النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

 [ما وقع من الحوادث سنة 785]
السنة الثانية من سلطنة الملك الظاهر برقوق الأولى على مصر وهي سنة خمس وثمانين وسبعمائة.
وفيها توفّى الأديب المقرئ الفاضل شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يحيى ابن مخلوف بن مرّ «1» بن فضل الله بن سعد بن ساعد السعدىّ الأعرج الشاعر المشهور. كان لديه فضيلة وعلا قدره على نظم الشّعر، وكان عارفا بالقراءات، وقال الشعر وسنّه دون العشرين «2» سنة. ومن شعره رحمه الله: [الكامل]
إنّ الكريم إذا تنجّس عرضه ... لو طهّروه بزمزم لم يطهر
ممّا اعتراه من القذاوة والقذى ... لم ينق من نجس بسبعة أبحر
وتوفى الأمير عز الدين أيدمر بن عبد الله من صديق المعروف بالخطائى وهو مجرّد بالإسكندرية، كان أحد أمراء الطبلخانات بالديار المصرية ورأس نوبة، وكان ممن انضمّ على الأمير بركة الجوبانىّ، فقبض عليه برقوق وحبسه مدّة ثم أفرج عنه وأعاده على إمرته إلى أن مات. وخلّف موجودا كبيرا استولى عليه ناظر الخاص.
وتوفّى الأمير سيف الدين بلاط بن عبد الله السّيفى المعروف بالصغير أمير سلاح وهو بطرابلس في جمادى الأولى، وكان حيثما وقورا مشكور السيرة.
وتوفى الأمير سيف الدين تمرباى بن عبد الله الأفضلىّ الأشرفىّ نائب صفد بها فى جمادى الأولى، وكان من أعيان المماليك الأشرفية وقد تقدّم أنّه ولى نيابة

(11/297)


حلب وغيرها، ثم عزله الملك الظاهر فنقله في عدة بلاد إلى أن ولّاه نيابة صفد، فمات بها.
وتوفّى الشيخ الإمام علم الدين سليمان بن شهاب الدين أحمد بن سليمان بن عبد الرحمن [بن «1» أبى الفتح بن هاشم] العسقلانىّ الحنبلىّ، أحد فقهاء الحنابلة فى ثالث [عشرين «2» ] جمادى الآخرة.
وتوفى قاضى قضاه الشافعية بدمشق ولىّ الدين عبد الله ابن قاضى القضاة بهاء الدين «3» أبى البقاء محمد بن عبد البر بن يحيى بن على بن تمّام السبكى الشافعى بها فى هذه السنة.
وتوفى الأمير سيف الدين قطلوبغا بن عبد الله الكوكانىّ حاجب حجّاب دمشق في سادس المحرّم. وكان أصله من مماليك الأمير كوكاى، وترقى إلى أن صار من جملة أمراء الألوف بالديار المصرية، ثم ولى إمرة سلاح، ثم نقل إلى حجوبية الحجّاب في أوّل سلطنة الملك الظاهر برقوق عوضا عن سودون الفخرىّ الشيخونىّ بحكم انتقال سودون إلى نيابة السلطنة بالديار المصرية، فدام قطلوبغا هذا في وظيفة الحجوبيّة إلى أن مات وشغرت الوظيفة وهي الحجوبية من بعده أربع سنين إلى أن وليها أيدكار العمرىّ.
وتوفّى الأمير سيف الدين أرغون بن عبد الله دوادار الأمير الكبير طشتمر العلائىّ في هذه السنة. وكان من جملة أمراء الطبلخانات بديار مصر، وكان عارفا عاقلا مدبّرا وله وجاهة في الدول.

(11/298)


وتوفّى الأمير شرف الدين موسى بن دندار «1» بن قرمان أحد أمراء الطبلخانات فى ليلة الأربعاء العشرين من جمادى الأولى.
وتوفى مستوفى ديوان المرتجع أمين الدين عبد الله المعروف بجعيص «2» الأسلمىّ فى [ثالث عشر «3» ] المحرّم. كان من أعيان الكتّاب القبطيّة.
وتوفى القاضى شرف الدين موسى ابن القاضى بدر الدين محمد بن محمد ابن العلّامة شهاب الدين محمود الحلبى الحنبلى، أحد موقّعى الدّست بمدينة الرّملة عائدا من القاهرة إلى دمشق في رابع عشرين صفر، وكان من بيت كتابة وفضل.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثمانية أذرع سواء. مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا وأربعة عشر إصبعا. والله تعالى أعلم.
[ما وقع من الحوادث سنة 786]
السنة الثالثة من سلطنة الملك الظاهر برقوق الأولى على مصر وهي سنة ست وثمانين وسبعمائة.
فيها توفّى الأمير سيف الدين بهادر بن عبد الله الجمالىّ المعروف بالمشرف، أحد أمراء الألوف بالديار المصرية وأمير حاج المحمل في ذى القعدة بعيون «4» القصب من طريق الحجاز وبها دفن وقبره معروف هناك. وكان مشكور السيرة، ولى إمرة الحاج غير مرّة. رحمه الله تعالى.

(11/299)


وتوفّى قاضى القضاة علم الدين أبو الربيع سليمان بن خالد بن نعيم بن مقدم ابن محمد بن حسن بن غانم بن محمد الطائى البساطىّ المالكى قاضى قضاة المالكية بالديار المصرية وهو معزول في يوم الجمعة سادس عشر صفر وقد أناف على الستين سنة، وأصل آبائه من قرية شبرا بسيون «1» بالغربية من أعمال القاهرة وولد هو ببساط «2» وكان فقيها فاضلا بارعا ولى قضاء مصر في الدولة الأشرفيّة شعبان عوضا عن بدر الدين الإخنائىّ، بعد عزله وباشر بعفّة وتقشّف واطّراح التكلّف، حتى عزل في سنة ثلاث وثمانين ولزم داره حتى مات.

(11/300)


وتوفى الأمير سيف الدين طنج المحمّدى أحد أمراء الألوف بالديار المصرية، بعد أن أخرج منفيّا إلى دمشق، فمات بها وكان من أعيان الأمراء.
وتوفى العلّامة أوحد الدين عبد الواحد بن إسماعيل بن ياسين الحنفى المصرى المولد والدار والوفاة، كاتب السر الشريف بالديار المصرية في يوم السبت ثانى ذى الحجّة. وكان فقيها فاضلا عالما مفتنّا مشاركا في عدّة علوم مع رياسة وحشمة، خدم عند الملك الظاهر برقوق موقّعا، فلمّا تسلطن ولّاه كتابة السر بالديار المصرية، فى شوّال سنة أربع وثمانين وسبعمائة، بعد عزل القاضى بدر الدين محمد بن فضل الله فباشر الوظيفة بحرمة وافرة وحسنت سيرته وعظم في الدولة، فعاجلته المنيّة وعمره سبع وثلاثون سنة في عنفوان شبيبته وأعيد بدر الدين بن فضل الله من بعده إلى كتابة السر.
وتوفّى القاضى تقىّ الدين عبد الرحمن ابن القاضى محب الدين محمد بن يوسف ابن أحمد بن عبد الدائم [التّيمىّ «1» ] الحلبى الأصل المصرى الشافعى ناظر الجيوش المنصورة في ليلة الخميس سادس عشر جمادى الأولى. وسبب موته أن الملك الظاهر برقوقا غضب عليه بسبب إقطاع زامل أمير العرب وضربه بالدواة ثم مدّه وضربه نحو ثلاثمائة عصاة، فحمل إلى داره في محفّة ومات بعد ثلاثة أيام أو أكثر.
وتوفّى الأمير جمال الدين عبد الله ابن الأمير بكتمر الحسامىّ الحاجب أحد أمراء الطبلخاناه في يوم الأربعاء خامس عشر جمادى الأولى بداره خارج باب النصر.

(11/301)


وتوفى الأمير علاء الدين على بن أحمد بن السائس الطّيبرسىّ أستادار خوند بركة أمّ الملك الأشرف شعبان في سادس شوّال وكان من أعيان رؤساء الديار المصرية وله ثروة.
وتوفى العلّامة قاضى القضاة صدر الدين محمد ابن قاضى القضاة علاء الدين على ابن منصور الحنفى قاضى قضاة الديار المصرية، وهو قاض في يوم الاثنين عاشر شهر ربيع الأوّل وقد أناف على ثمانين سنة في ولايته الثانية وتولّى القضاء عوصه قاضى القضاة شمس الدين الطرابلسىّ وتولى مشيخة الصرغتمشيّة من بعده العلّامة جلال الدين التبّانىّ. قال العينى- رحمه الله- كان إماما عالما فاضلا كاملا بحرا فى فروع أبى حنيفة مستحضرا قويّا، وكان ريّض الخلق كثير التواضع والحلم ليّن الجانب جميل المعاشرة حسن المحاضرة والمذاكرة معتمدا على جانب الصدق فى أقواله وأفعاله سعيدا في حركاته وسكناته. رحمه الله تعالى.
وتوفّى العلّامة إمام عصره ووحيد دهره وأعجوبة زمانه أكمل الدين محمد بن محمد بن محمود «1» الرومى البابرتىّ «2» الحنفىّ شيخ خانقاة «3» شيخون في يوم الجمعة تاسع عشر شهر رمضان وحضر السلطان الملك الظاهر الصلاة عليه ومشى أمام نعشه من مصلّاة المؤمنىّ إلى أن وقف على دفنه بقبّة الشيخونيّة، بعد أن همّ على أن يحمل نعشه غير مرة فتحمّله أكابر الأمراء عنه. كان واحد زمانه في المنقول والمعقول ونالته السعادة والحاه العريض حتى إن الملك الظاهر برقوقا مع عظمته كان ينزل فى موكبه ويقف على باب خانقاه شيخون، حتى يتهيّأ الشيخ أكمل الدين للركوب

(11/302)


ويركب ويسير مع الملك الظاهر، وقع له ذلك معه غير مرّة وهو الذي كان سببا لقيام الملك الظاهر برقوق للقضاة، فإنه كان يقوم له إذا دخل عليه ولا يقوم للقضاة، لما كانت عادة الملوك من قبله فكلّمة الشيخ أكمل الدين هذا في القيام للقضاة، حتى قام لهم وصارت عادة إلى يومنا هذا. وبعد موته جلس الشيخ سراج الدين البلقينىّ عن يمين السلطان، وقد استوعبنا أحواله في المنهل الصافى بأطول من هذا.
وتوفّى قاضى مكّة وخطيبها كمال الدين أبو الفضل محمد بن أحمد بن على العقيلىّ النّويرى الشافعى بمكة في يوم «1» الأربعاء ثالث عشر شهر رجب.
وتوفّى عالم بغداد شمس الدين محمد بن يوسف بن على [بن «2» ] الكرمانىّ البغدادى الشافعىّ شارح البخارى في المحرّم بطريق الحجاز وحمل إلى بغداد ودفن بها. ومولده فى جمادى الآخرة سنة سبع «3» عشرة وسبعمائة وكان قدم مصر والشام. رحمه الله.
وتوفّى صائم الدهر الشيخ محمد بن صديق التّبريزىّ الصوفىّ في ليلة الاثنين خامس عشر شهر رمضان بالقاهرة، أقام [نيّفا «4» و] أربعين سنة يصوم (الدهر 5) ويفطر على حمّص بفلس لا يخلطه إلا بالملح فقط. وكان على قدم هائل من العبادة.
وتوفّى الأمير الطواشى شبل الدولة كافور بن عبد الله الهندى الزّمرّدى الناصرى حسن في ثامن شهر ربيع الأول وقد عمّر طويلا وهو صاحب التربة بالقرافة.

(11/303)


وتوفّى الأمير الكبير سيف الدين طشتمر بن عبد الله العلائىّ الدوادار. كان من أجلّ الأمراء وهو أوّل دوادار وليها بتقدمة ألف، ثم ولى نيابة الشام ثم أتابك العساكر بالديار المصرية إلى أن ركب عليه الملك الظاهر برقوق قبل سلطنته وقبض عليه وحبسه مدّة وولى الأتابكّية من بعده ثم أخرجه إلى القدس بطّالا، ثم ولاه نيابة صفد ثم حماة إلى أن مات. وكان ديّنا خيّرا وله مشاركة في فنون وفيه محبة لأهل العلم والفضل وكان يكتب الخطّ المنسوب ويحب الأدب والشعر.
وتوفّى تاج الدين موسى بن سعد «1» الله بن أبى الفرج ناظر الخاصّ وهو معزول وكان يعرف بابن كاتب السعدىّ وكان من أعيان الأقباط.
وتوفّى تاج الدين بن وزير بيته الأسلمىّ ناظر الإسكندرية بها في شهر ربيع الآخر.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثمانية أذرع وثمانية أصابع.
مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا وثمانية أصابع.
[ما وقع من الحوادث سنة 787]
السنة الرابعة من سلطنة الملك الظاهر برقوق الأولى على مصر وهي سنة سبع وثمانين وسبعمائة.
وفيها توفّى قاضى قضاة الحنفية بحلب تاج الدين أحمد بن شمس الدين محمد ابن محمد «2» بدمشق في هذه السنة، وكان فقيها فاضلا محدثا أديبا شاعرا ومات عن سنّ عالية.

(11/304)


وتوفّى «1» القاضى جمال الدين إبراهيم ابن قاضى قضاة حلب ناصر الدين محمد ابن قاضى قضاة حلب كمال الدين عمر ابن قاضى قضاة حلب عز الدين [أبى البركات «2» ] عبد العزيز ابن الصاحب فخر «3» الدين محمد ابن قاضى القضاة نجم الدين [أبى الحسن «4» ] أحمد ابن قاضى القضاة جمال الدين [أبى الفضل «5» ] هبة الله ابن قاضى قضاة حلب محب الدين محمد ابن قاضى قضاة حلب جمال الدين هبة الله ابن قاضى قضاة حلب محب الدين أبى غانم محمد ابن قاضى قضاة حلب جمال الدين هبة الله ابن القاضى نجم الدين أحمد بن يحيى بن زهير بن هارون بن موسى بن عيسى بن عبد الله بن محمد ابن عامر بن أبى جرادة بن ربيعة الحنفى المعروف بآبن العديم. مات عن نيّف وسبعين سنة.
قلت: هو من بيت علم ورياسة وقد تقدّم ذكر جماعة من أقار به ويأتى أيضا ذكر جماعة منهم، كلّ واحد في محلّه، إن شاء الله تعالى.
وتوفّى رئيس «6» التّجّار زكىّ الدين أبو بكر بن علىّ الخرّوبىّ المصرىّ بمصر القديمة فى يوم الخميس تاسع عشر المحرّم وخلّف مالا كبيرا.
وتوفّى الأمير فخر الدين عثمان بن قارا «7» بن [حيّار «8» ] بن مهنّا بن عيسى بن مهنّا أمير آل فضل بالبلاد الشامية في شهر ربيع الأوّل وكان من أجلّ ملوك العرب.

(11/305)


وتوفّى الأمير سيف الدين قرا بلاط بن عبد الله الأحمدى اليلبغاوىّ نائب الإسكندرية بها فى [نصف «1» ] شهر ربيع الآخر. وكان من أكابر مماليك الأتابك يلبغا العمرى الخاصّكى.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم نجم الدين أحمد بن عثمان بن عيسى بن حسن بن حسين ابن عبد المحسن الراسوفىّ الدمشقى الشافعىّ المعروف بابن الحبّال في جمادى الآخرة،- بعد عوده من مصر- بدمشق. وكان فقيها عالما متبحّرا في مذهبه، انتهت إليه رياسة مذهب الشافعىّ بدمشق في زمانه وتصدّى للإفتاء والتدريس والإشغال سنين عديدة.
وتوفّى السيد الشريف شمس الدين أبو المجد محمد بن النقيب جمال الدين أحمد ابن النقيب شمس الدين محمد بن أحمد الحرّانى الحلبى الحنفى عن سبع وأربعين سنة ولم يل نقابة الأشراف.
وتوفّى الشيخ الأديب شهاب الدين أحمد بن عبد الهادى بن أحمد المعروف بالشاطر الدمنهورىّ الشاعر المشهور بعقبة «2» أيلا متوجّها إلى الحجاز الشريف، فى العشر الأول من ذى القعدة. ومولده في سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة. وكان أديبا بارعا فاضلا، بارعا في فنون لا سيّما: فى المترجم ونظم القريض. ومن شعره فى مروحة: [الطويل]
ومخطوبة في الحرّ من كل هاجر ... ومهجورة في البرد من كلّ خاطب
إذا ما الهوى المقصور هيّج عاشقا ... أتت بالهوى الممدود من كل جانب

(11/306)


وتوفّى الأمير سيف الدين [أحمد «1» ] آقبغا بن عبد الله الدّوادار في شهر ربيع الآخر، وكان من المماليك اليلبغاويّة من حزب خشداشية الملك الظاهر برقوق.
وتوفى الرئيس شمس الدين محمد بن شهاب الدين أحمد بن سبع العبسىّ مستوفى ديوان الأحباس في ثامن [عشر «2» ] شعبان وكان معدودا من أعيان الديار المصرية.
وتوفّى قاضى القضاة زين الدين عبد الرحمن بن رشد المالكىّ، قاضى قضاة حلب بها. وكان معدودا من فقهاء المالكية.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع وأربعة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 788]
السنة الخامسة من سلطنة الملك الظاهر برقوق الأولى على مصر وهي سنة ثمان وثمانين وسبعمائة.
فيها توفّى القاضى بدر الدين أحمد بن شرف الدين محمد ابن الوزير الصاحب فخر الدين محمد ابن الوزير الصاحب بهاء الدين على بن محمد بن سليم المعروف بابن حنّاء في يوم الجمعة تاسع عشرين جمادى الآخرة بمدينة «3» مصر عن نيّف وسبعين سنة.
وكان فقيها عالما مفتنّا أديبا معدودا من فقهاء الشافعية. ومن شعره: [الكامل]
هنئت يا عود الأراك بثغره ... إذ أنت للأوطان غير مفارق
إن كنت فارقت العقيق وبارقا ... ها أنت ما بين العذيب وبارق

(11/307)


قلت: وأحسن من هذا قول ابن دمرداش الدّمشقىّ في المعنى: [الطويل]
أقول لمسواك الحبيب لك الهنا ... بلثم فم ما ناله ثغر عاشق
فقال وفي أحشائه حرق الجوى ... مقالة صبّ للديار مفارق
تذكّرت أوطانى فقلبى كما ترى ... أعلّله بين العذيب وبارق
ولابن قرناص في هذا المعنى وهو أيضا في غاية الحسن: [الطويل]
سألتك يا عود الأراك بأن تعد ... إلى ثغر من أهوى فقبّله مشفقا
ورد من ثنيّات العذيب منيهلا ... تسلسل ما بين الأبيرق والنّقا
وتوفّى السيد الشريف شهاب الدين أحمد بن عجلان بن رميثة، واسم رميثة منجد [ابن أبى نمىّ «1» سعد] الحسنىّ المكىّ أمير مكّة في حادى عشرين «2» شعبان عن نيف وستين سنة بمكة ودفن بالمعلاة. وكان حسن السّيرة مشكور الطريقة.
وولى إمرة مكة بعده ابنه محمد بن أحمد بأمر عمّه كبيش بن عجلان.
وتوفّى الشيخ عماد الدين إسماعيل أحد الأفراد في الخطّ المنسوب المعروف بابن الزّمكحل، كان رئيسا في كتابة المنسوب، كان يكتب سورة الإخلاص على حبة أرز كتابة بيّنة تقرأ بتمامها وكمالها لا ينطمس منها حرف واحد- وكان له بدائع فى فنّ الكتابة وكتب عدّة مصاحف إلى أن مات (والزّمكحل بزاى مضمومة وميم مضمومة أيضا وكاف ساكنة وحاء مضمومة مهملة وبعدها لام ساكنة) .
وتوفّى الأمير سيف الدين جلبان بن عبد الله الحاجب أحد أمراء الطبلخانات فى شهر رمضان. وكان عاقلا ساكنا مشكور السيرة.

(11/308)


وتوفى الأمير غرس الدين خليل بن قراجا بن دلغادر أمير التّركمان اليروقية «1» وصاحب أبلستين «2» قتيلا في الحرب مع الأمير صارم الدين إبراهيم بن همر التّركمانىّ، قريبا من مدينة مرعش «3» عن نيّف وستين سنة.
وتوفّى الأمير سودن العلائىّ نائب حماة قتيلا في محاربة التّركمان أيضا. وكان ممن أنشأه الملك الظاهر برقوق وأظنّه من خشداشيّته.
وتوفّى الشريف بدر الدين محمد بن عطيفة بن منصور بن جمّاز بن شيحة أمير المدينة النبويّة- على ساكنها أفضل الصلاة والسلام-
وتوفى الشيخ الزاهد العابد الصالح شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان القرمىّ الحنفىّ بالقدس الشريف في صفر. ومولده في ذى الحجّة سنة ستة وعشرين وسبعمائة. وكان كثير العبادة والتّلاوة للقرآن حتى قيل: إنه قرأ في اليوم والليلة ثمانى ختمات.
قلت: هذا شىء من وراء العقل فسبحان المانح.
وتوفّى الشيخ الإمام «4» العابد الصالح الورع شمس الدين أبو عبد الله محمد بن يوسف بن إلياس القونوىّ الحنفىّ بدمشق عن نيّف وسبعين سنة. وكان إماما عالما زاهدا شديدا في الله. وقدم القاهرة غير مرّة وتصدّى للإقراء والتصنيف سنين عديدة وانتفع الناس به. ومن مصنّفاته المفيدة «شرح تلخيص المفتاح» و «كتاب درر البحار» ونظم فيه فقه الأربعة و «شرح مجمع البحرين» فى الفقه

(11/309)


فى عشر مجلّدات، وشرح آخر في ستة أجزاء، وله: «رسالة في الحديث» وغير ذلك. رحمه الله تعالى.
وتوفّى شيخ أهل الميقات ناصر الدين محمد بن الخطائى فى يوم الأربعاء ثالث عشرين شعبان وكان إماما في وقته.
وتوفّى أيضا قرينه في علم الميقات شمس الدين محمد بن الغزولىّ في رابع شهر رجب. وكان أيضا من علماء هذا الشأن.
وتوفّى ملك الغرب صاحب مدينة فاس وما والاها السلطان موسى ابن السلطان أبى عنان فارس بن أبى الحسن المرينىّ في جمادى الآخرة. وأقيم بعده المستنصر محمد بن أبى العباس أحمد المخلوع بن أبى سالم فلم يتم أمره وخلع بعد قليل. وأفيم الواثق محمد بن أبى الفضل ابن السلطان أبى الحسن، كلّ ذلك بتدبير «1» الوزير ابن مسعود وهو يوم ذاك صاحب أمر فاس.
وتوفّى القاضى شهاب الدين أحمد بن محمد بن الزّركشى أمين الحكم فجاة بالقاهرة فى ليلة الجمعة تاسع عشر شهر ربيع الأوّل واتّهم أنّه سمّ نفسه، حتى مات لمال بقى عليه، فنسأل الله تعالى حسن الخاتمة.
وتوفّى الأمير أحمد ابن السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون فى جمادى الآخرة بمجلسه في قلعة الجبل بالحوش السلطانىّ.
وتوفّى قاضى القضاة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن التّقىّ الحنبلىّ قاضى قضاة الحنابلة بدمشق بها «2» فى هذه السنة.

(11/310)


وتوفّى الأمير شرف الدين موسى المعروف بابن الفافا أستدار الأمير أيتمش البجاسىّ في تاسع شوال. وكانت لديه فضيلة وله ثروة عظيمة وحشم. وكان من رءوس الظاهرية مذهبا وأثنى عليه الشيخ تقىّ الدين المقريزى. رحمه الله.
وتوفّى السيد الشريف هيازع بن هبة الله الحسنىّ المدنىّ أمير المدينة النبويّة مات وهو في السجن بثغر الإسكندرية في شهر ربيع الأوّل.
وتوفّى الشيخ شرف الدين صدقة ويدعى محمد بن عمر بن محمد بن محمد العادلىّ شيخ الفقراء القادريّة بالفيوم في جمادى الآخرة. وكان ديّنا صالحا أحرم مرّة من القاهرة.
وتوفّى علم الدين يحيى القبطى الأسلمى ناظر الدولة المعروف بكاتب ابن الدينارى فى شهر ربيع الآخر.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع سواء. مبلغ الزيادة عشرون ذراعا، وقيل: تسعة عشرة ذراعا وسبعة عشرة إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 789]
السنة السادسة من سلطنة الملك الظاهر برقوق الأولى على مصر وهي سنة تسع وثمانين وسبعمائة.
وفيها توفّى الأمير سيف الدين طينال بن عبد الله الماردينىّ الناصرىّ. كان أصله من مماليك الملك الناصر محمد بن قلاوون وصار في أيام الملك الناصر حسن أمير مائة ومقدّم ألف بالديار المصرية. ثم نفاه الناصر حسن إلى الشام، فأقام بها إلى أن طلبه الملك الأشرف شعبان وأعاده إلى تقدمة ألف بديار مصر مدّة. ثمّ انتزعه منه وأنعم عليه بإمرة طبلخاناه وجعله نائب قلعة الجبل فدام على ذلك مدّة سنين.

(11/311)


ثم عزله وأخذ الطبلخاناه منه وأنعم عليه بإمرة عشرة وترك طرخانا إلى أن مات فى شهر رمضان وقد عمّر.
وتوفّى الأمير تاج الدين إسماعيل بن مازن الهوّارىّ أمير عرب هوارة ببلاد الصعيد في هذه السنة وترك أموالا جمّة.
وتوفى الوزير الصاحب شمس الدين إبراهيم المعروف بكاتب أرنان. كان أصله من نصارى مصر وأسلم وخدم في ديوان الملك الظاهر برقوق في أيام إمرته، بعد أن باشر عند جماعة كبيرة من الأمراء. ولمّا تسلطن ولّاه الوزارة على كره منه وأحوال الدولة غير مستقيمة، فلما وزّر نفّذ الأمور ومشّى الأحوال مع وفور الحريّة ونفوذ الكلمة والتقلّل في الملبس بحيث إنه كان مثل أوساط الكتاب ودخل الوزارة وليس للدولة حاصل من عين ولا غلّة وقد استأجر الأمراء النواحى بأجرة قليلة، وكفّ أيدى الأمراء عن النواحى وضبط المتحصّل وجدّد مطابخ السكّر ومات والحاصل فيه ألف ألف درهم فضة وثلاثمائة وستون ألف اردبّ غلّة وستة وثلاثون ألف رأس من الغنم ومائة ألف طائر من الإوز والدّجاج وألف قنطار من الزيت وأربعمائة قنطار ماء ورد، قيمة ذلك كلّه يوم ذاك خمسمائة ألف دينار، هذا بعد قيامه بكلف الديوان تلك الأيام أحسن قيام.
وتوفّى الحافظ صدر الدين سليمان بن يوسف بن مفلح الياسوفىّ «1» الطوسىّ الحنفىّ الشافعىّ بقلعة دمشق قتيلا بها، بعد أن اعتقل بها مدّة في محنة رمى بها. وكان من الفضلاء العلماء عارفا بالفقه إماما في الحديث والتفسير عفيفا عن أمور الدنيا.

(11/312)


وتوفى الأمير سيف الدين طقتمش بن عبد الله الحسنىّ «1» اليلبغاوىّ أحد أمراء الطبلخاناه في سابع شهر رجب «2» . كان من أعيان مماليك الأتابك يلبغا العمرىّ وممن قام مع الملك الظاهر برقوق.
وتوفّى الشيخ الزاهد الورع أمين الدين محمد بن محمد بن محمد الخوارزمىّ النسفى اليلبغاوى «3» الحنفىّ المعروف بالخلواتىّ «4» فى سابع عشرين شعبان، خارج القاهرة.
وكان ممن جمع بين العلم والعمل.
وتوفّى الشيخ الإمام العلامة شمس الدين محمد القرمىّ الحنفىّ قاضى العسكر بالديار المصريّة في سابع عشرين شهر ربيع الآخر. وكان فاضلا بارعا في فنون من العلوم وكان خصيصا عند السلطان الملك الأشرف شعبان بن حسين.
وتوفى قاضى قضاة المالكيّة بحلب زين الدين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن الجعيد الشهير بابن رشد المالكىّ المغربىّ السّجلماسىّ، كان من فضلاء السادة المالكية وله مشاركة في سائر العلوم وأفتى ودرّس وتولّى قضاء حلب وحسنت سيرته.
وتوفى التاجر نور الدين على بن عنان في شوّال وكان من أعيان تجّار الكارم بمصر وخلّف مالا كبيرا.
وتوفىّ القاضى شمس الدين محمد بن على بن الخشاب الشافعىّ في شعبان وكان فاضلا عالما محدّثا، حدّث عن وزيرة والحجّار.

(11/313)


وتوفى الخطيب البليغ ناصر الدين محمد بن على بن محمد [بن «1» محمد] بن هاشم ابن عبد الواحد بن عشائر الحلبى الشافعىّ بالقاهرة في ليلة الأربعاء سادس عشرين شهر ربيع الآخر. وكان فقيها عالما عارفا بالفقه والحديث والنحو والشعر وغيره.
وولى هو وأبوه خطابة جامع حلب وقدم إلى القاهرة فلم تطل مدّته حتى مات.
وتوفى القاضى فتح الدين محمد ابن قاضى القضاة بهاء الدين [عبد الله «2» بن] عبد الرحمن بن عقيل الشافعىّ موقّع الدّرج بالديار المصرية في حادى عشرين صفر وكان معدودا من فضلاء الشافعية.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع وأربعة أصابع. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وخمسة عشرا إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 790]
السنة السابعة من سلطنة الملك الظاهر برقوق الأولى على مصر وهي سنة تسعين وسبعمائة.
وفيها توفى قاضى القضاة برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن «3» بن محمد ابن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الكنانى الشافعى قاضى قضاة مصر ثم دمشق بها وهو على قضائها في ليلة الجمعة ثامن عشر شعبان. ومولده في سنة خمس وعشرين وسبعمائة. وسمع الكثير بمصر والشام وبرع في الفقه والعربية وولى خطابة المسجد الأفصى. ثم ولى القضاء بديار مصر ثم بالشام.

(11/314)


قلت: وهو خلاف قاضى القضاة برهان الدين إبراهيم بن سعد الله بن جماعة وهو جدّ عبد الرحمن والد صاحب الترجمة.
وتوفّى الشيخ جمال الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن الأميوطى «1» الشافعى بمكة المشرفة في ثانى شهر رجب بعد أن عمّر وأسمع صحيح مسلم وغيره. وكان فقيها بارعا أفتى ودرّس وأشغل سنين.
وتوفّى الشيخ المعتقد إسماعيل بن يوسف الإنبابى بزاويته «2» بناحية منبابة في سلخ شعبان. وكان شيخا معتقدا وله كرامات. وللناس فيه اعتقاد وظنون حسنة.
ترجمه الشيخ تقىّ الدين المقريزى وقد رآه وحضر عنده وذكر عن الوقت الذي كان يعمله بزاويته (- أعنى المولد- قبائح كان الإضراب عن ذكرها أليق) وإن كان هو كما قال: مما يقع به من الفساد من المتفرّجين والمترددين، غير أن السكات فى مثل هذا أحسن، كونه رجلا منسوبا إلى الصلاح ومن ذريّة الصالحين، على أننى أيضا أنكر هذا الوقت الذي يعمل بالزاوية المذكورة إلى الآن وإبطاله من أعظم معروف يعمل، لما ترتكب العامّة فيه من الفسق وصار عندهم هذا الوقت من جملة النّزه ويتواعدون عليه من قبل عمله بأيام ويتوجّهون إليه أفواجا. ومنهم من له سنين على ذلك وهو لا يعرف باب الزاوية، غير أنه صار ذلك عنده عادة، يتّزه بها هو ومن يريد هو وأمثاله ممّن لا خلاق لهم، فلا قوّة إلا بالله ما شاء الله كان.

(11/315)


وتوفّى الأمير سيف الدين بهادر بن عبد الله المنجكىّ الأستادار وأحد أمراء الألوف بالديار المصرية في أوّل جمادى الآخرة. وأصله من مماليك الأمير منجك اليوسفىّ الناصرىّ. وكان الملك الظاهر برقوق لمّا صار بخدمة منجك المذكور بقى بينهما أنسة وصحبة، فلمّا تسلطن برقوق عرف له ذلك ورقّاه حتى ولاه الأستدارية العالية إلى أن مات وتولّى محمود بن على الاستدارية بعده. وكان بهادر عنده معرفة وعقل وسياسة وتدبير، ومات ولم ينتكب كونه كان فيه إحسان للفقراء والصلحاء والغرباء وكان له صدقات كثيرة وبرّ وافر. وكان أصله روميّا وقيل إفرنجيا وأخذه الأمير منجك.
قلت: وهو أعظم أستدار ولى الأستدارية في دولة الملك الظاهر برقوق إلى يومنا هذا وأوفرهم حرمة وأوقرهم في الدول.- رحمه الله-.
وتوفّى الوزير الصاحب علم الدين بن القسّيس الأسلمى القبطىّ المعروف بكاتب سيدى في آخر ذى الحجة، بعد أن باشر عدّة وظائف أعظمهم الوزر.
وتوفّى الرئيس أمين الدين عبد الله بن المجد فضل الله بن أمين الدين عبد الله أبن ريشة القبطى الأسلمىّ ناظر الدولة في ليلة الأربعاء سادس جمادى الأولى. وكان معدودا من أعيان الأقباط بالديار المصرية.
وتوفّى الأمير سيف الدين سيرج بن عبد الله الكمشبغاوىّ نائب قلعة الجبل، فى تاسع عشرين شهر ربيع الآخر وكان من جملة أمراء الطبلخانات وكان وقورا وله وجاهة.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم العلّامة علاء الدين أحمد بن محمد المعروف بالعلاء السّيرامىّ العجمىّ الحنفىّ شيخ الشيوخ بالمدرسة الظاهرية البرقوقية في ثالث جمادى

(11/316)


الأولى وكان إماما عالما مقدّما مفتنّا أعجوبة زمانه في الفقه وفروعه وعلمى المعانى والبيان والأصول. وكان أدرك المشايخ وأخذ عنهم العلوم العقلية والنقلية وبرع ودرّس وأفتى في بلاد العجم بمدينة هراة وخوارزم وسراى وقرم وتبريز، حتى شاع ذكره وبعد صيته ولمّا بنى الملك الظاهر مدرسته بين القصرين أرسل يطلبه على البريد حتى قدم فولّاه شيخ شيوخ مدرسته فدام بها إلى أن أدركته المنية ودفن بتربة «1» الملك الظاهر برقوق بالصحراء. وهو أحد من أوصى الملك الظاهر أن يدفن تحت رجليه ويبنى عليه مدرسة ففعل ذلك وكان ديّنا خيّرا عابدا صالحا.
ولمّا مات طلب السلطان الشيخ سيف الدين السّيرامى من حلب وولّاه عوضه شيخ الظاهرية وهو والد الشيخ نظام الدين يحيى وجدّ الشيخ عضد الدين عبد الرحمن شيخ الظاهرية المذكورة الآن.
وتوفّى القاضى تقىّ الدين محمد بن محمد بن أحمد بن شاس الماكى أحد أعيان موقّعى الدست بالديار المصرية في سابع عشر شعبان. وكان كاتبا فاضلا عيّن لكتابة السرّ بديار مصر غير مرّة.
وتوفّى الأمير شهاب الدين أحمد بن عمر بن قليج «2» والى الفيّوم في هذه السنة.
كان أبوه من أمراء الألوف بالديار المصرية وكذلك جدّه وكان هو من جملة أمراء الطبلخانات. رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير قطلوبغا المحمدى المعروف بقشقلندق أحد أمراء العشرات في ثانى جمادى الآخرة وكان له وجاهة وعنده فروسية.

(11/317)


وتوفّى القاضى عز الدين أبو اليمن محمد بن عبد اللطيف بن الكويك الرّبعى الشافعى في ثالث «1» عشر جمادى الأولى عن خمس وستين سنة وكان له سماع ورواية ولديه فضيلة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم سنة أذرع وثمانية أصابع. مبلغ الزيادة تسعة عشر ذرعا وأربعة أصابع. وكان الوفاء سابع عشر مسرى أحد شهور القبط.

(11/318)


[ما وقع من الحوادث سنة 791]
ذكر سلطنة الملك المنصور حاجى الثانية على مصر
السلطان الملك الصالح ثم المنصور حاجّى ابن السلطان الملك الأشرف شعبان ابن الأمير الملك الأمجد حسين ابن السلطان الملك الناصر محمد ابن السلطان الملك المنصور قلاوون.
وقد تقدّم ذكر نسبه أيضا في سلطنتة الأولى.
وكان سبب عوده للملك أنه لمّا وقع ما حكيناه من خروج الأمير يلبغا الناصرى وتمربغا الأفضلى المدعو منطاش بمن معهما على الملك الظاهر برقوق ووقع ما حكيناه من الحروب بينهم إلى أن ضعف أمر الملك الظاهر واختفى وترك ملك مصر واستولى الأمير الكبير يلبغا الناصرى على قلعة الجبل وكلّمه أصحابه على أنه يتسلطن فلم يفعل وأشار بعود الملك الصالح هذا وقال: إن الملك الظاهر برقوقا خلعه بغير سبب وطلب أكابر الأمراء من أصحابه مثل الأمير منطاش المقدم ذكره والأمير بزلا العمرى الناصرى والأمير قرادمرداش الأحمدى وغيرهم، وكلّمهم في عود الملك الصالح الى السلطنة ثانيا فأجاب الجميع وطلعوا من الإسطبل «1» السلطانى إلى الحوش من قلعة الجبل وجلس الأتابك يلبغا الناصرى به وطلب الملك الصالح هذا من عند أهله وقد حضر الخليفة والقضاة وبايعوه بالسلطنة وألبسوه خلعتها وركب من الحوش بأبّهة الملك وشعار السلطنة إلى الإيوان «2» بقلعة الجبل والأمراء المذكورون مشاة بين يديه وأجلسوه على تخت الملك وغيّروا لقبه بالملك المنصور ولم نعلم بسلطان تغيّر لقبه قبله ولا بعده، فإنّه كان لقبه أولا الصالح وصار الآن في سلطنته

(11/319)


الثانية المنصور وقلده الخليفة أمور الرعية على العادة وقبّل الأمراء الأرض بين يديه ودقّت النواقيس والكوسات ونودى باسمه بالقاهرة ومصر وبالأمان والدعاء للملك المنصور ثم للأتابك يلبغا وتهديد من نهب فاطمأنت الناس.
ثم قام الملك المنصور إلى القصر وسائر أرباب الدولة بين يديه واستقرّ الأمير الكبير يلبغا الناصرى أتابك العساكر بالديار المصرية ومدبّر المملكة وصاحب حلّها وعقدها، ففى الحال أمر الناصرى للامير ألطنبغا الأشرفى والأمير أرسلان اللفاف وقراكسك والأمير أردبغا العثمانى أن يكونوا عند السلطان الملك المنصور بالقصر، وأن يمنعوا من يدخل عليه من التّركمان وغيرهم. ونزل الأتابك يلبغا الناصرىّ إلى الإسطبل السلطانى حيث هو سكنه وخلع على الأمير حسام الدين حسين بن على ابن الكورانى بولاية القاهرة على عادته أولا فسّر الناس بولايته. وتعيّن الصاحب كريم الدين بن عبد الكريم بن عبد الرزّاق بن إبراهيم بن مكانس مشير الدولة وأخوه فخر الدين عبد الرحمن لنظر الدولة على عادته وأخوهما زين الدين لنظر الجهات، وأعاد جميع المكوس التي أبطلها الملك الظاهر برقوق.
ثم نودى بالأمان للماليك الجراكسة وأن جميع المماليك والأجناد على حالهم وأنّ الأمير الكبير لا يغيّر على أحد منهم شيئا مما كان فيه ولا يخرج عنه إقطاعه.
ثم في يوم الأربعاء سادس الشهر قدم الأمير ألطنبغا الجوبانى نائب الشام كان والأمير الطنبغا المعلم أمير سلاح كان والأمير قردم الحسنى رأس نوبة النّوب كان من سجن الإسكندرية وطلعوا إلى السلطان وترحّب بهم الأمير الكبير يلبغا الناصرى.
ثم نودى ثانيا بالقاهرة بأن من ظهر من المماليك الظاهرية فهو على حاله باق على إقطاعه ومن اختفى منهم بعد النداء حل ماله ودمه للسلطان.

(11/320)


ثم رسم الأمير الكبير للامير سودون الفخرى الشيخونى نائب السلطان للديار المصرية بلزوم بيته، وأما محمود الأستادار فإنه توجه إلى كريم الدين بن مكانس وترامى عليه فتكلم ابن مكانس في أمره مع الأمير الكبير وأصلح شأنه معه على مال يحمله للامير الكبير يلبغا الناصرى وجمع بينهما فآمنه الناصرى ونزل الى داره.
ثم في ثامن جمادى الآخرة المذكورة اجتمع الأمراء في الخدمة السلطانية على العادة، فأغلق باب القلعة وقبض على تسعة من الأمراء المقدّمين وهم: الأمير سودون الفخرى الشيخونى النائب المقدم ذكره وسودون باق وسودون طرنطاى وشيخ الصفوى وقجماس الصالحى ابن عم الملك الظاهر برقوق وأبو بكر بن سنقر وآقبغا الماردينى حاجب الحجاب وبجاس النّوروزى ومحمود بن على الأستدار المقدم ذكره أيضا وقبض أيضا على جماعة من أمراء الطبلخانات وهم: عبد الرحمن بن منكلى بغا الشمسى وبورى الأحمدى وتمربغا المنجكى ومنكلى الشمسى الطرخانى ومحمد بن جمق بن أيتمش البجاسى وجرجى وقرمان المنجكى وحسن خجا وبيبرس التمان تمرى وأحمد الأرغونى وأسنبغا الأرغونى وشادى وقنق باى اللّالا السيفى ألجاى وجرباش الشيخى الظاهرى وبغداد الأحمدى ويونس الرمّاح وبرسبغا الخليلى وبطا الطّولوتمرى الظاهرى ونوص المحمدى وتنكز العثمانى وأرسلان اللّفّاف وتنكزبغا السيفى وألطنبغا شادى وآقبغا اللاجينى وبلاط المنجكى وبجمان المحمدى وألطنبغا العثمانى وعلىّ بن آقتمر من عبد الغنى وإبراهيم بن طشتمر الدوادار وخليل بن تنكزبغا ومحمد بن الدوادارى وحسام الدين حسين بن على الكورانى والى القاهرة وبلبل الرومى الطويل والطواشى صواب السعدى المعروف بشنكل مقدّم المماليك والطواشى مقبل الزمام الرومى الدوادارى.

(11/321)


ثم قبض على نيّف وثلاثين أمير عشرة وهم: أزدمر الجركانى وقمارى الجمالى وجلبان أخو مامق وقرطاى السيفى ألجاى اليوسفى وآقبغا بورى الشيخونى وصلاح الدين محمد بن تنكزبغا وعبدوق العلائى وطولوبغا الأحمدى ومحمد بن أرغون شاه الأحمدى وإبراهيم ابن الشيخ على بن قرا وغريب بن حاجى وأسنبغا السيفى وأحمد بن حاجّبك بن شادى وآقبغا الجمالى الهيدبانى الظاهرى وأميرزه بن ملك الكرج وجلبان الكمشبغاوى الظاهرى قراسقل وموسى بن أبى بكر بن رسلان أمير طبر وقنق باى الأحمدى وأمير حاج بن أيتمش وكمشبغا اليوسفى ومحمد بن آقتمر الصاحبى الحنبلى النائب وآقبغا الناصرى حطب ومحمد بن سنقر المحمدى وبهادر الفخرى ومحمد بن طغاى تمر النظامى ويونس العثمانى وعمر بن يعقوب شاه وعلى بن بلاط الكبير ومحمد بن أحمد بن أرغون النائب ومحمد بن بكتمر الشمسى وألجيبغا الدوادر ومحمد بن يونس الدوادار وخليل بن قرطاى شاد العمائر ومحمد بن قرطاى نقيب الجيش وقطلوبك أمير جاندار وعلى جماعة كبيرة من المماليك الظاهرية.
ثم شفع فيه جماعة من الأمراء فأفرج عنهم: منهم صواب مقدّم المماليك المعروف بشنكل، والطواشى مقبل الدوادارى الزّمام، وحسين بن الكورانى الوالى وجماعة أخر، وأخرج قجماس ابن عم الملك الظاهر برقوق على البريد إلى طرابلس.
وفيه نودى بالقاهرة ومصر: من أحضر السلطان الملك الظاهر برقوق إلى الأمير الكبير يلبغا الناصرى، إن كان عامّيّا خلع عليه وأعطى ألف دينار، وإن كان جنديّا أعطى إمرة عشرة بالديار المصرية، وإن كان أمير عشرة أعطى طبلخاناه، وإن كان طبلخاناه أعطى تقدمة ألف. ومن أخفاه بعد ذلك شنق وحلّ ماله ودمه للسلطان.

(11/322)


ثم في ليلة الجمعة حملوا الأمراء المسجونون بقلعة الجبل إلى ثغر الإسكندريه ما خلا الأمير محمود الأستدار وبقيت المماليك الظاهرية في الأبراج متفرقة بقلعة الجبل، ثم أطلق الأمير آقبغا الماردينى حاجب الحجّاب، وأخرج من الحرّاقة «1» لشفاعة صهره الأمير أحمد بن يلبغا العمرى أمير مجلس فيه فردّ معه أرسلان اللّفّاف ومحمد بن تنكر شفع فيهما أيضا بعض الأمراء.
وفيه أيضا نودى على الملك الظاهر برقوق وهدّد من أخفاه فكثر الدعاء من العامة للملك الظاهر برقوق وكثر الأسف على فقده، وثقلت أصحاب الناصرى على الناس ونفروا منهم، فصارت العامّة تقول:
راح برقوق وغزلانه، وجاء الناصرى وتيرانه.
ثم قبض الناصرى على الطواشى بهادر الشهابى مقدّم المماليك، كان الذي كان الملك الظاهر عزله من التقدمة ونفاه إلى طرابلس، فحضر مع الناصرى من جملة أصحابه، فاتّهم أنه أخفى الملك الظاهر برقوقا، فنفى إلى المرقب «2» وختم على حواصله ونفى معه أسنبغا المجنون.
وفي ثانى عشره سجن محمود الأستدار وهو مقيّد بالزردخاناه.
وفيه ألزم الأمير الكبير يلبغا الناصرى حسين بن الكورانى الوالى بطلب الملك الظاهر برقوق وخشّن عليه في الكلام بسببه، فنزل ابن الكورانى من وقته وكرر النداء عليه بالقاهرة ومصر وهدّد من أخفاه بأنواع العذاب والنّكال.
هذا وقد كثر فساد التركمان أصحاب الناصرى بالقاهرة، وأخذوا النساء من الطرقات ومن الحمامات، ولم يتجاسر أحد على منعهم.

(11/323)


وفيه قلع العسكر السلاح من عليهم ومن على خيولهم، وكانوا منذ دخولهم وهم بالسلاح إلى هذا اليوم.
وفي يوم الثلاثاء ثالث عشر جمادى الآخرة غمر على الملك الظاهر برقوق من بيت أبى يزيد، وأمره: أنه لمّا نزل بالإسطبل بالليل سار على قدميه حتى وصل إلى بيت أبى يزيد أحد أمراء العشرات واختفى بداره ولم يعرف له خبر، وكثر الفحص عليه من قبل الناصرى وغيره وهجم في مدّة اختفائه على بيوت كثيرة فلم يقف له أحد على خبر وتكرّر النداء عليه والتهديد على من أخفاه، فخاف الملك الظاهر من أن يدلّ عليه فيؤخذ غصبا باليد فلا يبقى عليه، فأرسل أعلم الأمير ألطنبغا الجوبانى بمكانه فتوجّه إليه الجوبانى واجتمع به وأخذه وطلع به إلى الناصرى على ما سنذكره.
وقيل غير ذلك؛ وهو أنه لما نزل الملك من الإسطبل السلطانى ومعه أبو يزيد المذكور لا غير، تبعه نعمان مهتار الطشتخاناه إلى الرّميلة، فردّه الملك الظاهر، ومضى هو وأبو يزيد حتى قربا من دار أبى يزيد، فتوجّه أبو يزيد قبله، وأخلى له دارا، ثم عاد إليه وأخفاه فيها.
ثم أخذ الناصرىّ يتتبع أثر الملك الظاهر برقوق حتى سأل المهتار نعمان عنه، فأخبره أنه نزل ومعه أبو يزيد، وأنه لمّا تبعه ردّه الملك الظاهر، فعند ذلك أمر الناصرى حسين بن الكورانىّ بإحضار أبى يزيد المذكور، فشدّد فى طلبه، وهجم بيوتا كثيرة، فلم يقف له على خبر، فقبض على جماعة من أصحاب أبى يزيد وغلمانه وقرّرهم فلم يجد عندهم علما «1» به، وما زال يفحص على ذلك حتى دلّه بعض الناس على مملوك أبى يزيد، فقبض عليه، وقبض ابن الكورانى على امرأة المملوك وعاقبها

(11/324)


فدلّته على موضع أبى يزيد وعلى الملك الظاهر، وأنهما في بيت رجل خيّاط بجوار بيت أبى يزيد، فمضى ابن الكورانىّ إلى البيت، وبعث إلى الناصرىّ يعلمه، فأرسل إليه الأمراء.
وقيل غير ذلك وجه آخر، وهو أن السلطان الملك الظاهر لمّا نزل من الإسطبل كان ذلك وقت نصف الليل من ليلة الاثنين المقدّم ذكرها، فسار إلى بحر النيل، وعدّى إلى بحر النيل، وعدّى إلى برّ الجيزة ونزل عند الأهرام، وأقام هناك ثلاثة أيام، ثمّ عاد إلى بيت أبى يزيد المذكور، فأقام عنده إلى يوم الثلاثاء ثالث عشر جمادى الآخرة، فحضر مملوك أبى يزيد إلى الناصرى وأعلمه أن الملك الظاهر في بيت أستاذه، فأحضر الناصرىّ في الحال أبا يزيد، وسأله عن الملك الظاهر فاعترف أنه عنده، فأخذه ألطنبغا الجوبانى وسار به إلى البيت الذي فيه الملك الظاهر برقوق، فأوقف أبو يزيد الجوبانى بمن معه، وطلع هو وحده إلى الملك الظاهر وحدّثه الخبر، ثم أذن أبو يزيد للجوبانى، فطلع فلما رآه الملك الظاهر برقوق قام له وهمّ بتقبيل يديه فاستعاذ بالله الجوبانى من ذلك، وقال له: ياخوند، أنت أستاذنا ونحن مماليك، وأخذ يسكّن روعه، حتى سكن ما به.
ثم ألبسه عمامة وطيلسانا وأنزله من الدار المذكورة، وأركبه، وأخذه وسار من صليبة «1» ابن طولون نهارا، وشقّ به بين الملأ من الناس إلى أن طلع به إلى الإسطبل السلطانى بباب السلسلة حيث هو سكن الأمير [الكبير] يلبغا الناصرى، فأجلس بقاعة الفضة من القلعة وألزم أبو يزيد بمال الملك الظاهر الذي كان معه، فأحضر كيسا وفيه ألف دينار، فأنعم به الناصرى عليه، وأخلع عليه، ورتّب الناصرى

(11/325)


فى خدمة الملك الظاهر مملوكين وغلامه المهتار نعمان، وقيّد بفيد ثقيل، وأجرى عليه من سماطه طعاما بكرة وعشيا، ثم خلع الناصرىّ على الأمير حسام الدين حسن الكجكنىّ باستقراره في نيابة الكرك عوضا عن مأمور القلمطاوىّ.
ورسم بعزل مأمور، وقدومه إلى مصر أمير مائة ومقدّم ألف بها.
هذا بعد أن جمع الناصرى الأمراء من أصحابه وشاورهم في أمر الملك الظاهر برقوق بعد القبض عليه، فاختلفت آراء الأمراء فيه، فمنهم من صوّب قتله، وهم الأكثر، وكبيرهم منطاش، ومنهم من أشار بحبسه وهم الأقل، وأكبرهم الجوبانىّ فيما قيل، فمال الناصرىّ إلى حبسه لأمر يريده الله تعالى، وأوصى حسام الدّين الكجكنى به وصايا كثيرة حسب ما يأتى ذكره في محلّه، فأقام الكجكنى بالقاهرة فى عمل مصالحه إلى يوم تاسع عشر جمادى الآخرة، وسافر إلى محل كفالته بمدينة الكرك.
وعند خروجه قدم الخبر على الناصرى بأن الأمير آقبغا الصغير وآقبغا أستدار آقتمر، اجتمع عليهما نحو أربعمائة مملوك من المماليك الظاهرية ليركبوا على جنتمر نائب الشام ويملكوا منه البلد، فلمّا بلغ جنتمر ذلك ركب بمماليكه وكبسهم على حين غفلة، فلم يفلت منهم إلا اليسير وفيهم آقبغا الصغير المذكور، فسرّ الناصرى بذلك، وخلع على القاصد.
ولمّا وصل هذا الخبر إلى مصر ركب منطاش وجماعة من أصحابه إلى الناصرى وكلّموه بسبب إبقاء الملك الظاهر، وخوّفوه عاقبة ذلك، ولا زالوا به حتى وافقهم على قتله، بعد أن يصل إلى الكرك ويحبس بها، واعتذر إليهم بأنه إلى الآن لم يفرّق الاقطاعات والوظائف لاضطراب المملكة، وأنّه ثمّ من له ميل للظاهر في الباطن

(11/326)


وربّما يثور بعضهم عند قتله، وهذا شىء يدرك في أىّ وقت كان، حتى قاموا عنه ونزلوا إلى دورهم.
ثم أخذ الناصرى في اليوم المذكور يخلع على الأمراء باستقرارهم في الإمريات والإقطاعيات، فاستقرّ بالأمير بزلار العمرى الناصرى حسن في نيابة دمشق، والأمير كمشبغا الحموى اليلبغاوى في نيابة حلب، وبالأمير صنجق الحسنىّ في نيابة طرابلس، وبالأمير شهاب الدين أحمد بن محمد الهيدبانىّ في حجوبية طرابلس الكبرى.
ثم في حادى عشرينه عرض الأمير الكبير يلبغا الناصرى المماليك الظاهريّة وأفرد من المستجدّين مائتين وثلاثين مملوكا لخدمة السلطان الملك المنصور حاجىّ صاحب الترجمة وسبعين من المشتروات أنزلهم بالأطباق وفرّق من بقى على الأمراء، وكان العرض بالإسطبل، وأنعم على كلّ من آقبغا الجمالى الهيدبانىّ أمير آخور ويلبغا السّودونىّ وتنبك اليحياوى وسودون اليحياوى بإمرة عشرة في حلب، وهؤلاء الأربعة ظاهريّة من خواصّ مماليك الملك الظاهر برقوق، ورسم بسفرهم مع الأمير كمشبغا الحموىّ نائب حلب.
ثم في ليلة الخميس ثانى عشرين جمادى الاخرة رسم الناصرى بسفر الملك الظاهر برقوق إلى الكرك، فأخرج من قاعة الفضّة في ثلث الليل من باب القرافة أحد أبواب القلعة ومعه الأمير ألطنبغا الجوبانى، فأركبوه هجينا ومعه من مماليكه أربعة مماليك صغار على هجن، وهم قطلوبغا الكركى وبيغان الكركى وآقباى الكركى وسودون الكركى، والجميع صاروا في سلطنة الملك الظاهر الثانية بعد خروجه من الكرك أمراء، وسافر معه أيضا مهتاره نعمان، وسار به الجوبانى إلى قبة النصر خارج

(11/327)


القاهرة، وأسلمه إلى الأمير سيف الدين محمد بن عيسى العائدى؛ فتوجه به إلى الكرك من على عجرود «1» حتى وصل به إلى الكرك، وسلّمه إلى نائبها الأمير حسام الدين الكجكنى وعاد بالجواب، فأنزل الكجكنى الملك الظاهر بقاعة النحاس من قلعة الكرك، وكانت ابنة الأتابك يلبغا العمرى الخاصّكى أستاذ الملك الظاهر برقوق زوجة مأمور المعزول عن نيابة الكرك هناك، فقامت للملك الظاهر برقوق بكلّ ما يحتاج، كونه مملوك أبيها يلبغا، مع أن الناصرى أيضا مملوك أبيها، غير أنها حبّب إليها خدمة الملك الظاهر، ومدّت له سماطا يليق به، واستمرّت على ذلك أياما كثيرة، وفعلت معه أفعالا، كان اعتادها أيام سلطنته.
ثم إن الكجكنىّ أيضا اعتنى بخدمته لمّا كان أوصاه الناصرىّ به قبل خروجه من مصر، ومن جملة ما كان أوصاه الناصرىّ وقرّره معه أنّه متى حصل له أمر من منطاش أو غيره فليفرج عن الملك الظاهر برقوق من حبس الكرك، فاعتمد الكجكنى على ذلك، وصار يدخل إليه في كل يوم ويتلطّف به ويعده أنه يتوجّه معه إلى التّركمان، فإنّه له فيهم معارف، وحصّن قلعة الكرك وصار لا يبرح من عنده نهاره كلّه، ويأكل معه طرفى النهار سماطه، ولا زال على ذلك حتى أنس به الملك الظاهر وركن له حسب ما يأتى ذكره.
وأما الناصرىّ فإنه بعد ذلك خلع على جماعة من الأمراء، فاستقرّ بالأمير قطلوبغا الصّفوىّ في نيابة صفد، وبالأمير بغاجق في نيابة ملطية، ثم رسم فنودى بالقاهرة بأن المماليك الظاهريّة يخدمون مع نوّاب البلاد الشامية، ولا يقيم أحد منهم بالقاهرة، ومن تأخّر بعد النداء حلّ ماله ودمه للسلطان، ثم نودى بذلك من الغد ثانيا.

(11/328)


وفي رابع عشرينه برز النوّاب إلى الرّيدانيّة للسفر بعد أن أخلع الناصرى على الجميع خلع السفر.
ثم في سادس عشرينه خلع السلطان الملك المنصور على الأمير يلبغا الناصرى باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية وأن يكون مدبّر المملكة، وعلى الأمير ألطنبغا الجوبانى باستقراره رأس نوبة الأمراء وظيفة بركة الجوبانى وعلى الأمير قرادمرداش الأحمدى واستقرّ أمير سلاح، وعلى الأمير أحمد بن يلبغا واستقرّ أمير مجلس على عادته أوّلا، وعلى الأمير تمرباى الحسنى، واستقرّ حاجب الحجاب، وخلع على القضاة الثلاثة باستمرارهم، وهم: القاضى شمس الدين محمد الطّرابلسىّ والقاضى جمال الدين عبد الرحمن بن خير المالكى والقاضى ناصر الدين نصر الله الحنبلى، ولم يخلع على قاضى القضاة ناصر الدين ابن بنت ميلق الشافعى، لتوعّكه، ثم خلع على القاضى صدر الدين المناوى مفتى دار العدل «1» ، وعلى القاضى بدر الدين محمد بن فضل الله كاتب السر الجميع باستمرارهم.
وفي هذا اليوم سافر نوّاب البلاد الشامية، وسافر معهم كثير من التّركمان واجناد الشام وأمرائها، وفيه نودى أيضا بألّا يتأخر أحد من مماليك الملك الظاهر برقوق إلّا من يكون بخدمة السلطان ممّن عيّن، ومن تأخر بعد ذلك شنق، ثم نودى على التركمان والشاميين والغرباء بخروجهم من الديار المصرية إلى بلادهم.
وفي يوم الخميس خلع الناصرى على الأمير آقبغا الجوهرى باستقراره أستادارا، وعلى الأمير آلابغا العثمانى دوادارا كبيرا، وعلى الأمير ألطنبغا الأشرفىّ رأس نوبة ثانيا، وهي الآن وظيفة رأس نوبة النّوب، وعلى الأمير جلبان العلائى حاجبا، وعلى الأمير بلاط العلائى أمير جاندار، وعلى شهرى نائب دوركى باستمراره.

(11/329)


ثمّ في سلخ جمادى الآخرة فرّق الناصرى المثالات «1» على الأمراء، وجعلهم أربعة وعشرين تقدمة على العادة القديمة، أراد بذلك أن يظهر للناس ما أفسده الملك الظاهر برقوق في أيام سلطنته من قوانين مصر، فشكره الناس على ذلك.
ثم نودى بالقاهرة بالأمان: ومن ظلم من مدّة عشرين سنة فعليه بباب الأمير الكبير يلبغا الناصرىّ، ليأخذ حقّه.
ثم في يوم السبت أوّل شهر رجب وقف أوّل النهار زامر على باب السلسلة تحت الإسطبل السلطانى، حيث هو سكن الناصرىّ، وزعق في زمره؛ فلما سمعه الناس اجتمع الأمراء والمماليك في الحال، وطلعوا إلى خدمة الناصرىّ، ولم يعهد هذا الزّمر بمصر قبل ذلك على هذه الصورة، وذكروا أنها عادة ملوك التتار إذا ركبوا يزعق هذا الزامر بين يديه، وهو عادة أيضا في بلاد حلب، فاستغرب أهل مصر ذلك واستمرّ في كلّ يوم موكب.
وفيه أيضا رسم الناصرىّ أن يكون رءوس نوب السّلاحداريّة والسّقاة والجمداريّة ستّة لكل طائفة على ما كانوا أوّلا قبل سلطنة الملك الأشرف شعبان بن حسين، فإن الأشرف هو الذي استقرّ بهم ثمانية، وخلع الناصرى على قطلوبغا الفخرى باستقراره نائب قلعة الجبل عوضا عن الأمير بجاس.
وفي خامسه قدم الأمير نعير بن حيّار بن مهنّأ ملك العرب إلى الديار المصرية، ولم يحضر قطّ في أيام الملك الظاهر برقوق، وقصد بحضوره رؤية الملك المنصور

(11/330)


وتقبيل الأرض بين يديه، فخلع السلطان عليه، ونزل بالميدان الكبير من تحت القلعة، وأجرى عليه الرّواتب.
وفيه خلع على الأمير آلابغا العثمانى الدوادار الكبير باستقراره في نظر الأحباس مضافا لوظيفته، وقرقماس الطّشتمرى واستمرّ خازندارا.
وفي ثامنه خلع على الأمير نعير خلعة السفر وأنعم على الطواشى صواب السعدى شنكل بإمرة عشرة، واسترجعت منه إمرة طبلخاناه، ولم يقع مثل ذلك أن يكون مقدّم المماليك أمير عشرة.
وفيه خلع السلطان الملك المنصور على شخص وعمله خيّاط السلطان، فطلبه الناصرى وأخذ منه الخلعة، وضربه ضربا مبرّحا، وأسلمه لشادّ الدواوين، ثم أفرج عنه بشفاعة الأمير أحمد بن يلبغا أمير مجلس، فشقّ ذلك على الملك المنصور، فقال:
إذا لم ينفّذ مرسومى في خيّاط فما هذه السلطنة؟ ثمّ سكت على مضض.
وفي أوّل شعبان أمر المؤذّنون بالقاهرة ومصر أن يزيدوا في الآذان، إلّا آذان المغرب: الصلاة والسلام عليك يا رسول الله عدّة مرّات، وسبب ذلك أن رجلا من الفقراء المعتقدين سمع في ليلة الجمعة بعد أذان العشاء: الصلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان العادة في ليلة الجمعة بعد أذان العشاء يصلّى المؤذنون على النّبيّ صلى الله عليه وسلم مرارا على المئذنة، فلمّا سمع الفقير ذلك قال لأصحابه الفقراء:
أتحبون أن تسمعوا هذا في كل أذان؟ قالوا: نعم، فبات تلك الليلة، وأصبح وقد زعم أنّه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في منامه يأمره أن يقول لمحتسب القاهرة نجم الدين الطّنبدى أن يأمر المؤذنين أن يصلّوا على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عقيب كلّ أذان، فمشى الشيخ إلى المحتسب المذكور وقصّ عليه ما رآه، فسّره ذلك، وأمر به فبقى إلى يومنا هذا.

(11/331)


ثم إن الناصرىّ أنزل السبعين الذين قرّرهم بالأطباق من مماليك برقوق وفرّقهم على الأمراء، ورسم أيضا بإبطال المقدّمين والسوّاقين من الطّواشيّة، ونحوهم، وأنزلهم من عند الملك المنصور، فاتّضح أمر السلطان الملك المنصور، وعرف كلّ أحد أنه ليس له أمر ولا نهى في المملكة.
ذكر ابتداء الفتنة بين الأمير الكبير يلبغا الناصرى وبين الأمير تمربغا الأفضلىّ المدعو منطاش:
ولمّا كان سادس عشر شعبان أشيع في القاهرة بتنكّر منطاش على الناصرىّ، وانقطع منطاش عن الخدمة، وأظهر أنه مريض، ففطن الناصرىّ بأنه يريد يعمل مكيدة، فلم ينزل لعيادته، وبعث إليه الأمير ألطنبغا الجوبانى رأس نوبة كبيرا فى يوم الاثنين سادس عشر شعبان المذكور ليعوده في مرضه، فدخل عليه، وسلّم عليه، وقضى حقّ العيادة، وهمّ بالقيام، فقبض عليه منطاش وعلى عشرين من مماليكه، وضرب قرقماس دوادار الجوبانى ضربا مبرّحا، مات منه بعد أيام.
ثم ركب منطاش حال مسكه للجوبانىّ في أصحابه إلى باب السلسلة وأخذ جميع الخيول التي كانت واقفة على باب السلسلة وأراد اقتحام الباب ليأخذ الناصرىّ على حين غفلة، فلم يتمكّن من ذلك، وأغلق الباب، ورمى عليه مماليك الناصرىّ من أعلى السور بالنّشّاب والحجارة، فعاد إلى بيته ومعه الخيول، وكانت داره دار «1» منجك اليوسفىّ التي اشتراها تمربغا الظاهرىّ الدوادار وجدّدها بالقرب من مدرسة السلطان «2» حسن، ونهب منطاش في عوده بيت الأمير آقبغا الجوهرىّ الأستدار وأخذ خيوله وقماشه.

(11/332)


ثمّ رسم منطاش في الوقت لمماليكه وأصحابه بالطلوع إلى مدرسة السلطان حسن، فطلعوا إليها وملكوها، وكان الذي طلع إليها الأمير تنكزبغا رأس نوبة والأمير أزدمر الجوكندار دوادار الملك الظاهر برقوق في عدّة من المماليك، وحمل إليها منطاش النّشّاب والحجارة، ورموا على من كان بالرّميلة «1» من أصحاب الناصرىّ من أعلى المئذنتين ومن حول القبّة، فعند ذلك أمر الناصرىّ مماليكه وأصحابه بلبس السلاح وهو يتعجّب من أمر منطاش كيف يقع منه ذلك وهو في غاية من قلّة المماليك وأصحابه، وبلغ الأمراء ذلك، فطلع كلّ واحد بمماليكه وطلبه إلى الناصرىّ.
وأمّا منطاش فإنّه أيضا تلاحقت به المماليك الأشرفيّة خشداشيته والمماليك الظاهرية، فعظم بهم أمره، وقوى جأشه، فأمّا مجىء الظاهريّة إليه فرجاء لخلاص أستاذهم الملك الظاهر برقوق والأشرفية، فهم خشداشيّته، لأن منطاش كان أشرفيّا ويلبغا الناصرىّ يلبغاويّا خشداشا لبرقوق، وانضمت اليلبغاويّة على الناصرى وهم يوم ذاك أكابر الأمراء وغالب العسكر المصرى، وتجمّعت المماليك على منطاش حتى صار في نحو خمسمائة فارس معه، بعد ما كان سبعون فارسا في أوّل ركوبه، ثم أتاه من العامّة عالم كبير، فترامى الفريقان واقتتلا.
ونزل الأمير حسام الدّين حسين بن الكورانى والى القاهرة والأمير مأمور حاجب الحجاب من عند الناصرىّ، ونودى في الناس بنهب مماليك منطاش، والقبض على من قدروا عليه منهم، وإحضاره إلى الناصرىّ فخرج عليهما طائفة من المنطاشيّة فضربوهما وهزموهما، فعادوا إلى الناصرى، وسار الوالى إلى القاهرة، وأغلق أبوابها: واشتدّ الحرب، وخرج منطاش في أصحابه، وتقرّب من العامّة، ولا طفهم

(11/333)


وأعطاهم الذهب، فتعصّبوا له وتزاحموا على التفاط النّشّاب الذي يرمى به من أصحاب الناصرىّ على منطاش وأتوه به، وبالغوا في الخدمة لمنطاش، حتى خرجوا عن الحدّ، فكان الواحد منهم يثب في الهواء حتى يخطف السهم قبل أن يأخذه غيره، ويأتى به منطاش وطائفة منهم تنقل الحجارة إلى أعلى المدرسة «1» الحسنيّة، واستمرّوا على ذلك إلى الليل، فبات منطاش ليلة الثلاثاء سابع عشر شعبان على باب مدرسة السلطان حسن المذكورة والرمى يأتيه من القلعة من أعوان الناصرى،.
هذا والمماليك الظاهريّة تأتيه من كلّ فجّ، وهو يعدهم ويمنّيهم حتى أصبح يوم الثلاثاء وقد زادت أصحابه على ألف فارس، كلّ ذلك والناصرى لا يكترث بأمر منطاش، ويصلح أمره على التراخى استخفافا بمنطاش وحواشيه، يحرّضه على سرعة قتال منطاش ويحذّرونه التهاون في أمره.
ثمّ أتى منطاش طوائف من مماليك الأمراء والبطّالة وغيرهم شيئا بعد شىء، فحسن حاله بهم، واشتدّ بأسنه، وعظمت شوكته بالنسبة لما كان فيه أوّلا، لا بالنسبة لحواشى الناصرىّ ومماليكه، فعند ذلك ندب الناصرىّ الأمير بجمان والأمير قرابغا الأبوبكرى في طائفة كبيرة ومعهم المعلّم شهاب الدين أحمد بن الطّولونى المهندس وجماعة كبيرة من الحجّارين والنقّابين لينقبوا بيت منطاش من ظهره حتى يدخلوا منه إلى منطاش ويقاتلوه من خلفه والناصرى من أمامه، ففطن منطاش بهم، فأرسل إليهم في الحال عدّة من جماعته قاتلوهم حتى هزموهم، وأخذوا قرابغا وأتوا به إلى منطاش، فرتّب عدّة رماة على الطبلخاناه السلطانية، وعلى المدرسة الأشرفيّة التي هدمها الملك الناصر فرج، وجعل الملك المؤيّد مكانها

(11/334)


بيمارستانا في الصوّة، فرموا على منطاش بالمدافع والنّشّاب، فقتل عدّة من العوامّ، وجرح كثير من المنطاشية، هذا وقد انزعج الناصرى وقام بنفسه وهيّأ أصحابه لقتال منطاش، وندب من أصحابه من أكابر الأمراء جماعة لقتاله، وهم الأمير أحمد بن يلبغا أمير مجلس، والأمير جمق ابن الأتابك أيتمش البجاسىّ في جمع كبير من المماليك، فنزلوا وطردوا العامّة من الرّميلة، فحملت العامّة من أصحاب منطاش عليهم حملة واحدة هزموهم فيها أقبح هزيمة.
ثم عاد أحمد بن يلبغا المذكور غير مرّة، واستمرّ القتال بينهما إلى آخر النهار والرّمى والقتال عمّال من القلعة على المدرسة الحسنيّة ومن المدرسة على القلعة وبينماهم فى ذلك خرج من عسكر الناصرىّ الأمير آقبغا الماردينىّ بطلبة وصار إلى منطاش فتسلّل الأمراء عند ذلك واحدا بعد واحد، وكلّ من يأتى منطاش من الأمراء يوكّل به واحد يحفظه ويبعث به إلى داره، ويأخذ مماليكه فيقاتل الناصرى بهم.
فلمّا رأى حسين بن الكورانى الوالى جانب الناصرىّ قد اتضع خاف على نفسه من منطاش واختفى، فطلب منطاش ناصر الدين محمد بن ليلى نائب حسين ابن الكورانى وولّاه ولاية القاهرة، وألزمه بتحصيل النّشّاب، فنزل في الحال إلى القاهرة، وحمل إليه كثيرا من النشاب.
ثم أمره منطاش فنادى بالقاهرة بالأمان والاطمئنان وإبطال المكس والدعاء للأمير الكبير منطاش بالنصر.
هذا وقد أخذ أمر الناصرىّ في إدبار، وتوجّه جماعة كبيرة من أصحابه الى منطاش، فلمّا رأى الناصرىّ عسكره في قلّة وقد نفر عنه غالب أصحابه، بعث الخليفة المتوكّل على الله إلى منطاش يسأله في الصلح وإحماد الفتنة، فنزل الخليفة

(11/335)


إليه وكلّمه في ذلك، فقال له منطاش: أنا في طاعة السلطان، وهو أستاذى وابن أستاذى، والأمراء إخوتى وما غريمى إلا الناصرىّ، لأنّه حلف لى وأنا بسيواس «1» ثم بحلب ودمشق أيضا بأننا نكون شيئا واحدا، وأن السلطان يحكم في مملكته بما شاء، فلمّا حصل لنا النصر وصار هو أتابك العساكر، استبد بالأمر، ومنع السلطان من التّحكّم، وحجر عليه، وقرّب خشداشيته اليلبغاوية وأبعدنى أنا وخشداشيّتى الأشرفية، ثم ما كفاه ذلك حتى بعثنى لقتال الفلّاحين، وكان الناصرى أرسله من جملة الأمراء إلى جهة الشرقية لقتال العربان، لمّا عظم فساد فلّاحيها.
ثم قال منطاش: ولم يعطنى الناصرى شيئا من المال سوى مائة ألف درهم، وأخذ لنفسه أحسن الإقطاعات وأعطانى أضعفها، والإقطاع الذي قرّره لى يعمل فى السنة ستمائة ألف درهم، والله ما أرجع عنه حتى أقتله أو يقتلنى، ويتسلطن ويستبدّ بالأمر وحده من غير شريك، فأخذ الخليفة يلاطفه فلم يرجع له، وقام الخليفة من عنده وهو مصمّم على مقالته، وطلع إلى الناصرى وأعاد عليه الجواب.
فعند ذلك ركب الناصرىّ بسائر مماليكه وأصحابه، ونزل بجمع كبير لقتال منطاش وصفّ عساكره تجاه باب السلسلة «2» ، وبرز إليه منطاش أيضا بأصحابه وتصادما وأقتتلا قتالا شديدا، وثبت كلّ من الطائفتين ثباتا عظيما، فخرج من عسكر الناصرى الأمير عبد الرحمن ابن الأتابك منكلى بغا الشمسى صهر الملك الظاهر برقوق بمماليكه، والأمير صلاح الدين محمد بن تنكر نائب الشام، وكان أيضا من خواصّ الملك الظاهر برقوق، وسار صلاح الدين المذكور إلى منطاش ومعه خمسة أحمال نشّاب وثمانون حمل مأكل وعشرة آلاف درهم وانكسر الناصرى وأصحابه وطلع إلى باب السلسلة،

(11/336)


فتراجع أمره، وانضمّ عليه من بقى من خشداشيته اليلبغاوية، وندب لقتال منطاش الأمير أحمد بن يلبغا أمير مجلس ثانيا، والأمير قرادمرداش الأحمدى أمير سلاح، والأمير ألطنبغا المعلّم، والأمير مأمور القلمطاوى حاجب الحجّاب، والجميع يلبغاوية، ونزلوا في جمع موفور من العسكر وصدموا منطاش صدمة هائلة، وأحمى أظهرهم من في القلعة بالرمى على منطاش وأصحابه، فأخذ أصحاب منطاش عند ذلك في الرمى من أعلى المدرسة بالنشّاب والنفط، والتحم القتال، من فوق ومن أسفل، فانكسر عسكر الناصرى ثانيا، وانهزموا إلى باب السلسلة.
هذا والعامّة تأخذ النّشّاب من على الأرض وتأتى به منطاش وهو يتقرّب منهم ويترفّق لهم، ويقول لهم: أنا واحد منكم وأنتم إخواننا وأصحابنا، وأشياء كثيرة من هذه المقولة، هذا وهم يبذلون نفوسهم في خدمته ويتلاقطون النّشّاب من الرّميلة مع شدة رمى الناصرى عليهم من القلعة.
ثم ظفر منطاش بحاصل للأمير جركس الخليلى الأمير آخور وفيه سلاح كثير ومال، وبحاصل آخر لبكلمش العلائى، فأخذ منطاش منهما شيئا كثيرا، فقوى به، فإنّه كان أمره قد ضعف من قلّة السلاح لا من قلّة المقاتلة، لأن غالب من أتاه بغير سلاح.
ثم ندب الناصرىّ لقتاله الأمير مأمورا حاجب الحجّاب والأمير جمق بن أيتمش والأمير قراكسك في عدة كبيرة من اليلبغاويّة وقد لاح لهم زوال دولة اليلبغاوية بحبس الملك الظاهر برقوق، ثم بكسرة الناصرىّ من منطاش إن ثم ذلك؛ فنزلوا إلى منطاش وقد بذلوا أرواحهم، فبرز لهم العامة أمام المنطاشية، وأكثروا من رميهم بالحجارة في وجوههم ووجوه خيولهم حتى كسروهم، وعادوا إلى باب السلسلة.

(11/337)


كلّ ذلك والرمى من القلعة بالنّشّاب والنفوط والمدافع متواصل على المنطاشية، وعلى من بأعلى المدرسة الحسنية، حتى أصاب حجر من حجارة المدفع القبة الحسنية فخرقها، وقتل مملوكا من المنطاشية، فلمّا رأى منطاش شدّة الرمى عليه من القلعة أرسل أحضر المعلّم ناصر الدين محمد بن الطّرابلسى وكان أستاذا في الرمى بمدافع النّفط، فلمّا حضر عنده جرّده من ثيابه ليوسّطه من تأخّره عنه فآعتذر إليه بأعذار مقبولة، ومضى ناصر الدين في طائفة من الفرسان وأحضر آلات النفط وطلع على المدرسة ورمى على الإسطبل السلطانى، حيث هو سكن الناصرى حتى أحرق جانبا من خيمة الناصرى وفرّق جمعهم، وقام الناصرىّ والسلطان الملك المنصور من مجلسهما ومضيا إلى موضع آخر امتنعا فيه، ولم يمض النهار حتى بلغت عدّة فرسان منطاش نحو الألفى مقاتل.
وبات الفريقان في تلك الليلة لا يبطلان الرّمى حتى أصبحا يوم الأربعاء وقد جاء كثير من مماليك الأمراء إلى منطاش، ثم خرج من عسكر الناصرى الأمير تمرباى الحسنىّ حاجب الحجّاب، والأمير قردم الحسنى رأس نوبة النّوب في جماعة كبيرة من الأمراء، وصاروا إلى منطاش من جملة عسكره، وغالب هؤلاء الأمراء من اليلبغاوية.
ثم ندب الناصرىّ لقتال منطاش الأمير أحمد بن يلبغا أمير مجلس، والأمير قرا دمرداش الأحمدى أمير سلاح، وعيّن منهم جماعة كبيرة، فنزلوا وصدموا المنطاشية صدمة هائلة انكسروا فيها غير مرّة، وابن يلبغا يعود بهم إلى أن ضعف أمره، وانهزم وطلع إلى باب السلسلة، هذا والقوم يتسللون من الناصرى إلى منطاش والعامه تمسك من وجدوه من التّرك ويقولون له: ناصرىّ، أم منطاشىّ فإن قال:
ناصرى أنزلوه من على فرسه وأخذوا جميع ما عليه وأتوا به إلى منطاش.

(11/338)


ثم تكاثرث العامة على بيت الأمير أيدكار حتى أخذوه بعد قتال كبير وأتوا به إلى منطاش، فأكرمه منطاش، وبينما هو في ذلك جاءه الأمير ألطنبغا المعلّم بطلبه ومماليكه، وكان من أجل خشداشية الناصرى وأصحابه، وصار من جملة المنطاشية، فسرّ به منطاش.
ثم عيّن له ولأيدكار موضعا يقفان فيه ويقاتلان الناصرى منه، وبينما منطاش فى ذلك أرسل إليه الأمير قرادمرداش الأحمدى أمير سلاح يسأله في الحضور إليه طائعا فلم يأذن له، ثم أتاه الأمير بلّوط الصرغتمشى بعد ما قاتله عدّة مرار وكان من أعظم أصحاب الناصرى.
ثم حضر إلى منطاش جمق بن أيتمش واعتذر إليه، فقبل عذره، وعظم أمر منطاش، وضعف أمر الناصرىّ، واختل أمره وصار في باب السلسلة بعدد يسير من مماليكه وأصحابه، وندم الناصرىّ على خلع الملك الظاهر برقوق، وحبسه لمّا علم أن الأمر خرج من اليلبغاوية وصار في الأشرفية حيث لا ينفعه الندم.
فلمّا أذّن العصر قام الناصرىّ هو وقرادمرداش الأحمدى أمير سلاح وأحمد ابن يلبغا أمير مجلس وآقبغا الجوهرى الأستادار والابغا العثمانى الدوادار والأمير قراكسك في عدّة من المماليك وصعد إلى قلعة الجبل ونزل من باب القرافة، وعند ما قام الناصرىّ من باب السلسلة وطلع القلعة ونزل من باب القرافة أعلم أهل القلعة منطاش فركب في الحال بمن معه وطلع إلى الإسطبل السلطانىّ وملكه ووقع النهب فيه فأخذ من الخيل والقماش شيئا كثيرا وتفرّق الذّعر والعامّة إلى بيوت المنهزمين، فنهبوا وأخذوا ما قدروا عليه ومنعهم الناس من عدّة مواضع وبات منطاش بالإسطبل.

(11/339)


وأصبح من الغد وهو يوم الخميس تاسع عشر شعبان، وطلع إلى القلعة إلى السلطان الملك المنصور حاجى وأعلمه بأنه في طاعته وأنه هو أحقّ بخدمته لكونه من جملة المماليك الذين لأبيه الأشرف شعبان، وأنه يمتثل مرسومه فيما يأمره به وأنه يريد بما فعله عمارة بيت الملك الأشرف- رحمه الله- فسرّ المنصور بذلك هو وجماعة الأشرفية، فإنهم كانوا في غاية ما يكون من الضّيق مع اليلبغاوية من مدّة سنين.
ثم تقدّم الأمير منطاش إلى رءوس النّوب بجمع من المماليك وإنزالهم بالأطباق من قلعة الجبل على العادة، ثم قام من عند السلطان ونزل إلى الإسطبل بباب السلسلة، وكان ندب جماعة للفحص على الناصرى ورفقته، ففى حال نزوله أحضر إليه الأمير أحمد بن يلبغا أمير مجلس، والأمير مأمور القلمطاوى، فأمر بحبسهما بقاعة الفضّة من القلعة وحبس معهما أيضا الأمير بجمان المحمّدىّ، وكتب منطاش بإحضار الأمير سودون الفحرىّ الشيخونىّ النائب من ثغر الإسكندرية، ثم قدم عليه الخبر بأنّ الأمراء الذين توجّهوا في أثر الناصرىّ أدركوه بسرياقوس وقبضوا عليه، وبعد ساعة أحضر الأمير يلبغا الناصرىّ بين يديه فأمر به فقيّد وحبس أيضا بقاعة الفضّة، ثم حمل هو والجوبانىّ في آخرين إلى سجن الإسكندرية فحبسوهما «1» ، وأخذ الأمير منطاش يتتبّع أصحاب الناصرىّ وحواشيه من الأمراء والمماليك.
فلمّا كان يوم عشرين شعبان قبض على الأمير قرادمرداش الأحمدى أمير سلاح فأمر به منطاش فقيّد وحبس ثم قبض منطاش على جماعة كبيرة من الأمراء، وهم: الأمير ألطنبغا المعلّم، والأمير كشلى القلمطاوى، واقبغا الجوهرىّ، وألطنبغا

(11/340)


الأشرفىّ، وآقبغا العثمانى، وفارس الصرغتمشى، وكمشبغا، وشيخ اليوسفىّ، وعبدوق العلائى، وقيّد الجميع وبعث بهم إلى ثغر الإسكندرية، فحبسوا بها.
ثم في حادى عشرينه أنعم منطاش على الأمير إبراهيم بن قطلقتمر الخازندار «1» بإمرة مائة وتقدمة ألف، واستقرّ أمير مجلس عوضا عن أحمد بن يلبغا دفعة واحدة من إمرة عشرة، ثم أخلع السلطان الملك المنصور على الأمير منطاش باستقراره أتابك العسكر ومدبّر الممالك عوضا عن يلبغا الناصرى المقبوض عليه، ثم كتب منطاش أيضا بإحضار قطلوبغا الصّفوىّ نائب صفد، والأمير أسندمر الشرفىّ، ويعقوب شاه وتمان تمر الأشرفىّ، وعيّن لكل منهم إمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية.
ثم في ثانى عشرينه قبض على الأمير تمرباى الحسنى حاجب الحجّاب بديار مصر، وعلى الأمير يلبغا المنجكىّ، وعلى إبراهيم بن قطلقتمر أمير مجلس الذي ولّاه فى أمسه، ثم أطلقه وأخرجه على إمرة مائة وتقدمة ألف بحلب لأمر اقتضى ذلك.
ثم في ثالث عشرين شعبان المذكور قبض منطاش على أرسلان اللّفّاف، وعلى قراكسك السيفىّ، وأيدكار العمرىّ حاجب الحجّاب، وقردم الحسنىّ، وآقبغا الماردينىّ وعدّة من أعيان المماليك اليلبغاوية وغيرهم.
ثم قبض على الطواشى مقبل الزّومىّ الدّوادارى الزّمام، وجوهر اليلبغاوى لالا السلطان الملك المنصور، ثم قبض منطاش على الطواشى صندل الرومىّ المنجكى خازندار الملك الظاهر برقوق وعذّبه على ذخائر برقوق وعصره مرارا حتّى دلّ على شىء كثير، فأخذها منطاش وتقوّى بها.

(11/341)


وفي ثامن «1» عشرينه وصل سودون الشيخونى النائب من سجن الإسكندريّة فأمره منطاش بلزوم بيته.
ثم أنفق منطاش على من قاتل معه من الأمراء والمماليك بالتدريج، فأعطى لمائة واحد منهم لكل واحد ألف دينار، وأعطى لجماعة أخر لكلّ واحد عشرة آلاف درهم، ودونهم لكل واحد خمسة آلاف درهم، ودونهم لكل واحد ألف درهم، ودونهم لكلّ واحد خمسمائة درهم. وظهر على منطاش الملل من المماليك الظاهرية والتخوّف منهم، فإنه كان قد وعدهم بأنه يخرج أستاذهم الملك الظاهر برقوق من سجن الكرك إذا انتصر على الناصرىّ، فلم يفعل ذلك، ولا أنعم على واحد منهم بإمرة ولا إقطاع، وإنما أخذ يقرّب خشداشيته ومماليكه وأولاد الناس، فعزّ عليهم ذلك في الباطن، وفطن منطاش بذلك، فعاجلهم بأن عمل عليهم مكيدة، وهى:
أنه لمّا كان يوم الثلاثاء ثانى شهر رمضان من سنة إحدى وتسعين وسبعمائة المذكورة طلب سائر المماليك الظاهريّة على أنّه ينظر في أمرهم وينفق عليهم ويترضّاهم، فلمّا طلعوا إلى القلعة أمر منطاش فأغلق عليهم باب القلعة، وقبض على نحو المائتين منهم.
حدّثنى السّيفى إينال المحمودى الظاهرى قال: كنت من جملتهم، فلمّا وقفنا بين يدى منطاش ونحن في طمعة النّفقة والإقطاعات، ظهر لى من وجه منطاش الغدر، فتأخّرت خلف خشداشيتى، فلمّا وقع القبض عليهم رميت بنفسى إلى الميدان، ثم منه إلى جهة باب القرافة، واختفيت بالقاهرة. انتهى.

(11/342)


ثم بعث منطاش بالأمير جلبان الحاجب، وبلاط الحاجب، فقبض على كثير من المماليك الظاهريّة، وسجنوا بالأبراج من قلعة الجبل.
قلت: لا جرم، فإنه من أعان ظالما سلّط عليه، وفي الجملة أن الناصرىّ كان لحواشى برقوق خيرا من منطاش، غير أنّه لكل شىء سبب، وكانت حركة منطاش سببا لخلاص الملك الظاهر برقوق، وعوده إلى ملكه على ما سيأتى ذكره، ثم أمر منطاش فنودى بالقاهرة أن من أحضر مملوكا من مماليك برقوق فله كذا وكذا، وهدّد من أخفى واحدا منهم.
قلت: وما فعله منطاش هو الحزم، فإنّه أزال من يخشاه، وقرّب مماليكه وأصحابه، وكاد أمره أن يتمّ بذلك لو ساعدته المقادير، وكيف تساعده المقادير وقد قدّر بعود برقوق إلى ملكه بحركة منطاش وبركوبه على الناصرىّ.
ثم في ثالث شهر رمضان قبض منطاش على سودون النائب وألزمه بمال يحمله إلى خزانته. وفيه شدّد الطلب على المماليك الظاهريّة، وألزم سودون النائب المتقدّم ذكره بحمل ستمائة ألف درهم كان أنعم عليه بها الملك الظاهر برقوق فى أيام سلطنته.
ثم خلع على حسين ابن الكورانى بعوده إلى ولاية القاهرة، وحرّضه منطاش على المماليك الظاهريّة.
ثم قدمت الأمراء المطلوبون من البلاد الشاميّة، وخلع منطاش عليهم، وأنعم على كلّ منهم بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية دفعة، ولم يسبق لهم قبل ذلك أخذ إمرة عشرة بديار [مصر «1» ] .

(11/343)


وفيه ظفر منطاش بذخيرة كانت للملك الظاهر برقوق بجوار جامع الأزهر.
وفيه أفرج منطاش عن الأمير محمود بن على الأستادار بعد ما أخذ منه جملة كبيرة من المال، ثم أمسك منطاش جماعة من أعيان المماليك الظاهريّة ممّن كانوا ركبوا معه في أوائل أمره، وبهم كان استفحل أمره، وأضافهم إلى من تقدّم من خشداشيّتهم، وحبس الجميع بأبراج قلعة الجبل، ولم يرقّ لأحد منهم.
قلت: لعله تمثّل بأبيات المتنبى: (الكامل)
لا يخدعنّك من عدوّك دمعه ... وارحم شبابك من عدو ترحم
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم
وبينما منطاش في ذلك ورد عليه البريد بخروج الأمير نعير عن الطاعة غضبا للناصرىّ، وأنه اتفق هو وسولى بن دلغادر ونهبا بلادا كثيرة من الأعمال الحلبيّة، فلم يلتفت منطاش إلى ذلك وكتب لهما يستعطفهما على دخولهما تحت الطاعة.
ثم بعد أيام ورد البريد أيضا بخروج الأمير بزلار العمرى الناصرى حسن نائب الشام عن طاعة منطاش غضبا للأمير يلبغا الناصرى، فكتب إليه أيضا مكاتبة خشّن له فيها.
ثم أخذ منطاش فيما يفعله في أمر دمشق وغيرها- على ما سيأتى ذكره- بعد أن يقعّد له قواعد بمصر، فبدأ منطاش في اليوم المذكور بالقبض على الطواشى صواب السّعدى المعروف بشنكل مقدّم المماليك السلطانية.
وخلع على الطواشى جوهر وأعاده لتقدمة المماليك، ثم أنعم على جماعة من حواشيه ومماليكه بإقطاعات كثيرة، وأنعم على جماعة منهم بتقدمة ألف، وهم: ولده الأمير ناصر الدين محمد بن منطاش، وهي أحسن التقادم، والأمير قطلوبغا الصّفوى،

(11/344)


وأسندمر بن يعقوب شاه وتمان تمر الأشرفى وأيدكار العمرى وأسندمر الشرفى رأس نوبة منطاش وجنتمر الأشرفى، ومنكلى باى الأشرفى، وتكا الأشرفى، ومنكلى بغا خازندار منطاش وصراى تمر دوادار منطاش وتمربغا الكريمى، وألطنبغا الحلبىّ ومبارك شاه.
ثم أنعم على جماعة كبيرة بإمرة طبلخاناه، وعشرينات وعشرات، فممن أنعم عليه بإمرة طبلخاناه: الشريف بكتمر الحسنى، وأبو بكر بن سنقر الجمالى، ودمرداش القشتمرى وعبد الرحمن بن منكلى بغا الشمسى على عادته أوّلا، وجلبان السعدى، وآروس بغا صلغيه وإبراهيم بن طشتمر الدوادار وسربغا الناصرى، وتنكز الأعور الأشرفى، وصراى تمر الأشرفى، وآقبغا المنجكى، وملكتمر «1» المحمدى، وقرابغا السيفى، وقطلوبغا الزينى، وتمربغا المنجكى وأرغون شاه السيفى ومقبل السيفى منطاش أمير سلاح وطيبرس السيفى رأس نوبة، وبيرم خجا الأشرفى، وألطنبغا الجربغاوى، ومنجك الزينى، وبزلار الخليلىّ، ومحمد بن أسندمر العلائى؛ وطشبغا السيفى منطاش، وإلياس الأشرفى، وقطلوبغا السيفى، وشيخون الصرغتمشى، وجلبان السيفى، وألطنبغا الطازى، وإسماعيل السيفى، وحسين بن الكورانى.
وأنعم على كل ممّن يدكر بإمرة عشرين «2» ، وهم: غريب الخطائى وبايجى الأشرفى، ومنكلى بغا الجوبانى، وقرابغا الأحمدى، وآق كبك «3» السيفى، وفرج شادّ الدواوين، ورمضان السيفى، ومحمد بن مغلطاى المسعودى والى مصر.
وأنعم على كل ممن يذكر بإمرة عشرة «4» : صلاح الدين محمد بن تنكز، زيادة على ما بيده، وخضر بن عمر بن بكتمر الساقى، ومحمد بن يونس الدوادار، وعلىّ

(11/345)


الجركتمرى، ومحمد بن رجب بن محمد التركمانى، ومحمد بن رجب بن جنتمر من عبد الغنى وجوهر الصلاحى، وإبراهيم بن يوسف بن برلغى ولؤلؤ العلائى الطواشى، وتنكز العثمانى وصراى تمر الشرفى الصغير، ومنكلى بغا المنجكى، وآق سنقر الأشرفى، رأيت أنا المذكور في دولة الملك الأشرف برسباى في حدود سنة ثلاثين وثمانمائة وقد شاخ وجاركس القرابغاوى، وأسنبغا التاجى، وسنقر السيفى، وكزل الجوبانى، وقرابغا الشهابى، وبك بلاط الأشرفى، ويلبغا التركمانى، وأرنبغا الأشرفى، وحاجى اليلبغاوى، وأرغون الزينى، ويلبغا الزينىّ وتمر الأشرفى وجنبغا الشرفى، وجقمق السيفى، وأرغون شاه البكلمشى، وألطنبغا الأشقر، وصراى السيفى، وألطنبغا الإبراهيمى، وآقبغا الأشرفى وألجيبغا السيفى. انتهى.
ثم في خامس عشر شهر رمضان نودى على الزّعر بالقاهرة ومصر من حمل منهم سيفا أو سكّينا أو شالق بحجر وسّط وحرّض الموالى عليهم، فقطع أيدى ستة منهم فى يوم واحد.
وفي يوم عشرين شهر رمضان ورد البريد بأن بزلار نائب الشام مسكه الأمير جنتمر أخو طاز فكاد منطاش أن يطير من الفرح بذلك، لأن بزلار كان من عظماء الملوك «1» ممن كان الملك الظاهر برقوق يخافه، ونفاه إلى الشام، فوافق الناصرىّ، فولاه الناصرى نيابة الشام دفعة واحدة مخافة من شرّه، وكان من الشجعان حسب ما يأتى ذكره في الوفيات.
ولمّا أن بلغ منطاش هذا الخبر قلع السلاح عنه وأمر أمراءه ومماليكه بقلع السلاح، فإنهم كانوا في هذه المدّة الطويلة لابسين السلاح في كلّ يوم.
ثمّ في الحال قبض منطاش على جمق بن أيتمش البجاسىّ وعلى بيرم العلابى رأس نوبة أيتمش.

(11/346)


وفيه قدم سيف الأمير بزلار المقدّم ذكره، وكان من خبره أن منطاش لمّا انتصر على الناصرىّ وملك مصر أرسل إلى الأمير بزلار المذكور بحضوره إلى مصر فى ثلاثة سروج لا غير على البريد، فأجابه بزلار: لا أحضر اليه إلا في ثلاثين ألف مقاتل، وخاشنه في ردّ الجواب، وخرج عن طاعته، فخادعه منطاش حسب ما تقدّم ذكره، وكتب في الباطن للأمير جنتمر أخى طاز أتابك دمشق بنيابة دمشق إن قبض على بزلار المذكور ثم سيّر، إليه التشريف بذلك، وكتب إليه أن محمد ابن بيدمر يكون أتابك دمشق عوضه، وجبريل حاجب حجّاب دمشق، فلمّا بلغ جنتمر ذلك عرّف الأمراء المذكورين الخبر، واتّفق مع جماعة أخر من أكابر أمراء دمشق وركبوا على بزلار المذكور على حين غفلة وواقعوه، فلم يثبت لهم، وانكسر ومسك وحبس بقلعة دمشق، وأرسل جنتمر سيفه إلى منطاش، واستقرّ عوضه فى نيابة دمشق، فسرّ منطاش بذلك غاية السرور.
فلم يتّم سروره، وقدم عليه الخبر بما هو أدهى وأمرّ، وهو خروج الملك الظاهر برقوق من سجن الكرك، وأنه استولى على مدينتها ووافقه نائبها الأمير حسام الدين حسن الكجكنى، وقام بخدمته وقد حضر إلى الملك الظاهر برقوق ابن خاطر أمير بنى عقبة من عرب الكرك ودخل في طاعته، وقدم هذا الحبر من ابن باكيش نائب غزة، فلمّا سمع منطاش ذلك كاد يهلك واضطربت الديار المصرية، وكثرت القالة بين الناس، واختلفت الأقاويل، وتشغّب الذعر وكان من خبر الملك الظاهر برقوق أن منطاش لمّا وثب على الأمير وأقهر الأتابك يلبغا الناصرى وحبسه وحبس عدّة من أكابر الأمراء، عاجل في أمر الملك الظاهر برقوق بأن بعث إليه شخصا يعرف بالشهاب البريدى ومعه كتب للأمير حسام الدين الكجكنى نائب الكرك وغيره بقتل الملك الظاهر برقوق من غير مراجعة، ووعده بأشياء غير نيابة الكرك،

(11/347)


وكان الشهاب البريدىّ أصله من الكرك، وتزوج ببنت قاضى الكرك القاضى عماد الدين أحمد بن عيسى المقيّرىّ الكركى، ثم وقع بين الشهاب المذكور وبين زوجته، فقام أبوها عليه حتى طلّقها منه، وزوجها بغيره، وكان الشهاب مغرما بها، فشقّ ذلك عليه، وخرج من الكرك وقدم مصر وصار بريديّا وضرب الدهر ضرباته حتى كان من أمر منطاش ما كان، فاتصل به الشهاب المذكور ووعده أنه يتوجّه لقتل الملك الظاهر برقوق، فجهزه منطاش لذلك سرّا وكتب على يده إلى الأمير حسام الدين الكجكنى نائب الكرك كتبا بذلك وحثّه على القيام مع الشهاب المذكور على قتل برقوق وأنه ينزله بقلعة الكرك ويسكنه بها حتى يتوصّل لقتل الملك الظاهر برقوق.
وخرج الشهاب من مصر ومضى إلى نحو الكرك على البريد حتى وصل قرية المقيّر «1» بلد صهره القاضى عماد الدين قاضى الكرك الذي أصله منها، فنزل بها الشهاب ولم يكتم ما في نفسه من الحقد على القاضى عماد الدين، وقال: والله لأخربن دياره وأزيد في أحكار أملاكه وأملاك أقاربه بهذه القرية وغيرها، فاشتوحش قلوب الناس وأقارب عماد الدين من هذه الكلام وأرسلوا عرّفوه بقصد الشهاب وما جاء بسببه قبل أن يصل الشهاب إلى الكرك، ثم ركب الشهاب من المقيّر وسار إلى الكرك حتى وصلها في الليل، وبعث للنائب من يصيح به من تحت السور، فمنعوه من ذلك، وأحسّ الكجكنى بالأمر، فلمّا أصبح أحضره إلى دار السعادة، وقرأ كتاب السلطان الذي على يده، وكتاب منطاش ومضمونهما أمور أخر غير قتل الظاهر برقوق؛ فامتثل النائب ذلك بالسمع والطاعة.

(11/348)


فلمّا انفضّ الناس أخرج الشهاب إليه كتاب منطاش الذي بقتل برقوق، فأخذه الكجكنى منه ليكون له حجّة عند قتله السلطان برقوق، ووعده بقضاء الشغل، وأنزل الشهاب بمكان قلعة الكرك قريبا من الموضع الذي فيه الملك الظاهر برقوق، بعد أن استأنس به، ثم قام الكجكنى من فوره ودخل إلى الملك الظاهر برقوق ومعه كتاب منطاش الذي بقتله، فأوقفه على الكتاب، فلمّا سمعه الملك الظاهر كاد أن يهلك من الجزع، فخلف له الكجكنى بكل يمين أنه لا يسلّمه لأحد ولو مات، وأنه يطلقه ويقوم معه، وما زال به حتى هدأ ما به، وطابت نفسه، واطمأنّ خاطره.
هذا وقد اشتهر في مدينة الكرك بمجيء الشهاب بقتل الملك الظاهر برقوق لخفّة كانت في الشهاب المذكور، وأخذ القاضى عماد الدين يخوّف أهل الكرك عاقبة قتل الملك الظاهر برقوق وينفّرهم عن الشهاب حتى خافوه وأبغضوه، وكان عماد الدين مطاعا في أهل بلده، مسموع الكلمة عندهم لما كانوا يعهدون من عقله وحسن رأيه، وثقل الشهاب على أهل الكرك إلى الغاية، وأخذ الشهاب يلحّ على الأمير حسام الدين نائب الكرك في قتل الملك الظاهر برقوق، وبقى النائب يسوّف به من وقت إلى وقت، ويدافعه عن ذلك بكلّ حجّة وعذر فزاد الشهاب فى القول حتى خاشنه في اللفظ، فعند ذلك قال له الكجكنى: هذا شىء لا أفعله بوجه من الوجوه حتى أكتب إلى مصر بما أعرفه وأسأل عن ذلك ممّن أثق به من أصحابى من الأمراء.
ثمّ أرسل البريد إلى مصر أنه لا يدخل في هذا الأمر، ولكن يحضر إليه من يتسلّمه منه ويفعل فيه ما يرسم له به، وكان في خدمة الملك الظاهر غلام من أهل الكرك يقال له: عبد الرحمن، فنزل إلى جماعة في المدينة وأعلمهم أن الشهاب قد حضر،

(11/349)


لقتل أستاذه الملك الظاهر، فلمّا سمعوا ذلك اجتمعوا في الحال؛ وقصدوا القلعة وهجموها حتى دخلوا إلى الشهاب المذكور وهو بسكنه من قلعة الكرك، ووثبوا عليه وقتلوه، ثم جرّوه برجله إلى الباب الذي فيه الملك الظاهر برقوق، وكان نائب الكرك الكجكنى عند الملك الظاهر، وقد ابتدءوا في الإفطار بعد أذان المغرب، وهي ليلة الأربعاء عاشر شهر رمضان من سنة إحدى وتسعين وسبعمائة المقدّم ذكرها، فلم يشعر الملك الظاهر والكجكنى إلا وجماعة قد هجموا عليهم وهم يدعون للملك الظاهر بالنصر؛ وأخذوا الملك الظاهر بيده حتى أخرجوه من البرج الذي هو فيه، وقالوا له: دس بقدمك عند رأس عدوّك، وأروه الشهاب مقتولا، ثم نزلوا به إلى المدينة فدهش النائب ممّا رأى، ولم يجد بدا من القيام في خدمة الملك الظاهر وتجهيزه، وانضمّ على الملك الظاهر أقوام الكرك وأجنادها، وتسامع به أهل البلاد، فأتوه من كلّ فجّ بالتقادم والخيول، كلّ واحد بحسب حاله، وأخذ أمر الملك الظاهر برقوق من يوم ذلك في استظهار على ما سيأتى ذكره.
وأمّا أمر منطاش فإنه لمّا سمع هذا الخبر وتحقّقه علم أنه وقع في أمر عظيم، فأخذ في تدبير أحواله، فأوّل ما ابتدأ بمسك الأمير قرقماس الطشتمرى الخازندار، وأحد أمراء الألوف بديار مصر، وبمسك الأمير شاهين الصرغتمشى أمير آخور، وبمسك قطلوبك أستادار الأتابك أيتمش البجاسىّ، وعلى جماعة كبيرة من المماليك الظاهريّة، وتداول ذلك منه أياما.
ثم أنعم منطاش على جماعة من الأمراء بأموال كثيرة، ورسم بسفر أربعة آلاف فارس إلى مدينة غزّة صحبة أربعة أمراء من مقدّمى الألوف بالديار المصرية، وهم: أسندمر اليوسفى، وقطلوبغا الصفوى، ومنكلى باى الأشرفىّ، وتمربغا الكريمى، وأنفق في كلّ أمير منهم مائة ألف درهم فضّة، ثم عيّن منطاش مائة مملوك

(11/350)


للسفر صحبة أمير الركب إلى الحجاز، واسمرّ منطاش في عمل مصالحه إلى أن كان يوم سابع شوّال خلع السلطان الملك المنصور على الأمير منطاش المذكور، وفوّض إليه تدبير الأمور، وصار أتابك العساكر كما كان يلبغا، أراد منطاش بذلك إعلام الناس أنه ليس له غرض في السلطنة، وأنه في طاعة الملك المنصور ابن أستاذه.
ثمّ خلع الملك المنصور أيضا على الأمير قطلوبغا الصّفوى المقدّم ذكره في الأربعة أمراء المعينين للسفر باستقراره أمير سلاح، وعلى تمان تمر الأشرفىّ باستقراره رأس نوبة النوب، وعلى أسندمر بن يعقوب شاه أمير مجلس، وعلى ألطنبغا الحلبى دوادارا كبيرا، وعلى تكا الأشرفىّ رأس نوبة ثانيا بتقدمة ألف وعلى إلياس الأشرفىّ أمير آخور بإمرة طبلخاناه، وعلى أرغون شاه السيفى رأس نوبة ثالثا بإمرة طبلخاناه، وعلى تمربغا المنجكى رأس نوبة، رابعا بإمرة طبلخاناه، وعلى قطلوبغا الأرغونى أستدارا، وعلى جقمق شادّ الشراب خاناه، ثم خلع على تمان تمر رأس نوبة بنظر البيمارستان المنصورى، وعلى ألطنبغا الحلبى الدوادار الكبير بنظر الأحباس، ثم بطل أمر التجريدة المعيّنة إلى غزة خوفا من المماليك لئلا يذهبوا للملك الظاهر برقوق.
ثم في تاسع شوّال خلع على الأمير أيدكار باستقراره حاجب الحجاب وعلى أمير حاج بن مغلطاى حاجبا ثانيا بتقدمة ألف.
وفيه سمّر منطاش أربعة من الأمراء، وهم: سودون الرمّاح أمير عشرة، ورأس نوبة، والطنبغا أمير عشرة أيضا، وأميران من الشام، ووسّطوا بسوق الخليل في عاشره لميلهم إلى الملك الظاهر برقوق.
ثم أخلع منطاش على تنكز الأعور باستقراره في نيابة حماة عوضا عن طغاى تمر القبلاوى، وفيه حمل جهاز خوند بنت الملك الأشرف شعبان أخت الملك المنصور،

(11/351)


هذا لتزفّ على الأمير الكبير منطاش، وكان على خمسمائة جمل وعشرة قطر بغال، ومشى الحجاب وغالب الأمراء أمام الجهاز، فخلع عليهم منطاش الخلع السّنيّة، وبنى بها من ليلته، بعد أن اهتمّ بالعرس اهتماما زائدا، وعند ما زفّت إليه علّق منطاش على شربوشها دينارا زنته مائتا مثقال، ثم ثانى مرّة دينارا زنته مائة مثقال وفتح للقصر بابا من الإسطبل بسبب ذلك بجوار باب السرّ، هذا مع ما كان منطاش فيه من شغل السرّ من اضطراب المملكة بعد مسكه الناصرىّ وغيره.
وفيه أخرج عدّة من المماليك الظاهريّة إلى قوص «1» ، وبينما منطاش في ذلك قدم عليه الخبر بأن الأمراء المقيمين بمدينة قوص من المنفيّين قبل تاريخه خرجوا عن الطاعة، وقبضوا على والى قوص، وحبسوه واستولوا على مدينة قوص، وانضم عليهم جماعة كبيرة من عصاة العربان، فندب منطاش لقتالهم تمربغا الناصرى وبيرم خجا، وآروس بغا من أمراء الطبلخاناة في عدّة مماليك.
ثم قدم عليه الخبر بأن الأمير كمشبغا الحموى اليلبغاوى نائب حلب خرج عن الطاعة، وأنه قبض على جماعة من أمراء حلب بعد أن حارب إبراهيم بن قطلقتمر الخازندار، وقبض عليه ووسّطه هو وشهاب الدين أحمد بن أبى الرضا قاضى قضاة حلب الشافعى بعد أن قاتلوه ومعهم أهل بانقوسا «2» ، فلمّا ظفر بهم كمشبغا المذكور قتل منهم عدّة كبيرة.

(11/352)


قلت: وإبراهيم بن قطلقتمر هذا هو صاحب الواقعة مع الملك الظاهر برقوق لمّا اتفق مع الخليفة هو وقرط الكاشف على قتل الملك الظاهر، وقبض عليهما الظاهر، وعزل الخليفة وحبسه سنين، وقد تقدّم ذكر ذلك كله، وهو الذي أنعم عليه منطاش في أوائل أمره بإمرة مائة، وتقدمة ألف بمصر، وجعله أمير مجلس عوضا عن أحمد بن يلبغا، ثم أخرجه بعد أيام من مصر خوفا من شرّه إلى حلب على إمرة مائة وتقدمة ألف، فدام بها إلى أن كانت منيّته على يد كمشبغا هذا.
ثم قدم الخبر على منطاش بأن الأمير حسام الدين حسن بن باكيش نائب غزّة جمع العشران وسار لمحاربة الملك الظاهر برقوق، فسرّ منطاش بذلك، وفي اليوم ورد عليه الخبر أيضا بقوّة شوكة الأمراء الخارجين عن طاعته ببلاد الصعيد، فأخرج منطاش في الحال الأمير أسندمر بن يعقوب شاه أمير مجلس في نحو خمسمائة فارس نجدة لمن تقدّمه من الأمراء إلى بلاد الصعيد، فسار أسندمر بمن معه في ثالث عشرينه، وفي يوم مسيره ورد البريد من بلاد الصعيد باتفاق ولاة الصعيد مع الأمراء المذكورين.
وكان من خبرهم أنه لمّا استقر أبو درقة في ولاية أسوان سار إلى ابن قرط، واتّفق معه على المخامرة، وسار معه إلى قوص، وأفرج عمن بها من الأمراء المقدّم ذكرهم. وكان عدّة الأمراء الذين بقوص زيادة على ثلاثين أميرا، وعدّة كبيرة من المماليك السلطانية الظاهرية، فلما بلغ خبرهم الأمير مبارك شاه نائب الوجه القبلى اجتمع معه أيضا نحو ثلثمائة مملوك من الظاهرية واتفقوا على المخامرة أيضا، واستمال مبارك شاه عرب هوّارة وعرب ابن الأحدب، فوافقوه، واستولوا على البلاد، فلمّا خرجت تجريدة منطاش الأولى لهم انتهت إلى أسيوط، فقبض عليهم مبارك شاه المذكور، وأفرج عمّن كان معهم من المماليك الظاهرية؛ فلما بلغ

(11/353)


منطاش ذلك أخرج أسندمر بن يعقوب شاه كما تقدّم ذكره، وسار اليهم من الشرق، وتوجّه إلى جهة الصعيد بمن معه، فلقيه الخارجون عن الطاعة، فواقعهم أسندمر بمن معه، فكسروه، فرسم منطاش بخروج نجدة لهم من الأمراء والمماليك وأجناد الحلقة، وبينما هو في تجهيز أمرهم جاء الخبر أن أسندمر واقع مبارك شاه ثانيا وكسره، وقبض عليه، وأرسله إلى منطاش. فقدم مقيدا، فرسم منطاش بحبسه في خزانة شمائل «1» .
ثمّ في يوم سابع عشرينه عيّن منطاش تجريدة إلى جهة الكرك فيها أربعة وقيل خمسة أمراء من مقدّمى الألوف، وثلاثمائة مملوك، ثم أخرج منطاش الأمير بلّوط الصرغتمشى، والأمير غريب لكشف أخبار الملك الظاهر برقوق بالكرك.
وأما الملك الظاهر برقوق فإنه لما أنزله عوامّ الكرك من قلعتها إلى المدينة وقاموا فى خدمته، وأتته العربان، وصار في طائفة كبيرة، ووافقه أيضا أكابر أهل الكرك، فقوى شوكته بهم، وعزم على الخروج من الكرك، وبرّز أثقاله إلى ظاهر الكرك، فاجتمع عند ذلك أعيان الكرك عند القاضى عماد الدين أحمد بن عيسى المقيّرى قاضى الكرك وكلموه في القيام على الملك الظاهر برقوق مراعاة للملك المنصور حاجّى، وللأمير منطاش، واتفقوا على قبضه وإعلام أهل مصر بذلك، وأنهم يعتذرون لمنطاش أنه لم يخرج من حبسه بالكرك إلا باجتماع السفهاء من أهل الكرك، ليكون ذلك عذرا لهم عند السلطان، وبعثوا ناصر الدين محمدا أخا القاضى عماد الدين المذكور، فأغلق باب المدينة، وبقى الملك الظاهر برقوق داخل المدينة وحيل بينه وبين أثقاله ومعظم أصحابه.

(11/354)


فلمّا قام الملك الظاهر برقوق ليركب فرسه بلغه ذلك، وكان القاضى علاء الدين علىّ كاتب سر الكرك، وهو أخو القاضى عماد الدين يكتب للملك الظاهر فى مدة خروجه من حبس الكرك، وبالغ في خدمته، وانضمّ عليه، فلما رأى ما نزل بالملك الظاهر وبلغه اتفاق أهل المدينة مع أخيه القاضى عماد الدين على القبض على الملك الظاهر برقوق أعلم الملك الظاهر بذلك، وقوى قلبه، وحرّضه على السير إلى باب المدينة، فركب معه برقوق، وسار حتى وصل إلى الباب وجده مغلقا وأخوه ناصر الدين قائم عند الباب، كما أمره أخوه عماد الدين قاضى الكرك، فما زال علاء الدين بأخيه ناصر الدين المذكور حتى فتح له الباب، وخرج بالملك الظاهر منه ولحق ببقية أصحابه ومماليكه الذين كانوا حضروا إليه من البلاد الشامية، فأقام الملك الظاهر بالتّنية «1» خارج الكرك يوما واحدا، وسأر من الغد في يوم ثانى عشرين شوال الى نحو دمشق، ونائبها يوم ذاك جنتمر أخو طاز، وقد وصل إليه الأمير الطنبغا الحلبى من مصر نائبا بحلب عوضا عن الأمير كمشبغا الحموى، فاستعدّوا لقتال الملك الظاهر، ومعهما أيضا حسام الدين حسن بن باكيش نائب غزة مساكرها.
ثم أقبل الملك الظاهر برقوق بمن معه، فالتقوا على شقحب «2» قريبا من دمشق، واقتتلوا قتالا شديدا، كسروا فيه الملك الظاهر غير مرّة، وهو يعود إليهم ويقاتلهم إلى أن كسرهم، وانهزموا إلى دمشق وقتل منهم ما يزيد على الألف، قاله المقريزى،

(11/355)


فيهم خمسة عشر أميرا، وقتل من أصحاب الملك الظاهر ستون نفسا، ومن أمرائه سبعة نفر، فهى أعظم وقعة كانت للملك الظاهر برقوق في عمره.
وركب الملك الظاهر أقفية الشاميين إلى دمشق، فامتنع جنتمر بقلعة دمشق، وتوجّه من أمراء دمشق ستة وثلاثون أميرا، ونحو ثلاثمائة وخمسين فارسا وقد أثخنوا بالجراحات ومعهم نائب صفد وقصدوا الديار المصرية.
فلم يمص غير يوم واحد حتى عاد ابن باكيش نائب غزّة بجماعة كبيرة من العربان والعشير لقتال الملك الظاهر، وبلغ الملك الظاهر ذلك فأرسل الوالد وقلمطاى لكشف الخبر، فعادا إليه بسرعة بحضور ابن باكيش، فركب الملك الظاهر في الحال وخرج إليه والتقى معه وقاتله حتى كسره، وأخذ جميع ما كان معه من الأثقال والخيول والسلاح، تقوّى الملك الظاهر بذلك، وأتاه عدة كبيرة من مماليكه الذين كانوا بالبلاد الشامية في خدمة أمراء الشام، ثم دخل في طاعته الأمير جبريل حاجب حجاب دمشق، وأمير على بن أسندمر الزّينى، وجقمق الصفوىّ، ومقبل الرومى، وصاروا من جملة عسكره، فعند ذلك ركب الملك الظاهر إلى دمشق، وحصرها وأحرق القبيبات وأخربها، فهلك في الحريق خلق كبير وأخذ أهل دمشق في قتال الملك الظاهر برقوق، وأفحشوا في أمره بالسب والتوبيخ، وهو لا يفترّ عن قتالهم؛ وبينما هو في ذلك أتاه المدد من الأمير كمشبغا الحموىّ نائب حلب ومن جملة المدد ثمانون مملوكا من المماليك الظاهريّة البرقوقية، فلما بلغ جنتمر مجينهم أخرج إليهم من دمشق خمسمائة فارس ليحيلوا بينهم وبين الملك الظاهر، فقاتلتهم المماليك الظاهريّة وكسرتهم، وأخذوا جميع ما كان معهم، وأتوا بهم إلى أستاذهم الملك الظاهر، ففرح بهم غاية الفرح.

(11/356)


قال الوالد: فعند ذلك قوى أمرنا، واستفحل واستمرّوا على حصار دمشق وبينما هم في ذلك وإذا بنعير قد أقبل في عربانه يريد قتال الملك الظاهر برقوق، فخرج الملك الظاهر وقاتله فكسره، واستولى على جميع ما كان معه فقوى الملك الظاهر بما صار إليه من هذه الوقائع من الخيل والسلاح وصار له برك كبير بعد ما كان معه خيمة صغيرة لا غير، وكانت مماليكه في أخصاص، وكلّ منهم هو الذي يخدم فرسه بنفسه. والآن فقد صاروا بالخيم والسلاح والغلمان، هذا ومماليك الملك الظاهر يتداول مجيئهم إليه شيئا بعد شىء ممن كان نفاهم الناصرى ومنطاش إلى البلاد الشامية.
ووصل الخبر بهذه الوقائع كلّها إلى منطاش في خامس عشر ذى القعدة، فقامت قيامة منطاش لما سمع هذه الأخبار وأخذ في تجهيز الملك المنصور حاجىّ للسفر لبلاد الشام لقتال الملك الظاهر برقوق، وأمر الوزير موفّق الدين بتجهيز ما يحتاج إليه السلطان، فلم يجد في الخزانة ما يجهّز به السلطان، واعتذر بأنّ المال انتهب وتفرّق في هذه الوقائع فقبل عدره وسأل منطاش قاضى القضاة صدر الدين المناوى الشافعى. وكان ولّاه قضاء القضاة قبل تاريخه بمدة يسيرة بعد عزل ناصر الدين ابن بنت الميلق. وقال له: أقرضنى مال الأيتام، وكانت إذ ذاك أموالا كثيرة، فامتنع المناوى من ذلك، ووعظه فلم يؤثر فيه الوعظ، وختم على جميع مال الأيتام، ثم رسم منطاش لحاجب الحجّاب ولناصر الدين محمد بن قرطاى نقيب الجيش بتفرقة النقباء على أجناد الحلقة، وحثّهم على التجهيز للسفر، وبينما هم في ذلك قدم عليه الخبر بكسرة ابن باكيش نائب غزة ثانيا من الملك الظاهر برقوق، وأخذ الملك الظاهر ما كان معه، فاشتدّ عند ذلك الاضطراب وكثر الإرجاف ووقع الاهتمام بالسفر، وأزعج أجناد الحلقة، واستدعى منطاش الخليفة المتوكّل

(11/357)


على الله والقضاة، والشيخ سراج الدين عمر البلقينى، وأعيان الفقهاء، ورتبو صورة فتيا في أمر الملك الظاهر برقوق، وانفضوا من غير شىء وفي اليوم ورد على منطاش واقعة صفد، وكان من خبرها أن مملوكا من مماليك الملك الظاهر برقوق يقال له يلبغا السالمىّ كان أسلمه الظاهر إلى الطواشى بهادر الشهابى مقدّم المماليك، فرباه بهادر ورتّبه خازنداره واستمرّ على ذلك إلى أن نفى الملك الظاهر بهادر إلى البلاد الشامية، فصار يلبغا السالمى المذكور عند صواب السعدى شنكل لمّا استقر مقدم المماليك بعد بهادر المذكور، وصار دواداره الصغير، فلما قبض الناصرىّ على شنكل المذكور، خدم يلبغا السالمىّ هذا عند الأمير قطلوبك النظامى نائب صفد، وصار دواداره، وسار مع أهل صفد سيرة حميدة إلى أن قدم إلى صفد خبر الملك الظاهر برقوق، وخروجه من حبس الكرك، جمع النظامى عسكر صفد ليتوجّه بهم إلى نائب دمشق نجدة على الظاهر، وأبقى يلبغا السالمى بالمدينة، فقام يلبغا السالمى في طائفة من المماليك الذين استمالهم، وأفرج عن الأمير إينال اليوسفى نائب حلب كان، وعن الأمير قجماس ابن عم السلطان الملك الظاهر برقوق، ونحو المائتين من المماليك الظاهرية من سجن صفد ونادى بشعار الملك الظاهر برقوق وأراد القبض على الأمير قطلوبك النّظامى، فلم يثبت النظامى، وفرّ في مملوكين فاستولى السالمىّ ومن معه على مدينة صفد وقلعتها، وصار الأمير إينال اليوسفى هو القائم بمدينة صفد، والسالمى في خدمته، وأرسلوا إلى الملك الظاهر بذلك، وكان هذا الخبر من أعظم الأمور على منطاش، وزاد قلقه.
وكثرت مقالة الناس في أمر الملك الظاهر، ثم تواترت الأخبار بأمر الملك الظاهر وفي حادى عشرينه ورد الخبر على منطاش بوصول نائب غزة حسام الدين بن باكيش وصحبته الأمير قطلوبك النّظامى نائب صفد المقدّم ذكره. والأمير محمد

(11/358)


ابن بيدمرى أتابك دمشق، وخمسة وثلاثون أميرا من أمراء دمشق، وجمع كبير من الأجناد قد هزموا الجميع من الملك الظاهر برقوق، وقدموا إلى القاهرة وهم الذين قاتلوا برقوقا مع جنتمر نائب الشام، وقد تقدّم ذكر الواقعة، فرسم منطاش بدخولهم القاهرة.
وفي هذا اليوم استدعى منطاش الخليفة المتوكل على الله والقضاة والعلماء بسبب الفتيا في الملك الظاهر برقوق وفي قتاله، فكتب ناصر الدين الصالحى موقّع الحكم فتيا في الملك الظاهر برقوق تتضمّن: عن رجل خلع الخليفة والسلطان وقتل شريفا في الشهر الحرام والبلد الحرام وهو محرم، يعنى عن أحمد بن عجلان صاحب مكة، واستحل أخذ أموال الناس وقتل الأنفس وأشياء غير ذلك، ثم جعل الفتيا عشر نسخ، فكتب جماعة من الأعيان والقضاة.
ثم رسم منطاش بفتح سجن قديم بقلعة الجبل كان قد ارتدم وسجن فيه عدّة من المماليك الظاهرية المقبوض عليهم قبل تاريخه ثم وجد منطاش ذخيرة بالقاهرة للأمير جركس الخليلى في بيت جمال الدين أستاداره: فيها خمسمائة ألف درهم، ونحو خمسين ألف دينار، فأخذها منطاش، ثم أخذ أيضا من مال ابن جركس الخليلى نحو ثلثمائة ألف دينار مصرية.
ودخل الأمراء المنهزمون من الشام إلى القاهرة، وهم قطلوبك النّظامى نائب صفد، وتنكز الأعور نائب حماة، ومحمد بن أيدمر أتابك، دمشق، ويلبغا العلائى أحد مقدّمى دمشق، وآقباى الأشرفى نائب قلعة الروم، ومن الطبلخانات دمرداش الأطروش والى الولاة، وأحمد بن تنكز، وجوبك الخاصكى الأشرفى، وقطلوبك جنجق وخير بك. ومن العشرنيات آقبغا الوزيرى وأزدمر القشتمرى وقنق الزّينى، ومنكلى بغا الناصرى، وآقبغا الإبنالى وأحمد بن ياقوت، ومن

(11/359)


العشرات أسنبغا العلائى، وطغاى تمر الأشرفى ومصطفى البيدمرى، وقرابغا السيفى من أمراء صفد، وتغرى برمش الأشرفى، ومنجك الخاصّكى وقجقار السيفى.
ومن أمراء حماة جنتمر الإسعردىّ، وألطنبغا الماردينى، وبكلمش الأرغونى القرمى، وأسنبغا الأشرفى، وحسين الأيتمشى، ومن المماليك عدّة مائتين وعشرين نفرا. وفي يوم قدم هؤلاء أفرج منطاش عن الأمير قرقماس الطشتمرى، واستقر خازندارا على عادته، وعن شيخ الصفوى الخاصكى، وعن أرغون السلامىّ، ويلبغا اليوسفى، ونزلوا إلى دورهم.
ثم نودى بأمر منطاش أن الفقهاء والكتّاب لا يركب أحد منهم فرسا، وأن الكتّاب الكبار يركبون البغال.
ثم رسم بأخذ أكاديش الحمّالين وخيل الطواحين الجياد، ورسم بتتبّع المماليك الجراكسة، فطلبهم حسين بن الكورانى وأخذهم من كل موضع.
ثم رسم منطاش بتخشيب المماليك الظاهرية المسجونين بقلعة الجبل في أيديهم وأرجلهم.
ثم في حادى عشرينه. اجتمع الأمراء وأهل الدولة مع الأمير منطاش واتّفقوا على استبداد السلطان الملك المنصور حاجّى بالأمر، وأثبتوا رشده بحضرة القضاة والخليفة فرسم السلطان بتعليق الجاليش على الطبلخاناه ليعلم الناس بسفر السلطان إلى الشام لقتال الملك الظاهر برقوق. ثم أحضر منطاش نسخ الفتوى في الملك الظاهر برقوق وقد أزيد فيها واستعان على قتال المسلمين بالكفّار وحضر الخليفة المتوكّل على الله والقضاة الأربعة والشيخ سراج الدين عمر البلقينىّ وولده جلال الدين عبد الرحمن قاضى العسكر وابن خلدون المالكى وابن الملقّن وقاضى القضاة بدر الدين محمد بن أبى البقاء

(11/360)


وجماعة أخر، فحضر الجميع بحضرة السلطان الملك المنصور بالقصر «1» الأبلق وقدّمت إليهم الفتوى فكتبوا عليها بأجمعهم كتابة شنيعة على قدر النهى وانصرفوا إلى منازلهم.
ثم نودى على أجناد الحلقة للعرض وهدّد من تأخر منهم وكتب لعرب البحيره بالحضور للسفر مع السلطان إلى الشام.
ثم خلع منطاش على أمير حاج بن مغلطاى الحاجب باستقراره أستادارا.
ثم أنعم السلطان على الأمراء القادمين من الشام لكل أمير مائة ومقدم ألف بفرس بقماش ذهب ولمن عداهم بأقبية ورتّب لهم اللحم والجامكيات والعليق وأخذ منطاش يستعطفهم بكل ما تصل إليه القدرة.
وفي سابع عشرينه أخليت خرانة الخاص بالقلعة وسدّت شبابيكها وبابها وفتح من سقفها طاقة وعملت سجنا للمماليك الظاهرية.
ثم في يوم السبت أوّل ذى الحجة من سنة إحدى وتسعين وسبعمائة قدم الخبر على منطاش من الصعيد بأن العسكر الذي مع أسندمر بن يعقوب شاه واقع الأمراء الظاهرية بمدينة قوص «2» وكسرهم وقبض عليهم فسر منطاش بذلك وخفّ عنه بعض الأمر ودقّت البشائر لذلك ثلاثة أيام.
وفيه أنفق منطاش على الأمراء نفقة السفر فأعطى لكل أمير من أمراء الألوف مائة ألف درهم فضة وأعطى لكل أمير من أمراء الطبلخانات خمسين ألف درهم فضة، ثم أمر منطاش بسدّ باب الفرج «3» أحد أبواب القاهرة وخوخة أيدغمش.

(11/361)


ثم قبض منطاش على متّى بطرك النصارى وألزمه بمال وعلى رئيس اليهود وألزمه أيضا بمال فقرّر على البطرك مائة ألف درهم وعلى رئيس اليهود خمسين ألف درهم.
ثم طلب منطاش الشيخ شمس الدين محمد الرّكراكى المالكى وألزمه بالكتابة على الفتوى في أمر الملك الظاهر برقوق فامتنع من الكتابة غاية الامتناع فضربه منطاش مائة عصاه وسجنه بالإسطبل.
ثم في خامس عشر ذى الحجة برز الأمراء الشاميون من القاهرة الى ظاهرها للتوجه إلى الشام أمام العسكر السلطانى. وفيه قبض منطاش على الخليفة المخلوع من الخلافة زكريا: وأخذ منه العهد الذي عهده إليه أبوه بالخلافة وأشهد عليه أنه لا حقّ له في الخلافة.
ثم قدمت الأمراء ماخلا أسندمر بن يعقوب شاه من تجريدة الصعيد ومعهم المماليك الظاهرية الذين كانوا خرجوا عن الطاعة بقوص مقيدين فخلع منطاش على الأمراء وأخذ المماليك غرّق منهم جماعة في النيل ليلا وأخرج بستة من الجب بالقلعة موتى خنقا.
ثم قدم الأمير أسندمر بن يعقوب شاه من بلاد الصعيد ومعه الأمراء الخارجون عن الطاعة: وهم الأمير تمرباى الحسنى وقرابغا الأبوبكرى، وبجمان المحمدىّ ومنكلى الشمسىّ وفارس الصرغتمشىّ وتمربغا المنجكىّ وطوجى الحسنى وقرمان المنجكى، وبيبرس التمان تمرى وقرا كسك السيفىّ وأرسلان اللّفاف ومقبل الرومى وطغاى تمر الجركتمرى وجرباش التمان تمرى الشيخى وبغداد الأحمدى ويونس الإسعردى وأردبغا العثمانى وتنكز العثمانى وبلاط المنجكى وقرابغا المحمدى وعيسى التركمانى وقراجا السيفى وكمشبغا اليوسفى وآقبغا حطب

(11/362)


وبك بلاط فأوقفوا الجميع بين يدى السلطان ومنطاش زمانا ثم أمر بهم فحبسوا وأفرج عن جماعة: منهم الأمير قنق باى الألجائى اللالا وآقبغا السيفى وتمرباى الأشرفى وفارس الصرغتمشى وخلع عليهم ثم سجن منطاش بخزانة شمائل وخزانة الخاص التي سدّ بابها قبل تاريخه الأمير محمود بن على الاستادار وآقبغا الماردينى وآيدمر أبو زلطة وشاهين الصرغتمشى أمير آخور وجمق بن أيتمش البجاسى وبطا الطولوتمرى الظاهرى وبهادر الأعسر وعدّة كبيرة من الأمراء والمماليك الظاهرية.
وفيه ألزم منطاش سائر مباشرى الديوان السلطانى وجميع الدواوين بأن يحمل كل واحد خمسمائة درهم وفرسا وقرّر ذلك على الوظائف لا على الأشخاص، حتى من كان له عشرة وظائف في عدّة دواوين يحمل عن كل وظيفة خمسمائة درهم وفرسا فنزل بالناس ما لم يعهدوه فتوزّعوا ذلك فجاء جملة الخيل التي أخذت من المباشرين خيلا وعينا ألف فرس:
ثم أحضر منطاش من ألزم من أجناد الحلقة للسفر فأعفاهم على أن يحضر كلّ منهم فرسا جيّدا فأحضروا خيولهم فأخذ جيادها وردّ ما عداها.
ثم ألزم منطاش رءوس نوّاب الحجاب وغيرها بحمل كل واحد منهم خمسة آلاف درهم وعدتهم أربعة.
وفي يوم الاثنين سابع عشر ذى الحجة من سنة إحدى وتسعين وسبعمائة نزل السلطان الملك المنصور حاجى من قلعة الجبل ومعه الأمير الكبير منطاش وتوجّها بالعساكر المصرية إلى الرّيدانية «1» خارج القاهرة بتجمّل عظيم إلى الغاية.

(11/363)


فلمّا نزلا بالمخيّم استدعى منطاش قاضى القضاة صدر الدين محمد المناوى الشافعى إلى الريدانية وألزمه بالسفر معه إلى الشام فآمتنع من ذلك وسأل الأعفاء فأعفى وخلع على قاضى القضاة بدر الدين محمد ابن أبى البقاء باستقراره عوضه في قضاء ديار مصر على أن يعطى مال الأيتام ويعطى من ماله مائة ألف درهم أخرى فضة، وخلع عليه ودخل القاهرة من باب النصر بالتشريف.
قلت: هذا هو الكريم الذي تكرّم بماله ودينه.
ثم رسم منطاش بحبس الخليفة زكرياء والأمير سودون الشيخونى النائب بقاعة الفضة من القلعة.
ثم نزل الوزير موفّق الدين أبو الفرج وناصر الدين أبى الحسام إلى خان «1» مسرور بالقاهرة حيث هو مودع مال الأيتام، وأخذ منه بأمر منطاش ثلاثمائة ألف

(11/364)


درهم، وألزم أمين الحكم بالقاهرة أن يحصل تتمّة خمسمائة ألف درهم، وألزم أمين الحكم بمصر أن يحمل مائة ألف درهم، وألزم أمين الحكم بالحسينيّة أن يحمل مائة ألف درهم قرضا، كلّ ذلك حسب إذن قاضى القضاة بدر الدين محمد بن أبى البقاء.
وفيه استدعى منطاش القضاة إلى الرّيدانية بكرة فأجلسوا بغير أكل إلى قريب العصر، ثم طلبوا إلى عند السلطان، فعقدوا عقده على بنت الأمير أحمد ابن السلطان حسن بصداق مبلغه ألف دينار وعشرون ألف درهم.
وعقدوا أيضا عقد الأمير قطلوبغا الصفوى على ابنة الأمير أيدمر الدوادار.
وفي ثانى عشرينه رحل الأمير الكبير منطاش في عدّة من الأمراء جاليشا للسلطان، ثم رحل السلطان الملك المنصور والخليفة والقضاة وبقية العساكر بعد أن أقيم نائب الغيبة بالقلعة الأمير تكا الأشرفى ومعه الأمير دمرداش القشتمرىّ، وأقيم بالإسطبل السلطانى الأمير صراى تمر، وبالقاهرة الأمير قطلوبغا الحاجب، وجعل منطاش أمر الولاية والعزل إلى صراى تمر.
ثم رحل السلطان من العكرشة «1» إلى جهة بلبيس، فتقنطر عن فرسه، فتطيّر الناس من ذلك بأنه يرجع مقهورا، وكذلك كان. ثم سار السلطان وسائر العساكر إلى غزة في ثامن المحرم من سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة وعليهم آلة الحرب والسلاح.
وأما أمراء الديار المصرية فإن منطاش أمر قبل خروجه حسين بن الكورانى بالاحتفاظ على حواشى الملك الظاهر برقوق فأخذ ابن الكورانى يتقرّب إلى

(11/365)


منطاش بكل ما تصل قدرته إليه من ذلك أنه توجّه إلى قاعة «1» البيسريّة بين القصرين حيث هو سكن الخوندات إخوة الملك الظاهر برقوق الكبرى والصغرى أم الأتابك بيبرس وهجم عليهن بالقاعة المذكورة، وأخذ بيبرس من أمّه أخذا عنيفا، بعد أن أفحش في سبّهنّ، وبالغ في ذم الملك الظاهر والحطّ منه، وأخذ الخوندات حاسرات هن وجواريهنّ مسبّيات يسحبهنّ بشوارع القاهرة وهنّ في بكاء وعويل حتى أبكين كلّ أحد، وحصل بذلك عبرة لمن اعتبر، ولا زال يسحبهنّ على هذه الصورة إلى باب زويلة فصادف مرورهنّ بباب زويلة دخول مقبل نائب الغيبة من باب زويلة، فلما رأى مقبل ذلك أنكره غاية الإنكار، ونهر حسين ابن الكورانى على فعله ذلك، وردهن من باب زويلة، بعد أن أركب الخوندات وسترهن إلى أن عدن إلى قاعة البيسرية، فكان هذا من أعظم الأسباب في هلاك حسين بن الكورانى على ما يأتى ذكره في سلطنة الملك الظاهر برقوق الثانية إن شاء الله تعالى.
ثم نادى حسين بن الكورانى على المماليك الظاهرية أنّ من أحضر مملوكا منهم كان له ألفا درهم.
وأما السلطان الملك المنصور ومنطاش فإن الأخبار أتتهما بأن الأمير كمشبغا الحموى نائب حلب لم يزل يبعث يمدّ الملك الظاهر من حلب بالعساكر والأزواد والآلات والخيول وغير ذلك، حتى صار لبرقوق برك عظيم، ثم خرج من بعد ذلك من حلب بعساكرها وقدم على الملك الظاهر لنصرته، فعظم أمر الملك الظاهر به إلى الغاية، وكثرت عساكره، وجاءته التركمان والعربان والعشير من كلّ فجّ، فلما

(11/366)


بلغ ذلك منطاش جدّ في السير هو والسلطان والعساكر إلى نحو الملك الظاهر برقوق.
وبلغ الملك الظاهر مجىء الملك المنصور ومنطاش لقتاله فترك حصار دمشق وأقبل نحوهم بعساكره ومماليكه حتى نزل على شقحب «1» ، ونزل العسكر المصرى على قرية المليحة وهي عن شقحب بنحو البريد، وأقاموا بها يومهم، وبعثوا كشافتهم، فوجدوا الملك الظاهر برقوقا على شقحب، فتقدم منطاش بالسلطان والعساكر إلى نحوه بعد أن صف منطاش عساكر السلطان ميمنة وميسرة، وقلبا وجناحين، وجعل للميمنة رديفا، وكذلك للميسرة، هذا بعد أن رتّب الملك الظاهر برقوق أيضا عساكره، غير أنه لم يتصرف في التعبية كتصرف منطاش لقلة جنده.
ووقف منطاش في الميمنة على ميسرة الظاهر برقوق، والتقى الفريقان في يوم الأحد رابع عشر للمحرم في سنة اثنتين وتسعين وتصادما، واقتتل الفريقان قتالا عظيما لم يقع «2» مثله في سالف الأعصار وحمل منطاش من الميمنة على ميسرة الظاهر، وحمل أصحاب ميمنة الظاهر على ميسرة الملك المنصور، وبذل كلّ من الفريقين جهده، وثبتت كلّ طائفة للأخرى، فكانت بينهما حروب شديدة انهزم فيها ميمنة الملك الظاهر وميسرته، وتبعهم منطاش بمن معه، وثبت الملك الظاهر في القلب، وقد انقطع عنه خبر أصحابه، وأيقن بالهلاك، وبينما هو في ذلك لاح له طلائع السلطان الملك المنصور، وقد انكشف الغبار عنه، فحمل الملك الظاهر بمن بقى معه على الملك المنصور، فأخذه وأخذ الخليفة المتوكل على الله والقضاة والخزائن، ومالت

(11/367)


الطائفة التي ثبتت معه على أثقال المصريين، فأخذوها على آخرها، وكانت شيئا يخرج عن الحد في الكثرة «1» .
ووقع الامير قجماس ابن عم الملك الظاهر في قبضة، منطاش، فلم يتعوّق، ومرّ في أثر المنهزمين وهو يظن أن الملك الظاهر أمامه إلى أن وصل إلى دمشق وبها نائبها الأمير جنتمر أخو طاز فقال له منطاش قد كسرنا الظاهر برقوقا، وفي الغد يقدم السلطان الملك المنصور، فاخرج إلى لقائه، فمشى ذلك على جنتمر واحتار منطاش فيما يفعل في الباطن، ولم يعرف ما حصل بعده للملك المنصور، ومع هذا كله في نفسه أن الملك الظاهر برقوق قد انكسر.
وأما أمر السلطان الملك الظاهر برقوق وأصحابه فإن الأمير كمشبغا نائب حلب كان على ميمنة الملك الظاهر برقوق فلما انهزم من منطاش تمّ في هزيمته إلى حلب وتبعه خلائق من عساكر حلب وغيرها، وفي ظن كمشبغا أن الملك الظاهر قد انكسر، وتبعه في الهزيمة الأمير حسام الدين حسن الكجكنى «2» ، نائب الكرك، ومعه أيضا عدة كبيرة من عساكر حلب والكرك فسار بهم إلى الكرك كما سار كمشبغا إلى حلب فلم يصل كل واحد من كمشبغا والكجكنى حتى قاسى شدائد ومحنا.
هذا مع أنهم قطعوا رجاءهم من نصرة الملك الظاهر برقوق، غير أن كل واحد ينظر في مصلحة نفسه فيما يأتى.
وأما الملك الظاهر فإنه لم يتأخر عنده إلا نحو من ثلاثين نفرا، أعنى من المماليك الظاهرية الذين كانوا معه عند أخذه الملك المنصور. وأما من بقى من التركمان والغوغاء فأزيد من مائتى نفر.

(11/368)


ولما قصد الملك الظاهر السلطان الملك المنصور حاجّيّا والخليفة والقضاة وأخذهم وملك العصائب السلطانية وقف تحت العصائب، فلما رآه المنصور ارتاع، فسكّن الملك الظاهر روعه، وآنسه بالكلام، وسلّم على الخليفة والقضاة، وبشّ في وجوههم وتلطّف بهم، فإنه لمّا رآه الخليفة كاد بهلك من هيبته، وكذلك القضاة؛ فما زال بهم حتى اطمأن خواطرهم.
هذا بعد أن سلبت النّهابة القضاة الثلاثة جميع ما عليهم، قبل أن يقع بصر الملك الظاهر عليهم، ما خلا القاضى الحنبلى ناصر الدين نصر الله، فإنه سلم من النهب، لعدم ركوبه وقت الحرب، ولم يركب حتى تحقق نصرة الملك الظاهر برقوق، فعند ذلك ركب وجاء إليه مع جملة رفقته، وأما مباشر والدولة فإنهم كانوا توجهوا الجميع إلى دمشق، هذا بعد أن قتل من الطائفتين خلائق كثيرة جدّا بطول الشرح في ذكرها.
واستمر الملك الظاهر واقفا تحت العصائب السلطانية والملك المنصور والخليفة بجانبه، وتلاحق به أصحابه شيثا بعد شىء، وتداول مجيئهم إليه، وجاءه جمع كبير من العساكر المصرية طوعا وكرها، فإنه صار الرجل منهم، بعد فراغ المعركة يقصد العصائب السلطانية، فيجد الملك الظاهر تحتها، فلم يجد بدّا من النزول إليه وتقبيل الأرض له، فإن خافه الملك الظاهر قبض عليه، وإلّا تركه من جملة عسكره.
واستمر الملك الظاهر برقوق يومه وليلته على ظهر فرسه بسلاحه، وحوله مماليكه وخواصّه.
قال الوالد فيما حكاه بعد ذلك لمماليكه وحواشيه: وبات كلّ منا على فرسه، على أن غالبنا به الجراح الفاشية المنكية «1» ، وهو مع ذلك بسلاحه على فرسه،

(11/369)


لم يغف أحد منا تلك الليلة، من السرور الذي طرقنا، وأيضا من الفكر فيما يصير أمرنا بعد ذلك إليه، غير أننا حصل لنا ولخيولنا راحة عظيمة، ببياتنا تلك الليلة فى مكان واحد وتشاورنا فيما نفعل من الغد، وكذلك السلطان الملك الظاهر، فإنه أخذ يتكلّم معنا فيما يرتّبه من الغد، فى قتال منطاش ونائب الشام، فما أصبح باكر نهار الاثنين إلا وقد رتبنا جميع أحوالنا وصار الملك الظاهر في عسكر كثيف وتهيّأنا لقتال منطاش وغيره وبعد ساعة وإذا بمنطاش قد أقبل من الشام في عالم كبير، من عسكر دمشق وعوامّها وممن تراجع إليه من عسكره، بعد الهزيمة، فتواقعنا، فحصل بيننا وقعة من شروق الشمس إلى غروبها ووقع بيننا وبينهم قتال لم يعهد مثله في هذا العصر. وبذل كلّ منا ومنهم نفسه، فقاتلنا عن أرواحنا لا عن أستاذنا، لأننا تحقّق كل منا أنه إن انهزم بعد ذلك لا بقاء له في الدنيا والمنطاشية أيضا قالوا كذلك وانكسر كل منا ومنهم غير مرة ونتراجع. هذا والملك الظاهر يكرّ فينا بفرسه كالأسد ويشجّع القوم ويعدهم ويمنيهم، ثم قصدنى شخص من الأمراء يقال له آقبغا الفيل وحمل علىّ فحملت عليه وطعنته برمحى ألقيته عن فرسه، فرآه الملك الظاهر، فسأل عنى، فقيل له: تغرى بردى فتفاءل باسمى. وقال ما معناه:
الله لا ينوّلنى ما في خاطرى إن كنت ما أرقّيك إلى الرتب العالية. انتهى.
قلت: ومعنى اسم تغرى بردى باللغة التركية: الله أعطى، فلهذا تفاءل الملك الظاهر به، لمّا قيل له، تغرى بردى واستمر كلّ من الطائفتين تبذل نفسها لنصرة سلطانها إلى أن أرسل الله سبحانه وتعالى في آخر النهار ريحا ومطرا في وجه منطاش ومن معه، فكانت من أكبر الأسباب في هزيمته وخذلانه ولم تغرب الشمس حتى قتل من الفريقين خلائق لا يحصيها إلا الله تعالى: من الجند والتّركمان والعربان والعامّة وولّى منطاش هو وأصحابه منهزما إلى دمشق، على أقبح وجه.

(11/370)


وعاد الملك الظاهر برقوق بمماليكه إلى مخيّمه بالمنزلة المذكورة ولم يكن في أحد من عسكره منعة أن يتبع منطاش ولا عسكره واستمرّ الملك الظاهر بمزلة شقحب سبعة أيام، حتى عزّت عنده الأقوات وأبيعت البقّسماطة بخمسة دراهم فضة وأبيع الفرس بعشرين درهما والجمل بعشرة دراهم، وذلك لكثرة الدواب وقلّة العلف.
وغنم أصحاب الملك الظاهر أموالا جزيلة.
وفي مدة إقامة الملك الظاهر بشقحب، قدم عليه جماعة كبيرة من الأمراء والتركمان والعربان والمماليك.
ثم جمع الملك الظاهر من معه من الأمراء والأعيان بحضرة الخليفة والقضاة، وأشهد على الملك المنصور حاجى يخلع نفسه من السلطنة وحكم بذلك القضاة.
ثم بويع الملك الظاهر برقوق بالسلطنة وأثبت القضاة بيعته وخلع على الخليفة والقضاة.
ثم ولّى الأمير إياس الجرجاوى نيابة صفد والأمير قديد القلمطاوى نيابة الكرك والأمير آقبغا الصغير نيابة غزّة.
ثم تهيّأ الملك الظاهر للعود إلى الديار المصرية ورحل من شقحب فأتاه عند رحيله منطاش بعسكر الشام ووقف على بعد، فاستعدّ الملك الظاهر للقائه فلم يتقدّم منطاش.
ثم ولّى إلى ناحية دمشق فأراد الملك الظاهر أن يتبعه فمنعه من ذلك أعيان دولته وقالوا له: أنت سلطان مصر أم سلطان الشام امض إلى مصر واجلس على تخت الملك، فتصير الشام وغيرها في قبضتك، فصوّب الملك الظاهر هذا الرأى وسار من وقته بمن معه من الملك المنصور والخليفة والقضاة إلى جهة الديار المصرية.

(11/371)


ثم أرسل الملك الظاهر يأمر منصور حاجب غزة بالقبض على حسام الدين حسن بن باكيش نائب غزة، فقبض عليه واستولى على مدينة غزة وقيّد ابن باكيش المذكور وبعث به إلى الملك الظاهر، فوافاه بمدينة الرملة «1» فأوقفه بين يديه ووبّخه، ثم ضربه بالمقارع، ثم حمله معه إلى غزّة فضربه بها أيضا ضربا مبرّحا. وكان يوم دخول السلطان الملك الظاهر إلى غزة يوم مستهلّ صفر من سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة.
وأمّا أمر الديار المصرية، فإنه أشيع بكسرة الملك الظاهر لمنطاش، يوم رابع عشر المحرم، وهو يوم الوقعة، قاله الشيخ تقي الدين المقريزى- رحمه الله- وهذا شىء من العجائب.
وفي هذه الأيام ورد من الفيّوم محضر على نائب الغيبة مفتعل بأن حائطا سقط على الأمراء المسجونين بالفيّوم، ماتوا تحته، وهم: الأمير تمرباى الحسنى حاجب

(11/372)


الحجّاب وقرابغا الأبوبكرى أحد مقدّمى الألوف وطوغاى تمر الجركتمرى أحد أمراء الألوف أيضا ويونس الإسعردى الرماح الظاهرىّ وقازان السيفىّ وتنكز العثمانى وأردبغا العثمانىّ وعيسى التركمانىّ.
قال المقريزى: هذا والكتب المزوّرة ترد على أهل مصر فى كل قليل، بأنّ السلطان الملك المنصور انتصر على الملك الظاهر برقوق، وملك الشام، وأنّ الظاهر هرب، فدقّ البشائر لذلك أياما، ولم يمش ذلك على أعيان الناس، مع أن الفتنة لم تزل قائمة في هذه المدة بين الأمير صراى تمر نائب الغيبة وبين الأمير تكا الأشرفىّ المقيم بقلعة الجبل وكل منهما يحترز من الآخر.
واتّفق مع ذلك أن الأمراء والمماليك الظاهريّة الذين سجنوا بخزانة الخاصّ من القلعة زرعوا بصلا في قصريّتين فخّار وسقوهما فنجب بصل إحدى القصريّتين ولم ينجب الآخر، فرفعوا القصريّة التي لم ينجب بصلها، فإذا هي مثقوبة من أسفلها وتحتها خلوّ، فما زالوا به حتى اتّسع وأفضى بهم إلى سرداب مشوا فيه حتى صعد بهم إلى طبقة الأشرفية «1» من قصور القلعة القديمة وكان منطاش سدّ بابها الذي ينزل منه إلى الإسطبل السلطانى، فعاد الذين مشوا وأعلموا أصحابهم، فقاموا بأجمعهم وهم نحو الخمسمائة رجل ومشوا فيه ليلة الخميس ثانى صفر وقد عملوا عليهم الأمير بطا الطولوتمرى الظاهرى رأسا وحاربوا باب الأشرفية: حتى فتحوه فثار بهم الخرّاس الموكّلون بحفظ الباب وضربوا مملوكا يقال له تمربغا، قتلوه وكان ابتدأ بالخروج، فبادر بطا بعده ليخرج فضربه الحارس ضربة كما ضرب تمربغا قبله، سقط منها بطا إلى الأرض، ثم قام وضرب بقيده الرجل الحارس ضربة كما ضربه

(11/373)


صرعه وخرج البقيّة وصرخوا المماليك: ياتكا يا منصور وجعلوا قيودهم سلاحهم، يقاتلون بها وقصدوا الإسطبل السلطانى، فانتبه صراى تمر، فسمع صياحهم تكا يا منصور، فلم يشكّ أنّ تكا ركب عليه ليأخذه بغتة لما كان بينهما من التخاصم وقوى خوفه، فنهض في الحال ونزل من الإسطبل من باب السلسلة، وتوجّه إلى بيت الأمير قطلوبغا الحاجب وكان قريبا من الإسطبل بالرّميلة، فملك بطا ورفقته الإسطبل واحتوى على جميع ما كان فيه من قماش صراى تمر وخيله وسلاحه وقبض على المنطاشيّة وأفرج عن المحبوسين من الظاهريّة وأخذ الخيول التي كانت هناك وأمر في الوقت بدقّ الكوسات، فدقّت في الوقت نحو ثلث الليل الأوّل فاستمروا على ذلك إلى أن أصبحوا يوم الخميس وندم صراى تمر على نزوله من الإسطبل ولبس هو وقطلوبغا الحاجب آلة الحرب وأرسلوا إلى تكا بأن يقاتل المماليك الظاهرية من أعلى القلعة وهم يقاتلونهم من تحت، فرمى تكا عليهم من الرفرف والقصر وساعده الأمير مقبل أمير سلاح ودمرداش القشتمرى بمن معه من مماليكهم والمماليك المقيمين بالقلعة، فقاتلهم المماليك الظاهريّة وتسامعت المماليك الظاهرية البطّالة ومن كان مختفيا منهم، فجاءوهم من كل مكان، وكذلك المماليك اليلبغاوية وغيرهم من حواشى الملك الظاهر برقوق، ومن حواشى يلبغا الناصرىّ وغيره من الأمراء الممسوكين وكبسوا سجن الدّيلم، وأخرجوا من كان به محبوسا من المماليك وغيرهم. ثم بعثوا إلى خزانة شمائل فكسروا بابها وأخرجوا من كان بها أيضا من المماليك اليلبغاويّة والظاهريّة وغيرهم، ثم فعلوا ذلك بحبس الرحبة فقوى أمر بطا ورفقته وكثر جمعهم فخاف حسين بن الكورانى وهرب واختفى.
ثم ركب الأمير صراى تمر والأمير قطلوبغا حاجب الحجّاب في جمع كبير من مماليكهم وغيرها وخرجا لقتال بطا وأصحابه، فنزل بطا بمن معه وقد تهيّأ للقتال،

(11/374)


وقد صار في جمع كبير واجتمعت عليه العوام لمعاونته، فلما تصاففا خامر جماعة من المنطاشيّة وجاءوا إلى بطا، وصدم بطا المنطاشية فكسرهم، فانحازوا إلى مدرسة السلطان حسن، فلما رأى تكا ذلك خرج إلى الطبلخاناه ورمى على بطا وأصحابه بالنّشاب ومدافع النفط، فنزل طائفة من الظاهرية إلى بيت قطلوبغا وملكوه، ونقبوا منه نقبا طلعوا منه إلى المدرسة «1» الأشرفية بالصّوّه، وصعدوا إلى سطحها تجاه الطبلخاناه السلطانية ورموا على من بالطبلخاناه، من أعوان تكا فانهزموا فملك الظاهرية الطبلخاناه فحاصروا من هو بمدرسة السلطان حسن وكان بها طائفة من التركمان قد أعدّهم منطاش لحفظها، فصاحوا وسألوا الأمان لشدة الرمى عليهم بمكاحل النفط، فانهزم عند ذلك أيضا من كان من الرماة على باب المدرج أحد أبواب القلعة وسارت الظاهرية واليلبغاوية إلى بيوت الأمراء فنهبوها.
كلّ ذلك والقاهرة في أمن مع عدم من يحفظها ولم يمض النهار حتى وصل عدد الظاهرية إلى ألف، وأمدّهم ناصر الدين أستادار منطاش بمائة ألف درهم، ثم طلب بطا ناصر الدين محمد بن العادلىّ، وأمره أن يتحدّث في ولاية القاهرة عوضا عن ابن الكورانى، فدخلها ابن العادلى ونادى فيها بالأمان والدعاء للملك الظاهر برقوق، فسرّ الناس بذلك سرورا زائدا.
ثم في يوم الجمعة ثالث صفر سلّم الأمير تكا قلعة الجبل إلى الأمير سودون الشيخونى النائب، ثم أقام بطا في ولاية القاهرة منجك المنجكى، عوضا عن ابن العادلى، فركب ودخل القاهرة ونادى أيضا بالأمان والدعاء للسلطان الملك الظاهر برقوق.

(11/375)


وفيه نزل الأمير سودون النائب من القلعة ومعه تكا الأشرفىّ ودمرداش القشتمرى ومقبل السيفى أمير سلاح، إلى عند الأمير بطا فقبض بطا عليهم وقيّدهم وبالغ في إكرام الأمير سودون النائب وبعثه إلى الأمير صراى تمر، فنزل سودون إلى صراى تمر وما زال به حتى كفّه عن الرمى وأخذه هو وقطلوبغا وسار فتكاثر العامّة عليهما يريدون قتلهما والأمير سودون النائب يمنعهم من ذلك أشدّ المنع، فلم يلتفتوا إليه ورجموهما رجما متتابعا كاد يهلك الجميع، فاحتاجوا إلى الرمى بالنشّاب عليهم وضربهم بالسيوف فقتل منهم جماعة كبيرة، فطلع سودون النائب بهما وبمن كان معهما إلى الإسطبل، فقيّدهم بطا أيضا وسجنهم وأمر بمن فى المدرسة من المقاتلة فنزلوا كلّهم.
وأذهب الله تعالى الدولة المنطاشية من مصر في نحو ثلاثة أيام كأنها لم تكن، وركب الأمير سودون الشيخونى النائب وعبر إلى القاهرة والمنادى ينادى بين يديه بالأمان والدعاء للملك الظاهر برقوق وأرسل إلى خطباء الجوامع فدعوا له في خطبة الجمعة وأطلق بطا زكرياء المخلوع عن الخلافة والشيخ شمس الدين محمد الركراكىّ المالكى وسائر من كان بالقلعة من المسجونين وصار بطا يتتبع المنطاشية ويقبض عليهم كما كان منطاش يتتبع الظاهريّة ويقبض عليهم.
وفي أثناء ذلك قدم أحمد بن شكر الدليل وأشاع الخبر بالقاهرة بأنّ الملك الظاهر برقوقا قادم إلى الديار المصرية، ثم قدم جلبان العيسوى الخاصّكى وأخبر برحيل الملك الظاهر برقوق من مدينة غزّة في يوم الخميس ثانى صفر، فدقّت البشائر وتخلّق الظاهرية بالزعفران وكتب بطا للسلطان يخبره بما اتّفق وأنهم ملكوا ديار مصر وأقاموا الخطبة باسمه وبجميع ما وقع لهم مفصّلا وبعثوا بهذا الخبر

(11/376)


الشريف عنان «1» بن مغامس، ومعه آقبغا الطولوتمرى المعروف باللّكّاش أحد المماليك الظاهريّة، فى يوم السبت رابع صفر، ثم كتب بطا إلى سائر الأعمال بالقبض على المنطاشيّة والإفراج عن الظاهريّة وإرسالهم إلى الديار المصرية.
ثم طلب بطا حسين بن الكورانى في الإسطبل، فلما طلع أراد المماليك الظاهرية قتله لقبح ما فعل فيهم، فشفع فيه سودون النائب.
ثم خلع عليه بطا وأعاده إلى ولاية القاهرة وأمره بتحصيل المنطاشية فنزل فى الحال ونادى من قبض على مملوك منطاشى أو أشرفىّ فله كذا وكذا، ثم قبض بطا على الأمير قطلوبغا والأمير بورى صهر منطاش، والأمير بيد مرشادّ القصر والأمير صلاح الدين محمد بن تنكز وحبسهم بالقلعة، ثم حصّن بطا القلعة تحصينا زائدا ورتّب الرماة والنفطية والرجال حتى ظنّ كلّ أحد أنه يمنع الملك الظاهر من طلوع القلعة.
قلت: وكان الأمر كما ظنّه الناس حسب ما حكاه الوالد بعد ذلك كما سنذكره الآن في محلّه.
قال: وكثر الكلام في أمر بطا، ثم أمر بطا الفخرى بن مكانس بعمل سماط في الإسطبل السلطانىّ فصار الأمراء والمماليك بأجمعهم يأكلون منه في كل يوم عند الأمير بطا.
ثم قدم كتاب الملك الظاهر إلى بطا على يد سيف الدين محمد بن عيسى العائدىّ يأمره بتجهيز الإقامات إليه.

(11/377)


ثم قدم كتاب الملك الظاهر بتفصيل الوقعة بينه وبين منطاش، ثم قدم كتاب آخر عقيبه، كلّ ذلك ولم تطمئن النفوس بعود الملك الظاهر إلى ملكه ولا ارتفع الشكّ، بل كان بطا يخشى أن يكون ذلك مكيدة من مكايد منطاش، وهو ينتظر جواب كتابه للملك الظاهر، حتى قدم آقبغا الطولوتمرى اللّكّاش، وقد ألبسه الملك الظاهر خلعة سنيّة شقّ بها القاهرة، فعند ذلك تحقّق كل أحد بنصرة الملك الظاهر برقوق ونودى بالأمان والاطمئنان، ومن ظلم أو قهر فعليه بباب الأمير بطا.
ثم قبض بطا على حسين بن الكورانى وقيّده بقيد ثقيل جدّا ونهبت داره وصار الصارم يأخذ ابن الكورانى في الحديد، كما يؤخذ اللصوص ويضربه ويعصره ثم نقل من عند الصارم الوالى إلى الأمير ناصر الدين محمد بن آقبغا آص شادّ الدواوين، فعاقبه أشدّ عقوبة.
وفي تاسعه قدم تغرى بردى البشبغاوىّ الظاهرىّ وهو والد كاتبه إلى القاهرة بكتاب السلطان يتضمّن السلام على الأمراء وغيرهم وبأمور أخر.
وأمّا ما وعدنا بذكره من أمر بطا وأنه كان حدّثته نفسه بملك مصر فى الباطن، حكى لى الوالد- رحمه الله-. قال: لما قدمت إلى مصر وتلقّانى بطا وسلّم علىّ وعانقنى وأخذ يسألنى عن أستاذنا الملك الظاهر برقوق وكيف كانت الوقعة بينه وبين منطاش وصار يفحص عن أمره حتى رابنى أمره، فكان من جملة ما سألنى عنه بأن قال: يا أخى تغرى بردى مع أستاذنا صبيان ملاح شجعان أم مماليك ملفّقة، فقلت: مع أستاذنا جماعة إذا أجروا خيولهم هدموا باب السلسلة إنقابها وأقلّهم أنت وأنا إيش هذا السؤال. أما تعرف أغواتك وخشداشيّتك،

(11/378)


فقال: صدقت، وكم مثلثا في خجداشيّتنا عند أستاذنا وأخذ ينتقل بى إلى كلام آخر بما هو في مصالح السلطان الملك الظاهر. انتهى.
وعند قدوم الوالد إلى الديار المصريّة تزايد سرور الناس وفرحهم وتحقّقوا عود الملك الظاهر إلى ملكه.
ثم قدم تنبك الحسنىّ الظاهرىّ المعروف بتنم من الإسكندرية وكان أرسله بطا لنائب الإسكندرية وقد امتنع من الإفراج عن الأمراء المسجونين إلّا بكتاب السلطان.
ثم ألزم بطا الفخر بن مكانس بتجهيز الإقامات والشّقق الحرير للفرش في طريق الملك الظاهر حتى يمشى عليها بفرسه عند قدومه إلى القاهرة.
ثم قدم من ثغردمياط الأمير شيخ الصفوىّ وقبق باى السيفىّ ومقبل الرومىّ الطويل وألطنبغا العثمانىّ وعبدوق العلائى وجرجى الحسنىّ وأربعة أمراء أخر.
وفي عاشره شدّد العذاب على ابن الكورانىّ وألزم بحمل مائة ألف درهم فضة ومائة فرس ومائة لبس حربىّ.
وفي حادى عشر صفر قدم البريد بنزول السلطان الملك الظاهر إلى منزلة الصالحية فخرج الناس أفواجا إلى لقائه ونودى بزينة القاهرة ومصر فتفاخر الناس فى الزينة ونزل السلطان بعساكره إلى العكرشة في ثالث عشر صفر.
وأمّا أمر منطاش وما وقع له بعد ذلك وبقيّة سياق أمر الملك الظاهر برقوق ودخوله إلى القاهرة وطلوعه إلى قلعة الجبل وجلوسه على تخت الملك يأتى ذكر ذلك كلّه مفصّلا في ذكر سلطنته الثانية من هذا الكتاب، بعد أن نذكر من توفّى من سنة إحدى وتسعين وسبعمائة التي حكم في غالبها على مصر الملك المنصور حاجىّ، ثم نعود إلى ذكر الملك الظاهر وسلطنته الثانية- إن شاء الله تعالى-.

(11/379)


وأما الملك المنصور حاجىّ فإنه عاد إلى ديار مصر صحبة الملك الظاهر برقوق محتفظا به وهو في غاية ما يكون من الإكرام وطلع إلى القلعة وسكن بها بالحوش «1» السلطانىّ على عادة أولاد الأسياد ودام عند أهله وعياله إلى أن مات بها في ليلة الأربعاء تاسع عشر شوّال سنة أربع عشرة وثمانمائة ودفن بتربة «2» جدّته لأبيه خوند بركة بخطّ التّبانة بالقرب من باب الوزير خارج القاهرة، بعد أن تسلطن مرّتين وكان لقّب في أوّل سلطنته بالملك الصالح وفي الثانية بالملك المنصور، ولا نعلم سلطانا غيّر لقبه غيره ومات الملك المنصور هذا عن بضع وأربعين سنة وقد تعطّلت حركته وبطلت يداه ورجلاه مدّة سنين قبل موته وكان ما حصل له من الاسترخاء من جهة جواريه على ما قيل: إنّهم أطعموه شيئا بطلت حركته منه وذلك لسوء خلقه وظلمه.
حدّثنى غير واحد من حواشى الملك الظاهر برقوق ممّن كان يباشر أمر الملك المنصور المذكور قال: كان إذا ضرب أحدا من جواريه يتجاوز ضربه لهنّ الخمسمائة عصاة، فكان الملك الظاهر لمّا يسمع صياحهنّ يرسل يشفع فيهنّ فلا يمكنه المخالفة فيطلق المضروبة، وعنده في نفسه منها كمين، كونه ما اشتفى فيها وكان له جوقة مغان كاملة من الجوارى، كما كانت عادت الملوك والأمراء تلك الأيام نحو خمس عشرة واحدة، يعرفن من بعده بمغانى المنصور، وكنّ خدمن عند الوالد بعد موته، فلمّا صار الملك الظاهر برقوق يشفع في الجوارى لمّا يسمع صياحهنّ، بقى المنصور إذا ضرب واحدة من جواريه يأمر مغانيه أن يزفّوا بالدّفوف وتزعق

(11/380)


المواصيل فتصيح الجارية المضروبة فلا يسمعها الملك الظاهر ولا غيره، ففطن بذلك حريم الملك الظاهر وأعلموه الخبر، وقلن له إذا سمع السلطان زفّ المغانى فى غير وقت المغنى فيعلم السلطان أنّه يضرب جواريه وخدمه، فعلم الظاهر ذلك، فصار كلّما سمع المغانى تزفّ أرسل إليه في الحال بالشفاعة، وله من ذلك أشياء كثيرة. وكان الملك الظاهر قبل أن يتكسّح يرسل خلفه في مجلس أنسه وينادمه فى غالب الأوقات وتكرر ذلك منه سنين وكان إذا غلب عليه السّكر تسفّه على الملك الظاهر ويخاطبه باسمه من غير تحشّم فيبتسم الملك الظاهر ويقول لحواشى الملك المنصور: خذوا سيّدى أمير حاج وردّوه إلى بيته، فيقوم على حاله وهو مستمرّ في السّبّ واللّعن، فيعظم ذلك على حواشى الملك الظاهر ويكلّمون الملك الظاهر في عدم الاجتماع به، فلا يلتفت إلى كلامهم فيصبح المنصور يعتذر للسلطان فيما وقع منه في أمسه، فلمّا تكرر منه ذلك غير مرّة تركه وصار لا يجتمع به إلّا في الأعياد والمواسم، فلما بطلت حركته انقطع عنه بالكليّة.
السنة التي حكم في أولها الملك الظاهر برقوق إلى ليلة الاثنين خامس جمادى الآخرة وحكم في باقيها الملك المنصور حاجّى.
ولم يكن له في سلطنته إلا مجرّد الاسم فقط والمتحدّث في المملكة الأتابك يلبغا الناصرىّ ثم تمربغا الأفضلى الأشرفىّ المدعو منطاش وهي سنة إحدى وتسعين وسبعمائة.
وفيها كان خلع الملك الظاهر برقوق من السلطنة وسلطنة الملك المنصور هذا كما تقدم ذكره.

(11/381)


وفيها في ذى الحجّة كانت وقائع بين الملك الظاهر برقوق وبين جنتمر نائب الشام بعد خروجه من سجن الكرك.
وفيها توفّى خلائق كثيرة بالطاعون والسيف وكان الطاعون وقع بالديار المصرية فى أيام الفتنة، فكان من أجل ذلك أشد الطواعين وأعظمها خطبا لما دها الناس من شدّة الطاعون وأهوال الوقائع، فممّن قتل من الأعيان: القاضى شهاب الدين أبو العباس أحمد بن عمر بن أبى الرضا قاضى قضاة الشافعيّة بحلب. وخبره أن الملك الظاهر برقوقا لما خرج من سجن الكرك ووافقه الأمير كمشبغا الحموى نائب حلب ثار عليه شهاب الدين هذا محاماة لمنطاش وجمع أهل بانقوسا وحرّضهم على قتال كمشبغا المذكور وأفتى بجواز قتال برقوق، فركب كمشبغا وقاتلهم فكسرهم وقتل كثيرا من البانقوسيّة ممّن ظفر به، ففرّ شهاب الدين هذا إلى ظاهر حلب، فأخذ قريبا من حلب وأتى به إلى كمشبغا فقتله صبرا، وعمره زيادة على أربعين سنة، أثنى على علمه القاضى علاء الدين بن خطيب الناصريّة والشيخ تقىّ الدين المقريزىّ رحمهما الله- وذكر عنه قاضى القضاة بدر الدين محمود العينىّ- رحمه الله- مساوى وقبائح، نسأل الله تعالى السلامة في الدّين، ذكرناها في ترجمته فى تاريخنا المنهل الصافى.
قلت: والجمع بين هذه الأقوال هو أنه كان عالما غير أنه كان خبيث اللسان، يرتكب أمورا شنيعة مشهورة عنه عند الحلبيين.
وتوفّى قتيلا الأمير صارم الدين إبراهيم ابن الأمير قطلقتمر الخازندار بحلب قتله أيضا الأمير كمشبغا الحموى بحلب، وقد قام بنصرة منطاش وقاتل كمشبغا فلمّا ظفر به كمشبغا وسّطه في شوال وإبراهيم هذا هو الذي كان وقع له مع الملك الظاهر برقوق ما وقع، لمّا اتفق مع الخليفة المتوكّل على الله ووافقهما الأمير قرط

(11/382)


الكاشف على قتل الملك الظاهر برقوق وتمّ عليهم وظفر بهم برقوق وخلع الخليفة وحبسه ووسّط قرط الكاشف وحبس إبراهيم هذا مدّة ثم أطلقه لأجل أبيه قطلقتمر، ثم أنعم عليه بإمرة فلمّا خلع الملك الظاهر وحبس، قام عليه إبراهيم هذا وانضم مع الناصرىّ ومنطاش وصار من جملة أمراء الطبلخاناة، ثم كان مع منطاش على الناصرى، فلمّا ملك منطاش الديار المصرية أنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بديار مصر واستقرّ أمير مجلس عوضا عن الأمير أحمد بن يلبغا فلم يقنع بذلك وبدا منه أمور فأخرجه منطاش بعد أخذه الإمرة بدون السبعة أيام إلى حلب أمير مائة ومقدّم ألف بها، فدام بها حتى ثار أهل بانقوسا على كمشبغا نائب حلب وافقهم إبراهيم هذا فظفر به كمشبغا ووسطه.
قلت: ما كان جزاؤه إلا ما فعله به كمشبغا وكان شجاعا غير أنه كان يحب الفتن ويثير الشرور- عفا الله تعالى عنه-.
وتوفّى الشيخ الإمام العلّامة شهاب الدين أحمد بن أبى يزيد بن محمد المعروف بمولانا زادة السّيرامىّ العجمىّ الحنفى والد العلّامة محبّ الدين محمد ابن مولانا زادة فى يوم الأربعاء حادى عشر المحرّم بالقاهرة وكان إماما مفتنّا في علوم كثيرة؛ وهو أوّل من ولى درس الحديث بالمدرسة الظاهريّة البرقوقية ودام على ذلك إلى أن مات في التاريخ المقدّم ذكره.
وتوفّى الأمير سيف الدين تلكتمر بن عبد الله أحد أمراء الطبلخانات بالطاعون في جمادى الأول وكان من خواصّ الملك الظاهر برقوق.
وتوفّى قتيلا الأمير سيف الدين جاركس بن عبد الله الخليلى اليلبغاوى الأمير آخور الكبير وعظيم دولة الملك الظاهر برقوق، قتل في محاربة الناصرىّ خارج

(11/383)


دمشق، فى يوم الاثنين حادى عشر شهر ربيع الأول «1» وبقتله تخلخلت أركان دولة الملك الظاهر برقوق وكان أميرا مهابا عاقلا عارفا خبيرا سيوسا وله بالقاهرة خان يعرف بخان «2» الخليلى ومآثر بمكة وغيرها وخلّف أموالا كثيرة أخذها منطاش وفرّقها في أصحابه.
وتوفّى الأمير يونس بن عبد الله النّوروزى اليلبغاوى الدوادار الكبير، قتله الأمير عنقاء «3» بن شطّى أمير آل مرا بخربة اللصوص وهو عائد إلى الديار المصرية، بعد انهزامه من الناصرى وكان أيضا أحد أركان الملك الظاهر برقوق وإليه كان تدبير المملكة وكان خدمه وباشر دواداريّته من أيام إمرته وكان عاقلا مدبّرا حازما وهو صاحب الخان خارج مدينة غزّة وغيره معروفة عمائره باسمه ولا يحتاج ذلك إلى التعريف به، فإننا لا نعلم أحدا في الدولة التركيّة سمّى بيونس الدوادار غيره ثم دوادار زماننا هذا الأمير يونس الدوادار السيفىّ آقباى، انتهى.
وتوفّى الأمير سيف الدين بزلار بن عبد الله العمرىّ ثم الناصرى نائب الشام قتيلا بها وكان أصله من مماليك الملك الناصر حسن اشتراه وربّاه مع أولاده وقرأ

(11/384)


القرآن وتأدّب ومهر في الخط المنسوب وبرع في عدة علوم لا سيما علم الفلك والنجوم مع تقدّمه في أنواع الفروسية والشجاعة المفرطة وأنواع الملاعيب، مع ذكاء وفطنة وذوق وعقل ومحاضرة حسنة وحسن شكاله، ولاه الملك الظاهر برقوق نيابة الإسكندرية، ثم عزله وجعله من جملة أمراء الألوف بالديار المصرية، ثم خافه، فقبض عليه ونفاه إلى طرابلس فلمّا كانت نوبة الناصرية اتفق مع جماعة قليلة من أصحابه وملك طرابلس من نائبها أسندمر ووافق الناصرىّ على قتال الملك الظاهر برقوق، فلمّا ملك الناصرىّ مصر خلع عليه بنيابة دمشق، فولى دمشق ودام به إلى أن قبض منطاش على الناصرىّ، فغضب بزلار المذكور للناصرى وخرج عن الطاعة، فخادعه منطاش وأرسل ملطّفات إلى جنتمر بنيابة دمشق فاتّفق أمراء دمشق مع جنتمر ووثبوا عليه على حين غفلة، فركب وقاتلهم، وكاد يهزمهم لولا تكاثروا عليه ومسكوه وحبسوه بقلعة دمشق، حتى أرسل منطاش بقتله فقتل، وسنّه نيّف على خمسين سنة، وكان من محاسن الدنيا، حدّثنى الشيخ موسى الطرابلسىّ قال: لمّا نفاه الملك الظاهر برقوق إلى طرابلس صحبته فكنت أقعد لتكبيسه فأجد أضلاعه صفيحة واحدة، انتهى.
وتوفّى الشيخ المعتقد حسن الخبّاز الواعظ، كان صاحب الشيخ ياقوت الشاذلىّ وتلقّن منه وتزوّج بآبنته وترك بيع الخبز وانقطع بزاويته خارج القاهرة وجلس للوعظ حتى مات في حادى عشرين شهر ربيع الآخر ودفن بالقرافة وكان للناس فيه اعتقاد حسن ولوعظه تأثير في القلوب.
وتوفّى الأمير سيف الدين سودون المظفرىّ أتابك حلب قتيلا بها بيد مماليك الأمير يلبغا الناصرى حسب ما تقدم ذكره في ترجمة الملك الظاهر برقوق وكان أصله من مماليك قطلوبغا المظفّرى أحد أمراء حلب وبها نشأ وخدم الأمير جرجى

(11/385)


الإدريسىّ نائب حلب وصار خازنداره ثم صار من جملة أمراء حلب، ثم ولّاه برقوق حجوبية حلب ثم أتا بكابها، ثم نقله إلى نيابة حماة، ثم إلى نيابة حلب بعد القبض على يلبغا الناصرىّ، ثم عزله الظاهر عن نيابة حلب بالأمير يلبغا الناصرىّ المذكور وجعله أتابك حلب، فكان بينهما مباينة كبيرة وكان الناصرى يزدريه ودام على ذلك حتى بلغ الظاهر خروج الناصرىّ عن الطاعة وكتب ملطّفا لسودون المظفرى هذا بنيابة حلب على عادته وأرسل الملك الظاهر بصلحهم، فلمّا دخل سودون المذكور إلى دهليز دار السعادة «1» أخذته سيوف مماليك الناصرى حتى قتل.
وتوفّى الأمير سيف الدين صراى الطويل أحد أعيان المماليك اليلبغاوية خارج القاهرة في شهر ربيع الأوّل وكان أحد أمراء الطبلخاناة بالديار المصرية.
وتوفّى قاضى القضاة جمال الدين عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن سليمان بن خير السكندرىّ المالكى في يوم الأربعاء رابع عشر شهر رمضان وكنيته أبو القاسم، مولده بالإسكندرية في يوم الأحد سابع جمادى الأولى سنة إحدى وعشرين وسبعمائة وبها نشأ وطلب العلم وسمع الحديث وتفقّه بأبيه وغيره وبرع في الفقه والأصول وشارك في غيره وجلس مع الشهود بالثغر، ثم ولى به نيابة الحكم، ثم نقل إلى قضاء الديار المصرية، عوضا عن قاضى القضاة علم الدين سليمان بن خالد البساطىّ بعد عزله في سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة وحمدت سيرته إلى الغاية ودام مدة سنين إلى أن عزل بالقاصى ولى الدين عبد الرحمن بن خلدون، ثم أعيد بعد ذلك إلى أن مات قاضيا، وتولّى بعده تاج الدين بهرام بن عبد الله بن عبد العزيز الدّميرىّ.

(11/386)


وتوفّى إمام السلطان الملك الظاهر برقوق الشيخ شرف الدين عثمان بن سليمان ابن رسول بن يوسف بن خليل بن نوح الكرادىّ (بتخفيف الراء المهملة) الحنفىّ المعروف بالأشقر، فى يوم الخميس رابع عشرين شهر ربيع الآخر، كان أصله من البلاد الشمالية واشتغل بها ثم قدم القاهرة في عنفوان شبابه في الدولة الأشرفيّة شعبان بن حسين واشتغل بها على علماء عصره، حتى شارك في عدّة فنون ويجب الملك الظاهر في أيام إمرته، فلما تسلطن الملك الظاهر قرّره إمامه وتقدم في دولته ثم ولى قضاء العسكر، ثم مشيخة الخانقاه البيبرسيّة إلى أن مات وكان حسن الهيئة جميل الطريقة وهو والد القاضى محبّ الدين محمد بن الأشقر كاتب سرّ الديار المصرية الآن وقد سألت من ولده المذكور عن أصل آبائه فقال: أصلنا من بلاد القرم وكان جدّى عالما مفتنّا وكان والد جدّى ملكا بتلك البلاد، انتهى.
وتوفى الأمير سيف الدين إشقتمر بن عبد الله الماردينىّ الناصرى نائب حلب والشام، غير مرّة بطّالا بحلب في شوّال، كان أصله من مماليك صاحب ماردين وبعثه إلى الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن قلاوون فربّاه الناصر وأدّبه وكان يعرف ضرب العود ويحسن الموسيقى وكان ماهرا في عدّة فنون، فقرّبه أستاذه الملك الناصر حسن، وجعله من أعيان خاصّكيّته،؟؟ أمّره ثم تنقّل بعد موت أستاذه في عدة وظائف إلى أن ولّاه الملك الأشرف شعبان نيابة حلب بعد وفاة قطلوبغا الأحمدىّ، فباشرها نحو سنة ونصف وعزل بالأمير جرجى الناصرى الإدريسىّ، ثم ولى نيابة طرابلس عوضا عن قشتمر المنصورىّ، ثم أعيد بعد مدة إلى نيابة حلب عوضا عن قشتمر المنصورىّ المذكور، فى سنة إحدى وسبعين بعد قتل يلبغا أستاذ الملك الظاهر برقوق وكان إشقتمر خجداش يلبغا وصاحبه ومن أقرانه، فباشر نيابة حلب مدّة ثم عزل وأعيد إلى نيابة طرابلس والسواحل

(11/387)


عوضا عن أيدمر الدوادار، ثم أعيد إلى نيابة حلب مرّة ثالثة في سنة أربع وسبعين فباشر نيابة حلب إلى أن عزل في سنة خمس وسبعين بالأمير بيدمر الخوارزمىّ وتولى نيابة دمشق، فباشر نيابة دمشق أربعة أشهر وعزل وأعيد إلى نيابة حلب رابع مرّة، فطالت مدّته في هذه الولاية، وغزاسيس «1» وفتحها في سنة ست وسبعين وكان فتحا عظيما وسرّ الملك الأشرف شعبان بفتحه، وفيه يقول الشيخ بدر الدين «2» حسن بن حبيب: [السريع]
الملك الأشرف إقباله ... يهدى له كلّ عزيز نفيس
لمّا رأى الخضراء في شامة ... تختال والشقراء عجبا تميس
وعاين الشّهباء في ملكه ... تجرى وتبدى ما يسرّا الجليس
ساق إلى سوق العدى أدهما ... وساعدا الجيش على أخذ سيس
واستمرّ على نيابتها إلى أن عزل بالأمير منكلى بغا الأحمدىّ البلدىّ وقبض عليه وحبس بالإسكندرية ثم أطلق وتوجه إلى القدس بطالا، كل ذلك وإلى الآن لم يكن برقوق من جملة المماليك السلطانية، بل كان في خدمة منجك، ثم من بعده فى خدمة الأسياد أولاد الملك الأشرف شعبان، ثم أعيد إلى نيابة حلب خامس مرة عوضا عن تمرباى الأفضلىّ الأشرفىّ في سنة إحدى وثمانين، ثم نقل بعد عشرة أشهر إلى نيابة دمشق، عوضا عن بيدمر الخوارزمىّ في سنة اثنتين وثمانين، فدام بدمشق إلى أن عزل في محرم سنة أربع وثمانين وتوجّه إلى القدس بطّالا، فدام بالقدس إلى أن أعيد إلى نيابة دمشق ثالث مرة، من قبل الملك الظاهر برقوق

(11/388)


فى سنة ثمان وثمانين، ثم عزل بعد «1» أربعة أشهر ورسم له أن يتوجّه إلى حلب بطّالا، فدام بحلب إلى أن مات وكان فيه كل الخصال الحسنة لولا حبّه لجمع المال.
وتوفّى الشيخ الإمام العلّامة بدر الدين محمد ابن شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقينىّ الشافعىّ قاضى العساكر في يوم الجمعة سابع عشر شعبان ودفن بمدرسة «2» أبيه بحارة بهاء الدين قراقوش وكان أعجوبة في الذكاء والحفظ مفتنّا في عدّة علوم وهو أسنّ من أخيه قاضى القضاة جلال الدين عبد الرحمن البلقينىّ وكان له نظم ونثر ومما ينسب إليه من الشعر: [الرمل]
كسروا الجرّة عمدا ... سقوا الأرض شرابا
قلت والإسلام دينى ... ليتنى كنت ترابا
وتوفّى العلامة شمس الدين محمود بن عبد الله النّيسابورىّ الحنفىّ المعروف بابن أخى جار الله، فى سابع جمادى الأولى وكان عالما مفتنّا في علوم كثيرة.
وتوفّى تاج الدين عبد الله وقيل: أمين الدين بن مجد الدين فضل الله بن أمين الدين عبد الله بن ريشة القبطىّ المصرىّ ناظر الدولة، فى سادس جمادى الأولى.

(11/389)


وتوفّى الأمير قرا محمد التّركمانىّ صاحب الموصل، قتيلا في هذه السنة وهو والد قرا يوسف صاحب تبريز، وجدّ بنى قرا يوسف ملوك العراق، الذين خربت بغداد وغيرها في دولتهم وأيامهم.
وتوفّى الأمير الطواشى سابق الدين مثقال بن عبد الله الجمالىّ الحبشىّ الزّمام وأصله من خدّام الملك الأمجد والد الأشرف شعبان، تنقّل في عدة وظائف إلى أن صار زماما للدور السلطانية، فلمّا أن قتل الملك الأشرف عزله أينبك البدرىّ وولّى عوضه مقبلا الرومىّ الطواشى اليلبغاوىّ ودام مثقال بطّالا سنين وصادره برقوق وحصل له محن، ثم أفرج عنه فصار يتردّد إلى مكة والمدينة إلى أن مات ببدر من طريق الحجاز في ذى القعدة ودفن عند الشهداء في ليلة الجمعة تاسع عشرينه.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا وأربعة أصابع، والله تعالى أعلم.
انتهى الجزء الحادى عشر من النجوم الزاهرة ويليه الجزء الثانى عشر وأوله: ذكر سلطنة الملك الظاهر برقوق الثانية على مصر

(11/390)


فهرس الملوك والسلاطين الذين تولوا مصر «1»
من سنة 762- 791 هـ (س) (1) السلطان الملك الأشرف شعبان بن حسين- ولايته من ص 24- 147
(2) السلطان الملك الصالح صلاح الدين أمير حاج ابن السلطان الملك الأشرف شعبان- ولايته من ص 206- 221
(3) السلطان الملك الصالح ثم المنصور حاجى ابن السلطان الملك الأشرف بن حسين- ولايته من ص 319- 390
(4) السلطان الملك الظاهر أبو سعيد سيف الدين برقوق بن آنص العثمانى اليلبغاوى الجاركسى- ولايته الأولى من ص 221- 318
(5) السلطان الملك علاء الدين على ابن السلطان الملك الأشرف زين الدين بن شعبان- ولايته من ص 148- 206
(6) السلطان الملك المنصور أبو المعالى ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك المظفر حاجى- ولايته من ص 3- 23

(11/391)


[الجزء الثانى عشر]
بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم
[ما وقع من الحوادث سنة 792]
ذكر سلطنة الملك الظاهر برقوق الثانية على مصر
«1» تقدّم ذكر الملك الظاهر برقوق وأصله وخبر قدومه من بلاد الجاركس إلى الديار المصريّة وما وقع له بها إلى أن ملكها وتسلطن، كلّ ذلك فى ترجمته الأولى من هذا الكتاب «2» . وذكرنا أيضا ما وقع له من يوم خلع نفسه وسجن بالكرك «3» إلى أن خرج من الحبس وقاتل منطاشا وانتصر عليه وعاد إلى الديار المصرية بعد أن أعيد إلى السلطنة بمنزلة شقحب «4» ، وأشهد على الملك المنصور بخلع نفسه، ثم

(12/1)


سار حتى نزل بالصالحية «1» ، كلّ ذلك فى ترجمة السلطان الملك المنصور حاجى مفصّلا، فمن أراد شيئا من ذلك فلينظره فى محلّه، ومن يومئذ نذكر رحيله من منزلة الصالحية إلى نحو الديار المصرية فنقول:
ولمّا نزل الملك الظاهر برقوق على منزلة الصالحيّة فى يوم عاشر صفر سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة أقام بها نهاره، وأعيان الدولة تأتيه فوجا بعد فوج، مثل أكابر الأمراء الذين كانوا بالحبوس وأعيان العلماء ومباشرى الدولة وغيرهم.
ثمّ رحل من الغد بعساكره وصحبته الخليفة والملك المنصور حاجى والقضاة وسار بهم يريد الديار المصرية إلى أن نزل بالرّيدانيّة «2» خارج القاهرة فى بكرة يوم الثلاثاء رابع عشر صفر، فخرج الأعيان من العلماء والأمراء والفقراء إلى لقائه

(12/2)


فخرجت الأشراف مع السيد الشريف علىّ نقيب الأشراف، وخرجت طوائف الفقراء بأعلامها وأذكارها، ومشايخ الخوانق بصوفيّتها، وخرجت العساكر المصريّة بلبوسها الحربيّة، لأن العسكر المصرىّ كان من يوم خروج بطا وأصحابه من السجن وملكوا الديار المصريّة؛ عليهم آلة الحرب، وخرجت اليهود بالتوراة والنصارى بالإنجيل، ومعهم الشموع المشعولة. وخرج من الناس ما لا يحصيه إلا الله تعالى وعندهم من الفرح والسرور ما لا يوصف، وهم يصيحون بالدعاء له حتّى لقوه وخاطبوه.
فشرع الملك الظاهر يكلّم الناس ويدنيهم ويرجع رءوس النّوب عن منعهم من السلام عليه. وكلّما دعا له شخص منهم رحّب به. هذا وقد فرشت له الشّقق الحرير خارج التّرب إلى باب السلسلة «1» ، فلمّا وصل الملك الظاهر إلى الشقق المفروشة له، تنحّى بفرسه عنها وقدم الملك المنصور حاجّى، حتى مشى بفرسه عليها، ومشى الملك الظاهر برقوق بجانبه خارجا عن الشقق، فصار الموكب كأنه للملك المنصور لا للظاهر، فوقع هذا من الناس موقعا عظيما، ورفعوا أصواتهم له بالدعاء والابتهال لتواضعه فى حال غلبته وقهره له وكون المنصور معه كالأسير، وصارت القبّة والطير على رأس الملك المنصور أيضا، والخليفة أمامها وقضاة القضاة بين يدى الخليفة، وتناهبت العامّة الشّقق الحرير بعد دوس فرس السلطان عليها، من غير أن يمنعهم أحد، وكذلك لمّا نثر عليه الذهب والفضّة تناهبتّه العامّة. وكانت عادة ذلك كلّه للجمداريّة، فقصد الظاهر بذلك زيادة التحبّب للعامّة، كونهم أظهروا المحبّة له فى غيبته، وقاموا مع المماليك، وصاروا مع مماليكه، وصار الملك الظاهر يعظّم الملك المنصور فى مشيه

(12/3)


وخطابه، ويعامله كما يعامل الأمير سلطانه، إلى أن أدخله داره بالقلعة؛ ثم عاد الملك الظاهر إلى حيث نزل من القلعة، وتفرّغ عند ذلك لشأنه، واستدعى الخليفة وقضاة القضاة والشيخ سراج الدين عمر البلقينىّ والأمراء وأعيان الدولة، فجدّد عقد السلطنة له وتجديد التفويض الخليفتىّ، فشهد بذلك القضاة على الخليفة ثانيا وأفيضت التشاريف الخليفتيّة على السلطان بسلطنته، ثم أفيضت التشاريف السلطانية على الخليفة، وركب السلطان الملك الظاهر من الإسطبل «1» السلطانىّ من باب السلسلة بأبّهة السلطنة وشعار الملك، وطلع إلى القلعة ونزل إلى القصر، وجلس على تخت الملك، ودقت البشائر وعملت التهانى والأفراح بالقلعة وفى دور الأمراء وأهل الدولة، وكان هذا اليوم من الأيام التى لم يقع مثلها إلا نادرا.
ثم قام السلطان ودخل إلى حرمه وإخوته، ففرشت له أيضا الشّقق الحرير والشقق المذهّبة تحت رجليه، ونثر عليه الذهب والفضة ولاقته التهانى من خارج باب السّتارة «2» ، ثم أصبح السلطان فى يوم الأربعاء؛ فأمر أن يكتب إلى ثغر الإسكندرية «3» بالإفراج عن الأمراء المسجونين بها، وإحضارهم إلى الديار المصريّة.

(12/4)


ثم خلع السلطان على فخر الدين بن مكانس صاحب ديوان الجيش باستقراره فى وظيفته نظر الجيش عوضا عن القاضى جمال الدين محمود القيصرىّ العجمىّ بحكم توجّهه مع منطاش إلى دمشق، وخلع على الوزير موفّق الدين أبى الفرج واستقرّ به فى الوزارة، ونظر الخاصّ، وعلى ناصر الدين محمد بن آقبغا آص شادّ الدواوين باستمراره. وأنعم على الأمير بطا الطّولوتمرىّ الظاهرىّ بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية، وعيّن للدواداريّة الكبرى وأخلع على الأمير قرقماش الطشتمرىّ أستادارا.
ثم فى سابع عشر صفر قدم الأمراء من الإسكندرية إلى بر الجيزة، فباتوا به وعدّوا فى ثامن عشره وطلعوا إلى القلعة وهم سبعة عشر أميرا، أعظمهم الأتابك يلبغا الناصرىّ، الذي كان خرج على الملك الظاهر، وقبض عليه وحبسه بالكرك ثم الأمير ألطنبغا الجوبانىّ نائب الشام الذي كان قبض على الملك الظاهر برقوق من بيت أبى يزيد، وطلع به إلى القلعة نهارا، ثم الأمير الكبير قرادمرداش الأحمدىّ الذي كان الظاهر جعله أتابك العساكر بديار مصر، وأنعم عليه بثلاثين ألف دينار فتركه وتوجّه إلى يلبغا الناصرى المقدّم ذكره، والأمير ألطنبغا المعلّم أمير سلاح وهؤلاء الأربعة من أعيان اليلبغاويّة خشداشيّة الملك الظاهر برقوق، ثم الأمير أحمد بن يلبغا أمير مجلس الذي كان سببا لكسرة عسكر الملك الظاهر بدمشق بهرو به إلى الناصرىّ، والأمير قردم الحسنىّ اليلبغاوىّ رأس نوبة النّوب والأمير سودون باق أحد أمراء الألوف اليلبغاوية والأمير سودون طرنطاى أحد الألوف أيضا والأمير آفبغا الماردينىّ الأستادار أحد الألوف، وكشلى اليلبغاوىّ «1» وبجاس النّورورى

(12/5)


كلاهما أيضا مقدّم ألف ومأمور القلمطاوى نائب حماة والكرك وألطنبغا الأشرفىّ أحد الألوف أيضا ويلبغا المنجكىّ ويونس العثمانىّ، فوقف الجميع بين يدى الملك الظاهر برقوق وقبّلوا الأرض له، وهم فى غاية ما يكون من الخجل والحياء منه، بما تقدّم منهم فى حقّه، فرحّب بهم الملك الظاهر وطيّب خواطرهم ولم يذكر لهم ما فعلوه به ولا عتبهم عن شئ مما وقع منهم فى حقّه، بل أكرمهم غاية الإكرام بكلّ ما يمكن القدرة إليه، ثم أمرهم بالنزول إلى بيوتهم، فنزل الجميع وهم فى غاية السرور.
ثم فى يوم الاثنين العشرين من صفر جلس السلطان بالإيوان «1» من القلعة المعروفة بدار العدل، وأخلع على الأمير سودون الفخرىّ الشيخونىّ بنيابة السلطنة بالديار المصرية على عادته أوّلا، وعلى الأمير إينال اليوسفىّ اليلبغاوى باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية، وعلى الأمير الكبير يلبغا الناصرى صاحب الوقعة باستقراره أمير سلاح، وعلى الأمير ألطنبغا الجوبانىّ باستقراره رأس نوبة الأمراء وأطابكا وعلى الأمير كمشبغا الأشرفىّ الخاصكىّ باستقراره أمير مجلس وعلى الأمير بطاالطّولوتمرىّ الظاهرىّ باستقراره دوادارا كبيرا، وهو الذي كان خرج من حبس القلعة وملك باب السلسلة فى فتنة الملك الظاهر وعلى الأمير طوغان العمرىّ باستقراره أمير

(12/6)


جاندار، وعلى سودون النظامىّ باستقراره نائب قلعة «1» الجبل، ونزل الجميع بالخلع وتحتهم الخيول بالسروج الذهب والكنابيش الزّركش إلى دورهم، بعد أن خرجت الناس للفرجة عليهم، فكان يوما من الأيام المشهودة.
ثم فى يوم حادى عشرين صفر أخلع السلطان على الأمير بكلمش العلائىّ باستقراره أمير آخور كبيرا، وسكن بالإصطبل السلطانىّ.
ثم فى يوم الخميس ثالث عشرين صفر قرئ عهد السلطان الملك الظاهر برقوق بدار العدل، وخلع السلطان على الخليفة المتوكّل على الله وأخلع على القاضى علاء الدين علىّ بن عيسى المقيّرىّ الكركى كاتب سرّ الكرك فى كتابة سرّ مصر، لما تقدم له من الإيادي على الظاهر فى القيام معه بالكرك، عوضا عن القاضى بدر الدين محمد ابن فضل الله بحكم توجّهه أيضا مع منطاش إلى دمشق.
ثم أخلع السلطان على بيجاس السّودونىّ باستقراره فى نيابة صفد.
وفى سادس عشرينه قبض السلطان على حسين بن الكورانىّ وأمر به فعدّب بأنواع العذاب.
وفيه قدم البريد على السلطان من صفد بفرار الأمير طغاى تمر القبلاوىّ من دمشق إلى حلب فى مائتين وواحد من المنطاشية.
وفى سابع عشرين صفر استقرّ الأمير محمود بن على الأستادار كان باستقراره مشير الدولة.

(12/7)


وفى يوم الأربعاء تاسع عشرينه جلس السلطان الملك الظاهر بالميدان «1» من تحت القلعة للنظر فى أحوال الرعية والحكم بين الناس على العادة، واستمرّ على ذلك فى كلّ يوم أحد وأربعاء.
وفى ثامن عشر شهر ربيع الأوّل أخلع السلطان على الشيخ محمد الرّكراكىّ المالكىّ باستقراره فى قضاء المالكية بالديار المصرية عوضا عن تاج الدين بهرام الدّميرىّ. والرّكراكىّ هذا هو الذي كان امتنع من الكتابة على الفتيا فى أمر الملك الظاهر برقوق لمّا كتب عليها البلقينىّ وغيره من القضاة والعلماء، وضربه منطاش بسبب عدم كتابته. وحبسه إلى أن أطلقه بطا فيمن أطلق من سجن منطاش، فعرف له الظاهر ذلك وولّاه قضاء المالكية.
وفيه استقرّ سعد الدين أبو الفرج بن تاج الدين مرسى المعروف بابن كاتب السعدىّ باستقراره فى نظر الخاصّ عوضا عن الصاحب موفّق الدّين، وانفرد موفّق الدين بالوزر.
وفى خامس عشرين شهر ربيع الأوّل استقرّ الأمير ألطنبغا الجوبانىّ رأس نوبة الأمراء فى نيابة الشام عوضا عن جنتمر أخى طاز بحكم انضمامه مع منطاش.
واستقرّ الأمير قرا دمرداش الأحمدىّ فى نيابة طرابلس ورسم لهما الملك الظاهر فى محاربة الأمير منطاش.
وفى يوم السبت أوّل شهر ربيع الآخر استقرّ الأمير مأمور القلمطاوىّ فى نيابة حماة واستقرّ أرغون العثمانىّ فى نيابة الإسكندرية، وآلابغا العثمانىّ حاجب حجّاب دمشق، وأسندمر السيفى حاجب حجّاب طرابلس

(12/8)


وفيه أيضا أنعم السلطان على كل من ألطنبغا الأشرفىّ وسودون باق وبجمان المحمّدىّ بإمرة مائة بدمشق ورسم لهم أن يخرجوا نوّاب البلاد الشامية.
وفى سابع عشر شهر ربيع الآخر المذكور استقرّ سعد الدين «1» نصر الله بن البقرىّ فى الوزارة عوضا عن موفّق الدين أبى الفرج، واستقرّ الصاحب علم الدين سنّ إبرة فى نظر الدولة.
وفى رابع عشرينه قبض السلطان على الأمير سربغا الظاهرىّ وعلى الأمير أيدكار العمرىّ وعلى بكتمر الدوادار وعلى طشبغا الحسنىّ وقرابغا وأرغون الزّينىّ.
وفيه أيضا خلع السلطان على الأمير جلبان الكمشبغاوىّ الظاهرىّ المعروف بقراسقل باستقراره رأس نوبة النّوب بعد وفاة الأمير حسين قجا. كلّ ذلك والأخبار ترد على السلطان بأن المنطاشيّة تدخل فى الطاعة شيئا بعد شىء وأن منطاشا فى إدبار.
وفيه أخلع السلطان على الأمير يلبغا الناصرىّ واستقرّ به مقدّم العساكر المتوجّهة لقتال منطاش، وندبه للتوجّه صحبة النوّاب، وقال له: هو غريمك، اعرف كيف تقاتله. وجعل إليه مرجع العسكر جميعه.
وفيه أيضا خلع على نوّاب الشام خلع السّفر. وأنعم السلطان على جماعة كبيرة من مماليكه وغيرهم بإمريات بالبلاد الشامية، ورسم أيضا لجماعة من أمراء مصر بالسفر صحبة الأمير يلبغا الناصرىّ لقتال منطاش.
وفى عاشر جمادى الأولى برزت أطلاب «2» النّوّاب والأمراء إلى الرّيدانية خارج القاهرة، هذا بعد دخول الأمير قطلوبغا الصّفوى فى طاعة السلطان وحضوره إلى الديار المصرية بمن معه، كما سيأتى ذكره.

(12/9)


وكان من خبر قطلوبغا الصّفوىّ أن منطاشا جهّزه على تجريدة من دمشق لمحاصرة مدينة صفد «1» ، فلما قارب قطلوبغا صفد، دخل هو وجميع من معه فى طاعة السلطان.
ثم قدم قطلوبغا المذكور بمن معه فى ثالث عشر جمادى المذكورة، وكان لقدومه يوم مشهود. وعند دخوله إلى القاهرة قدم البريد فى إثره بأن منطاشا لمّا بلغه مخامرة الصفوىّ بمن معه، قبض على الأمير جنتمر أخى طاز نائب الشام وهو أعظم أصحابه وعلى ولده وعلى أستاداره ألطنبغا وعلى الأمير أحمد بن خوجى وعلى الأمير أحمد بن قجق وعلى كمشبغا المنجكىّ نائب بعلبك «2» وعلى القاضى شهاب الدين أحمد بن عمر القرشىّ الشافعىّ قاضى دمشق وعلى عدّة من الأمراء والأعيان؛ هذا ومجىء المنطاشية يتداول إلى مصر شيئا بعد شئ.
وفى تاسع عشرينه استقرّ الأمير محمود بن علىّ الأستادار أستادارا على عادته عوضا عن الأمير قرقماس الطشتمرىّ بعد وفاته.
هذا والقتال عمّال بالبلاد الشامية فى كلّ قليل بين عسكر منطاش وعساكر السلطان.
ثم قدم البريد بأن منطاشا أخذ بعلبك بعد ما حاصرها محمد بن بيدمر نحو أربعة أشهر وأنه وسّط ابن الحنش وأربعة نفر معه.

(12/10)


وفى سابع عشر جمادى الآخرة قدم البريد بأن منطاشا لمّا بلغه قدوم العساكر لقتاله برز من دمشق وأقام بقبة «1» يلبغا أياما، ثم رحل نصف ليلة الأحد ثالث عشر جمادى الآخرة بخواصّه، وهم نحو ستمائة فارس ومعه نحو سبعين حملا ما بين ذهب وفضة، وتوجّه نحو قارا «2» والنّبك «3» ، بعد أن قتل جماعة من المماليك الظاهرية وقتل الأمير ناصر الدين محمد بن المهمندار نائب؟؟؟ اة كان وأنّ الأمير الكبير أيتمش خرج من سجنه بقلعة دمشق، وأفرج عمن كان محبوسا بها، وملك القلعة وأرسل إلى النوّاب يعلمهم بذلك. فلمّا سمع النوّاب ذلك ساروا إلى دمشق وملكوها من غير قتال، فسرّ السلطان بذلك سرورا عظيما ودقت البشائر ونودى بالقاهرة ومصر بالزينة.
وفى سابع عشر جمادى الآخرة المذكور، قدم البريد من دمشق بثلاثة عشر سيفا من سيوف الأمراء المنطاشية الذين قبض عليهم بدمشق.
ثم فى حادى عشرينه قدم البريد أيضا بثمانية سيوف أيضا من المنطاشية، ثم قدم البريد بسبعة سيوف أخر، منهم سيف الأمير ألطنبغا الحلبىّ وسيف دمرداش اليوسفىّ.
وفى ثالث عشرينه قدم البريد بأن الأمير نعير بن حيّار قبض على الأمير منطاش فدقّت البشائر لذلك، ثم تبيّن كذب الخبر.
وفى سابع عشرينه حضر الأمراء المقبوض عليهم من المنطاشية بدمشق.

(12/11)


وفى يوم الخميس ثانى شهر رجب قدم القاضى عماد الدين أحمد بن عيسى المقيّرىّ قاضى الكرك إلى القاهرة، بعد أن خرج الأعيان إلى لقائه وطلع إلى القلعة فلمّا وقع بصر السلطان عليه قام له، ومشى لتلقّيه خطوات، وعانقه وأجلسه بجانبه وحادثه ساعة، ثم قام ونزل إلى داره؛ كلّ ذلك لما كان له على السلطان أيام حبسه بالكرك من الخدم.
وفى ثانى عشر شهر رجب حضر من دمشق القاضى بدر الدين محمد بن فضل الله كاتب السر والقاضى جمال الدين محمود العجمىّ ناظر الجيش ونزلا فى بيوتهما من غير أن يجتمعا بالسلطان لتوغّر خاطر السلطان عليهما لكونهما توجّها إلى دمشق صحبة منطاش.
وفى ثالث عشره أخلع السلطان على القاضى عماد الدين الكركىّ المقدّم ذكره باستقراره قاضى قضاة الديار المصرية عوضا عن القاضى بدر الدين محمد بن أبى البقاء، فصار عماد الدين هذا قاضى قضاة مصر وأخوه علاء الدين المقدّم ذكره كاتب سرّ مصر.
ثم قدم الخبر على السلطان من حلب بأن الأمير كمشبغا الحموى نائب حلب لمّا انهزم وتوجّه إلى حلب جهّز إليه منطاش من دمشق بعد عود الملك الظاهر إلى مصر عسكرا عليه الأمير تمان تمر الأشرفى، فوصل تمان تمر المذكور إلى حلب واجتمع به أهل بانقوسا «1» ، وقاتلوا كمشبغا المذكور وحصروه بقلعة حلب نحو أربعة أشهر ونصف، وأحرقوا الباب والجسر، ونقبوا القلعة من ثلاثة مواضع، فنقب كمشبغا على أحد النّقوب من أعلاه، ورمى على من به من فوق بالمكاحل واختطفهم

(12/12)


بكلاليب الحديد، وصار يقاتلهم من النقب فوق السبعين يوما وهو فى ضوء الشموع بحيث إنه لا ينظر شمسا ولا قمرا ولا يعرف الليل من النهار، وقاسى شدائد ومحنّا، ودام ذلك عليه إلى أن بلغ تمان تمر المذكور فرار منطاش من دمشق فضعف أمره، فثار عليه أهل بانقوسا ونهبوه، فحضر حاجب حجّاب حلب إلى الأمير كمشبغا وأعلمه بذلك، فعمّر كمشبغا الجسر فى يوم واحد، ونزل وقاتل أهل بانقوسا يومين، وقد أقاموا عليهم رجلا يعرف بأحمد بن «1» الحرامىّ؟ فلمّا كان اليوم الثالث وقت العصر انكسر أحمد بن الحرامىّ المذكور وقبض كمشبغا عليه وعلى أخيه وعلى نحو الثمانمائة من الأتراك والأمراء والبانقوسية، فوسّطهم كمشبغا بأجمعهم وضرب بانقوسا حتى صارت دكّا، ونهب جميع ما فيها. ثمّ إن الكتاب يتضمّن أيضا أن كمشبغا بالغ فى تحصين قلعة حلب وعمارتها وأعدّ بها مؤونة عشر سنين، وأنه جمع من أهل حلب مبلغ ألف درهم، وعمّر سور مدينة حلب وكان منذ خرّبه هولاكو خرابا، فجاء فى غاية الحسن، وعمل له بابين وفرغه فى نحو الشهرين ونصف، وكان أكثر أهل حلب يعمل فيه وأن الأمير شهاب الدين أحمد بن المهمندار والأمير طغجى «2» نائب دوركى «3» كان لهما قيام تام مع الأمير كمشبغا فى هذه الوقعة. انتهى.
قلت: يقال: إنه قتل فى واقعة كمشبغا مع الحلبيين بحلب نحو العشرين ألفا من الفريقين. ثم أشبع بالقاهرة أن الأمير بطا الطولوتمرى الدوادار يريد إثارة فتنة، فتحرّز الأمراء واعتدّوا للحرب إلى أن كان يوم الاثنين عشرينه جلس السلطان بدار العدل «4» على العادة، ثم توجّه إلى القصر ومعه الأمراء فتقدّم الأمير

(12/13)


بطا إلى السلطان وقال للسلطان: قد سمعت ما قيل عنى وهأنا. وحلّ سيفه وعمل فى عنقه منديلا، فسأل السلطان الأمراء عما ذكره الأمير بطا وأظهر أنه لم يسمع شيئا من ذلك، فذكر الأمراء أن الأمير كمشبغا رأس نوبة تنافس مع الأمير بكلمش العلائى أمير آخور.
ثم وقع بين الأمير بطا ومحمود الأستادار مخاشنة فى اللفظ، فأشاع الناس ما أشاعوه فجمعهم السلطان وأصلح بينهم.
ثم حلّفهم على طاعته وحلّف المماليك أيضا، وطيّب خواطر الجميع بلين كلامه ودهائه؛ وفى النفس من ذلك شىء.
ثم أحضر السلطان مملوكا انّهم أنه هو الذي أشاع الفتنة، فضرب ضربا مبرّحا وسمّر على جمل وشهّر، ثم سجن بخزانة «1» شمائل، فلم يعرف له خبر بعد ذلك، وهو من المماليك الظاهرية.
ثم قبض السلطان على الأمير يلبغا أحد أمراء العشرات، وسمّر ونودى عليه: هذا جزاء من يرمى الفتن بين الأمراء. وسكنت الفتنة بعد أن كادت أن تثور. وبينما السلطان فى ذلك وصل إليه الخبر من الشام بأن منطاشا ونعير بن حيّاز جمعوا جمعا كبيرا من المماليك الأشرفية والتركمان والعربان وقصدوا النوّاب، والأمير يلبغا الناصرىّ مقدّم العساكر، فلمّا بلغ الناصرىّ ذلك خرج بالعساكر هو والأمير ألطنبغا الجوبانىّ نائب

(12/14)


الشام وغيره من دمشق ونزل بسلمية «1» ، وخلّفوا الأمير الكبير أيتمش البجاسى بدمشق لحفظها، فثار على أيتمش المذكور بدمشق بعد خروج العسكر منها جماعة من المماليك البيدمريّة والطازيّة والجنتمريّة فى طوائف من العامّة يريدون أخذ مدينة دمشق من أيتمش، فأرسل أيتمش بطاقة من قلعة دمشق إلى سلمية، يعلم الأمراء والنوّاب بذلك، فحالما سمع الناصرىّ الخبر ركب ليلا فى طائفة من عسكره وقدم دمشق ومعه الأمير آلابغا العثمانىّ حاجب حجّاب دمشق، وقاتل المذكورين قتالا شديدا، قتل بينهما خلائق كثيرة من العامّة والأتراك، حتى انتصر الناصرىّ وقبض على جماعة منهم ووسّطهم تحت قلعة دمشق، وقبض أيضا على جماعة كثيرة فقطع أيديهم وهم: نحو سبعمائة رجل، قاله الشيخ تقىّ الدين المقريزيّ- سامحه الله- وحبس جماعة أخر. ثم عاد الناصرى إلى سلمية بعد أن مهّد أمر الشام واجتمع مع أصحابه النوّاب، فذكروا له أنّ منطاشا فرّق أصحابه ثلاث فرق، فأشار عليهم الناصرىّ بأنه أيضا يفرّق أصحابه وعساكره، فتفرّقوا هم أيضا ثلاث فرق: الناصرىّ فرقة، والجوبانىّ فرقة، وقرادمرداش نائب طرابلس فرقة.
فأما الناصرىّ، فإنه تولّى قتال نعير بن حيّار، فحاربه وكسره أقبح كسرة، وقتل جمعا كبيرا من عربانه؛ على أن نعيرا كان من أصحاب الناصرىّ قبل ذلك، وممن خرج على منطاش غضبا للناصرىّ، وركب الناصرىّ قفا نعير إلى منازله.
وأما الأمير قرا دمرداش الأحمدىّ نائب طرابلس فانتدب لقتال منطاش، فإنه كان بينهما عداوة قديمة، فتواقعا وتقاتلا قتالا شديدا، برز فيه كلّ من منطاش وقرا دمرداش لصاحبه، وضرب كلّ مهما الآخر بسيفه، فجاءت ضربة منطاش

(12/15)


فى يد قرا دمرداش، فقلعت عدّة أصابع من أصابعه، وجاءت «1» ضربة قرا دمرداش فى كتف منطاش فحلّته، هذا والحوبانىّ فى القلب واقف بعساكره، فخامرت جماعة من الأشرفية من خجداشية منطاش وجاءت إليه، وصارت من عسكره، وكان حضر إلى الجوبانىّ قبل ذلك جماعة أخر من المماليك الأشرفية، فأحسن إليهم ألطنبغا الجوبانىّ وقرّبهم وجعلهم من خواصّ عسكره، فاتفقوا مع بعض مماليك الجوبانىّ على قتل الجوبانىّ، فلما كان وقت الوقعة، وقد التحم القتال بين الناصرىّ ونعير وبين قرا دمرداش ومنطاش وثبوا عليه من خلفه وقتلوه بالسيوف، ثم قبضوا على الأمير مأمور القلمطاوىّ نائب حماة ووسّطوه، ثم قتلوا الأمير آقبغا الجوهرىّ والثلاثة من عظماء المماليك اليلبغاوية خجداشية الملك الظاهر برقوق وأكابر أمرائه، ثم قتلوا عدّة أمراء أخر من اليلبغاوية وكانت هذه الوقعة من أعظم الملاحم، قتل فيها من الفريقين عالم لا يحصى كثرة وانتهبت العربان والتركمان والعشير «2» ما كان مع العسكرين، وقدم البريد بذلك على السلطان، فشقّ عليه قتل الأمراء إلى الغاية، وأخبر البريد أيضا أنّ منطاش لمّا انكسر من قرا دمرداش وهو مجروح أشيع موته، فأقام الأشرفية عوضه عليهم خجداشهم الأمير ألطنبغا الأشرفىّ، فلما حضر منطاش من الغد غضب من ذلك وأراد قتل ألطنبغا الأشرفىّ فلم تمكّنه الأشرفية من ذلك.
وأما يلبغا الناصرىّ فإنه لما رجع من محاربة نعير ووجد الأمير ألطنبغا الجوبانى قد قتل، جمع العساكر وعاد إلى دمشق وأقام به يومين حتى أصلح أمره، ثم خرج من دمشق بجميع العساكر وأغار على آل علىّ، فوسّط منهم جماعة كبيرة نحو مائتى نفس ونهب بيوتهم وكثيرا من جمالهم، وعاد إلى دمشق وكتب للسلطان أيضا بذلك،

(12/16)


فكتب السلطان للناصرىّ الجواب بالشكر والثناء والتأسف على الأمير ألطنبغا الجوبانىّ وغيره وأرسل إليه الأمير أبا يزيد بن مراد بالتقليد والتشريف بنيابة الشام عوصا عن ألطنبغا الجوبانىّ ومبلغ عشرين ألف دينار برسم النفقة فى العساكر.
قلت: وأبو يزيد هذا هو الذي كان اختفى عنده الملك الظاهر برقوق لمّا خلع نفسه عند حضور الناصرىّ ومنطاش إلى الديار المصرية.
ثم فى يوم الخميس أوّل ذى الحجة من سنة اثنتين وتسعين المذكورة، رسم السلطان للأمير قرا دمرداش الأحمدىّ نائب طرابلس باستقراره فى نيابة حلب عوضا عن الأمير كمشبغا الحموىّ بحكم عزله وقدومه إلى القاهرة وجهّز إليه التقليد والتشريف على يد الأمير تنبك المعروف بتنم الحسنىّ الظاهرىّ.
ثم فى خامس ذى الحجّة استقرّ السلطان بالأمير إينال من خجا أتابك حلب باستقراره فى نيابة طرابلس عوضا عن الأمير قرا دمرداش المنتفل لنيابة حلب، واستقرّ الأمير آقبغا الجمالىّ الظاهرىّ أتابك حلب عوضا عن إينال المذكور واستقر الأمير محمد بن سلّار حاجب حجّاب حلب وكتب لسولى بن دلغادر بنيابة أبلستين «1» .
ثم فى يوم عيد النحر خرج الأمير بيليك المحمدىّ لإحضار الأمير كمشبغا الحموىّ اليلبغاوىّ نائب حلب، ثم أرسل السلطان الملك الظاهر الأمير تمربغا المنجكىّ بمال كبير ينفقه فى العساكر الشاميّة ويجهّزهم إلى عينتاب «2» لقتال منطاش.
ثم فى سادس محرّم سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة ورد الخبر من دمشق بأن الأمير يلبغا الناصرىّ تنافس هو والأمير الكبير أيتمش البجاسىّ فأضمر الناصرىّ الخروج

(12/17)


عن الطاعة ولبس السلاح وألبس حاشيته ونادى بدمشق من كان من جهة منطاش فليحضر، فصار إليه نحو ألف ومائتى فارس من المنطاشيّة، فقبض على الجميع وسجنهم، ثم قلع السلاح وكتب بذلك إلى السلطان يعرّفه، فأجابه السلطان بالشكر والثناء.
ثم فى ثانى صفر رسم السلطان بهدم سلالم مدرسة «1» السلطان حسن فهدمت وفتح بابها من شباك بالرّميلة تجاه باب السلسلة.
ثم قدم الأمير كمشبغا الحموىّ نائب حلب إلى القاهرة فى سابع صفر، بعد أن خرج الأمير سودون النائب مع أعيان الأمراء والحجّاب إلى لقائه وطلع إلى القلعة وقبّل الأرض، فقام له السلطان واعتنقه وأجلسه فى الميمنة فوق الأمير الكبير إينال اليوسفىّ ونزل إلى دار أعدّت له، وبعث له السلطان ثلاثة أرؤس من الخيل بقماش ذهب وحضر مع كمشبغا أيضا الأمير حسام الدين حسن الكجكنىّ نائب الكرك وكان قد انهزم مع كمشبغا نائب حلب من يوم وقعة شقحب، فرحّب السلطان به أيضا وأكرمه وأرسل إليه فرسا بقماش ذهب وقدم معهما أيضا عدّة أمراء أخر.
ثم قدم البريد فى أثناء ذلك بأن العساكر الشامية وصلت إلى مدينة عينتاب ففرّ منطاش إلى جهة مرعش «2» وفرّ من عنده جماعة كبيرة ودخلوا تحت طاعة السلطان.

(12/18)


ثم أحضر السلطان الأمير حسام الدين حسن بن باكيش نائب غزّة من السجن وضربه بالمقارع وأحضر أيضا آقبغا الماردينىّ نائب الوجه القبلى وضربه على أكتافه وأمر والى القاهرة بتخليص حقوق الناس منه واستقرّ عوضه فى كشف الوجه القبلىّ الأمير يلبغا الأحمدىّ المجنون أحد المماليك الظاهرية.
ثم فى تاسع عشرينه أحضر السلطان القاضى شهاب الدين أحمد بن الجبّال الحنبلىّ قاضى طرابلس فضرب بين يديه عدّة عصىّ بسبب قيامه مع منطاش.
ثم أنعم السلطان على الأمير حسام الدين الكجكنى نائب الكرك كان بإقطاع أرغون العثمانىّ البجمقدار نائب الإسكندرية والإقطاع تقدمة ألف بالقاهرة.
ثم خرج البريد من مصر بإحضار الأمير أيتمش البجاسىّ من دمشق وكان بها من يوم قبض عليه الناصرىّ فى واقعة الناصرىّ ومنطاش مع الملك الظّاهر برقوق وحبس بقلعة دمشق إلى أن أطلق بعد خروج منطاش من دمشق واستمرّ بدمشق لمصالح الملك الظاهر حتى طلب فى هذا التاريخ وخرج بطلبه الأمير قنق باى الأحمدىّ رأس نوبة، فقدم فى يوم الاثنين رابع جمادى الأولى على البريد، فتلقّاه الأمير سودون النائب والحجّاب وقدم مع أيتمش المذكور عدّة أمراء، منهم:
آلابغا العثمانىّ حاجب حجّاب دمشق والأمير أيتمش المذكور والأمير جنتمر أخو طاز نائب دمشق كان وأمير ملك ابن أخت جنتمر ودمرداش اليوسفىّ وألطنبغا الحلبىّ وكثير من المماليك السلطانية وجماعة أخر والجميع فى الحديد على ما يأتى ذكرهم، ما خلا المماليك الظاهريّة وطلع الأمير أيتمش إلى السلطان وقبّل الأرض فأكرمه السلطان وأجلسه فى الميسرة تحت الأمير سودون النائب وكانت منزلته فى الميمنة، فإنّه كان أتابك العساكر بالديار المصرية قبل توجّهه إلى قتال الناصرىّ، لكنه لمّا حضر الآن كان بطّالا وكان الأتابك يومئذ الأمير إينال

(12/19)


اليوسفىّ اليلبغاوىّ، على أنه يجلس تحت الأمير الكبير كمشبغا الحموىّ نائب حلب كان، فلو جلس الأمير أيتمش الآن فى الميمنة لجلس ثالثا، فإنّه لا يمكنه الجلوس، فوقف إينال كونه متولّيا أتابك العساكر وأيتمش الآن منفصل، فرسم له السلطان أن يجلس فى الميسرة ولم يجسر أن يأمره بالجلوس فوقه لكبر سنّه وقدمته، فجلس تحته.
قلت: وهذا شأن الدنيا، الرفع والخفض، ثم أحضر السلطان الأمراء القادمين صحبة الأمير الكبير أيتمش وعدّتهم ستة وثلاثون أميرا ومعهم أيضا قاضى القضاة شهاب الدين أحمد بن عمر القرشىّ الشافعىّ قاضى قضاة دمشق والقاضى فتح الدين محمد بن محمد بن أبى بكر بن إبراهيم بن الشهيد كاتب سرّ دمشق وابن شكر ناظر جيش دمشق والجميع فى القيود، فونّج السلطان ألطنبغا الحلبىّ وجنتمر نائب الشام وابن القرشىّ وأطال الحديث معهم وكانوا قابلوه فى محاربته لدمشق بأشياء قبيحة إلى الغاية وأفحشوا فى أمره إفحاشا زائدا، بحيث إنّ القاضى شهاب الدين القرشىّ المذكور كان يقف على سور دمشق وينادى: إن قتال برقوق أوجب من صلاة الجمعة وكان يجمع عوامّ دمشق ويحرّضهم على قتاله ويرمى الملك الظاهر بعظائم فى دينه ويختلق عليه ما ليس هو فيه.
ثم أمر بهم الملك الظاهر فسجنوا وأسلم ابن شكر لشادّ الدواوين، فعصره والزمه بحمل ستة «1» آلاف دينار ثم أفرج عنه. ولما نزل الأمير أيتمش إلى داره بعث إليه السلطان بأشياء كثيرة من الخيل والجمال والقماش والمماليك، ثم قبض السلطان على أسندمر وإسماعيل التّركمانىّ وكزل القرمىّ وآقبغا البجاسىّ وسربغا وسلّمهم إلى والى القاهرة.

(12/20)


ثم قبض السلطان أيضا على أحد عشر أميرا وهم: قطلوبغا الطّشتمرىّ الحاجب وطقطاى الطّشتمرىّ الطواشى الرومىّ وآلابغا الطشتمرىّ وقرابغا السيفىّ وآقبغا السيفىّ وبيبغا السيفىّ وطيبغا السيفىّ ومحمد بن بيدمر أتابك دمشق وخير بك الخوارزمىّ ومنجك الزّينىّ وأرغون شاه السيفىّ وحبسهم ورسم بتسمير أسندمر الشّرفىّ رأس نوبة وآقبغا الظّريف البجاسىّ وإسماعيل التّركمانىّ وكزل القرمىّ وسربغا، فسمّروا وشهّروا بالقاهرة. ثم وسّطوا بالكوم «1» وهذا شىء لم يفعله ملك قبله بأمير، ففعل ذلك لما كان فى نفسه منهم.
ثم أحضر السلطان الأمير ألطنبغا الحلبىّ وألطنبغا أستادار جنتمر إلى مجلس قاضى القضاة شمس «2» الدين الرّكراكىّ المالكىّ وادّعى عليهما بما يقتضى القتل فسجنهما القاضى بخزانة شمائل «3» مقيّدين.
ثم قبض السلطان على الأمير سنجق الحسنىّ نائب طرابلس كان، ثم شكا رجل القاضى شهاب الدين القرشىّ إلى السلطان فأحضره السلطان من السجن وادّعى عليه غريمه بمال له فى قبله وبدعاوى شنيعة، فأمر به السلطان فضرب بالمقارع وسلّم إلى والى القاهرة ليخلّص منه مال المدّعى عليه، فضربه الوالى وأهانه وعصره مرارا ثم سجنه بخزانة شمائل.
ثم وقف شخص وادّعى أن أمير ملك ابن أخت جنتمر أخذ له ستمائة ألف درهم وأغرى به منطاش، حتّى ضربه بالمقارع، فأحضره السلطان حتّى سمع

(12/21)


الدّعوى. ثم أمر به فضرب بالمقارع ضربا مبرّحا وسلّمه إلى والى القاهرة، فمات بعد ثلاثة أيام تحت العقوبة.
ثم قبض السلطان على مماليك الأمير بركة الجوبانىّ والمماليك الذين خدموا عند منطاش وتتبّعوا من الأماكن، ثم ضرب والى القاهرة القاضى شهاب الدين أحمد القرشى نحو مائتى شيب «1» .
ثم قدم البريد من الشام بأن منطاشا فى أوّل شهر رجب قدم دمشق وكان من خبر منطاش أنّ الناصرىّ لمّا كان بدمشق ورد عليه الخبر بمجيء منطاش إليه فخرج من وقته بعساكره يريد لقاءه على حين غفلة ومرّ من طريق الزّبدانىّ «2» ، فبادر أحمد بن شكر بجماعة البيدمرية ودخل دمشق من باب كيسان «3» ونهب إسطبل الناصرىّ وإسطبلات أمراء دمشق وخرج يوم الأحد تاسع عشرين جمادى الآخرة من دمشق ليلحق منطاش، فدخل منطاش من صبيحة اليوم وهو يوم الاثنين أوّل رجب إلى دمشق من طريق آخر ونزل بالقصر «4» الأبلق ونزل جماعته حوله، فعاد ابن شكر فى إثره إلى دمشق وأحضر إليه الخيول التى أخذها وهى نحو ثمانمائة فرس

(12/22)


وكان منطاش لمّا خرج من عند نعير يريد دمشق، سار إلى مرعش «1» على العمق «2» حتى قدم على حماة فطرق نائبها بغتة فانهزم نائب حماة إلى نحو طرابلس من غير قتال، فدخل منطاش حماة ولم تحدث بها مظلمة.
ثم توجّه منها إلى حمص ففرّ منها أيضا نائبها إلى دمشق ومعه نائب بعلبك واجتمعا بالناصرىّ وعرّفاه الخبر، فخرج الناصرىّ على الفور- كما قدمنا ذكره- من طريق وجاء منطاش من طريق آخر. انتهى.
ثم إن منطاشا لما أقام بالقصر «3» الأبلق ندب أحمد بن شكر المذكور ليدخل إلى مدينة دمشق ويأخذ من أسواقها المال، فبينما هو فى ذلك إذ قدم الناصرى بعساكره فاقتتلا قتالا عظيما دام بينهم أياما إلى أواخر الشهر، وقتل كثير من الفريقين والأكثر ممن كان مع منطاش وفرّ عن منطاش معظم التركمان الذين قدموا معه شيئا بعد شىء، وصار منطاش محصورا بالقصر الأبلق والقتال عمّال بينهم فى كل يوم، حتى وجد منطاش له فرصة، ففرّ إلى جهة التركمان وتبعه عساكر دمشق فلم يدركه أحد، فعظم هذا الخبر على الملك الظاهر برقوق إلى الغاية واتّهم الناس الناصرىّ بالتراخى فى قتال منطاش.
ثم إن الملك الظاهر خلع على الأمير قطلوبغا الصوىّ باستقراره حاجب الحجّاب بديار مصر وعلى الأمير بتخاص باستقراره حاجب ميسرة وعلى الأمير قديد

(12/23)


باستقراره حاجبا ثالثا بإمرة طبلخاناه وعلى الأمير على باشاه باستقراره حاجبا رابعا وخلع على الأمير يلبغا الأشقر الأمير آخور باستقراره فى نيابة غزة عوضا عن آقبغا الصغير بحكم طلبه إلى القاهرة وعلى ناصر الدين محمد بن شهرى فى نيابة ملطية «1» ثم خلع السلطان على الأمير أرغون شاه الإبراهيمىّ الظاهرىّ الخازندار، باستقراره حاجب حجاب دمشق عوضا عن آلابغا العثمانىّ واستقر آلابغا العثمانى المذكور فى نيابة حماة.
قلت: وكلّ من نذكره من هذا الوقت وننعته بالظاهرىّ فهو منسوب إلى الملك الظاهر برقوق ولا حاجة للتعريف بعد ذلك. ثم أنعم السلطان على كلّ من قاسم ابن الأمير الكبير كمشبغا الحموىّ ولاجين الناصرىّ وسودون العثمانىّ النظامىّ وأرغون شاه الآقبغاوىّ وسودون من باشاه الطغاى تمرىّ وشكرباى العثمانى الظاهرىّ وقجق القرمشىّ «2» الظاهرىّ بإمرة طبلخاناه وعلى كل من قطلوبغا الطّقتمشىّ وعبد الله أمير زاه ابن ملك الكرج «3» وكزل الناصرىّ

(12/24)


وعلّان «1» اليحياوىّ الظاهرىّ وكمشبغا الإسماعيلىّ الظاهرىّ وقلمطاى العثمانىّ الظاهرىّ بإمرة عشرة.
ثم فى تاسع شهر رجب ضرب القاضى شهاب الدين القرشىّ قاضى قضاة دمشق بخزانة شمائل «2» ، حتى مات تحت العقوبة من ليلته وأخرج على وقف الطّرحى.
ثم فى خامس عشر رجب اجتمع القضاة والأمير بتخاص الحاجب بالمدرسة «3» الصالحية بين القصرين وأحضر الأمير ألطنبغا دوادار جنتمر وأوقف تحت الشّباك عند خيمة الغلمان على الطريق وادّعى عليه بما اقتضى إراقة دمه وشهد عليه وضربت رقبته، ثم فعل بالأمير ألطنبغا الحلبىّ مثله وحملت رءوسهما على رمحين ونودى عليهما بشوارع القاهرة.
ثم رسم السلطان فى أوّل شعبان بخروج تجريدة من الأمراء إلى الشام لتكون معاونة للناصرىّ على قتال منطاش، فأخذ من عيّن للسفر فى التجهيز، ثم أشيع سفر السلطان بنفسه وأخذ أرباب الدولة فى إصلاح أمر السفر.
ثم فى خامس شعبان قتل السلطان الأمير حسام الدين حسن بن باكيش نائب غزّة كان، وسببه أنّه لمّا عوقب واستمرّ محبوسا بخزانة شمائل جمع ولده كثيرا من العشير ونهب الرملة «4» وقتل كثيرا من الناس، فلما بلغ السلطان ذلك أمر بقتله فقتل

(12/25)


ثم ضرب السلطان الأمير حسام الدين حسين بن علىّ الكورانىّ فى سجنه بخزانة شمائل بالمقارع ضربا مبرّحا.
ثم فى عاشر شعبان علّق السلطان جاليش «1» السفر إلى بلاد الشام فتحقّق كلّ أحد عند ذلك بسفر السلطان وأصبح من الغد وهو يوم حادى عشر شعبان تسلّم الأمير علاء الدين علىّ بن الطّبلاوىّ والى القاهرة الأمير صراى تمر دوادار منطاش الذي كان والى الغيبة بديار مصر وكان سكن بباب «2» السلسلة والأمير تكا الأشرفىّ ودمرداش القشتمرىّ ودمرداش اليوسفى وعليّا الجركتمرىّ، فقتلوا جميعا إلّا عليّا الجركتمرىّ فإنّه عصر وعوقب، ثم قتل بعد ذلك مع الأمير قطلوبغا النظامىّ نائب صفد.
ثم فى ثانى عشره عرض السلطان المحابيس من المنطاشية فأفرد [منهم «3» ] جماعة كبيرة للقتل فقتلوا فى ليلة الأحد ثالث عشره، منهم الأمير جنتمر أخو طاز نائب الشام والأمير ألطنبغا الجربغاوىّ والطواشى طقطاى الطّشتمرىّ الرومىّ والقاضى فتح الدين محمد بن الشهيد كاتب سر دمشق، ضربت أعناقهم بالصحراء.
ثم خلع السلطان فى يوم خامس عشر شعبان على القاضى جمال الدين محمود القيصرىّ العجمىّ وأعيد إلى قضاء القضاة الحنفية بالديار المصرية وصرف قاضى القضاة مجد الدين إسماعيل ونزل فى موكب جليل وكتب له فى توقيعه الجناب العالى،

(12/26)


كما كتب للقاضى عماد الدين أحمد الكركىّ وكان سبب كتابة ذلك لعماد الدين إيادى سلفت له على الملك الظاهر برقوق فى أيام حبسه فى الكرك وأيضا اعتنى به أخوه القاضى علاء الدين على الكركىّ كاتب السر الشريف وهو أوّل من كتب له: الجناب العالى من المتعمّمين وما كان يكتب ذلك إلا للوزير بديار مصر فقط وكان يكتب للقضاة بالمجلس العالى.
ثم فى ثامن عشر شعبان المذكور قبض السلطان على عدّة من الأمراء فسجنوا بالقلعة، فكان ذلك آخر العهد بهم.
وفيه عيّن السلطان لنيابة الغيبة الأمير كمشبغا الحموىّ اليلبغاوىّ ورسم للأمير سودون الفخرىّ الشيخونىّ النائب أن يتحوّل إلى قلعة الجبل، فتحوّل إليها هو والأمير بجاس النّوروزىّ ورسم السلطان بأن يقيم بالقلعة أيضا ستمائة مملوك وأميرهم تغرى بردى اليشبغاوى الظاهرىّ رأس نوبة، أعنى: (الوالد) والأمير الطواشى صواب السعدىّ شنكل مقدّم المماليك السلطانية وتعيّن للإقامة بالقاهرة من الأمراء الأمير قطلوبغا الصّفوى حاجب الحجّاب والأمير بتخاص السّودونىّ الحاجب الثانى والأمير قديد القلمطاوىّ الحاجب الثالث وأحد أمراء الطبلخاناه والأمير طغاى تمر باشاه الحاجب وقرابغا الحاجب فى عدة من الأمراء العشرات.
ورسم للشيخ سراج الدين عمر البلقينىّ وقاضى القضاة بدر الدين بن أبى البقاء وهو غير قاض والقاضى بدر الدين محمد بن فضل الله [العمرى «1» ] المعزول عن كتابة السرّ وقضاة العسكر ومفتى دار العدل بالسفر صحبة السلطان من جملة القضاة الأربعة فتجهّزوا لذلك.

(12/27)


ونزل السلطان بعد صلاة الظهر فى يوم الثلاثاء ثانى عشرين شعبان المذكور من قلعة «1» الجبل وتوجّه حتى نزل بالرّيدانية خارج القاهرة وأقام به، ثم طلب من الغد سائر المسجونين بخزانة شمائل إلى الريدانية، فحضروا وعرضوا على السلطان، فأفرد منهم سبعة وثلاثين رجلا، فأمر بثلاثة منهم فغرّقوا فى النيل: وهم محمد بن الحسام أستادار أرغون أسكى وأحمد بن النقوعىّ ومقبل الصّفوى وسمّر منهم سبعة وهم: شيخ الكريمى وأسندمر نائب قلعة الجبل وثلاثة من أمراء الشام واثنان من التّركمان «2» ، ثمّ وسّطوا، ثمّ قتل من بقى منهم فى السجن.
ثمّ فى رابع عشر منه استقر ناصر الدين محمد بن كلبك «3» شاد الدواوين، وأنعم على الأمير أبى بكر بن سنقر الجمالى بإمرة طبلخاناه ورسم له بإمرة الحاج.
ثم رحل السلطان الملك الظاهر بعساكره من الريدانية فى سادس عشرين شعبان سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة وبعد سفر السلطان من الرّيدانيّة قتل والى القاهرة اثنى عشر أميرا من الأمراء المسجونين بالقاهرة فى ليلة الثلاثاء، وهم:
أرغون شاه السّيفى وآلابغا الطشتمرىّ وآقبغا السيفى وبزلار الخليلىّ وآخرون.

(12/28)


ثمّ فى ليلة الأربعاء سلخه قتل الأمير صنجق الحسنى «1» نائب حماة، ثمّ طرابلس وقرابغا السيفىّ ومنصور حاجب غزّة وأظنّ هؤلاء هم تمام السبعة والثلاثين نفرا الذين عرضهم السلطان بالريدانية. والله أعلم.
ثمّ استقل السلطان بالمسير إلى نحو البلاد الشامية حتى دخل دمشق فى يوم الخميس ثانى عشرين شهر رمضان وقد زيّنت له دمشق وخرج الأمير يلبغا الناصرى نائب الشام إلى لقائه بمنزلة اللّجون «2» ، فكان لدخوله إلى دمشق يوم مشهود وحمل الناصرىّ على رأسه القبّة والطير وعند دخول السلطان إلى دمشق نادى فيها بالأمان لأهل دمشق، فإنهم كانوا قاموا مع منطاش قياما عظيما وأفحشوا فى أمر الملك الظاهر وقتاله.
ثم فى يوم ثالث عشرين شهر رمضان صلّى السلطان صلاة الجمعة بجامع «3» دمشق وعند ما فرغ السلطان من الصلاة نادى الجاويش فى الناس بالأمان، والماضى

(12/29)


لا يعاد، ونحن من اليوم تعارفنا، فضجّ الناس بالدعاء للسلطان وخرجوا من بيوتهم إلى معايشهم وحوانيتهم وأمنوا بعد أن كانوا فى وجل وخوف وهم مترقّبون ما يحلّ بهم منه، لما وقع منهم فى حقّه فى السنة الماضية لمّا حضر منطاش ومبالغتهم فى سبّه ولعنه واستمرارهم على قتاله.
وأمّا الأمير كمشبغا نائب الغيبة فإنه عمل النيابة على أعظم حرمة، حتى إنّه نادى فى تاسع عشرين شهر رمضان بمنع النساء فى يوم العيد إلى التّرب، ومن خرجت وسّطت هى والمكارى وألّا يركب أحد فى مركب للتفرّج وأشياء كثيرة من هذا النّموذج، فلم يجسر أحد على مخالفته.
ثم نادى ألّا تلبس امرأة قميصا واسع الأكمام ولا يزيد تفصيل القميص على أكثر من أربعة عشر ذراعا، وكان النساء بالغن فى سعة القمصان حتى كان يفصّل القميص الواحد من اثنين وسبعين ذراعا من القماش، فمشى ذلك وفصّلوا قمصانا سمّوها كمشبغاويّة. ورأيت أنا القمصان الكمشبغاويّة المذكورة، وكان أكمامها مثل أكمام قمصان العربان.
وأمّا السلطان الملك الظاهر برقوق فإنّه أقام بدمشق إلى ثانى شوّال وخرج منه يريد مدينة حلب، فسار بعساكره حتى وصلها فى ثانى عشرين شوّال، بعد أن أقام بمدينة حمص وحماة أيّاما كثيرة وأعاد السلطان القاضى بدر الدين محمد بن فضل الله إلى كتابة السّرّ لضعف القاضى علاء الدين الكركىّ وعندما دخل السلطان إلى حلب ورد عليه الخبر أن سالما الدّوكارىّ قبض على الأمير منطاش وأنّ صاحب ماردين «1»

(12/30)


قبض أيضا على جماعة من المنطاشية، فسّر السلطان بذلك وبعث بالأمير قرا الأحمدىّ نائب حلب فى عساكر حلب لإحضار منطاش من عند سالم الدّوكارىّ، فسار قرا دمرداش حتى وصل إلى سالم الدوكارىّ وأقام عنده أربعة أيام يطالبه بتسليم منطاش وهو يماطله، فحنق منه قرا دمرداش وركب بمن معه من العساكر ونهب بيوته وقتل عدّة من أصحابه وفرّ سالم بمنطاش إلى سنجار «1» ، وامتنع بها وفى عقب ذلك وصل الأمير يلبغا الناصرىّ نائب الشام إلى بيوت سالم الدّوكارىّ قرا دمرداش ما وقع منه فى حقّ سالم وأغلظ له فى القول وهم أن يضربه بالسيف، فدخل بعض الأمراء بينهما حتى سكّن ما به وكادت الفتنة أن تقوم بينهما ويعود الأمر على ما كان عليه أوّلا.
وأما الأمير الكبير إينال اليوسفىّ فإنّه وجّه السلطان إلى صاحب ماردين، فسار إلى رأس عين «2» وتسلّم منه الجماعة المقبوض عليهم من المنطاشية وعاد بهم إلى السلطان وكبيرهم الأمير قشتمر الأشرفىّ وبكتاب صاحب ماردين وهو يعتذر فيه ويعد بتحصيل غريم السلطان، فكتب له الجواب بالشكر والثناء.

(12/31)


وأما السلطان لمّا بلغه ما جرى بين يلبغا الناصرىّ نائب الشام وبين قرا دمرداش الأحمدىّ نائب حلب وعودهما من غير طائل، غلب على ظنه صحة ما نقل عن يلبغا الناصرىّ قبل تاريخه أنّ قصده مطاولة الأمر بين الملك الظاهر وبين منطاش وأن منطاش لم يحضر إلى دمشق فيما مضى إلّا بمكاتبته له بقدومه وأنه طاوله فى القتال، (أعنى: لمّا كان نزل منطاش بالقصر الأبلق «1» بميدان دمشق) ولو شاء الناصرىّ لكان أخذه فى أقلّ من ذلك وأنّ رسل الناصرىّ كانت ترد على منطاش فى كلّ ليلة بما يأمره به وأنّ سالما الدوكارىّ لم يدخل بمنطاش إلى سنجار إلّا بمكاتبته وقوى عند الملك الظاهر برقوق وتحرّكت عنده تلك الكمائن القديمة من خروجه عليه وخلعه من الملك وحبسه بالكرك وكلّ ما هو فيه إلى الآن من الشرور والفتن، فالناصرىّ هو السبب فيها وسكت حتى قدم الناصرىّ إلى حلب، فقبض عليه وعلى الأمير شهاب الدين أحمد بن المهمندار نائب حماة وعلى الأمير كشلى أمير آخور الناصرىّ

(12/32)


والشيخ حسن رأس نوبته وسجن الجميع بقلعة حلب، ثم قتلهم من ليلته بقلعة حلب.
وكان الناصرىّ من أجلّ الأمراء ومن أكابر مماليك الأتابك يلبغا العمرىّ، وقد تقدّم من أمره فى ترجمة الملك الظاهر برقوق الأولى وفى ترجمة الملك المنصور حاجىّ وما وقع له مع منطاش وغيره ما يغنى عن التعريف به هنا ثانيا.
قال قاضى القضاة بدر الدين محمود العينىّ الحنفىّ فى تاريخه «1» فى حق يلبغا الناصرىّ المذكور: وكان من ابتداء إنشائه من أيام الملك الناصر حسن إلى آخر عمره على فتنة وسوء رأى وتدبير وشؤم؛ حتى قيل: إنه ما كان مع قوم فى أمر من الأمور إلّا وقد حصل لهم العكس وشوهد ذلك منه، كان مع أستاذه يلبغا الخاصّكىّ العمرىّ فانكسر، ثم أسندمر الناصرىّ فغلب وانقهر، ثم مع الأشرف شعبان بن حسين فقتل، ثم مع الأمير بركة فخذل، انتهى كلام العينىّ.
قلت: نصرته على الملك الظاهر برقوق وأحده مملكة الديار المصريّة وحبسه للملك الظاهر برقوق بالكرك بكلّ ما قاله العينىّ، وقد فات العينىّ أيضا كسرة الناصرىّ من منطاش بباب السلسلة وحبس منطاش له، لأنّ قضيته مع منطاش كانت أعظم شاهد للعينىّ فيما رماه به من الشؤم. انتهى.
ثم عزل الملك الظاهر الأمير قرا دمرداش عن نيابة حلب، وأنعم عليه بتقدمة ألف بالديار المصريّة، عوضا عن الأمير بطا الطّولوتمرىّ الظاهرىّ الدوادار الكبير بحكم انتقال بطا إلى نيابة الشام عوضا عن الأمير الكبير يلبغا الناصرىّ المقدّم

(12/33)


ذكره، وخلع السلطان على بطا المذكور، وعلى جلبان الكمشبغاوى الظاهرىّ رأس نوبة النّوب المعروف بقرا سقل باستقراره فى نيابة حلب عوضا عن قرا دمرداش الأحمدىّ فى يوم واحد، وهما أوّل من ترقّى من مماليك الملك الظاهر إلى الرّتب وولى الأعمال الجليلة.
ثم خلع الملك الظاهر على الأمير فخر الدين إياس الجرجاوى باستقراره فى نيابة طرابلس، وأخلع على الأمير دمرداش المحمدىّ الظاهرى بنيابة حماة، وخلع على الأمير أبى يزيد بن مراد الخازن باستقراره دوادارا كبيرا عوضا عن بطا المنتقل إلى نيابة الشام، وأنعم عليه بإمرة طبلخاناه، لما لأبى يزيد المذكور على السلطان من الإيادي عند ما اختفى عنده فى محنة الناصرىّ ومنطاش.
ثم أنعم السلطان على الأمير تنبك اليحياوىّ الظاهرىّ بإقطاع جلبان قرا سقل المنتقل إلى نيابة حلب.
ثم خرج السلطان من حلب فى يوم الاثنين أوّل ذى الحجّة عائدا إلى دمشق فدخلها فى ثالث عشرين «1» ذى الحجّة، وقتل بها يوم دخوله الأمير آلابغا العثمانى الدوادار الكبير كان، والأمير سودون باق أحد مقدّمى الألوف أيضا، وسمّر ثلاثة عشر أميرا منهم الأمير أحمد بن بيدمر أتابك دمشق، وأحمد بن أمير علىّ الماردينىّ أحد مقدّمى الألوف بدمشق، ويلبغا العلائىّ، وقنق باى السّيفىّ، نائب ملطية، وكمشبغا السيفى نائب بعلبكّ، وغريب الخاصّكى أحد أمراء الطبلخاناه بمصر، وقرا بغا العمرى وجماعة أخر ووسّطوا الجميع، وأقام السلطان بدمشق، وأهلها على تخوّف عظيم منه إلى أن خرج منها فى العشر الأخير من ذى الحجّة سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة عائدا إلى الديار المصرية، فسار بعساكره حتى دخل مدينة غزّة فى يوم الجمعة ثالث محرّم

(12/34)


سنة أربع وتسعين وسبعمائة، فعند ذلك نودى بالقاهرة بالزّينة لقدومه، فزيّنت أعظم زينة إلى يوم ثالث عشر المحرّم، فقدم البريد من السلطان إلى مصر بالخروج إلى ملاقاته إلى بلبيس «1» ، فخرج الأمير كمشبغا الحموىّ نائب الغيبة، ومعه الأمير سودون الشيخونىّ النائب، وبقية الأمراء، وساروا حتى وافوا السلطان بمدينة بلبيس، فقبّلوا الأرض بين يديه وعادوا فى ركابه حتى نزل السلطان بالعكرشة «2» ، وأقام بها إلى ليلة الجمعة، ثم رحل فى صبيحة الجمعة سابع عشر المحرّم، فخرج من القاهرة سائر الطوائف إلى لقائه ومشوا فى خدمته، وقد اصطفّت الناس لرؤيته إلى أن طلع إلى القلعة يوم الجمعة المذكور فى موكب جليل إلى الغاية، وكان لطلوعه يوم مشهود.
ولمّا طلع إلى القلعة جلس بالقصر وخلع على الأمراء وأرباب الوظائف.
ثم قام ودخل إلى الدور السلطانية، فاستقبله المغانى والتهانى وفرشت الشّقق الحرير تحت أقدامه، ونثر على رأسه الذهب والفضّة، هذا! وقد تخلّق غالب أهل القلعة بالزّعفران.
فلم يمض بعد ذلك إلا أيام يسيرة، وقدم البريد من دمشق فى يوم خامس عشرينه بسيف الأمير بطا الطّولوتمرىّ الظاهرىّ نائب الشام، وبطا هذا! هو الذي خرج من سجن القلعة وملك باب السلسلة فى غيبة الملك الظاهر برقوق حسب ما ذكرناه فى وقته من هذا الكتاب، واتّهم الملك الظاهر فى موته، فخلع السلطان

(12/35)


فى يوم سابع عشرينه على الأمير سودون طرنطاى بنيابة دمشق، عوضا عن بطا المذكور.
ثمّ فى يوم الاثنين ثانى عشر صفر قبض السلطان على الأمير قرا دمرداش الأحمدىّ اليلبغاوىّ المعزول قبل تاريخه عن نيابة حلب وعلى الأمير ألطنبغا، المعلم نائب الإسكندرية وهو أيضا يلبغاوىّ، وسجنا بالبرج من القلعة، وقرا دمرداش هذا! هو الذي كان الملك الظاهر خلع عليه باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية، وأنعم عليه بثلاثين ألف دينار، فأخذها قرا دمرداش وخامر عليه وتوجّه إلى الناصرىّ ومنطاش فأسرّ له السلطان ذلك إلى يوم «1» قبض عليه، فذكرها للأمراء وقد ذكرنا ذلك كلّه مفصّلا فى ترجمة الملك الظاهر الأولى.
ثمّ فى خامس عشرين صفر أيضا مسك السلطان الأمير قردم الحسنىّ اليلبغاوىّ رأس نوبة النوب كان وأخرج بعد أيام على إمرة عشرة بغزّة، ثم خلع السلطان على الأمير قلمطاى العثمانىّ الظّاهرىّ باستقراره أمير جاندار بعد موت قطلوبغا القشتمرىّ وخلع على ناصر الدين محمد ابن الأمير محمود الأستادار بنيابة الإسكندرية عوضا عن ألطنبغا المعلّم المقبوض عليه.
ثمّ قدم البريد من دمشق بأنّ خمسة من المماليك أتوا إلى نائب قلعة دمشق مشاة، وشهروا سيوفهم وهجموا القلعة وملكوها وأغلقوا بابها وأخرجوا من بها من المنطاشيّة والناصريّة وهم نحو مائة رجل وقتلوا نائب القلعة ومن معه وأنّ حاجب حجّاب دمشق ركب بعسكر دمشق وقاتلهم ثلاثة أيام حتى أخذ القلعة منهم وقبض على الجميع إلا خمسة، فإنهم فرّوا فوسّط الحاجب الجميع.

(12/36)


ثمّ فى ثالث عشرين شهر ربيع الآخر رسم السلطان بقتل الأمير أيدكار العمرىّ حاجب الحجّاب كان والأمير قراكسك والأمير أرسلان اللّفّاف والأمير أرغون شاه.
ثمّ فى أوّل جمادى الأولى أحضرت إلى القاهرة من الإسكندريّة عدّة رءوس من الأمراء المسجونين بها وغيرهم.
وفى تاسع عشر شهر جمادى الأولى المذكور خلع السلطان على الأمير كمشبغا الحموىّ باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية بعد موت الأمير إينال اليوسفىّ اليلبغاوىّ، على أن كمشبغا كان يجلس فوق إينال المذكور.
ثمّ خلع السلطان على الأمير أيتمش البجاسىّ باستقراره رأس نوبة الأمراء وأطابكا وأنعم عليه بزيادة على إقطاعه حتى صار إقطاعه يضاهى إقطاع الأمير الكبير، لأن أيتمش المذكور كان ولى الأتابكيّة بديار مصر فى سلطنة الملك الظاهر الأولى إلى أن مسكه الناصرىّ وحبسه بقلعة دمشق وقد تقدّم ذلك.
وفى يوم الاثنين أوّل شهر رمضان خلع السلطان على الأمير كمشبغا الأشرفىّ الخاصكىّ أمير مجلس باستقراره فى نيابة دمشق بعد موت سودون طرنطاى.
قلت: هذا رابع نائب ولى دمشق فى أقل من سنة: الأوّل الناصرى، والثانى بطا، والثالث سودون طرنطاى، والرابع كمشبغا هذا، فلعمرى! هل هذه آجال متقاربة لديهم، أم كؤوس منايا تدور عليهم.
ثم قدم البريد على السلطان بقتال عسكر حلب لمنطاش وفرار منطاش وانهزامه أمامهم حتى عدّى الفرات.
ثم أنعم السلطان فى اليوم المذكور على الوالد بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية وأنعم بطبلخانات الوالد على الأمير قلمطاى العثمانىّ الظاهرىّ، وكان

(12/37)


الإقطاع المنعم به على الوالد عوضا عن كمشبغا الخاصّكى المنتقل إلى نيابة الشام وأنعم السلطان بإقطاع قلمطاى على الأمير شادى خجا الظاهرىّ والإقطاع إمرة عشرة.
ثمّ أمسك السلطان شيخ الشيوخ المعروف بالشيخ أصلم بن نظام الدين الأصبهانىّ صاحب الزاوية «1» على الجبل تجاه باب الوزير وسلّمه لشادّ الدواوين على حمل مائتى ألف درهم، وسببه أنّ السلطان لما اختلّ أمره فى حركة الناصرىّ ومنطاش وهمّ بالهرب طلب أصلم المذكور، وأعطاه خمسة آلاف دينار، وواعده أنه ينزل إليه ويحتفى عنده، فلم يف له أصلم بذلك، وأخذ الذهب وغيّب، فاختفى السلطان فى بيت أبى يزيد من غير ميعاد واعده.
وفى سابع عشرين شوّال استقرّ الأمير بكلمش العلائىّ الأمير آخور أمير سلاح، واستقر الأمير تنبك اليحياوىّ الظاهرىّ أمير آخور كبيرا عوضه.
وفى ثانى عشر ذى القعدة قتل الأمير قرا دمرداش الأحمدىّ اليلبغاوىّ نائب حلب كان، والأمير تغاى تمر نائب سيس فى عدة أمراء أخر.
وفى ثالث محرّم سنة خمس وتسعين وسبعمائة قدم البريد على السلطان من الشام بموت الأمير كمشبغا الخاصّكى الأشرفى نائب دمشق، فاستقر السلطان بالأمير تنبك الحسنىّ الظاهرىّ المعروف بتنم أتابك دمشق فى نيابتها عوضا عن كمشبغا المذكور.
قلت: الآن طاب خاطر السلطان الملك الظاهر برقوق بنيابة تنم المذكور فإنّ الشام صار الآن بيد مملوكه، كما نيابة حلب وحماة مع جلبان ودمرداش ولمّا

(12/38)


استقرّ تنم فى نيابة دمشق، رسم السلطان بنقل الأمير إياس الجرجاوىّ نائب طرابلس إلى أتابكيّة دمشق، عوضا عن تنم المذكور، ونقل الأمير دمرداش المحمدى الظاهرى من نيابة حماة إلى نيابة طرابلس عوضه، واستقر الأمير آقبغا الصغير فى نيابة حماة عوضا عن دمرداش المذكور.
وفى أثناء ذلك قدم البريد على السلطان. يخبر بأنّ منطاشا ونعيرا أمير العرب وابن بزدغان التّركمانىّ وابن إينال التركمانىّ صاروا فى عسكر كثيف وحضروا به إلى سلمية «1» فلقيهم محمد بن قارا أمير العرب على شيزر «2» بتراكمين الطاعة، فقاتلهم وقتل ابن بزدغان وابن إينال، وجرح منطاش وسقط عن فرسه، فلم يعرف لأنه كان حلق شاربه ورمى شعره حتى أدركه ابن نعير وأردفه خلفه وانهزم به، بعد أن قتل من الفريقين عالم كبير، وحملت رأس ابن بزدغان وابن إينال إلى دمشق، فعلّقتا على قلعتها، ففرح السلطان بذلك، وكتب لمحمد بن قارا بالشكر والثناء وأرسل إليه خلعة هائلة.

(12/39)


ثمّ بعد أيام يسيرة ورد الخبر بأن نعيرا والأمير منطاشا كبسا حماة فى عسكر كبير، فقاتلهم الأمير آقبغا الصغير نائب حماة فيما بين حماة وطرابلس وكسرهما، فلمّا بلغ الأمير جلبان الكمشبغاوى قراسقل نائب حلب ذلك ركب بعسكره وسار إلى أبيات نعير ونهبها «1» وأخذ ما قدر عليه من المال والخيل والجمال والأغنام والنساء والأطفال، وأضرم النيران فيما بقى عندهم.
ثمّ أكمن كميا. فلما سمع نعير بما وقع عليه رجع إلى نحو بيوته بجماعته، فخرج الكمين عليه وقتل من عربانه جماعة كبيرة وأسر مثلها، وقتل فى هذه الوقعة من عسكر «2» حلب نحو المائة فارس، وعدّة من الأمراء، فأعجب السلطان «3» ما فعله نائب حلب، وكتب إليه بالشكر والثناء، وأرسل إليه خلعة عظيمة وفرسا بسرج ذهب وكنبوش زركش.
ثم أخرج السلطان الأمير ألطنبغا المعلّم أمير سلاح كان، من السجن وأرسله إلى ثغر دمياط «4» بطالا، وأفرج السلطان أيضا عن الأمير قطلوبغا السيفى حاجب الحجاب كان فى أيام منطاش وأرسله إلى الثغر المذكور.
ثم فى رابع عشر جمادى الآخرة من سنة خمس وتسعين وسبعمائة قدم البريد بموت الأمير يلبغا الإشقتمرى نائب غزة «5» ، وفى تاسع عشرين جمادى المذكورة خلع

(12/40)


السلطان على الأمير قلمطاى العثمانىّ الظاهرىّ باستقراره دوادارا كبيرا بعد موت الأمير أبى يزيد بن مراد الخازن، وخلع السلطان على الأمير ألطنبغا العثمانى الظاهرى باستقراره فى نيابة غزة عوضا عن يلبغا الأقشتمرىّ.
قلت: أدركت أنا ألطنبغا العثمانى الظاهرىّ هذا فى نيابته على دمشق فى دولة الملك المؤيّد شيخ. انتهى.
وأنعم السلطان بإقطاع ألطنبغا العثمانىّ على الأمير تمراز الناصرىّ الظاهرىّ رأس نوبة، والإقطاع: إمرة طبلخاناه، وأنعم السلطان بإمرة تمراز المذكور على الأمير شرف الدين موسى بن قمارى أمير شكار، والإقطاع إمرة عشرة.
وفى يوم الاثنين ثالث شهر رمضان من سنة خمس وتسعين المذكورة قدم البريد من حلب بالقبض على الأمير منطاش، وكان من خبره، أن الأمير جلبان نائب حلب لم يزل فى مدّة ولايته على حلب يبذل جهده فى أمر منطاش، حتى وافقه الأمير نعير على ذلك بعد أمور صدرت بينهما، وكان منطاش فى طول هذه المدّة مقيما عند نعير، فبعث جلبان شادّ شراب خاناته السيفى كمشبغا فى خمسة عشر مملوكا إلى نعير، بعد أن التزم الأمير جلبان لنعير بإعادة إمرة العرب عليه، فسار كمشبغا المذكور حتى قارب أبيات نعير، فنزل فى موضع، وبعث يأمر نعيرا بالقبض على منطاش ويعلمه بحضوره، فندب نعير أحد عبيده إليه يستدعيه، فأحس منطاش بالشر وفطن بالقصد فهمّ بالفرار، فركب فرسه وأراد التوجه إلى حال سبيله، فقبض العبد على عنان فرسه فهم منطاش بضربه، فأدركه عبد آخر وأنزلاه عن فرسه وأخذا سيفه، فتكاثروا عليه، فلما تحقّق منطاش أنه أخذ ومسك أخذ سكينا كانت معه وضرب نفسه بها أربع ضربات أغشى عليه، وحمل وأتى به إلى عند كمشبغا المذكور ومعه فرسه وأربعة جمال، فتسلمه كمشبغا وسار به

(12/41)


إلى حلب، فدخلها فى أربعمائة فارس من عرب نعير، فكان لدخوله حلب يوم عظيم مشهود وحمل منطاش إلى قلعة حلب وسجن بها.
ثمّ كتب إلى السلطان بمسكه، فلما بلغ السلطان ذلك سرّ سرورا عظيما وأنعم على كمشبغا المذكور بخمسة آلاف درهم وخلع عليه فوقانيا «1» بطرز ذهب مزركش ورسم السلطان إلى سائر الأمراء أن يوافوه بالخلع ودقّت البشائر لهذا الخبر بالديار المصرية وزيّنت القاهرة من الغد زينة عظيمة.
ثمّ خلع السلطان على الأمير طولو من علىّ باشاه الظاهرىّ أحد أمراء العشرات وندبه للتوجّه إلى حلب على البريد لإحضار رأس منطاش، بعد أن يعذّبه بأنواع العذاب ليقرّ على أمواله، فسار طولو فى خامسه إلى حلب وأحضر منطاشا وعصره وأجرى عليه أنواع العذاب ليقرّ بالمال، فلم يعترف بشىء، فذبحه بعد عذاب شديد، قيل: إنه عذّب بأنواع العذاب والكسّارات والنار فى أطرافه، حتى لم يبق فيه عضو إلا وتكسّر وهو مصمم على أنه لا يملك شيئا، ثم قطع رأسه وحملت على رمح وطيف بها بمدينة حلب، ثمّ أخذها طولو وعاد يريد الديار المصرية، فصار كلما دخل إلى مدينة طاف بها على رمح وعمل بها كذلك فى سائر مدن الشام، حتى وصلت إلى الديار المصرية صحبة طولو المذكور فى يوم الجمعة حادى عشرين رمضان «2» ، فعلّقت على باب قلعة الجبل، ثمّ طيف بها القاهرة على رمح، ثمّ علقت على باب زويلة أياما، ثم سلمت إلى زوجته أم ولده، فدفنتها فى سادس عشرينه.
ثمّ ندب السلطان يلبغا السالمىّ الظاهرىّ إلى نعير بالخلع.

(12/42)


ثمّ فى سادس عشرينه قدم رسل الملك الظاهر مجد الدين عيسى صاحب ماردين على السلطان تخبر بأن تيمورلنك أخذ مدينة تبريز وأرسل يستدعيه «1» إلى عنده فاعتذر لمشاورة سلطان مصر، فلم يقبل منه تيمور ذلك وقال له: ليس لصاحب «2» مصر بملكك حكم وأرسل إليه خلعة «3» وسكة «4» ينقش بها الذهب والدنانير وقدم مع القاصد أيضا رسول صاحب بسطام «5» ، يذكر بأن تيمور قتل شاه منصور متملّك شيراز وبعث برأسه إلى بغداد وبعث بالخلع والسكة إلى السلطان أحمد بن أويس صاحب العراق، فلبس السلطان أحمد الخلعة وطاف بها فى شوارع بغداد وضرب باسمه السكة، وكان ذلك خديعة من تيمور، حتى ملك منه بغداد فى يوم السبت حادى عشرين شوّال من سنة خمس وتسعين المذكورة.
وكان سبب أخذ تيمور بغداد أن ابن أويس المذكور كان أسرف فى قتل أمرائه وبالغ فى ظلم رعيته وانهمك فى الفجور والفساد.
قلت فائدة: حكى بعض الحكماء أن الرجل إذا كان فيه خصلة من سبع خصال تمنعه السيادة على قومه ونظم السبعة بعضهم فقال: [الخفيف]
منع الناس أن يسود عليهم ... سبعة قاله ذوو التبيان
أحمق كاذب صغير فقير ... ظالم النفس ممسك الكفّ زان

(12/43)


ولما وقع من السلطان أحمد ذلك كاتب أهل بغداد تيمور بعد استيلائه على مدينة تبريز «1» يحثونه على المسير إلى بغداد، فتوجّه إليها بعساكرها حتى بلغ الدّربند «2» وهو من بغداد مسيرة يومين، فبعث إليه أحمد بن أويس بالشيخ نور الدين الخراسانىّ فأكرمه تيمور وقال له: أنا أترك بغداد لأجلك ورحل يريد السلطانية، فبعث نور الدين كتبة بالبشارة إلى بغداد.
ثم قدم فى إثرها فاطمأن أهلها وكان تيمور قد سار يريد بغداد من طريق أخرى، فلم يشعر أحمد بن أويس وقد اطمأن إلا وتيمور نزل غربى بغداد قبل أن يصل الشيخ نور الدين فدهش عند ذلك ابن أويس وأمر بقطع الجسر ورحل من بغداد بأمواله وأولاده وقت السحر من ليلته وهى ليلة السبت المذكورة وترك بغداد فدخلها تيمور لنك وأرسل ابنه فى إثر ابن أويس فأدركه بالحلّة «3» ونهب ماله وسبى حريمه وأسر وقتل كثيرا من أصحابه، فنجا السلطان أحمد بن أويس بنفسه فى طائفة وهم عراة، فقصد حلب وتلاحق به من بقى من أصحابه.
ثم بعد ذلك قدم البريد على السلطان الملك الظاهر برقوق بأنّ ابن أويس المذكور نزل بالرحبة «4» فى نحو ثلاثمائة فارس وقدم كتاب ابن أويس وكتاب نعير،

(12/44)


فأجيب أحسن جواب وكتب بإكرامه والقيام بما يليق به، فلما وصل كتاب السلطان إلى نعير توجه إليه، وعندما عاين ابن أويس نزل عن فرسه وقبّل الأرض بين يديه وسار به إلى بيوته وأضافه.
ثم سيّره إلى حلب فقدمها ومعه أحمد بن شكر ونحو الألفى فارس فأنزله الأمير جلبان قرا سقل نائب حلب بالميدان وقام له بما يليق به وكتب مع البريد إلى السلطان بذلك وعلى يد القادم أيضا كتاب السلطان أحمد بن أويس يستأذن فى القدوم إلى مصر، فجمع السلطان الأمراء للمشورة فى أمر ابن أويس، فاتفقوا على إحضاره وأن يخرج إلى مجيئه الأمير عز الدين أزدمر ومعه نحو ثلاثمائة ألف درهم فضة وألف دينار برسم النفقة على ابن أويس فى طريقه إلى مصر وتوجه أزدمر المذكور فى سادس عشرينه وسار أزدمر إلى حلب وأحضر السلطان أحمد ابن أويس المذكور إلى نحو الديار المصرية، فلما قرب ابن أويس من ديار مصر أخرج السلطان عدّة من الأمراء إلى لقائه.
فلمّا كان يوم الثلاثاء سابع عشرين «1» شهر ربيع الأوّل من سنة ست وتسعين وسبعمائة، نزل السلطان الملك الظاهر من قلعة الجبل بأمرائه وعساكره إلى لقاء أحمد بن أويس وجلس بمسطبة مطعم «2» الطير من الرّيدانية خارج القاهرة إلى أن

(12/45)


قرب السلطان أحمد بن أويس ووقع بصره على المسطبة التى جلس عليها السلطان، فنزل عن فرسه ومشى عدّة خطوات، فتوجه إليه الأمير بتخاص حاجب الحجّاب بالديار المصرية ومن بعده الأمراء للسلام على ابن أويس، فتقدّم بتخاص المذكور وسلم عليه ووقف بإزائه وصار كلما تقدّم إليه أمير ليسلّم عليه يعرّفه بتخاص باسمه ووظيفته وهم يقبّلون يده واحدا بعد واحد، حتى أقبل الأمير أحمد بن يلبغا أمير مجلس فقال له: الأمير بتخاص هذا أمير مجلس وابن أستاذ السلطان، فعانقه ابن أويس ولم يدعه يقبّل يده.
ثمّ جاء بعده الأمير بكلمش العلاثىّ أمير سلاح فعانقه أيضا، ثمّ من بعده الأمير أيتمش البجاسىّ رأس نوبة الأمراء وأطابك فعانقه ثمّ من بعده الأمير سودون الفخرىّ الشيخونىّ نائب السلطنة فعانقه، ثمّ الأمير الكبير كمشبغا الحموىّ أتابك العساكر فعانقه وانقضى سلام «1» الأمراء، فقام عند ذلك السلطان ونزل من على المسطبة ومشى نحو العشرين خطوة، فلمّا رأى ابن أويس مشى السلطان له هرول حتى التقيا، فأومأ أحمد بن أويس ليقبّل يد السلطان فمنعه السلطان من ذلك وعانقه.
ثمّ بكيا ساعة ثم مشيا إلى نحو المسطبة والسلطان يطيّب خاطره ويعده بكل جميل وبالعود إلى ملكه ويده فى يده حتى طلعا على المسطبة وجلسا معا على البساط من غير أن يقعد السلطان على مرتبته وتحادثا طويلا، ثمّ طلب السلطان له خلعة فقدّم قبا حرير بنفسجىّ بفرو وقاقم بطرز زركش هائلة، فألبسه الخلعة المذكورة وقدّم له فرسا من خاصّ مراكيب السلطان بسرج ذهب وكنبوش زركش وسلسلة ذهب فركبه ابن أويس من حيث يركب السلطان، ثمّ ركب السلطان بعده وسارا

(12/46)


يتحادثان والأمراء والعساكر سائرة على منازلهم ميمنة وميسرة، حتى قربا من القلعة، هذا والناس قد خرجت إلى قريب الرّيدانية «1» وامتلأت الصحراء منهم للفرجة على موكب «2» السلطان، حتى أدهش كثرتهم السلطان أحمد بن أويس، فكان هذا اليوم من الأيام المشهودة، ولما وصلا إلى قريب القلعة «3» وأخذت العساكر تترجّل عن خيولهم على العادة، صار ابن أويس مواكبا للسلطان حتى بلغا تحت الطبلخاناه من قلعة الجبل، فأومأ إليه السلطان بالتوجه إلى المنزل الذي أعدّ له على بركة «4» الفيل، وقد جدّدت عمارته وزخرفت بالفرش والآلات والأوانى، فسلّم ابن أويس على السلطان، وسار إليه وجميع الأمراء فى خدمته، وطلع السلطان إلى القلعة.
فلما دخل ابن أويس إلى المنزل المذكور ومعه الأمراء، مدّ الأمير جمال الدين محمود الأستادار بين يديه سماطا جليلا إلى الغاية فى الحسن والكثرة، فأكل السلطان أحمد وأكل الأمراء معه، ثم انصرفوا إلى منازلهم، وفى اليوم جهّز السلطان إليه مائتى ألف درهم فضة، ومائتى قطعة قماش سكندرىّ، وثلاثة أفراس بقماش ذهب وعشرين مملوكا وعشرين جارية، فلما كان الليل «5» قدم حريم ابن أويس وثقله.
ثمّ فى يوم الخميس عمل السلطان الخدمة بدار «6» العدل المعروفة بالإيوان «7» ، وطلع القان أحمد بن أويس المذكور، وعبر من باب الجسر الذي يقال له باب السرّ «8» وجلس

(12/47)


تجاه الإيوان حتى خرج إليه رأس نوبة ومضى به إلى القصر، فأخذه السلطان، وخرج به إلى الإيوان، وأقعده رأس الميمنة فوق الأمير كمشبغا الحموىّ أتابك العساكر، فلما قام القضاة ومدّ السماط، قام الأمراء على العادة، فقام ابن أويس أيضا معهم ووقف، فأشار إليه السلطان بالجلوس فجلس، حتى فرغ الموكب، ولما انقضت خدمة الإيوان دخل مع السلطان إلى القصر وحضر خدمة القصر أيضا، ثمّ خرج الأمراء بين يديه، حتى ركب وقدّامه جاويشه ونقيب جيشه، فسار الأمراء فى خدمته إلى منزله.
ثمّ علّق السلطان جاليش السفر إلى البلاد الشامية على الطبلخاناه، فشرع الأمراء والمماليك وغيرهما فى تجهيز أحوالهم إلى السفر صحبة السلطان.
ثمّ فى حادى عشرين شهر ربيع الأوّل المذكور، ركب السلطان من القلعة ومعه السلطان أحمد بن أويس إلى مدينة «1» مصر وعدّى النيل إلى برّ الجيزة، ونزل بالخيام ليتصيّد، فأقام هناك ثلاثة أيام وعاد، وقد أذهل ابن أويس ما رأى من تجمّل المملكة وعظمتها من ندماء السلطان ومغانيه وترتيبه فى مجلس موكبه وأنسه ثم فى سلخه قدم البريد من حلب بتوجّه الأمير ألطنبغا الأشرفىّ نائب الرّها «2» كان، وهو يوم ذلك أتابك حلب «3» ، والأمير دقماق المحمدىّ نائب ملطية «4» بعسكريهما

(12/48)


وموافقتهما لطلائع تيمور لنك وهزيمتهما له، بعد أن قتلا من اللّنكيّة خلقا كثيرا، وأسرا أيضا جماعة كبيرة، وعاد إلى حلب بمائة رأس من التّمريّة.
وفى يوم الخميس ثالث شهر ربيع الآخر ابتدأ السلطان بنفقة المماليك، لكل مملوك مبلغ ألفى درهم وعدّتهم خمسة آلاف مملوك، فبلغت النفقة فى المماليك خاصة عشرة آلاف درهم فضة، سوى نفقة الأمراء وسوى ما حمل فى الخزائن وسوى ما تكلفه للقان أحمد بن أويس فيما مضى، وفيما يأتى ذكره.
وبينما السلطان فى ذلك قدم عليه كتاب تيمور يتضمن الإرداع والتخويف، ونصّه:
قل اللهم مالك الملك، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون. اعلموا أنا جند الله مخلوقون من سخطه، ومسلّطون على من حلّ عليه غضبه، لا نرقّ لشاك، ولا نرحم عبرة باك، قد نزع الله الرحمة من قلوبنا، فالويل ثم الويل لمن لم يكن من حزبنا ومن جهتنا! قد خرّبنا البلاد، وأيتمنا الأولاد، وأظهرنا فى الأرض الفساد، وذلّت لنا أعزّتها، وملكنا بالشوكة أزمّتها، فإن خيّل ذلك على السامع وأشكل، وقال: إن فيه عليه مشكلا، فقل: (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزّة أهلها أذلّة) ، وذلك لكثرة عددنا، وشدّة بأسنا، فخيولنا سوابق، ورماحنا خوارق، وأسنّتها بوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وجيوشنا كعدد الرمال، ونحن أبطال وأقيال، وملكنا لا يرام، وجارنا لا يضام، وعزّنا أبدا لسؤدد منقام، فمن سالمنا سلم، ومن

(12/49)


حاربنا ندم، ومن تكلّم فينا بما لا يعلم جهّل. وأنتم فإن أطعتم أمرنا وقبلتم شرطنا، فلكم مالنا وعليكم ما علينا، وإن خالفتم وعلى بغيكم تماديتم، فلا تلوموا إلا أنفسكم، فالحصون منّا مع تشييدها لا تمنع، والمدائن بشدّتها لقتالنا لا تردّ ولا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يستجاب فينا فلا يسمع، فكيف يسمع الله دعاءكم وقد أكلتم الحرام، وظلمتم «1» جميع الأنام، وأخذتم أموال الأيتام، وقبلتم الرشوة من الحكّام، وأعددتم لكم النار وبئس المصير: (إنّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون فى بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) فبما فعلتم ذلك أوردتم أنفسكم موارد المهالك، وقد قتلتم العلماء، وعصيتم رب الأرض والسماء، وأرقتم دم الأشراف، وهذا والله هو البغى والإسراف، فأنتم بذلك فى النار خالدون، وفى غد ينادى عليكم:
فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ
، فأبشروا بالمذلّة والهوان، يا أهل البغى والعدوان، وقد غلب عندكم أننا كفرة، وثبت عندنا والله أنكم الكفرة الفجرة، وقد سلطنا عليكم الإله، له أمور مقدّرة، وأحكام محرّرة، فعزيزكم عندنا ذليل، وكثيركم لدينا قليل، لأننا ملكنا الأرض شرقا وغربا، وأخذنا منكم كلّ سفينة غصبا، وقد أوضحنا لكم الخطاب، فأسرعوا بردّ الجواب، قبل أن ينكشف الغطاء، وتضرم الحرب نارها، وتضع أو زارها، وتصير كلّ عين عليكم باكية، وينادى منادى الفراق:
هل ترى لهم من باقية، ويسمعكم صارخ الفناء بعد أن يهزّكم هزا، هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً
، وقد أنصفناكم إذ راسلناكم، فلا تقتلوا المرسلين، كما فعلتم بالأوّلين، فتخالفوا كعادتكم سنن الماضين، وتعصوا رب العالمين، وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ
، وقد أوضحنا لكم الكلام، فأرسلوا بردّ الجواب والسلام

(12/50)


فكتب جوابه بعد البسملة الشريفة: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ
، وحصل الوقوف على ألفاظكم الكفريّة، ونزغاتكم الشيطانية، وكتابكم يخبرنا عن الحضرة الخانيّة، وسيرة الكفرة الملائكية، وأنكم مخلوقون من سخط الله ومسلطون على من حلّ عليه غضب الله، وأنكم لا ترقّون لشاك، ولا ترحمون عبرة باك، وقد نزع الله الرحمة من قلوبكم، فذاك أكبر عيوبكم، وهذه من صفات الشياطين، لا من شيم السلاطين، وتكفيكم هذه الشهادة الكافية، وبما وصفتم به أنفسكم ناهية، قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ
ففى كل كتاب لعنتم، وعلى لسان كلّ مرسل نعتم، وبكل قبيح وصفتم، وعندنا خبركم من حين خرجتم، أنكم كفرة، ألا لعنة الله على الكافرين، من تمسّك بالأصول فلا يبالى بالفروع، نحن المؤمنون حقّا، لا يدخل علينا عيب، ولا يضرنا ريب، القرآن علينا نزل، وهو سبحانه رحيم لم يزل، فتحققنا نزوله، وعلمنا ببركته تأويله، فالنار لكم خلقت، ولجلودكم أضرمت، إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ
، ومن أعجب العجب تهديد الرتوت «1» بالتوت والسباع بالضباع والكماة بالكراع، نحن خيولنا برقيّة، وسهامنا عربية، وسيوفنا يمانية، ولبوسنا مصرية، وأكفّنا شديدة المضارب، وصفتنا مذكورة فى المشارق والمغارب، إن قتلنا كم فنعم البضاعة، وإن قتل منا أحد فبينه وبين الجنة ساعة، وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ

(12/51)


الْمُؤْمِنِينَ
. وأمّا قولكم: قلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، فالقصّاب لا يبالى بكثرة الغنم، وكثير الحطب يغنيه الضّرم كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ
الفارّ الفارّ من الزوايا، وطول البلايا، واعلموا أنّ هجوم المنيّة، عندنا غاية الأمنية، إن عشنا عشنا سعداء، وإن قتلنا قتلنا شهداء ألا إن حزب الله هم الغالبون أبعد أمير المؤمنين، وخليفة رب العالمين، تطلبون منا طاعة، لا سمع لكم ولا طاعة، وطلبتم أن نوصّح لكم أمرنا، قبل أن ينكشف الغطاء، ففى نظمه تركيك، وفى سلكه تلبيك، لو كشف الغطاء لبان القصد بعد بيان، أكفرتم بعد إيمان، أم اتخذتم إلها «1» ثان، وطلبتم من معلوم رأيكم، أن نتبع دينكم، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا
قل: لكاتبك الذي وضع رسالته، ووصف مقالته، وصل كتابك كضرب رباب، أو كطنين ذباب، كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا، وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ
إن شاء الله تعالى لقد لبكتم «2» ، فى الذي أرسلتم، والسلام. انتهى.
فعرض هذا الجواب على السلطان ثمّ ختم وأرسل إليه.
ثم فى سادس شهر ربيع الآخر المذكور عرض السلطان أجناد الحلقة الذين عيّنوا للسفر وعيّن منهم أربعمائة فارس للسفر صحبة السلطان وترك الباقى بالديار المصرية.
ثمّ فى سابعه خرجت مدوّرة السلطان من القاهرة ونصبت بالريدانية «3» خارج القاهرة.
ثمّ فى يوم الأربعاء تاسعه عقد السلطان عقده على الخاتون تندى بنت حسين ابن أويس وكانت قدمت مع عمها السلطان أحمد بن أويس، ومبلغ الصداق ثلاثة

(12/52)


آلاف دينار وكان صرف الدينار إذ ذاك ستة وعشرين درهما ونصف درهم، وبنى عليها ليلة الخميس عاشره وهو يوم سفره إلى الشام.
وأصبح من الغد فى يوم الخميس المذكور نزل السلطان من قلعة الجبل إلى الإسطبل «1» السلطانىّ، ثمّ خرج من باب «2» السلسلة إلى الرميلة «3» وقد وقف القان أحمد ابن أويس وجميع الأمراء وسائر العسكر ملبسين آلة الحرب ومعهم أطلابهم، فسار السلطان وعليه قرقل «4» بلا أكمام وعلى رأسه كلفتة «5» وتحته فرس بعرقيّة من صوف سميك إلى باب القرافة والعساكر قد ملأت الرّميلة فرتّب هو بنفسه أطلاب الأمراء ومرّ فى صفوفها ذهابا وإيابا غير مرّة، حتى رتّبها أحسن ترتيب وصاحبها ينظر وأخذ يخالف فى تعبئة الأطلاب، كلّ تعبئة بخلاف الذي يتقدّمها، حفظت أنا غالبها عن الأستاذ الأتابك آقبغا التمرازىّ عن أستاذه تمراز الناصرىّ النائب ولولا الإطالة والخروج عن المقصود لرسمتها هنا بالنقط. انتهى.
فلمّا فرغ السلطان الملك الظاهر برقوق من تعبئة أطلاب أمرائه أخذ فى ترتيب طلب نفسه وجعله أمام أطلاب الأمراء كالجاليش لكثرة من كان به

(12/53)


وعبّأه قلبا وجناح يمين وجناح شمال ورديفا وكمينا وأمر الكوسات والطبول فدقّت حربيّا.
ثمّ ترك جميع الأطلاب ومضى فى خواصّه إلى قبة «1» الإمام الشافعىّ [رضى الله عنه] وزاره وتصدّق على الفقراء بمال كثير خارج عن الحدّ، ثم سار إلى المشهد «2» النفيسىّ وزاره وتصدّق به أيضا، وفى طول طريقه بجملة مستكثرة، ثمّ عاد إلى الرّميلة وأشار إلى طلب السلطان فسار إلى نحو الرّيدانيّة فى أعظم قوّة وأبهج زىّ وأفخر هيئة وأحسن ملبس، جرّ فيه من خواصّ الخيل مائتا جنيب ملبسة آلة الحرب التى عظمت من الآلات المذهبة والمفضّضة والمزركشة على اختلاف أنواعها وصفاتها التى تحيّر العقول عند رؤيتها.
ثمّ أشار لأطلاب الأمراء فسارت أيضا بأعظم هيئة وقد تفاخر الأمراء أيضا فى أطلابهم وخرج كل طلب أحسن من الآخر حتى حاذوا القلعة

(12/54)


فوقفوا يمينا ويسارا حتى سار السلطان فى موكبه فى غاية العظمة والأبّهة وإلى جانبه القان أحمد بن أويس على فرس بقماش ذهب وبجانب ابن أويس الأمير الكبير كمشبغا الحموىّ ثم الأمراء ميمنة وميسرة، كلّ واحد فى رتبته حتى انقضى ممرّ السلطان وأمامه العساكر وخلفه، ثمّ سارت أطلاب الأمراء تريد الريدانية شيئا بعد شىء وسار السلطان حتى نزل بمخيّمه بالريدانيّة وأقام بها أياما.
ثم فى رابع عشره خلع على القاضى بدر الدين محمد بن أبى البقاء باستقراره قاضى قضاة الشافعية بديار مصر، بعد عزل القاضى صدر الدين المناوىّ ودخل من الرّيدانية إلى القاهرة ومعه تغرى بردى من يشبغا رأس نوبة النّوب (أعنى الوالد) والأمير قلمطاى من عثمان الدوادار الكبير وآقبغا اللكّاش رأس نوبة ثان وجماعة أخر.
ثم قدم على السلطان بالريدانية ولد الأمير نعير ومعه محضر أنّ أباه أخذ مدينة بغداد وخطب بها للسلطان الملك الظاهر برقوق، فخلع السلطان عليه ووعده بكل خير.
ثمّ كتب السلطان بإحضار الأمير ألطنبغا المعلّم من ثغر دمياط «1» .
ثمّ خلع السلطان على الأمير سودون النائب ليقيم بالقاهرة فى مدّة غيبة السلطان، وعلى الأمير بجاس ليقيم بالقلعة، وعلى الأمير محمود الأستادار، وعلى ولده وخلع على التاجر برهان الدين المحلّىّ، وعلى التاجر شهاب الدين أحمد بن مسلم، وعلى التاجر نور الدين على الخرّوبىّ لكون السلطان اقترض منهم مبلغ ألف ألف درهم.
ثمّ فى ثالث عشرينه رحل السلطان بعساكره وأمرائه من الريدانية، بعد أن أقام بها نحو ثلاثة عشر يوما، وفرّق من الجمال فى المماليك نحو أربعة آلاف جمل،

(12/55)


ومن الخيل ألفى فرس وخمسمائة فرس، وحمل معه أشياء كثيرة مما يحتاج السلطان إليه، منها خمسة قناطير من العاج والآبنوس برسم الشّطرنج الذي يلعب به السلطان، وسببه انه كان إذا لعب بشطرنج وفرغ من لعبه أخذه صاحب النّوبة وجدّد غيره، وأشياء كثيرة أخر من هذه المقولة.
ثمّ فى ثامن عشرينه أرسبل السلطان يطلب بدر الدين محمود الكلستانىّ، فأخذ محمود المذكور من خانقاة «1» شيخون فإنه كان من بعض صوفيتها وسار وهو خائف وجل، لأنه كان من ألزام ألطنبغا الجوبانىّ إلى أن وصل إلى السلطان.
وخبره أنّ السلطان كان ورد عليه كتاب من بعض الملوك بالعجمىّ، فلم يعرف القاضى بدر الدين محمد بن فضل الله كاتب السر يقرؤه، فطلب السلطان من يقرؤه، فنوّه بعض من حضر من الأمراء بذكر الكلستانىّ هذا، فطلب لذلك وحضر وقرأه فأعجب السلطان قراءته، فأمره بالسفر معه، فسافر صحبة السلطان وصار ينزل مع الأمير قلمطاى الدوادار كأنّه من بعض حواشيه فإنه كان فى غاية من الفقر إلى أن وصل إلى دمشق كما سنذكره.
وأما السلطان فإنه دخل دمشق فى عشرين جمادى الأولى وقام به إلى أن أخرج عسكرا إلى البلاد الحلبية فى سابع عشر شهر رجب، وعليهم الأمير الكبير كمشبغا الحموىّ والأمير بكلمش أمير سلاح والأمير أحمد بن يلبغا أمير مجلس وبيبرس ابن أخت السلطان الملك الظاهر برقوق، ونائب صفد «2» ونائب غزّة، كل ذلك والسلطان مقيم بدمشق فى انتظار قدوم تيمور لنك.
ثم أمر السلطان للقان غياث الدين أحمد بن أويس بالتوجه إلى محل مملكته ببغداد، فخرج من دمشق فى يوم الاثنين أوّل شعبان من سنة ست وتسعين

(12/56)


المذكورة، بعد ما قام له السلطان بجميع ما يحتاج إليه، وعند وداعه خلع عليه الملك الظاهر خلعة أطلسين متمّرا وقلّده بسيف مسقّط بذهب، وكتب له تقليدا بسلطنة بغداد، وناوله إيّاه، فأراد أحمد بن أويس أن يقبّل الأرض فلم يمكّنه السلطان من ذلك، إجلالا له وتعظيما فى حقه، وقام له وعانقه ووادعه، ثمّ افترقا، وكان ما أنعم به السلطان الملك الظاهر على القان غياث الدين أحمد بن أويس عند سفره خاصّة من النقد خمسمائة ألف درهم، سوى الخيل والجمال والسلاح والمماليك والقماش السكندرىّ وغير ذلك، واستمرّ ابن أويس بمخيّمه خارج دمشق إلى يوم ثالث عشر شعبان، فسافر إلى جهة بغداد بعد أن أظهر الملك الظاهر من علوّ همته ومكارمه وإنعامه لابن أويس المذكور ما أدهشه.
قلت: هكذا تكون الشّيم الملوكية، وإظهار الناموس، وبذل الأموال فى إقامة الحرمة، مع أن الملك الظاهر لم يخرج من الديار المصرية، حتّى تحمّل جملة كبيرة من الديون، فإنه من يوم حبس بالكرك «1» وملك الناصرىّ ومنطاش ديار مصر فرّقا جميع ما كان فى الخزائن السلطانية، وحضر الملك الظاهر من الكرك فلم يجد فى الخزائن ما قلّ ولا كثر وصار مهما حصّله أنفقه فى التجاريد والكلف، فلله درّه من ملك! على أنه كان غير مشكور فى قومه.
حدّثنى غير واحد من حواشى الأسياد أولاد السلاطين، قالوا: كنّا نقول من يوم تسلطن هذا المملوك: هذا الكعب الشؤم نشّفت القلعة من الرّزق وخربت الدنيا هذا، وكان الذي يصرف يوم ذلك على نزول السلطان إلى سرحة سرياقوس «2» بكلفة

(12/57)


ملوك زماننا هذا! من أوّل السنة إلى آخرها، فلعمرى! هل الأرزاق قلّت أم الهمة اضمحلّت! وما الشيء إلا كما كان وزيادة، غير أنّ قلّة العرفان تمنع السيادة. انتهى.
وفى يوم ثانى شعبان خلع السلطان على الشيخ بدر الدين محمود الكلستانى المقدّم ذكره باستقراره فى كتابة سرّ مصر، بعد موت القاضى بدر الدين محمد بن فضل الله، وكانت تولية الكلستانى هذه الوظيفة كتابة السرّ من غريب الاتفاق، كونه كان فقيرا مملقا خائفا من السلطان، وعند طلب السلطان له من خانقاه «1» شيخون لقراءة الكتاب الوارد عليه من العجم لم يخرج من الخانقاه حتى أوصى.
ثم إنّه بعد قراءة الكتاب سافر صحبة السلطان إلى دمشق واشتغل السلطان بما هو فيه عنه، فضاق عيشه إلى الغاية وبقى فى أعوز حال وبات ليلته يتفكّر فى عمل أبيات يمدح بها قاضى دمشق، لعلّه ينعم عليه بشىء يردّ به رمقه. فنظم قصيدة هائلة وكان بارعا فى فنون عديدة، وأصبح من الغد ليتوجه بالقصيدة إلى القاضى، فجاءه قاصد السلطان بولاية كتابة سرّ مصر فجاءته السعادة فجاة.
وكان من أمر السلطان أنه لمّا مات كاتب السرّ طلب من يوليه كتابة السرّ فذكر له جماعة وبذلوا له مالا، له صورة، فلم يلتفت السلطان إلى ذلك وأراد من يكون كفئا لهذه الوظيفة التى يكون متولّيها صاحب لسان وقلم فلم يجد غير الكلستانى المذكور، وكان أهلا لها، فطلبه وولّاه كتابة السرّ، فباشرها على أحمل وجه. انتهى.
ثمّ قدم على السلطان رسل طقتمش خان صاحب كرسى بلاد القفجاق «2» بأنه يكون عونا مع السلطان على تيمور لنك، فأجابه السلطان لذلك.

(12/58)


ثم قدمت رسل خوندكار يلدرم با يزيد بن عثمان متملّك بلاد الروم بأنّه جهز لنصرة السلطان مائتى ألف درهم، وأنّه ينتظر ما يرد عليه من جواب السلطان ليعتمده.
ثمّ قدم رسول القاضى برهان الدين أحمد صاحب سيواس «1» بأنّه فى طاعة السلطان ويترقّب ورود المراسيم السلطانية الشريفة عليه بالمسير إلى جهة يعيّنه السلطان إليها، عند قدوم تيمور، فكتب جواب الجميع بالشكر والثناء وبما اختاره السلطان.
ثمّ فى أوّل ذى القعدة خرج السلطان من دمشق يريد البلاد الحلبية وسار حتى دخلها فى العشر الأوسط من ذى القعدة.
وبعد دخوله حلب بأيام قليلة، عزل نائبها الأمير جلبان من كمشبغا الظاهرىّ المعروف بقراسقل، وخلع على الوالد باستقراره عوضه فى نيابة حلب، وأنعم على الأمير جلبان المذكور بإقطاع الوالد وإمرته، وهى إمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية، ولم يستقرّ به فى وظيفته، وكانت وظيفة الوالد قبل نيابة حلب رأس نوبة النّوب.
ثم أمسك السلطان الأمير دمرداش المحمدىّ نائب طرابلس وحبسه وخلع على الأمير أرغون شاه الإبراهيمى الظاهرىّ نائب صفد باستقراره عوضه فى نيابة طرابلس، وخلع على الأمير آقبغا الجمالى الظاهرى أتابك حلب باستقراره فى نيابة صفد «2» ، عوضا عن أرغون شاه الإبراهيمى، وخلع على الأمير دقماق المحمّدىّ الظاهرىّ باستقراره فى نيابة ملطية، وعلى الأمير كور مقبل باستقراره فى نيابة طرسوس «3» .

(12/59)


ثم قبض السلطان على عدّة أمراء من أمراء حلب: منهم الأمير ألطنبغا الأشرفى، والأمير تمرباى الأشرفى، وقطلوشاه الماردينى، وحبس الجميع بقلعة حلب وانفضّ الموكب، والوالد واقف لم يتوجه، فقال له السلطان: لم لا تتوجه! فقال:
يا مولانا السلطان! أستحى أنزل من الناس يمسك أخى دمرداش نائب طرابلس «1» وأتولّى أنا نيابة حلب! وما يقبل السلطان شفاعتى فيه، فقال له السلطان: قبلت شفاعتك فيه، غير أنه يمكث فى السجن أيّاما، ثم أفرج عنه لأجلك، لئلا يقال:
يمسك السلطان نائب طرابلس ويطلقه من يومه! فيصير ذلك وهنا فى المملكة، فقال:- الوالد رحمه الله-: السلطان يتصرّف فى مماليكه كيف يشاء، ما علينا من قول القائل! ثم قبّل الأرض ويد السلطان، فتبسّم السلطان، وأمر بإطلاق دمرداش وحضوره، فحضر من وقته، فخلع عليه بأتابكية حلب عوضا عن آقبغا الجمالى المستقرّ فى نيابة صفد، ثم قال له السلطان: خذ أخاك وانزل، فكانت

(12/60)


هذه الواقعة أول عظمة نالت الوالد من أستاذه الملك الظاهر برقوق انتهى هذا الخبر.
والأخبار ترد على السلطان شيئا بعد شىء من بلاد الشمال بعود تيمور لنك إلى بلاده والسلطان لا يصدّق ذلك. ويتقحّم «1» على لقاء تيمور لنك، فلم يجسر تيمور على القدوم إلى البلاد الشامية مخافة من الملك الظاهر برقوق، وتوجّه إلى بلاده، فلما تحقّق السلطان عوده تأسّف على عدم لقائه، وخرج من حلب بعساكره فى سابع محرّم سنة سبع وتسعين وسبعمائة يريد دمشق، فوصلها ولم يقم بها إلا أياما قليلة لطول إقامته بها فى ذهابه، وخرج منها بعساكره فى سابع عشر المحرّم المذكور، يريد الديار المصرية، بعد أن خلع على الأمير بتخاص السودونىّ حاجب حجّاب الديار المصرية باستقراره فى نيابة الكرك، عوضا عن الأمير شهاب الدين أحمد ابن الشيخ علىّ، ونقل الشهابىّ المذكور إلى حجوبية دمشق الكبرى، عوضا عن الأمير تمربغا المنجكى بحكم قدوم تمربغا المنجكىّ إلى مصر صحبة السلطان، وسار السلطان إلى أن وصل مدينة قطيا «2» ، فأمسك مملوكه الأمير جلبان الكمشبغاوىّ قراسقل المعزول عن نيابة حلب وبعثه من قطيا فى البحر إلى ثغر دمياط، وسار السلطان من قطيا حتى وصل إلى ديار مصر فى ثامن عشر صفر، وطلع إلى القلعة من يومه، بعد أن احتفل

(12/61)


الناس لطلوعه، وزيّنت القاهرة أياما، غير أن الغلاء كان حصل قبل قدوم السلطان، فتزايد بعد حضوره لكثرة العساكر.
ومن يومئذ صفا الوقت للملك الظاهر، وصارت مماليكه نوّاب البلاد الشامية من أبواب الروم إلى مصر، وأخذ السلطان يكثر من الركوب والتوجّه إلى الصيد، وعمل له الأمير تمربغا المنچكى شرابا من زبيب، يسمى التمر بغاوى، وأقبل السلطان على الشرب منه مع الأمراء، ولم يكن يعرف منه السّكر قبل ذلك.
ثمّ أنعم السلطان على الأمير فارس من قطلوجا الظاهرى الأعرج بإمرة مائة وتقدمة ألف وولّاه حجوبية الحجاب عوضا عن بتخاص السودونى المستقر فى نيابة الكرك. وأنعم على الأمير نوروز الحافظى الظاهرى بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية، عوضا عن الوالد، وهو الإقطاع الذي كان أنعم به السلطان على جلبان نائب حلب.
ثم أنعم السلطان على الأمير أرغون شاه البيدمرى بإمرة مائة وتقدمة ألف، وأنعم السلطان أيضا على كل من تمربغا المنجكى، وصلاح الدين محمد بن محمد تنكز وصرغتمش المحمدى الظاهرى بإمرة طبلخاناه، وأنعم أيضا على كل من مقبل الرومى، وآقباى من حسين شاه الظاهرىّ، وآق بلاط الأحمدى، ومنكلى بغا الناصرى بإمرة عشرة.
ثم بعد أشهر خلع السلطان على الأمير نوروز الحافظى الظاهرى باستقراره رأس نوبة النوب، عوضا عن الوالد بحكم انتقاله إلى نيابة حلب، وكانت شاغرة من تلك الأيام.
ثم قبض السلطان على الأمير محمود بن على الأستادار المعروف بابن أصفر، عيّنه فى صفر سنة ثمان «1» وتسعين، وعلى ولده وعلى كاتبه، سعد الدين إبراهيم بن غراب

(12/62)


وخلع السلطان على قطلوبك العلائى أستادار الأمير أيتمش باستقراره فى الأستادارية، عوضا عن محمود المذكور، وأنعم السلطان عليه بإمرة عشرين، واستمرّ محمود على إمرته وهو مريض محتفظ به، وخلع السلطان أيضا على سعد الدين إبراهيم بن غراب كاتب محمود باستقراره ناظر ديوان المفرد وهذا أول ظهور ابن غراب فى الدولة الظاهرية، واستمال السلطان ابن غراب، فأخذ يدلّ على ذخائر أستاذه محمود، ومحمود فى المصادرة إلى أن أظهر شيئا كثيرا من المال.
ثم أنعم السلطان على جماعة من مماليكه بإمرة طبلخاناه وهم: طولو من على باشاه الظاهرى، ويلبغا الناصرىّ الظاهرىّ، وشاذى خجا الظاهرى العثمانى، وقينار العلائى، وأنعم أيضا على جماعة بإمرة عشرة وهم: طيبغا الحلبى الظاهرى، وسودون من علىّ باشاه الظاهرى المعروف بسودون طاز، ويعقوب شاه الخازندار الظاهرى ويشبك الشعبانى الخازندار وتمان تمر الإشقتمرىّ رأس نوبة الجمدارية.
ثم خلع السلطان على الأمير فارس الحاجب باستقراره فى نظر الشيخونية»
وخلع على الأمير تمربغا المنجكىّ حاجبا ثانيا بتقدمة ألف.
وفى هذه الأيام عظم الغلاء وفقد الخبز من الدكاكين.
وفى آخر ذى العقدة استقرّ سعد الدين إبراهيم بن غراب كاتب محمود فى وظيفة نظر الخاصّ بعد القبض على سعد الدين بن أبى الفرج بن تاج الدين موسى.

(12/63)


ثم رسم السلطان بإحضار الأمير محمود فحمل إلى بين يدى السلطان، وهو فى ألم عظيم من العصر والضرب والعقوبة، فانتصب إليه كاتبه سعد الدين إبراهيم بن غراب فى محاققته والفحش له فى الكلام، حتى امتلأ السلطان غضبا على محمود وأمر بعقوبته حتى يموت من عظم ما أغراه سعد الدين المذكور به.
ثم ورد الخبر بقدوم الأمير تنم الحسنىّ نائب الشام، وكان خرج بطلبه الأمير سودون طاز، وقدم من الغد فى يوم الاثنين ثالث صفر سنة تسع وتسعين وسبعمائة، بعد أن خرج السلطان إلى لقائه بالرّيدانيّة «1» ، وجلس له على مطعم «2» الطير، وبعث الأمراء والقضاة إليه فسلّموا عليه، ثم أتوا به، فقبّل الأرض، فخلع عليه خلعة باستمراره على نيابة دمشق.
ثم قدّم من الغد تقدمته، وكانت تقدمة جليلة، وهى عشرة كواهى «3» وعشرة مماليك صغار فى غاية الحسن، وعشرة آلاف دينار، وثلاثمائة ألف درهم فضة، ومصحف عليه قراءات وسيف مسقّط ذهب مرصّع، وعصابته منسبكة من ذهب مرصّع، بجوهر نفيس وبدلة فرس من ذهب، فيها أربعمائة مثقال ذهب، وكان أجرة صائغها ثلاثة آلاف درهم فضّة، ومائة وخمسين بقجة فيها أنواع الفرو، ومائة وخمسين

(12/64)


فرسا، وخمسين جملا، وخمسة وعشرين حملا من نصافى ونحوه، وثلاثين حملا فاكهة وحلوى، فخلع السلطان على أرباب «1» الوظائف.
ثم نزل السلطان بعد أيام إلى برّ «2» الجيزة، ومعه الأمير تنم وغيره، وتصيّد ببرّ الجيزة.
ثم عاد. وعمل السلطان الموكب بدار العدل فى يوم سابع عشر صفر من سنة تسع وتسعين المذكورة، وخلع على الأمير تنم خلعة الاستمرار ثانيا، وجرّت له من الإسطبل ثمانى جنائب بكنابيش وسروج ذهب، فتقدّم تنم، وشفع فى الأمير جلبان الكمشبغاوى المعزول عن نيابة حلب، فقبل السلطان شفاعته، وخرج البريد بطلبه من ثغردمياط «3» ، فقدم بعد أيام، وقبّل الأرض بين يدى السلطان، فأنعم عليه السلطان بإقطاع الأمير إياس الجرجاوى وخلع عليه بأتابكية دمشق عوضا «4» عن

(12/65)


إياس المذكور بحكم القبض عليه وحضوره إلى الديار المصرية، وبعث إليه ثمانية أفراس بقماش ذهب (أعنى عن جلبان) .
ثم أمر السلطان أن يسلّم الأمير إياس الجرجاوى إلى ابن الطبلاوى ليخلّص منه الأموال، فأحده ابن الطبلاوىّ فالتزم بحمل خمسمائة ألف درهم وبعث مملوكه لإحضار ماله وهو مريض، فمات إياس بعد يومين، واختلف الناس فى موته، فمنهم من قال: إنه كان معه خاتم فيه سمّ فشربه فمات منه قهرا مما فعله معه الملك الظاهر، ومنهم من قال: إنه مات من مرضه. والله أعلم بحاله.
ثم فى يوم الخميس رابع شهر ربيع الأول أمسك السلطان الوزير سعد الدين نصر الله بن البقرىّ وولده تاج الدين وسائر حواشيه، وخلع على بدر الدين محمد بن محمد بن الطّو؟؟؟ «1» واستقر عوضه فى الوزارة واستقر فى نظر الدولة سعد الدين ابن الهيصم.
ثم خلع السلطان على شرف الدين محمد بن الدّمامينى باستقراره فى وظيفة نظر الجيش بديار مصر بعد موت القاضى جمال الدين محمود القيصرى العجمىّ، نقل إليها من حسبة القاهرة.
ثم من الغد فى يوم الثلاثاء تاسع شهر ربيع الأول المذكور استقر القاضى شمس الدين محمد بن أبى بكر الطرابلسى قاضى قضاة الحنفية بالديار المصرية عوضا عن جمال الدين محمود القيصرى المقدّم ذكره.
ثم فى خامس عشرينه قدمت هدية ممهّد الدين إسماعيل ابن الملك الأفضل عباس بن المجاهد على بن داود بن يوسف بن عمر بن رسول ملك اليمن صحبة التاجر

(12/66)


برهان الدين إبراهيم المحلّى «1» والطواشى افتخار الدين فاخر، وهى عشرة خدّام طواشية وبعض عبيد حبوش وست جوار وسيف بحلية ذهب مرصّع بعقيق وحياصة بعواميد عقيق مكلّلة بلؤلؤ كبار ووجه فرس عقيق ومرآة هندية محلّاة بفضّة قد رصعت بعقيق وبراشم «2» برسم الخيول عشرة ورماح عدّة مائتين وشطرنج عقيق أبيض وأحمر وأربع مراوح مصفّحة بذهب ومسك ألف مثقال وسبعون أوقية زباد «3» ومائة مضرّب غالبة ومائتان وستة عشر رطلا من العود وثلاثمائة وأربعون رطلا من اللّبان وثلاثمائة وأربعة وستون رطلا من الصّندل «4» وأربعة برانى من الشّند «5» وسبعمائة رطل من الحرير الخام ومن البهار والاقطاع والصينى وغير ذلك من تحف اليمن؟؟؟ كثير.
ثم فى يوم الخميس ثانى جمادى الأولى نقل الأمير جمال الدين محمود الأستادار إلى خزانة شمائل «6» وهو مريض.
وفى سادس عشر جمادى الآخرة أنعم على الأمير بيسق الشّيخىّ بإمرة طبلخاناه.
ثم خلع السلطان على الأمير صرغتمش القزوينى باستقراره فى نيابة الإسكندرية بعد عزل الأمير قديد عنها ونفيه إلى القدس «7» بطّالا، وأنعم السلطان على الأمير شيخ

(12/67)


المحمودى الساقى الظاهرى (أعنى عن الملك المؤيّد) بإمرة طبلخاناه، عوضا عن صرغتمش القزوينى المتولى نيابة الإسكندرية وأنعم بإقطاع شيخ المحمودى وهو إمرة عشرة على الأمير طغنجى نائب البيرة «1» ، وأنعم السلطان أيضا على يشبك العثمانى الظاهرى بإقطاع الأمير صلاح الدين محمد بن محمد بن تنكز.
ثم فى سادس عشرينه استقرّ الأمير يلبغا الأحمدى الظاهرى المعروف بالمجنون أستادار السلطان، عوضا عن قطلوبك العلائى واستقرّ قطلوبك على إمرة عشرين «2» .
ثم فى يوم الاثنين ثامن محرم سنة ثمانمائة توجّه السلطان إلى سرحة سرياقوس «3» بعساكره وحريمه على العادة فى كل سنة، فأقام به أياما على ما يأتى ذكره.
وفى ثانى عشر المحرم المذكور خرج الأمير بكتمر جلّق الظاهرى على البريد إلى حلب لإحضار الوالد- رحمه الله وعفا عنه- بعد عزله عن نيابة حلب وكتب بانتقال الأمير أرغون شاه الإبراهيمى الظاهرى نائب طرابلس إلى نيابة حلب عوضا عن الوالد، وخرج الأمير يشبك العثمانى بتقليد أرغون شاه المذكور، ورسم بانتقال الأمير آقبغا الجمالى الظاهرىّ من نيابة صفد إلى نيابة طرابلس عوضا عن أرغون شاه المذكور، وتوجّه بتقليده الأمير أزدمر أخو إينال ومعه أيضا خلعة للأمير تنم الحسنى باستمراره فى نيابة الشام، ورسم بانتقال الأمير شهاب الدين أحمد ابن الشيخ على حاجب حجّاب دمشق إلى نيابة صفد عوضا

(12/68)


عن آقبغا الجمالى المذكور، وحمل إليه التقليد والتشريف الأمير يلبغا الناصرى الظاهرى رأس نوبة.
ثم قدم فى هذه الأيام جماعة من سوابق الحاجّ وأخبروا أنه هلك بالسبع «1» وعرات من شدّة الحر نحو ستمائة إنسان.
ثم عاد السلطان من سرحة سرياقوس فى خامس عشرينه ولم يخرج إليها بعد ذلك، ولا أحد من السلاطين وبطلت عوائدها وخرّبت تلك القصور، وكانت من أجمل عوائد الملوك وأحسنها، وكان النزول إلى سرياقوس يضاهى نزول السلطان إلى الميدان «2» فالميادين أبطلها الملك الظاهر وسرياقوس أبطله الملك الناصر، ثم صار كل ملك يأتى بعد ذلك يبطل نوعا من نراتيب مصر، حتى

(12/69)


ذهب الآن جميع شعار الملوك السالفة وصار الفرق بين سلطنة مصر ونيابة الأبلستين «1» اسم السلطنة ولبس الكلفتاة فى المواكب لا غير.
قلت: والفرق بين براعة الاستهلال وبين براعة المقطع واضح.
ثم فى يوم الاثنين تاسع عشرين المحرّم من سنة ثمانمائة المذكورة قبض السلطان فى وقت الخدمة بالقصر على الأمير الكبير كمشبغا الحموىّ أتابك العساكر بالديار المصرية وعلى الأمير بكلمش العلائىّ أمير سلاح، وقيّدا وحبسا بقلعة الجبل، يأتى ذكر السبب على قبضهما فى الوفيات، وفى هذه الترجمة- إن شاء الله تعالى-.
ثم نزل فى الحال الأمير قلمطاى الدوادار، والأمير نوروز الحافظىّ رأس نوبة النّوب، والأمير فارس حاجب الحجّاب إلى الأمير شيخ الصّفوى أمير مجلس ومعهم خلعة له بنيابة غزّة، فلبسها شيخ المذكور وخرج من وقته ونزل بخانقاه «2» سرياقوس.

(12/70)


ثم فى ليلة الثلاثاء سلخه توجّه الأمير سودون الطيّار الظاهرى بالأتابك كمشبغا وبكلمش فى الحديد إلى سجن الإسكندرية فسجنا بها، وفى الغد استعفى الأمير شيخ الصّفوىّ من نيابة غزّة وسأل الإقامة بالقدس «1» فرسم له بذلك.
وفى يوم الخميس ثانى صفر استقرّ الأمير أيتمش البجاسىّ أتابك العساكر بالديار المصرية عوضا عن كمشبغا الحموى وأنعم السلطان على أيتمش المذكور وعلى قلمطاى الدوادار، وعلى الأمير تنبك اليحياوى الأمير آخور بعدّة بلاد من إقطاع كمشبغا المذكور زيادة على ما بأيديهم وأنعم ببقيّة إقطاع كمشبغا على الأمير سودون المعروف بسيّدى سودون ابن أخت الملك الظاهر وجعله من جملة أمراء الألوف بالديار المصرية وأنعم بإقطاع سيّدى سودون المذكور على ولد السلطان الأمير عبد العزيز ابن الملك الظاهر برقوق.

(12/71)


ثمّ أنعم السلطان بإقطاع بكلمش العلائى على الأمير نوروز الحافظىّ رأس نوبة النّوب.
وأنعم بإقطاع نوروز المذكور على الأمير أرغون شاه البيدمرىّ الظاهرى وأنعم بإقطاع أرغون شاه على الأمير يلبغا المجنون الأستادار والجميع تقادم ألوف لكنّ التفاوت بينهم فى زيادة المغلّ والخراج.
ثم عيّن السلطان الأمير شيخ الصفوىّ أمير مجلس للوالد قبل قدومه إلى القاهرة من نيابة حلب.
ثم فى رابعه استقر الأمير باى خجا الشّرفى الأمير آخور المعروف بطيفور فى نيابة غزة.
ثم فى تاسع صفر استقر الأمير بيبرس ابن أخت السلطان أمير مجلس عوضا عن شيخ الصفوى المقدّم ذكره.
ثم فى سابع عشرين «1» صفر أنعم السلطان على الأمير بهادر فطيس بإمرة طبلخاناه، عوضا عن طيفور بحكم انتقاله إلى نيابة غزّة، واستقر عوضه أيضا فى الأمير آخورية الثانية وأنعم بإقطاع بهادر فطيس المذكور، وهو إمرة عشرة على يلبغا السالمىّ الظاهرى.
وفى ليلة الجمعة ثانى شهر ربيع الأول عمل السلطان المولد «2» النبوىّ على العادة فى كلّ سنة.

(12/72)


قلت: نذكر صفة ما كان يعمل بالمولد قديما ليقتدى به من أراد تجديده فلمّا كان يوم الخميس المذكور، جلس السلطان بمخيّمه بالحوش «1» السلطانى، وحضر القضاة والأمراء ومشايخ العلم والفقراء، فجلس الشيخ سراج الدين عمر البلقينى عن يمين السلطان، وتحته الشيخ برهان الدين إبراهيم بن زقّاعة، وجلس على يسار السلطان الشيخ المعتقد أبو عبد الله المغربى، ثم جلس القضاة يمينا وشمالا على مراتبهم، ثم حضر الأمراء فجلسوا على بعد من السلطان، والعساكر ميمنة وميسرة فقرأت الفقهاء، فلمّا فرغ القرّاء وكانوا عدّة جوق كثيرة، قام الوعاظ واحدا بعد واحد، وهو يدفع لكل منهم صرّة فيها أربعمائة درهم فضة، ومن كلّ أمير شقّة حرير خاصّ وعدّتهم عشرون واحدا.
وأنعم أيضا على القرّاء لكل جوقة بخمسمائة درهم فضة وكانوا أكثر من الوعّاظ، ثم مدّ سماط جليل يكون مقداره قدر عشرة أسمطة من الأسمطة الهائلة، فيه من الأطعمة الفاخرة ما يستحى من ذكره كثرة، بحيث إن بعض الفقراء أخذ صحنا فيه من خاصّ الأطعمة الفاخرة فوزن الصحن المذكور فزاد على ربع قنطار.
ولمّا انتهى السّماط «2» مدّت أسمطة الحلوى من صدر المخيّم إلى آخره.

(12/73)


وعند فراغ ذلك مضى القضاة والأعيان وبقى السلطان فى خواصّه وعنده فقراء الزوايا والصوفية، فعند ذلك أقيم السّماع من بعد ثلث الليل إلى قريب الفجر وهو جالس عندهم ويده تملأ من الذهب، وتفرّغ لمن له رزق فيه والخازندار يأتيه بكيس بعد كيس، حتى قيل: إنّه فرّق فى الفقراء ومشايخ الزوايا والصوفية فى تلك الليلة أكثر من أربعة آلاف دينار.
هذا، والسّماط من الحلوى والفاكهة يتداول مدّة بين يديه، فتأكله المماليك والفقراء وتكرّر ذلك أكثر من عشرين مرّة.
ثم أصبح السلطان ففرّق فى مشايخ الزوايا القمح من الأهراء «1» لكل واحد بحسب حاله وقدر فقرائه، كلّ ذلك خارج عمّا كان لهم من الرواتب عليه فى كلّ سنة حسب ما يأتى ذكر ذلك فى آخر ترجمة الملك الظاهر بعد وفاته.
ثم فى خامس عشر شهر ربيع الأوّل المذكور قدم الوالد إلى القاهرة معزولا عن نيابة حلب.
فنزل السلطان الملك الظاهر إلى لقائه، قال الشيخ تقىّ الدين المقريزىّ- رحمه الله-: «وفى خامس عشر شهر ربيع الأوّل قدم الأمير تغرى بردى اليشبغاوى من حلب بتجمّل زائد عظيم إلى الغاية، فخرج السلطان وتلقّاه بالمطعم «2» من الريدانية «3» خارج القاهرة، وسار معه من غير خلعة، فلمّا قارب القلعة أمره

(12/74)


بالتوجّه إلى حيث أنزله وبعث إليه بخمسة أفراس بقماش ذهب وخمس بقج فيها قماش مفصّل له مفرّى؟ انتهى كلام المقريزى.
قلت: وقوله: وعاد «1» معه بغير خلعة هى العادة، فإنّه منفصل عن نيابة حلب ولم يعط إلى الآن وظيفة حتى يلبس خلعتها.
وفى سابع عشره قدّم الوالد تقدمته إلى السلطان، وكانت «2» نيّفا وعشرين مملوكا وخمسة طواشية بيض من أجمل الناس، من جملتهم: خشقدم اليشبكى مقدّم المماليك السلطانية فى دولة الملك الأشرف برسباى، أنعم به الملك الظاهر على فارس الحاجب، ثم ملكه يتسبك الشعبانى بعده وأعتقه، وثلاثين ألف دينار مصرية، ومائة وخمسة وعشرين فرسا، وعدّة جمال بخاتى «3» تزيد على الثمانين، وأحمالا من البقج، فيها من أنواع الفرو والشقق الحرير وأثواب الصوف والمخمّل زيادة على مائة بقجة، فآبتهج السلطان بذلك وقبله، وخلع على أصحاب وظائف الوالد، ونزلوا فى غاية الجبر.
حكى لى بعض أعيان الظاهرية، قال: لما رأى الملك الظاهر تقدمة والدك تعجّب غاية العجب من حسن سيرته وقلّة ظلمه بحلب، ومع هذا كيف قام بهذه التقدمة الهائلة مع كثرة مماليكه وخدمه.
وكان سبب عزل الوالد- رحمه الله- عن نيابة حلب، شكوى الأمير تنم الحسنى نائب الشام منه للملك الظاهر، ورماه بالعصيان والخروج عن الطاعة،

(12/75)


وخبر ذلك: أن الوالد وتنم لمّا توجّها فى السنة الماضية إلى سيواس «1» وغيرها بأمر الملك الظاهر وتلاقى الوالد مع تنم بظاهر حلب وعادا جميعا إلى حلب وكلّ منهما سنجقه «2» منتصب على رأسه، فعظم ذلك على تنم، كون العادة إذا حضر نائب الشام يصير هو رأس العساكر وينزل نائب حلب سنجقه، فلمّا سارا وكلّ منهما سنجقه على رأسه، تكلّم سلحدارية تنم مع سلحداريّة الوالد فى نزول السّنجق، فلم يفعل حامل السنجق، فخرجا من القول إلى الفعل، وتقاتل الفريقان بالدبابيس بسبب ذلك، وكادت الفتنة تقع بينهما، والوالد بتجاهل عمّا هم فيه، حتى التفت تنم ونهى مماليكه عن القتال، وسار كلّ واحد وسنجقه على رأسه، حتى نزلا بمخيّمهما «3» ، فاستشهد تنم أمراء دمشق بما وقع من الوالد ومماليكه، وكتب للسلطان بذلك فلم يشكّ السلطان فى عصيانه، وكتب بعزله وطلبه إلى القاهرة.
وأما الوالد لمّا نزل بمخيّمه كلّمه بعض أعيان مماليكه فيما وقع، فقال الوالد:
أنا خرجت من مصر جنديّا حتى أنزل سنجقى، أشار بذلك أنه ولى نيابة حلب وهو رأس نوبة النوب، وأن تنم ولى أتابكيّة دمشق، وهو أمير عشرة بمصر قبل ولايته نيابة دمشق، ثم نقل من أتابكية دمشق إلى نيابتها، يعنى بذلك أن تنم لم تسبق له رياسة بمصر قبل ولايته نيابة دمشق، فلمّا بلغ تنم ذلك قامت قيامته. انتهى.

(12/76)


ثم أنعم السلطان على سودون بن زادة بإمرة عشرة، بعد موت الأمير طوغان الشاطر.
ثم نزل السلطان وعاد الأمير قلمطاى الدّوادار، ففرش قلمطاى تحت حوافر فرسه الشّقق الحرير، مشى عليها السلطان من باب داره حتى نزل بالقصر، فمشى من باب القصر على الشقق النخ «1» المذهب حتى جلس، فقدّم إليه طبقا فيه عشرة آلاف دينار وخمسا وعشرين بقجة قماش، وتسعة وعشرين فرسا ومملوكا تركيّا بديع الحسن، فقبل الملك الظاهر ذلك كله، ورجع إلى القلعة، وفى حال رجوعه قدم عليه الخبر بأن تيمور لنك سار من سمرقند «2» إلى بلاد الهند وأنه ملك مدينة دلّى «3» .
ثم فى يوم الخميس العشرين من شهر جمادى الأولى خلع السلطان على قاضى القضاة جمال الدين يوسف بن موسى بن محمد الملطى باستقراره قاضى قضاة الحنفية بالديار المصرية، بعد موت شمس الدين محمد الطرابلسى، بعد ما شغر قضاء الحنفية بمصر مائة يوم وأحد عشر يوما، حتى طلب جمال الدين المذكور لها من حلب وقدم على البريد.

(12/77)


قلت: هكذا تكون ولاية القضاء.
ثم أنعم السلطان على الأمير علىّ باى بإمرة مائة وتقدمة ألف عوضا عن الأمير تنبك الأمير آخور بعد موته.
ثم بعد أيام أنعم على الأمير يشبك العثمانى بإمرة مائة وتقدمة ألف بعد موت الأمير قلمطاى العثمانى الدوادار، وأنعم على الأمير أسنبغا العلائى الدوادار الثانى بطبلخانات الأمير بكتمر الركنى، وكان بكتمر المذكور أخذ طبلخاناه الأمير علىّ باى المنتقل إلى تقدمة تنبك الأمير آخور.
ثمّ أنعم السلطان على آقباى الطّرنطائى بإمرة طبلخاناه، وعلى تنكزبغا الحططى بإمرة عشرين.
وفى يوم تاسع عشرين جمادى الأولى خلع السلطان على جماعة من الأمراء بعدة وظائف، فخلع على الوالد باستقراره أمير سلاح عوضا عن بكلمش العلائى، بعد ما شغرت أشهرا وعلى الأمير آقبغا الطولوتمرى الظاهرى المعروف باللّكّاش باستقراره أمير مجلس عوضا عن بيبرس ابن أخت السلطان، وعلى نوروز الحافظى رأس نوبة النوب باستقراره أمير آخور كبيرا، بعد موت الأمير تنبك وعلى الأمير بيبرس ابن أخت السلطان باستقراره دوادارا كبيرا، عوضا عن الأمير قلمطاى، بعد موته وعلى الأمير علىّ باى الخازندار باستقراره رأس نوبة النوب عوضا عن نوروز الحافظى وعلى يشبك الشعبانى باستقراره خازندارا عوضا عن علىّ باى المذكور.
ثمّ فى ليلة الجمعة ثامن شعبان أمسك السلطان الأمير علاء الدين علىّ بن الطبلاوى وأمسك أخاه ناصر الدين محمدا والى القاهرة وجماعة من ألزامه وأوقع الحوطة على دورهم وتسلمه الأمير يلبغا الأحمدى المجنون الأستادار ليخلّص منه

(12/78)


الأموال، فأخذه يلبغا وتوجّه به إلى دار ابن الطبلاوى وأخذ منها مالا وقماشا بنحو مائة وستين ألف دينار.
ثم أخذ منها أيضا بعد أيام ألفا ومائة قفّة فلوسا وصرفها ستمائة ألف درهم، ومن الدراهم الفضّة خمسة وثمانين ألف درهم فضة، واستمر علاء الدين فى المصادرة وخلع السلطان على الأمير الكبير أيتمش البجاسى باستقراره فى نظر البيمارستان «1» المنصورى عوضا عن ابن الطّبلاوى المذكور ومن يومئذ استمر نظر البيمارستان مع كلّ من يلى الأتابكية بمصر.
ثم بعد أيام طلب ابن الطّبلاوى الحضور بين يدى السلطان، فأذن له السلطان فى ذلك، فحضر فى الحديد، بعد أن عوقب أياما كثيرة، وطلب من السلطان أن يدنيه منه، فاستدناه، حتى بقى من السلطان على قدر ثلاثة ادرع، فقال له:
تكلّم، قال: أريد أن أسارّ السلطان فى أذنه، فلم يمكّنه من ذلك، فألّح عليه ابن الطبلاوى فى مسارّة السلطان فى أذنه، حتى استراب منه وأمر بإبعاده واستخلاص المال منه، فأخذه يلبغا وأخرجه من مجلس السلطان إلى باب «2» النحاس من القلعة، فجلس ابن الطبلاوى هناك ليستريح فضرب نفسه بسكّين كانت معه ليقتل نفسه وجرح فى موضعين من بدنه، فمسكوه ومنعوه من قتل نفسه وأخذوا السكين منه

(12/79)


وبلغ السلطان ذلك، فلم يشكّ أنه أراد الدنوّ من السلطان حتى يقتله بتلك السكين التى كانت معه.
فلمّا فاته السلطان ضرب نفسه، فعند ذلك أمر السلطان بتشديد عقوبته فعاقبه يلبغا المجنون، فدلّ على خبيئة فيها ثلاثون «1» ألف دينار، ثم أخرى فيها تسعون ألف دينار، ثم أخرى فيها عشرون ألف دينار ودام فى العقوبة، ثم نقله يلبغا المجنون إلى خزانة شمائل «2» .
ثمّ فى خامس عشر شوال ختن السلطان الملك الظاهر ولديه. الأمير فرجا والأمير عبد العزيز وختن معهما عدّة من أولاد الأمراء المقتولين، منهم: ابن الأمير منطاش وغيره وأنعم عليهم بقماش وذهب وعمل السلطان مهمّا عظيما بالقلعة للنساء فقط ولم يعمل للرجال، مخافة على الأمراء من الكلف.
وفى يوم السبت ثانى عشر ذى القعدة عمل السلطان مهمّا عظيما بالميدان «3» تحت القلعة، سببه: أنه لعب بالكرة مع الأمراء على العادة، فغلب السلطان الأمير

(12/80)


الكبير أيتمش البجاسى، فلزم أيتمش عمل مهمّ بمائتى ألف درهم فضة، كونه غلب، فقام عنه السلطان بذلك وألزم السلطان الوزير بدر الدين محمد بن الطوخى والأمير يلبغا الأستادار ونصبت الخيم بالميدان وعمل المهم، وكان فيه من اللحم عشرون ألف رطل ومائتا زوج إوز وألف طائر من الدّجاج وعشرون فرسا وثلاثون قنطارا من السكر وثلاثون قنطارا من الزبيب عملت أقسما «1» وستون إردبا دقيقا لعمل البوزا وعملت المسكرات فى دنان من الفخّار.
ونزل السلطان سحر يوم السبت المذكور، وفى عزمه أن يقيم نهاره مع الأمراء والمماليك، يعاقر الشراب، فأشار عليه بعض ثقاته بترك ذلك وخوّفه العاقبة، فمدّ السّماط وعاد إلى القصر، قبل طلوع الشمس، وأنعم على كلّ من الأمراء المقدّمين بفرس بقماش ذهب، وأذن السلطان للعامّة فى انتهاب ما بقى من الأكل والشراب، قال المقريزى: «فكان يوما فى غاية القبح والشّناعة أبيحت فيه المسكرات وتجاهر الناس فيه بالفواحش، بما لم يعهد مثله، وفطن أهل المعرفة بزوال الأمر، فكان كذلك، ومن يومئذ انتهكت الحرمات بديار مصر وقلّ الاحتشام» . انتهى كلام المقريزى.

(12/81)


ذكر وقعة علىّ باى مع السلطان الملك الظاهر برقوق
لمّا كان يوم السبت تاسع عشر ذى القعدة من سنة ثمانمائة أو فى النيل وقدم أيضا البريد بقتل سولى بن دلغادر أمير التّركمان «1» ، فركب السلطان بعد صلاة الظهر يريد المقياس «2» ليخلّقه ويفتح خليج «3» السّدّ على العادة، ومعه جميع الأمراء إلّا الأمير عليّا باى الخازندار، فإنه كان انقطع بداره أياما وتمارض وفى باطن أمره أنه قصد الفتك بالسلطان، فإنّه علم أنه إذا نزل لفتح الخليج يدخل إليه ويعوده كما جرت به عادته مع الأمراء فدبّر علّى باى على السلطان وأخلى إسطبله من الخيل وداره من حريمه، وأعدّ قوما اختارهم من مماليكه، فتهيئوا لذلك فرآهم شخص كان يسكن بأعلى الكبش «4» من المماليك اليلبغاويّة يسمى سودون الأعور، فركب إلى

(12/82)


الملك الظاهر فى أثناء طريقه بعد تخليق المقياس وفتح خليج السدّ وأسرّ إليه أنه شاهد من سكنه مماليك علىّ باى وقد لبسوا آلة الحرب ووقفوا عند بوائك الخيل من إسطبله وستروا البوائك بالأنخاخ «1» ليخفى أمرهم، فقال له: السلطان اكتم ما معك، فلم يبد السلطان ذلك إلا لأكابر أمرائه.
ثم أمر السلطان الأمير أرسطاى رأس نوبة أن يتوجّه إلى دار علىّ باى ويعلمه أن السلطان يدخل إليه لعيادته، فتوجّه أرسطاى عادة وأعلم عليّا باى بذلك، فلمّا بلغ عليّا باى أن السلطان يعوده اطمأن وظنّ أن حيلته تمّت ووقف أرسطاى على باب علىّ باى ينتظر قدوم السلطان، وعند ما بعث السلطان أرسطاى إلى علىّ باى أمر الجاويشية بالسكوت فسكتوا عن الصّياح أمام السلطان.
ثم أبعد السلطان العصائب السلطانية عنه وأيضا السّنجق الذي يحمل على رأس السلطان وتقدّم عنهم حتى صار بينه وبين العصائب مدى بعيدا من خلفه وسار السلطان كآحاد الأمراء وسار حتى وافى الكبش، وهو تجاه دار علىّ باى والناس قد اجتمعوا للفرجة على موكب السلطان، فصاحت امرأة من أعلى الكبش «2» على السلطان لا تدخل، فإنّهم قد لبسوا لقتالك، فحرّك السلطان فرسه وأسرع

(12/83)


فى المشى ومعه الأمراء ومن ورائه المماليك الخاصّكيّة يريد القلعة «1» ، وكان باب علىّ باى مردود الدّرفتين، وضبّته مطرقة ليمنع الناس من الدخول إليه، حتى يأتى السلطان، فلمّا مرّ السلطان ولم يعلم به من ندبه علىّ باى لرؤية «2» السلطان وإعلامه به، حتى جاوزهم السلطان بما دبّره السلطان من المكيدة بتأخير العصائب السلطانية والسّنجق والجاويشيّة وتقدّمه عنهم.
ثم بلغ عليّا باى أن السلطان فاته، فركب وبادر أحد أصحابه يريد فتح الضّبّة فأغلقها، وإلى أن يحضر مفتاح الضّبّة ويفتحونها، فاتهم السلطان وصار بينه وبينهم سدّ عظيم من الجمداريّة والغلمان وغيرهم، فخرج علىّ باى ومن معه من أصحابه لابسين السلاح، وعدّتهم نحو الأربعين فارسا يريدون السلطان، وقد ساق السلطان ومعه الأمراء، حتى دخل باب «3» السلسلة وامتنع به «4» ، فوقف على باى من معه تجاه باب السلسلة، فنزل إليه فى الحال طائفة من المماليك السلطانية لقتاله، فقاتلهم، وثبت لهم ساعة حتى جرح من الفريقين جماعة وقتل من المماليك السلطانية بيسق المصارع.
ثم انهزم علىّ باى وتفرّق عنه أصحابه، وقد ارتجت مصر والقاهرة، وركب يلبغا المجنون الأستادار ومعه مماليك لابسين يريد القلعة، وأرجف الناس بقتل السلطان واشتدّ خوف الرعيّة وتشعّب الذّعر.

(12/84)


ثم لبست المماليك السلطانية السلاح، وأتى السلطان من كان غائبا عنه من الأمراء والخاصكيّة وتحلّقوه.
فعندما طلع يلبغا الأحمدىّ المجنون الأستادار إلى السلطان وثب عليه الخاصكيّة، واتّهموه بموافقة علىّ باى لكونه جاء هو ومماليكه فى أسرع وقت بآلة الحرب، فأخذه اللّكم من الخاصكيّة من كل جهة، ونزعوا ما عليه من السلاح، وألقوه إلى الأرض ليذبحوه، لولا أن السلطان منعهم من ذلك، فلمّا كفّوا عن ذبحه سجنوه «1» بالزّردخاناه السلطانية مقيّدا.
ثم قبض على نكباى شادّ شرابخاناه علىّ باى، وقطّع قطعا بالسيوف، فإنّه أصل هذه الفتنة.
وسبب ركوب علىّ باى على السلطان وخبره أن نكباى هذا كان تعرّض لجارية من جوارى الأمير آقباى الطّرنطائى، وصار بينهما مشاكلة، فبلغ ذلك آقباى، فمسك نكباى المذكور وضربه ضربا مبرّحا ثم أطلقه، فحنق علىّ باى من ذلك، وشكا آقباى للسلطان، فلم يلتفت السلطان إليه، وأعرض عنه، وكان فى زعمه أن السلطان يغضب على أقباى بسبب مملوكه، فغضب علىّ باى من ذلك، ودبّر هذه الحبلة الباردة، فكان فى تدبيره تدميره.
وبات السلطان تلك الليلة بالإسطبل السلطانى، ونهبت العامّة بيت علىّ باى حتى إنهم لم يبقوا به شيئا.
وأما علىّ باى فإنه لما رأى أمره تلاشى ذهب واختفى فى مستوقد حمّام فقبض عليه وحمل إلى السلطان، فقيّده وسجنه بقاعة «2» الفضّة من القلعة.

(12/85)


فلما أصبح النهار وهو نهار الأحد والعشرين من ذى القعدة نزع العسكر السلاح وتفرّقوا، وطلع السلطان إلى القلعة من الإسطبل وأخذ علىّ باى وعصره، فلم يقر على أحد، وأحضر يلبغا المجنون فخلف علىّ باى أنه لم يوافقه ولا علم بشىء من خبره، وحلف يلبغا أنه لم يعلم بما وقع، وأنه كان مع الوزير بمصر.
فلمّا أشيع بركوب علىّ باى لحق بداره، ولبس السلاح ليقاتل عليّا باى، فأفرج عنه السلطان وخلع عليه باستمراره على الأستادارية ونزل إلى داره، فلم يجد بها شيئا، وجميع ما كان فيها نهبته العامّة حتى سلبت جواريه وفرّت امرأته خوند بنت الملك الأشرف شعبان بن حسين، وأخذوا حتى رخام بيته وأبوابه، وتشعّثت داره وصارت خرابا، والدار هى التى على بركة «1» الناصرى بيت سونجبغا الناصرى الآن.

(12/86)


ثم قدم البريد على السلطان من حلب بأن أولاد ابن بزدغان من التّركمان والأمير عثمان بن طر على «1» المدعو قرايلك «2» تقاتلوا مع القاضى برهان الدين أحمد صاحب سيواس «3» ، فقتل برهان الدين فى المعركة وقام من بعده ابنه.
ثم فى يوم الاثنين حادى عشرين ذى القعدة جلس السلطان بدار العدل «4» وعصر عليّا باى المذكور فلم يقر على أحد.
وبينما السلطان فى ذلك إذا بهجّة عظيمة قامت فى الناس، فلبس العسكر ووقفوا تحت القلعة؛ «5» وقد غلقت أبواب القلعة، وأشيع أن يلبغا المجنون، والأمير آقبغا الطّولوتمرى المعروف باللّكّاش أمير مجلس خامرا على السلطان، ولم يكن الأمر كذلك وبلغ اللكاش ذلك، فركب من وقته فطلع إلى القلعة.

(12/87)


وأمّا يلبغا المجنون فإنه كان فى بيت الأمير فرج، فركب فرج المذكور ليعلم السلطان بأنه كان فى داره بالقاهرة حتى يبرأ ممّا رمى به، وطلع فى الحال جميع الأمراء، فأمر السلطان بقلع السلاح ونزول كلّ أحد إلى داره، وسكن الأمر ونودى بالأمان والاطمئنان.
ثم فى ليلة الثلاثاء عذّب على باى أيضا بين يدى السلطان عذابا شديدا، كسرت فيه رجلاه وركبتاه وخسف صدره، فلم يقرّ على أحد، ثم أخذ إلى خارج وخنق، فتنكّرت الأمراء وكثر خوفهم من السلطان، خشية أن يكون علىّ باى ذكر أحدا منهم من حرارة العقوبة، ومن يومئذ فسد أمر السلطان مع مماليكه الجراكسة، ودخل السلطان إلى زوجته خوند الكبرى أرد «1» وكانت تركية الجنس، وكانت تحذره عن اقتناء المماليك الجراكسة وتقول له: اجعل عسكرك أبلق من أربعة أجناس:
تتر وجاركس وروم وتركمان، تستريح أنت وذريّتك، فقال لها: الذي كنت أشرت به علىّ هو الصواب، ولكن هذا كان مقدّرا ونرجو الله تعالى إصلاح الأمر من اليوم.
ثمّ فى يوم الثلاثاء أمر السلطان الأمير يلبغا المجنون أن ينفق على المماليك السلطانية، فأعطى الأعيان منهم خمسمائة درهم، فلم يرضهم ذلك وكثرت الإشاعات الردية والإرجاف بوقوع فتنة وباتوا ليلة الخميس على تخوّف، ولم تفتح الأسواق فى يوم الخميس، فنودى بالأمان والبيع والشراء، ولا يتحدّث أحد فيما لا يعنيه.
ثمّ أنعم السلطان على الأمير أرسطاى بتقدمة علىّ باى، ووظيفته رأس نوبة النّوب، وأنعم على الأمير تمان تمر الناصرى بإقطاع أرسطاى، والإقطاع: إمرة طبلخاناه.

(12/88)


ثم فى سادس عشرينه نزل الأمير فارس حاجب الحجاب، والأمير تمربغا المنجكى أحد أمراء الألوف، وحاجب ثانى، وقبضا على الأمير يلبغا الأحمدى الظاهرىّ المعروف بالمجنون الأستادار من داره، وبعثاه فى النّيل إلى ثغردمياط «1» واستقرّ عوضه أستادارا الأمير ناصر الدين محمد بن سنقر بإمرة خمسين فارسا وأنعم السلطان على الأمير بكتمر جلّق الظاهرى رأس نوبة بتقدمة ألف عوضا عن يلبغا المجنون.
وفى يوم السبت ثالث ذى الحجة خلع السلطان على أميرين باستقرارهما رءوس نوب صغارا وهما: طولو بن على باشا الظاهرى وسودون الظريف الظاهرىّ.
وفى يوم الأحد رابع ذى الحجة سمّر السلطان أربعة نفر من مماليك علىّ باى ثم وسّطوا.
ثم رسم السلطان بإحضار الأمير بكلمش العلائىّ أمير سلاح كان من سجنه بالإسكندرية «2» وتوجّه إلى القدس «3» بطّالا على ما كان للأمير شيخ الصّفوى من المرتّب.
ثمّ استهلّ القرن التاسع: أعنى- سنة إحدى وثمانمائة- والخليفة المتوكّل على الله أبو عبد الله محمد العباسى والسلطان الملك الظاهر أبو سعيد برقوق

(12/89)


ابن أنص الجاركسى اليلبغاوىّ والقاضى الشافعىّ تقي الدين عبد الرحمن الزّبيرى والقاضى الحنفى جمال الدين يوسف الملطىّ والقاضى المالكى ناصر الدين أحمد التّنسى «1» والحنبلىّ برهان الدين إبراهيم بن نصر الله، والأمير الكبير أيتمش البجاسىّ، وأمير سلاح تغرى بردى بن يشبغا الظاهرى (أعنى عن الوالد) وأمير مجلس آقبغا اللكّاش الظاهرى، والأمير آخور نوروز الحافظى الظاهرى، وحاجب الحجاب فارس الظاهرى والدوادار بيبرس ابن أخت الملك الظاهر برقوق ورأس نوبة النّوب أرسطاى.
ونوّاب البلاد صاحب مكة «2» المشرفة الشريف حسن بن عجلان الحسنىّ المكّى وأمير المدينة «3» النبوية- على ساكنها أفضل الصلاة والسلام- الشريف ثابت بن نعير الحسينىّ،

(12/90)


ونائب الشام الأمير تنبك الحسنى المعروف بتنم الظاهرى، ونائب حلب أرغون شاه الإبراهيمى الظاهرى، ونائب طرابلس يونس الظاهرى المعروف بيونس بلطا، ونائب حماة آقبغا الجمالى، ونائب صفد شهاب الدين أحمد ابن الشيخ على ونائب غزّة بيخجا «1» المعروف بطيفور الظاهرى، ونائب الإسكندرية صرغتمش القزوينى وجميع من ذكرنا من النوّاب بالبلاد الشامية وأصحاب الوظائف بالديار المصريه هم مماليك الظاهر برقوق ومشترواته، ما خلا نائب صفد وهو أيضا نشؤه، والأتابك أيتمش وقد اشتراه بعد سلطنته، حسبما تقدم ذكره أنه اشتراه من أولاد معتق أستاذه.
ثم فى يوم سابع عشر المحرم المذكور سمّر السلطان سبعة نفر من المماليك يقال لأحدهم: آقبغا الفيل الظاهرى وآخر من إخوة علىّ باى ظاهرى أيضا والباقى من مماليك علىّ باى وشهّروا بالقاهرة، ثم وسّطوا.
وفيه أيضا تنكّر السلطان على سودون الحمزاوى الخاصّكى الظاهرى وضربه ضربا مبرّحا وسجنه بخزانة «2» شمائل مدّة، ثم أخرجه منفيّا إلى بلاد الشام لأمر اقتضى ذلك.
وفى هذا الشهر توعّك السلطان وحدث له إسهال مفرط لزم منه الفراش مدّة تزيد على عشرين يوما.
ورسم السلطان بتفرقة مال على الفقراء، ففرّق فيهم، فاجتمع تحت القلعة «3» منهم عالم كثير وازدحموا لأخذ الذهب، فمات فى الزّحام منهم سبعة وخمسون شخصا، ما بين رجل وامرأة وصغير، قاله المقريزى.

(12/91)


وفى يوم ثانى عشره رسم السلطان بجمع أهل الإسطبل «1» السلطانى من الأمير آخورية والسلاخورية ونحوهم، فاجتمعوا ونزل السلطان من القصر إلى مقعده بالإصطبل السلطانى، وهو متوعّك البدن لعرضهم، وعرضهم حتى انقضى العرض، فأمسك جرباش الظاهرى أحد الأمير «2» آخورية الأجناد وقال له بعد ذلك على ماذا تريد قتلى وأنا أستاذك! فلم ينزعج جرباش المذكور وقال: بعد أن أشار بيده الى حياصته: أكون أنا لابس حياصة وهؤلاء أمراء، وأشار لمن حول السلطان من الأمراء من مماليكه، وهم الجميع أقلّ منى وبعدى شريتهم، فأشار السلطان بأخذه، فأخذ وسجن، فكان ذلك آخر العهد به.
ثم عرض السلطان الخيل وفرّق خيل السّباق على الأمراء، كما كانت العادة يوم ذلك.
ثم عرض الجمال البخاتى، كلّ ذلك تشاغل، والمقصود القبض على الأمير نوروز الحافظى الظاهرى الأمير آخور الكبير، ثم أظهر السلطان أنه تعب واتّكأ على الأمير نوروز ومشى من الإسطبل متكئا عليه، حتى وصل إلى الباب الذي يطلع منه إلى القصر، فأدار السلطان يده على عنق نوروز المذكور، فبادر الخاصّكيّة إليه باللّكم حتى سقط إلى الأرض، ثم قبضوا عليه وحملوه مقيّدا إلى السجن، ودخل السلطان من الباب وطلع إلى القلعة، وكان للأمير نوروز ذنوب كثيرة: منها الممالأة لعلىّ باى، ومعه أيضا الأمير آقبغا اللّكّاش، ثم تخاذل نوروز فى فتح باب السلسلة للسلطان يوم وقعة علىّ باى.

(12/92)


ثمّ بعد ذلك بلغ السلطان أن نوروز المذكور قصد الركوب عليه، فمنعته أصحابه، وأشاروا عليه أن يصير حتى ينتظر ما يصير من أمر السلطان فى مرضه، فإن مات فقد حصل له القصد من غير تعب ولا شنعة، وإن تعافى من مرضه فليفعل عند ذلك ما شاء.
وكان ممن حضر هذه المشورة مملوك من خاصّكية الملك الظاهر، فلم يعجب نوروز ذلك، وقرّر مع أصحابه من الخاصّكية الذين وافقوه أنه إذا كان ليلة نوبتهم فى خدمة القصر ودخلوا مع السلطان فى القصر «1» الصغير المعروف بالخرجة المطلّ على الإسطبل السلطانى يثبون عليه بمن اتفق معهم ويقتلون السلطان على فراشه، ثم يكسرون الثّريّة المعلقة بقناديلها الموقدة يكون ذلك إشارة بينهم وبين نوروز، بعد قتل السلطان، فيركب نوروز عند ذلك ويملك القلعة من غير قتال، فأخذ الخاصّكية يستميلون جماعة أخر من الخاصكية ليكثر جمعهم، وكان من جملة من استمالوه قانى باى الصغير الخاصكىّ وأظنه الذي ولى نيابة الشام فى دولة الملك المؤيّد شيخ، والله أعلم. فأجابهما قانى باى بالسمع والطاعة وحلف لهم على الموافاة، ثم فارقهم ودخل إلى السلطان من فوره وقعد لتكبيسه، فحكى له القصة بتمامها وكمالها، فاحترز الملك الظاهر على نفسه ودبّر على نوروز حتى قبض عليه.
ثم بعد مدة فى يوم السبت رابع صفر خلع السلطان على الأمير آقبغا اللّكّاش الظاهرىّ بنياية الكرك «2» وأخرج من ساعته وأذن له بالإقامة بخانقاه «3» سرياقوس حتى يجهّز أمره، ووكّل به الأمير تنبك الكركى الخاصّكى وهو مسفّره.

(12/93)


ثم فى ليلة الأحد أنزل الأمير نوروز الحافظى من القلعة مقيّدا إلى سجن الإسكندرية ومسفّره الأمير أردبغا الظاهرى أحد أمراء العشرات.
ثم قبض السلطان على قوزى الخاصّكى أحد من كان اتفق مع نوروز وسلّم إلى والى القاهرة.
ثم أنعم السلطان بإفطاع الأمير نوروز الحافظى على تمراز الناصرى، وصار من جملة مقدّمى الألوف بالديار المصرية، وأنعم على سودون الماردينىّ بإقطاع آقبغا اللّكّاش، وهو تقدمة ألف أيضا، وخلع على الأمير أرغون شاه البيدمرى الظاهرى باستقراره أمير مجلس، عوضا عن آقبغا اللكاش المذكور، وخلع على سودون المعروف بسيّدى سودون قريب الملك الظاهر برقوق باستقراره أمير آخور عوضا عن نوروز الحافظىّ.

(12/94)


وفى ثالث عشرين صفر أيضا أملى بعض المماليك السلطانية إليه بالأطباق على بعض فقهاء الأطباق أسماء جماعة من الأمراء والمماليك، أنهم اتفقوا على إقامة فتنة والقيام على السلطان وكتبها ودخل بها المملوك على السلطان، فلما قرئت الورقة على السلطان، استدعى المذكورين وأخبرهم بما قيل عنهم، فخلفوا أن هذا شىء لم يسمعوه إلا الآن، وحلّوا أوساطهم ورموا سيوفهم، وقالوا يوسّطنا السلطان أو يخبرنا بمن قال هذا عنا، فأحضر السلطان المملوك وسلّمه إليهم وضربوه نحو الألف عصا، حتى أقرّ أنه اختلق هذا الكلام عليهم حنقا من واحد منهم، وسمّى شخصا كان خاصمه «1» قبل ذلك.
ثم أحضر السلطان الفقيه الذي كتب الورقة وضربه بالمقارع وسمر، ثم شفع فيه من القتل وحبس بخزانة شمائل.
ولما وصل الأمير آقبغا اللكاش إلى غزة «2» متوجّها إلى محل كفالته بمدينة الكرك، قبض عليه بها وأحيط على سائر ما كان معه، وحمل إلى قلعة الصّبيبة «3» فسجن بها.
ثم ورد الخبر على السلطان فى صفر المذكور أن السكّة ضربت باسمه بمدينة ماردين «4» ، وخطب له بها وحملت له الدنانير والدراهم وعليها اسم السلطان.
ثم فى شهر ربيع الأول فى رابعه، ورد الخبر على السلطان بموت الأمير أرغون الإبراهيمى الظاهرى نائب حلب، فرسم السلطان أن ينقل الأمير آقبغا الجمالى

(12/95)


الظاهرى المعروف بالأطروش من نيابة طرابلس إلى نيابة حلب، وحمل إليه التقليد والتشريف إينال باى بن قجماس، ورسم أيضا باستقرار يونس بلطا نائب حماة «1» فى نيابة طرابلس عوضا عن آقبغا المذكور، وتوجّه بتقليده وتشريفه الأمير يلبغا الناصرى الظاهرى، ورسم أن يستقر دمرداش المحمدى أتابك حلب فى نيابة حماة، وتوجه بتقليده الأمير شيخ المحمودى «2» الساقى رأس نوبة وهو الذي تسلطن
ثم خلع السلطان على الأمير سودون الظاهرى المعروف بالظريف فى نيابة الكرك.
وفى خامس عشر شهر ربيع الأول أنعم السلطان على الوالد بجميع سرحة البحيرة «3» وداخلها مدينة الإسكندرية.

(12/96)


ثم فى سلخ ربيع الأول المذكور أمسك السلطان الأمير عزّ الدين أزدمر أخا إينال اليوسفى وأمسك معه ناصر الدين محمد بن إينال اليوسفىّ ونفيا إلى الشام.
ثم فى يوم الأربعاء أوّل شهر ربيع الآخر خلع السلطان على الأمير سراى تمرشلّق الناصرى أحد أمراء الطبلخانات ورأس نوبة بديار مصر باستقراره أتابك العساكر بحلب عوضا عن دمرداش المحمّدى المنتقل إلى نيابة حماة.
ثم فى عشرينه أنعم السلطان على الأمير على بن إينال اليوسفى بخبز أخيه محمد، وأمير علىّ هذا هو أستاذ الملك الظاهر جقمق الآتى ذكره، وبه عرف بالعلائىّ.
وفيه أنعم السلطان على كلّ من سودون من زادة الظاهرى، وتغرى بردى الجلبانى، ومنكلى بغا الناصرى، وبكتمر الظاهرى، وأحمد بن عمر الحسنى بإمرة طبلخاناة بالديار المصرية.
وأنعم أيضا على كلّ من بشباى الظاهرى، وتمربغا من باشاه، وشاهين من إسلام الأفرم الظاهرىّ، وجوبان العثمانى الظاهرى، وجكم من عوض الظاهرى بإمرة عشرة.
ثم فى خامس عشرينه طلع إلى السلطان رجل عجمىّ، وهو جالس للحكم بين الناس وهيئته كهيئة الصوفية، وجلس بجانب السلطان، ومدّ يده إلى لحيته ليقبض عليها وسبّه سبّا قبيحا، فبادر إليه رءوس النّوب وأقاموه، ومرّوا به، وهو مستمرّ فى السبّ، فأمر به السلطان، فسلّم لوالى القاهرة، فأخذه الوالى ونزل به وعاقبه حتى مات تحت العقوبة.

(12/97)


ثم فى يوم الخميس سلخه خلع السلطان على تاج الدين عبد الرزاق بن أبى الفرج ابن نقولا الأرمنىّ الأسلمىّ والى قطيا «1» باستقراره وزيرا عوضا عن الوزير بدر الدين محمد بن الطوخى.
وفى رابع جمادى الأولى رسم السلطان بإحضار الأمير يلبغا الأحمدى المجنون من ثغردمياط.
ثم فى يوم الاثنين حادى عشر جمادى الأولى المذكور رسم السلطان باستدعاء رئيس الأطبّاء فتح الدين فتح الله بن معتصم بن نفيس الداودىّ «2» التّبريزى وخلع عليه باستقراره فى كتابة السّر، بعد موت القاضى بدر الدين محمود الكلستانى، وكان نفيس جدّ فتح الله هذا يهوديّا من أولاد نبىّ الله داود عليه السلام.
وفى رابع عشرينه خلع السلطان على الأمير فرج الحلبى أستدار الذخيرة والأملاك باستقراره فى نيابة الإسكندرية.
ثمّ فى يوم الاثنين ثامن شهر رجب رسم السلطان بانتقال الأمير جقمق الصّفوى حاجب حجّاب حلب إلى نيابة ملطية «3» بعد عزل دقماق المحمّدىّ الظاهرىّ وجهّز تقليده على يد مقبل الخازندار الظاهرى.

(12/98)


ثمّ فى حادى عشرين شهر رجب المذكور خلع السلطان على الشيخ تقي الدين المقريزى المؤرّخ باستقراره فى الحسبة بالقاهرة، عوضا عن شمس الدين البجاسىّ.
ثم فى خامس عشرينه أعيد قاضى القضاة صدر الدين محمد بن إبراهيم المناوى إلى قضاء الشافعيّة بالديار المصرية، بعد عزل قاضى القضاة تقي الدين عبد الرحمن الزبيرىّ.
وفى هذه الأيام أعيد أيضا يلبغا المجنون إلى وظيفة الأستدارية، بعد عزل ناصر الدين محمد بن سنقر، واستقر ابن سنقر أستادار الذخيرة والأملاك عوضا عن فرج المنتقل إلى نيابة الإسكندريّة.
ثم كتب السلطان للأمير تنم الحسنىّ نائب الشام بالقبض على الأمير شهاب الدين أحمد ابن الشيخ على نائب صفد وعلى الأمير جلبان الكمشبغاوى الظاهرى المعروف بقراسقل أتابك دمشق، فورد مرسوم السلطان على تنم وهو بالغور فاستدعى نائب صفد المذكور وقبض عليه، ثم قبض على الأمير جلبان المذكور وبعث بهما إلى قلعة دمشق فسجنا بها.
ورسم السلطان بنقل الأمير ألطنبغا العثمانى الظاهرى من حجوبيّة دمشق إلى نيابة صفد، ونقل الأمير بيخجا الشرفى المعروف بطيفور نائب غزة منها إلى حجوبية دمشق، ونقل ألطنبغا الظاهرىّ نائب الكرك كان إلى نيابة غزة.
ثم فى تاسع شعبان خلع السلطان على كمال الدين عمر بن العديم باستقراره قاضى قضاة حلب بسفارة الوالد.

(12/99)


ثم فى رابع عشرين شهر رمضان كتب السلطان بالإفراج عن الأمير شهاب الدين أحمد ابن الشيخ علىّ من محبسه بقلعة «1» دمشق واستقراره أتابك العساكر بها، عوضا عن الأمير جلبان قراسقل.
ثم فى سابع عشرينه أخرج الأمير علاء الدين علىّ بن الطبلاوى من خزانة شمائل وسلّم للأمير يلبغا المجنون الأستادار.
ثم قدم الخبر على السلطان بموت الأمير الكبير كمشبغا الحموىّ بسجن الإسكندرية، فابتهج السلطان بموته، ورأى أنه قد تمّ له أمره، فإنه آخر من بقى من اليلبغاويّة الأمراء.

(12/100)


وأصبح من الغد فى يوم الجمعة وهو أوّل شوّال، صلّى صلاة العيد بالميدان على العادة، ثم صلّى الجمعة بجامع القلعة «1» فتفاءل الناس بزوال السلطان، كونه خطب بمصر فى يوم واحد مرّتين.
قلت: وهذه القاعدة غير صحيحة، فإنّ ذلك وقع للملك الظاهر جقمق فى أوّل سنين سلطنته، ثم وقع ذلك فى سلطنة الملك الأشرف إينال.
ثم فى سادس شوّال أخرج ابن الطبلاوىّ علاء الدين منفيّا إلى الكرك ومعه نقيب واحد.
وفى يوم الثلاثاء خامس شوّال من سنة إحدى وثمانمائة، فيه كان ابتداء مرض السلطان الملك الظاهر برقوق وسببه أنّه ركب للعب الكرة بالميدان،

(12/101)


فلما فرغ منه قدم عليه عسل نخل ورد من كختا «1» ، فأكل منه ومن لحم بلشون «2» مشوىّ.
ثم دخل إلى مجلس أنسه وشرب مع ندمائه، فاستحال ذلك خلطا رديئا لزم منه «3» الفراش من ليلته.
ثم أصبح وعليه حمّى شديدة الحرارة، ثم تنوّع مرضه، وأخذ فى الزيادة من اليوم الثالث وليلة الرابع، وهو البحران «4» الأوّل، فأنذر عن السابع إنذارا رديئا لشدّة الحمى وضعف القوّة، حتى أيس منه، وأرجف بموته فى يوم السبت تاسعه، واستمرّ أمره فى الزيادة إلى يوم الأربعاء ثالث عشره، فقوى الإرجاف بموته، وغلّقت الأسواق، فركب الوالى ونادى بالأمان.
فلما أصبح يوم الخميس استدعى السلطان الخليفة المتوكل على الله وقضاة القضاة وسائر الأمراء وجميع أرباب الدولة، فحضر الجميع فى مجلس السلطان، فحدّثهم السلطان فى العهد لأولاده، وابتدأ «5» الخليفة بالحلف للأمير فرج ابن السلطان، وأنه هو السلطان بعد وفاة أبيه.
ثم حلف القضاة والأمراء وجميع أرباب الدولة، وتولى تحليفهم كاتب السرّ فتح الله، فلما تمّ الحلف للأمير فرج، حلفوا أن يكون القائم بعد فرج أخوه عبد العزيز، وبعد عبد العزيز أخوهما إبراهيم.

(12/102)


ثم كتبت وصيّة السلطان، فأوصى لزوجاته وسراريه وخدّامه بمائتى ألف دينار وعشرين ألف دينار، وأن يعمّر له تربة «1» بالصحراء خارج باب النصر «2» تجاه تربة «3»

(12/103)


الأمير يونس الدّوادار بثمانين ألف دينار، ويشترى بما فضل عن «1» عمارة التربة المذكورة عقار ليوقف عليها، وأن يدفن السلطان الملك الظاهر برقوق بها فى لحد تحت أرجل الفقراء: وهم الشيخ علاء الدين السيرامىّ الحنفىّ، والشيخ أمين الدين الخلواتى الحنفىّ، والمعتقد عبد الله الجبرتىّ، والمعتقد طلحة، والشيخ المعتقد أبو بكر البجائىّ، والمجذوب أحمد الزهورىّ، وقرّر أن يكون الأمير الكبير أيتمش هو القائم بعده بتدبير ابنه فرج، وأن يكون «2» وصيّا على تركته ومعه تغرى بردى بن «3» بشبغا أمير السلاح، أعنى عن الوالد، والأمير بيبرس الدوادار ابن أخت السلطان بعدهما، ثم الأمير قطلوبغا الكركىّ أحد أمراء العشرات، ثم الأمير يلبغا السالمىّ أحد أمراء العشرات أيضا، ثم سعد الدين إبراهيم بن غراب، وجعل الخليفة ناظرا على الجميع.
ثم انفضّ المجلس ونظر الأمراء بأسرهم فى خدمة الأمير الكبير أيتمش البجاسىّ إلى منزله، فوعد الناس أنه يبطل المظالم وأخذ البراطيل على المناصب والولايات.
وأكثر السلطان فى مرضه من الصدقات، فبلغ ما تصدّق به فى هذا المرض أربعة عشرة ألف دينار وتسعمائة دينار وتسعة «4» وتسعين دينارا، وأخذ فى النزع من بعد الظهر إلى أن مات السلطان الملك الظاهر برقوق من ليلته بعد نصف الليل.
وهى ليلة الجمعة خامس عشر شوّال، وقد تجاوز ستّين سنة من العمر، بعد أن حكم على الديار المصرية والممالك الشامية أميرا كبيرا مدبرا وسلطانا إحدى وعشرين سنة وسبعة وخمسين يوما، منها تحكّمه بديار مصر، بعد مسك الأمير الكبير طشتمر العلائىّ الدوادار أربع سنين وتسعة أشهر وعشرة أيام، وكان يسمّى إذ ذاك بالأمير

(12/104)


الكبير نظام الملك، ومنذ تسلطن سلطنته الأولى فى يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمائة إلى أن خلع واختفى فى واقعة الناصرى ومنطاش فى سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، ست سنين وثمانية أشهر وسبعة عشر يوما، وتسلطن عوضه الملك المنصور حاجّىّ ابن الملك الأشرف شعبان بن حسين، ودام مخلوعا محبوسا، ثم خارجا بالبلاد الشامية ثمانية أشهر وستة عشر يوما، وأعيد إلى السلطنة ثانيا، فمن يوم أعيد إلى سلطنته ثانية إلى أن مات فى ليلة الجمعة المذكورة تسع سنين وثمانية أشهر، وتسلطن من بعده ابنه الملك الناصر فرج وجلس على تخت الملك حسبما يأتى ذكره فى سلطنته.
ثم أخذ الأمراء فى تجهيز السلطان الظاهر برقوق- رحمه الله- وغسّل وكفّن، وصلّى عليه بالقلعة قاضى القضاة صدر الدين المناوى، وحمل نعشه سائر الأمراء على أعناقهم إلى تربته، فدفن بها- حيث أوصى- على قارعة الطريق، ولم يكن بذلك المكان يوم ذاك حائط، ودفن قبل صلاة الجمعة، ونزل أمام نعشه سائر الأمراء وأرباب الدولة مشاة يصيحون ويصرخون بالبكاء والعويل، وقد امتلأت طرق الصحراء بالجوارىّ والنساء السّبيات «1» الحاسرات منشّرات الشعور من حرم مماليكه وحواشيه، فكان يوما فيه عبرة لمن اعتبر، ولم يعهد قبله أحد من ملوك مصر دفن نهارا غيره، وضربت الخيام على قبره، وقرئ القرآن أياما، ومدّت لهم الأسمطة العامة الهائلة، وتردّدت أكابر الدول فى كل ليلة إلى قبره عدّة أيام وكثر أسف الناس عليه.

(12/105)


قلت: وهو أوّل من ولى السلطنة من الجراكسة بالديار المصرية بعد الملك المظفّر بيبرس الجاشنكير، على خلاف فى بيبرس، وهو القائم بدولة الجراكسة، وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه فى أوّل ترجمته.
وخلّف من الأولاد ثلاثة ذكور: الملك الناصر فرجا، وأمه أمّ ولد رومية تسمّى: «شيرين» وهى بنت عمّ الوالد، وقيل: أخته، وماتت فى سلطنة ابنها الملك الناصر فرج. وعبد العزيز، وأمّه أمّ ولد أيضا تركيّة الجنس، تسمّى قنق باى، ماتت فى سنة خمس وثلاثين وثمانمائة، وإبراهيم، وأمّه خوند بركة، ماتت فى أواخر دولة الملك الأشرف برسباى.
وخلّف أيضا ثلاث بنات: خوند سارة وأمّها أمّ ولد، تزوّجها الأمير نوروز الحافظىّ، ثم مقبل الرومىّ، وماتت فى سنة ست عشر وثمانمائة بطريق دمشق، رخوند بيرم وأمّها خوند هاجر بنت منكلى بغا الشمسىّ، تزوجها إينال باى بن قجماس، وماتت بالطاعون فى سنة تسع عشرة وثمانمائة وخوند زينب، وأمّها أمّ ولد، تزوجها الملك المؤيّد شيخ، ثم من بعده الأتابك قجق، وماتت فى حدود سنة ثلاثين وثمانمائة.
وخلّف فى الخزانة وغيرها من الذّهب العين ألف ألف دينار وأربعمائة ألف دينار، ومن الغلال والقنود «1» والأعسال والسكّر والثياب وأنواع الفرو ما قيمته أيضا ألف ألف دينار وأربعمائة ألف دينار.
وخلّف من الخيل نحو ستّة آلاف فرس، ومن الجمال نحو خمسة آلاف جمل، ومن البغال وحمير التراب عدّة كبيرة.

(12/106)


وبلغت عدّة مماليكه المشتروات خمسة آلاف مملوك، وبلغت جوامك «1» مماليكه فى كل شهر نحو أربعمائة ألف درهم فضة، وعليق خيولهم فى الشهر ثلاثة عشر ألف إردب شعير، وعليق خيوله بالإسطبل «2» السلطانى وغيره، وجمال النّفر وأبقار السواقى وحمير التراب فى كل شهر أحد عشر ألف إردب من الشعير والفول.
وكان ملكا جليلا حازما شهما شجاعا مقداما صارما فطنا عارفا بالأمور والوقائع والحروب، ومما يدل على فرط شجاعته وثوبه على الملك وهو من جملة أمراء الطبلخانات، وتملّكه الديار المصرية من تلك الشجعان، وما وقع له مع الناصرىّ ومنطاش عند خلعة من السلطنة كان خذلانا من الله تعالى (ليقضى الله أمرا كان مفعولا) ، وما وقع له بعد خروجه من حبس الكرك «3» ، فهو من أكبر الأدلة على شجاعته وإقدامه.
وكان- رحمه الله- سيوسا عاقلا ثبتا، وعنده شهامة عظيمة ورأى جيّد ومكر شديد وحدس صائب، وكان يتروّى فى الشيء المدّة الطويلة حتى يفعله، ويتأنّى فى أموره، مع طمع كان فيه وشره فى جمع المال، وكان يحب الاستكثار

(12/107)


من المماليك، ويقدّم جنس المماليك الجراكسة على غيره، ثم ندم على ذلك فى أواخر عمره، بعد فتنة علىّ باى.
وكان يحب اقتناء الخيول والجمال، وكان يتصدّى للأحكام بنفسه ويباشر أحكام المملكة برأيه وتدبيره، فيصيب فى غالب أموره، على أنه كان كثير المشورة لأرباب التجارب، يأخذ رأيهم فيما يفعله، ثم يقيس رأيهم على حدسه، فيظهر له ما يفعله.
وكان يحب أهل الخير والصلاح، وله اعتقاد جيّد فى الفقراء والصّلحاء، وكان يقوم للفقهاء والصلحاء إذا دخل عليه أحد منهم، ولم يكن يعهد هذا من ملك كان قبله من ملوك مصر، على أنه صار يعض من الفقهاء فى سلطنته الثانية، من أجل أنهم أفتوا فى قتاله وقتله، لاسيما القاضى ناصر الدين ابن بنت ميلق، فإنه كان كثير الاعتقاد فيه، ومع شدّة حنقه عليهم كان لا يترك إكرامهم.
وكان كثير الصّدقات والمعروف، أوقف ناحية بهتيت «1» على سحابة «2» تسير مع الحج إلى مكة فى كلّ سنة، ومعها جمال تحمل المشاة من الحاج وتصرف لهم ما يحتاجون

(12/108)


إليه من الماء والزاد ذهابا وإيابا، ووقف أيضا أرضا على قبور «1» إخوة يوسف عليه السلام بالقرافة «2» ، وكان يذبح دائما فى طول أيام إمارته وسلطنته فى كلّ يوم من أيام شهر رمضان خمسا وعشرين بقرة، يتصدّق بها بعد ما أن تطبخ، ومعها آلاف من أرغفة الخبز النّقى، تفرّق على أهل الجوامع والمساجد والرّبط «3» وأهل السجون، لكل إنسان رطل لحم مطبوخ، وثلاثة أرغفة، وهذا، غير ما كان يفرّق فى الزوايا من اللحم أيضا، فإنه كان يعطى لكل زاوية خمسين رطلا من اللحم الضأن، وعدّة أرغفة فى كل يوم، وفيهم من يعطى أكثر من ذلك بحسب حالهم وكان يفرق فى كل سنة فى أهل العلم والصلاح مائتى ألف درهم، الواحد إلى مائة دينار، وكان يفرّق فى فقراء القرافتين «4» لكل فقير من دينار إلى أكثر وأقلّ، ويفرّق فى كل سنة ثمانية آلاف إردب قمحا على أهل الخير وأرباب الصلاح.
ويبعث فى كل سنة إلى بلاد الحجاز ثلاثة آلاف إردب قمحا، تفرّق فى الحرمين وفرّق فى مدة الغلاء كلّ يوم أربعين إردبا؛ عنها ثمانية آلاف رغيف، فلم يمت فيه أحد من الجوع.

(12/109)


وكان غير هذا كلّه يبعث فى كل قليل بجملة من الذهب تفرّق فى الفقهاء والفقراء، حتى إنه تصدّق مرة بخمسين ألف دينار مصرية على يد خازنداره العبد الصالح الطواشى صندل المنجكى الرومىّ.
وأبطل عدّة مكوس: منها ما كان يؤخذ من أهل شورى «1» وبلطيم «2» من البرلّس «3» ، وكانت شبه الجالية «4» فى كل سنة. قلت: أعيد ذلك فى سلطنة الملك الظاهر جقمق.
وأبطل ما كان يؤخذ على القمح بثغردمياط «5» عما تبتاعه الفقراء وغيرهم.

(12/110)


وأبطل مكس معمل الفراريج بال؟؟؟ ريرية «1» وما معها من بلاد الغربية، وأبطل مكس الملح بعينتاب «2» ، ومكس الدقيق بالبيرة «3» ، وأبطل من طرابلس»
ما كان مقرّرا على قضاة البرّ وولاة الأعمال عند قدوم النائب إليها، وهو مبلغ خمسمائة درهم على كلّ منهم، أو بغلة بدل ذلك.
وأبطل ما كان يؤخذ على الدّريس والحلفاء بباب النصر خارج القاهرة.

(12/111)


وأبطل ضمان المغانى بمدينة الكرك «1» والشّوبك «2» ، وبمنية «3» ابن خصيب، وأعمال الأشمونين «4» وزفتة «5» ومنية غمر «6» .

(12/112)


وأبطل رمى الأبقار بعد الفراغ من عمل الجسور بأراضى مصر على البطّالين بالوجه البحرىّ.
وأنشأ بالقاهرة مدرسته التى لم يعمر مثلها ببين القصرين، ورتّب لها صوفية بعد العصر كلّ يوم، وجعل بها سبعة دروس لأهل العلم على المذاهب الأربعة أعظمهم بالإيوان القبلىّ الحنفى، ثم درسا للتفسير، ودرسا للحديث، ودرسا للقراءات. وأجرى على الجميع فى كلّ يوم الخبز ولحم الضّأن المطبوخ، وفى الشهر الحلوى والزيت والصابون والدراهم، ووقف على ذلك الأوقاف الجليلة من الأراضى والدّور ونحوها.
وعمّر جسرا على نهر الأردن «1» بالغور فى طريق دمشق «2» ، طوله مائة وعشرون ذراعا فى عرض عشرين ذراعا، وجدّد خزائن السلاح بثغر الإسكندرية، وسور

(12/113)


دمنهور «1» ، وعمّر جبال الشرقية بالفيوم «2» ، وزاوية البرزخ بدمياط «3» ، وقناة العرّوب بالقدس، وبنى أيضا بركة بطريق الحجاز، وبركة أخرى برأس وادى بنى سالم

(12/114)


وجدّد عمارة القناة التى تحمل ماء النيل إلى قلعة الجبل، وجدّد عمارة الميدان من تحت القلعة، بعد ما كان خرب، وسقاه وزرع به الفرط، وغرس فيه النخل، وعمر صهريجا ومكتبا يقرأ فيه أيتام المسلمين القرآن الكريم بقلعة الجبل، وجعل عليه وقفا، وعمّر أيضا بالقلعة طاحونا، وعمر أيضا سبيلا تجاه باب دار الضيافة تجاه القلعة.
وخطب له على منابر تبريز «1» ، عند ما أخذها قرا محمد التّركمانى، وضربت الدنانير والدراهم فيها باسمه وخطب له على منابر الموصل «2» من العراق، وعلى منابر ماردين «3» بديار بكر، ومنابر سنجار «4» ، وخرب عساكره مدينة دوركى «5» وأرزن «6» كان من أرض الروم.
وكان نائبه بالديار المصرية الأمير سودون الفخرىّ الشيخونىّ إلى أن مات سودون المذكور، فلم يستنب الملك الظاهر أحدا بعده.
وكانت نوّابه بدمشق «7» (أعنى الذين تولوا فى أيام سلطنته) : الأمير بيدمر الخوارزمى، وإشقتمر الماردينىّ، وألطنبغا الجوبانىّ غير مرة، وطرنطاى السيفىّ،

(12/115)


ويلبغا الناصرى صاحب الوقعة معه، وبطا الطّولوتمرىّ الظاهرىّ المعروف بتنم، ومات الملك الظاهر وهو على نيابتها.
ونوّابه بحلب «1» : يلبغا الناصرىّ غير مرّة، وسودون المظفّرىّ وكمشبغا الحموىّ وقرادمرداش الأحمدىّ وجلبان الكمشبغاوىّ الظاهرىّ قراسقل وتغرى بردى من بشبغا الظاهرىّ (أعنى الوالد) وأرغون شاه الإبراهيمى الظاهرىّ وآقبغا الجمالى الظاهرىّ الأطروش، ومات السلطان وهو على نيابتها.
ونوّابه بطرابلس «2» مأمور القلمطاوىّ اليلبغاوىّ وكمشبغا الحموىّ اليلبغاوىّ وأسندمر السيفىّ، وقرا دمرداش الأحمدىّ اليلبغاوىّ، وإينال بن خجا على، وإياس الجرجاوى، ودمرداش المحمدىّ الظاهرىّ، وأرغون شاه الإبراهيمىّ الظاهرىّ، وآقبغا الجمالىّ الظاهرىّ الأطروش، ويونس بلطا الظاهرىّ، ومات الملك الظاهر وهو على نيابتها.
ونوّابه بحماة «3» : صنجق الحسنىّ، وسودون المظفّرىّ وسودون العلائىّ، وسودون العثمانىّ، وناصر الدين محمد بن المهمندار، ومأمور القلمطاوىّ اليلبغاوىّ، ودمرداش المحمدىّ الظاهرىّ وليها مرّتين، وآقبغا السلطانىّ، ويونس بلطا الظاهرى، ثم دمرداش المحمدى، ومات برقوق وهو على نيابتها.

(12/116)


ونوّابه بصفد «1» : أركماس السيفىّ، وبتحاص السّودونىّ، وارغون شاه الإبراهيمى الظاهرىّ وآقبغا الجمالىّ الأطروش الظاهرىّ، وأحمد ابن الشيخ علىّ، وألطنبغا العثمانىّ الظاهرىّ، ومات الملك الظاهر وهو على نيابتها.
ونوّابه بالكرك: «2» طغاى تمر القبلائى، ومأمور القلمطاوىّ، اليلبغاوى، وقديد القلمطاوىّ اليلبغاوىّ، ويونس القشتمرى، وأحمد ابن الشيخ على، وبتخّاص السّودونىّ، ومحمد بن مبارك شاه المهندار، وألطنبغا الحاجب، وسودون الظريف الظاهرىّ الشمسىّ، ومات السلطان وهو على نيابتها.
ونوّابه بغزّة «3» : قطلوبغا الصّفوىّ وآقبغا الصغير، ويلبغا القشتمرى، وألطنبغا العثمانى الظاهرىّ، وبيخجا الشرفىّ المدعو طيفور، وألطنبغا الحاجب، ومات الملك الظاهر وهو على نيابتها.
ذكر قضاته بالديار المصرية
فالشافعية: برهان الدين إبراهيم بن جماعة، وبدر الدين محمد بن أبى البقاء، وناصر الدين محمد بن بنت ميلق، وعماد الدين أحمد المقيّرى الكركىّ. وصدر الدين محمد المناوى، وتقىّ الدين عبد الرحمن الزّبيرى، ثم المناوى ثالث مرة، ومات السلطان وهو قاض.

(12/117)


والحنفيّة: صدر الدين محمد بن منصور الدّمشقى، وشمس الدين محمد الطرابلسى ومجد الدين إسماعيل بن إبراهيم، وجمال الدين محمود القيصرىّ العجمىّ، وجمال الدين يوسف الملطىّ ومات الملك الظاهر وهو قاض.
والمالكية: جمال الدين عبد الرحمن بن خير السّكندرىّ، ثمّ ولىّ الدّين عبد الرحمن بن خلدون، وشمس الدين محمد الرّكراكىّ المغربى، وشهاب الدين أحمد النحريرىّ، وناصر الدين أحمد بن التّنسىّ، ثم ابن خلدون، ومات الملك الظاهر وهو قاض.
والحنابلة: نصر الدين نصر الله العسقلانىّ، ثم ابنه برهان الدين إبراهيم، ومات السلطان وهو قاض.
وأما أصحاب وظائفه من أكابر أمراء مصر فلم يضبطهم أحد من مؤرّخى ملك العصر، واكتفوا بذكرهم عند ولاية أحدهم أو عزله أو موته، إن كانوا فعلوا ذلك.
ذكر مباشرى دولته، أستاداريّته: بهادر المنجكىّ، ثم محمود بن على بن أصفر عينه. ثم قرقماس الطّشتمرىّ، ثم عمر بن محمد بن قايماز، ثم قطلوبك العلائى، ثم يلبغا الأحمدى المجنون، ثم محمد بن سنقر، ثم يلبغا المجنون، ومات السلطان وهو على وظيفته.
ووزراؤه بديار مصر: علم الدين عبد الوهاب المعروف بسنّ إبرة، وشمس الدين إبراهيم بن كاتب أرنان، وعلم الدين عبد الوهاب بن كاتب سيّدى، وكريم الدين عبد الكريم بن الغنّام، وموفّق الدين أبو الفرج، وسعد الدين نصر الله بن البقرىّ، وناصر الدين محمد بن الحسام، وركن الدين عمر بن قايماز، وتاج الدين عبد الرحيم ابن أبى شاكر، وناصر الدين محمد بن رجب بن كلبك، ومبارك شاه، وبدر الدين

(12/118)


محمد بن الطّوخىّ، وتاج الدين عبد الرزاق بن أبى الفرج، ومات السلطان وهو وزير.
وكتّاب سره: القاضى بدر الدين محمد بن فضل الله، وأوحد الدّين عبد الواحد، وعلاء الدين على المقيّرى الكركىّ، ثم ابن فضل الله ثانيا، ثم بدر الدين محمود الكلستانىّ، وفتح الدّين فتح الله، ومات السلطان وهو كاتب سرّه.
ونظار جيشه: تقىّ الدين عبد الرحمن بن محبّ الدين، وموفّق الدين أبو الفرج وجمال الدين محمود القيصرىّ العجمىّ، وكريم الدين عبد الكريم بن عبد العزيز، وشرف الدين محمد الدّمامينى، وسعد الدين إبراهيم بن غراب، ومات السلطان هو ناظر الجيش.
ونظّار خاصّه: سعد الدين نصر الله بن البقرىّ، وموفّق الدين أبو الفرج، وسعد الدين أبو الفرج بن تاج الدين موسى كاتب السعدى، وسعد الدين بن غراب، ومات السلطان وهو ناظر الجيش والخاص معا، والله تعالى أعلم.
السنة الأولى من سلطنة الملك الظاهر برقوق الثانية على مصر، وهى سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة، على أن الملك المنصور حاجّى بن الملك الأشرف شعبان حكم منها ثمانية أشهر وسبعة أيام من يوم سلطنته إلى يوم طلوع الملك الظاهر برقوق إلى قلعة الجبل «1» .
فيها توفّى الأمير سيف «2» الدين آقبغا بن عبد الله الجوهرىّ اليلبغاوىّ، كان من أكابر اليلبغاويّة وتولّى الأستادارية وحجوبيّة الحجّاب كليهما بديار مصر، ووقع له

(12/119)


أمور، وهو أحد من أخرجه الملك الظاهر من حبس منطاش بالإسكندرية، وندبه فيمن ندب من الأمراء لقتال منطاش، فقتل فى وقعة حمص «1» عن بضع وخمسين سنة. وكان أميرا جليلا عارفا يذاكر بمسائل جيّدة فقهيّة وغيرها فى عدّة فنون مع حدّة مزاج.
وتوفّى الأمير سيف الدين أردبغا بن عبد الله العثمانىّ اليلبغاوى أحد أمراء الطبلخانات قتيلا أيضا فى وقعة منطاش، وكان من كبار اليلبغاويّة.
وتوفّى الأمير علاء الدين ألطنبغا بن عبد الله الجوبانىّ اليلبغاوى نائب الشام قتيلا فى واقعة منطاش، وقد تقدّم ذكر موته وكيفيّة قتله فى أوائل سلطنة الملك الظاهر برقوق الثانية، وكان من عظماء المماليك اليلبغاوية، ولّاه الملك الظاهر فى سلطنته الأولى أمير مجلس، ثم ولّاه نيابة الكرك، ثم نقله إلى نيابة الشام، ثم قبض عليه وحبسه إلى أن أخرجه الناصرىّ بعد خلع الملك الظاهر برقوق وحبسه، فولّاه الناصرىّ رأس نوبة الأمراء إلى أن أمسكه منطاش وحبسه بالإسكندرية ثانيا، حتى أخرجه الملك الظاهر برقوق فيمن أخرجه بعد عوده إلى سلطنة مصر، وولّاه نيابة الشام، وندبه لقتال منطاش فتوجّه وقاتله، وقتل فى الواقعة، وتولّى الناصرىّ نيابة الشام بعده، ومات الجوبانى وقد قارب الخمسين سنة من العمر، وكان حشما فخورا معظّما فى الدول متجمّلا فى مركبه ومماليكه ولبسه، وعنده سياسة وأدب ومعرفة، رحمه الله تعالى.

(12/120)


وتوفّى الأمير سيف الدين قازان اليرقشى «1» أحد أمراء الطبلخانات بالديار المصرية، وكان من حواشى الناصرى، قتل فى واقعة منطاش على حمص، وقبل أن يخرج منطاش بالملك المنصور من مصر لقتال الملك الظاهر برقوق لمّا خرج من سجن الكرك، أمر والى الفيّوم فى الباطن بقتل جماعة كبيرة من الأمراء ممن كان بحبس الفيوم، ثم سافر منطاش، وبعد سفره بأيّام قدم محضر مفتعل من كاشف الفيوم:
أنه لمّا كان يوم الجمعة حادى عشرين جمادى الآخرة سقط على الأمراء المسجونين حائط سجنهم فماتوا جميعا، فعظم ذلك على الناس إلى الغاية، كونهم من أكابر الأمراء وأعيان الدولة، وهم: الأمير تنكز العثمانى اليلبغاوى أحد أمراء الطبلخانات بالديار المصرية، وكان من الشجعان، وتمان تمر الأشرفىّ نائب بهنسا «2» وكان من أكابر المماليك الأشرفيّة، وهو من خشداشيّة منطاش، لكنه كان من حزب الناصرىّ، وتمرباى الحسنى الأشرفى حاجب الحجاب بالديار المصرية ومن أجلّ المماليك الأشرفية، وهو حمو الوالد وكان من الشجعان، وجمق الكمشبغاوى أحد أعيان أمراء مصر والشام، وكان من حزب الناصرى، وتمر الجركتمرىّ أحد أمراء الطبلخانات بالديار المصرية، وكان من حزب الملك الظاهر برقوق، وقطلوبغا الأحمدىّ اليلبغاوىّ أحد أمراء العشرات بالقاهرة، وعيسى التّركمانى أحد أمراء الطبلخانات بمصر، وقد ولى عدّة أعمال، وقرابغا البو بكرى أمير مجلس وأحد مقدّمى الألوف بالديار المصرية، وقرقماش الطّشتمرىّ أستادار العالية والخازندار، والدوادار الكبير بالديار المصرية، تنقّل فى جميع هذه الوظائف وغيرها، وكان أوّلا من حزب

(12/121)


الظاهر، ثم صار من بعد خلعه من حزب يلبغا الناصرىّ، ويونس الإسعردى الرمّاح الظاهرى أحد أمراء الطبلخانات لم يكن فى المماليك الظاهريّة من يضاهيه فى حسن الشّكالة ولا فى لعب الرّمح، قتل الجميع فى يوم واحد حسب ما ذكرناه.
وتوفّى الأمير سيف الدين مأمور بن عبد الله القلمطاوى اليلبغاوى فى واقعة حمص أيضا وكان ولى نيابة الكرك، وتقدمة ألف بديار مصر، وحجوبية الحجاب بها، ثم ولّاه الملك الظاهر فى سلطنته الثانية نيابة حماة «1» ، فقتل وهو على نيابة حماة، وكان من أجلّ المماليك اليلبغاوية وأعيان أمراء مصر، وهو زوج بنت أستاذه الأتابك يلبغا التى خدمت الملك الظاهر برقوقا لمّا حبس بالكرك «2» .
وتوفّى الشيخ المعتقد الصالح علىّ المغربل فى خامس جمادى الأولى، ودفن بزاويته خارج القاهرة بحكر الزرّاق وكان للناس فيه اعتقاد حسن ويقصد للزيارة.
وتوفّى الشيخ المعتقد الصالح محمد الفاوىّ فى ثامن جمادى الأولى ودفن خارج باب النصر، وكان خيّرا معتقدا.
وتوفّى الشيخ المقرئ شمس الدين محمد المعروف بالرفاء «3» فى سابع جمادى الأولى.
وتوفّى الأديب الشاعر شمس الدين محمد بن إسماعيل الإفلاتىّ فى سادس جمادى الأولى.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع ونصف، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وإصبعان. والوفاء حادى عشر مسرى. والله تعالى أعلم.

(12/122)


[ما وقع من الحوادث سنة 793]
السنة الثانية من سلطنة الملك الظاهر برقوق الثانية على مصر وهى سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة.
فيها توفّى الأمير شهاب الدين أحمد ابن الأمير الكبير الحاج آل ملك الجوكندار فى يوم الأحد ثانى عشرين جمادى الآخرة.
وتوفّى قاضى القضاة شهاب الدين أبو العباس أحمد بن عمر بن مسلم بن سعيد ابن بدر القرشىّ الدمشقى الشافعى قاضى قضاة دمشق بخزانة «1» شمائل، بعد عقوبات شديدة فى ليلة الأحد «2» تاسع شهر رجب، وكان غير مشكور السّيرة، مسرفا على نفسه، وهو ممن قام على الملك الظاهر برقوق بدمشق، وحرّض العامّة على قتاله وقد مرّ من ذكره ما فيه غنية عن ذكره ثانيا.
وتوفّى الأمير حسام الدين حسين بن علىّ بن الكورانىّ أحد أمراء الطبلخانات ووالى القاهرة مخنوقا بخزانة شمائل بعد عقوبات كثيرة، فى عاشر شعبان، وكان غير مشكور السيرة وفيه ظلم وجبروت، قتل من الزّعر فى أيام ولايته خلائق لا تدخل تحت حصر.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم العلّامة جلال الدين جلال بن رسول «3» بن أحمد بن يوسف العجمىّ الثّيرىّ «4» التّبّانىّ الحنفىّ خارج القاهرة فى يوم الجمعة ثالث [عشر «5» ]

(12/123)


شهر رجب، والتّبانىّ نسبة إلى سكنه، موضع خارج القاهرة بالقرب من باب الوزير، يقال له: التبّانة «1» ، وكان إماما عالما بفنون كثيرة، أفتى وأقرأ ودرّس عدّة سنين، وعرض عليه قضاء مصر فامتنع عفّة منه. وله مصنفات كثيرة: منها «شرح المنار» فى أصول الفقه، و «شرح مختصر ابن الحاجب» وخرّج أيضا «مختصر التلويح فى شرح الجامع الصحيح» للحافظ مغلطاى، وله «منظومة فى الفقه» ، وشرحها فى أربع مجلدات، وله «مختصر فى ترجيح الإمام أبى حنيفة» ، وله تعليق على البزدوى ولم يكمله، وشرح كتبا كثيرة غير ذلك، وأصله من بلدة بالروم يقال لها: ثيرة بكسر (الثاء المثلثة) وسكون الياء آخر الحروف.
وتوفّى الشيخ المعتقد الصالح على الروبىّ فى رابع ذى الحجة، وكان للناس فيه اعتقاد ويقصد للزيارة للتبرك به.
وتوفّى قاضى القضاة شمس الدين محمد بن يوسف الرّكراكىّ المالكىّ قاضى قضاة الديار المصرية وهو قاض بحمص «2» ، فى رابع عشر شوّال، وقد تجرّد صحبة السلطان، وكان عالما ديّنا مشكور السّيرة.
وتوفّى شيخ الخانقاه «3» الصلاحيّة سعيد السعداء شهاب الدين أحمد بن الأنصارى الشافعى فى عاشر ذى القعدة.

(12/124)


وتوفّى قاضى قضاة الحنابلة بدمشق الشيخ شرف الدين عبد القادر بن شمس الدين محمد بن عبد القادر الحنبلى النابلسى الدمشقى فى عيد الأضحى بدمشق، وكان فقيها فاضلا، أفتى ودرّس.
وتوفّى القاضى «1» فتح الدين أبو بكر محمد ابن القاضى عماد الدين أبى إسحاق إبراهيم ابن محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن أبى الكرم محمد الدّمشقى الشافعى المعروف بابن الشّهيد كاتب سرّ دمشق قتيلا بخزانة «2» شمائل، فى ليلة الثلاثاء تاسع عشرين شعبان، وكان ممن خرج على الملك الظاهر برقوق ووافق منطاشا، وحرّض على قتال برقوق، وقد مرّ من ذكره نبذة كبيرة عند حضوره إلى القاهرة مع جنتمر نائب دمشق وابن القرشى قاضى دمشق وغيرهما، وكان فتح الدين رئيسا فاضلا بارعا فى الأدب والترسّل، مشاركا فى فنون كثيرة، ماهرا فى التفسير، مليح الخطّ، وله مصنفات، منها: أنه نظم السّيرة النبوية لابن هشام، فى مسطور مرجّز، وجملتها خمسون ألف بيت، ولمّا ولى كتابة سرّ دمشق، قال فيه بدر الدين ابن حبيب: (السريع)
كتابة السرّ علا قدرها ... بابن الشهيد الألمعىّ «3» الأديب
وكيف لا تعلو وقد جاءها ... (نصر من الله وفتح قريب)
ومن شعر القاضى فتح الدين هذا- رحمه الله- قوله: (الوافر)

(12/125)


مدير الكأس حدّثنا ودعنا ... بعيشك عن كؤوسك والحثيث «1»
حديثك عن قديم الراح «2» يغنى ... فلا تسق الأنام سوى الحديث
وله: (الكامل)
قاسوا حماة «3» بجلّق «4» فأجبتهم ... هذا قياس باطل وحياتكم
فعروس جامع جلّق ما مثلها ... شتان بين عروسنا وحماتكم
وله فى عين بعلبك «5» - رحمه الله- (الكامل)
ولقد أتيت لبعلبكّ فشاقنى ... عين بها روض النعيم منعّم
فلأهلها من أجلها أنا مكرم ... ولأجل عين ألف عين تكرم
وتوفى الأمير الكبير يلبغا بن عبد الله الناصرىّ اليلبغاوىّ قتيلا بقلعة حلب «6» ، وهو صاحب الوقعة مع الملك الظاهر برقوق التى خلع الملك الظاهر فيها من الملك وحبس بالكرك «7» ، وكان أصله من أكابر مماليك يلبغا العمرى أستاذ برقوق، وتولّى فى أيام أستاذه يلبغا إمرة طبلخاناه، ثم صار أمير مائة ومقدّم ألف بالقاهرة فى دوله الملك الأشرف شعبان، وكان معه فى العقبة «8» ، ثم ملك باب السلسلة «9» من الإسطبل

(12/126)


السلطانىّ، كلّ ذلك وبرقوق لم يتأمّر إلّا من نحو شهر واحد، ثم وقع له أمور وحبس ونفى إلى البلاد الشامية على إمرة مائة وتقدمة ألف بدمشق حتى ولى نيابة حلب عن المنصور علىّ، ثم عن أخيه، ثم عن الملك الظاهر برقوق، ثم أطلقه وولّاه نيابة حلب ثانيا، فعصى بعد مدّة ووافق منطاش، وقهر الظاهر برقوقا وخلعه من السلطنة وحبسه بالكرك ورشّح إلى سلطنة مصر، فامتنع غاية الامتناع وسلطن الملك الصالح حاجيّا ثانيا ولقبّه بالمنصور، وصار هو مدبّر مملكته، وحكم مصر إلى أن خرج عليه منطاش وكسره وقبض عليه وحبسه بسجن الإسكندرية «1» ، إلى أن أفرج عنه الملك الظاهر برقوق لما خرج من حببس الكرك وكسر منطاش وتسلطن ثانيا، فأخرجه ولم يؤاخذه، وندبه لقتال منطاش ثم ولّاه نيابة الشام بعد قتل الجوبانى ثم قبض عليه فى هذه السنة، وقتله بقلعة حلب ليلته هو وكشلى أمير آخوره والأمير محمد بن المهمندار نائب حماة، وقد تقدّم ذلك كله مفصلا فى ترجمة الملك الظاهر برقوق الأولى والثانية، وترجمة المنصور حاجّى، فإنه كان فى الحقيقة هو السلطان، وحاجى له الاسم لا غير، فيكتفى بما وقع من ذكره هناك، ولا حاجة للإعادة هنا.
وكان يلبغا الناصرىّ من أجلّ الملوك عفّة وصيانة، ولى مصر وخلع الملك الظّاهر، وولى الملك المنصور، ولم يقتل أحدا صبرا «2» غير واحد يسمّى سودون من مماليك الظاهر، ويكفيه من عفته عن سفك الدماء عدم قتله للملك الظاهر برقوق بعد أن أشار عليه جميع أصحابه بقتله وكان مذهبى فيه أنّ الملك الظاهر برقوقا لا يقتله

(12/127)


أبدا، بل إذا ظهر منه ما يخيفه يحبسه إلى أن يموت مراعاة لما سبق له من المنّ عليه لمّا خلعه من الملك والسلطنة وحبسه ولم يقتله. انتهى.
[ما وقع من الحوادث سنة 794]
السنة الثالثة من سلطنة الملك الظاهر برقوق «الثانية على مصر» ، وهى سنة أربع وتسعين وسبعمائة. وفيها توفّى الشيخ الأديب شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن على الدّنيسرىّ «1» المعروف بابن العطار الشاعر المشهور فى سادس عشر شهر ربيع الآخر، وقد مرّ من شعره نبذة كثيرة فى عدّة مواطن، ومن نظمه المشهور فى الأقباط قوله: (السريع)
قالوا ترى الأقباط قد رزقوا ... حظا واضحوا كالسلاطين
وتملّكوا الأتراك قلت لهم: ... رزق الكلاب على المجانين
وتوفّى الأمير الكبير إينال بن عبد الله اليوسفىّ اليلبغاوىّ أتابك العساكر بالديار المصرية بها فى رابع عشرين جمادى الآخرة، وتولّى الأتابكية من بعده الأمير كمشبغا الحموى اليلبغاوى، على أن كمشبغا كان يجلس فى الخدمة تحت «2» إينال المذكور، وكان إينال شجاعا مقداما، وقد تقدم ركوبه على الملك الظاهر برقوق قبل سلطنته والقبض عليه وحبسه مدّة إلى أن أخرجه برقوق إلى بلاد الشام وصار بها أميرا، ثم نقله إلى عدّة ولايات إلى أن ولّاه نيابة حلب، ثم عزله فى سلطنته الأولى عن نيابة حلب، وجعله أتابك دمشق، ثم ولّاه نيابة حلب بعد عصيان الناصرىّ، فلم يتم له ذلك، وخرج إينال أيضا على الظاهر، ووافق الناصرىّ، فلمّا ملك الناصرىّ مصر ولّاه نيابة صفد «3» ، ووقع له أمور حتى ولّاه الملك الظاهر برقوق

(12/128)


أتابكية العساكر بالديار المصرية فى سلطنته الثانية، فدام على ذلك إلى أن مات فى التاريخ المذكور، وقد تقدّم ذكر إينال هذا فى عدّة تراجم من هذا الكتاب، فيها كفاية عن التعريف بحاله.
وتوفّى الأمير سيف الدين بطا بن عبد الله الطولوتمرىّ الظاهرىّ نائب الشام بها، بعد أن ولى نيابة الشام أياما قليلة، فى حادى عشرين المحرم؛ وقد ذكرنا أمر بطا هذا فى أواخر ترجمة الملك المنصور، وكيفية خروجه من سجن القلعة؛ وكيف ملك باب «1» السلسلة من صراى تمر نائب غيبة منطاش، وإقامته بباب السلسلة إلى أن قدم أستاذه الملك الظاهر برقوق إلى الديار المصرية، وولّاه الدوادارية الكبرى، ثم ولاه نيابة دمشق بعد القبض على الأتابك يلبغا الناصرى، فلم تطل أيامه، ومات، وكان من أعيان المماليك الظاهرية، واتّهم الملك الظاهر فى أمره أنه اغتاله بالسم، والله أعلم.
وتوفّى الأمير سيف الدين ملكتمر بن عبد الله الناصرىّ بطّالا ملازما لبيته فى حادى عشرين شهر ربيع الأوّل، وكان قديم هجرة فى الأمراء، تأمّر فى دولة الناصر حسن، ثم أنعم عليه الملك الأشرف شعبان بإمرة مائة، وتقدمة ألف بالديار المصرية، ثم جعله رأس نوبة النّوب، بعد واقعة أسندمر الناصرى، ثم نقل إلى إمرة مجلس، ثم صار أستادارا كبيرا فى سنة إحدى وسبعين وسبعمائة عوضا عن علم دار المحمدى، ثم أخرج إلى نيابة صفد فى السنة المذكورة، ثم عزل وأحضر إلى القاهرة وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بها، ثم ولى حجوبية الحجّاب بالدّيار المصرية مدّة سنين، ثم تعطّل ولزم داره حتى «2» مات.

(12/129)


وتوفى الأمير سيف الدين سودون بن عبد الله الطولوتمرى «1» نائب دمشق بها فى شعبان، وكان ولى نيابة دمشق بعد موت الأمير بطا المقدّم ذكره، فحكم بدمشق ومات، وتولى بعده نيابة دمشق الأمير كمشبغا الأشرفى الخاصّكىّ أمير مجلس.
متوفّى الشيخ المعتقد المجذوب طلحة المغربىّ فى رابع عشر شوال بمدينة مصر، وكانت جنازته مشهودة، ودفن خارج باب النصر «2» من القاهرة، وهو أحد من أوصى الملك الظاهر برقوق أن يدفن تحت أرجلهم من الصالحين والعلماء، فدفن هناك، ثم عمّرت التربة»
الناصرية الموجودة الآن، وكان للناس فيه اعتقاد كبير، لاسيما الملك الظاهر برقوق.
وتوفى الشيخ الإمام العالم العلامة عز الدين يوسف بن محمود بن محمد الرازى الحنفى العجمى، المعروف بالأصم، شيخ خانقاه «4» الملك المظفر ركن الدين بيبرس

(12/130)


الجاشنكير، ثم شيخ الخانقاه الشيخونية «1» فى ثالث عشرين المحرم، وقد أناف على السبعين سنة، وكان من العلماء.
وتوفى الأديب الوزير فخر الدين أبو الفرج «2» عبد الرحمن، وقيل عبد الوهاب ابن عبد الرزاق بن إبراهيم القبطى الحنفى الشهير بابن مكانس «3» وزير دمشق، وناظر الدولة بالديار المصرية، والشاعر المشهور بالقاهرة فى خامس ذى الحجة، وكان أديبا فاضلا شاعرا فصيحا بليغا لا يعرف فى أبناء جنسه الأقباط من يقاربه ولا يدانيه، وهو أحد فحول الشعراء بالديار المصرية فى عصره، وشعره فى غاية الحسن والرّقة والانسجام، وديوان «4» شعره مشهور كثير الوقوع بأيدى الناس، وقد استوعبنا من شعره أشياء كثيرة فى كتابنا (المنهل الصافى) ، إذ هو كتاب تراجم، نذكر هنا بعضها، ومن شعره وقد صادره الملك الظاهر برقوق، فقال: [الرمل]
ربّ خذ بالعدل قوما ... أهل ظلم متوالى
كلّفونى بيع خيلى ... برخيص وبغالى
ولما علّقه الملك الظاهر برقوق فى مصادرته منكسا على رأسه قال: [البسيط]
وما تعلقت بالسّرياق «5» منتكسا ... لجرمة أوجبت تعذيب ناسوتى «6»
لكننى مذ نفثت السّحر من أدبى ... علّقت تعليق هاروت وماروت

(12/131)


وله- عفا الله عنه-: [الكامل]
زارت معطرة الشذا ملفوفة ... كى تختفى فأبى شذا العطر
يا معشر الأدباء هذا وقتكم ... فتناظموا فى اللّفّ والنّشر
وله- سامحه الله تعالى-: [الوافر]
يقول معذّبى إذ همت وجدا ... بخدّ خلت فيه الشّعر نملا
أتعرف خدّه للعشق أهلا ... فقلت لهم نعم أهلا وسهلا
وتوفّى القاضى علاء الدين علىّ بن عيسى بن موسى بن عيسى بن سليم بن حميد «1» الأزرقى المقيّرى «2» الكركىّ الشافعى كاتب سرّ الكرك ثم الديار المصرية فى أوّل شهر ربيع الاوّل، ودفن خارج باب النصر «3» ، وهو أحد من قام بنصرة الملك الظاهر عند خروجه من حبس الكرك، وقد تقدّم ذكر ذلك فى ترجمة الملك الظاهر برقوق، فعرف له برقوق ذلك، وولّاه كتابة سرّ مصر، وولى أخاه القاضى عماد الدين قضاء الديار المصرية، واستمرّ علاء الدين هذا فى وظيفته كتابة السر إلى أن مرض ومات، وأعيد بدر الدين بن فضل الله من بعده فى وظيفة كتابة السرّ.
وتوفّى القاضى علاء الدين علىّ بن عبد الله بن يوسف البيرىّ «4» الحلبىّ الشاعر الكاتب المنشئ فى رابع عشر شهر ربيع الأوّل مخنوقا بأمر الملك برقوق، وكان

(12/132)


بارعا فى الإنشاء والأدب، وخدم جماعة من الملوك إلى أن اتصل بخدمة الأتابك يلبغا الناصرى، وسار صحبته إلى الديار المصرية لقتال الملك الظاهر برقوق.
ولمّا ملك الناصرىّ ديار مصر صار علاء الدين هذا من عظماء مصر، ولا زال على ذلك حتى قبض على الناصرىّ وحبس بالإسكندرية، فاستمر علاء الدين بمصر، فلمّا عاد الظاهر إلى ملكه وأخرج الناصرىّ، عاد علاء الدين هذا إلى خدمته، إلى أن قبض عليه الملك الظاهر وقتله، وأمسك علاء الدين هذا وحمل إلى القاهرة فى الحديد، ثم قتل، وكان بارعا أديبا شاعرا، ومن شعره: [الطويل]
أرى البدر لمّا أن دنا «1» لغروبه ... وألبس منه أزرق الماء أبيضا
توهّم أن البحر رام التقامه ... فسلّ له سيفا عليه مفضّضا
وتوفّى الأمير عنقاء بن شطّى ملك العرب وأمير آل مرا «2» ، كان قد خرج عن طاعة الملك الظاهر، وقتل الأمير يونس الدّوادار، ووافق الناصرىّ ومنطاشا، فلمّا عاد الملك الظاهر إلى ملكه لم يزل يرسل إليه الفداويّة ويعد الناس فى قتله حتى قتلته الفداويّة فى هذه السنة فى رابع المحرم.
وتوفى الأمير سيف الدين قطلوبغا بن عبد الله الصّفوى، كان أحد أمراء الألوف بالديار المصرية، وحاجب الحجّاب بها فى أوّل شهر ربيع الآخرة.
وتوفّى الأمير سيف الدين قطلوبك «3» بن عبد الله السيفى طشتمر الدوادار، كان أحد أمراء العشرات مات فى عاشر صفر.

(12/133)


وتوفّى الشيخ بدر الدين محمد بن عبد الله المنهاجىّ الفقيه الشافعى المعروف بالزّركشىّ «1» المصنّف المشهور فى ثالث رجب وكان فقيها مصنّفا.
وتوفّى الشيخ الصالح المعتقد أبو عبد الله محمد الرّكراكىّ المغربىّ المالكىّ فى ثالث «2» جمادى الأولى، وقد قارب مائة سنة.
وتوفّى الأمير الوزير ناصر الدين محمد بن الأمير حسام الدين لاچين الصقرىّ المنجكىّ المعروف بابن الحسام فى ثانى عشر صفر، بعد مرض طويل، بعد أن ولى الوظائف الجليلة مثل وزر مصر والأستادارية وغيرهما.
وتوفى القاضى جمال الدين محمود ابن القاضى حافظ الدين محمد بن تاج الدين إبراهيم القيصرىّ الحنفىّ قاضى قضاة الحنفية بحلب.
وتوفى الأمير سيف الدين قرا دمرداش بن عبد الله الأحمدى اليلبغاوىّ مقتولا فى محبسه بقلعة الجبل «3» فى ذى الحجة، وهو أيضا من أعيان المماليك اليلبغاويّة، وكان من جملة أمراء الألوف بالديار المصرية، وأمير سلاح فى سلطنة الظاهر الأولى، فلمّا انتصر الناصرىّ على عسكر الملك الظاهر برقوق بدمشق، وقبض الناصرىّ على الأتابك «4» أيتمش البجاسىّ، خلع الملك الظاهر على قرا دمرداش هذا باستقراره عوضه أتابك العساكر بالديار المصرية، وأنعم عليه بثلاثين ألف دينار، فأخذها وعصى من ليلته، وتوجّه إلى الناصرىّ، وصار من جملة عساكره، فلمّا ملك الناصرىّ، الديار المصرية استقرّ به أمير مجلس إلى أن أمسك منطاشا مع من

(12/134)


أمسك من حواشى الناصرىّ، وحبسه إلى أن أطلقه الملك الظاهر برقوق، وولّاه نيابة طرابلس، ثم نقله إلى نيابة حلب وندبه لقتال منطاش فدأم على نيابة حلب إلى أن عزله عنها الملك الظاهر، بعد أن أمسك الناصرىّ وأنعم عليه بتقدمة ألف بديار مصر، ثم قبض عليه بمصر وحبسه ثم قتله.
وتوفّى الشيخ المحدّث المسند بدر الدين محمد بن محمد بن مجير المعروف بابن الصائغ وابن المشارف فى ثالث شهر ربيع الآخر.
- أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبعة أذرع وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا واثنتا عشرة إصبعا.