرنا ذلك كلّه
فى هذا الكتاب «1» ، وإنما كتب الفاضل للعزيز عثمان ولولده الملك
المنصور محمد، فالتبس المنصور على الناقل بالعادل. انتهى.
قال: ثم تولّى الكامل بن العادل فكتب له أمين الدين سليمان المعروف
بكاتب الدّرج إلى أن توفّى، فكتب له بعده الشيخ أمين الدين عبد المحسن
[بن حمود «2» ] الحلبى مدّة قليلة؛ ثم كتب للصالح نجم الدين أيّوب، ثم
ولى ديوان الإنشاء الصاحب بهاء الدين زهير، ثم صرف وولى بعده الصاحب
فخر الدين إبراهيم بن لقمان الإسعردىّ، فبقى إلى انقراض الدولة
الأيّوبية. فلما كانت الدولة التركية كتب للمعز أيبك الصاحب فخر الدين
المذكور، ثم بعده للمظفر قطز، ثم للظاهر بيبرس، ثم للمنصور قلاوون، ثم
نقله قلاوون من ديوان الإنشاء للوزارة، وولى ديوان الإنشاء مكانه
القاضى فتح الدين بن عبد الظاهر فكتب عنه بقية أيامه؛ ثم كتب لابنه
الأشرف خليل إلى أن توفّى، فولّى مكانه القاضى تاج الدين [أحمد «3» ]
بن الأثير فكتب إلى أن
(7/338)
توفّى؛ فكتب بعده القاضى شرف الدين عبد
الوهاب «1» بن فضل الله فكتب بقية أيام الأشرف. فلما تولّى أخوه الناصر
محمد كتب عنه القاضى شرف الدين المذكور فى سلطنته الأولى ثم فى أيام
العادل كتبغا ثم أيام المنصور لاچين ثم فى أيام سلطنة الناصر محمد
الثانية؛ ثم نقله إلى كتابة السّرّ بدمشق عوضا عن أخيه القاضى محيى
الدين «2» ، وتولى مكانه بمصر القاضى علاء الدين [بن تاج الدين «3» ]
بن الأثير فبقى حتى مرض بالفالج فاستدعى الملك الناصر محيى الدين بن
فضل الله من دمشق وولده شهاب الدين [أحمد «4» ] وولّاهما «5» ديوان
الإنشاء بمصر. ثم ولّى بعدهما القاضى شمس الدين «6» ابن الشهاب محمود
فبقى إلى عود السلطان من الحجّ فأعاد القاضى محيى الدين وولده القاضى
شهاب الدين إلى ديوان الإنشاء بمصر فبقيا مدّة. ثم تغيّر السلطان على
القاضى شهاب الدين وصرفه عن المباشرة، وأقام أخاه القاضى علاء الدين
«7» وكلاهما معين لوالده لكبر سنّه، ثم سأل القاضى محيى الدين السلطان
فى العود إلى دمشق فأعاده وصحبته ولده شهاب الدين؛ واستمرّ ولده القاضى
علاء الدين بالديار المصريّة فباشر بقيّة أيام الناصر، ثم أيّام ولده
الملك المنصور «8» ، ثم أيام الأشرف كجك، ثم أيام الناصر أحمد إلى أن
خلع نفسه وتوجّه إلى الكرك توجه معه القاضى علاء الدين؛ فلمّا تولّى
الملك الصالح إسماعيل السلطنة
(7/339)
بمصر بعد أخيه الناصر أحمد قرّر القاضى بدر
الدين محمد «1» ابن القاضى محيى الدين بن فضل الله عوضا عن أخيه علاء
الدين.
قلت: لم يل بدر الدين محمد بعد أخيه علاء الدين الوظيفة استقلالا
وإنّما ناب عنه إلى حين حضوره. انتهى.
قال: ثم أعيد علاء الدين أيّام الصالح إسماعيل وأيام الكامل شعبان، ثم
أيام المظفّر حاجّى ثم أيّام الناصر حسن فى سلطنته الأولى، ثم فى أيّام
الصالح صالح، ثم فى أيّام الناصر حسن فى سلطنته الثانية، ثم أيام
المنصور محمد ابن المظفر حاجّى، ثم فى أيّام الأشرف شعبان «2» وتوفّى
فى أيّامه.
قلت: وكانت وفاته فى شهر رمضان سنة تسع وستين وسبعمائة بعد أن باشر
كتابة السر نيّفا وثلاثين سنة لأحد عشر سلطانا.
قال: ثم ولى الوظيفة بعده ولده بدر الدين «3» محمد ابن القاضى علاء
الدين، فباشر بقيّة أيام الأشرف شعبان، ثم ولده المنصور علىّ، ثم أخيه
الملك الصالح حاجّى بن شعبان إلى أن خلع بالظاهر برقوق، فاستقرّ برقوق
بالقاضى أوحد الدين عبد الواحد ابن إسماعيل التّركمانىّ «4» إلى أن
توفّى.
قلت: وكانت وفاته فى ذى الحجة سنة ستّ وثمانين وسبعمائة.
(7/340)
قال: ثم أعيد بدر الدين فباشر حتى خلع
الظاهر برقوق بالمنصور حاجّىّ، فاستمر بدر الدين إلى أن عاد برقوق إلى
سلطنته الثانية، صرفه بالقاضى علاء الدين على بن عيسى الكركى، ثم صرف
الكركىّ.
قلت: ومات معزولا فى شهر ربيع الأوّل فى سنة أربع وتسعين وسبعمائة.
قال: ثم أعيد القاضى بدر الدين من بعد عزل القاضى علاء الدين فاستمرّ
بدر الدين إلى أن عاد برقوق فتوفّى بدمشق.
قلت: ووفاته فى شوّال سنة ست وتسعين وسبعمائة.
قال: وولى بعده القاضى بدر الدين محمود الكلستانىّ فباشر إلى أن توفّى.
قلت: وكانت وفاته فى عاشر جمادى الأولى سنة إحدى وثمانمائة.
قال: فتولى بعده القاضى فتح الدين فتح الله [التّبريزىّ «1» ] فباشر
بقية أيام الظاهر، ومدّة من أيام الناصر إلى أن صرفه الناصر فرج
بالقاضى سعد «2» الدين بن غراب مدّة يسيرة، ثم صرف ابن غراب وأعيد
القاضى فتح الله ثانيا، فباشر إلى أن صرف بالقاضى فخر الدين بن المزوّق
«3» ، فباشر مدة يسيرة، ثم صرف وأعيد فتح الله فباشر إلى أن صرفه الملك
المؤيّد شيخ وقبض عليه وصادره.
قلت: ومات تحت العقوبة خنقا فى ليلة الأحد خامس عشر شهر ربيع الأوّل
سنة ست عشرة وثمانمائة، وهو فتح الله بن مستعصم بن نفيس التّبريزى
الحنفى الداوودى، يأتى ذكره هو وغيره من كتّاب السّرّ فى محلهم من هذا
الكتاب إن شاء الله تعالى.
(7/341)
قال: وتولّى بعده القاضى ناصر «1» الدين
محمد البارزىّ فباشر إلى أن توفّى.
قلت: وكانت وفاته يوم الأربعاء ثامن شوّال سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة،
ومولده بحماة فى يوم الاثنين رابع شوّال سنة تسع «2» وستين وسبعمائة.
وتولى بعده ولده القاضى كمال الدين «3» محمد بن البارزى، فباشر إلى أن
صرفه الملك الظاهر ططر وولّى علم الدين داود [بن عبد «4» الرحمن] بن
الكويز، فباشر إلى أن توفّى سنة ست وعشرين وثمانمائة فى دولة الملك
الأشرف برسباى. وولّى بعده جمال الدين يوسف «5» بن الصّفىّ الكركىّ
فباشر قليلا إلى أن صرف بقاضى القضاة شمس «6» الدين محمد الهروىّ، ودام
الكركىّ بعد ذلك وباشر عدّة وظائف بالبلاد الشامية إلى أن توفّى فى
حدود سنة خمس وخمسين وثمانمائة، وباشر الهروى إلى أن عزل بقاضى القضاة
نجم الدين عمر ابن حجّى، فباشر ابن حجّى إلى أن عزل وتوجّه إلى دمشق
على قضائها، ودام إلى أن قتل بها فى ذى القعدة سنة ثلاثين وثمانمائة،
وولّى بعده القاضى بدر الدين محمد [ابن محمد «7» بن أحمد] بن مزهر،
واستمرّ إلى أن مات فى ليلة الأحد سابع عشرين جمادى الآخرة من سنة
اثنتين وثلاثين وثمانمائة. وولى بعده ابنه جلال الدين؛ وقيل بدر الدين
«8» محمد مدّة يسيرة. وصرف بالشريف شهاب الدين أحمد [بن علىّ «9» بن
إبراهيم ابن عدنان] الحسينى الدمشقى، فباشر مدة يسيرة وتوفّى بالطاعون
فى سنة ثلاث وثلاثين،
(7/342)
وولى بعده أخوه نحو الجمعة بغير خلعة
وتوفّى بالطاعون أيضا. وولى بعدهما شهاب الدين أحمد [بن صالح بن»
أحمد بن عمر المعروف با] بن السّفاح الحلبى فباشر إلى أن مات فى سنة
خمس وثلاثين. وولى بعده الوزير كريم «2» الدين عبد الكريم ابن كاتب
المناخ مضافا للوزارة، فباشر أشهرا وصرف؛ وأعيد القاضى كمال الدين محمد
بن البارزىّ فى يوم السبت العشرين من شهر ربيع الآخر سنة ستّ وثلاثين،
فباشر إلى أن صرف يوم الخميس سابع شهر رجب سنة تسع وثلاثين؛ وولى مكانه
الشيخ محبّ الدين محمد ابن الأشقر فباشر إلى أن صرف، وولى صلاح الدين
محمد ابن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، فباشر إلى أن توفّى
بالطاعون فى سنة إحدى وأربعين، وولى مكانه والده الصاحب بدر الدين حسن
فباشر إلى أن صرف، وأعيد القاضى كمال الدين بن البارزىّ فى يوم
الثلاثاء سابع عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة، وهى
ولايته الثالثة؛ فباشر إلى أن توفّى بكرة يوم الأحد سادس عشرين صفر سنة
ستّ وخمسين وثمانمائة. ولم يخلّف بعده مثله، وولى بعده القاضى محب
الدين محمد بن الأشقر المقدّم ذكره، وباشر إلى أن صرفه الملك الأشرف
إينال بالقاضى محب الدين محمد بن الشّحنة الحلبىّ، فباشر ابن الشّحنة
أشهرا ثم صرف، وأعيد القاضى محب الدين محمد بن الأشقر وهى ولايته
الثالثة. انتهى.
قلت: وغالب من ذكرناه من هؤلاء الكتّاب قد تقدّم ذكر أكثرهم، ويأتى ذكر
باقيهم فى محلّهم من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. وقد استطردنا من
ترجمة الملك المنصور إلى غيرها، ولكن لا بأس بالتطويل فى تحصيل
الفوائد. انتهى.
(7/343)
[ما وقع من
الحوادث سنة 679]
السنة الأولى من سلطنة الملك المنصور قلاوون على مصر وقد تقدّم ذكرها
فى ترجمة الملك السعيد، والملك العادل سلامش ولدى الملك الظاهر بيبرس،
وهى سنة ثمان وسبعين وستمائة، فإنه حكم فيها من شهر رجب إلى آخرها.
وهذه السنة الثانية من ولاته الملك المنصور قلاوون المذكور، وهى سنة
تسع وسبعين وستمائة.
فيها توفّى الشيخ محيى الدين أبو العباس أحمد [بن علىّ «1» ] بن عبد
الواحد بن السابق الحلبى العدل الكبير، كان من أكابر بيوت حلب، وكان
عنده فضيلة ورياسة ومات بدمشق فى ذى الحجة.
وفيها توفّى الأمير سيف الدين، وقيل صارم الدين، أزبك بن عبد الله
الحلبى العدل الكبير، كان من أعيان أمراء دمشق، وهو منسوب إلى أستاذه
الأمير عزّ الدين أيبك الحلبى، وكان قد تجرّد إلى بعلبكّ فتمرّض بها،
فحمل فى محفّة إلى دمشق، فمات بها فى شوّال.
وفيها توفّى الأمير جمال الدين آقوش بن عبد الله الشّمسىّ، كان من
أعيان الامراء وأماثلهم وشجعانهم، وهو الذي أمسك الأمير عزّ الدين
أيدمر الظاهرى، وهو الذي باشر قتل كتبغا نوين مقدّم التّتار يوم عين
جالوت، وكان ولى نيابة حلب فى السنة الخالية؛ ومات بها فى يوم الاثنين
خامس المحرّم ودفن بحلب، وهو فى عشر الخمسين.
(7/344)
وفيها توفّى الشيخ الإمام كمال الدين أبو
محمد عبد الرحمن بن محمد الحنفىّ الفقيه العدل، كان من أعيان الفقهاء
العدول، وكان كثير الديانة والتعبّد، وهو أخو قاضى القضاة شمس «1»
الدين الحنفىّ.
وفيها توفّى الشيخ شمس الدين أبو عبد الله محمد [بن أيّوب بن أبى رحلة
«2» ] الحمصى المولد والدار البعلبكّى الوفاة، كان فاضلا ظريفا أديبا
شاعرا، ومما ينسب إليه من الشعر قوله:
والدهر كالطيف بؤساه وأنعمه ... عن غير قصد فلا تحمد ولا تلم
لا تسأل الدهر فى البأساء يكشفها ... فلو سألت دوام البؤس لم يدم
وفيها توفّى الأديب الفاضل الشاعر المفتنّ جمال الدين أبو الحسين يحيى
ابن عبد العظيم بن يحيى بن محمد بن علىّ المصرىّ المولد والوفاة،
المعروف بالجزّار، الشاعر المشهور أحد فحول الشعراء فى زمانه. مولده
سنة إحدى «3» وستمائة. ومات يوم الثلاثاء ثانى عشر شوّال ودفن
بالقرافة، وكان من محاسن الدنيا، وله نوادر مستظرفة ومداعبات ومفاوضات
«4» مع شعراء عصره، وله ديوان شعر كبير.
قال الشيخ صلاح الدين الصّفدىّ: لم يكن فى عصره من يقاربه فى جودة
النظم غير السّراج الورّاق «5» ، وهو كان فارس تلك الحلبة، ومنه أخذوا،
[و] على نمطه نسجوا، ومن مادّته استمدّوا. انتهى كلام الصّفدىّ.
(7/345)
قلت: ونذكر قطعة من شعره فمن ذلك قوله:
أكلّف نفسى كلّ يوم وليلة ... هموما «1» على من لا أفوز بخيره
كما سوّد القصار بالشمس وجهه ... ليجهد فى تبييض أثواب غيره
وقيل: إنه بات ليلة فى رمضان عند الصاحب بهاء الدين بن حنّا، فصلّى
عنده التراويح وقرأ الإمام فى تلك الليلة سورة الأنعام فى ركعة واحدة؛
فقال أبو الحسين:
ما لى على الأنعام من قدرة ... لا سيّما فى ركعة واحده
فلا تسومونى حضورا سوى ... فى ليلة الأنفال والمائدة
ومن شعره:
طرف «2» المحبّ فم يذاع به الجوى ... والدمع إن صمت اللسان لسان
تبكى الجفون على الكرى فاعجب لمن ... تبكى عليه إذا نأى الأوطان
وفيها توفّى الشيخ الإمام عماد الدين أبو بكر بن هلال بن عبّاد الجيلىّ
«3» الحنفى معيد المدرسة الشّبليّة. كان إماما عالما صالحا منقطعا عن
الناس مشتغلا بنفسه، وكان معدودا من العلماء، أفتى وأعاد ودرّس وانتفع
به الناس ومات فى تاسع عشر شهر رجب، وقد كمل له مائة سنة وأربع سنين.
وروى عنه ابن الزّبيدىّ «4» ؛ وروى بالإجازة العامّة عن السّلفىّ.
(7/346)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة،
قال: وفيها توفّى الفقيه شمس الدين محمد بن عبد الله [بن محمد «1» بن
عمر بن مسعود] بن النّنّ. والأديب البارع أبو الحسين يحيى بن عبد
العظيم الجزّار بمصر. وشيخ الرافضة النّجيب أبو القاسم بن الحسين ابن
العود الحلّىّ بجزّين فى شعبان. والشيخ الزاهد يوسف [بن نجاح «2» بن
موهوب] الفقّاعىّ بزاويته بقاسيون.
أمر فى هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وخمس أصابع. مبلغ الزيادة
ثمانى عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 680]
السنة الثالثة من ولاية السلطان الملك المنصور قلاوون على مصر، وهى سنة
ثمانين وستمائة.
فيها تربت جزيرة كبيرة ببحر النيل تجاه قرية بولاق «3» واللّوق «4» ،
وانقطع بسببها مجرى البحر ما بين قلعة المقس «5» وساحل باب البحر
والرّملة «6» وبين جزيرة «7» الفيل؛ ولم يعهد هذا فيما تقدّم، وحصل
لأهل القاهرة مشقّة يسيرة من نقل الماء لبعد البحر عنهم؛ وأراد السلطان
حفره فمنعوه، وقالوا له: هذا نشف إلى الأبد.
قلت: وكذا وقع، وغالب أملاك باب البحر والبساتين خارج باب البحر وداخله
هى مكان البحر الذي نشف، والتصقت المبانى والبساتين بجزيرة الفيل وصارت
غير جزيرة، فسبحان القادر على كل شىء!.
(7/347)
وفيها توفّى الشيخ الصالح المولّه المعتقد
إبراهيم بن سعيد الشّاغورىّ المعروف بجيعانة فى يوم الأحد سابع جمادى
الأولى بدمشق، ودفن بمقبرة المولّهين بسفح قاسيون، وله من العمر نحو
سبعين سنة، وكانت له جنازة عظيمة، وكان له أحوال ومكاشفات، رحمه الله.
وفيها توفّى ملك التّتار أبغا بن هولاكو بن تولى خان بن چنكز خان ملك
التّتار وطاغيتهم، كان ملكا جليل القدر على الهمّة شجاعا مقداما خبيرا
بالحروب، لم يكن بعد والده مثله، وكان على مذهب التّتار واعتقادهم،
ومملكته متّسعة جدّا وعساكره كثيرة، وكان مع ذلك كلمته مسموعة فى جنده
مع كثرتهم. ولمّا توجّه أخوه منكوتمر بالعساكر إلى جهة الشام لم يكن
ذلك عن رأيه بل أشير عليه فوافق، ونزل فى ذلك الوقت الرّحبة، أو بالقرب
منها، فلما بلغ أبغا «1» كسرة منكوتمر رجع الى همذان فمات غمّا وكمدا
ومات منكوتمر بعد أخيه أبغا بمدّة يسيرة بين العيدين، وله من العمر نحو
خمسين سنة، وقيل: ثلاثين سنة والثانى أرجح. ومات بعده بيومين أخوه آجاى
على ما يأتى ذكر منكوتمر فى القابلة.
وفيها توفّى التاجر نجم الدين أبو العبّاس أحمد بن علىّ بن المظفّر بن
الحلّىّ، كان ذا نعمة ضخمة وثروة ظاهرة، وأمول جمّة، وله التقدّم فى
الدولة.
وفيها توفّى الشيخ موفّق الدين أبو العباس أحمد بن يوسف المعروف
بالكواشىّ «2» الإمام العالم المفسّر صاحب التفسير الكبير والتفسير
الصغير وهما من أحسن التفاسير، وكانت له اليد الطّولى فى القراءات
ومشاركة فى غير ذلك من العلوم، وكان مقيما
(7/348)
بالجامع العتيق بالموصل منقطعا عن الناس
مجتهدا فى العبادة لا يقبل لأحد شيئا، وكان يزوره الملك ومن دونه فلا
يقوم لهم ولا يعبأ بهم، وكان له مجاهدات وكشوف وكرامات، ولأهل تلك
البلاد فيه عقيدة. ومات وله تسعون سنة تقريبا، وكانت وفاته فى سابع «1»
عشر جمادى الآخرة بالموصل ودفن بها.
وفيها توفّى الأمير عزّ الدين المعروف بالحاجّ أزدمر بن عبد الله
الجمدار، كان من أعيان الأمراء، وكان ممن انضاف إلى سنقر الأشقر لمّا
تسلطن، وكان سنقر جعله نائبا بدمشق، ووقع له أمور ذكرنا بعضها فى أوّل
ترجمة الملك المنصور قلاوون إلى أن استشهد فى واقعة التّتار مع المنصور
قلاوون بظاهر حمص مقبلا غير مدبر رحمه الله وتقبّل منه.
وفيها توفّى الأمير عزّ الدين أيبك بن عبد الله الشّجاعىّ الصالحى
العمادى والى الولاة بالجهات «2» القبلية، كان ديّنا خيّرا ليّن الجانب
شديدا على أهل الرّيب وجيها عند الملوك، وكان الملك الظاهر بيبرس يعتمد
عليه فى أموره؛ ثم إنه ترك الأمر باختياره ولزم داره إلى أن مات بدمشق
فى جمادى الآخرة، وقد بلغ خمسا وثمانين سنة.
وفيها توفّى الأمير بدر الدين بكتوت بن عبد الله الخازندار، استشهد
أيضا فى وقعة التّتار بحمص وكان أميرا جليلا.
وفيها توفّى الأمير سيف الدين بلبان الرّومى «3» الدّوادار المقدّم
ذكره فى قضيّة كتّاب السرّ، كان الملك الظاهر بيبرس يعتمد عليه وولّاه
دوادارا، وكان المطّلع
(7/349)
على أسراره، وتدبير أمور القصّاد والجواسيس
والمكاتبات لا يشاركه فى ذلك وزير ولا نائب سلطنة، بل كان هو والأمير
حسام الدين لاچين الأيدمرىّ المعروف بالدّرفيل، فلما توفّى لا چين
المذكور انفرد بلبان بذلك وحده، وكان مع هذه الخصوصية عند الملك الظاهر
أمير عشرة، وقيل جنديا.
قال الصّفدى: لم يؤمّره طبلخاناه إلى أن مات الملك الظاهر أنعم عليه
ولده الملك السعيد بإمرة ستين فارسا بالشام، وبقى بعد ذلك إلى أن
استشهد بظاهر حمص رحمه الله وقد نيّف على ستين «1» سنة.
وفيها توفّى الأمير شمس الدين سنقر بن عبد الله الألفى، كان من أعيان
الأمراء الظاهريّة، وولى نيابة السلطنة بمصر للملك السعيد بعد موت
الأمير بدر الدين بيليك الخازندار، وباشر النّيابة أحسن مباشرة إلى أن
استعفى فأعفى، وولى النيابة عوضه الأمير كوندك، فكان ذهاب الدولة على
يده. ثم قبض الملك المنصور على سنقر هذا واعتقله بالإسكندرية، وقيل
بقلعة الجبل، إلى أن مات، وله من العمر نحو أربعين سنة.
وفيها توفّى الشيخ علاء الدين أبو الحسن علىّ بن محمود بن الحسن بن
نبهان اليشكرى ثم الربعىّ، كان له اليد الطّولى فى علم الفلك، وتفرّد
بحلّ الأزياج وعمل التقاويم، وغلب ذلك عليه مع فضلية تامة فى علم الأدب
وجودة النظم. ومن شعره:
ولما أتانى العاذلون عدمتهم ... وما منهم إلا للحمى قارض
وقد بهتوا لما رأونى شاحبا ... وقالوا به عين فقلت وعارض
وله:
إنى أغار من النّسيم إذا سرى ... بأريج عرفك خيفة من ناشق
(7/350)
وأودّ «1» لو سهّرت لا من علّة ... حذرا
عليك من الخيال الطارق
قلت: وأجاد الصاحب جمال الدين يحيى بن مطروح فى هذا المعنى حيث قال:
فلو أمسى على تلفى مصرّا ... لقلت معذّبى بالله زدنى
ولا تسمح بوصلك لى فإنّى ... أغار عليك منك فكيف منّى
ومثل هذا أيضا قول حفصة «2» المغربية، رحمها الله:
أغار «3» عليك من غيرى ومنّى ... ومنك ومن مكانك والزمان
ولو أنّى خبأتك فى جفونى ... إلى يوم القيامة ما كفانى
وفيها توفّى الشيخ الإمام الأديب البارع بدر الدين يوسف بن لؤلؤ بن عبد
الله الذّهبىّ الشاعر المشهور، كان أبوه لؤلؤ عتيق الأمير بدر الدين
صاحب تلّ باشر.
وكان بدر الدين هذا فاضلا شاعرا ماهرا. ومن شعره ممّا كتبه للشيخ نجم
الدين [محمد «4» ] بن إسرائيل وله صاحب يميل إليه يسمّى بالجارح:
قلبك اليوم طائر ... عنك فى الجوائح
كيف يرجى خلاصه ... وهو فى كفّ جارح
(7/351)
ومن شعره فى دولاب:
وروضة دولابها ... إلى الغصون قد شكا
من حين ضاع زهرها ... دار عليه وبكى
وله:
يا عاذلى فيه قل لى ... إذا «1» بدا كيف أسلو
يمرّ بى كلّ حين ... وكلما مرّ يحلو
وله:
حلا نبات الشّعر يا عاذلى ... لمّا بدا فى خدّه الأحمر
فشاقنى ذاك العذار الذي ... نباته أحلى من السّكّر
وله فى غلام على وجهه حبّ شباب:
تعشّقته لدن القوام مهفهفا ... شهىّ اللمّى أحوى المراشف أشنبا
وقالوا بدا حبّ الشباب بوجهه ... فيا حسنه وجها إلىّ محبّبا
وله:
رفقا بصبّ مغرم ... أبليته صدّا وهجرا
وافاك سائل دمعه ... فرددته فى الحال نهرا
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى العلّامة
الزاهد موفّق الدين أحمد بن يوسف الكواشىّ «2» المفسّر بالموصل فى
جمادى الآخرة، وقد جاوز التسعين. والقاضى نجم «3» الدين محمد ابن
القاضى صدر الدين بن سنىّ الدولة بدمشق
(7/352)
فى المحرّم. والعلّامة قاضى القضاة تقىّ
الدين محمد بن الحسين بن رزين العامرىّ بالقاهرة فى رجب، وله سبع
وسبعون سنة. والحافظ المسند جمال الدين أبو حامد «1» محمد بن علىّ بن
محمود بن الصابونىّ فى ذى القعدة. والمسند شمس الدين أبو الغنائم
المسلم بن محمد بن المسلم بن علّان فى ذى الحجّة، وله سبع وثمانون سنة.
والعدل أمين الدين القاسم بن أبى بكر بن القاسم الإربلىّ فى جمادى
الأولى. والعارف الزاهد ولىّ الدين علىّ بن أحمد بن بدر الجزرىّ «2»
المقيم بجامع بيت لهيا «3» فى شوّال.
وأبغا بن هولاكو ملك التّتار ببلاد همذان. والحاج أزدمر الأمير بمصافّ
حمص شهيدا.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وثلاث أصابع. مبلغ
الزيادة ثمانى عشرة ذراعا وأربع أصابع.
[ما وقع من الحوادث سنة 681]
السنة الرابعة من ولاية الملك المنصور قلاوون على مصر، وهى سنة إحدى
وثمانين وستمائة.
فيها توفّى قاضى القضاة شمس الدين أبو العبّاس أحمد بن محمد بن إبراهيم
بن أبى بكر بن خلّكان بن باول «4» بن عبد الله بن شاكل «5» بن الحسين
بن مالك بن جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك البرمكىّ الإربلىّ الشافعىّ
قاضى قضاة دمشق وعالمها ومؤرّخها.
(7/353)
مولده فى ليلة الأحد «1» حادى عشر جمادى
الآخرة سنة ثمان وستمائة بإربل وبها نشأ.
ذكره ابن العديم فى تاريخه فقال: من بيت معروف بالفقه والمناصب
الدينية. وقال غيره: كان إماما عالما فقيها أديبا شاعرا مفتنّا مجموع
الفضائل معدوم النظير فى علوم شتّى، حجّة فيما ينقله محقّقا لما يورده
منفردا فى علم الأدب والتاريخ، وكانت وفاته فى شهر رجب وله ثلاث وسبعون
سنة.
قلت: وهو صاحب التاريخ المشهور، وقد استوعبنا من حاله نبذة جيّدة فى
تاريخنا «المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى» . انتهى.
وكان ولى قضاء دمشق مرّتين: الأولى فى حدود الستين وستمائة وعزل وقدم
القاهرة، وناب فى الحكم بها عن قاضى القضاة بدر الدين السّنجارىّ،
وأفتى بها ودرّس ودام بها نحو سبع سنين؛ ثم أعيد إلى قضاء دمشق بعد عزّ
«2» الدين بن الصائغ، وسرّ الناس بعوده. ومدحته الشعراء بعدّة قصائد؛
من ذلك ما أنشده الشيخ رشيد الدين عمر بن إسماعيل [بن مسعود «3» بن سعد
بن سعيد] الفارقىّ فقال:
أنت فى الشام مثل يوسف فى مص ... ر وعندى أنّ الكرام جناس
ولكلّ سبع شداد وبعد السّب ... ع عام فيه يغاث الناس
وقال فيه أيضا نور الدين علىّ بن مصعب.
رأيت أهل الشآم طرّا ... ما فيهم قطّ غير راض
(7/354)
أتاهم الخير بعد شرّ ... فالوقت بسط بلا
انقباض
وعوّضوا فرحة بحزن ... قد أنصف الدهر فى التقاضى
وسرّهم بعد طول غمّ ... قدوم قاض وعزل قاض
فكلّهم شاكر وشاك ... لحال مستقبل وماض
ومن شعر ابن خلّكان المذكور قوله:
تمثّلتم لى والبلاد بعيدة ... فخيّل لى أنّ الفؤاد لكم مغنى
وناجا كم قلبى على البعد والنّوى ... فآنستمو لفظا وأوحشتمو معنى
وله دو بيت:
قاسوك ببدر التّمّ قوم ظلموا ... لا ذنب لهم لأنّهم ما علموا
من أين لبدر التّمّ يا ويحهم ... جيد وعيون وقوام وفم
وله:
يا رب إنّ العبد يخفى عيبه ... فاستر بحلمك ما بدا من عيبه
ولقد أتاك وما له من شافع ... لذنوبه فاقبل شفاعة شيبه
قلت ويعجبنى فى هذا المعنى قول القائل:
إن كانت الأعضاء خالفت الّذى ... أمرت به فى سالف الأزمان
فسلوا الفؤاد عن الذي أودعتم ... فيه من التوحيد والإيمان
تجدوه قد أدّى الأمانة فيهما ... فهبوا له ما خلّ فى الأركان
وفيها توفّى ملك التّتار منكوتمر بن هولاكو خان بن تولى خان بن چنكز
خان، هو أخو أبغا ملك التّتار؛ ومنكوتمر هذا هو الذي ضرب المصافّ مع
السلطان الملك المنصور قلاوون على حمص حسب ما تقدّم ذكره وانكسرت
عساكره، فلمّا وقع
(7/355)
ذلك عظم عليه وحصل عنده غمّ شديد وكمد
زائد، وحدّثته نفسه بجمع العساكر من سائر ممالك بيت هولاكو، واستنجد
بأخيه أبغا على غزو الشام، فقدّر الله سبحانه وتعالى موت أبغا، ثم مات
هو بعده فى محرّم هذه السنة، وأراح الله المسلمين من شرّهما. وكان
منكوتمر شجاعا مقداما وعنده بطش «1» وجبروت وسفك للدّماء، وكان
نصرانيّا، وكان جرح يوم مصافّ حمص، والذي جرحه الأمير علم الدين سنجر
الدّويدارىّ.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الإمام زين
الدين عبد السلام بن علىّ الزّواوىّ المالكىّ شيخ القرّاء فى رجب، عن
اثنتين وتسعين سنة.
وقاضى القضاة شمس الدين أحمد بن محمد بن خلكان الإربلىّ فى رجب، وله
ثلاث وسبعون سنة. ونجيب الدين المقداد بن هبة الله القيسىّ العدل فى
شعبان.
وأبو الطاهر إسماعيل بن هبة الله المليجىّ «2» آخر من قرأ القرآن على
أبى «3» الجود فى رمضان بالقرافة. والبرهان إبراهيم بن إسماعيل [بن
إبراهيم «4» بن يحيى بن علوىّ المعروف ب] ابن الدّرجىّ إمام المدرسة
المعزّيّة فى صفر، وله اثنتان وثمانون سنة.
والعماد إسماعيل بن إسماعيل بن جوسلين البعلبكّىّ. والعلّامة برهان
الدين محمود ابن عبد الله المراغى فى شهر ربيع الآخر، وله ستّ وسبعون
سنة. والإمام أمين الدين
(7/356)
أحمد بن عبد الله [بن محمد «1» بن عبد
الجبّار] بن الأشترىّ «2» الشافعى فى شهر ربيع الأوّل.
والشيخ الزاهد عبد الله [بن أبى بكر بن أبى البدر «3» البغدادىّ ويعرف]
بكتيلة ببغداد.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع. مبلغ الزيادة سبع عشرة
ذراعا وثمانى عشرة إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 682]
السنة الخامسة من ولاية الملك المنصور قلاوون على مصر، وهى سنة اثنتين
وثمانين وستمائة.
فيها توفّى الأمير شهاب الدين أحمد بن حجّىّ بن بريد «4» البرمكىّ أمير
آل مرى، كان من فرسان العرب المشهورين، كانت سراياه تغير إلى أقصى نجد
وبلاد الحجاز ويؤدّون له الخفر، وكذلك صاحب المدينة الشريفة، وكانت له
المنزلة العالية عند الظاهر والمنصور قلاوون وغيرهما من الملوك، كانوا
يدارونه ويتّقون شرّه، وكان يزعم أنّه من نسل الوزير جعفر بن يحيى بن
خالد بن برمك البرمكىّ من أخت الخليفة هارون الرشيد الذي امتحن جعفر
بسببها وقتل. وكان بين شهاب الدين هذا وبين عيسى بن مهنّا أمير آل فضل
منافسة، فكتب إليه شهاب الدين هذا مرّة كتابا وأغلظ فيه، وكان عند عيسى
الشيخ شهاب الدين أحمد بن غانم «5» فسأله عيسى بن مهنّا المجاوبة، فكتب
عنه يقول:
(7/357)
زعموا «1» أنّا هجونا ... جمعهم بالافتراء
كذبوا فيما ادّعوه ... وافتروا بالادّعاء
إنّما قلنا مقالا ... لا كقول السّفهاء
آل فضل آل فضل ... وانتم آل مراء
وفيها توفّى شرف بن مرى بن حسن بن حسين بن محمد النّواوى والد الشيخ
محيى «2» الدين النّواوىّ، كان مقتنعا بالحلال يزرع أرضا يقتات منها هو
وأهله، وكان يموّن ولده الشيخ محيى الدين منها، ومات فى صفر.
وفيها توفّى الشيخ الإمام شمس الدين أبو محمد «3» عبد الرحمن بن محمد
بن أحمد ابن محمد بن قدامة الحنبلىّ المقدسىّ، كان إماما فقيها ورعا
زاهدا كبير القدر جمّ الفضائل، انتهت إليه رياسة مذهب الإمام أحمد بن
حنبل، رضى الله عنه، فى زمانه، وشرح كتاب «المقنع» فى الفقه تأليف عمّه
شيخ الإسلام موفّق «4» الدين، رحمه الله:
وفيها توفّى الأمير علاء الدين كشتغدى «5» بن عبد الله الشرفىّ «6»
الظاهرىّ المعروف بأمير مجلس، كان من أعيان الأمراء وأكابرهم بالديار
المصريّة وكان بطلا شجاعا وله مواقف مشهورة ونكايات فى العدوّ المخذول.
ومات بقلعة الجبل وقد نيّف على خمسين سنة، وحضر الملك المنصور قلاوون
جنازته.
(7/358)
وفيها توفّى الكاتب المجوّد عماد الدين أبو
عبد الله، وقيل أبو الفضل، محمد ابن محمد بن هبة الله بن محمد بن هبة
الله الشّيرازىّ الدمشقىّ صاحب الخطّ المنسوب. انتهت إليه الرياسة فى
براعة الخط لا سيّما فى [القلم «1» ] المحقّق و [قلم «2» ] النّسخ.
سمع الكثير وروى عنه الحافظ جمال الدين «3» المزّىّ وغيره، وتصدّى
للكتابة وانتفع به الناس. وقدم القاهرة واتّفق أنّه ركب النيل مرّة مع
الصاحب بهاء الدين بن حنّا، وكان معه جماعة من أصحابه وفيهم شخص معروف
بابن الفقّاعى ممّن له عناية بالكتابة، فسأل الصاحب بهاء الدين، وقال:
عندى لمولانا الصاحب وهؤلاء الجماعة يوم كامل الدّعوة، ومولانا يدعو
المولى عماد الدين يفيدنى قطّة القلم، فقال الصاحب:
والله ما فى هذا شىء، مولانا يتفضّل عليه بذلك، فأطرق عماد الدين
مغضبا، ثم رفع رأسه وقال: أو خير لك من ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: أحمل
إليك ربعة بخطّى، ويعفينى من هذا، فقال الصاحب: لا والله، الرّبعة بخطّ
مولانا تساوى ألفى درهم، وأنا ما آكل من هذه الضيافة شيئا يساوى عشرة
دراهم.
وفيها توفّى الشيخ أبو محمد، وقيل أبو المحاسن، عبد الحليم بن عبد
السلام ابن تيميّة الحرّانىّ أحد علماء الحنابلة ووالد الشيخ تقىّ «4»
الدين بن تيميّة. مولده بحرّان فى ثانى عشر شوّال سنة سبع وعشرين
وستمائة، وسمع الكثير وتفقه وبرع فى الفقه وتميّز فى عدّة فنون، ودرّس
ببلده وأفتى وخطب ووعظ وفسّر، ولى هذه الوظائف
(7/359)
عقيب موت والده مجد الدين، وعمره خمس
وعشرون سنة، وكان أبوه أيضا من العلماء. ومات فى سلخ ذى الحجّة ودفن
بمقابر الصوفيّة بدمشق.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الإمام عماد
الدين علىّ بن يعقوب [بن شجاع بن «1» علىّ بن إبراهيم بن محمد] بن أبى
زهران الموصليّ الشافعىّ شيخ القرّاء بدمشق فى صفر، وقد قارب الستين.
وشيخ الإسلام الشيخ شمس الدين عبد الرحمن بن أبى عمر المقدسى [محمد بن
أحمد «2» بن محمد بن قدامة] فى شهر ربيع الآخر، وله خمس وثمانون سنة.
والإمام شهاب الدين عبد الحليم بن عبد السلام بن تيميّة الحرّانىّ والد
شيخنا فى سلخ السنة، وله ستّ وخمسون سنة. والشيخ محيى الدين عمر بن
محمد بن أبى سعد [عبد الله «3» بن محمد بن هبة الله بن على بن المطهر]
بن أبى عصرون التّميمىّ فى ذى القعدة عن ثلاث وثمانين سنة. والإمام شمس
الدين محمد ابن أحمد بن نعمة المقدسىّ مدرّس الشاميّة «4» فى ذى
القعدة. وخطيب دمشق محيى الدين محمد بن الخطيب عماد الدين عبد الكريم
[ابن القاضى «5» أبى القاسم عبد الصمد] ابن الحرستانىّ فى جمادى
الآخرة، وله ثمان وستون سنة. والحافظ شمس الدين محمد بن محمد بن عبّاس
[بن أبى «6» بكر] بن جعوان الأديب فى جمادى الأولى.
(7/360)
والرئيس محيى الدين يحيى بن على بن
القلانسىّ فى شوّال. والرئيس عماد الدين أبو الفضل محمد [بن «1» محمد]
ابن القاضى شمس الدين هبة الله بن الشّيرازى فى صفر.
وشرف الدين محمد بن عبد المنعم بن القوّاس فى شهر ربيع الآخر. والمحدّث
جمال الدين عبد الله بن يحيى الجزائرى فى شوّال. والرشيد محمد بن أبى
بكر بن محمد العامرىّ فى ذى الحجّة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وخمس أصابع.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثمانى أصابع.
[ما وقع من الحوادث سنة 683]
السنة السادسة من ولاية الملك المنصور قلاوون على مصر، وهى سنة ثلاث
وثمانين وستمائة.
فيها توفّى قاضى القضاة ناصر الدين أبو العبّاس أحمد بن محمد «2» بن
منصور الجذامىّ المالكىّ المعروف بابن المنيّر قاضى الإسكندرية، مولده
فى ذى القعدة سنة عشرين وستمائة، ومات بالإسكندرية ليلة الخميس مستهلّ
شهر ربيع الأوّل، ودفن عند تربة والده عند الجامع المغربىّ «3» ، وكان
إماما فاضلا متبحّرا فى العلوم وله اليد الطّولى فى علم الأدب والنظم
والنثر. ومن شعره ما كتبه لقاضى القضاة شمس الدين ابن خلّكان فى صدر
كتاب:
(7/361)
ليس شمس الضّحا كأوصاف شمس الد ... ين قاضى
القضاة حاشا وكلّا
تلك مهما علت محلّا ثنت ظلّا ... وهذا مهما علا مدّ ظلّا
وله يهجو القاضى زين الدين بن أبى الفرج لمّا نازعه فى الحكم:
قل لمن يدّعى المناصب بالجه ... ل تنحّ عنها لمن هو أعلم
إن تكن فى ربيع ولّيت يوما ... فعليك القضاء أمسى محرّم
وله فى صدر كتاب كتبه إلى الفائزى «1» يسأله رفع التصقيع عن ثغر
الإسكندريّة:
إذا اعتلّ الزمان فمنك يرجو ... بنو الأيام عاقبة الشّفاء
وإن ينزل بساحتهم قضاء ... فأنت اللّطف فى ذاك القضاء
وفيها توفّى ملك التتار أحمد بن هولاكو قان بن تولى قان بن چنكز قان،
كان ملكا شهما خبيرا بأمور الرعيّة سالكا أحسن المسالك، أسلم وحسن
إسلامه وبنى بممالكه الجوامع والمساجد، وكان متّبعا دين الإسلام لا
يصدر عنه إلّا ما يوافق الشريعة، وكان لمّا حسن إسلامه صالح السلطان
الملك المنصور قلاوون، وفرح السلطان بذلك، فمات أحمد بعد مدّة يسيرة،
وملك بعده أرغون بن أبغا.
وفيها توفّى القاضى نجم الدين أبو محمد عبد الرحيم بن إبراهيم بن هبة
الله بن المسلم ابن «2» هبة الله بن حسّان بن محمد بن منصور بن أحمد
الجهنىّ الشافعىّ المعروف بابن البارزىّ، ولد بحماة سنة ثمان وستمائة،
وروى الحديث وبرع فى الفقه والحديث والنحو والأدب والكلام والحكمة،
وصنّف فى كثير من العلوم، وتولّى القضاء بحماة نيابة عن والده، ثم
استقلّ بعده ولم يأخذ على القضاء رزقا، وصرف قبل موته بسنين.
ومن شعره تضمينا لأوّل قصيدة البهاء زهير البائية:
(7/362)
وكان الرّضا منى إليه ولم يكن ... رسول
فأخشى أن ينم ويكذبا
وناديت أهلا بالحبيب ولم أقل ... رسول الرّضا أهلا وسهلا ومرحبا
وفيها توفّى الأمير شرف الدين عيسى بن مهنّا أمير آل فضل وملك العرب فى
وقته؛ وكان له منزلة عظيمة عند الملوك لا سيّما عند الملك الظاهر بيبرس
البندقدارىّ، ثم تضاعفت عند الملك المنصور قلاوون، وكان كريم الأخلاق
حسن الجوار مكفوف الشر مبذول الخير، لم يكن فى العرب وملوكها من
يضاهيه، وكان عنده ديانة وصدق. ولمّا مات ولّى الملك المنصور قلاوون
ولده مهنّا عوضه، وكان بين وفاته ووفاة عدوّه الأمير أحمد بن حجّىّ
أمير آل مرى دون السنة.
وفيها توفّى الشيخ الإمام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن موسى بن
النّعمان التّلمسانىّ، سمع الكثير بعدّة بلاد وحدّث، ومولده بتلمسان فى
سنة ستّ أو سبع وستمائة، ومات بمصر ودفن بالقرافة الكبرى، وهو غير «1»
شمس الدين محمد بن العفيف التّلمسانىّ.
وفيها توفّى الملك المنصور ناصر الدين أبو المعالى محمد ابن الملك
المظفّر محمود ابن الملك المنصور محمد بن تقىّ الدين عمر بن شاهنشاه بن
أيّوب صاحب حماة والمعرّة وابن صاحبهما، ملكهما بعد وفاة أبيه سنة
اثنتين وأربعين وستمائة، ووالدته الصاحبة غازية خاتون بنت الملك الكامل
محمد صاحب مصر ابن الملك العادل أبى بكر ابن أيوب. وكان مولده سنة
اثنتين وثلاثين وستمائة، وولّى الملك المنصور قلاوون ابنه بعد وفاته.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى القاضى ناصر
الدين أبو العبّاس أحمد بن محمد «2» بن منصور الجذامىّ ابن المنيّر
بالإسكندريّة فى شهر
(7/363)
ربيع الأوّل «1» ، وله ثلاث وستون سنة.
والملك أحمد بن هولاكو ملك التّتار.
وقاضى حماة نجم الدين عبد الرحيم بن إبراهيم بن البارزىّ الشافعىّ فى
ذى القعدة، وحمل ودفن بالبقيع، وله خمس وسبعون سنة. وقاضى دمشق عز
الدين أبو المفاخر محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق الأنصارى بن
الصائغ فى شهر ربيع الآخر فى آخر الكهولية. وصاحب حماة الملك المنصور
ناصر الدين محمد ابن المظفّر محمود عن إحدى وخمسين سنة. والشيخ العارف
أبو عبد الله محمد بن موسى بن النّعمان التّلمسانىّ بمصر فى رمضان، وله
سبع وسبعون سنة. وملك العرب عيسى بن مهنّا فى شهر ربيع الأوّل.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعدّة أصابع. مبلغ
الزيادة سبع عشرة ذراعا وثلاث أصابع.
[ما وقع من الحوادث سنة 684]
السنة السابعة من ولاية الملك المنصور قلاوون على مصر، وهى سنة أربع
وثمانين وستمائة.
فيها كان فتوح المرقب وغيره من القلاع بالساحل حسب ما ذكرناه فى أوّل
الترجمة.
وفيها ولد الملك الناصر محمد بن قلاوون، ووالده على حصار المرقب؛ وقد
تقدّم ذكر ذلك أيضا.
وفيها توفّى الشيخ زين الدين أبو العبّاس أحمد بن محمد بن أحمد
الأندلسىّ الإشبيلىّ الأصل المعروف بكتاكت المصرى الواعظ المقرئ الأديب
الشاعر، مولده سنة خمس وستمائة، وقيل غير ذلك، ومات بالقاهرة فى شهر
ربيع الأوّل. وكان إماما فى الوعظ ولد به فضيلة ومشاركة. وله شعر جيّد.
من ذلك قوله.
(7/364)
من أنت محبوبه ماذا يغيّره ... ومن صفوت له
ماذا يكدّره
هيهات عنك ملاح الكون تشغلنى ... والكلّ أعراض حسن أنت جوهره
وله القصيدة المشهورة عند الفقراء التى أوّلها:
حضروا فمذ نظروا جمالك غابوا ... والكلّ مذ سمعوا خطابك طابوا
وفيها توفّى الأمير علاء الدين أيدكين بن عبد الله البندقدارىّ
الصالحىّ النجمىّ أستاذ الملك الظاهر بيبرس البندقدارى، كان أصل أيدكين
هذا من مماليك الأمير جمال الدين موسى بن يغمور، ثم انتقل عنه للملك
الصالح نجم الدين أيّوب وجعله بندقداره وأمّره ثم نكبه، وأخذ منه الملك
الظاهر بيبرس ثم أعاده. ثم ترقّى بعد موت أستاذه وولى نيابة الشام من
قبل مملوكه الملك الظاهر بيبرس، وكان الملك الظاهر بيبرس يعظّمه ويقول
له: أنت أستاذى ويعرف له حقّ التربية! وكان هو أيضا يبالغ فى خدمة
الملك الظاهر والنّصح له؛ وهو الذي انتزع له دمشق من يد الأمير سنجر
الحلبىّ كما تقدّم ذكره. وعاش أيدكين إلى دولة الملك المنصور قلاوون،
وهو من أكابر الأمراء وأعيانهم إلى أن مات فى القاهرة فى شهر ربيع
الاخر «1» ، ودفن بتربته «2» قريب بركة «3» الفيل وقد ناهر السبعين.
(7/365)
قلت: وما العجب أنّ أيدكين هذا كان من جملة
أمراء مملوكه الملك الظاهر بيبرس، والعجب أن أستاذ أيدكين هذا الأمير
جمال الدين بن يغمور كان أيضا من جملة أمراء الظاهر بيبرس فكان الظاهر
أستاذ أستاذه فى خدمته ومن جملة أمرائه فانظر إلى تقلبات الدهر بالملوك
وغيرها!
وفيها توفّى الشيخ الإمام رشيد الدين أبو محمد سعيد بن علىّ بن سعيد
البصراوىّ الحنفىّ مدرّس الشّبليّة؛ كان إماما عالما فاضلا مدرّسا كثير
الدّيانة والورع، عرض عليه القضاء غير مرّة فامتنع، وكانت له اليد
الطّولى فى العربيّة والنظم، وكانت وفاته فى شعبان ودفن بقاسيون. ومن
شعره:
(7/366)
أرى عناصر طيب العيش أربعة ... ما زال منها
فطيب العيش قد زالا
أمنّا وصحّة جسم لا يخالطها ... مغاير «1» والشّباب الغضّ والمالا
وله مواليا:
كيف اعتمدت على الدنيا وتجريبك ... أراك فلك تراها كيف تجرى بك
ما زالت الخادعه تدنو فتغرى بك ... حتى رمتك بإبعادك وتغريبك
وفيها توفّى الأديب البارع مجير الدين أبو عبد الله محمد بن يعقوب بن
علىّ المعروف بابن تميم الشاعر المشهور، وهو سبط ابن تميم، كان أصله
دمشقيّا وانتقل إلى حماة وخدم صاحبها الملك المنصور جنديّا، وكان له به
اختصاص، وكان فاضلا شجاعا عاقلا، وكان من الشعراء المعدودين. ومن شعره
فى الشجاعة والإقدام قوله:
دعنى أخاطر فى الحروب بمهجتى ... إمّا أموت بها وإمّا أرزق
فسواد عيشى لا أراه أبيضا ... إلّا إذا احمرّ السّنان الأزرق
(7/367)
وله:
لم لا أهيم إلى الرّياض وزهرها ... وأقيم منها تحت ظل ضافى
والغصن يلقانى بثغر باسم ... والماء يلقانى بقلب صافى
وله:
عاينت ورد الرّوض يلطم خدّه ... ويقول وهو على البنفسج محنق
لا تقربوه وإن تضوّع نشره ... «1» ما بينكم فهوا العدوّ الأزرق
قلت: وقريب من هذا قول القائل:
بنفسج الروض تاه عجبا ... وقال طيبى للجوّ ضمّخ
فأقبل الزهر فى احتفال ... والبان من غيظه تنفّخ
الذين ذكر الذهبى وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّيت أمّ الخير
ستّ العرب بنت يحيى بن قيماز الكنديّة فى المحرّم. والمحدّث أبو القاسم
علىّ بن بلبان الناصرىّ فى رمضان. وأبو بكر محمد بن إسماعيل بن عبد
الله الأنماطىّ فى ذى الحجّة. والقدوة الشيخ محمد بن الحسن الإخميمىّ
بقاسيون فى جمادى الأولى. والشيخ الزاهد شرف الدين محمد ابن الشيخ
عثمان [بن علىّ «2» ] الرّومىّ. والإمام الرشيد سعيد بن علىّ [ابن «3»
سعيد] الحنفىّ فى رمضان. والعلّامة رضىّ الدين محمد بن على بن يوسف
الشاطبىّ اللغوى بمصر، وله نيّف وثمانون سنة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم لم يحرّر. مبلغ الزيادة ستّ عشرة
ذراعا وعشرون إصبعا.
(7/368)
|