النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

[ما وقع من الحوادث سنة 775]
السنة الحادية عشرة من سلطنة الملك الأشرف شعبان بن حسين على مصر وهي سنة خمس وسبعين وسبعمائة.
فيها كانت وقعة الملك الأشرف المذكور مع زوج أمّه الأتابك ألجاى اليوسفى وغرق ألجاى في بحر النيل حسب ما تقدّم ذكره.
وفيها توفّى قاضى القضاة بدر الدين أبو إسحاق إبراهيم بن صدر الدين أحمد بن مجد الدين عيسى بن عمر بن خالد بن عبد المحسن المخزومىّ المصرىّ الشافعىّ الشهير بابن الخشّاب وهو في البحر المالح بالقرب من الأزلم «1» عائدا إلى الديار المصريّة وهو من أبناء الثمانين سنة- رحمه الله- وكان عالما مفتيا مدرّسا، شاع ذكره فى الأقطار وانتفع الناس بعلمه وولى نيابة الحكم بالقاهرة. وباشر قضاء حلب استقلالا. ثم ولى القضاء بالمدينة النبويّة وأراد التوجّه إلى نحو مصر فأدركته المنيّة فى طريقه- رحمه الله-.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم العلّامة أرشد الدين أبو الثناء محمود بن قطلوشاه السّرائىّ الحنفىّ بالقاهرة في جمادى الآخرة عن نيّف وثمانين سنة- رحمه الله

(11/126)


تعالى- وكان بحرا في العلوم لا سيّما العلوم العقلية والأدبية، وأقام بالقاهرة سنين كثيرة يشتغل ويقرئ، وانتفع به عامّة الطلبة من كلّ مذهب، وتولّى مشيخة الصّرغتمشيّة «1» بعد وفاة الشيخ العلّامة قوام الدّين أمير كاتب الإتقانىّ فباشر تدريسها إلى أن مات في التاريخ المذكور.
وتوفّى الأمير سيف الدين طيبغا بن عبد الله الفقيه الحنفىّ أحد أمراء العشرات بالديار المصرية بالقاهرة وقد ناهز الستين سنة، وكان فقيها مستحضرا لفروع مذهبه ويشارك في فنون كثيرة- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير سيف الدين تمرقيا بن عبد الله العمرىّ الجوكندار، أحد أمراء الطبلخانات بالديار المصرية وسنّه نحو الخمسين سنة وهو خشداش يلبغا العمرىّ الخاصّكى. وتمرقيا باللغة التركية: جبل حديد، فتمر هو الحديد وقيا بفتح القاف هو الصخر العظيم.
وتوفّى الأمير سيف الدين تلكتمر بن عبد الله الجمالىّ، أحد أمراء الطبلخانات بالقاهرة، مات بمنزلة «2» قاقون من طريق الشام في شهر ذى الحجة، كان الملك الأشرف أرسله في مهمّ.
وتوفّى الأمير سيف الدين آل ملك بن عبد الله الصرغتمشى أحد أمراء الطبلخانات بالقاهرة وكاشف الوجه البحرى ونقيب الجيوش المنصورة في شهر شوّال. وكان أصله من مماليك الأمير صرغتمش الناصرىّ صاحب المدرسة بالصليبة المقدّم ذكره. وكلّ من نذكره في هذه السنين بالصرغتمشى فهو منسوب إليه، ولا حاجة للتعريف به بعد ذلك.

(11/127)


وتوفّى الأمير سيف الدين آقبغا بن عبد الله من مصطفى اليلبغاوىّ، أحد أمراء الطبلخانات بالديار المصرية وهو مجرّد بالإسكندرية وهو ممن قام على أستاذه يلبغا.
وتوفّى الأمير سيف الدين أرغون بن عبد الله الأحمدىّ أحد مقدّمىّ الألوف بالديار المصرية ولالا الملك الأشرف شعبان صاحب الترجمة وكان معظما في الدول وله همة ومعرفة وشجاعة وحرمة وافرة في الدولة الأشرفية. وقد مرّ ذكره في عدّة حكايات، ولمّا ثقل على الملك الأشرف أخرجه إلى نيابة الإسكندرية فمات بها فى خامس عشر ذى القعدة.
وتوفّى الشيخ نور الدين علىّ بن الحسن بن علىّ الإسنائىّ الشافعىّ أخو الشيخ جمال الدين عبد الرحيم المتقدّم ذكره، مات في شهر رجب- رحمه الله تعالى-.
وتوفّى القاضى شمس الدين شاكر القبطىّ المصرىّ المعروف بابن البقرىّ ناظر الذخيرة وصاحب المدرسة «1» البقريّة بالقاهرة في ثالث عشر شوّال وكان معدودا من رؤساء الأقباط.

(11/128)


وتوفّى الأمير سيف الدين بيبغا بن عبد الله المعروف بحارس طير، أحد أمراء الطبلخانات، وهو غير بيبغا ططر حارس طير الذي ولى نيابة السلطنة في سلطنة الملك حسن.
وتوفّى الأمير علاء الدين ألطنبغا بن عبد الله الماردينىّ في ثانى جمادى الآخرة، وهو أيضا غير ألطنبغا الماردينىّ الناصرىّ صاحب الجامع، وقد تقدّم ذكر هذاك فى محلّه.
وتوفّى الأمير سيف الدين آروس بن عبد الله المحمودىّ أحد أمراء الألوف بالقاهرة، وزوج بنت الأمير منجك اليوسفىّ في ذى القعدة، وكان أصله من مماليك الناصر محمد، وترقّى في الدول إلى أن صار أمير مائة ومقدّم ألف، ثم ولى الحجوبية، ثم أمير جاندار، ثم ولى الأستدارية العالية مدّة طويلة. ووقع له أمور وحوادث، وأخرج إلى الشام. ثم قدم إلى مصر صحبة حميه منجك اليوسفىّ، فأقام بها إلى أن مات.
وتوفّى الأمير الكبير سيف الدين ألجاى اليوسفىّ أحد مماليك الملك الناصر حسن غريقا بالنيل بساحل الخرقانية «1» ، بعد وقعة كانت بينه وبين الملك الأشرف شعبان حسب ما ذكرناه أنه انكسر في الآخر وتوجّه إلى الجهة المذكورة واقتحم البحر بفرسه، فغرق في يوم الجمعة تاسع المحرّم، ودفن بمدرسته بسويقة «2» العزّىّ خارج القاهرة. وكان من أجلّ الأمراء شجاعة وكرما وهمّة وسؤددا، وقد تقدّم ذكره فى عدّة تراجم من هذا الكتاب.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وعشرة أصابع.
مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وتسعة عشر إصبعا وهي سنة الشراقى العظيم.

(11/129)


[ما وقع من الحوادث سنة 776]
السنة الثانية عشرة من سلطنة الملك الأشرف شعبان بن حسين بن على مصر وهي سنة ست وسبعين وسبعمائة.
وفيها كان ابتداء الغلاء العظيم بسائر البلاد.
وفيها فتحت سيس «1» على يد نائب حلب الأمير إشقتمر الماردينى، وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه في أصل الترجمة.
وفيها توفّى العلّامة قاضى «2» القضاة صدر الدين أبو عبد الله محمد ابن العلّامة قاضى القضاة جمال الدين عبد الله ابن قاضى القضاة علاء الدين علىّ بن عثمان بن الماردينى الحنفىّ الشهير بابن التّركمانىّ، قاضى قضاة الديار المصرية بها في ليلة الجمعة ثالث ذى القعدة عن نحو أربعين سنة، بعد أن باشر ثلاث سنين وأشهرا، وكان سلك فى العدل طريقة أبيه وجدّه، وكان عالما بارعا ذكيّا فهما عفيفا. وله نظم ونثر، ومن شعره وقد حصل له رمد: [الوافر]
أفرّ إلى الظلام بكلّ جهدى ... كأنّ النور يطلبنى بدين
وما للنور من ظلّ وإنّى ... أراه حقيقة مطلوب عينى
وقد تقدّم ذكر أبيه وجدّه كلّ واحد منهما في محلّه.
وتوفّى «3» قاضى القضاة شرف الدين أبو العباس أحمد بن الحسين بن سليمان بن فزارة الكفرى (بفتح الكاف) الحنفىّ بدمشق، بعد أن كفّ بصره عن خمس وثمانين سنة. وكان من العلماء الأعلام، ماهرا في مذهبه، أفتى ودرّس وأفاد وأتقن

(11/130)


روايات القرّاء السبعة وناب في الحكم بدمشق مدّة من الزمان. ثم استقلّ بالوظيفة مدّة طويلة ثم تركها لولده متنزّها عن ذلك ولزم العبادة إلى أن مات.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم العلّامة جمال الدين أبو عبد الله محمد بن الحسن بن محمد بن عمّار الحارثى «1» الدّمشقىّ الشافعىّ الشهير بابن قاضى الزّبدانىّ بدمشق عن سبع وثمانين سنة، وقد انتهت إليه رياسة الفتوى بالشام في زمانه، ودرّس بظاهرية «2» دمشق وعادليتها «3» الصغرى وكتب وصنّف.
وتوفّى الشيخ أمين الدين أبو عبد الله محمد ابن القاضى برهان الدين إبراهيم بن علىّ بن أحمد بن علىّ بن يوسف بن إبراهيم الدمشقىّ الحنفىّ الشهير بابن عبد الحق درّس بدمشق بعدّة مدارس وباشر بها الوظائف الجليلة وكان معدودا من أعيان أهل دمشق إلى أن مات بها عن بضع وستين سنة.
وتوفّى الشيخ الإمام العلّامة الأديب المفتن شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يحيى بن أبى بكر بن عبد الواحد التّلمسانىّ المغربىّ الحنفىّ الشهير بابن أبى حجلة نزيل الديار المصرية بها في يوم الخميس مستهلّ ذى الحجّة عن إحدى وخمسين سنة.
ومولده بالمغرب بزاوية جدّه أبى حجلة عبد الواحد، ثم رحل إلى الشام ثم استوطن مصر وولى مشيخة خانقاه منجك اليوسفىّ إلى أن مات. وكان إماما بارعا فاضلا ناظما ناثرا، وله مصنّفات كثيرة تبلغ ستين مصنّفا- رحمه الله- ومن شعره في مليح له خال على خدّه: [البسيط]

(11/131)


تفرّد الخال عن شعر بوجنته ... فليس في الخدّ غير الخال والخفر
يا حسن ذاك محيّا ليس فيه سوى ... خال من المسك في خال من الشّعر
وله: [السريع]
وعاذل بالغ في عذله ... وقال لمّا هاج بلبالى
بعارض المحبوب ما تنتهى ... قلت ولا بالسّيف «1» والوالى
وله مضمّنا وهو أحسن قوله في المعنى: [الكامل]
يا صاح قد حضر الشّراب وبغيتى ... وحظيت بعد الهجر بالإيناس
وكسا العذار الخدّ حسنا فاسقنى ... واجعل حديثك كلّه في الكاس
وتوفّى الصاحب الوزير فخر الدين عبد الله بن تاج الدين موسى بن أبى شاكر بالقاهرة ودفن بالقرافة بتربته بجوار تربة قاضى القضاة شمس الدين الحريرى. وكان فى مبادئ أمره صاحب ديوان يلبغا العمرىّ ثم تولّى الوزر بعد موته ثلاث مرات وجمع في بعض الأحيان بين الوزارة ونظر الخاصّ معا كما كان ابن قروينة من قبله. وكان حسن السّيرة مليح الشكل بشوشا متواضعا، ليّن الجانب، قليل الأذى محببّا للناس.
وتوفّى التاجر ناصر الدين محمد بن مسلّم الكارمىّ «2» المصرىّ في يوم الجمعة ثانى عشر شوّال. وقد خلّف اموالا كثيرة من المتجر وعمل الكيميا بحيث إنه لم يكن أحد من أهل عصره أكثر مالا منه.

(11/132)


وتوفّى القان «1» أويس ابن الشيخ حسن بن حسين بن اقبغا «2» بن أيلكان صاحب تبريز «3» وبغداد وما والاهما. وفي موتته غريبة وهي أنه رأى في منامه قبل موته أنه يموت في يوم كذا وكذا، فخلع نفسه من الملك وولّى عوضه ولده الكبير الشيخ حسين بن أويس واعتزل هو عن الملك وصار يتعبّد ويكثر من الصلاة والصدقة والبرّ إلى الوقت الذي عيّنه لهم أنه يموت فيه فمات فيه. وكان ملكا حازما عادلا ذا شهامة وصرامة، قليل الشرّ كثير الخير محبّبا للفقراء والعلماء، وكان مع هذا فيه شجاعة وكرم ومات في عنفوان شبيبته وكان تسلطن بعد أبيه فمكث في الملك تسعة عشر سنة ومات بتبريز عن نيّف وثلاثين سنة.
وتوفّى الأمير الكبير سيف الدين منجك بن عبد الله اليوسفى الناصرى أتابك العساكر ونائب السلطنة الشريفة بالديار المصرية بداره «4» من القاهرة بالقرب من سويقة العزّىّ الملاصقة لمدرسة السلطان حسن، بعد عصر يوم الخميس تاسع عشرين شهر ذى الحجة ودفن صبيحة يوم الجمعة بتربته «5» التى أنشأها عند

(11/133)


جامعه «1» وخانقاته، خارج باب الوزير بالقرب من قلعة الجبل. وكانت جنازته مشهودة وكان عمره يوم مات بضعا وستين سنة، وقد مرّ من ذكره ما يستغنى به عن التكرار هنا. وكان ابتداء أمره وظهور اسمه من سلطنة الملك الناصر أحمد ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون وهلمّ جرّا إلى يومنا هذا، حتى إنه لم يذكر سلطان بعد موت محمد بن قلاوون، إلا ومنجك هذا له فيه أمر وذكر وواقعة. وقد طالت أيامه في السعادة على أنه قاسى فيها خطوبا وأهوالا وأمسك وحبس ثم أطلق واختفى مدّة ثم ظهر وقد تكرر ذلك كلّه مفصلا في عدّة تراجم من سلاطين مصر.
وأمّا ما عمّره من المساجد والجوامع والمآثر فقد ذكرنا ذلك كلّه في ترجمته «فى المنهل الصافى «2» والمستوفى بعد الوافى» فلينظر هناك.
وتوفّى الأمير سيف الدين يلبغا بن عبد الله الناصرىّ حاجب الحجّاب بالديار المصرية وأحد أمراء الألوف بها، وكان من أماثل الأمراء وأعيان المماليك الناصرية، ترقّى بعد موت أستاذه الملك الناصر محمد وولى عدّة وظائف أعظمها حجوبيّة الحجّاب.
وتوفّى الأمير سيف الدين أيدمر بن عبد الله الناصرىّ الدّوادار بالقاهرة عن نيّف وستين سنة، وكان أميرا عالى القدر ظاهر الحشمة وافر المهابة حسن السياسة والتدبير، يبدأ الناس بالسلام ويكثر من ذلك، حتى إنه لمّا ولى نيابة حلب لقّبه أهلها «بسلام عليكم» وكان أوّلا أمير مائة ومقدّم ألف بديار مصر.
ثم ولى نيابة طرابلس ثم نيابة حلب ثم عزل وطلب إلى ديار مصر واستقرّ بها أمير مائة ومقدّم ألف أيضا إلى أن مات وهو أجل أمراء عصره.

(11/134)


وتوفّى الأمير الطواشى سابق الدين مثقال بن عبد الله الحبشى الآنوكىّ مقدّم المماليك السلطانية وأحد أمراء الطبلخانات، وكان أصله من خدّام سيدى آنوك ابن الملك الناصر محمد وترقّى إلى أن ولى تقدمة المماليك السلطانية وهو الذي ضربه يلبغا العمرى داخل القصر ستمائة عصاة ونفاه إلى أسوان «1» وولّى مكانه مختار الدمنهورىّ شاذروان، فلما قتل يلبغا أعاده الملك الأشرف هذا إلى رتبته ووظيفته تقدمة المماليك السلطانية إلى أن مات وولى التّقدمة بعده مختار الدمنهورىّ شاذروان المقدّم ذكره ثانيا، وأظن مثقالا هذا هو صاحب المدرسة «2» السابقيّة داخل بين القصرين من القاهرة. والله أعلم.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع واثنا عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة أصابع.

(11/135)


[ما وقع من الحوادث سنة 777]
السنة الثالثة عشرة من سلطنة الملك الأشرف شعبان بن حسين على مصر وهي سنة سبع وسبعين وسبعمائة.
فيها كان الغلاء المفرط بالبلاد الشامية حتى أكل الناس الميتات والكلاب والقطط.
وفيها توفّى الشيخ الإمام العالم العلّامة قاضى القضاة برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم ابن القاضى علم الدين محمد بن أبى بكر بن عيسى بن «1» بدران الهيدبانى السعدى الإخنائى المالكى قاضى قضاة الديار المصرية بها في يوم الأربعاء ثالث شهر رجب بعد أن مكث في القضاء خمس عشرة سنة وكان- رحمه الله- من أعيان الفقهاء المالكية.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم العلّامة قاضى القضاة بهاء الدين أبو البقاء محمد ابن قاضى القضاة سديد الدين عبد البر بن صدر الدين يحيى السّبكىّ الأنصارىّ الشافعىّ- رحمه الله تعالى- قاضى القضاة بالديار المصرية ثم بدمشق المحروسة فى شهر ربيع الأوّل. ومولده في سنة سبع وسبعمائة. وكان إمام وقته وعالم زمانه، روى البخارى عن الوزيرة والحجّار وتولّى القضاء بدمشق ثم بمصر ثم عزل وعاد إلى قضاء دمشق إلى أن مات- رحمه الله- بعد أن أفتى ودرّس وكتب وألّف ونظم ونثر. ومن شعره- رحمه الله تعالى-. [الكامل]

(11/136)


ودّعته ولثمت باسم ثغره ... مع خدّه وضممت مائس قدّه
ثمّ انتبهت ومقلتى تبكى دما ... يا ربّ لا تجعله آخر عهده
قلت: ويعجبنى في هذا المعنى قول الأديب المفتنّ علاء الدين علىّ كاتب «1» ابن وداعة. [مخلّع البسيط]
إذا رأيت الوداع فاصبر ... ولا يهمّنّك البعاد
وانتظر العود عن قريب ... فإنّ قلب الوداع عادوا
وتوفّى القاضى شهاب الدين أبو العباس أحمد ابن القاضى علاء الدين على ابن القاضى محيى الدين يحيى بن فضل الله بن المجلى بن دعجان، ينتهى نسبه الى الإمام عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- مات بدمشق ودفن بسفح قاسيون عن نيف وثلاثين سنة بعد أن باشر نيابة كتابة سر مصر عن والده. وكان إماما بليغا كاتبا ناظما ناثرا أخذ العربية عن الشيخ كمال «2» الدين بن قاضى شهبة ثم عن قاضى القضاة شمس الدين «3» محمد بن مسلّم- رحمهم الله تعالى- وتوجّه القاضى شهاب الدين المذكور إلى دمشق واستوطنها إلى أن مات. وشهاب الدين هذا سمى على اسم عمّه شهاب الدين أحمد صاحب «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» وقد مرّ ذكره وذكر جماعة من آبائه وأقاربه.

(11/137)


وتوفّى الشيخ المعتقد أحمد بن مسعود المجذوب ودفن بالقرافة بالقرب من قبّة الإمام الشافعىّ- رضى الله عنه- وكان يجلس في المريس «1» دائما وللناس فيه اعتقاد.
وتوفّى الإمام العالم العلّامة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن على الشهير بابن الصائغ الحنفىّ- رحمه الله- فى يوم الثلاثاء ثانى عشر شهر شعبان، وكان إماما في القراءات وسمع الحديث وأخذ النحو عن أبى حيّان وبرع في الفقه وأعاد ودرّس وأفاد وأفتى وبرع في النحو والأدب ودرّس بجامع «2» ابن طولون بالقاهرة وتولّى قضاء العسكر بمصر وكان أديبا لطيفا ظريفا بارعا في النظم ومن شعره: [الطويل]
بروحى أفدى خاله فوق خدّه ... ومن أنا في الدنيا فأفديه بالمال
تبارك من أخلى من الشّعر خدّه ... وأسكن كلّ الحسن في ذلك الخال
وله عفا الله عنه: [الرجز]
قاس الورّى وجه حبيبى بالقمر ... لجامع بينهما وهو الخفر
قلت القياس باطل بفرقه ... وبعد ذا عندى في الوجه نظر

(11/138)


وله: [السريع]
وشادن ظلّت عيون الرّبا ... لمّا رأته مقبلا ساجده
سألته من ريقه شربة ... فقال ذى مسألة بارده
وتوفّى السيّد الشريف عزّ الدّين عجلان بن رميثة بن أبى نمىّ محمد بن أبى سعد «1» حسن بن على بن قتادة بن إدريس المكىّ الحسنىّ أمير مكة. وكان قبل موته نزل لولده السيّد الشريف أحمد بن عجلان عن نصف إمرة مكة التي كانت بيده، فإنه كان قبل ذلك نزل له عن النّصف الأوّل قديما وكان ولى إمرة مكة غير مرة نحو ثلاثين سنة مستقلا بها مدّة وشريكا لأخيه ثقبة «2» مدّة وشريكا لابنه أحمد هذا مدّة. وكانت وفاته في ليلة الاثنين الحادى عشر من شهر جمادى الأولى ودفن بالمعلاة- رحمه الله- وقد قارب السبعين سنة من العمر، وكان ذا عقل ودهاء ومعرفة بالأمور وسياسة حسنة. وكان بخلاف آبائه وأقاربه يحبّ أهل السّنّة وينصرهم على الشّيعة وربما كان يذكر أنه شافعىّ المذهب، وهذا نادرة في السادة الأشراف، فإنّ غالبهم زيديّة يتجاهرون بذلك. قيل: إنه ذكر عنده مرة معاوية بن أبى سفيان لينظروا رأيه فيه، فقال عجلان: معاوية شيخ من كبار قريش لاح له الملك فتلقّفه.
قلت: لو لم يكن من محاسنه إلا اتباعه للسّنة النبوية لكفاه ذلك شرفا. وكان ممدوحا، مدحه النّشو أحد شعراء مكة بقصيدة طنّانة أوّلها: [الكامل]

(11/139)


لولا الغرام ووجده ونحو له ... ما كنت ترحمه وأنت عدو له
إن كنت تنكره فسل عن حاله ... فالحبّ داء لا يفيق عليله
يا من يلوم على الهوى أهل الهوى ... دع لومهم فالصبر مات جميله
وتوفّى الأمير سيف الدين أسنبغا بن بكتمر الأبوبكريّ في يوم الأربعاء خامس المحرّم وكان من عظماء أمراء الديار المصرية، كان خصيصا عند الملك الناصر محمد ابن قلاوون وأنعم عليه بإمرة طبلخاناه. ثم ترقى بعد موته حتى ولى الأمير آخورية الكبرى للسلطان حسن. ثم للاشرف. ثم ولى نيابة الإسكندرية. ثم نيابة حلب.
ثم حجوبيّة الحجّاب بديار مصر وطالت أيامه في السعادة وأظنّه صاحب الأبوبكريّة «1» داخل القاهرة. والله أعلم.
وتوفّى الشيخ الإمام المعتقد العالم العلّامة جمال الدين عبد الله بن محمد بن أبى بكر بن خليل بن إبراهيم بن يحيى بن أبى عبد الله بن يحيى بن إبراهيم بن سعيد بن طلحة بن موسى بن إسحاق بن عبد الله بن محمد بن أبان بن عثمان بن عفّان- رضى الله عنه- فى يوم الأحد ثالث شهر جمادى الأولى بخلوته بسطح جامع

(11/140)


الحاكم «1» . وكانت جنازته مشهودة جدّا، اجتمع فيها خلائق لا تحصى- رحمه الله- ومولده في سنة أربع وتسعين وستمائة. وكان فقيها شافعيّا صاحب فنون وعلوم.
وتوفّى الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير قيران الحسامىّ، كان أحد أمراء الطبلخانات بالديار المصريّة- رحمه الله تعالى- وكان كريما شجاعا مقداما وله وجاهة في الدّول وحرمة وافرة.
وتوفّى تاج الدين أبو غالب الكلبشاوى «2» الأسلمىّ القبطىّ ناظر الذّخيرة فى نصف شهر شوّال وإليه تنسب المدرسة المعروفة بمدرسة «3» أبى غالب تجاه باب

(11/141)


الخوخة ظاهر القاهرة «1» . وتوفى شيخ الكتّاب غازى بن قطلوبغا التركى في شهر رجب، وقد انتهت إليه الرياسة في الخط المنسوب وتصدّر للإفادة سنين عديدة وانتشر خطه في الآفاق.
وتوفّى الشيخ نور الدين علىّ بن محمد بن محمد بن علىّ بن أحمد الكنانىّ العسقلانىّ الشافعىّ الشهير بابن حجر والد الحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر في يوم الأربعاء عاشر شهر رجب، وكان تاجرا بمدينة مصر القديمة، وتفقّه على مذهب الإمام الشافعىّ

(11/142)


- رضى الله عنه- وحفظ الحاوى «1» وأخذ الفقه عن بهاء الدين محمد بن عقيل- رحمه الله- وقال الشعر، ومن شعره يشير إلى المتجر: [المجتث]
إسكندريّة كم ذا ... يسمو قماشك عزّا
فطمت نفسى عنها ... فلست أطلب بزّا
وله أيضا: [الكامل]
يا ربّ أعضاء السّجود عتقتها ... من فضلك الوافى وأنت الواقى
والعتق يشرى بالغنى ياذا الغنى ... فامنن على الفانى بعتق الباقى
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وأربعة أصابع.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثلاثة عشر إصبعا. والله أعلم.
[ما وقع من الحوادث سنة 778]
السنة الرابعة عشرة من سلطنة الملك الأشرف شعبان بن حسين على مصر وهي سنة ثمان وسبعين وسبعمائة وهي التي قتل فيها في ذى القعدة.
فيها توفّى القاضى محبّ الدين أبو عبد الله محمد ابن القاضى نجم الدين أبى المحاسن يوسف بن أحمد بن عبد الدائم التّميمىّ المصرىّ ناظر الجيوش المنصورة بالديار المصرية بها في يوم الثلاثاء ثانى عشر شهر ذى الحجة عن إحدى وثمانين سنة. وكان فى ابتداء أمره تولّى ديوان چنكلى بن البابا ثم خدم عند الأمير منكلى الفخرىّ فكتب إليه الشيخ صلاح الدين الصّفدىّ يقول: [السريع]
من چنكلى صرت الى منكلى ... فكلّ خير أرتجى منك لى
وأنت لى كهف وما مقصدى ... من هذه الدنيا سوى أنت لى

(11/143)


وكان القاضى محبّ الدين المذكور رجلا صالحا فاضلا وله سماع عال وله مصنّفات- رحمه الله- منها «شرح التسهيل» [فى النحو «1» ] فى أربعة مجلدات و «شرح التلخيص في المعانى والبيان» وغير ذلك.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم العلّامة تقىّ الدين أبو الفداء إسماعيل بن نور الدين علىّ بن الحسن «2» القلقشندىّ الشافعىّ المصرىّ مفتى المسلمين بالقدس الشريف عن نحو سبعين سنة وكان فقيها برع في عدّة علوم وأفتى ودرّس واستقل. رحمه الله.
وتوفّى الشيخ المسند المعمّر الرّحلة أبو حفص عمر بن الحسن بن مزيد «3» الشهير بابن أميلة المراغىّ الحلبى ثم الدمشقىّ بها عن ثمان وتسعين سنة، بعد أن صار رحلة زمانه وقصد من الأقطار للسماع عليه فسمع منه خلائق كثيرة.
وتوفّى الشيخ الأديب جمال الدين أبو الربيع سليمان بن داود بن يعقوب المصرىّ ثم الحلبىّ بحلب، وقد قارب الخمسين سنة وكان معدودا من الكتّاب الأدباء الفضلاء، ومن شعره: [الطويل]
رياض جرت بالظّلم عادات ريحها ... وسار بغير العدل في الحكم سيرها
ففرّقت «4» الاغصان عند اعتناقها ... وسلسلت الانهار إذ جنّ طيرها

(11/144)


وتوفّى الأمير سيف الدين يعقوب شاه بن عبد الله الحاجب الثانى وأحد مقدّمى الألوف بالديار المصرية، وكان ممن قام مع الملك الأشرف في واقعة أسندمر وأظهر شجاعة عظيمة، فقرّبه السلطان الملك الأشرف من ثمّ ورقّاه وأنعم عليه، حتى جعله من جملة الأمراء الألوف بالديار المصرية إلى أن مات- رحمه الله تعالى-.
وتوفّى السلطان الملك الأفضل عباس ابن الملك المجاهد علىّ ابن الملك المؤيّد داود ابن الملك المظفّر يوسف بن عمر [بن على «1» ] بن رسول التّركمانىّ الأصل اليمنىّ صاحب اليمن وابن صاحبها- رحمه الله تعالى- فى شعبان، وتسلطن بعده ولده السلطان الملك الأشرف إسماعيل، وكان الملك الأفضل ولى السلطنة بعد موت أبيه المجاهد فى شهر جمادى الأولى سنة أربع وستين وسبعمائة. ولمّا ولى اليمن خرج في أيامه ابن ميكائيل فوقع له معه وقائع، حتى أباده الأفضل وزالت دولة ابن ميكائيل في أيامه.
وكان الأفضل- رحمه الله- شجاعا مهابا كريما وله إلمام بالعلوم والفضائل ومشاركة جيّدة في عدّة علوم وتصانيف منها: «كتاب العطايا «2» السنية في ذكر أعيان اليمنية» و «كتاب نزهة «3» العيون في تاريخ طوائف القرون» و «مختصر تاريخ ابن خلّكان» و «كتاب بغية ذوى الهمم في أنساب العرب والعجم» وكتاب آخر «فى الألغاز الفقهية» وغير ذلك. وكان فيه برّ وصدقة وله مآثر حسنة- رحمه الله تعالى-

(11/145)


بنى مدرسة عظيمة بتعزّ وله أيضا بمكة مدرسة «1» معروفة به بالصفا. وقيل: إن هذه التصانيف المذكورة إنما هي لقاضى تعز رضىّ الدين أبى بكر بن محمد بن يوسف الجرائى الصبرىّ «2» [الناشرى]- رحمه الله- عمل ذلك على لسان الأفضل- والله أعلم-.
وتوفّى الأمير سيف الدين جركتمر بن عبد الله الخاصّكى الأشرفىّ أحد مقدّمى الألوف بالقاهرة مقتولا في هذه السنة وكان من خواصّ الملك الأشرف هذا ومن أجلّ مماليكه.
وتوفّى السلطان الملك المظفّر فخر الدين داود ابن الملك الصالح صالح ابن الملك المنصور غازى بن ألبى بن تمرتاش بن إيل غازى بن أرتق الأرتقىّ صاحب ماردين وابن صاحبها بماردين في هذه السنة، بعد أن حكمها نحو عشرين سنة وتولّى سلطنة ماردين من بعده ابنه الملك الظاهر مجد الدين عيسى الآتى ذكره في محلّه- إن شاء الله تعالى- وكان الملك المظفر هذا ولى ملك ماردين بعد ابن أخيه الملك الصالح محمود الذي أقام في سلطنة ماردين أربعة أشهر عوضا عن والده الملك المنصور أحمد ابن الملك الصالح صالح وخلع وتسلطن الملك المظفر هذا فأظهر العدل واقتفى أثر والده الملك الصالح في الإحسان إلى الرعية وإصلاح الأمور إلى أن مات- رحمه الله-.

(11/146)


وتوفّى في هذه السنة جماعة كبيرة من الأمراء الأشرفية ممن مرّ ذكرهم في أواخر ترجمة الملك الأشرف، قتلوا بالسيف عند كسرة الأشرف من العقبة «1» ، وهم: الأمير «2» سيف الدين أرغون شاه بن عبد الله الجمالىّ الأشرفى أحد مقدّمى الألوف بالديار المصرية وأجلّ أمراء الأشرف، بعد أن قدم معه من العقبة والأمير سيف الدين صرغتمش بن عبد الله الأشرفىّ رأس نوبة في النّوب وأحد مقدّمى الألوف أيضا بالديار المصرية والأمير سيف الدين يلبغا بن عبد الله السابقىّ الأشرفى أحد مقدّمى الألوف أيضا والأمير سيف الدين بشتك بن عبد الله الأشرفىّ أحد مقدّمى الألوف أيضا وهو غير بشتك الناصرى صاحب القصر «3» والحمّام «4» والأمير سيف الدين أرغون ابن عبد الله العزّى الأشرفىّ الأفرم أحد مقدّمى الألوف أيضا وغيرهم من أمراء الطبلخانات والعشرات.
وهؤلاء الذين ذكروا هم أعيان الأشرفية القادمون صحبة أستاذهم الملك الأشرف من العقبة إلى مصر، قتلوا الجميع في ساعة واحدة وأتوا برءوسهم من قبة النصر إلى الأمراء الذين ثاروا بالقاهرة وهم يقولون: «صلّوا على محمّد» ووضعوها بين يديهم.
وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه في أواخر ترجمة الملك الأشرف شعبان، وتأتى بقيّة ما وقع فى ترجمة الملك المنصور على ابن الملك الأشرف شعبان هذا.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع واثنتا عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا وإصبعان. والله أعلم.

(11/147)


ذكر سلطنة الملك المنصور علىّ على مصر
السلطان الملك المنصور علاء الدين علىّ ابن السلطان الملك الأشرف زين الدّين شعبان ابن الأمير الملك الأمجد حسين ابن السلطان الملك الناصر محمد ابن السلطان الملك المنصور قلاوون الألفىّ الصالحىّ وهو السلطان الثالث والعشرون من ملوك الترك بالديار المصرية، تسلطن في حياة والده حسب ما تقدّم ذكره أنّ الأمير قرطاى وطشتمر اللّفاف وأينبك البدرىّ لمّا ثاروا بمن معهم بالدّيار المصرية، وطلعوا إلى القلعة وأخذوا أمير علىّ هذا من الدور السلطانية وسلطنوه في حياة والده أرادوا بذلك انضمام الناس عليهم فإنهم كانوا أشاعوا موت الملك الأشرف شعبان فى العقبة حتى تمّ لهم ما أرادوه وسلطنوا أمير علىّ هذا من غير حضور الخليفة والقضاة فإنهم كانوا صحبة السلطان الملك الأشرف بالعقبة فلمّا زالت دولة الملك الأشرف وقبض عليه وقتل ثم حضر الخليفة المتوكّل على الله أبو عبد الله محمد من العقبة وكان القضاة بالقدس الشريف توجّهوا إليه من العقبة بعد واقعة الملك الأشرف وهروبه الى مصر.
فلما كان يوم الخميس ثامن «1» شهر ذى القعدة سنة ثمان وسبعين وسبعمائة وذلك بعد قتل الملك الأشرف شعبان بثلاثة أيام، اجتمع الأمراء القائمون بهذا الأمر بالقلعة واستدعوا الخليفة ومن كان بمصر من القضاة ونوّاب من هو غائب من القضاة بالقدس وحضر الأمير آقتمر الصاحبىّ نائب السلطنة بالديار المصرية وقعدوا الجميع بباب الآدر الشريفة من قلعة الجبل «2» وجدّدوا البيعة بالسلطنة للملك المنصور علىّ هذا بعد وفاة أبيه الملك الأشرف وقبل له البيعة آقتمر الصاحبىّ المذكور

(11/148)


ولبسوه السواد خلعة السلطنة وكانت فرجيّة حرير بنفسجىّ بطرز ذهب وبدائرها تركيبة زركش بحاشية حرير أزرق خطائى وشاش أسود خليفتى وقبعا أسود بعذبة خليفتيّا زركش. وركب بأبّهة السلطنة وشعار الملك من باب الستارة «1» والأمراء مشاة بين يديه إلى أن وصل إلى الإيوان «2» وجلس على تخت الملك في يوم الخميس المذكور وقبّلت الأمراء الأرض بين يديه وحلفوا له على العادة وأخلع على الخليفة وعلى الأمراء وعلى من له عادة بلبس الخلع ومدّ السّماط وكان عمر السلطان الملك المنصور يوم تسلطن نحو سبع سنين تخمينا.
ثم قام الملك المنصور من الإيوان ودخل إلى القصر وأخلع على الأمير طشتمر اللفّاف [المحمدى «3» ] باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية وأنعم عليه بكل مال أرغون شاه الأشرفىّ بعد قتله، وخلع على الأمير قرطاى الطازىّ واستقرّ رأس نوبة كبيرا وأطابكا «4» وأنعم عليه بكل مال صرغتمش الأشرفىّ بعد قتله أيضا، ورسم لهما أيضا أن يجلسا بالإيوان في الميمنة، وخلع على أسندمر الصّرغتمشىّ واستقرّ أمير سلاح ورسم له أن يجلس في الميسرة، وخلع على قطلوبغا البدرىّ واستقرّ أمير مجلس وخلع على طشتمر «5» العلائى الدوادار واستقرّ في نيابة دمشق ورسم له أن يخرج من يومه وخلع على إياس الصرغتمشىّ واستقرّ دويدارا كبيرا عوضا عن طشتمر العلائىّ بإمرة طبلخاناه. ثم أنعم على أينبك البدرىّ واستقر أمير آخور كبيرا وبلاط السيفىّ ألجاى الصغير ودمراش اليوسفىّ واستقرّ رأس نوبة ثانيا- وهذه الوظيفة هي الآن

(11/149)


وظيفة رأس نوبة النّوب في زماننا هذا- ويلبغا النظامىّ وألطنبغا السلطانىّ، وكان الجميع أجنادا ماعدا أينبك البدرىّ فإنه كان أمير طبلخاناه وطشتمر اللفّاف فإنه كان أمير عشرة فانتقل للأتابكيّة دفعة واحدة وأنعم على جماعة بإمرة طبلخاناه، وهم:
الأمير طغيتمر الناصرىّ وقطلوبغا البيسرىّ وبيخجا الكاملىّ وصربغا الناصرىّ وطولو الصّرغتمشىّ وأطلمش الأرغونىّ ومقبل الرومىّ وألجيبغا السيفىّ ألجاى وقطلوبغا النظامىّ وأحمد بن يحمر «1» التّركمانىّ وقطلوخجا أخو أينبك البدرىّ وتمربغا البدرىّ وألطنبغا المعلّم «2» وتلكتمر «3» بن عبد الله المنصورىّ وأسنبغا الصارمىّ وأطلمش الطازىّ وإبراهيم بن قطلقتمر العلائى وأرنبغا السيفىّ ألجيبغا وعلىّ بن آقتمر عبد الغنىّ وأسنبغا النظامىّ ومأمور القلمطاوىّ.
وأنعم على جماعة بإمرة عشرات وهم: تكا الشمسىّ ومحمد بن قرطاى الطازىّ وخضر بن ألطنبغا السلطانى ومحمد بن شعبان بن يلبغا العمرىّ وأسنبغا المحمودىّ وطبج المحمدىّ وألطنبغا شادى وسودون العثمانىّ شادّ السلاح خاناه وتلكتمر المنجكىّ وآقبغا السيفىّ ألجاى وجركس السّيفىّ ألجاى وطقتمش السيفىّ يلبغا وطوغان العمرىّ الظهيرىّ وبكلمش الإبراهيمىّ ويلبغا العلائى دوادار أمير علىّ النائب ويوسف بن شادى أخو حاج ملك وخضر الرسولىّ وأسندمر الشرفىّ ومغلطاى الشرفىّ وخليل بن أسندمر العلائىّ ورمضان بن صرغتمش وحسن أخو قطلوبغا حاجّى أمير علم ومنكلى الشمسىّ وألجيبغا السيفىّ جنقرا.
ثم رسم بالإفراج عن جماعة من السجن بقلعة الجبل في يوم السبت عاشر شهر ذى القعدة وهم: الأمير آقتمر عبد الغنى نائب السلطنة بديار مصر ونائب الشام كان

(11/150)


والأمير علم المحمدىّ وأيدمر الشمسىّ وسودون جركس المنجكىّ وطيبغا الصّفوىّ ألجاى «1» ومغلطاى البدرىّ الجمالىّ وصربغا السيفىّ وطشتمر الصالحىّ وبلاط الكبير السيفىّ ألجاى وحطط اليلبغاوىّ وإياس الماردينىّ وبلّوط الصرّغتمشىّ ويلبغا المنجكىّ وقرابغا أبو جركتمر «2» وحاجىّ خطاى والد غريب. ثم من الغد أمر بمسكهم ثانيا وتقييدهم وإرسالهم إلى سجن الإسكندرية فقبض عليهم وأرسلوا في تلك الليلة ما خلا آقتمر عبد الغنىّ وسودون المنجكىّ «3» .
ثم في يوم الأحد ثامن عشر ذى القعدة قبضوا على جماعة من مباشرى الدولة وطلعوا بهم إلى القلعة وهم: الصاحب الوزير شمس الدين المقسى وتاج الدين موسى ناظر الخواصّ الشريفة وأمين الدّين وعلاء الدّين بن السائس وشهاب الدين ابن الطّولونى وأدخلوا قاعة الصاحب «4» وصودروا حتى قرّر عليهم ما يقومون به من الأموال ثم أفرج عنهم.
ثم أحضر الأمير صلاح الدين خليل بن عرّام من الإسكندرية وصودر وقرّر عليه ألف ألف درهم ثم خلع عليه باستقراره في نيابة الإسكندرية على عادته.
ثمّ مسكوا من الطواشية والخدّام جماعة كبيرة، وهم: مختصّ الأشرفىّ وجوهر الإسكندرىّ وسنبل رأس نوبة الجمدارية وأدخلوا قاعة الصاحب.
ثم أصبحوا من الغد قبضوا على جماعة أخروهم: دينار اللّالا وشاهين دست وسنبل اللّفاف أحد الجمدارية وأدخلوا أيضا إلى قاعة الصاحب. ثم أصبحوا من الغد ورسموا لمثقال الجمالىّ الزّمام بحمل ثلاثمائة ألف درهم، ثم استقرّت مائة ألف درهم.

(11/151)


ثم في يوم الاثنين تاسع عشر ذى القعدة خلع على الأمير آقتمر «1» الصاحبىّ واستقرّ على نيابة السلطنة بالدّيار المصرية، كما كان في أيام الملك الأشرف شعبان، وفوّض إليه أن يخرج الإقطاعات للأمراء والأجناد والنوّاب وألّا يكون لأحد معه تحكّم وذلك بعد أن رضيت الأمراء والخاصّكية والبرّانيّون بذلك.
ثم أخلع على الأمير أرغون الإسعردىّ بنيابة طرابلس عوضا عن الأمير منكلى «2» بغا الأحمدىّ البلدىّ. ثم أخلع على القاضى بدر الدين بن فضل الله كاتب السّر باستمراره على وظيفته.
ثم أخلع على الصاحب تاج الدين المكّىّ بإعادته إلى الوزارة ثانية وهي وزارته الرابعة وأخلع على القاضى كريم الدين بن الرّويهب باستقراره ناظر الدولة واستقرّ القاضى تقىّ الدين عبد الرحمن ابن القاضى محب الدين محمد في نظر الجيوش المنصورة عوضا عن والده محبّ الدين المذكور بحكم وفاته.
ثم شرع الأمراء في النفقة على المماليك السلطانية فأعطوا كلّ نفر عشرة آلاف درهم. وفي ثانى عشر شهر ذى الحجة قرئ تقليد السلطان الملك المنصور على بالإيوان من قلعة الجبل وعلّم عليه الخليفة المتوكّل على الله وشهدت عليه القضاة بتفويض السلطنة للملك المنصور وخلع على الخليفة وأنعم عليه بألف دينار وهي رسم المبايعة.
ثم بعد أيام دخل أسندمر الصرغتمشىّ ودمرداش اليوسفىّ إلى الدّور السلطانيّة وفرّقوا جوارى الملك الأشرف شعبان على الأمراء.
ثم استقرّ في خامس المحرّم من سنة تسع وسبعين وسبعمائة الأمير قرطاى الطازىّ أتابكا بعد موت طشتمر اللّفّاف وأخلع عليه بعد أيام بنظر البيمارستان «3»

(11/152)


المنصورىّ وأخلع على الأمير مبارك الطازىّ واستقرّ رأس نوبة كبيرا عوضا عن قرطاى المذكور. ثم بعد ذلك بمدّة يسيرة استقرّ الأمير أينبك البدرىّ الأمير آخور الكبير في نظر البيمارستان، عوضا عن قرطاى برغبة قرطاى عنه واستقرّ سودون جركس أستادارا.
ثم في العشرين من المحرّم خلع على الأمير سودون الفخرىّ الشّيخونىّ وبلّوط الصرغتمشىّ واستقرّا حاجبين بالديار المصريّة.
ثم في صفر حضر الأمير يلبغا الناصرىّ إلى القاهرة وكان قد نفى إلى بلاد الشام، بعد قتل السلطان الأشرف فأنعم عليه بإمرة طبلخاناه وكانوا أيضا قبل تاريخه قد عزلوا الأمير منكلى بغا الأحمدىّ عن نيابة طرابلس وتمرباى نائب صفد عن نيابة صفد فجاء الخبر بأنّ منكلى بغا حلّ سيفه وأطاع وأنّ تمرباى عصى وامتنع بصفد فخلع على الأمير أرغون الإسعردىّ ثانيا بنيابة طرابلس عوضا عن منكلى بغا المذكور وتولى نيابة حماة تمراز الطازىّ.
ثم في هذه الأيام بدت الوحشة بين قرطاى الطازىّ الأتابك وبين صهره أينبك البدرىّ الأمير آخور الكبير في الباطن، كلّ ذلك في هذه المدّة اليسيرة وصار كلّ واحد يدبّر على الآخر مع أصحابه وحواشيه، فلمّا كان يوم الأحد العشرون من صفر عمل الأمير الأتابك قرطاى وليمة فأهدى له أينبك مشروبا يقال له الشّشش «1» وعمل فيه بنجا، فلمّا شربه قرطاى تبنّج، وكان لأينبك عند قرطاى عيون فأخبروه أنّه تبنّج فركب أينبك من وقته بالسلاح ومعه جماعة كبيرة ملبسين وأنزل السلطان الملك المنصور عليّا إلى الإسطبل السلطانىّ ودقّت الكوسات فجاءت الأمراء إلى السلطان وأقام أينبك راكبا من عصر يوم الأحد إلى صبيحة يوم الاثنين، وسببه أنه كان

(11/153)


عند قرطاى في بيته جماعة من الأمراء من أصحابه: منهم سودون جركس وأسندمر الصرغتمشىّ وقطلوبغا البدرىّ وقطلوبغا جركس وأمير سلاح ومبارك الطازىّ رأس نوبة كبير وجماعة أخر من أمراء الطبلخانات والعشرات فركبوا الجميع ومنعوا أينبك من الوصول إلى قرطاى وحموه إلى أن استفاق قرطاى من بنجه وقد ضعف أمر أصحابه وقوى أمر أينبك، فبعث قرطاى يسأل أينبك أن ينعم عليه بنيابة حلب ويرسل إليه منديل الأمان، فأجابه أينبك إلى ذلك فخرج قرطاى من وقته إلى سرياقوس «1» وقبض أينبك على من كان عند قرطاى من الأمراء فإنّهم كانوا قاتلوه وأبادوه من أخذ قرطاى وقيّدهم وأرسلهم إلى الإسكندرية «2» فسجنوا بها. ورسم للأمير آقتمر الصاحبىّ نائب السلطنة بمصر بنيابة دمشق عوضا عن طشتمر العلائىّ الدوادار فلبس آقتمر الخلعة وخرج من وقته ونودى بالقاهرة ومصر في الوقت بالأمان ومن كان له ظلامة، فعليه بباب المقرّ الأشرف العزىّ الأتابك أينبك البدرىّ وسافر قرطاى، فلمّا وصل إلى غزّة نفى إلى طرابلس. ثم حمل منها إلى المرقب «3» فحبس به ثم خنق بعد مدّة يسيرة وصفا الوقت لأينبك فأخلع السلطان عليه خلعة سنيّة في خامس عشرين شهر صفر باستقراره أتابك العساكر ومدبّر الممالك وخلع على الأمير آقتمر عبد الغنى واستقرّ نائب السلطنة بالديار المصريّة عوضا عن الأمير آقتمر الصاحبىّ المنتقل إلى نيابة دمشق وكلاهما قديم هجرة من أكابر الأمراء المشايخ.
واستقرّ الأمير بهادر الجمالىّ أستادارا عوضا عن سودون جركس واستقرّ بلاط السيفى ألجاى أمير سلاح، عوضا عن قطلوبغا جركس واستقرّ ألطنبغا السلطانىّ أمير مجلس واستقرّ دمرداش اليوسفىّ رأس نوبة كبيرا.

(11/154)


وأنعم على يلبغا الناصرىّ بإمرة مائة وتقدمة ألف واستقرّ رأس نوبة ثانيا ويلبغا الناصرىّ هذا هو صاحب الوقعة المشهورة مع السلطان الملك الظاهر برقوق وإلى الآن برقوق لم يتأمّر عشرة.
ثم أنعم على أطلمش الأرغونىّ بإمرة طبلخاناه واستقرّ دوادار كبيرا عوضا عن إياس الصرغتمشىّ وأخلع على قطلوخجا واستقرّ أمير آخور كبيرا عوضا عن أخيه أينبك البدرىّ وصار الأمر في المملكة لأينبك البدرىّ وحده من غير منازع وأخذ أينبك في المملكة وأعطى وحكم بما اختاره وأراده، فمن ذلك أنه في رابع شهر ربيع الأوّل رسم بنفى الخليفة المتوكّل على الله تعالى إلى مدينة قوص فخرج المتوكل على الله ثم شفع فيه فعاد إلى بيته ومن الغد طلب أينبك نجم الدين زكريا بن إبراهيم ابن الخليفة الحاكم بأمر الله وخلع عليه واستقرّ به في الخلافة عوضا عن المتوكّل على الله من غير مبايعة ولا خلع المتوكل من الخلافة نفسه، ولقّب زكرياء المذكور بالمعتصم بالله. ثم في العشرين من شهر ربيع الأوّل المذكور تكلّم الأمراء مع أينبك فيما فعله مع الخليفة ورغّبوه في إعادته فطلبه وأخلع عليه على عادته بالخلافة وعزل زكرياء. ومن الناس من لم يثبت خلافة زكريا المذكور، فإنّه لم يخلع المتوكل نفسه من الخلافة حتى يبايع زكريا المذكور.
ثم بدا لأينبك أن يسكن جماعة من مماليكه بمدرسة السلطان «1» حسن وبمدرسة «2» الملك الأشرف شعبان ويجعل في كل مدرسة مائة مملوك. ثم أعطى أينبك لولديه تقدمتى ألف وهما الأمير أحمد وأبو بكر. ثم نفى أرغون العثمانىّ إلى الشام بطالا وخلع على مقبل الدوادار الطواشىّ الرومىّ واستقرّ زماما بالآدر الشريفة عوضا عن

(11/155)


مثقال الجمالىّ. ثم خلع على بهادر الجمالىّ الأستادار واستقرّ في نظر البيمارستان «1» المنصورىّ.
وبينما أينبك في أمره ونهيه ورد عليه الخبر بعصيان نوّاب الشام ففى الحال علّق أينبك جاليش «2» السفر في تاسع عشر شهر ربيع الأوّل المذكور ورسم للعساكر بالتجهيز إلى سفر الشام وأسرع بالنفقة على العساكر وتجهّز في أسرع وقت وخرج الجاليش من القاهرة إلى الريدانية «3» فى سادس عشرين شهر ربيع الأوّل المذكور وهم خمسة من أمراء الألوف أوّلهم: قطلوخجا الأمير آخور الكبير أخو أينبك الأتابك وأحمد ولده ويلبغا الناصرىّ والأمير بلاط السيفىّ ألجاى وتمرباى الحسنىّ. ومن الطبلخانات بورى الأحمدىّ وآقبغا آص الشيخونىّ في آخرين ومائة مملوك من المماليك السلطانية ومائة مملوك من مماليك الأتابك أينبك.
وفي تاسع عشرين شهر ربيع الأوّل المذكور من سنة تسع وسبعين وسبعمائة خرج طلب السلطان الملك المنصور وطلب الأتابك أينبك البدرىّ وأطلاب بقيّة العساكر من الأمراء وغيرهم إلى الرّيدانية فأقاموا بالريدانية إلى يوم السبت مستهلّ شهر ربيع الآخر استقلّوا بالمسير قاصدين البلاد الشامية، وساروا حتى وصلوا بلبيس «4» رجعوا على أعقابهم بالعساكر إلى جهة الديار المصرية.
وخبر ذلك أن قطلوخجا أخا أينبك مقدّم الجاليش بلغه أن الجماعة الذين معه مخامرون وأنهم أرادوا أن يكبسوا عليه فاستقصّ الخبر حتّى تحقّقه فركب من وقته وساعته وهرب في الحال وهو في ثلاثة أنفس عائدا إلى أخيه أينبك فاجتمع به وعرّفه

(11/156)


الخبر ففى الحال أخذ أينبك السلطان ورجع به إلى نحو القاهرة حتّى وصلها في يوم الاثنين ثالث شهر ربيع الآخر وطلع به إلى قلعة الجبل وأنزل الأتابك أينبك السلطان الملك المنصور إلى الإسطبل السلطانىّ وجاءه بعض أمراء من أصحابه ثم أخذ أينبك فى إصلاح أمره وبينما هو في ذلك بلغه أن الأمير قطلقتمر العلائىّ الطويل والأمير ألطنبغا السلطانىّ وكانا رجعا معه من بلبيس، ركبا بجماعتهما في نصف الليل ومعهما عدّة من الأمراء وسائر المماليك السلطانية وخرج الجميع إلى قبّة النصر «1» موافقة لمن كان من الأمراء بالجاليش المقدّم ذكره، فجهز أينبك الأمير قطلوخجا في مائتى مملوك لقتال هؤلاء، فخرج بهم قطلوخجا إلى قبّة النصر، فتلقّاه القوم وحملوا عليه فآنكسر ومسك.
فلما بلغ أينبك ذلك جهّز الأمراء الذين كانوا بقلعة الجبل وأرسلهم إلى قبة النصر وهم: آقتمر من عبد الغنىّ نائب السلطنة وأيدمر الشمسىّ وبهادر الجمالىّ الأستادار ومبارك الطازىّ. هذا وقد ضعف أمر أينبك المذكور وخارت قواه، فإنّه بلغه أن جميع العساكر اتّفقت على مخالفته حتى إنه لم يعلم من هو القائم بهذا الأمر لكثرة من خرج عليه، فلمّا رأى أمره في إدبار ركب فرسه ونزل من الإسطبل السلطانىّ من غير قتال وهرب إلى ناحية كيمان مصر فتبعه أيدمر الخطائىّ وجماعة من العسكر فلم يقف له أحد على أثر، كلّ هذا وإلى الآن لم يجتمع من بالجاليش مع من هو بقبّة النصر من الأمراء، غير أنّ الفتنة قائمة على ساق والغوغاء ثائرة والسعد قد زال عنه من غير تدبير ولا عمل واختفى أينبك بتلك الجهة ثم وجدوا فرسه وقباءه ولبسه، ولمّا استولت الأمراء على القلعة على ما سنحكيه- إن شاء الله تعالى- بعد أن نذكر قتلة أينبك المذكور ألزموا والى القاهرة

(11/157)


ومصر بإحضاره فنودى عليه بالقاهرة ومصر وهدّد من أخفاه بانواع النّكال، فخاف كلّ أحد على نفسه من تقريبه، فلم يجد بدّا من طلب الأمان من الأمير يلبغا الناصرىّ الآتى ذكره، فأمّنه بعد مدّة فطلع أينبك اليه فحال وقع بصر القوم عليه قبضوه وأرسلوه مقيّدا إلى سجن الإسكندرية وكان ذلك آخر العهد به، كما سيأتى ذكره بعد استيلاء الأمراء على القلعة. قلت «وكما تدين تدان» . وما من طالم إلّا سيبلى بظالم.
وفي أينبك هذا يقول الأديب شهاب الدين بن العطّار: [المنسرح]
من بعد عزّ قد ذلّ أينبكا ... وانحطّ بعد السّموّ من فتكا
وراح يبكى الدماء منفردا ... والناس لا يعرفون أين بكى
وأمّا الأمراء فإنهم لمّا بلغهم هروب أينبك من قلعة الجبل ركبوا الجميع من قبّة النصر وطلعوا إلى الإسطبل «1» السلطانىّ من القلعة وصار المتحدّث فيهم قطلقتمر العلائى الطويل وضرب رنكه «2» على إسطبل شيخون «3» بالرمبلة تجاه باب السلسلة وأقام ذلك اليوم متحدثا، فأشار عليه من عنده من أصحابه أن يسلطن سلطانا كبيرا يرجع الناس إلى أمره ونهيه، فلم يفعله وقال: حتّى يأتى إخواننا، يعنى الأمراء الذين كانوا بالجاليش مع قطلوبغا وهم الذين ذكرناهم فيما تقدّم عند خروج الجاليش ومعهم من الأمراء الطبلخانات والعشرات جماعة: منهم برقوق العثمانىّ اليلبغاوىّ وبركة الجوبانىّ اليلبغاوىّ وكان أينبك قد أنعم على كل واحد منهما بإمرة طبلخاناه، بعد واقعة قرطاى دفعة واحدة من الجندية، قبل خروج السفر بأيام قليلة وهذا أوّل

(11/158)


ظهور برقوق وبركة في الدّول ثم حضرت الأمراء الذين كانوا بالجاليش إلى الإسطبل السلطانىّ وهم جمع كبير ممّن أنشأه أينبك وغيرهم وتكلّموا فيمن يكون إليه تدبير الملك واشتوروا في ذلك فاختلفوا. فى الكلام وظهر للقادمين الغدر ممّن كان بالإسطبل السلطانىّ ممّن ذكرناه، فقبضوا على جماعة منهم وهم: قطلقتمر العلائىّ الطويل المذكور الذي كان دبّر الأمر لنفسه وألطنبغا السلطانىّ ومبارك الطازىّ فى آخرين وقيّدوا الجميع وأرسلوا إلى الإسكندرية صحبة جمال الدين عبد الله بن بكتمر الحاجب واتّفقوا على أن يكون المتكلم في المملكة الأمير يلبغا الناصرىّ، فصار هو المتحدّث في أحوال الملك وسكن الإسطبل السلطانىّ وأرسل بإحضار الأمير طشتمر العلائىّ الدوادار نائب الشام.
ثم في يوم الأحد تاسع شهر ربيع الآخر لمّا تزايد الفحص على أينبك حضر أينبك بنفسه إلى عند الأمير بلاط فطلع به بلاط إلى يلبغا الناصرىّ بعد أن أخذ له منه الأمان حسب ما تقدّم ذكره، فلم تطل أيام يلبغا الناصرىّ في التحدث وظهر منه لين جنب، فاتّفق برقوق وبركة وهما حينذاك من أمراء الطبلخانات، لهم فيها دون الشهرين مع جماعة أخر وركبوا في سادس عشر شهر ربيع الآخر المذكور وركبت معهم خشداشيّتهم من المماليك اليلبغاوية ومسكوا دمرداش اليوسفىّ وتمرباى الحسنىّ وآقبغا آص الشيخونىّ وقطلوبغا الشعبانىّ ودمرداش التمان تمرىّ المعلّم وأسندمر العثمانىّ وأسنبغا تلكى وقيّدوا وأرسلوا إلى سجن الإسكندرية فسجنوا بها. وقد أضربنا عن أشياء كثيرة من وقائع هذه الأيام لاختلاف نقول الناس فيها، لأنّ غالب من وثب وأثار الفتنة من واقعة الملك الأشرف شعبان إلى هذه الأيام كان فيما قيل في العام الماضى إمّا جنديا وإمّا أمير

(11/159)


عشرة لا يعرف من أحواله إلا القليل وأيضا لم يكن في هذه الواقعة رجل عظيم له شأن قام بأمر وتبعته الناس، بل كل واقعة من هؤلاء تكون فيها جماعة كبيرة، كلّ منهم يقول: أنا ذاك ولهذا اختلفت النقول. وقد ذكرنا المقصود من ذلك كلّه وما فيه كفاية. إن شاء الله تعالى.
ولنشرع الآن في سياق ما وقع في أيام الملك المنصور- إلى أن يتوفّى إلى رحمة الله تعالى- فنقول:
ثم في النهار المذكور (أعنى اليوم الذي مسك فيه الأمراء) قبض أيضا على الطواشى مختار الحسامىّ مقدّم المماليك السلطانية وحبس بالبرج «1» من القلعة ثم أفرج عنه بعد أيام قلائل وأعيد إلى تقدمة المماليك على عادته. ثم بعد مدّة يسيرة استقرّ برقوق العثمانىّ اليلبغاوىّ أمير آخور كبيرا دفعة واحدة وسكن بالإسطبل السلطانىّ وأنزل معه الأمير يلبغا الناصرىّ واستقرّ الأمير زين الدين بركة الجوبانى اليلبغاوىّ أمير مجلس. ثم حضر الأمير طشتمر الدوادار نائب الشام إلى الديار المصرية بطلب من يلبغا الناصرىّ لما كان متحدّثا في أمور المملكة، فخرج السلطان الملك المنصور وسائر الأمراء لتلقيه إلى الرّيدانية «2» خارج القاهرة، فلمّا رأى السلطان نزل عن فرسه وقبّل الأرض بين يديه وبكى وطلع فى خدمة السلطان إلى القلعة وخلع عليه باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية وحضر مع طشتمر من الشام الأمير تمرباى التمرتاشىّ والأمير تغرى برمش وسودون الشيخونىّ وكان أينبك قد نقله إلى الشأم والأمير طقطمش ونزل طشتمر إلى بيت شيخون بالرّميلة وسكن به ليحكم بين الناس.

(11/160)


فلمّا كان في ثالث جمادى الأولى أمر طشتمر أن ينادى بالقاهرة ومصر «من كان له ظلامة فعليه بباب المقرّ الأشرف طشتمر العلائىّ» .
ثم في خامس جمادى الأولى المذكور أخلع السلطان على تمرباى التمرداشىّ باستقراره رأس نوبة كبيرا عوضا عن دمرداش اليوسفىّ وخلع على برقوق العثمانىّ باستمراره على وظيفة الأمير آخورية وعلى بركة الجوبانىّ باستمراره في إمرة مجلس وأنعم على الأمير أطلمش الأرغونىّ بتقدمة ألف واستقرّ دوادارا كبيرا واستقرّ يلبغا المنجكىّ شادا لشراب خاناه ورسم للأمير بلاط أمير سلاح أن يجلس بالإيوان ثم استقرّ دينار الطواشى الناصرىّ لالا السلطان الملك المنصور عوضا عن مقبل الكلبكىّ بحكم نفيه.
وفي سلخ جمادى الآخرة عزل الأمير آقتمر عبد الغنىّ من نيابة السلطنة بديار مصر.
ثم استقرّ الأمير تغرى برمش حاجب الحجّاب بالقاهرة واستقرّ أمير علىّ ابن قشتمر حاجبا ثانيا بإمرة مائة وتقدمة ألف ويقال له: حاجب ميسرة.
ثم في يوم الأحد ثانى شهر رجب توجّه الأمير أيتمش البجاسىّ إلى الإسكندرية بالإفراج عن جميع من بها من الأمراء المسجونين خلا أربعة أنفس: أينبك وأخوه قطلوخجا وأسندمر الصّرغتمشى وقيل جركس الجاولى الرابع وأنّ أينبك كان قتل.
فلما أحضروا الأمراء من الإسكندرية أخرجوا إلى بلاد الشام. ثم ولى الأمير بيدمر الخوارزمىّ نيابة الشام بعد موت الأمير آقتمر الصاحبىّ الحنبلىّ وكان آقتمر أحد من نفى من أكابر الأمراء المشايخ.
وأخلع على مبارك شاه المشطوب بنيابة غزة.

(11/161)


وفي مستهلّ شعبان استقرّ قطلقتمر العلائىّ نائب ثغر الإسكندرية عوضا عن خليل بن عرّام ثم نفى بيبغا الطويل العلائىّ أحد أمراء الطبلخانات إلى الشام بطّالا. ثم نقل الأمير منكلى بغا الأحمدىّ البلدىّ من نيابة حماة إلى نيابة طرابلس عوضا عن أرغون الإسعردىّ ونقل أرغون الإسعردىّ إلى نيابة حماة عوضه لأمر اقتضى ذلك ونقل الأمير آقبغا الجوهرىّ حاجب حجّاب طرابلس إلى نيابة غزّة عوضا عن مبارك العلائىّ ونقل مبارك العلائىّ عوضه في حجوبيّة طرابلس. ثم أخلع على الأمير صلاح الدين خليل بن عرّام المعزول عن نيابة إسكندرية باستقراره وزيرا بالديار المصرية عوضا عن القاضى كريم الدين بن الرّويهب. وقبض على ابن الرّويهب وصودر.
وفي شوّال توجّه بلاط أمير سلاح إلى خيله بالجيزة فأرسل إليه خلعة بنيابة طرابلس، فأجاب وخرج من القاهرة فرسم له بأن يتوّجه إلى القدس بطّالا واستقرّ عوضه يلبغا الناصرىّ أمير سلاح وأخلع على إينال اليوسفىّ اليلبغاوىّ واستقرّ رأس نوبة ثانيا بتقدمة ألف، عوضا عن يلبغا الناصرىّ المذكور. وأخلع على القاضى بدر الدين محمد ابن القاضى بهاء الدين أبى البقاء السبكىّ الشافعىّ قاضى قضاة الديار المصرية عوضا عن قاضى القضاة برهان الدين ابن جماعة بحكم توجّهه إلى القدس بحسب سؤاله على ذلك.
ولمّا صار الأمر للأتابك طشتمر العلائىّ الدوادار أخذ في تنفيد الأمور على القواعد فعظم ذلك على برقوق واتّفق مع بركة الجوبانىّ خجداشه ومع جماعة أخر على الركوب على طشتمر، فلما كان ليلة تاسع ذى الحجة من سنة تسع وسبعين المذكورة ركب برقوق العثمانىّ وخجداشه بركة الجوبانىّ بمن وافقهما من الأمراء وغيرهم وأنزلوا السلطان الملك المنصور بكرة النهار وهو يوم عرفة ودقت الكوسات،

(11/162)


وقصد برقوق مسك طشتمر الأتابك، فركبت مماليك طشتمر وخرجوا إليهم وتقاتلوا معهم قتالا عظيما، حتى تكاثر جمع برقوق وبركة وقوى أمرهم فحينئذ انكسرت مماليك طشتمر وأرسل طشتمر يطلب الأمان فأرسل السلطان إليه منديل الأمان، فطلع إلى القلعة فمسك في الحال هو والأمير أطلمش الأرغونىّ الدوادار وأمير حاج بن مغلطاى ودوادار الأمير طشتمر المذكور وأرسل الجميع إلى سجن الإسكندرية فاعتقلوا بها.
ثم في يوم الاثنين ثالث عشر ذى الحجّة استقرّ برقوق العثمانىّ أتابك العساكر بالديار المصرية عوضا عن طشتمر العلائى المقدّم ذكره واستقرّ بركة الجوبانىّ رأس نوبة كبيرا أطابكا «1» - وهذه الوظيفة الآن مفقودة في زماننا- وسكن بركة «2» فى بيت قوصون تجاه باب (3) السلسلة واستقرّ الأمير أيتمش البجاسىّ أمير آخور كبيرا بتقدمة ألف عوضا عن برقوق واستقرّ برقوق بسكنه بالإسطبل السلطانىّ وصار هؤلاء الثلاثة هم: نظام الملك وإليهم العقد والحلّ وبرقوق كبيرهم الذي يرجع إليه والمعوّل على الاثنين: برقوق وبركة، حتى لهجت الناس بقولهم: (برقوق وبركة، نصبا على الدنيا شبكة) .
ثم بعد يومين مسك الأمير يلبغا الناصرىّ أمير سلاح وأرسل إلى سجن الإسكندريّة ومعه الأمير كشلى «3» أحد أمراء الطبلخانات. ثم أخرج يلبغا الناصرىّ بعد مدّة إلى نيابة طرابلس؛ ويلبغا الناصرىّ هذا هو صاحب الوقعة مع برقوق الآتى ذكرها في سلطنته إن شاء الله تعالى.

(11/163)


ثم في العشرين من ذى الحجّة خلع على الأمير إينال اليوسفىّ واستقرّ أمير سلاح عوضا عن يلبغا الناصرىّ.
ثم في مستهل شهر المحرّم سنة ثمانين وسبعمائة أنعم على آقتمر العثمانىّ بتقدمة ألف واستقرّ دوادارا كبيرا عوضا عن أطلمش الأرغونىّ. ثم بعد أيام قبض على صراى تمر نائب صفد وسجن بالكرك واستقرّ عوضه في نيابة صفد آقبغا الجوهرى نائب غزّة واستقرّ عوضه في نيابة غزّة مبارك شاه.
ثم في سادس صفر تولّى كريم الدين عبد الكريم بن مكانس الوزر والخاصّ معا ووكالة بيت المال ونظر الدواوين. ثم استقرّ برقوق بالأمير منكلى بغا الأحمدىّ البلدىّ نائب طرابلس في نيابة حلب عوضا عن إشقتمر الماردينىّ بحكم عزله بالقبض عليه بمدينة بلبيس وسجنه بالإسكندرية. وقد قدّمنا أنّ إشقتمر هذا كان ممن ولى الأعمال الجليلة من سلطنة السلطان حسن وبرقوق يوم ذاك من صغار مماليك يلبغا العمرىّ. انتهى.
ثمّ أخرج برقوق يلبغا الناصرىّ وولّاه نيابة طرابلس عوضا عن منكلى بغا الأحمدىّ البلدىّ المنتقل إلى نيابة حلب. ثمّ بعد مدّة يسيرة قبض على منكلى بغا المذكور واعتقل بقلعة حلب وتولّى حلب عوضه الأمير تمرباى الأفضلىّ التمرداشى.
ثمّ رسم بالإفراج عن إشقتمر الماردينىّ من سجن الإسكندرية وأن يتوجّه إلى القدس بطّالا.
ثم في هذه الأيام رسم بعزل الأمير بيدمر الخوارزمىّ عن نيابة الشام بالأمير «1» كمشبغا الحموىّ اليلبغاوىّ.

(11/164)


قلت: وبيدمر هذا أيضا ممّن ولى نيابة طرابلس في أيام يلبغا العمرىّ وغيرها من الأعمال وحضر بيدمر إلى القاهرة وقبض عليه واعتقل بسجن الإسكندرية.
ثمّ استقرّ الأمير قرادمرداش الأحمدىّ اليلبغاوىّ أمير مجلس واستقر ألطنبغا الجوبانىّ اليلبغاوىّ رأس نوبة ثانيا بتقدمة ألف وهذه الوظيفة هي الآن وظيفة رأس نوبة النوب واستقر الأمير بزلار العمرىّ الناصرىّ نائب إسكندرية عوضا عن الأمير قطلقتمر بتقدمة ألف واستقر منكلى بغا الطرخانىّ نائب الكرك، عوضا عن تمراز الطازىّ واستقرّ خليل بن عرّام المعزول عن نيابة إسكندرية وعن الوزر وهو يومئذ من جملة أمراء الألوف أستادار بركة الجوبانىّ وهذا شئ لم يسمع بمثله كون أمير مائة ومقدّم ألف يكون أستادارا عند بعض أعيان الأمراء، فهذا شئ عجيب.
ثم استقرّ الأمير بركة الجوبانىّ ناظر الأوقاف الحكمية «1» جميعها وجعل نائبه فى النظر جمال الدين محمود العجمىّ الحنفى.
ثمّ استعفى الأمير تغرى برمش من الإمرة والحجوبية الكبرى بديار مصر فأعفى، فاستقر عوضه الأمير مأمور القلمطاويّ اليلبغاوىّ أمير مائة ومقدّم ألف وحاجب الحجاب.
وفي هذه الأيام اتّفق جماعة على قتل الأتابك برقوق العثمانىّ، ففطن بهم فمسك منهم جماعة منهم طشبغا الخاصّكى وآقبغا بشمقدار ألجاى وآقبغا أمير آخور ألجاى في آخرين تقدير أربعين نفسا، فنفى برقوق بعضهم وحبس البعض، ثمّ مسك

(11/165)


برقوق ألطنبغا شادى وجماعة من مماليك ألجاى اليوسفىّ ثمّ أمسك بعد ذلك بمدّة سبعة عشر أميرا وقيّدهم وأرسلهم إلى الإسكندرية.
ثمّ في حادى عشرين شهر ربيع الأوّل سمّر برقوق آقبغا البشمقدار ومعه أحد عشر مملوكا من المماليك السلطانية، وعشرين من مماليك طشتمر الدوادار لكلام صدر منهم في حق برقوق.
وفي أوّل هذه السنة (أعنى سنة ثمانين) كان الحريق العظيم بديار مصر بظاهر باب زويلة «1» ، احترق فيه الفاكهيون «2» والنقليون والبراذعيون وعمل الحريق إلى سور القاهرة، فركب الأمير بركة والأمير أيتمش والأمير قرادمرداش الأحمدىّ وجماعة كبيرة من الأمراء والحكّام، حتى قدروا على طفيه بعد أيام واستمر مواضع الحريق خرابا من أوّل هذه السنة إلى آخرها.
ثمّ في سادس عشرين ذى القعدة اجتمع الأمراء والقضاة عند الأتابك برقوق وقالوا: إنّ العساكر قلت في الإسلام ونريد أن نحلّ الأوقاف المحدثة، بعد الملك الناصر محمد بن قلاوون، فمنعهم الشيخ سراج الدين البلقينىّ من ذلك، فلم يسمعوا له وحلّوا أوقاف الناس وجعلوها إقطاعات وفرّقوها.

(11/166)


وفي مستهل شهر ربيع الآخر من سنة إحدى وثمانين وسبعمائة طلب اشقتمر الماردينىّ من القدس «1» الى القاهرة، فحضر في أوّل جمادى الأولى وتولّى نيابة حلب بعد عزل تمرباى الأفضلىّ التّمرداشىّ، ولمّا حضر اشقتمر إلى القاهرة تلقّاه الأتابك برقوق والأمير بركة الى الحوض «2» التحتانىّ من الريدانية وترجّلا له عن خيولهما، وأنزله برقوق عنده وخدمه أتمّ خدمة، ثمّ عزل الأمير كمشبغا الحموىّ اليلبغاوىّ عن نيابة دمشق، وتولّى عوضه بيدمر الخوارزمىّ على عادته، وكان بيدمر معتقلا بالإسكندرية.
ثمّ في أثناء هذه السنة كانت واقعة الأمير إينال اليوسفىّ اليلبغاوىّ مع الأتابك برقوق.
وخبر هذه الواقعة: أنه لمّا كان في يوم رابع عشرين شعبان ركب الأتابك برقوق من الإسطبل السلطانىّ في حواشيه ومماليكه للتسيير على عادته، وكان الأمير بركة الجوبانىّ مسافرا بالبحيرة «3» للصيد، فلما بلغ إينال اليوسفىّ أمير سلاح ركوب برقوق من الإسطبل السلطانىّ انتهز الفرصة لركوب برقوق وغيبة بركة، وركب بمماليكه وهجم الإسطبل السلطانىّ وملكه ومسك الأمير جركس الخليلىّ، وكان مع إينال المذكور جماعة من الأمراء: منهم سودون جركس المنجكىّ أمير آخور، والأمير صصلان الجمالىّ، وسودون النّوروزىّ، وجمق الناصرىّ، وقمارى،

(11/167)


وجماعة أخر، ولما طلع إينال الى باب «1» السلسلة وملكها أرسل الأمير قمارى لينزل بالسلطان الملك المنصور إلى الإسطبل، فأبى السلطان من نزوله ومنعه، ثمّ كبس إينال زردخاناه برقوق وأخرج منها اللّبوس وآلة الحرب، وأخذ مماليك برقوق الذين كانوا وافقوه وألبسهم السلاح وأوقفهم معه وأوعدهم بمال كبير وإمريات، وبلغ برقوقا الخبر فعاد مسرعا، وجاء الى بيت «2» الامير أيتمش البجاسىّ بالقرب من باب الوزير «3» وألبس مماليكه هناك، وجاءه جماعة من أصحابه، فطلع بالجميع الى تحت القلعة وواقعوا إينال اليوسفىّ، وأرسل برقوق الأمير قرط في جماعة الى باب السلسلة الذي من جهة باب المدرّج، فأحرقه، ثمّ تسلّق قرط المذكور من عند باب سرّ قلعة الجبل، ونزل ففتح لأصحابه الباب المتصل الى الإسطبل السلطانىّ، فدخلت أصحاب برقوق منه وقاتلت إينال، وصار برقوق بمن معه يقاتل من الرّميلة «4» فانكسر إينال ونزل الى بيته جريحا من سهم أصابه في رقبته من بعض مماليك برقوق، وطلع برقوق الى الإسطبل وملكه وأرسل الى إينال من أحضره، فلمّا حضر قبض عليه وحبسه بالزّردخاناه وقرّره بالليل فأقرّ: أنه ما كان قصده إلّا مسك بركة لا غير.
ثم إنّ برقوق مسك جماعة من الأمراء وغيرهم من أصحاب يتال اليوسفىّ ما خلا سودون النوروزىّ وجمق الناصرىّ وشخصا جنديّا يسمى أزبك وكان يدّعى أنه من أقارب برقوق. ثمّ حمل إينال في تلك الليلة إلى سجن الإسكندرية

(11/168)


ومعه سودون جركس. ثم أخذ برقوق في القبض على مماليك إينال اليوسفىّ، ونودى عليهم بالقاهرة ومصر؛ وفي هذه الواقعة يقول الأديب شهاب الدين أحمد ابن العطار: [الرجز]
ما بال إينال اتى ... فى مثل هذى الحركه
مع علمه بأنها ... خالية من بركه
وله أيضا- عفا الله عنه: [السريع]
قد ألبس الله برقوق المهابة فى ... نهار الاثنين من نصر وتمكين
وراح إينال مع سودون وانكسرا ... وكان يوما عسيرا يوم الاثنين
وله عفا الله عنه: [الوافر]
بغى إينال واعتقد الأمانى ... تساعده فما نال المؤمّل
ومدّ لأخذ برقوق يديه ... ولم يعلم بأن الخوخ أسفل
ثمّ في الثامن والعشرين من شعبان حضر الأمير بركة من السّرحة، فركب الأتابك برقوق وتلقّاه من السّحر وأعلمه بما وقع من إينال اليوسفىّ في حقّه. ثم اتّفقا على طلب الأمير يلبغا الناصرىّ من نيابة طرابلس فحضر وأنعم عليه باقطاع إينال اليوسفىّ ووظيفته إمرة سلاح وكانت وظيفة يلبغا قبل إينال. وتولّى مكانه فى نيابة طرابلس منكلى بغا الأحمدىّ البلدىّ ثم استقر بلّوط الصّرغتمش في نيابة الإسكندريّة، بعد عزل بزلار عنها ونفيه إلى الشام بطّالا.
ثمّ نقل حطط من نيابة أبلستين إلى نيابة حماة عوضا عن أرغون الإسعردىّ ثمّ استقر قرط فى نيابة الوجه القبلىّ مضافا إلى أسوان.

(11/169)


ثمّ أمسك برقوق مثقال الجمالىّ الزّمام وسأله عن ذخائر الملك الأشرف شعبان فأنكر ففرض عليه العقوبة فأقرّ بصندوق داخل الدار السلطانية فأرسله، ومعه خادمان فأتى بالصندوق وفيه ثلاثون ألف دينار. ثمّ قرّره فأخرج من قاعة المجدىّ ذخيرة فيها خمسة عشر ألف دينار وبرنيّة فيها فصوص، منها فصّ عين هرّ، زنته ستة عشر درهما.
ثمّ بعثه إلى الأمير بركة فعصره فلم يعترف بشىء ثمّ وجدوا عند دادة الملك الاشرف أوراقا فيها دفتر بخط الملك الأشرف: فيه كلّ شىء ادّخره مفصّلا، فوجدوا الذخائر كلّها قد أخذت ولم يتأخر إلا عند طشتمر الدوادار ذخيرة فيها خمسة عشر ألف دينار وعلبة فصوص وعلبة لؤلؤ، وما وجدوا في ذلك اسم مثقال المذكور فأفرج عنه.
وفي هذه السنة وجّه الأمير بركة دواداره سودون باشا إلى الحجاز الشريف لإجراء الماء الى عرفة، وكان في أوائل هذه السنة برز المرسوم الشريف بأن يعمل على قنطرة فم الخور «1» التى عند موردة الجبس سلسلة تمنع المراكب من الدخول إلى الخليج

(11/170)


وإلى بركة الرطلى «1» ، فعمل شعراء العصر في ذلك أبياتا، منها قول بدر الدين ابن الشاميّة أحد صوفية الخانقاة الرّكنية بيبرس: [البسيط]
يا سادة فعلهم جميل ... وما لهم في الورى وحاشه
سلسلتم البحر لا لذنب ... وارسلتموا للحجاز باشه

(11/171)


قلت: لم تصح التورية معه في قوله: باشه، لعدم معرفته باللغة التركية، لأن اسم باشا بالتفخيم والألف وباشه مرقّقة وفي آخرها هاء وبينهما بون في اللفظ، وكثير مثل هذا يقع للشعراء من أولاد العرب، فيأخذون المعانى الصالحة فيجعلونها هجوا مثل لفظة نكريش وغيرها، لأن نكريش باللغة العجمية معناه: «جيد اللحية» ، فاستعملوها الشعراء في باب الهجو وكثير مثل هذا. وقد أوضحنا ذلك في مصنف «1» بيّنا فيه تحاريف أولاد العرب في الأسماء التركية وغيرها. وقال الأديب عبد العال البغدادىّ في المعنى: [مخلّع البسيط]
أطلقت دمعى على خليج ... مذ سلسلوه فصار يقفل
من رام من دهرنا عجيبا ... فلينظر المطلق المسلسل
[مخلّع البسيط] وقال غيره:
قد أطلقوا البحر من فسوق ... مذ سلسلوا منه خير جدول
ورق قلب الهوى عليه ... فجذا نهره المسلسل
وفي هذه السنة كانت بالديار المصرية واقعة غريبة من كلام الحائط، وخبره:
أن في أوائل شهر رجب من هذه السنة ظهر كلام شخص من حائط في بيت العدل شهاب الدين [أحمد] الفيشىّ «2» الحنفىّ بالقرب من الجامع الأزهر، فصار كلّ من

(11/172)


يأتى الى الحائط المذكور ويسأله عن شىء يردّ عليه الجواب ويكلّمه بكلام فصيح، فجاءته الناس أفواجا وتردّدت الى الحائط المذكور أكابر الدولة وتكلّموا معه وافتتن الناس بذلك المكان وتركوا معايشهم وازدحموا على الدار المذكورة وأكثر أرباب العقول الفحص عن ذلك، فلم يقفوا له على خبر، وتحيّر الناس في هذا الأمر العجيب، إلى أن حضر الى البيت المذكور القاضى جمال الدين «1» محمود القيصرىّ العجمىّ محتسب القاهرة وفحص عن أمره بكلّ ما يمكن القدرة اليه، حتّى إنه أخرب بعض الحائط فلم يؤثّر ذلك شيئا واستمرّ الكلام في كلّ يوم الى ثالث شعبان، وقد كادت العامّة أن تتعبد بالمكان المذكور. وأكثروا من فولهم: «يا سلام سلّم، الحيطة بتتكلّم» وخاف أهل الدولة من إفساد الحال وقد أعياهم أمر ذلك، حتّى ظهر أنّ الذي كان يتكلّم هي زوجة صاحب المنزل، فأعلم بذلك الأتابك برقوق، فاستدعى بها مع زوجها فحضرا فأنكرت المرأة فضربها فأقرّت، فأمر بتسميرها وتسمير شخص آخر معها يسمى «عمر» وهو الذي كان يجمع الناس إليها، بعد أن ضرب برقوق الزوج وعمر المذكور بالمقارع وطيف بهما في مصر والقاهرة ثم أفرج عنهم، بعد أن حبسوا مدّة، وفي ذلك يقول الشيخ شهاب الدين بن العطار:
[البسيط]
يا ناطقا من جدار وهو ليس يرى ... اظهر وإلّا فهذا الفعل فتّان
فما سمعنا وللحيطان «2» ألسنة ... وإنّما قيل للحيطان آذان

(11/173)


وقال غيره: [البسيط]
قد حار في منزل الفيشى الورى عجبا ... بناطق من جدار ظل مبديه
وكلّهم في حديد بارد ضربوا ... وصاحب البيت أدرى بالذى فيه
وفي هذه السنة أمر الأمير بركة بنقل الكلاب وقرّر على كلّ أمير شيئا معيّنا وعلى أصحاب الدكاكين على كلّ صاحب دكّان كلبا، فتتّبع الناس الكلاب حتى أبيع كلّ كلب بدرهم فأخذ بركة جميع الكلاب ونفاها إلى برّ الجيزة.
وفي يوم الأربعاء سابع صفر من سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة كان ابتداء الفتنة بين الأتابك برقوق وبين خجداشه بركة الجوبانىّ وهو أن بركة أرسل يقول إلى برقوق في اليوم المذكور: إن أيتمش البجاسىّ لابس آلة الحرب هو ومماليكه بإسطبله فأرسل برقوق إلى أيتمش في الحال فلم يجد الأمر صحيحا. ثم طلع أيتمش إلى برقوق وأقام عنده وتردّدت الرسل بين برقوق وبركة، والذي كان الرسول بينهما العلّامة أكمل الدّين شيخ الشيوخ بالشيخونية، أراد بذلك إخماد الفتنة والشيخ أمين الدين الحلوانىّ ولا زالا بهما حتى أوقع الصلح بينهما ورضى بركة على أيتمش البجاسىّ وخلع عليه قباء «نخّ» عند نزوله إليه بأمر برقوق صحبة الشيخين المذكورين.
ثم فسد ما بينهما أيضا بعد اثنى عشر يوما في ليلة الجمعة تاسع عشر صفر وبات تلك الليلة كلّ أمير من أمراء مصر ملبسا بماليكه في إسطبله، وسببه: أن بركة أراد أن يمسك جماعة من الأمراء، ممّن هو من ألزام برقوق فأصبح نهار الجمعة والأمراء لابسون السلاح ولمّا وقع ذلك، طلب برقوق القضاة إلى القلعة ليرشّد السلطان الملك المنصور وقال لهم: نرشّد السلطان فيتكلم في أمور مملكته وأنكفّ أنا وغيرى من التّكلّم وأنا مملوك من جملة مماليك السلطان، فتكلّم القضاة بينه وبين

(11/174)


الأمير بركة وتردّدوا في الرّسلية غير مرّة إلى أن أذعن كلّ منهما إلى الصلح وتحالفا على ذلك واصطلحا وأصبحت الأمراء من الغد ركبوا إلى الميدان ولعبوا بالكرة وخلع بركة على أيتمش ثانيا. واستقرّ الصلح وخلع برقوق على القضاة الأربعة والتزم بركة أنه لا يتحدّث في شىء من أمور المملكة البتة.
واستمرّ الأمراء على ذلك إلى يوم الاثنين سابع شهر ربيع الأوّل ركبت الأمراء وسيّروا بناحية قبّة النصر ورجعوا وطلع برقوق إلى الإسطبل السلطانىّ، حيث سكنه، وذهب بركة إلى بيته وكان برقوق قد ولد له ولد ذكر وعمل سماطا للناس وطلع إليه الأمير صراى الرّجبىّ الطويل وكان من إخوة بركة وقال لبرقوق: إن بركة وحاشيته قد اتّفقوا على قتلك إذا دخلت يوم الجمعة إلى الصلاة هجموا عليك وقتلوك فبقى برقوق متفكّرا في ذلك متحيّرا لا يشكّ فيما أخبره صراى لصحبته مع بركة وبينما برقوق فى ذلك إذ طلع إليه الأمير قرادمرداش الأحمدىّ اليلبغاوىّ أمير مجلس وطبج المحمدىّ وآقتمر العثمانىّ الدّوادار الكبير. وهم من أعيان أصحاب بركة وهنّئوه بالولد وأكلوا السّماط، فلمّا فرغوا طلب برقوق الأمير جركس الخليلىّ ويونس الدّوادار وأمرهما بمسك هؤلاء الثلاثة ومن معهم، فمسكوا في الحال. ثم أمر برقوق حواشيه بلبس السلاح فلبسوا ونزل بزلار الناصرىّ من وقته غارة إلى مدرسة السلطان حسن مع مماليكه وطلع إليها وأغلق بابها وصعد إلى سطحها ومآذنها ورمى بالنّشّاب على بركة في إسطبله الملاصق للمدرسة المذكورة وهو بيت قوصون تجاه باب السلسلة، فلمّا رأى بركة ذلك أمر مماليكه وأصحابه بلبس السلاح، فلبسوا ونادى برقوق في الحال للعامّة تنهب بيت بركة، فتجمّعوا في الحال وأحرقوا بابه ولم يتمكن بركة من قتالهم من عظم الرمى عليه من أعلى سطوح المدرسة، فخرج من بابه الذي

(11/175)


بالشارع الأعظم المتّصل إلى صليبة «1» ابن طولون وخرج معه سائر أصحابه ومماليكه وترك ماله بالبيت ودخل من باب «2» زويلة وأخذ والى القاهرة معه إلى باب الفتوح «3» ، ففتحه له فإنه كان أغلق عند قيام الفتنة مع جملة أبواب القاهرة وسار بركة بمن معه من الأمراء والمماليك إلى قبّة النصر، خارج القاهرة فأقام بها ذلك اليوم في مخيّمه ثم أخرج طائفة من عساكره إلى جهة القلعة فتوجّهوا يريدون القلعة فندب برقوق لقتالهم جماعة من أصحابه، فنزلوا إليهم وقاتلوهم قتالا شديدا، قتل فيه من كلّ طائفة جماعة. ثم رجعت كلّ طائفة إلى أميرها وباتوا تلك الليلة.
فلمّا أصبح نهار الثلاثاء ثامن شهر ربيع الأوّل من سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة، ندب برقوق لقتال بركة الأمير علّان الشعبانىّ وأيتمش البجاسىّ وقرط الكاشف فى جماعة كبيرة من الأمراء والمماليك وتوجّهوا إلى قبّة النصر فبرز لهم من أصحاب بركة الأمير يلبغا الناصرىّ أمير سلاح بجماعة كبيرة والتقوا وتصادموا صدمة هائلة انكسر فيها يلبغا الناصرىّ بمن معه وانهزم إلى جهة قبة النصر، فلمّا رأى الأمير بركة انهزام عسكره ركب بنفسه وصدمهم صدمة صادقة وكان من الشّجعان كسرهم فيها أقبح كسرة وتتّبعهم إلى داخل التّرب، ثم عاد إلى مخيّمه وطلع أصحاب برقوق إلى باب السلسلة في حالة غير مرضية وباتوا تلك الليلة، فلمّا أصبح نهار الأربعاء تاسع شهر ربيع الأوّل المذكور، أنزل برقوق السلطان الملك المنصور إلى عنده بالإسطبل السلطانىّ، ونادى للماليك السلطانية بالحضور، فحضروا فأخرج جماعة كبيرة من الأمراء ومعهم المماليك السلطانية وندبهم لقتال بركة ودقّت الكوسات بقلعة الجبل

(11/176)


حربية، هذا وقد جهّز بركة أيضا جماعة كبيرة أيضا من أصحابه، لملتقى من ندبه برقوق لقتاله، وسار كلّ من الفريقين إلى الآخر حتّى تواجها على بعد، فلم يتقدّم أحد من العسكرين إلى غريمه، فلما كان بعد الظهر بعث الأمير بركة أمير آخر سيف الدين طغاى يقول لبرقوق: ما هذا العمل! هكذا كان الاتفاق بيننا؟ فقال برقوق: هكذا وقع، قل لأستاذك يتوجه نائبا في أىّ بلد شاء، فرجع أمير آخوره بركة له بهذا القول، فلم يوافق بركة على خروجه من مصر أصلا، فلما أيس منه أمير آخوره قال له: إن كان ولا بدّ فهذا الوقت وقت القيلولة والناس مقيّلة، فهذا وقتك، فركب بركة بأصحابه ومماليكه من وقته وساقوا فرقتين: فرقة من الطريق المعتادة، وفرقة من طريق الجبل. وكان بركة في الفرقة التي بطريق الجبل؛ وبلغ برقوقا ذلك فأرسل الأمراء والمماليك في الوقت لملتقاه، فلمّا أقبل بركة هرب أكثر عساكر برقوق ولم يثبت إلّا الأمير علّان الشعبانىّ في نحو مائة مملوك، والتي مع بركة. وكان يلبغا الناصرىّ بمن معه من أصحاب بركة توجّه من الطريق المعتادة، فآلتقاه أيتمش البجاسىّ بجماعة وكسره وضربه بالطّبر وأخذ جاليشه وطبلخاناته ورجع مكسورا بعد أن وقع بينهم وقعة هائلة جرح فيها من الطائفتين خلائق.
وأمّا بركة فإنه لما التقى مع علّان صدم علان صدمة تقنطر فيها عن فرسه وركب غيره، فلمّا تقنطر انهزم عنه أصحابه، فصار في قلّة فثبت ساعة جيّدة ثم انكسر وانهزم إلى جهة قبّة النصر، وأقام به إلى نصف الليل فلم يجسر أحد من البرقوقية على التوجّه إليه وأخذه.
فلمّا كانت نصف ليلة الخميس المذكورة رأى بركة أصحابه في قلّة وقد خلّ عنه أكثر مماليكه وحواشيه وهرب من قبّة النصر هو والأمير آقبغا صيوان إلى جامع

(11/177)


المقسىّ «1» خارج القاهرة فغمز عليه في مكانه فمسك هو وآقبغا المذكور من هناك وطلع بهما إلى برقوق وتتبّع برقوق أصحاب بركة ومماليكه فمسك منه جماعة كبيرة حسب ما يأتى ذكره مع من مسك مع بركة من الأمراء وبقيت القاهرة ثلاثة أيام مغلقة والناس في وجل بسبب الفتنة فنادى برقوق عند ذلك بالأمان والاطمئنان.

(11/178)


وفي واقعة بركة يقول طاهر بن حبيب: [الرجز]
يا لؤمها من حالة ... وشؤمها من حركه
وقبحها من فتنة ... فيها زوال بركه
وعظم كسرة بركة ومسكه على الناس، لأنه كان محبّبا للرعيّة وفيه كرم وحشمة وكان أكثر ميل الناس إليه.
ولمّا كان عشيّة ليلة الخميس المذكورة أخذ برقوق خجداشه بركة وقيّده وأرسله إلى سجن الإسكندرية فحبس به صحبة الأمير قردم الحسنىّ ومعه جماعة في القيود من أصحابه الأمراء وهم: الأمير قرادمرداش الأحمدىّ أمير مجلس المقبوض عليه قبل واقعة بركة وآقتمر العثمانىّ الدوادار وأمير آخر.
ثم أخذ برقوق في القبض على الأمراء من أصحاب بركة، فمسك جماعة كبيرة وهم: أيدمر الخطائىّ وخضر (بضم الخاء المعجمة وفتح الضاد المعجمة وراء ساكنة) وقراكسك وأمير حاج بن مغلطاى وسودون باشا ويلبغا المنجكىّ وقرابلاط وقرابغا الأبوبكريّ وتمربغا السيفىّ تمرباى وإلياس الماجرىّ وتمربغا الشمسىّ ويوسف ابن شادى وقطلبك النظامىّ وآقبغا صيوان الصالحىّ وكزل القرمىّ وطولو تمر الأحمدىّ وطوجى الحسينىّ وتنكر العثمانى وقطلوبغا السيفىّ وغريب الأشرفىّ وكمجىّ «1» وألطنبغا الأرغونىّ ويلبغا الناصرىّ رفيق منطاش الآتى ذكرهما وأطلمش الطازىّ وتمرقيا.
فأرسل منهم برقوق في ليلة الأحد ثانى عشر ربيع الأوّل جماعة إلى الإسكندرية صحبة الأمير سودون الشيخونىّ وهم: يلبغا الناصرىّ وهو أكبر الجماعة

(11/179)


وطبج المحمدىّ ويلبغا المنجكىّ وأطلمش الطازىّ وقرابلاط وتمرقيا السيفىّ تمربغا وإلياس وقرابغا.
ثم عرض برقوق مماليك بركة فأخذ أكابرهم في خدمته، وكذلك فعل بمماليك يلبغا الناصرىّ، ثم أمسك أرسلان الأشرفىّ دوادار بركة. ثم أفرج برقوق عن ستة أمراء ممن أمسكهم.
ثم أنعم برقوق على جماعة من أصحابه بتقادم ألوف فأنعم على ولده محمد بن برقوق بإقطاع بركة بتمامه وكماله، ثم أنعم على أربعة أخر بتقادم ألوف وهم: جركس الخليلىّ وبزلار العمرىّ الناصرىّ وألطنبغا المعلّم وآلابغا العثمانىّ وأنعم على أطلمش الطازىّ أحد أصحاب بركة بإمرة طبلخاناة بالشام.
ثم في يوم الخميس ثامن شهر ربيع الأوّل المذكور أنعم على جماعة بإمرة طبلخانات، وهم: آقبغا الناصرىّ وتنكزبغا السيفىّ؟؟ وفارس الصرغتمشىّ وكمشبغا الأشرفىّ الخاصّكى وقطلوبغا السيفىّ كوكاى وتمربغا المنجكىّ وسودون باق السّيفىّ تمرباى وإياس الصرغتمشىّ وعلى جماعة بإمرة عشرات وهم: قوصون الأشرفىّ وبيبرس التمان تمرىّ وطغا الكريمىّ وبيرم العلائىّ وآقبغا اللّاجينىّ.
ثم في حادى عشرين شهر ربيع الأوّل المذكور أخلع برقوق على جماعة من الأمراء بوظائف، فاستقرّ أيتمش البجاسىّ رأس نوبة كبيرا أطابكا عوضا عن بركة- وهذه الوظيفة بطلت من أيام الملك الناصر فرج- واستقرّ علّان الشعبانىّ أمير سلاح عوضا عن يلبغا الناصرىّ واستقرّ ألطنبغا الجوبانىّ أمير مجلس عوضا عن قرادمرداش الأحمدىّ واستقرّ آلابغا العثمانىّ دوادارا عوضا عن آقتمر العثمانىّ واستقرّ ألطنبغا المعلّم رأس نوبة ثانى بتقدمة ألف (أعنى رأس نوبة النّوب) واستقرّ جركس الخليلىّ أمير آخور كبيرا واستقرّ قرابغا الأبوبكري حاجبا واستقرّ

(11/180)


بجمان «1» المحمدىّ من جملة رءوس النوب واستقرّ كمشبغا الأشرفىّ الخاصّكى شادّ الشراب خاناه.
وفي ثانى عشرينه استقرّ الأمير صلاح الدين خليل بن عرّام نائب إسكندرية عوضا عن بلّوط الصرغتمشىّ فتوجّه ابن عرّام إلى الإسكندرية ثم عاد إلى القاهرة، بعد مدّة يسيرة وشكا من الأمير بركة، فأوصاه برقوق به في الظاهر وسيّره إلى الإسكندرية ثانيا.
ثم أمسك برقوق الأمير بيدمر الخوارزمىّ نائب الشام وأمسك معه جماعة من أصحابه من الأمراء وكان بيدمر من حزب بركة وخرج عن طاعة برقوق فولّى برقوق عوضه الأمير اشقتمر الماردينىّ نائب حلب.
وتولّى نيابة حلب بعد اشقتمر منكلى بغا الأحمدىّ البلدىّ نائب طرابلس.
ثم في آخر جمادى الأولى أفرج برقوق عن جماعة الأمراء المسجونين بثغر الإسكندرية ما خلا أربعة أنفس، وهم: بركة ويلبغا الناصرىّ وقرادمرداش الأحمدىّ وبيدمر الخوارزمىّ نائب الشام وحضرت البقيّة إلى القاهرة فأخرج بعضهم إلى الشام ونفى بعضهم إلى قوص.
ثم في شعبان باست الأمراء الأرض للسلطان الملك المنصور علىّ وسألوه الإفراج عن المسجونين بالإسكندرية وذلك بتدبير برقوق فرسم السلطان بالإفراج عنهم وهم: بيدمر الخوارزمىّ ويلبغا الناصرىّ وقرادمرداش الأحمدىّ ولم يبق بسجن الإسكندرية ممّن مسك من الأعيان في واقعة بركة غير بركة المذكور ومات فى شهر رجب على ما يأتى ذكره، بعد أن نحكى قدوم آنص والد الأتابك برقوق من

(11/181)


بلاد الجركس ولمّا حضر الأمراء إلى مصر أخرج يلبغا الناصرىّ إلى دمشق على إمرة مائة وتقدمة ألف بها وقرّادمرداش إلى حلب على تقدمة ألف أيضا بها وتوجّه بيدمر الخوارزمىّ إلى ثغر دمياط بطّالا.
ثم رسم برقوق بالإفراج عن الأمير إينال اليوسفىّ صاحب الواقعة مع برقوق المقدّم ذكرها من سجن الإسكندرية واستقرّ في نيابة طرابلس. ثم استقرّ كمشبغا الحموىّ اليلبغاوى في نيابة صفد عوضا عن تمرباى الأفضلىّ التّمرداشىّ مدّة يسيرة ونقل إلى نيابة طرابلس بحكم انتقال إينال اليوسفىّ إلى نيابة حلب بعد وفاة منكلى بغا الأحمدىّ البلدىّ.
ثم في ذى الحجّة من السنة وصل الخبر بوصول الأمير آنص الجركسىّ والد الأمير الكبير برقوق العثمانىّ صحبة تاجر برقوق الخواجا عثمان بن مسافر، فخرج برقوق بجميع الأمراء إلى لقائه في يوم الثلاثاء ثامن ذى الحجة سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة المذكورة، فسافر برقوق إلى العكرشة «1» . قال قاضى القضاة بدر الدين محمود العينىّ الحنفىّ: وهو المكان الذي التقى به يوسف الصّدّيق أباه يعقوب عليهما السلام على ما قيل.

(11/182)


وكان قد هيّأ له ولده الأتابك برقوق الإقامات والخيم والأسمطة والتقى برقوق مع والده فحال وقع بصر آنص على ولده برقوق مدّ له يده فأخذها برقوق وقبلها ووضعها على رأسه ثم سلّم عليه أكابر أمراء مصر على مراتبهم وأقعد آنص والد برقوق في صدر المخيّم وقعد الأمير آقتمر عبد الغنىّ النائب من جانب والأمير أيدمر الشمسىّ من جانب آخر وجلس برقوق تحت أيدمر وهو يوم ذاك مرشّح للسلطنة، فانظر إلى تلك الآداب والقواعد السالفة. ولمّا استقرّ بهم الجلوس أخذ آنص يخاطب برقوقا ولده باسمه من غير تحشم، كما يخاطب الوالد ولده على قاعة الجراكسة، والقاعدة عندهم: أنّ الولد والخديم عندهم سواء، وكان الملتقى بالعكرشة والنزول بالمخيّم بالخانقاه، فإنهم لمّا تلاقوا ساروا على ظهر إلى خانقاه سرياقوس وحضر مع الأمير آنص جماعة كبيرة من أقاربه وأولاده إخوة الأتابك برقوق خوند الكبرى والصّغرى أمّ بيبرس الأتابك وغيرهما.
ثم مدّت الأسمطة من المآكل والمشارب والحلاوات وغيرها ودام برقوق والأمراء بخانقاة سرياقوس إلى ظهر اليوم المذكور ثم ركبوا الجميع وعادوا إلى جهة الديار المصريّة والموكب لآنص والد برقوق وأكابر الأمراء عن يمينه وشماله وتحته فرس بسرج ذهب وكنبوش زركش بذهب هائل قد تناهوا في عملهما وسار الجميع حتّى دخلوا إلى القاهرة واجتازوا بها وقد أوقدت لهم الشموع والقناديل فتحيّر والد برقوق ممّا رأى وكان جركسيّا جنسه «كسا» لا يعرف باللغة التركيّة شيئا، لأن الكسا بالبعد عن بلاد التّتار وطلع والد برقوق مع ابنه إلى القلعة وصار هو المشار إليه على ما سنذكره.
وأمّا أمر بركة فإنه لمّا كان شهر رجب من هذه السنة ورد الخبر من لأمه صلاح الدين خليل بن عرّام نائب الإسكندرية بموت الأمير زين الدين بركه

(11/183)


الجوبانىّ اليلبغاوىّ المقدّم ذكره بسجن الإسكندرية، فلمّا بلغ الأتابك برقوقا ذلك عظم عليه في الظاهر- والله سبحانه وتعالى متولى السرائر- وبعث بالأمير يونس النّوروزىّ الدّوادار بالإسكندرية لكشف خبر الأمير بركة وكيف كانت وفاته فتوجّه يونس إلى الإسكندرية، ثم عاد إلى مصر ومعه ابن عرّام المذكور نائب الإسكندرية وأخبر برقوقا بأنّ الأمر صحيح وأنه كشف عن موته وأخرجه من قبره فوجد به ضربات: إحداها في رأسه وأنه مدفون بثيابه من غير كفن وأنّ يونس أخرجه وغسّله وكفّنه ودفنه وصلّى عليه خارج باب رشيد «1» وبنى عليه تربة وأن الأمير صلاح الدين خليل بن عرّام هو الذي قتله، فحبس برقوق ابن عرّام بخزانة «2» شمائل. ثم عصره وسأله عن فصوص خلّاها بركة عنده فأنكرها وأنكر أنه ما رآها.
فلمّا كان يوم الخميس خامس عشرين شهر رجب المذكور طلع الأمراء الخدمة على العادة وطلب ابن عرّام من خزانة شمائل فطلعوا به إلى القلعة على حمار فرسم برقوق بتسميره، فخرج الأمير مأمور القلمطاوى حاجب الحجّاب وجلس بباب القلّة «3» هو وأمير جاندار وطلب ابن عرّام بعد خدمة الإيوان فعرّى وضرب بالمقارع ستة وثمانين شيبا ثم سمّر على جمل بلعبة تسمير عطب وأنزل من القلعة إلى سوق الخيل بالرّميلة بعد نزول الأمراء وأوقفوه تجاه الإسطبل السلطانىّ ساعة فنزل إليه جماعة

(11/184)


من مماليك بركة وضربوه بالسيوف والدّبابيس حتى هبّروه وقطّعوه قطعا عديدة ثم إنّ بعضهم قطع أذنه وجعل يعضّها صفة الأكل وأخذ آخر رجله وآخر قطع رأسه وعلّقها بباب زويلة وبقيت قطع منه مرميّة بسوق الخيل، وذكر أن بعض مماليك بركة أخذ من لحمه قطعة شواها. والله أعلم بصحة ذلك.
ثم جمع ابن عرّام بعد ذلك ودفن بمدرسته «1» خارج القاهرة عند جامع أمير حسين بن جندر «2» بحكر جوهر النوبىّ وقد صار أمر ابن عرّام المذكور في أفواه

(11/185)


العامّة مثلا يقولون: خمول ابن عرام وكان ابن عرام المذكور أميرا جليلا فاضلا تنقّل في الولايات والوظائف وكان له يد طولى في التاريخ والأدب وله مصنفات مفيدة وتاريخ كبير فيه فوائد وملح وفي هذا المعنى يقول الأديب شهاب الدين أحمد ابن العطار: [البسيط]
أيا بن عرّام قد سمّرت مشتهرا ... وصار ذلك مكتوبا ومحسوبا
ما زلت تجهد في التاريخ تكتبه ... حتّى رأيناك في التاريخ مكتوبا
وفيه يقول أيضا: [الوافر]
بدت أجزا ابن عرّام خليل ... مقطّعة من «1» الضرب الثقيل
وأبدت أبحر الشعر المراثى ... محرّرة «2» بتقطيع الخليل

(11/186)


حدّثنى الزينى فيروز الطواشىّ الرومىّ العرّامىّ وكان ثقة صاحب فضل ومعرفة ودين أن أستاذه صلاح الدين خليل بن عرّام المذكور كان مليح الشكل فصيح العبارة بلغات عديدة مع فضيلة تامّة ومعرفة بالأمور وسياسة حسنة وتولّى نيابة ثغر الإسكندرية غير مرة سنين طويلة وتولّى الوزر بالديار المصرية وتنقّل في عدّة وظائف أخر، قال: وكان من رجال الدهر وكان محبّبا في الفقهاء والفقراء وأرباب الصلاح. انتهى.
وقال غيره: كان بشّره الشيخ يحيى الصنافيرىّ والشيخ المعتقد نهار «1» أنه يموت مقتولا بالسيف مسمّرا، وفي معنى ما قاله الشيخ نهار المذكور يقول الشيخ الشهاب ابن العطار المقدّم ذكره: [السريع]
وعد ابن عرّام قديم بما ... قد نال من شيخ رفيع المنار
يا ليلة بالسّجن أبدت له ... ما قاله الشيخ نهار جهار
وقال العينىّ- رحمه الله-: وذكر القاضى تاج الدين بن المليجىّ شاهد الخاصّ الشريف أنّه طلع إلى القلعة وهم يسمّرون ابن عرّام فقعد إلى أن تخفّ الناس، فلمّا فرغوا من تسميره، جازوا به عليه فسمعه وهو يقول في تلك الحالة وينشد أبيات أبى بكر الشّبلىّ «2» وهي قوله: [الخفيف]
لك «3» قلبى تعلّه ... فدمى لم؟؟
قال إن كنت قاهرا ... فلى؟؟ كلّه
انتهى. وقد خرجنا عن المقصود وأطلنا الكلام في قصّة بركة وابن عرّام على سبيل الاستطراد ولنرجع لما كنّا فيه.

(11/187)


وأما برقوق فإنه استمرّ على حاله كما كان قبل مسك بركة وقتله وإليه حلّ المملكة وعقدها ولم يجسر على السلطنة، وبينما هو في ذلك مرض السلطان الملك المنصور علىّ ولزم الفراش، حتى مات بين الظهر والعصر من يوم الأحد ثالث عشرين صفر سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة ودفن من ليلته بعد عشاء الآخرة في تربة «1» جدّته لأبيه خوند بركة بالقبّة التي بمدرستها بالتبانة. وكان الذي تولّى تجهيزه وتغسيله ودفنه الأمير قطلوبغا الكوكائىّ. وكانت مدّة سلطنته على ديار مصر خمس سنين وثلاثة أشهر وعشرين يوما. ومات وعمره اثنتا عشرة سنة ولم يكن له في سلطنته سوى مجرّد الاسم فقط. وإنما كان أمر المملكة في أيام سلطنته إلى قرطاى أوّلا ثم إلى برقوق آخرا، وهو كالآلة معهم لصغر سنه ولغلبتهم على الملك. وتسلطن من بعده أخوه أمير حاج ابن الملك الأشرف شعبان بن حسين ولم يقدر برقوق- مع ما كان عليه من العظمة- أن يتسلطن. وكان الملك المنصور علىّ مليح الشكل حسن الوجه، حشيما كثير الأدب واسع النفس كريما. رحمه الله تعالى.
[ما وقع من الحوادث سنة 779]
السنة الأولى من سلطنة الملك المنصور على ابن الملك الأشرف شعبان على مصر وهي سنة تسع وسبعين وسبعمائة، على أنه تسلطن في الثامن من ذى القعدة من السنة الخالية.
فيها. (أعنى سنة تسع وسبعين وسبعمائة) كانت واقعة قرطاى الطازىّ مع صهره أينبك البدرىّ وقتل قرطاى. ثم بعد مدّة قتل أينبك أيضا.

(11/188)


وفيها كان ظهور برقوق وبركة، وابتداء أمرهما حسب ما ذكرنا ذلك كلّه فى أصل ترجمة الملك المنصور هذا.
وفيها توفّى الشيخ الإمام العلّامة شهاب الدين أبو جعفر أحمد «1» بن يوسف بن مالك الرّعينىّ الغرناطىّ المالكىّ بحلب عن سبعين سنة وكان إليه المنتهى في علم النحو والبديع والتصريف والعروض وله مشاركة في فنون كثيرة ومصنفات جيدة وكان له نظم ونثر. ومن شعره ما كتبه على ألفية الشيخ «2» يحيى: [البسيط]
يا طالب النحو ذا اجتهاد ... تسمو به في الورى وتحيا
إن شئت نيل المراد فاقصد ... أرجوزة للإمام يحيى
وتوفّى الشيخ الإمام بدر الدين حسن بن زين الدين عمر بن الحسن بن عمر بن حبيب الحلبىّ الشافعى بحلب عن سبعين سنة وكان باشر كتابة الحكم وكتابة الإنشاء وغير ذلك من الوظائف الدّينية وكان إمام عصره في صناعتى الإنشاء والشروط وله تصانيف مفيدة منها: «تاريخ دولة الترك» أنهاه إلى سنة سبع وسبعين وسبعمائة وذيّل عليه ولده أبو العزّ طاهر وقال: [البسيط]
ما زلت تولع بالتاريخ تكتبه ... حتّى رأيناك في التاريخ مكتوبا
قلت: وأكثر الناس من نظم هذا المعنى الركيك البارد في حقّ عدّة كثيرة من المؤرّخين، وتزاحموا على هذا المعنى المطروق. انتهى.
قلت: وكان له نظم كثير ونثر وتاريخه مرجّز وهو قليل الفائدة والضبط ولذلك لم أنقل عنه إلّا نادرا، فإنه كان إذا لم تعجبه القافية سكت عن المراد.

(11/189)


وليس هذا مذهبى في التاريخ. ومن شعر الشيخ بدر الدين حسن هذا- رحمه الله تعالى-: [السريع]
الورد والنّرجس مذ عاينا ... نيلوفرا يلزم أنهاره
شمّر ذا للخوض عن ساقه ... وفكّ ذا للعوم أزراره
وله في مليح يدعى موسى: [الرجز]
لما بدا كالبدر قال عاذلى ... من ذا الذي قد فاق عن شمس الضّحا
فقلت موسى واستفق فإنه ... أهون شىء عنده حلق اللّحى
وله عفا الله تعالى عنه: [الرجز]
يا أيها الساهون عن أخراكم ... إنّ الهدايا فيكم لا تعرف
المال بالميزان يصرف عندكم ... والعمر بينكم جزابا يصرف
وله قصيدة على روىّ قصيدة كمال الدين علىّ بن النّبيه، قد أثبتناها في ترجمته فى المنهل الصافى، أوّلها: [البسيط]
جوانجى للقا الأحباب قد جنحت ... وعاديات غرامى نحوهم جنحت «1»
وتوفّى الأمير سيف الدين قطلقتمر بن عبد الله العلائىّ صاحب الواقعة مع الأمير أينبك البدرىّ وغيره وهو ممن قام على الملك الأشرف شعبان وأخذ تقدمة ألف بالديار المصرية دفعة فلم يتهنأ بها وعاجلته المنية ومات ولحقه من بقى من أصحابه بالسيف.
وتوفّى الأمير طشتمر اللّفاف المحمدىّ مقتولا في ثالث المحرّم وهو أيضا ممّن قام على الملك الأشرف وصار أميرا كبيرا أتابك العساكر دفعة واحدة من الجندية، وقد تقدّم ذكر هؤلاء الجميع في أواخر ترجمة الملك الأشرف شعبان وفي أوائل ترجمة ولده الملك المنصور علىّ هذا.

(11/190)


وتوفّى الأمير الكبير سيف الدين آقتمر الصاحبىّ المعروف بالحنبلىّ نائب السلطنة بديار مصر، ثم بدمشق بها في ليلة الحادى عشر من شهر رجب وكان من أجلّ الأمراء وأعظمهم، باشر نيابة دمشق مرتين وتولّى قبلها عدّة ولايات. ثم بعد النيابة الأولى لدمشق ولى نيابة السلطنة بالقاهرة وساس الناس أحسن سياسة وشكرت سيرته وكان وقورا في الدول مهابا وفيه عقل وحشمة وديانة وكان سمّى بالحنبلىّ لكثرة مبالغته في الطهارة والوضوء.
وتوفّى الأمير سيف الدين يلبغا بن عبد الله النظامىّ الناصرىّ، وكان أوّلا من خاصكية الملك الناصر حسن ثم ترقى إلى أن صار أمير مائة ومقدّم ألف بمصر، ثم ولى نيابة حلب وبها مات فيما أظنّ وكان شجاعا مقداما.
وتوفى الأمير سيف الدين قرطاى أتابك العساكر مخنوقا بطرابلس وقد تقدّم واقعته مع صهره أينبك البدرىّ وهو أحد رءوس الفتن وممن ولى أتابكيّة العساكر من إمرة عشرة، وكان قتله في شهر رمضان. وجميع هؤلاء من أصاغر الأمراء لم تسبق لهم رياسة ليعرف حالهم وإنما وثب كل واحد منهم على ما أراد فأخذه، فلم تطل مدّتهم وقتل بعضهم بعضا إلى أن تفانوا.
وتوفّى القاضى صلاح الدين صالح بن أحمد بن عمر بن السّفّاح الحلبى الشافعىّ وهو عائد من الحج بمدينة بصرى «1» وكنيته أبو النّسك؛ ومولده في سنة اثنتى عشرة وسبعمائة بحلب وبها نشأ وولى بها وكالة بيت المال ونظر الأوقاف وعدّة وظائف أخر. وهو والد شهاب الدين أحمد كاتب سر حلب ثم مصر وكان كاتبا حسن التصرف، ذكره [زين الدين] أبو العزّ طاهر بن حبيب في تاريخه وأورد له نظما من ذلك: [الدّوبيت]

(11/191)


لا نلت من الوصال ما أمّلت ... إن كان متى ما حلت عنّى حلت «1»
أحببتكم طفلا وها قد شبت ... أبغى بدلا ضاق علىّ الوقت
وتوفّى الأمير شهاب الدين أحمد ابن الأمير سيف الدين قوصون في ثانى عشر ذى الحجّة وكان من جملة أمراء الطبلخانات بمصر وله وجاهة في الدول.
وتوفّى الأمير علاء الدين ألطنبغا بن عبد الله السلاح دار المعروف بأبى درقة «2» وكان أيضا من جملة أمراء مصر.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وأربعة وعشرون إصبغا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا واثنا عشر إصبغا.
[ما وقع من الحوادث سنة 780]
السنة الثانية من سلطنة الملك المنصور علىّ بن الأشرف شعبان على مصر وهي سنة ثمانين وسبعمائة فيها كانت وقعة الأمير تمرباى الأفضلىّ التّمرداشى نائب حلب مع التركمان.
وتوفّى العلّامة شمس الدين أبو عبد الله محمد ابن الشيخ شهاب الدين أحمد بن أبى الحسن بن علىّ بن جابر الأندلسىّ المالكىّ الهوّارىّ بحلب عن سبعين سنة.
وكان عالما بارعا في فنون كثيرة، وله نظم ونثر وله مصنّفات كثيرة. ومن شعره:
[الخفيف]
وقفت للوداع زينب لمّا ... رحل الرّكب والمدامع تسكب
فالتقت بالبنان دمعى وحلو ... سكب دمعى على أصابع زينب

(11/192)


وتوفّى الشيخ الإمام العلامة ضياء الدين أبو محمد عبد الله ابن الشيخ سعد الدين سعد العفيفىّ القزوينىّ الشافعىّ الشهير بابن قاضى القرم بالقاهرة في ثالث عشر ذى الحجة عن نيّف وستين سنة. وكان من العلماء عارفا بعدّة علوم، كان يدرّس فى المذهبين: الحنفية والشافعية. وكتب إليه زين الدين طاهر بن حبيب يقول:
[الخفيف]
قل لربّ النّدى ومن طلب العل ... م مجدّا إلى سبيل السواء
إن أردت الخلاص من ظلمة الجه ... ل فما تهتدى بغير الضياء
فأجابه ضياء الدين:
قل لمن يطلب الهداية منّى ... خلت لمع السّراب بركة ماء
ليس عندى من الضياء شعاع ... كيف تبغى الهدى من اسم الضياء
وتوفّى الشيخ الصالح الزاهد العابد الورع المعتقد شهاب الدين أبو العباس أحمد المعروف ببادار بالقدس الشريف عن نيّف وسبعين سنة، بعد أن كف بصره، وكان يعرف علم التصوّف وعلم الحرف جيّدا وللناس فيه اعتقاد كبير. رحمه الله تعالى ونفعنا ببركته.
وتوفّى الشيخ صالح المعتقد أبو النّسك صالح بن نجم بن صالح المصرىّ المقيم بزاويته بمنية «1» الشّيرج من ضواحى القاهرة وبها مات ودفن في يوم الأربعاء خامس عشرين شهر رمضان عن نيف وستين سنة، وكان على قدم هائل من العبادة والزّهد والورع. وفيه يقول أبو العزّ طاهر بن حبيب: [الطويل]
إذا رمت وجه الخير فالشيخ صالح ... عليك به فالقصد إذ ذاك ناجح
وحىّ هلا وانشده في الحى منشدا ... ألا كلّ ما قرّت به العين صالح

(11/193)


وتوفّى الشيخ المعتقد الصالح المجذوب صاحب الكرامات الخارقة والأحوال العجيبة نهار المغربىّ الإسكندرىّ بها في يوم الاثنين سادس عشرين جمادى الأولى. وقيل يوم الثلاثاء ودفن بتربة الديماس داخل الإسكندرية- ومن كراماته: ما اتّفق له مع الأمير صلاح الدين خليل بن عرّام نائب الإسكندرية.
وكان ابن عرام يخدمه كثيرا، فقال له الشيخ نهار: يا بن عرّام! ما تموت إلّا موسّطا أو مسمّرا، قبل قتل ابن عرّام بسنين، مرارا عديدة وابن عرام يقول له: فى الغزاة:
إن شاء الله تعالى، فكان كما قال. وقد تقدّم ذلك.
وتوفّى الشيخ الصالح المعتقد عبد الله الجبرتىّ الزّيلعىّ الحنفىّ في ليلة الجمعة سادس عشر المحرّم ودفن بالقرافة وقبره معروف بها يقصد للزيارة. وكان من عباد الله الصالحين: رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير شرف الدين موسى ابن الأزكشىّ في سادس عشر ذى القعدة بالمحلّة «1» من أعمال مصر وحمل إلى داره بالحسينية «2» وهو إذ ذاك من أمراء الطبلخانات وكان ديّنا عفيفا، تولّى ولايات جليلة منها: الأستادارية العالية والحجوبية واستقر فى أيام الملك الأشرف شعبان بن حسين مشير الدولة وكان إذا ركب يحمل مملوكه وراءه دواة ومزمّلة.
وتوفّى الأمير سيف الدين أطلمش بن عبد الله الدوادار أحد أمراء الألوف بديار مصر فى شهر ربيع الآخر بدمشق «3» وقد أخرج إليها منفيا على إمرة مائة وتقدمة

(11/194)


ألف لمّا ملك برقوق وبركة ديار مصر وصار لهما أمرها ونهيها وكان من أعيان الأمراء وهو أيضا أحد من قام على الملك الأشرف شعبان.
وتوفّى القاضى علاء الدين علىّ بن عبد الوهاب بن عثمان بن محمد بن هبة الله ابن عرب محتسب القاهرة في ثالث عشر ذى الحجة بمكة بعد قضاء الحج.
وتوفّى الأمير علاء الدين علىّ بن كلبك شادّ الدواوين في جمادى الآخرة وكان ولى في بعض الأحيان ولاية القاهرة.
وتوفى الشيخ المعمّر سند الوقت صلاح الدين محمد بن أحمد بن إبراهيم بن عبد الله ابن الشيخ أبى عمر المقدسىّ، آخر من بقى من أصحاب ابن البخارىّ في شوّال بصالحية «1» دمشق.
وتوفّى الأمير شرف الدين موسى بن محمد بن شهرى الكردىّ نائب سيس وكان فقيها شافعيا فاضلا كاتبا.
قلت: وبنو شهرى معروفون: منهم جماعة إلى الآن في قيد الحياة ويلى بعضهم أعمال البلاد الحلبية في زماننا هذا.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع واثنان وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا وخمسة أصابع وقيل أربعة عشر.
[ما وقع من الحوادث سنة 781]
السنة الثالثة من سلطنة الملك المنصور علىّ على مصر وهي سنة إحدى وثمانين وسبعمائة فيها كان ركوب إينال اليوسفىّ على الأتابك برقوق وقد تقدّم ذكر الواقعة فى أصل هذه الترجمة.
وفيها كان الكلام من الحائط كما تقدّم أيضا.

(11/195)


وفيها توفّى الشيخ تقىّ الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد بن علىّ الواسطىّ الأصل المصرىّ المولد والوفاة الشافعىّ المقرئ المحدّث الشهير بابن البغدادىّ، بعد ما عمى في يوم الأربعاء سادس عشرين شعبان بالقاهرة ومولده ببغداد سنة سبع وتسعين وستمائة وكان ولى قضاء المالكية بدمشق مدّة ثم صرف. كان فقيها نصدّر للإقراء بمدرسة «1» الحاج آل ملك والجامع الطولونىّ «2» وتولى مشيخة الحديث بالخانقاه «3» الشيخونية.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن أبى بكر بن محمد ابن مرزوق العجيسىّ «4» التّلمسانىّ المغربىّ المالكىّ. كان من ظرفاء عصره، ترقى عند الملك الناصر حسن حتى صار صاحب سرّه وإمام جمعته ومنبره. ثم توجّه فى سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة إلى الأندلس خوفا من النّكبة، ثم عاد إلى مصر وتولّى عدّة تداريس وكان له سماع كثير وفضل غزير.
وتوفّى الشيخ الإمام الأديب البارع المفتنّ الفقيه برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم ابن الشيخ الإمام المفتى شرف الدين عبد الله بن محمد بن عسكر بن مظفر بن نجم ابن شادى بن هلال الطائىّ الطّريفىّ القيراطىّ الشافعىّ بمكة المشرفة في ليلة الجمعة

(11/196)


العشرين من شهر ربيع الأوّل ودفن بالمعلاة بعد صلاة الجمعة والطّريفىّ «1» فخذ من طيئ والقيراطىّ نسبه إلى قيراط «2» وهي بلدة بالشرقية من أعمال الديار المصرية. ومولده ليلة الأحد حادى عشرين صفر من سنة ست وعشرين وسبعمائة. ونشأ بالقاهرة وطلب العلم ولازم علماء عصره إلى أن برع في الفقه والأصول والعربية ودرّس بعدّة مدارس وسمع الكثير وبرع في النظم وقال الشعر الفائق الرائق. وعندى أنه أقرب الناس في شعره لشيخه الشيخ جمال الدين بن نباتة من دون تلامذته ومعاصريه على ما سنذكره من شعره هنا وقد استوعبنا نبذة كبيرة في المنهل الصافى ومن شعره: [السريع]

(11/197)


تنفّس الصبح فجاءت لنا ... من نحوه الأنفاس مسكيّه
وأطربت لى العود قمريّة ... وكيف لا تطرب عوديه «1»
وله فى طبّاخ: [السريع]
هويت طبّاخا له نصبة ... نيرانها للقلب جنّات
يكسر أجفانا إذا ما رنا ... لها على الأرواح نصبات
وله أيضا: [السريع]
جفنى وجفن الحبّ قد أحرزا ... وصفين من نيلك يا مصر
جفنى له يوم الوداع الوفا ... وجفه السّاحى له الكسر «2»
وله أيضا: [مخلّع البسيط]
لو لم يكن كفّه غماما ... ما أنبتت في الطروس رهرا
نعم ولولاه بحر جود ... ما أبرز اللّفظ منه درّا
ومن شعره- رحمه الله تعالى وعفا عنه- قصيدته «3» التى أوّلها:
[الكامل]
قسما بروضة خدّه ونباتها ... وبآسها المخضرّ في جنباتها
وبسورة الحسن التي فى خدّه ... كتب العذار بخطّه آياتها
وبقامة كالغصن إلا أننى ... لم أجن غير الصّد من ثمراتها
لأعزّرنّ غصون بان زوّدت ... أعطافه بالقطع من عذباتها

(11/198)


وأباكرنّ رياض وجنّته التى ... ما زهرة الدنيا سوى زهراتها
ولأصبحنّ للذّتى متيقّظيا ... ما دامت الأيام في غفلاتها
كم ليلة نادمت بدر سمائها ... والشمس تشرق في أكفّ سقاتها
وجرت بنادهم الليالى للصّبا ... وكؤوسنا غرر على جبهاتها
فصرفت دينارى على دينارها ... وقضيت أعوامى على ساعاتها
خالفت في الصّهباء كلّ مقلّد «1» ... وسعيت مجتهدا إلى حاناتها
فتحيّر الخمّار أين دنانها ... حتى اهتدى بالطّيب من نفحاتها
فشممتها ورأيتها ولمستها ... وشربتها وسمعت حسن صفاتها
فتبعت كلّ مطاوع لا يخشنى ... عند ارتكاب ذنوبه تبعاتها
يأتى إلى اللذات من أبوابها ... ويحجّ للصّهباء من ميقاتها
عرف المدام بحسنها وبنوعها ... وبفضلها وصفاتها وذواتها
يا صاح قد نطق الهزار «2» مؤذنا ... أيليق بالأوتار طول سكاتها
فخذ ارتفاع الشمس من أقداحنا ... وأقم صلاة اللهو في أوقاتها
إن كان عندك يا شراب بقيّة ... مما تزيل بها العقول فهاتها
الخمر من أسمائها والدّرّ من ... تيجانها والمسك من نسماتها
وإذا العقود من الحباب تنظّمت ... إيّاك والتفريط في حيّاتها
أمحرّك الأوتار إن نفوسنا ... سكناتها وقف على حركاتها
دار العذار بحسن وجهك منشدا ... لا تخرج الأقمار عن هالاتها
كسرات جفنك كلّمت قلبى فلم ... يأت الصّحاح لنا بمثل لغاتها

(11/199)


والبدر يستر بالغيوم وينجلى ... كتنفّس الحسناء في مرآتها
وتلا نسيم الروض فيها قارئا ... فأمال من أغصانها ألفاتها
ومليحة أرغمت فيها عاذلى ... قامت إلى وصلى برغم وشاتها
لا مال وجهى عن مطالع حسنها ... وحياة طلعة وجهها وحياتها
يا خجلة الأغصان من خطراتها ... وفضيحة الغزلان من لفتاتها
ما الغصن ميّاسا سوى أعطافها ... ما الورد محمرا سوى وجناتها
وعدت بأوقات الوصال كأنّها ... ظنّت «1» سلامتنا إلى أوقاتها
وتوفّى الشيخ المسند المعمّر ناصر الدين محمد الكردىّ الحرازىّ المعروف بالطّبردار في ثامن عشر شهر ربيع الأوّل وكان سمع الكثير وتفرّد بأشياء كثيرة، منها. «كتاب فضل الحيل» سمعه من مصنّفه الحافظ شرف الدين عبد المؤمن الدّمياطىّ وهو آخر من روى عنه. ووقع لنا سماع فضل الخيل المذكور من طريقه عاليا.
وتوفّى الشيخ المعتقد حسن المغربىّ الصبّان الحاجاوىّ في العشرين من شهر ربيع الأوّل بداره بالحسينية ودفن بباب النصر.
وتوفّى الأمير قارا بن مهنّا بن عيسى بن مهنا بن مانع بن حديثة بن غضبة ابن فضل بن ربيعة أمير آل فضل وملك العرب وكان كريما جليلا شجاعا مشكور السّيرة. وتولّى عوضه إمرة آل فضل زامل بن موسى.
وتوفّى الشيخ الصالح المعتقد صالح الجزيرىّ ساكن جزيرة أروى أعنى الجزيرة «2» الوسطى بها في رابع شهر ربيع الأوّل ودفن بزاويته بالجزيرة الوسطى.

(11/200)


وتوفّى الأمير سيف الدين حطط بن عبد الله اليلبغاوىّ نائب حماة بها. وتولّى بعده الأمير طشتمر خازندار يلبغا أيضا. وكان حطط المذكور غير مشكور السّيرة وعنده ظلم وعسف وهو من الذين قاموا على أستاذهم يلبغا العمرىّ الخاصّكى حسب ما تقدّم ذكره.
وتوفّى الأمير سيف الدين ماماق بن عبد الله المنجكىّ أحد أمراء الطبلخانات بالديار المصريّة فى يوم الخميس ثالث شعبان ودفن بتربته «1» عند دار الضّيافة «2» تجاه قلعة الجبل.

(11/201)


وتوفّى الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير ألجيبغا العادلى نائب غزّة بها، بعد ما استعفى في سلخ جمادى الآخرة وتولى بعده نيابة غزة آقبغا بن عبد الله الدّوادار.
وكان ابن ألجيبغا هذا شجاعا مقداما وله حرمة ووقار في الدولة.
وتوفّى الأمير حاجّى بك بن شادى أحد أمراء الطبلخانات بالديار المصرية بها فى هذه السنة.
وتوفّى الطواشى زين الدين ياقوت بن عبد الله الرّسولىّ شيخ الخدّام بالمدينة النبويّة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام- فى ليلة الجمعة سابع عشرين شهر رمضان- وكان من أعيان الخدّام، له وجاهة في الدول وثروة كبيرة.
وتوفّى الأمير سيف الدين سطلمش بن عبد الله الجلالى بدمشق في ذى القعدة.
وكان أوّلا من جملة أمراء مصر ثم نفى منها على إمرة في دمشق.
وتوفّى القاضى شمس الدين محمد بن أحمد بن مزهر أحد موقّعى دمشق بها فى شوّال عن نحو الأربعين سنة وهو أخو القاضى بدر الدين محمد بن مزهر كاتب سرّ مصر.
وفيها كان الطاعون بالديار المصرية وضواحيها ومات فيها عالم كثير جدّا.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا وإصبعان. والله أعلم.
[ما وقع من الحوادث سنة 782]
السنة الرابعة من سلطنة الملك المنصور علىّ على مصر
وهي سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة.
فيها كانت الوقعة بين الأتابك برقوق العثمانىّ اليلبغاوىّ وبين خشداشه زين الدين بركة الجوبانىّ اليلبغاوىّ ومسك بركة وحبس ثم قتل حسب ما تقدّم ذكره وحسب ما يأتى أيضا في الوفيات.

(11/202)


وفيها حضر من بلاد الجركس الأمير آنص والد الأتابك برقوق وأخواته النسوة كما تقدّم ذكره.
وفيها قتل ابن عرّام وقد تقدّم ذكره وكيفية تسميره في أواخر ترجمة الملك المنصور هذا، فلا حاجة لذكر ذلك ثانيا.
وفيها توفّى ماماى ملك التتار وحاكم بلاد الدّشت «1» وكان ولى الملك بعد كلدى بك خان في سنة ثلاث وستين وسبعمائة، وكان من أجلّ ملوك الترك وأعظمهم، ومات قتيلا.
وتوفّى الشيخ الإمام العلّامة جلال الدين محمد «2» المعروف بجار الله ابن الشيخ قطب الدين محمد بن الشيخ شرف الدين أبى الثناء محمود النّيسابورىّ الحنفىّ قاضى قضاة الديار المصرية عن نيفّ وثمانين سنة، بعد أن حكم خمس سنين وكانت ولايته بعد ابن منصور، وتولّى القضاء بعده صدر الدين بن منصور ثانيا. وكان عالما بارعا في فنون من العلوم وتولى مشيخة الصّرغتمشيّة بعد موت العلامة أرشد الدين السّرائىّ، وفيه يقول الأديب أبو العزّ زين الدين بن حبيب- رحمه الله تعالى-: [الكامل]
لله جار الله حاكمنا الذي ... ما مثله يسعى له ويزار
حبّا له وكرامة من ماجد ... حسنت خلائقه ونعم الجار
ورثاه شهاب الدين بن العطار. [البسيط]
قاضى القضاة جلال الدين مات وقد ... أعطاه ما كان يرجو بارئ النّسم
حاشاه أن يحرم الراجى مكارمه ... أو يرجع الجار منه غير محترم

(11/203)


وتوفّى الأمير الكبير زين الدين بركة بن عبد الله الجوبانىّ اليلبغاوىّ رأس نوبة الأمراء وأطابك الديار المصريّة مقتولا بثغر الإسكندرية بيد صلاح الدين خليل ابن عرّام نائب الثغر المذكور في شهر رجب. وقد ذكرنا ما وقع لابن عرّام بسببه من الضرب والتّسمير والتّقطيع بالسيوف في ترجمة الملك المنصور هذا. كان بركة من مماليك يلبغا وصار من بعده في خدمة أولاد الملك الأشرف شعبان إلى أن كانت قتلة الملك الأشرف شعبان، قام هو وخشداشه برقوق مع أينبك فأنعم أينبك على كلّ منهما بإمرة طبلخاناه دفعة واحدة من الجنديّة وندبهما بعد شهر للسفر مع الجاليش إلى الشام فاتّفق بركة هذا مع خشداشيته ووثبوا على أخى أينبك حتى كان من أمر أينبك ما ذكرناه، صار بركة هذا أمير مائة ومقدّم ألف هو وبرقوق وأقام على ذلك مدّة. ثم اتّفق مع برقوق وخشداشيته على مسك الأمير طشتمر العلائىّ الدّوادار فمسك طشتمر بعد أن قاتلهم، ومن يوم ذاك استبدّ برقوق بالأمر وبركة هذا شريكه فيه وصار برقوق أتابك العساكر وبركة أطابك رأس نوبة الأمراء، وحكما مصر إلى أن وقع الخلف بينهما وتقاتلا، فانتصر برقوق على بركة هذا وأمسكه وحبسه بثغر الإسكندرية إلى أن قتله ابن عرّام، حسب ما تقدّم ذكر ذلك كلّه فى ترجمة الملك المنصور. وإنما ذكرناه هنا ثانيا تنبيها لما تقدّم، فكان بركة ملكا جليلا شجاعا مهابا تركىّ الجنس وفيه كرم وحشمة وله المآثر بمكة المشرّفة وبطريق الحجاز الشريف وغيره. رحمه الله تعالى.
وتوفّى قاضى «1» القضاة جلال الدين أبو المعالى محمد ابن قاضى القضاة نجم الدين محمد ابن قاضى القضاة فخر الدين عثمان بن جلال الدين أبى المعالى علىّ بن

(11/204)


شهاب الدين أحمد بن عمر بن محمد الزّرعىّ الشافعىّ سبط الشيخ جمال الدين الشّريشىّ في هذه السنة وقد قارب الأربعين سنة، وكان قد ولى قضاء حلب وحمدت سيرته.
وتوفّى الوزير الصاحب تاج الدّين عبد الوهّاب المكّىّ المعروف بالنّشو فى المصادرة تحت العقوبة عن نيّف وستين سنة، بعد أن ولى الوزارة أربع مرّات.
وكان مشكورا في وزارته محسنا لأصحابه. وهذا النّشو غير النشو «1» الذي تقدّم ذكره فى دولة الملك الناصر محمد بن قلاوون.
وتوفّى الأمير سيف الدين منكلى بغا بن عبد الله الأحمدىّ البلدىّ نائب حلب بها ودفن خلف تربة قطلوبغا الأحمدىّ بين الجوهرىّ والجمالية. وكان من أجلّ الأمراء وممّن طالت أيامه في السعادة، ولى نيابة طرابلس وحماة وحلب مرّتين، مات فى الثانية وعدّة وظائف بالديار المصريّة، وكان حازما هيوبا كريما ذا مروءة كاملة وتحشّم. وكان يقول: كلّ أمير لا يكون مصروف سماطه نصف إقطاعه ما هو أمير.
وتوفّى الأمير الطّواشى زين الدين مختار السّحرتىّ الحبشىّ مقدّم المماليك السلطانية وكان صاحب معروف وصدقة وفيه كرم مع تحشّم.
وتوفّى قاضى القضاة شرف الدين أبو العباس أحمد بن نور الدين علىّ بن أبى البركات منصور الدّمشقىّ الحنفىّ قاضى قضاة الديار المصريّة، وليها ثم عزل نفسه وكان من أعيان العلماء. رحمه الله تعالى.
وتوفّى الشيخ الإمام نور الدين أبو الحسن علىّ بن ألجاوىّ (بالجيم) أحد فقهاء المالكيّة في رابع عشر ذى الحجة، بعد ما أفتى ودرّس وأشغل.

(11/205)


وتوفّى الشيخ الإمام المقرئ شمس الدين أبو عبد الله المعروف بالحكرىّ الشافعى فى ذى الحجة بالقاهرة، وكان فقيها فاضلا بارعا في القراءات.
وتوفّى الشيخ الصالح المعتقد زين الدين محمد بن الموّاز في شهر ربيع الأوّل، وكان صاحب عبادة وللناس فيه اعتقاد حسن
وتوفّى الشيخ الإمام شمس الدين محمد بن نجم بن عمر بن محمد بن عبد الوهّاب ابن محمد بن ذؤيب الأسدىّ الدّمشقى المعروف بابن قاضى شهبة أحد أعيان الفقهاء الشافعية في ثامن المحرّم. ومولده ليلة الثلاثاء العشرين من شهر ربيع الأوّل سنة إحدى وتسعين وستمائة بدمشق. وكان بارعا فقيها مدرّسا مفتنّا.
وتوفّى الشيخ زين الدين أبو محمد ححّىّ بن موسى بن أحمد بن سعد السّعدىّ الحسبانىّ الشافعىّ الدّمشقىّ في ليلة الأربعاء سابع عشر صفر، وكان أحد فقهاء الشافعية بدمشق، وحجّى هذا هو والد بنى حجىّ رؤساء دمشق في عصرنا.
انتهى.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع وستة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة أصابع- انتهى.
[ما وقع من الحوادث سنة 783]
ذكر سلطنة الملك الصالح حاجىّ الأولى على مصر
السلطان الملك الصالح صلاح الدين أمير حاج ابن السلطان الملك الأشرف شعبان ابن الأمير الملك الأمجد حسين ابن السلطان الملك الناصر محمد ابن السلطان الملك المنصور قلاوون وهو الرابع والعشرون من ملوك الترك بالديار المصرية.
تسلطن بعد وفاة أخيه الملك المنصور علاء الدين علىّ في يوم الاثنين رابع عشرين صفر سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة.

(11/206)


وخبر سلطنته أنه لمّا مات أخوه الملك المنصور علىّ تكلّم الناس بسلطنة الأتابك برقوق العثمانىّ وأشيع ذلك فعظمت هذه المقالة على أكابر أمراء الدولة وقالوا: لا نرضى أن يتسلطن علينا مملوك يلبغا وأشياء من هذا النّمط، وبلغ برقوقا ذلك، فخاف ألّا يتمّ له ذلك، فجمع برقوق الأمراء والقضاة والخليفة في اليوم المذكور بباب الستارة بقلعة الجبل وتكلم معهم في سلطنة بعض أولاد الأشرف شعبان، فقالوا له: هذا هو المصلحة وطلبوهم من الدور السلطانية وحضر أمير حاج هذا من جملة الإخوة، فوجدوا بعضهم ضعيفا بالجدرى والبعض صغيرا، فوقع الاختيار على سلطنة أمير حاج هذا، لأنه كان أكبرهم، فبايعه الخليفة وحلف له الأمراء وباسوا يده ثم قبّلوا له الأرض، ولقّب بالملك الصالح وهو الذي غيّر لقبه فى سلطنته الثانية بالملك المنصور، ولا نعرف سلطانا تغيّر لقبه غيره، وذلك بعد أن خلع برقوق وحبس بالكرك على ما سنذكره إن شاء الله تعالى مفصّلا في وقته- انتهى.
ولمّا تمّ أمر الملك الصالح هذا ألبسوه خلعة السلطنة وركب من باب الستارة بأبّهة الملك وبرقوق والأمراء مشاة بين يديه إلى أن نزل إلى الإيوان بقلعة الجبل وجلس على كرسىّ الملك وقبّلت الأمراء الأرض بين يديه، ثم مدّ السّماط وأكلت الأمراء. ثم قام السلطان الملك الصالح ودخل القصر وخلع على الخليفة المتوكّل على الله خلعة جميلة ونودى بالقاهرة ومصر بالأمان والدعاء للملك الصالح حاجّى وخلع على الأتابك واستقرّ على عادته أتابك العساكر ومدبّر الممالك لصغر سنّ السلطان، وكان سنّ السلطان يوم تسلطن نحو تسع سنين تخمينا.
ثم في سابع عشرين صفر المذكور جلس السلطان الملك الصالح بالإيوان للخدمة على العامه. ثم قام ودخل القصر، بعد أن حضر الخليفة والقضاة والأمراء والعساكر

(11/207)


وقرئ تقليد السلطان الملك الصالح عليهم، وعند فراغ القراءة أخذ بدر الدين محمد ابن فضل الله كاتب السر التقليد وقدّمه للخليفة فعلّم عليه بخطّه وخلع السلطان على القضاة وعلى كاتب السّر المذكور. وانفضّ الموكب وأخذ برقوق في التكلّم في الدولة على عادته من غير معاند وفي خدمته بقية الأمراء يركبون في خدمته وينزلون عنده ويأكلون السّماط.
وأما القضاة والنوّاب بالبلاد الشاميّة وأرباب الوظائف بالديار المصريّة فى هذه الدولة، فكان أتابك العساكر برقوق العثمانىّ اليلبغاوى ورأس نوبة الأمراء أيتمش البجاسىّ وأمير سلاح علّان الشّعبانىّ وأمير مجلس ألطنبغا الجوبانىّ اليلبغاوىّ والدوادار الكبير آلابغا العثمانىّ والأمير آخور جركس الخليلىّ وحاجب الحجّاب مأمور القلمطاوى اليلبغاوى وأستادار العالية بهادر المنجكىّ ورأس نوبة ثانى- أعنى رأس نوبة النّوب في زماننا- قردم الحسنى وهؤلاء غير نائب السلطنة وهو الأمير آقتمر عبد الغنى وغير أيدمر الشمسى وهما من أجل الأمراء وأقدمهم هجرة، يجلس الواحد عن يمين السلطان والآخر عن يساره.
والقضاة: الشافعىّ برهان الدين بن جماعة والحنفىّ صدر الدين بن منصور والمالكىّ علم الدين البساطىّ والحنبلىّ ناصر الدين العسقلانىّ وكاتب السر بدر الدين ابن فضل الله العمرى والوزير شمس الدين المقسى وناظر الجيش والمحتسب جمال الدين محمود القيصرى العجمىّ وناظر الخاصّ هو ابن المقسى أيضا، ونائب دمشق إشقتمر الماردينى ونائب حلب إينال اليوسفىّ ونائب طرابلس كمشبغا الحموى ونائب حماة طشتمر القاسمى ونائب صفد الأمير الكبير طشتمر العلائىّ، نقل إليها من القدس ونائب غزّة آقبغا بن عبد الله ونائب إسكندريّة بلّوط الصّرغتمشىّ.

(11/208)


والذين هم معاصروه من ملوك الأقطار: صاحب بغداد وتبريز وما والاهما الشيخ حسين بن أويس وصاحب ماردين الملك الظاهر مجد الدين عيسى وصاحب اليمن الملك الأشرف ابن الملك الأفضل وصاحب مكّة الشريف أحمد بن عجلان وصاحب المدينة الشريفة عطية بن منصور وصاحب سيواس القاضى برهان الدين أحمد وصاحب بلاد قرمان الأمير علاء الدين وصاحب بلاد سمرقند وما والاها تيمور لنك كوركان وصاحب بلاد الدّشت طقتمش خان من ذرية جنجز خان انتهى.
ولمّا كان يوم الخميس ثالث شهر ربيع الآخر: أنعم على الأمير تغرى برمش بتقدمة ألف بديار مصر بعد وفاة أمير علىّ بن قشتمر المنصورى. ثم أنعم على سودون الشيخونى بتقدمة ألف أيضا واستقرّ حاجبا ثانيا عوضا عن علىّ بن قشتمر المنصورى. ثم بعد مدّة استقرّ تغرى برمش المقدّم ذكره أمير سلاح بعد وفاة علّان الشعبانىّ. ثم استقرّ مأمور القلمطاوى حاجب الحجّاب في نيابة حماة بعد وفاة طشتمر خازندار يلبغا العمرى.
ثم طلب يلبغا الناصرى من دمشق وكان منفيّا بها على تقدمة ألف، فحضر فى آخر شعبان، فتلقاه الأتابك برقوق والأمراء وترجّل له برقوق وأركبه مركوبا من مراكيبه وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بالقاهرة وأجلس راس ميسرة فوق أمير سلاح فلم تطل مدّته بديار مصر وأخلع عليه بنيابة حلب في يوم الخميس ثانى شوّال بعد عزل إينال اليوسفى وطلبه إلى مصر، فلما وصل إينال إلى غزّة قبض عليه وأرسل الى سجن الكرك. ثم أنعم الأتابك برقوق على دواداره الأمير يونس النوروزى بتقدمة ألف بمصر عوضا عن يلبغا الناصرى وخلع على الأمير جركس الخليلى الأمير آخور الكبير واستقرّ مشير الدولة ورسم للوزير ألا يتكلم في شىء إلا بعد مراجعته.

(11/209)


وفي العشر الأخير من شوّال أنعم على قطلوبغا الكوكائىّ بتقدمة ألف بعد وفاة الأمير آنص والد الأتابك برقوق العثمانىّ الذي قدم قبل تاريخه من بلاد الجركس، يأتى ذكر وفاته في الوفيات.
ثم في يوم الاثنين تاسع ذى الحجّة من سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة تخلّى الأمير تغرى برمش أمير سلاح عن إمرته ووظيفته وتوجّه إلى جامع قوصون ليقيم به بطّالا، فأرسل الأتابك إليه الأمير سودون الشيخونى الحاجب الثانى وقردم الحسنى رأس توبة وتوجّها إليه وسألاه أن يرجع إلى وظيفته وإمرته فلم يرجع لها، فعادا بالجواب إلى برقوق بذلك.
ثم إنّ تغرى برمش المذكور ندم من ليلته وأرسل يسأل الشيخ أكمل الدين شيخ الشيخونية أن يسأل برقوقا أن يعيده إلى إمرته ووظيفته فأرسل أكمل الدين إلى برقوق بذلك فلم يقبل برقوق ورسم بخروجه إلى القدس ماشيا، فأخرجه النّقباء إلى قبة النصر ماشيا. ثم شفع فيه فركب وسار إلى القدس.
ثم في العشر الأخير من شعبان أجرى جركس الخليلى الأمير آخور الماء إلى الميدان من تحت القلعة إلى الحوض الذي على بابه.
قلت: وإلى الآن الحوض باق على حاله بلا ماء.
ثم في التاريخ المذكور أخرج الأمير جركس الخليلى فلوسا جددا من الفلوس العتق، منها فلس زنته أوقيّة بربع درهم وفلس زنته نصف أوقية وفلس بفلسين.
فلما فعل ذلك وقف حال الناس وحصل الغلاء وقلّ الجالب؛ فلمّا بلغ الأتابك برقوقا أمر بإبطالها، وفي المعنى يقول الشيخ شهاب الدين أحمد بن العطار- رحمه الله تعالى: [البسيط]

(11/210)


تغيير عتق فلوس قد أضرّ فكم ... حوادث جدد جلّت من العدد
فكيف تمشى علاقات الأنام إذا ... والحال واقفة بالعتق والجدد
وقالت العامّة- لمّا فعل الخليلى ذلك ورسم بنقش اسمه على الفلوس-:
الخليلى من عكسو، نقش اسمو على فلسو. انتهى.
ثم حضر إلى الديار المصرية في ذى الحجّة الأمير كمشبغا الحموى نائب طرابلس وكان السلطان والأتابك برقوق في الصيد بناحية كوم برا «1» ؛ فأخلع السلطان عليه باستمراره على نيابة طرابلس.
ثم في يوم الخميس ثالث المحرّم سنة أربع وثمانين وسبعمائة استقرّ سودون الفخرى الشيخونى حاجب الحجاب بالديار المصرية، وكانت شاغرة من العام الماضى منذ توجّه مأمور القلمطاوى إلى نيابة حماة.
ثم أرسل الأتابك برقوق بكلمش الطازى العلائى إلى دمياط «2» لإحضار بيدمر الخوارزمى المعزول عن نيابة دمشق قبل تاريخه فحضر في العشرين من المحرّم وتلقّاه الأتابك برقوق من البحر «3» وخلع عليه باستقراره في نيابة دمشق على عادته عوضا عن إشقتمر الماردينى.
وفي سلخ صفر تولّى القاضى بدر الدين بن أبى البقاء قضاء الشافعية بديار مصر عوضا عن قاضى القضاة برهان الدين بن جماعة ورسم بانتقال مأمور القلمطاوى من

(11/211)


نيابة حماة إلى نيابة طرابلس عوضا عن كمشبغا الحموى بحكم انتقال كمشبغا إلى دمشق على خبز جنتمر أخى طاز بحكم توجّه جنتمر إلى القدس بطّالا ونقل إلى نيابة حماة الأمير الكبير طشتمر العلائى الدّوادار الذي كان قبل تاريخه حكم مصر، وتولّى نيابة صفد بعد طشتمر الدوادار تلو حاجب حجّاب دمشق.
وفي العشر الأوسط من شعبان نام الأتابك برقوق بمبيته بسكنه بالإسطبل السلطانىّ وقعد شيخ الصّفوىّ الخاصّكى يكبّسه وبينما هو نائم مسكه شيخ المذكور فى جنبه قويّا خارجا عن الحدّ، فقعد برقوق من اضطجاعه وقال له: ما الخبر؟ فقال:
إنّ مملوكك أيتمش اتّفق مع مماليك الأسياد الذين في خدمتك ومعهم بطا الأشرفىّ على أنهم الساعة يقتلونك، فسكت برقوق وجلس على حاله، فإذا أيتمش المذكور دخل عليه فقام برقوق وأخذ بيده قوسا وضربه به ضربة واحدة صفحا أرماه وأمر بمسكه وقال له: يا متخنّث! الذي يأخذ الملك ويقتل الملوك يقع من ضربة واحدة. ثم مسك بطا الخاصّكى وخرج برقوق وجلس بالإسطبل وطلب سائر الأمراء الكبار والصغار، فطلع الجميع إليه في الحال فكلّمهم بما سمع وجرى ثم أمسك من مماليك الأسياد نحو سبعة عشر نفرا؛ منهم: كزل الحططىّ، ويلبغا الخازندار الصغير وجماعة من رءوس نوب الجمداريّة عنده.
ثم في صبيحة نهاره أمسك جماعة من رءوس نوب الجمدارية وجماعة أخر تتمة خمسة وستين نفرا من مماليك الأسياد وهرب من بقى منهم. فالذين كان قبض عليهم اوّل يوم حبسهم بالبرج «1» من قلعة الجبل والذين مسكهم من الغد حبسهم بخزانة شمائل «2» . ثم أنزل بطا الخاصّكى الأشرفىّ وأيتمش إلى خزانة شمائل. ثم أمسك الأتابك

(11/212)


برقوق الأمير ألابغا العثمانى الدوادار الكبير وأحد مقدّمى الألوف بالديار المصرية وسجنه. ثم أخرجه على إمرة طبلخاناه بطرابلس. ثم نقله بعد مدّة يسيرة إلى تقدمة ألف بدمشق.
ثم في يوم السبت مستهل شهر رمضان أخرج برقوق من خزانة شمائل ثلاثة وأربعين مملوكا من الممسوكين قبل تاريخه، وأمر بتخشيبهم وتقييدهم ومشوا وهم مزنجرين بالحديد. ومعهم سودون الشّيخونىّ حاجب الحجّاب ونقيب الجيش إلى أن أوصلوهم إلى مصر القديمة وأنزلوهم إلى المراكب، وصحبتهم جماعة من الجبليّة فتوجّهوا بهم إلى قوص.
وكان سبب اتفاق هؤلاء المماليك على برقوق وقتله بسكنه بباب السلسلة لفرصة كانت وقعت لهم باشتغال الأمير جركس الخليلى الأمير آخور بجسر كان عمّره بين الروضة ومصر في النيل.
وخبره أنه لمّا كان في أوائل شهر ربيع الأوّل من هذه السنة اهتمّ الأمير جركس الخليلىّ المذكور في عمل جسر «1» بين الرّوضة وبين جزيرة «2» أروى المعروفة بالجزيرة الوسطى، طوله نحو ثلاثمائة قصبة وعرضه عشر قصبات وأقام هو بنفسه على عمله ومماليكه وجعل في ظاهر الجسر المذكور خوازيق «3» من سنط وسمّر عليها أفلاق نخل، جعلها على الجسر كالستارة تقيه من الماء عند زيادته، وانتهى العمل منه في آخر شهر ربيع الآخر. ثم حفر في وسط البحر خليجا من الجسر المذكور إلى زريبة «4» قوصون ليمرّ الماء فيه عند زيادته. ويصير البحر ممرّه دائما منه صيفا

(11/213)


وشتاء. وغرّم على هذا العمل أموالا كثيرة فلم يحصل له ما أراد على ما يأتى ذكره.
وفي هذا المعنى يقول الأديب شهاب الدين أحمد بن العطار. [الخفيف]
شكت النّيل أرضه ... للخليلى فأحضره
ورأى الماء خائفا ... أن يطأها فجسّره
وقال في المعنى شرف الدين عيسى بن حجّاج العالية- رحمه الله تعالى-[الكامل]
جسر الخليلى المقرّ لقد رسا ... كالطّود وسط النّيل كيف يريد
فإذا سالتم عنهما قلنا لكم ... : ذا ثابت دهرا وذاك يزيد
فهذا هو الذي كان أشغل الخليلى عن الإقامة بالإسطبل السلطانى. وأيضا لما كان خطر في نفوسهم من الوثوب على الملك فإنه من يوم قتل الملك الأشرف شعبان وصار طشتمر اللّفّاف من الجنديّة أتابك العساكر. ثم من بعده قرطاى الطازى. ثم من بعده أينبك البدرى. ثم من بعده قطلقتمر. ثم الأتابك برقوق وبركة، وكلّ من هؤلاء كان إمّا جنديّا أو أمير عشرة وترقّوا إلى هذه المنزلة بالوثوب وإقامة الفتنة، طمع كلّ أحد أن يكون مثلهم ويفعل ما فعلوه فذهب لهذا المعنى خلائق ولم يصلوا إلى مقصودهم. انتهى.
واستمرّ الأتابك برقوق بعد مسك هؤلاء في تخوّف عظيم واحترز على نفسه من مماليكه وغيرهم غاية الاحتراز. فأشار عليه بعد ذلك أعيان خشداشيّته وأصحابه مثل:
أيتمش البجاسى وألطنبغا الجوبانى أمير مجلس وقردم الحسنىّ وجركس الخليلى ويونس النّوروزىّ الدوادار وغيرهم- أن يتسلطن ويحتجب عن الناس ويستريح ويريح من هذا الذي هو فيه من الاحتراز من قيامه وقعوده. فجبن عن الوثوب على السلطنة وخاف عاقبة ذلك فاستحثّه من ذكرناه من الأمراء، فاعتذر بأنّه يهاب قدماء

(11/214)


الأمراء بالديار المصريّة والبلاد الشامية. فركب سودون الفخرى الشيخونى حاجب الحجّاب ودار على الأمراء سرّا حتّى استرضاهم، ولا زال بهم حتّى كلّموا برقوقا فى ذلك وهوّنوا عليه الأمر وضمنوا له أصحابهم من أعيان النّوّاب والأمراء بالبلاد الشامية، وساعدهم في ذلك موت الأمير آقتمر عبد الغنى، فإنّه كان من أكابر الأمراء، وكان برقوق يجلس في الموكب تحته لقدم هجرته وكذلك بموت الأمير أيدمر الشّمسى، فإنه كان أيضا من أقران آقتمر عبد الغنى، فماتا في سنة واحدة على ما يأتى ذكرهما في الوفيات- إن شاء الله تعالى.
فعند ذلك طابت نفسه وأجاب، وصار يقدّم رجلا ويؤخر أخرى، حتّى كان يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمائة طلع الأمير قطلوبغا الكوكائى أمير سلاح وألطنبغا المعلّم رأس نوبة إلى السلطان الملك الصالح أمير حاجّ صاحب التّرجمة، فأخذاه من قاعة الدّهيشة «1» وأدخلاه إلى أهله بالدور السلطانية، وأخذا منه النّمجاة وأحضراها إلى الأتابك برقوق العثمانى، وقام بقيّة الأمراء من أصحابه على الفور وأحضروا الخليفة والقضاة وسلطنوه؛ على ما سنذكره في أوّل ترجمته، بعد ذكر حوادث سنين الملك الصالح هذا على عادة هذا الكتاب. إن شاء الله تعالى.
وخلع الملك الصالح من السلطنة، فكانت مدّة سلطنته على الديار المصريّة سنة واحدة وسبعة أشهر تنقص أربعه أيام، على أنه لم يكن له في السلطنة من الأمر والنهى لا كثير ولا قليل. واستمرّ الملك الصالح عند أهله بقلعة الجبل إلى أن أعيد للسلطنة ثانيا، بعد خلع الملك الظاهر برقوق من السلطنة وحبسه بالكرك في واقعة يلبغا الناصرىّ ومنطاش؛ كما سيأتى ذكر ذلك مفصّلا.

(11/215)


السنة الأولى من سلطنة الملك الصالح أمير حاج الأولى على مصر
وهي سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة. على أنّ أخاه الملك المنصور عليا حكم فيها من أوّلها إلى ثالث عشرين صفر؛ حسب ما تقدّم ذكره في وفاته.
فيها (أعنى سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة) توفّى قاضى «1» القضاة عماد الدين أبو الفداء إسماعيل ابن الشيخ شرف الدين أبى البركات محمد بن أبى العزّ بن صالح الدمشقى الحنفى قاضى قضاة دمشق بها عن نيّف وتسعين سنة. وكان فقيها رئيسا من بيت علم ورياسة بدمشق. وهم يعرفون ببنى أبى العز وبنى الكشك.
وتوفّى قاضى القضاة كمال الدين أبو القاسم عمر ابن قاضى القضاة فخر الدين أبى عمر عثمان بن الخطيب هبة الله المعرّى «2» الشافعىّ بدمشق عن إحدى وسبعين سنة بعد أن حكم بها خمس سنين. وكان تنقّل في البلاد وولّى قضاء طرابلس وحلب ودمشق غير مرة؛ وكان فقيها عارفا بالأحكام خبيرا بالأمور.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم شهاب «3» الدين أبو العباس أحمد بن حمدان بن أحمد ابن عبد الواحد الأذرعىّ الشافعىّ بحلب عن نيف وسبعين سنة. وكان عديم النظير، فقيها عالما، شرح «منهاج النّووى» . واستوطن حلب وولى بها التدريس ونيابة الحكم إلى أن توفّى. رحمه الله.

(11/216)


وتوفّى الشيخ الإمام العالم الفاضل ركن الدين أحمد القرمىّ الحنفى الشهير بقاضى قرم ومفتى دار العدل «1» بالديار المصرية بها عن ثمانين سنة. واستقر عوضه في إفتاء دار العدل الشيخ شمس الدين محمد النيسابورىّ ابن أخى جار الله الحنفىّ. وكان ركن الدين فاضلا عارفا بمذهبه، ناب في الحكم عن قاضى القضاة جلال الدين جار الله، وكان معدودا من أعيان فقهاء مصر.
وتوفّى شيخ الشيوخ نظام الدين إسحاق ابن الشيخ مجد الدين عاصم ابن الشيخ سعد الدين محمد الأصبهانىّ الحنفىّ في ليلة الأحد ثالث عشر وبيع الآخر؛ قاله المقريزىّ.
وخالفه العينى؛ بأن قال: فى المحرم سنة ثمانين ولم يوافق لا في الشهر ولا في السنة.
والصواب: المقالة الأولى. وكان قدم إلى القاهرة وتولّى مشيخة خانقاه «2» سرياقوس، ثم توجه في الرّسلية إلى بلاد الهند وعاد وقد كثر ماله، حتى إنه أهدى الذهب فى الأطباق. ومما يدلّ على اتساع ماله عمارته الخانقاه بالقرب من قلعة الجبل تجاه باب الوزير على بعد متر شرقىّ الجبل وهي في غاية الحسن. وكان له همة ومكارم، حدّثنى حفيده بأشياء كثيرة من مكارمه وفضله وأفضاله.
توفّى الشيخ جمال الدين عبد الله بن محمد بن حديدة الأنصارى أحد الصوفية بالخانقاه «3» الصلاحية سعيد السعداء في سادس عشرين شعبان. وكان يروى الشّفاء وثلاثيّات «البخارى» وغير ذلك. وصنّف كتاب «المصباح المضئ» فى كتّاب النبي عليه السلام ومكاتباته.
وتوفّى الأمير سيف الدين مازى بن عبد الله اليلبغاوىّ أحد أمراء الطلبخانات بالديار المصرية بها.

(11/217)


وتوفّى السيد الشريف عطية بن منصور بن جمّاز بن شيحة الحسنىّ أمير المدينة النبويّة بها وتولى بعده ابن أخيه جمّاز بن هبة الله وكان كريما عادلا. رحمه الله.
وتوفّى الأمير آنص العثمانىّ الجركسىّ والد الأتابك برقوق العثمانىّ أحد مقدّمى الألوف بالديار المصرية في العشر الأوسط من شوّال وقد جاوز ثمانين سنة من العمر، أقام عمره في بلاد الجزكس، حتى هداه الله تعالى للإسلام على يد ولده الأتابك برقوق، وقدم القاهرة كما تقدّم ذكره في ترجمة الملك المنصور علىّ وأسلم وحسن إسلامه وأقام بعد ذلك دون السنتين ومات. ومع هذه المدة القصيرة من إسلامه أظهر فيها عن دين كبير وخير وصدقات كثيرة ومحبّة لأهل العلم وشفقة على الفقراء وأهل الصّلاح. وكان لا يدّخر شيئا من المال، بل كان مهما حصل في يده فرّقه في الحال على الفقراء والمساكين. أخبرنى جماعة من خدمه أنّه كان إذا ركب ولقى في طريقه أحدا من المحابيس المكدّين يأخذه من جنداره ويطلقه في الحال من زبحيره، ولم يقدر أحد أن يردّه عن ذلك، فمنع برقوق من خروج المحابيس للتّكدّى خوفا من أن يطلقهم، فإنّه كان إذا رأى أحدا منهم يسأل من مماليكه هذا مسلم أم كافر؟ فيقولون له: مسلم؛ فيقول: كيف يفعل بمسلم هكذا في بلاد الإسلام! أطلقوه فيطلق في الحال. ومات قبل سلطنة ولده برقوق ودفن بتربة «1» الأمير يونس الدوادار

(11/218)


برأس الروضة خارج باب البرقية من القاهرة، ثم نقل بعد فراغ مدرسة ولده البرقوقية ببين القصرين إلى الدفن بها في القبّة.
وتوفّى الأمير الكبير سيف آقتمر بن عبد الله من عبد الغنى نائب السلطنة بالديار المصرية بالقاهرة في هذه السنة، بعد أن باشر عدّة أعمال ووظائف مثل: نيابة صفد، وطرابلس، ودمشق، وحجوبّية الحجّاب بديار مصر، وإمرة جاندار، ونيابة السلطنة بها مرتين. وبموته خلا الجوّ للأتابك برقوق وتسلطن، مع أنه كان عديم الشر، غير أنه كان مطاعا في الدولة يرجع إلى كلامه، فكان برقوق يراعيه ويجلس تحته إلى أن مات في تاسع عشرين جمادى الآخرة.
وتوفّى الأمير الكبير عزّ الدين أيدمر بن عبد الله الشمسى أحد أكابر أمراء الألوف بالديار المصريّة بها في ثالث عشر «1» صفر وقد جاوز الثمانين سنة. وكان أصله من مماليك الملك الناصر محمد بن قلاوون، أقام أميرا نحوا من ستين سنة، وهو أيضا ممّن كان برقوق يخشاه ويعظّمه ويجلس تحته حتّى في يوم حضور والد برقوق بخانقاة سرياقوس، جلس برقوق تحته في الملأ من الناس، فبموت هؤلاء صفا الوقت لبرقوق وإن كان بقى من القدماء إشقتمر الماردينىّ بأيدمر الخوارزمىّ، فهما ليس كهؤلاء فإنهما لحبّهما لنيابة دمشق وغيرها يتواضعا لأصحاب الشوكة. انتهى وكان أيدمر الشمسىّ هذا كونه مملوك ابن قلاوون يجلس عن اليمين وآقتمر عبد الغنى عن اليسار.
وتوفّى الأمير سيف الدين طشتمر بن عبد الله القاسمىّ المعروف بخازندار يلبغا العمرىّ نائب حماة في هذه السنة في شهر رجب بعين «2» تاب صحبة العساكر الشاميّة.

(11/219)


وكان من أجلّ مماليك يلبغا العمرىّ وأكابرهم، وتولّى بعده نيابة حماة مأمور القلمطاوىّ اليلبغاوىّ حاجب الحجّاب.
وتوفّى الأمير علّان بن عبد الله الشعبانىّ أمير سلاح في ثمانى عشر شهر ربيع الآخر وهو أحد أعيان مماليك يلبغا، وكان من حزب برقوق وقام معه في نوبة واقعة بركة أتمّ قيام وكان برقوق لا يخرج عن رأيه.
وتوفّى خواجا فخر الدين عثمان بن مسافر جالب الأتابك برقوق من بلاده ثم جالب أبيه وإخوته إلى الديار المصريّة بالقاهرة في سادس عشر شهر رجب. وكان رجلا مقداما عاقلا وقورا، نالته السعادة لجلبه الأتابك برقوق ومات وهو من أعيان المملكة. وكان برقوق إذا رآه قام له من بعد وأكرمه وقبل شفاعته وأعطاه ما طلب.
وتوفّى الشيخ الفقير المعتقد على الشامىّ بالقاهرة في خامس صفر وكان يعرف بأبى لحاف.
وتوفّى الأمير علاء الدين على بن قشتمر الحاجب الشهير بالوزيرىّ في تاسع عشرين شهر ربيع الآخر، كان أمير مائة ومقدّم ألف بديار مصر وكان من خواصّ برقوق وأحد من قام معه في وقائعه وساعده.
وتوفّى الأستاذ شمس الدين محمد بن محمد بن محمد المعروف بابن السّورى العمّارى الموصلى العوّاد المغنّى- نسبته بالعمّارى إلى عمّار بن ياسر الصحابىّ رضى الله عنه- فى يوم العشرين من صفر بالقاهرة، وقد انتهت إليه الرئاسة في ضرب العود والموسيقى ونالته السعادة من أجلها، حتّى إنّه كان إذا مرض عاده جميع أعيان الدولة.

(11/220)


قلت: وهو صاحب التصانيف الهائلة في الموسيقى.
وتوفّيت المسندة المعمّرة جويرة بنت الشّهاب أبى الحسن [أحمد] بن أحمد الهكّارى في يوم السبت ثانى عشرين صفر وقد انفردت برواية النّسائى وغيرها.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وثمانية أصابع. مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا.
[ما وقع من الحوادث سنة 784]
ذكر سلطنة الملك الظاهر برقوق الأولى على مصر
السلطان الملك الظاهر أبو سعيد سيف الدين برقوق بن آنص العثمانى اليلبغاوى الجاركسىّ القائم بدولة الجراكسة بالديار المصرية. وهو السلطان الخامس والعشرون من ملوك الترك بالديار المصرية والثانى من الجراكسة، إن كان الملك المظفر بيبرس الجشنكير چاركسيا، وإن كان بيبرس تركى الجنس فبرقوق هذا هو الأوّل من ملوك الچراكسة، وهو الأصحّ وبه نقول.
جلس على تخت الملك في وقت الظّهر من يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمائة الموافق له آخر يوم هاتور وسادس تشرين الثانى، بعد أن اجتمع الخليفة المتوكّل على الله أبو عبد الله محمد والقضاة وشيخ الإسلام سراج الدّين عمر البلقينى وخطب الخليفة المتوكّل على الله خطبة بليغة. ثم بايعه على السلطنة وقلّده أمور المملكة ثم بايعه من بعده القضاة والأمراء.
ثم أفيض على برقوق خلعة السلطنة، وهي خلعة سوداء خليفتيّة على العادة، وأشار السّراج البلقينى أن يكون لقبه «الملك الظاهر» فإنه وقت الظّهيرة والظّهور وقد ظهر هذا الأمر بعد أن كان خافيا، فتلقّب بالملك الظاهر وركب فرس النّوبة من الحرّافة من المقعد الذي بالإسطبل السلطانىّ من باب السّلسلة. والقبّة والطّير

(11/221)


على رأسه، وطلع من باب السّر «1» إلى القصر الأبلق «2» ، وأمطرت السماء عند ركوبه بأبّهة السلطنة، فتفاءل الناس بيمن سلطنته ومشت الأمراء والأعيان بين يديه إلى أن نزل ودخل القصر المذكور وجلس على تخت الملك. وكان طالع جلوسه على تخت الملك برج الحوت والشمس في القوس متصلة بالقمر تثليثا والقمر بالأسد متّصل بالمشترى تثليثا وزحل بالثّور راجعا والمشترى بالحمل متصل بعطارد من تسديس والمرّيخ بالجوزاء في شرفه والزّهراء بالعقرب وعطارد بالقوس. ودقّت البشائر بقلعة الجبل عند ركوبه ثم زيّنت القاهرة ومصر ونودى بالقاهرة بالدعاء للسلطان الملك الظاهر برقوق.
ولمّا جلس على تخت الملك قبّلت الأمراء الأرض بين يديه وخلع على الخليفة على العادة.
ثم كتب بذلك إلى الأعمال وخرجت الأمراء لتحليف النّوّاب بالبلاد الشامية ثم أمر الملك الظاهر في السلطنة وثبتت قواعد ملكه.
ومدحه جماعة من شعراء عصره منهم الشيخ شهاب الدين أحمد بن العطار فقال:
[السريع]
ظهور يوم الأربعاء ابتدا ... بالظاهر المعتز بالقاهر
والبشر قد تمّ وكلّ امرئ ... منشرح الباطن بالظاهر
وقال الشيخ شهاب الدين الأعرج السّعدى من قصيدة: [الوافر]
تولّى الملك برقوق المفدّى ... بسعد الجدّ والاقدار حتم
نهار الأربعاء بعيد ظهر ... وللتربيع في الاملاك حكم
بتاسع عشر رمضان بعام ... لأربع مع ثمانين يتمّ

(11/222)


قلت: ولنذكر أمر الملك الظاهر هذا من أوّل ابتداء أمره فنقول:
أصله من بلاد الچاركس وجنسه «كسا» ثم أخذ من بلاده وأبيع بمدينة قرم فاشتراه خواجا عثمان بن مسافر المقدّم ذكره وجلبه إلى مصر فاشتراه منه الأتابك يلبغا العمرى الخاصّكى الناصرى في حدود سنة أربع وستين وسبعمائة أو قبلها بيسير وأعتقه وجعله من جملة مماليكه، واستمرّ بخدمته إلى أن ثارت مماليك يلبغا عليه وقتل في سنة ثمان وستين وسبعمائة، فلم أدر هل كان برقوق ممّن هو مع أستاذه يلبغا أم كان عليه. ولما قتل يلبغا وتمزّقت مماليكه وحبس أكثرهم حبس برقوق هذا مع من حبس مدّة طويلة هو ورفيقه بركة الجوبانىّ ومعهم أيضا جاركس الخليلى وهو دونهم في الرتبة. ثم أفرج عنه وخدم عند الأمير منجك اليوسفىّ نائب الشام سنين إلى أن طلب الملك الأشرف مماليك يلبغا إلى الديار المصرية حضر برقوق هذا من جملتهم وصار بخدمة الأسياد أولاد الملك الأشرف جنديّا ولم يزل على ذلك حتى ثار مع من ثار من مماليك يلبغا على الملك الأشرف شعبان في نوبة قرطاى وأينبك وغيرهما في سنة ثمان وسبعين وسبعمائة وقتل الأشرف.
ثم لمّا وقع بين أينبك وقرطاى وانتصر أينبك على قرطاى أنعم أينبك عليه بإمرة طبلخاناة دفعة واحدة من الجندية، فدام على ذلك نحو الشهر، وخرج أيضا مع من خرج على أينبك من اليلبغارية فأخذ إمرة مائة وتقدمة ألف وكذلك وقع لرفيقه بركة. ثم صار بعد أيام قليلة أمير آخور كبيرا ودام على ذلك دون السنة واتّفق مع الأمير بركة على مسك طشتمر الدوادار ومسكاه بعد أمور حكيناها في ترجمة الملك المنصور علىّ وتقاسما المملكة وصار برقوق أتابك العساكر، وبركة رأس نوبة الأمراء أطابكا، فدام على ذلك من سنة تسع وسبعين إلى سنة اثنتين وثمانين ووقع

(11/223)


بينه وبين خشداشه بركة وقبض عليه بعد أمور وحروب وصفا له الوقت إلى أن تسلطن. وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه، غير أننا ذكرناه هنا ثانيا على سبيل الاختصار لينتظم سياق الكلام مع سياقه. انتهى.
قال المقريزى- رحمه الله: وكان اسمه ألطنبغا فغيّره أستاذه يلبغا لمّا اشتراه وسمّاه برقوقا. وقال القاضى علاء الدين علىّ ابن خطيب «1» الناصريّة: كان اسمه «سودون» نقلا عن قاضى القضاة ولىّ الدين أبى زرعة العراقىّ عن التاجر برهان الدين المحلّى عن خواجا عثمان بن مسافر. والقولان ليسا بشىء وإن كان النقلة لهذا الخبر ثقات في أنفسهم فإنهم ضعفاء في الأتراك وأسمائهم وما يتعلّق بهم لا يرجع إلى قولهم فيها. والأصح: أنّه من يوم ولد اسمه برقوق كما سنبيّنه في هذا المحلّ من وجوه عديدة منها: أن الخواجا عثمان كان لا يعرف بالعربية، وكان البرهان المحلّى لا يعرف باللغة التركية كلمة واحدة، فكيف دار بينهما الكلام، حتى حكى له ما نقل وإن وقع اجتماعهما في بعض المجالس وتكالما، فالبرهان يفهم عنه بالرمز لا بالتحقيق وليس بهذا نستدل، بل أشياء أخر منها: أنّ والد الملك الظاهر برقوق لمّا قدم من بلاد الجاركس إلى الديار المصرية ونزل الملك الظاهر برقوق في وجوه الأمراء إلى ملاقاته بالعكرشة وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه، وكان يوم ذلك برقوق مرشّحا للسلطنة،

(11/224)


فعندما وقع بصر والده عليه وأخذ برقوق في تقبيل يده ناداه باسمه برقوق من غير تعظيم ولا تحشّم. وكان والد برقوق لا يعرف الكلمة الواحدة من اللغة التركية، فلمّا جلس في صدر المخيّم وصار يتكلّم مع ولده برقوق بالجاركس تكرّر منه لفظ «برقوق» غير مرة.
ثم لمّا قدم القاهرة وصار أمير مائة ومقدّم ألف استمرّ على ما ذكرناه من أنه ينادى برقوقا باسمه ولا يقوم له إذا دخل عليه، فكلّمه بعض أمراء الجراكسة أن يخاطبه بالأمير، فلم يفعل وغضب وطلب العود إلى بلاد الجاركس، فلو كان لبرقوق اسم غير برقوق ما ناداه إلّا به ولو قيل له في ذلك ما قبله. فهذا من أكبر الأدلة على أن اسمه القديم «برقوق» . وكذلك وقع لبرقوق مع الخوندات، فإن أخته الكبرى كانت أرضعت برقوقا مع ولد لها، وكانت أيضا لا تعرف باللّغة التركية، فكان أعظم يمين عندها: وحقّ رأس برقوق. وقدم مع الخوندات جماعة كبيرة من أقاربهم وحواشيهم وتداول مجيئهم من بلاد الجاركس إلى القاهرة إلى الدولة الناصرية، ورأيت أنا الخوندات غير مرّة.
وأما جواريّهم وخدمهم فصار غالبهم عندنا بعد موتهم. واستولد الوالد بعض من حضر معهم من بلاد الجاركس من الجوارى وكان غالب من حضر معهم من عجائز الجراكسة يعرف مولد برقوق فلم نسمع من أحد منهم ما نقله من تغيير اسمه ولا من أحد من مماليكه مع كثرة عددهم واختلاف أجناسهم. ومنهم من يدّعى له بقرابة مثل الأمير قجماس والد إينال الأمير الآخور الكبير وغيره، وقد أثبت ذرية قجماس المذكور أنّه ابن عمّ برقوق بسبب ميراث مماليكه بمحضر شهد فيه جماعة من قدماء الجراكسة وسمّى فيه برقوق برقوقا وسمّى قجماس فجماسا.

(11/225)


ثم لمّا وقفت على هذه النّقول الغريبة سألت عن ذلك من أكابر مماليك برقوق، فكلّ من سألت منه يقول: لم يطرق هذا الكلام سمعى إلّا في هذا اليوم، هذا مع كثرتهم وتعظيمهم لأستاذهم المذكور وحفظهم لأخياره، وما وقع له قديما وحديثا حتى إنّ بعضهم قال: هذا اسم جاركسى ويلبغا اسم تترى لا يعرف معناه، ثم ذكر معناه فقال: هذا الاسم أصله «ملى جق «1» » ومعناه بالجاركسى غنّام، فإنّ «ملى» بلغتهم اسم للغنم ثم خفّف على «جق» ببرقوق ثم ذكر أسماء كثيرة، كان أصلها غير ما هي عليه الآن مثل «بايزير» فسمى «بايزيد» ومنهم من جعله كنية أبى يزيد ومثل «آل باى» فسّمى «على باى» وأشياء من ذلك يطول شرحها. وقد خرجنا عن المقصود لتأييد قولنا، وقد أوضحنا هذا وغيره في مصنّف على حدته في تحريف أولاد العرب للاسماء التركيّة والعجميّة وفي شهرتهم إلى بلادهم في مثل جانبك وتنبك وشيخون، ومثل من نسب إلى فيروزباد واسترآباد من زيادة ألفاظ وترقيق ألفاظ يتغيّر منها معناها، حتّى إن بعض الأتراك أو الأعاجم إذا سمعها لا يفهمها إلّا بعد جهد كبير. انتهى.
وأمّا الملك الظاهر برقوق فإنه لمّا تسلطن جلس بالقصر الأبلق «2» ثلاثة أيام، فصارت هذه الإقامة سنّة بعده لمن يتسلطن ولم تكن قبل ذلك. فلمّا كان يوم الاثنين رابع عشرين شهر رمضان قرئ عهد الملك الظاهر برقوق بالسلطنة بحضرة الخليفة والقضاة والأمراء وأعيان الدولة وخلع السلطان عليهم الخلع السنيّة. ثم أخلع على الأمير أيتمش البجاسىّ باستمراره رأس نوبة الأمراء وأطابكا وعلى الأمير ألطنبغا الجوبانىّ أمير مجلس على عادته، وعلى جاركس الخليلى الأمير آخور الكبير على

(11/226)


عادته، وعلى الأمير سودون الفخرىّ الشيخونىّ حاجب الحجّاب باستقراره نائب السّلطنة بالديار المصرية، وكانت شاغرة من يوم مات الأمير آقتمر عبد الغنى. وخلع على الأمير ألطنبغا الكوكائى أمير سلاح، واستقرّ حاجب الحجّاب عوضا عن سودون الشيخونىّ، وعلى الأمير ألطنبغا المعلّم باستقراره أمير سلاح عوضا عن الكوكانى المنتقل إلى الحجوبيّة.
قلت: وهذا مما يدل على أن وظيفة إمرة سلاح كانت إذ ذاك دون الحجوبيّة انتهى.
ثم أخلع السلطان على الأمير يونس النّوروزى دواداره قديما باستقراره دوادارا كبيرا بإمرة مائة وتقدمة ألف عوضا عن ألابغا العثمانى المقبوض عليه قبل تاريخه، وعلى الأمير قردم الحسنىّ اليلبغاوىّ باستقراره على عادته رأس نوبة ثانيا بإمرة مائة وتقدمة ألف عوضا عن ألابغا.
وهذه الوظيفة هي الآن وظيفة رأس نوبة النّوب وقد بينا ذلك في غير موضع.
ثم خلع السلطان على القضاة الأربعة؛ وهم: قاضى القضاة بدر الدين بن أبى البقاء السّبكى الشافعىّ. وقاضى القضاة صدر الدين بن منصور الحنفىّ. وقاضى القضاة جمال الدين بن خير المالكىّ. وقاضى القضاة ناصر الدين العسقلانى الحنبلىّ. وخلع على قضاة العسكر مفتى دار العدل «1» ، ووكلاء بيت المال، وعلى مباشرى الدولة، وعلى القاضى بدر الدين بن فضل الله كاتب السر، وعلى علم الدّين سنّ إبرة الوزير، وعلى تقىّ الدين محمد بن محبّ الدّين ناظر الجيش، وعلى سعد الدين بن البقرى ناظر الخاصّ.

(11/227)


ثم خلع الملك الظاهر على القاضى أوحد الدين عبد الواحد موقّعه في أيام إمرته، وعلى جمال الدين محمود القيصرى محتسب القاهرة، وعلى سائر أرباب الدولة وأعيان المملكة فكان يوما مشهودا.
ثمّ في يوم الخميس سابع عشرينه طلب السلطان سائر الأمراء والأعيان، وحلّفهم على طاعته. وفيه أيضا خلع على الأمير بهادر المنجكىّ، واستقرّ أستدارا بإمرة طبلخاناه، وأضيف إليه أستاداريّة المقام الناصرىّ محمد ابن السلطان الملك الظاهر برقوق.
ثم في يوم الاثنين تاسع شوّال أخلع السلطان على العلّامة أوحد الدين عبد الواحد ابن إسماعيل بن ياسين الحنفىّ باستقراره كاتب السرّ بالديار المصريّة عوضا عن القاضى بدر الدين بن فضل الله بحكم عزله.
ثمّ أخلع السلطان على الأمير جلبان العلائى واستقرّ حاجبا خامسا، ولم يعهد قبل ذلك بديار مصر خمسة حجّاب، وعدّ ذلك من الأشياء التي استجدّها الملك الظاهر برقوق.
وأخلع على رجل من صوفيّة خانقاه شيخون يقال له: خير الدين [العجمىّ «1» ] باستقراره قاضى قضاة الحنفيّة بالقدس الشريف.
ثم أخلع أيضا على رجل آخر من صوفيّة خانقاه شيخون يقال له: موفّق الدّين العجمىّ بقضاء غزة، كلّ ذلك بسفارة الشيخ أكمل الدّين شيخ الخانقاه الشّيخونية.
وهذا أيضا ممّا استجدّه الملك الظاهر، فإنه لم يكن قبل ذلك بالقدس ولا بغزة قاض حنفىّ.

(11/228)


ثم في يوم الأربعاء «1» تاسع عشرين شوّال ركب السلطان الملك الظاهر من قلعة الجبل وعدّى النيل من بربلاق إلى الجيزة وتصيّد ثم عاد من آخر النهار، وقد ركب الأمير أيتمش عن يمينه والعلّامة أكمل الدين شيخ الشّيخونيّة عن يساره.
ثم رسم السلطان بعد عوده من الصّيد باستقرار بدر الدين محمد بن أحمد [ابن إبراهيم «2» ] ابن مرهر في كتابة سرّ دمشق عوضا عن القاضى فتح الدين [محمد «3» ] ابن الشهيد.
ثم ورد الخبر على السلطان من الأمير يلبغا الناصرىّ نائب حلب بأنّ الأمير ألطنبغا السلطانىّ نائب أبلستين «4» عصى وطلع الى قلعة «5» دارندة المضافة اليه وأنه أمسك بعض أمرائها وأطلع إلى دارندة ذخائره، فركب العسكر الذين هم بالمدينة عليه وأمسكوا مماليكه وحاصروه فطلب الأمان منهم، ثم فرّ من القلعة إلى أبلستين ثانيا فكتب إليه الناصرىّ نائب حلب يهدّده فلم يرجع إليه ومرّ هاربا إلى بلاد التّتار وقال: لا أكون في دولة حاكمها جاركسىّ!
وفي يوم السبت سابع عشر ذى القعدة ركب السلطان أيضا من القلعة إلى

(11/229)


جهة المطريّة «1» ومضى إلى قناطر أبى منجّا «2» ، ثم عاد وشقّ القاهرة من باب الشعرية «3» ، وكان لمروره يوم مشهود وهو أوّل ركوبه ومروره من القاهرة في سلطنته.

(11/230)


ثم قدم الخبر على السلطان بفرار الأمير آقبغا من عبد الله نائب غزّة منها إلى الأمير نعير «1» .
وفي هذه الأيام أخلع السلطان على الأمير قرقماس الطّشتمرىّ باستقراره خازندارا كبيرا.
وفي سابع «2» عشر ذى الحجّة من سنة أربع وثمانين وسبعمائة ركب السلطان من القلعة وعدّى النيل إلى برّ الجيزة ثم عاد من بلاق في سابع عشر ذى الحجّة المذكور.
وفي سابع عشرين ذى الحجّة قدم الأمير ألطنبغا الجوبانىّ امير مجلس من الحجاز وكان حج مع الركب الشامىّ وعاد من طريق الحجّ المصرىّ.
وفي يوم السبت أوّل محرّم سنة خمس وثمانين وسبعمائة قدم الأمير يلبغا الناصرىّ نائب حلب إلى الديار المصرية فخرج الأمير سودون الشّيخونىّ النائب إلى لقائه وجماعة من الأمراء، وطلع الجميع في خدمته إلى القلعة، وقبّل الناصرىّ الأرض بين يدى السلطان الملك الظاهر.
وخلع السلطان عليه بالاستمرار على نيابة حلب، فكان مجىء الناصرى إلى مصر أوّل عظمة نالت الملك الظاهر برقوقا؛ لأن يلبغا الناصرى المذكور كان من كبار مماليك الأتابك يلبغا العمرى وممن تأمّر في أيام يلبغا، وبرقوق كان من صغار مماليكه، وأيضا فإن الناصرى كان في دولة الملك الأشرف شعبان بن حسين أمير مائة ومقدّم ألف وبرقوق من جملة الأجناد ممن يتردّد إليه ويقوم في مجلسه على قدميه، فلم يمض غير سنيات حتى صار كلّ منهما في رتبة معروفة. فسبحان مغيّر حال بعد

(11/231)


حال. ويلبغا الناصرى هو صاحب الوقعة مع الملك الظاهر برقوق الآتى ذكرها- إن شاء الله تعالى- فى هذا المحل.
ثم نزل الأمير يلبغا الناصرى وعليه خلعة الاستمرار بنيابة حلب وعن يمينه الأمير أيتمش وعن يساره الأمير ألطنبغا الجوبانى ومن ورائه سبعة جنائب من خيل السلطان بسروج ذهب وكنابيش زركش أنعم بها عليه. ثم حمل إليه السلطان والأمراء من التّقادم مما يجلّ وصفه.
ثم ركب السلطان في يوم السبت ثامن المحرّم ومعه الأمير يلبغا الناصرى وعدّى النيل من بلاق إلى برّ الجيزة وتصيّد وعاد في آخر النهار.
وفي عاشره خلع السلطان على الأمير يلبغا الناصرى نائب حلب خلعة السفر، وخرج من يومه إلى محل كفالته بحلب.
ثم في يوم الاثنين سابع عشره أخلع السلطان على شمس الدين إبراهيم كاتب أرنان واستقرّ به وزيرا على شروط عديدة، منها: أنه لم يلبس خلعة الوزر، فأجيب ولبس خلعة [من صوف «1» ] كخلعة القضاة وغير ذلك.
وفيه وصل الأمير أسد الدين الكردى أحد أمراء حلب في الحديد لشكوى بعض التّجّار عليه أنه غصبه مملوكا فحبس أياما ثم أفرج عنه وأخرج على تقدمة «2» ألف بطرابلس.
ثم عزل السلطان الأمير إينال اليوسفى عن نيابة صفد بالأمير تمرباى التّمرداشى، وأنعم على إينال بتقدمة ألف بدمشق.

(11/232)


وفيه استعفى الأمير يلّو من نيابة حماة فأعفى.
وفي تاسع عشرة قدم سالم الدوكارى «1» من حلب فأكرمه السلطان وأخلع عليه وأنعم عليه بإمرة طبلخاناه بحلب.
وفي ثامن عشرين جمادى الأولى وهو سادس «2» مسرى أو في النيل فنزل الملك الظاهر من القلعة في موكب عظيم حتى عدّى النيل وخلّق المقياس «3» وفتح خليج السّدّ. وهذا أيضا مما استجدّه الملك الظاهر برقوق، فإنه لم يعهد بعد الملك الظاهر بيبرس البندقدارى سلطان نزل من القلعة لتخليق المقياس وفتح الخليج غير الملك الظاهر هذا، فهو أيضا ممن استجدّه لطول ترك الملوك له.
وفي هذا الشهر أخلع السلطان على الأمير صنجق الحسنى اليلبغاوى بنيابة حماة عوضا عن يلّو بحكم استعفائه عن نيابة حماة.
وفيه ورد الخبر بموت الأمير تمرباى التّمرداشىّ نائب صفد بعد أن أقام على نيابة صفد خمسة أيام، فأخلع السلطان بعد مدّة على الأمير كمشبغا الحموىّ بنيابة صفد عوضه، وكمشبغا هذا هو أكبر مماليك يلبغا العمرىّ وممّن صار في أيام أستاذه أمير طبلخاناه ولم يخرج عن طاعة أستاذه يلبغا، ولهذا مقته خشداشيّته الذين خرجوا على أستاذهم يلبغا، لكونه لم يوافقهم، وقد تقدّم أنّه ولى نيابة دمشق وصفد وطرابلس قبل ذلك.

(11/233)


وفي أوّل شهر رجب من سنة خمس وثمانين وسبعمائة طلع الأمير [صلاح الدين «1» ] محمد بن محمد بن تنكز إلى السلطان ونقل له عن الخليفة المتوكّل على الله أبى عبد الله محمد أنه اتفق مع الأمير قرط بن عمر التّركمانىّ المعزول عن الكشوفية ومع إبراهيم ابن قطلوقتمر العلائىّ أمير جاندار ومع جماعة من الأكراد والتّركمان، وهم نحو من ثمانمائة فارس أنهم يثبون على السلطان إذا نزل من القلعة إلى الميدان في يوم السبت للعب بالكرة يقتلونه ويمكّنون الخليفة من الأمر والاستبداد بالملك فحلّف السلطان ابن تنكز على صحّة ما نقل فحلف له وطلب يحاققهم على ذلك، فبعث السلطان إلى الخليفة وإلى قرط وإلى إبراهيم بن قطلقتمر فأحضرهم وطلب سودون النائب وحدّثه بما سمع، فأخذ سودون ينكر ذلك ويستبعد وقوعه منهم، فأمر السلطان بالثلاثة فحضروا بين يديه وذكر لهم ما نقل عنهم فأنكروا إلا قرط، فإنّه خاف من تهديد السلطان، فقال: الخليفة طلبنى وقال: هؤلاء ظلمة وقد استولوا على هذا الملك بغير رضائى، وإنى لم أقلّد برقوقا السلطنة إلّا غصبا، وقد أخذ أموال الناس بالباطل وطلب منّى أن أقوم معه وأنصر الحقّ فأجبته إلى ذلك ووعدته بالمساعدة، وأن أجمع له ثمانمائة واحد من الأكراد والتّركمان وأقوم بأمره، فقال السلطان للخليفة: ما قولك في هذا، فقال: ليس لما قاله صحّة، فسأل إبراهيم ابن قطلقتمر عن ذلك، فقال: ما كنت حاضرا هذا الاتفاق، لكنّ الخليفة طلبنى إلى بيته بجزيرة «2» الفيل وأعلمنى بهذا الكلام وقال لى: إنّ هذا مصلحة، ورغّبنى في موافقته والقيام لله تعالى ونصرة الحق، فأنكر الخليفة ما قاله إبراهيم أيضا وصار إبراهيم يذكر له أمارات والخليفة يحلف أن هذا الكلام ليس له صحة، فاشتدّ

(11/234)


حنق الملك الظاهر وسلّ السيف ليضرب عنق الخليفة؛ فقام سودون النائب وحال بينه وبين الخليفة، وما زال به حتى سكّن بعض غضبه. فأمر الملك الظاهر بقرط وإبراهيم يسمّرا واستدعى القضاة ليفتوه بقتل الخليفة، فلم يفتوه بقتله وقاموا عنه، فأخذ الخليفة وسجنه بموضع في قلعة الجبل وهو مقيّد وسمرّقرط وإبراهيم وشهّرا فى القاهرة ومصر. ثم أوقفا تحت القلعة بعد العصر فنزل الأمير أيدكار «1» الحاجب وسار بهما ليوسّطا خارج باب المحروق «2» من القاهرة، فابتدأ بقرط فوسّط وأبى أن يأخذوا إبراهيم [إذ «3» ] جاءت عدّة من المماليك بأن الأمراء شفعوا في إبراهيم ففكّت مساميره وسجن بخزانة «4» شمائل.
ثم طلب السلطان زكريّاء وعمر ابنى إبراهيم عمّ المتوكّل، فوقع اختياره على عمر فولّاه الخلافة وتلقّب بالواثق بالله، كلّ ذلك في يوم الاثنين أوّل شهر رجب.
ثم في يوم الاثنين ثامن شهر رجب أخلع السلطان على الطواشى بهادر الرومىّ واستقرّ مقدّم المماليك السلطانية عوضا عن جوهر الصّلاحى.
ثم في يوم السبت ثالث عشره ركب السلطان إلى الميدان ثانى مرة للعب الكرة. ثم ركب في يوم السبت عشرينه ثالث مرّة. ثم ركب في يوم السبت سابع عشرينه إلى خارج القاهرة وعاد من باب النصر ونزل بالبيمارستان المنصورى.

(11/235)


ثم ركب منه إلى القلعة «1» ، فلم يتحرّك أحد بأمر من الأمور.
ثم خرج السلطان إلى سرحة سرياقوس على العادة في كلّ سنة وأقام بها أياما وعاد وفي عوده قبض على سعد الدين نصر الله بن البقرىّ ناظر الخاصّ بالخدمة.
وخلع السلطان على موفّق الدين أبى الفرج عبد الله الأسلمى بنظر الخاصّ عوضا عن ابن البقرى وأجرى على ابن البقرىّ العقوبة ثم ضربه بالمقارع، بعد ما أخذ منه ثلثمائة ألف دينار.
وفيه شفع الأمراء في الخليفة وتقدّم منهم الأمير أيتمش والأمير ألطنبغا الجوبانىّ وقبّلا الأرض وسألا السلطان في العفو عنه وترفّقا في سؤاله؛ فعدّد لهما السلطان ما أراد أن يفعله بقتله فما زالا به حتّى أمر بفكّ قيده.
وفي هذه السنة توجه السلطان عدة مرار للصيد ببر الجيزة وغيرها، وفي الأخير اجتاز السلطان بخيمة الأمير قطلقتمر العلائىّ أمير جاندار ووقف عليها فخرج قطلقتمر إليه وقدّم له أربعة أفراس فلم يقبلها فقبّل الأرض ثانيا وسأل السلطان أن يقبلها، فأجاب سؤاله وقبلها وسار حتى نزل بمخيّمه. وفي الحال استدعى بإبراهيم ابن قطلقتمر المذكور من خزانة شمائل وأطلقه وخلع عليه وأركبه فرسا بسرج ذهب وكنبوش زركش، وأعطاه ثلاثة أرؤس أخر وهي التي قدّمها أبوه للسلطان وأذن له أن يمشى في الخدمة ووعده بإمرة «2» هائلة وأرسله إلى أبيه قطلقتمر المذكور فسر به سرورا زائدا وكان قطلقتمر في مدّة حبس ابنه لم يحدّث السلطان ولا الأمراء فى أمر ابنه بكلمة واحدة، فأتاه الفرج من الله تعالى بغير «3» مأنّة أحد.

(11/236)


وفي هذه الأيام جمع السلطان القضاة واشترى الأمير أيتمش البجاسى وهو يوم ذاك رأس نوبة الأمراء وأطابك وأكبر جميع أمراء ديار مصر من ذرّيّة الأمير جرجى الإدريسىّ نائب حلب بحكم أنّ جرجى لمّا مات لم يكن أيتمش ممّن أعتقه، فأخذه بعد موته الأمير بجاس وأعتقه من غير أن يملكه بطريق شرعى وأثبتوا ذلك على القضاة، فعند ذلك اشتراه الملك الظاهر من ذرّيّة جرجى بمائة ألف درهم وأعتقه وأنعم عليه بأربعة «1» آلاف درهم وبناحية سفط «2» رشيد. ثم خلع السلطان على القضاة والموقّعين الذين سجّلوا «3» قضيّة البيع والعتق.
وفي يوم الثلاثاء تاسع ذى القعدة أفرج السلطان عن الخليفة المتوكّل على الله، ونقل من سجنه بالبرج إلى دار بالقلعة وأحضر إليه عياله.
ثمّ في يوم السبت ثالث صفر من سنة ست وثمانين وسبعمائة قبض السلطان على الأمير يلبغا الصغير الخازندار، وعلى سبعة من المماليك وشى بهم أنهم قصدوا قتل السلطان فضربهم ونفاهم إلى الشام.
وفي يوم الاثنين عاشر شهر ربيع الأوّل قدم الأمير بيدمر الخوارزمىّ نائب الشام؛ فأجلسه السلطان فوق الأمير سودون النائب بدار العدل. ثم في ثالث عشره خلع عليه السلطان، وقيّد له ثمانية جنائب من الخيل بقماش ذهب، جرّوها الأوجاقيّة خلفه.

(11/237)


وفي يوم الثلاثاء ثامن عشره نزل السلطان لعيادة الأمير ألطنبغا الجوبانى أمير مجلس وقد توعّك.
وفيه قدّم الأمير بيدمر نائب الشام تقدّمته للسلطان وكانت تشتمل على عشرين مملوكا وثلاثة وثلاثين جملا عليها أنواع الثّياب من الحرير والصوف والفرو وثلاثة «1» وعشرين كلبا سلوقيّا، وثمانية عشر فرسا عليها أجلال حرير، وخمسين فحلا، واثنتين وثلاثين حجرة ومائة إكديش لتتمة مائتى «2» فرس وثمانية قطر هجن بقماش ذهب وخمسة وعشرين قطارا من الهجن أيضا بكيران ساذجة «3» ، وأربعة قطر جمال بخاتىّ لكل جمل منها سنامان وثمانين جملا عرابا. وباسم ولد السلطان سيّدى محمد عشرين فرسا وخمسة عشرة جملا وثيابا وغيرها. وفي عشرينه خلع عليه السلطان خلعة السفر وتوجّه إلى محلّ ولايته بدمشق.
وفي خامس عشرينه نزل السلطان لعيادة ألطنبغا الجوبانىّ ثانيا ففرش له الجوبانىّ شقاق الحرير السّكندرىّ وشقاق نخّ من باب إسطبله إلى حيث هو مضطجع، فمشى عليها السلطان بفرسة، ثم بقدميه «4» فنثرت عليه الدنانير والدراهم.
وقدّم له الجوبانىّ جميع ما عنده من المماليك والخيل، فلم يأخذ السلطان شيئا منها، وجلس ساعة عنده ثم عاد إلى القلعة.
وفي ثالث عشر جمادى الأولى غضب السلطان على القاضى تقىّ الدين عبد الرحمن ابن القاضى محب الدين محمد [بن يوسف بن أحمد «5» ] ناظر الجيوش المنصورة بسبب إقطاع الأمير زامل أمير عرب آل فضل وضربه بالدواة، ثم امر به فضرب بين

(11/238)


يديه نحو ثلثمائة عصاة وكان ترفا، فحمل في محفّة إلى داره بالقاهرة، فلزم الفراش إلى أن مات بعد ثلاثة أيام في ليلة الخميس سادس عشر جمادى الأولى. وأخلع السلطان على موفّق الدّين أبى الفرج [الأسلمى «1» ] ناظر الخاصّ واستقرّ به في نظر الجيش مضافا لنظر الخاصّ والذّخيرة ولاستيفاء الصحبة.
وفي أثناء شهر رجب المذكور استبدل السلطان خان «2» الزّكاة من ذرّية الملك الناصر محمد بن قلاوون بقطعة أرض وأمر بهدمه وعمارة مدرسة مكانه، وأقام السلطان على عمارتها الأمير جاركس الخليلىّ أمير آخور، فابتدأ بهدمه وشرع فى عمارة المدرسة المعروفة بالبرقوقيّة «3» بين القصرين، فلمّا كان يوم الاثنين ثانى شعبان مات تحت الهدم جماعة من الفعلة. وفي خامسه ركب السلطان إلى رؤية عمارته المذكورة وعاد إلى القلعة، ثم سار إلى سرحة سرياقوس على العادة بحريمه وخواصّه في ندمائه وسائر الأمراء والأعيان ثم عاد بعد أيام.
ثمّ نزل في يوم الثلاثاء سادس عشر شهر رمضان لعيادة الشيخ أكمل الدّين الشيخ بالشّيخونيّة. ثمّ نزل في يوم الخميس ثامن عشرة ليصلّى عليه فظهر أنه أعمى عليه ولم يمت، فعاد السلطان ونزل في يوم تاسع عشره حتى صلّى عليه بمصلّاة «4» المؤمنىّ من تحت القلعة ومشى على قدميه أمام النّعش من المصلّى إلى خانقاه شيخون مع الناس في الجنازة بعد ما أراد أن يحمل النعش غير مرّة فتحمله الأمراء عنه وما زال واقفا على قبره حتى دفن وعاد إلى القلعة، كلّ ذلك لاعتقاده في دينه وغزير علمه ولقدم صحبته معه. ومن يوم مات الشيخ أكمل الدين صار الشيخ سراج الدين عمر البلقينى يجلس مكانه عن يمين السلطان.

(11/239)


ثم خلع السلطان على الشيخ عزّ الدين يوسف بن محمود الرّازىّ العجمىّ باستقراره في مشيخة خانقاه شيخون عوضا عن الشيخ أكمل الدين المذكور.
ثم في حادى عشر شوّال قدم الأمير يلبغا الناصرىّ نائب حلب إلى القاهرة وعدّى إلى السلطان ببرّ الجيزة، وعاد معه من برّ الجيزة، بعد ما غاب [عن «1» ] صحبة السلطان أياما في يوم الخميس أوّل ذى القعدة. وفي خامسه خلع عليه خلعة السّفر وتوجّه إلى محلّ كفالته بحلب، وهذا قدوم يلبغا الناصرىّ ثانى مرّة، بعد سلطنة الملك الظاهر برقوق.
وفي يوم الخميس ثانى ذى القعدة أسّست المدرسة الظاهريّة «2» ببين القصرين موضع خان الزكاة.

(11/240)


وفي يوم الاثنين رابع ذى الحجّة خلع السلطان على القاضى بدر الدين محمد بن فضل الله باستقراره في وظيفة كتابة السّرّ على عادته بعد وفاة القاضى أوحد الدين.
وفي ثامن عشرين ذى الحجّة استجدّ السلطان لقرافة «1» مصر واليا أمير عشرة وهو سليمان الكردىّ وأخرجت «2» عن والى مدينة مصر ولم يعهد هذا فيما مضى.
وفيه نقل الأمير كمشبغا الحموىّ اليلبغاوىّ من نيابة صفد إلى نيابة طرابلس عوضا عن مأمور القلمطاوىّ وهذه ولاية كمشبغا لنيابة طرابلس ثانى مرّة.
وفي يوم الاثنين ثانى محرّم سنة سبع وثمانين وسبعمائة استقرّ الأمير سودون المظفرىّ حاجب حجاب حلب في نيابة حماة بعد عزل الأمير صنجك وتوجّه إلى طرابلس أميرا بها.
وفي يوم الجمعة ثالث شهر رجب توجّه «3» الأمير حسن قجا على البريد لإحضار يلبغا الناصرىّ نائب حلب.
وفي عشرينه خرج من القاهرة الأمير كمشبغا الخاصّكىّ الأشرفىّ على البريد لنقل سودون المظفّرى في نيابة حماة إلى نيابة حلب؛ عوضا عن الأمير يلبغا الناصرىّ.
وأما الناصرىّ فإنّه لما وصل إلى مدينة بلبيس قبض عليه وقيّد وحمل إلى الإسكندريّة واحتاط محمود شادّ الدواوين على أمواله بحلب ومن يومئذ أخذ أمر الملك الظاهر في إدبار بقبضه على الأمير يلبغا الناصرىّ بغير ذنب.

(11/241)


ثمّ في يوم الاثنين ثانى عشرين ذى الحجّة قبض السلطان على الأمير ألطنبغا الجوبانى أمير مجلس وقيّده وحبسه ثم أفرج عنه بعد أيام وخلع عليه بنيابة الكرك عوضا عن تمرداش القشتمرىّ.
ثم في محرّم سنة ثمان وثمانين وسبعمائة قبض الملك الظاهر على جماعة من المماليك السلطانية وضربهم بالمقارع لكلام بلغه عنهم أنهم اتّفقوا على الفتك به، ثمّ قبض سريعا على الأمير تمربغا الحاجب، وكان اتّفق مع هؤلاء المذكورين وسمّره ومعه عشرة من المماليك المذكورين، [أركب «1» ] كلّ مملوكين على جمل، ظهر أحدهما إلى ظهر الآخر وأفرد تمربغا المذكور على جمل وحده ثم وسّطوا الجميع، فكان هذا اليوم من أشنع الأيام، وكثر الكلام بسببهم في حقّ الملك الظاهر إلى الغابة.
وفي خامس «2» عشرينه قبض السلطان على ستة عشر من مماليك الأمير الكبير أيتمش ونفوا إلى الشام. ثمّ تتبّع السلطان من بقى من المماليك الأشرفية فقبض على كثير منهم وأخرجوا من القاهرة إلى عدّة جهات.
وفي يوم الخميس «3» ثانى عشر شهر ربيع الأوّل رسم السلطان بالإفراج عن الأمير يلبغا الناصرىّ نائب حلب كان ونقله من سجن الإسكندريّة إلى ثغر دمياط وأذن له أن يركب ويتنزّه حيث شاء.

(11/242)


وفي شهر ربيع الآخر غضب السلطان على موفّق الدين أبى الفرج ناظر الجيش وضربه نحو مائة وأربعين عصاة «1» وأمر بحبسه.
وفي يوم الخميس رابع عشر جمادى الآخرة نقلت رمم أولاد السلطان الخمسة من مدافنهم إلى القبّة بالمدرسة الظاهريّة التي أنشأها الملك الظاهر بين القصرين ونقلت أيضا رمّة والد الملك الظاهر الأمير آنص عشاء والأمراء مشاة أمام نعشه، حتى دفن أيضا بالقبّة المذكورة.
ثمّ في يوم الأربعاء حادى عشرة نزل الأمير جاركس الخليلىّ الأمير آخور إلى المدرسة الظاهريّة المقدّم ذكرها بعد فراغها وهيّا بها الأطعمة والحلاوات والفواكه.
ثمّ ركب السلطان من الغد في يوم الخميس ونزل من القلعة بأمرائه وخاصّكيّته إلى المدرسة المذكورة، وقد اجتمع القضاة وأعيان الدولة، فمدّ بين يديه سماطا جليلا، أوّله عند المحراب وآخره عند البحرة التي بوسط المدرسة، وأكل السلطان والقضاة والأمراء والمماليك، ثمّ تناهبت الناس بقيّته، ثم مدّ سماط الحلوات والفواكه وملئت البحرة التي بصحن المدرسة من مشروب السّكّر، ثم بعد رفع السماط أخلع السلطان على الشيخ علاء الدين [علىّ «2» ] السّيرامىّ الحنفىّ وقد استدعاه السلطان من بلاد الشرق واستقرّ مدرّس الحنفيّة وشيخ الصوفيّة وفرش له الأمير جاركس الخليلىّ السّجّادة بيده حتّى جلس عليها. ثم خلع السلطان على الأمير جاركس الخليلىّ شاد عمارة المدرسة المذكورة وعلى المعلّم شهاب الدين أحمد بن الطّولونىّ المهندس وركبا فرسين بقماش ذهب. ثم خلع السلطان على خمسة عشر نفرا من مماليك

(11/243)


جاركس الخليلىّ ممن باشروا العمل مع أستاذهم وأنعم على كلّ منهم بخمسمائة درهم.
ثم خلع السلطان على مباشرى العمارة.
ولمّا جلس الشيخ علاء «1» الدين السّيرامىّ على السّجّادة تكلّم على قوله تعالى:
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ
الآية. ثم قرأ القارىّ عشرا من القرآن ودعا. وقام السلطان وركب بأمرائه وخاصّكيّته وعاد إلى القلعة، بعد أن خرج من باب زويلة، فكان هذا اليوم من الأيام المشهودة.
ثمّ بدا للسلطان بعد ذلك أن يقبض على الأمير بيدمر الخوارزمىّ نائب الشام، فأرسل طاووسا «2» البريدىّ للقبض عليه ورسم للأمير تمربغا المنجكى أن يتوجّه على البريد لتقليد الأمير إشقتمر الماردينىّ عوضه بنيابة الشام وكان إشقتمر بالقدس بطّالا، وقد تقدم أنّ إشقتمر هذا ولى نيابة حلب في أيّام السلطان حسن الأولى ويلبغا أستاذ برقوق يوم ذاك خاصّكىّ، فانظر إلى تقلّبات الدهر.
وفي يوم الجمعة عاشر شهر رمضان من سنة ثمان وثمانين وسبعمائة أقيمت الجمعة بالمدرسة الظاهريّة المذكورة وخطب بها جمال الدين محمود القيصرى العجمىّ المحتسب.
وحجّ في هذه السنة الأمير جاركس الخليلىّ بتجمّل كبير وحجّ من الأمراء كمشبغا الخاصّكىّ الأشرفىّ ومحمد بن تنكز [بن «3» ] بغا وجاركس المحمودىّ «4» .

(11/244)


وفي يوم الاثنين [خامس «1» ] عشرين شوّال استدعى السلطان زكريّا ابن الخليفة المعتصم بالله أبى إسحاق إبراهيم- وإبراهيم المذكور لم يل الخلافة- ابن المستمسك بالله أبى عبد الله محمد- وكذلك المستمسك لم يل الخلافة- ابن الخليفة الحاكم بأمر الله أحمد العباسىّ وأعلمه السلطان أنّه يريد أن ينصّبه في الخلافة، بعد وفاة أخيه الواثق بالله عمر.
ثم استدعى السلطان القضاة والأمراء والأعيان، فلمّا اجتمعوا أظهر زكريّاء المذكور عهد عمّه المعتضد له بالخلافة، فخلع السلطان عليه خلعة غير خلعة الخلافة ونزل إلى داره. فلمّا كان يوم الخميس ثامن عشرينه طلع الخليفة زكرياء المذكور إلى القلعة وأحضر أعيان الأمراء والقضاة والشيخ سراج الدين عمر البلقينىّ فبدأ البلقينى بالكلام مع السلطان في مبايعة زكريّاء على الخلافة فبايعه السلطان أوّلا، ثم بايعه من حضر على مراتبهم ونعت بالمستعصم بالله وخلع عليه خلعة الخلافة على العادة ونزل إلى داره وبين يديه القضاة وأعيان الدولة.
ثم طلع زكرياء المذكور في يوم الاثنين ثانى «2» ذى القعدة وخلع عليه السلطان ثانيا بنظر المشهد النفيسىّ على عادة من كان قبله من الخلفاء، ولم تكن هذه العادة قديما، بل حدثت في هذه السنين.
وفي خامس عشرين ذى الحجة قدم مبشّر الحاجّ السّيفىّ بطا الخاصّكىّ وأخبر أنّ الأمير آقبغا الماردينىّ أمير الحاجّ لمّا قدم مكّة خرج الشريف محمد بن أحمد ابن عجلان أمير مكّة لتلقّيه على العادة ونزل وقبّل الأرض ثم قبّل خفّ جمل المحمل.

(11/245)


وعند ما انحنى وثب عليه فداويّان، ضربه أحدهما بخنجر في عنقه وهما يقولان:
غريم السلطان فخرّ ميتا وتمّ نهاره ملقى حتى حمله أهله وواروه وكان كبيش على بعد، فقتل الفداويّة رجلا آخر يظنّوه كبيشا وأقام أمير الحاجّ لابس السلاح سبعة أيام خوفا من الفتنة، فلم يتحرّك أحد، ثم خلع أمير الحاجّ على الشريف غنان باستقراره أمير مكّة عوضا عن محمد المذكور وتسلّمها.
ثمّ في تاسع عشرين ذى الحجة قدمت رسل الحبشة بكتاب ملكهم الحطّى واسمه داود بن سيف أرعد ومعهم هديّة على [أحد «1» و] عشرين جملا، فيها من طرائف بلادهم، من جملتها قدور قد ملئت حمّصا صنع من ذهب إذا رآه الشخص يظنّه حمصا وغير ذلك.
ثم في يوم السبت سابع عشر صفر من سنة تسع وثمانين وسبعمائة قدم الأمير ألطنبغا الجوبانىّ نائب الكرك باستدعاء، فأخلع عليه السلطان باستقراره في نيابة دمشق عوضا عن إشقتمر الماردينىّ وعزل إشقتمر ولم تكمل ولايته على دمشق عشرة أشهر وأقام ألطنبغا الجوبانىّ بالقاهرة ثلاثة أيام وسافر في يوم تاسع عشره بعد ما أنعم عليه الملك الظاهر بمبلغ ثلاثمائة ألف درهم فضّة وفرس بسرج ذهب وكنبوش زركش وأرسل إليه الأمير أيتمش بمائة ألف درهم وعدّة بقج ثياب واستقرّ مسفّره الأمير قرقماس الظاهرىّ وخرج الجوبانىّ من مصر بتجمّل عظيم.
ثم رسم باستقرار الأمير ناصر الدين محمد بن مبارك المهمندار في نيابة حماة عوضا عن الأمير سودون العثمانى، واستقرّ سودون العثمانى على إقطاع محمد بن المهمندار المذكور بحلب.

(11/246)


وفي آخر جمادى الآخرة من السنة وهى سنة تسع وثمانين ورد الخبر على السلطان بأن تيمور لنك صاحب بلاد العجم كبس الأمير قرا محمد صاحب مدينة تبريز «1» وكسره ففرّ منه قرا محمد في نحو مائتى فارس وتوجّه بهم إلى جهة ملطية «2» ونزل هناك ونزل تيمور لنك على آمد «3» فاستدعى السلطان القضاة والفقهاء والأمراء وتحدّث معهم فى أخذ الأوقاف من البلاد بسبب ضعف عسكر مصر فكثر الكلام في ذلك وصمّم الملك الظاهر على إخراج الجميع للجند، ثم رجع عن ذلك ورسم بتجهيز أربعة أمراء من أمراء الألوف بالديار المصريّة وهم: الأمير ألطنبغا المعلّم أمير سلاح والأمير قردم الحسنى رأس نوبة النّوب والأمير يونس النّوروزىّ الدوادار الكبير والأمير سودون باق وسبعة أمراء أخر من أمراء الطبلخانات وعيّن معهم من أجناد الحلقة ثلاثمائة فارس فتجهّز الجميع وخرجوا من القاهرة فى أوّل شهر رجب وساروا إلى حلب ونائبها يوم ذاك سودون المظفّرى وقد وصل إليه الخبر بأن قرا محمدا واقع ابن تيمور لنك وكسره ورجع إلى بلاده.
وبعد خروج العسكر استدعى السلطان في سادس «4» عشرين شعبان من سنة تسع وثمانين المذكورة الشيخ ناصر الدين ابن بنت الميلق «5» وولّاه قضاء الشافعيّة بالديار المصرية بعد عزل القاضى بدر الدين محمد بن أبى البقاء عنها بعد ما تمنّع

(11/247)


ابن الميلق المذكور من قبول القضاء تمنّعا زائدا وصلى ركعتى الاستخارة حتى أذعن، فألبسه السلطان الملك الظاهر تشريف القضاء بيده وأخذ طيلسانه يتبرّك به ونزل وبين يديه عظماء الدولة إلى المدرسة الصالحية «1» ، فداخل أرباب الدولة بولايته خوف ووهم وظنّوا أنه يحمل الناس على محض الحق وأنه يسير على طريق السّلف من القضاة، قال الشيخ تقىّ الدين المقريزىّ- رحمه الله- لما ألفوه من تشدّقه في وعظه وتفخّمه في منطقه وإعلانه في التّنكير على الكافة ووقيعته فى القضاة واشتماله على لبس المتوسّط من الخشن ومعيبه على أهل التّرف.
وكان أوّل ما بدأ به أن عزل قضاة مصر كلهم من العريش «2» إلى أسوان «3» وبعد يومين تكلّم معه الحاجّ مفلح مولى «4» القاضى بدر الدين بن فضل الله كاتب السرّ فى إعادة بعض من عزله من القضاة، فأعاده، فانحلّ ما كان معقودا بالقلوب من مهابته. ثمّ قلع زيّه الذي كان يلبسه ولبس الشاش الكبير الغالى الثمن ونحوه وترفّع فى مقاله وفعاله، حتى كاد يصعد الجوّ وشحّ في العطاء ولاذ به جماعة غير محبّبين إلى الناس فانطلقت ألسنة الكافّة بالوقيعة في عرضه واختلقوا عليه ما ليس فيه.
انتهى كلام المقريزىّ باختصار.
قلت: كل ذلك والملك الظاهر لا يسمع فيه قول قائل، حتى كانت وقعة الناصرىّ ومنطاش مع الملك الظاهر برقوق وحبس الملك الظاهر بالكرك وكان هو قاضيا يومئذ فوقع في حقّ الظاهر وأساء القول فيه، فبلغ الظاهر ذلك قبل

(11/248)


ذهابه إلى الكرك وهو بسجن القلعة فأسرّها في نفسه على ما سنذكره فى محلّه فى سلطنة الملك الظاهر الثانية إن شاء الله تعالى.
ثمّ ورد الخبر على السلطان الظاهر بأن العسكر المجرّد من الديار المصرية عاد إلى حلب وكان توجّه نحو ديار بكر صحبة نوّاب البلاد الشامية وعاد وكان الأمير ألطنبغا الجوبانىّ نائب الشام مقدّم العساكر وخرج بثقل عظيم وزدخاناه هائلة، جدّدها بدمشق حتى إنه رسم لفضلاء دمشق أن ينظموا له ما ينقش على أسنّة الرّماح، فنظم له القاضى فتح الدين محمد بن الشهيد كاتب سرّ دمشق:
[البسيط]
إذا الغبار علا في الجوّ عثيره ... وأظلم الجوّ ما للشمس أنوار
هذا سنانى نجم يستضاء به ... كأنّنى علم في رأسه نار
والسيف إن نام ملء الجفن في غلف ... فإننى بارز للحرب خطّار
إنّ الرماح لأغصان وليس لها ... سوى النجوم على العيدان أزهار
ونظم القاضى صدر الدين علىّ بن الآدمىّ الدمشقىّ الحنفى في المعنى فقال:
[الكامل]
النصر مقرون بضرب أسنة ... لمعانها كو ميض برق يشرق
سبكت لتسبك كلّ خصم مارد ... وتطرّقت لمعاند يتطرّق
زرق «1» تفوق البيض في الهيجاء إذ ... يحمرّ من دمه العدوّ الأزرق
ينسجن يوم الحرب كلّ كتيبة ... تحت الغبار فنصرهنّ محقّق

(11/249)


ونظم الشيخ شمس الدين محمد المزيّن الدّمشقىّ في المعنى وأجاد إلى الغاية:
[الكامل]
أنا أسمر والراية البيضاء لى ... لا للسيوف وسل من الشّجعان
لم يحل لى عيش العداة لأننى ... نوديت يوم الجمع بالمرّان
وإذا تغاتمت «1» الكماة بجحفل ... كلّمتهم فيه بكلّ لسان
فتخالهم غنما تساق إلى الرّدى ... قهرا لمعظم سطوة الجوبانى
ثمّ في شوّال خرج السلطان من القاهرة إلى سرياقوس «2» على العادة في كل سنة، واستدعى به بالأمير يلبغا الناصرىّ من ثغر دمياط «3» ، فوصل إلى سرياقوس فى ثالث عشر «4» شوّال وقبّل الأرض بين يدى السلطان، فأكرمه السلطان وأنعم عليه بمائة فرس ومائة جمل وسلاح كثير [ومال «5» ] وثياب وأشياء غير ذلك، قيمة ذلك كله خمسمائة ألف درهم فضة، وأهدى إليه سائر الأمراء على العادة، كل واحد على قدر حاله.
ثم عاد السلطان من سرياقوس في أوّل ذى القعدة، وخلع على الأمير يلبغا الناصرىّ المذكور في خامس ذى القعدة من سنة تسع وثمانين المذكورة باستقراره فى نيابة حلب على عادته، عوضا عن سودون المظفرىّ بحكم استقرار سودون المظفرىّ أتابك حلب وأمره بالتجهيز، وهذه ولاية الناصرىّ الثالثة على حلب،

(11/250)


فأصلح الأمير يلبغا الناصرىّ أمره وتهيّأ للسفر، وخرج في ثامن ذى القعدة إلى الرّيدانيّة، بعد أن أخلع السلطان عليه خلعة السفر، وسافر من الريدانية في تاسعه بتجمّل عظيم وبرك هائل ومسفّره الأمير جمق ابن الأمير أيتمش البجاسىّ، وبعد خروجه بثلاثة أيام قدم البريد من البلاد الشامية بأنّ تمربغا الأفضلى الأشرفىّ المدعوّ منطاش نائب ملطية خرج عن الطاعة ووافقه القاضى برهان الدين أحمد صاحب سيواس وقرا محمد التّركمانى ونائب البيرة ويلبغا المنجكىّ وعدّة كبيرة من خشداشيّة منطاش من المماليك الأشرفية وأنه انضم عليه جماعة كبيرة من التّركمان، فتشوّش السلطان في الباطن ولم يظهر ذلك، وندم على توليته يلبغا الناصرىّ على نيابة حلب، غير أنه لم يسعه إلا السّكات.
ثم ركب السلطان الملك الظاهر في ثانى يوم جاء الخبر بعصيان منطاش وعدّى البحر إلى برّ الجيزة وتصيّد وعاد في سادس عشرينه، وبعد عوده بأيام وصل قاصد الأمير تمربغا الأفضلى الأشرفىّ المدعوّ منطاش نائب ملطية يخبر أنه ما نافق وأنه باق على طاعة السلطان، فأخذ السلطان في أخبار القاصد وأعطى، وبينما هو في ذلك قدم البريد من حلب في إثره يخبر السلطان بأنّ منطلق المذكور عاص، وأنه ما أرسل يقول: إنه باق على الطاعة إلّا يدفع عن نفسه حتى يخرج فصل الشتاء ويدخل فصل الربيع وتذوب الثلوج، فسيّر السلطان السيفىّ ملكتمر الدوادار بعشرة آلاف دينار إلى الأمراء المجرّدين قبل تاريخه توسعة لهم، وأمره في الباطن بالفحص عن أخبار منطاش وحقيقة أمره، وبعد خروج ملكتمر فشا الطاعون بالقاهرة ونواحيها في شهر ربيع الأوّل من سنة تسعين وسبعمائة، واشتغل الناس بمرضاهم وأمواتهم عن غيره.

(11/251)


ثمّ أخلع السلطان على الأمير أيدكار «1» العمرىّ اليلبغاوىّ الحاجب الثانى وأحد مقدّمى الألوف، باستقراره حاجب الحجاب بالديار المصرية، عوضا عن قطلوبغا الكوكائىّ بعد شغورها عنه أربع سنين، وأضيف إليه نظر خانقاة شيخون، واستقرّ الأمير زين الدين أبو بكر بن سنقر عوضه حاجبا ثانيا حاجب ميسرة بتقدمة ألف.
ثم في حادى عشرين جمادى الأولى من السنة قدم صراى تمر دوادار الأمير يونس النّوروزىّ الدوادار، ومملوك نائب حلب الأمير يلبغا الناصرىّ يخبران بأنّ العسكر توجّه إلى سيواس وقاتلوا عسكرها، وقد استنجد أهل سيواس»
بالتتر، فأتاهم من التتر نحو الستين ألفا فحاربهم العسكر المصرىّ والحلبىّ يوما كاملا حتى هزموهم وحصروا سيواس بعد ما قتل كثير من الفريقين وجرح معظمهم، وأنّ الأقوات عندهم عزيزة، فجهّز السلطان للعسكر المذكور خمسين ألف دينار مصرية وشكرهم وسار بالذهب ملكتمر الدوادار ثانيا بعد قدومه مصر بأيام قليلة.
وكان خروج ملكتمر في هذه المرّة الثانية بالذهب في سابع عشرين جمادى الآخرة «3» ، هذا ما أخبره صراى تمر دوادار ثانى يونس الدّوادار.
وأمّا ما وقع من بعده هناك فإنّ العسكر تحرّك إلى الرحيل عن سيواس لطول مكثهم، وعند ما ساروا هجم عليهم التتر من خلفهم، فاحترز الأمير يلبغا الناصرىّ نائب حلب إلى جهة حتى صار خلفهم، ثم طرقهم بمن معه ووضع السيف فيهم،

(11/252)


فقتل منهم خلائق كثيرة وأسر منهم نحو الألف وأخذ منهم نحو عشرة آلاف فرس وعاد العسكر سالما إلى حلب؛ فقدم هذا الخبر الثانى أيضا على يد بعض مماليك الأمير يونس الدوادار، فسرّ السلطان بذلك ودقّت البشائر بالديار المصرية، ورسم السلطان بعود العسكر المصرىّ إلى نحو الديار المصرية، فعادوا إليها في ثالث شعبان من سنة تسعين وسبعمائة، فكانت غيبتهم عن القاهرة سنة وعدّة أيام. ولمّا وصلوا وطلعوا إلى القلعة أخلع عليهم السلطان الخلع الهائلة وشكرهم ونزلوا إلى دورهم، وكثرت التهانئ لمجيئهم.
ثمّ في خامس عشر شعبان المذكور طلب السلطان الأمير الطواشى بهادر مقدّم المماليك السلطانية، فلم يجده بالقلعة ثم أحضر سكرانا من بيت على بحر النيل، فغضب السلطان عليه ونفاه إلى صفد على إمرة عشرة بها، وأخلع على الطواشى شمس الدين صواب السّعدىّ المعروف بشنكل الأسود بتقدمة المماليك السلطانية عوضا عن بهادر المذكور، واستقرّ الطواشى سعد الدين بشير الشّرفىّ فى نيابة المقدّم عوضا عن شنكل المذكور.
وحجّ في هذه السنة أيضا الأمير جاركس الخليلىّ الأمير آخور الكبير أمير حاجّ الأوّل. وكان أمير حاجّ المحمل الأمير آقبغا الماردينىّ وخرج الحجّ من مصر في عاشر شوّال، وفي أثناء ذلك قدم الخبر بعصيان الأمير ألطنبغا الجوبانىّ نائب الشام وأنه ضرب الأمير طرنطاى حاجب حجّاب دمشق واستكثر من استخدام المماليك وشاع ذلك بالقاهرة وكثرت القالة بين الناس بهذا الخبر، فلمّا بلغ الأمير ألطنبغا الجوبانىّ ذلك أرسل استأذن السلطان في الحضور إلى الديار المصرية، فأذن له السلطان فى ذلك وفي ظنّ كلّ أحد أنه لم يحضر، فعندما جاءه الإذن ركب البريد من دمشق

(11/253)


فى خواصه وسار حتى نزل سرياقوس خارج القاهرة في ليلة الخميس سابع عشرين شوّال من سنة تسعين المذكورة، وبلغ السلطان ذلك فأرسل إليه الأمير فارسا الصّرغتمشىّ أمير جاندار، فقبض عليه من سرياقوس وقيّده وسيّره إلى سجن الإسكندرية صحبة الأمير ألجيبغا الجمالىّ الدوادار.
ثمّ رسم السلطان بأنّ طرنطاى حاجب حجاب دمشق يستقرّ في نيابة دمشق عوضا عن الأمير ألطنبغا الجوبانىّ المذكور، وحمل إليه التشريف والتقليد الأمير سودون الطّرنطائىّ، فعظم مسك الأمير ألطنبغا الجوبانىّ على الناس كونه ظهر للسلطان براءته ممّا نقله عنه أعداؤه وكونه من أكابر اليلبغاويّة، ولم يسعهم إلا السكات لفوات الأمر.
ثم كتب السلطان كتابا لأمراء طرابلس وأرسله على يد بعض خواصّه بالقبض على الأمير كمشبغا الحموىّ اليلبغاوىّ نائب طرابلس، فقدم سيفه في عاشر ذى القعدة فتأكّد تشويش الناس بمسك كمشبغا أيضا، فإنه أكبر مماليك يلبغا العمرىّ.
وممّن صار في أيام أستاذه يلبغا أمير طلبخاناه، وتوجّه الأمير شيخ الصّفوىّ بتقليد الأمير أسندمر المحمّدىّ حاجب حجّاب طرابلس بنياية طرابلس عوضا عن كمشبغا الحموىّ المقدّم ذكره.
ثم نفى السلطان الملك الظاهر الأمير كمشبغا الخاصّكىّ الأشرفىّ، أحد أمراء الطبلخانات ورأس نوبة إلى طرابلس، فسار من دمياط «1» ، لأنّه كان في اليزك بالثّغر المذكور.

(11/254)


ثمّ قدم البريد بعشرين سيفا من سيوف الأمراء الذين قبض عليهم من أمراء البلاد الشامية، ثم كتب السلطان بالقبض على الأمراء البطّالين ببلاد الشام جميعا، ثم أعيد سودون العثمانىّ إلى نيابة حماة بحكم خروج كشلى منها إلى نيابة ملطية، عوضا عن منطاش، وكان كشلى ولى نيابة حماة قبل تاريخه بمدّة يسيرة عوضا عن ابن المهمندار.
ثم في ثانى ذى القعدة قدمت رسل قرا محمد وأخبروا أنه أخذ مدينة تبريز، وضرب بها السّكّة باسم السلطان الملك الظاهر برقوق، ودعا له على منابرها وسيّر دنانير ودراهم، عليها اسم السلطان، وسأل أن يكون نائبا بها عن السلطان فأجيب بالشكر والثناء، هذا والخواطر قد نفرت من الملك الظاهر لكثرة قبضه على الأمراء من غير موجب، وتخوّف كلّ أحد منه، على نفسه حتى خواصّه وكثر تخيّل الأمراء منه، وبينما هم في ذلك أشيع بالديار المصريّة بعصيان الأمير يلبغا الناصرىّ نائب حلب، وكثر هذا الخبر في محرّم سنة إحدى وتسعين وسبعمائة. وسبب ذلك أنه وقع بين الأمير يلبغا الناصرىّ وبين سودون المظفّرىّ أتابك حلب المعزول عن نيابة حلب قبل تاريخه، وكاتب كلّ منهما في الآخر، فاحتار السلطان بينهما وقد قوى تخوّفه من الناصرىّ.
قال المقريزىّ- رحمه الله-. وكان أجرى الله سبحانه وتعالى على ألسنة العامّة: من غلب، صاحب حلب، حتى لا يكاد صغير ولا كبير إلا يقول ذلك، حتى كان من أمر الناصرىّ نائب حلب ما كان. انتهى كلام المقريزى.

(11/255)


ولمّا شاع ذلك جمع السلطان الأمراء والخاصّكيّة في يوم الأحد خامس صفر بالميدان من تحت القلعة وشرب معهم القمزّ، وقرّر لشربه معهم يومى الأحد والأربعاء، يروم بذلك أخذ خواطرهم.
ثمّ في عاشره بعث السلطان هديّة للأمير يلبغا الناصرىّ نائب حلب فيها عدّة خيول بقماش ذهب [وقباء «1» ] واستدعاه ليحضر ليعمل معه مشورة في أمر منطاش، فلمّا أتاه رسول السلطان بالحضور إلى الديار المصرية، خشى أن يفعل به كما فعل بالأمير ألطنبغا الجوبانىّ نائب الشام من مسكه وحبسه بالإسكندرية، فكتب يعتذر عن الحضور إلى حضرة السلطان بحركة التّركمان وعصيان منطاش، وأنه يتحوّف على البلاد الحلبية منهم، ومهما كان للسلطان من حاجة يرسل يعرّفه ليقوم بقضائها، وعاد رسول السلطان إلى مصر بهذا الجواب، فلم يقبل السلطان ذلك منه في الباطن وقبله في الظاهر وقد كثر تخيّله منه، وأخذ في التدبير على الأمير يلبغا الناصرىّ مع خواصّه، حتى اقتضى رأى الجميع على إرسال تلكتمر «2» الدوادار إلى حلب بحيلة دبّروها، فخرج تلكتمر المحمّدىّ الدوادار المذكور وعلى يده مثالان ليلبغا الناصرىّ نائب حلب ولسودون المظفرىّ أتابك حلب المقدّم ذكره أن يصطلحا بحضرة الأمراء والقضاة والأعيان وسير معه خلعتين يلبسانها بعد صلحهما وحمل السلطان في الباطن مع ملكتمر عدّة مطالعات إلى سودون المظفرىّ وغيره من أمراء حلب وأرباب وظائفها بالقبض على الناصرىّ وقتله إن امتنع من الصلح وكان مملوك الناصرىّ قد تأخر بالقاهرة عن السفر لحلب ليفرّق كتبا

(11/256)


من أستاذه على أمراء مصر، يدعوهم فيها إلى موافقته على الخروج على السلطان وأخّر السلطان أيضا جواب الناصرىّ الوارد على يد مملوكه المذكور، عامدا حتى يسبقه تلكتمر الدوادار إلى حلب. وكان مملوك الناصرىّ المذكور يقظا حاذقا، فبلغه ما على يد تلكتمر الدوادار من المطالعات بالقبض على أستاذه يلبغا الناصرىّ وعلم أنه عوّق حتى سافر تلكتمر. ثم أعطى الجواب، فأخذه وخرج من مصر فى يومه وسار مسرعا وجّد في السّوق حتى سبق تلكتمر الدوادار إلى حلب وعرّف أستاذه بخبر تلكتمر كلّه سرّا، فأخذ الناصرىّ في الحذر. ويقال: إنّ تلكتمر الدّوادار كان بينه وبين الشيخ حسن رأس نوبة الناصرىّ مصاهرة، فلما قرب من حلب بعث يخبر الشيخ حسنا المذكور بما أتى فيه، فعلى كل حال احترز الناصرىّ.
وهذا الخبر الثانى يبعد والأوّل أقرب وأقوى عندى من كلّ وجه.
ثمّ لمّا تحقّق الناصرىّ ما جاء فيه تلكتمر احترز على نفسه وتعبّأ، فلما قرب تلكتمر من حلب، خرج الأمير يلبغا الناصرىّ من حلب ولاقاه على العادة مظهرا لطاعة السلطان وقبّل الأرض وأخذ منه مثاله وعاد به إلى دار السعادة «1» بحلب وقد اجتمع الأمراء والقضاة وغيرهم لسماع مرسوم السلطان وتأخّر الأمير سودون المظفّرى أتابك حلب عن الحضور ولم يعجبه ما فعله الملك الظّاهر برقوق من حضوره عند الناصرىّ لمعرفته بقوّة الناصرىّ وكثرة مماليكه، فأرسل له الناصرىّ- غير قاصد- يستعجله للحضور فلم يجد بدّا من الحضور وحضر وهو لابس آلة الحرب من تحت قماشه خوفا على نفسه من الناصرىّ وحواشيه، فعندما دخل سودون المظفّرىّ إلى دهليز دار السّعادة. جسّ قازان اليرقشىّ أمير آخور الناصرىّ كتفه فوجد السلاح،

(11/257)


فقال: يا أمير! الذي يجيء للصلح يدخل دار السعادة وعليه السلاح وآلة الحرب، فسبّه سودون المظفّرىّ فسلّ قازان سيفه وضربه به وأخذت سودون المظفّرى السّيوف من كل جانب من مماليك الناصرىّ الذين كان رتّبهم لهذا الأمر، فقتل سودون المظفرىّ بعد أن جرّدت مماليكه أيضا سيوفهم وقاتلوا مماليك الناصرىّ ساعة هيّنة وقتل من الفريقين أربعة أنفس لا غير وثارت الفتنة.
ففى الحال قبض الناصرىّ على حاجب حجّاب حلب وعلى أولاد المهمندار وكانا مقدّمى ألوف بحلب وعلى عدّة أمراء أخر ممن يخشاهم ويخاف عاقبتهم. ثم ركب الناصرىّ إلى القلعة وتسلّمها واستدعى التركمان والعربان وكتب إلى تمربغا الأفضلىّ الأشرفىّ المعروف بمنطاش يدعوه إلى موافقته، فسرّ منطاش بذلك وقدم عليه بعد أيام ودخل تحت طاعته. وكان الناصرىّ قد أباد منطاش وقاتله، منذ خرج عن طاعته وطاعة السلطان غير مرّة، وصار منطاش من جملة أصحابه وتعاضد الأشرفيّة واليلبغاويّة، واليلبغاوية هم الأكثر، فإنّ الناصرىّ من كبار اليلبغاويّة ومنطاش من كبار الأشرفيّة، هذا مع ما انضم على الناصرىّ من أكابر الأمراء على ما سيأتى ذكره.
وعاد ملكتمر الدّوادار بهذا الخبر في خامس عشر صفر، فكان عليه خبر غير صالح، فكتب السّلطان في الحال إلى الأمير إينال اليوسفىّ أتابك دمشق والمعزول قبل تاريخه عن نيابة حلب بنيابة حلب ثانيا. وجهّز إليه التّشريف والتّقليد فى ثامن عشر صفر المذكور من سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، وكان إينال اليوسفىّ ممن انحرف على السلطان في الباطن من أيام ركوبه عليه، قبل أن يتسلطن وقبض عليه وحبسه سنتين، ثم أطلقه على إمرة بدمشق ثم ولّاه بعض البلاد الشامية وهي نيابة طرابلس، ثم نقله إلى نيابة حلب، فدام بها سنين، ثم عزله عنها بالأمير

(11/258)


يلبغا الناصرىّ وجعله أتابك دمشق، فصار في نفسه حزازة من هذا كله على ما سيأتى ذكره.
ثمّ إن السلطان في ثامن عشر صفر المذكور طلب الأمراء إلى القلعة وكلّهم فى أمر الناصرىّ وعصيانه واستشارهم في أمره، فوقع الاتفاق على خروج تجريدة لقتاله وحلّف الأمراء على طاعته، ثم خرج إلى القصر الأوّل وحلّف أكابر المماليك السلطانيّة.
ثم في تاسع عشره ضربت خيمة كبيرة بالميدان من تحت القلعة وضرب بجانبها عدّة صواوين برسم الأمراء ونزل السلطان إلى الخيمة المذكورة وحلّف بها سائر الأمراء وأعيان المماليك السلطانيّة بل غالبهم. ثم مدّ لهم سماطا جليلا فأكلوا وانفضّوا.
ثم في رابع عشرينه قدم البريد من دمشق بأنّ الأمير قرابغا فرج الله والأمير بزلار العمرىّ الناصرىّ والأمير دمرداش اليوسفىّ والأمير كمشبغا الخاصّكى الأشرفىّ وآقبغا قبجق «1» اجتمع معهم عدّة كثيرة من المماليك المنفيّين بطرابلس ووثبوا «2» على نائبها الأمير أسندمر المحمّدىّ وقبضوا عليه وقتلوا من أمراء طرابلس الأمير صلاح الدين خليل بن سنجر وابنه وقبضوا على جماعة كبيرة من أمراء طرابلس، ثم دخل الجميع فى طاعة الناصرىّ وكاتبوه بذلك وملكوا مدينة طرابلس.
وفي يوم وصول هذا الخبر على السلطان عرض السلطان المماليك السلطانيّة، وعيّن منهم أربعمائة وثلاثين مملوكا من المماليك السلطانيّة للسفر، وعيّن خمسة من أمراء الألوف بديار مصر وهم: الأمير الكبير أيتمش البجاسىّ «3» ، والأمير جاركس

(11/259)


الخليلىّ الأمير آخور الكبير والأمير شهاب الدين أحمد بن يلبغا أمير مجلس والأمير يونس النّوروزىّ الدّوادار الكبير والأمير أيدكار «1» حاجب الحجاب وعيّن من أمراء الطبلخاناه سبعة وهم: فارس الصّرغتمشىّ وبكلمش العلائىّ رأس نوبة وجاركس المحمّدىّ وشاهين الصّرغتمشىّ وآقبغا الصغير السلطانىّ وإينال الجاركسىّ أمير آخور وقديد القلمطاوىّ من أمراء العشرات جماعة كبيرة.
ثمّ أرسل السلطان للأمير أيتمش برسم النفقة مائتى ألف درهم فضة وعشرة آلاف دينار ذهبا مصريا. ثم أرسل إلى كل من أمراء الألوف ممن عيّن للسفر مائة ألف درهم وخمسة آلاف دينار ماخلا أيدكار حاجب الحجاب فإنه حمل إليه مبلغ ستين ألف درهم وألفا وأربعمائة دينار.
ثم في سادس عشرين صفر المذكور قدم الخبر من الشّام بأنّ مماليك الأمير سودون العثمانىّ نائب حماة اتّفقوا على قتله، ففرّ منهم إلى دمشق وأنّ الأمير بيرم العزّىّ حاجب حجاب حماة سلّم حماة إلى الأمير يلبغا الناصرىّ ودخل تحت طاعته، فعظم هذا الخبر أيضا على السلطان حتى كاد يهلك وعرض المماليك ثانيا وعيّن منهم أربعة وسبعين نفرا لتتمّة خمسمائة مملوك.
قلت: ولهذا تعرف هذه الواقعة بوقعة الخمسمائة وبوقعة شقحب «2» وبوقعة الناصرىّ ومنطاش. انتهى.
وفي يوم الجمعة سابع عشرين صفر رسم السلطان للأمير بجاس نائب «3» قلعة الجبل أن يتوجّه إلى الخليفة المتوكل على الله أبى عبد الله محمد بالقلعة وينقله من داره إلى

(11/260)


البرج من القلعة ويضيّق عليه ويمنع الناس من الدخول إليه، ففعل بجاس ذلك، فبات الخليفة ليلته بالبرج ثم أعيد من الغد إلى مكانه بالقلعة، بعد أن كلّم السلطان الأمراء في ذلك.
ثمّ رسم السلطان للطّواشى زين الدين مقبل الزّمام بالتّضييق على الأسياد أولاد «1» السّلاطين بالحوش السّلطانىّ من القلعة ومنع من يتردّد إليهم من الناس والفحص عن أحوالهم، ففعل مقبل ذلك.
ثم في يوم الاثنين ثانى شهر ربيع الأوّل خرج البريد من مصر بتقليد الأمير طغاى تمر القبلائى أحد أمراء دمشق بنيابة طرابلس.
ثم فرّق السلطان في المماليك نفقة ثانية، فكانت الأولى لكل واحد: خمسة آلاف درهم فضّة والثانية ألف درهم، سوى الخيل والجمال والسلاح، فإنه فرّق فى أرباب الجوامك لكل واحد جملين ولكل اثنين من أرباب الأخباز ثلاثة جمال ورتّب لهم [اللحم «2» ] والجرايات والعليق، فرتّب لكل من رءوس النّوب [فى اليوم «3» ] ستة عشرة عليقة ولكلّ من أكابر المماليك عشر علائق ولكل من أرباب الجوامك خمس علائق. ورسم أيضا لكل مملوك من المماليك السلطانية بخمسمائة درهم بدمشق.
ثم في رابع عشر شهر ربيع الأوّل المذكور جلس السلطان بمسجد «4» الرّدينىّ داخل القلعة بالحريم السلطانىّ واستدعى الخليفة المتوكّل على الله من مكانه بالقلعة، فلّما

(11/261)


دخل عليه الخليفة قام الملك الظاهر له وتلقّاه وأخذ في ملاطفته والاعتذار إليه واصطلحا وتحالفا ومضى الخليفة إلى موضعه بالقلعة، فبعث السلطان إليه عشرة آلاف درهم وعدّة بقج، فيها أثواب صوف وقماش سكندرىّ.
ثمّ تواترت الأخبار على السلطان بدخول سائر الأمراء بالبلاد الشامية والمماليك الأشرفيّة واليلبغاويّة في طاعة الناصرىّ وكذلك الأمير سولى بن دلغادر أمير التركمان، ونعير أمير العربان وغيرهما من التركمان والأعراب، دخل الجميع في طاعة الناصرى على محاربة السلطان الملك الظاهر وأنّ الناصرىّ أقام أعلاما «1» خليفتيّة وأخذ جميع القلاع بالبلاد الشامية، واستولى عليها ما خلا قلعة الشام وبعلبكّ والكرك، فقلق السلطان لذلك وكثر الاضطراب بالقاهرة وكثر كلام الناس في هذا الأمر، حتى

(11/262)


تجاوز الحدّ واختلفت الأقاويل، كلّ ذلك وإلى الآن لم تخرج التجريدة من مصر، فلما بلغ السلطان هذه الأخبار رسم بخروج التجريدة، فخرجت الأمراء المذكورون قبل تاريخه في يوم السبت رابع عشر شهر ربيع الاوّل من سنة إحدى وتسعين وسبعمائة إلى الرّيدانية بتجمل زائد واحتفال عظيم بالأطلاب من الخيول المزيّنة بسروج الذهب والكنابيش والسلاح الهائل، لا سيما الأمير أيتمش والأمير أحمد ابن يلبغا فإنهما أمعنا في ذلك وكان للناس مدّة طويلة لم يتجرّد السلطان إلى البلاد الشامية ولا عسكره، سوى سفر الأمراء في السنة الماضية إلى سيواس وكانوا بالنسبة إلى هذه التجريدة كلا شىء وتتابعتهم المماليك شيئا بعد شىء، حتى سافر الجميع من الرّيدانية في يوم الاثنين سادس عشر شهر ربيع الأوّل المذكور.
ثمّ أخذ السلطان بعد خروج العسكر في استجلاب خواطر الناس وأبطل الرّمايات والسّلف على البرسيم والشعير وإبطال قياس القصب والقلقاس والإعفاء على ذلك كله.
ثم في يوم الثلاثاء [أوّل ربيع الآخر «1» ] قدم البريد بأن الأمير كمشبغا المنجكىّ نائب بعلبكّ دخل تحت طاعة يلبغا الناصرىّ وكذلك [فى خامسه قدم البريد بأن «2» ] ثلاثة عشر أميرا من أمراء دمشق خرجوا بمماليكهم من دمشق وساروا إلى حلب ودخلوا في طاعة الناصرى.
وأما العسكر الذي خرج من مصر فإنه لما وصل إلى غزّة أحسّ الأمير جاركس الخليلىّ بمخامرة نائبها الأمير آقبغا الصفوىّ فقبض عليه وبعثه إلى الكرك وأقرّ في نيابة غزّة الأمير حسام الدين بن باكيش.

(11/263)


ثم في عشرين شهر ربيع الآخر قدم على السلطان رسول قرا محمد التركمانى ورسول الملك الظاهر مجد الدين عيسى صاحب ماردين يخبران بقدومهما إلى خابور ويستأذنان في محاربة الناصرى فأجيبا بالشكر والثناء وأذن «1» لهما في ذلك.
وأمّا العسكر فإنه سار من غزّة حتّى دخل دمشق في يوم الاثنين سابع شهر ربيع الآخر المذكور، ودخلوا دمشق بعد أن تلقّاهم نائبها الأمير [حسام الدين «2» ] طرنطاى، ودخلوا دمشق قبل وصول الناصرىّ بعساكره اليها بمدّة، وأقبل المماليك السلطانية على الفساد بدمشق، واشتغلوا باللهو وأبادوا أهل دمشق شرّا، حتى سئمتهم أهل الشام وانطلقت الألسنة بالوقيعة فيهم وفي مرسلهم.
قلت: هو مثل سائر: «الولد الخبيث يكون سببا لوالده في اللّعنة» وكذلك وقع، فإنّ أهل دمشق لمّا نفرت قلوبهم من المماليك الظاهرية، لم يدخلوا بعد ذلك في طاعة الملك الظاهر البتّة على ما سيأتى ذكره.
وبينما هم في ذلك جاءهم الخبر بنزول يلبغا الناصرىّ بعساكره على خان لاجين «3» خارج دمشق في يوم السبت تاسع عشر شهر ربيع الآخر، فعند ذلك تهيّأ الأمراء المصريّون والشاميون إلى قتالهم وخرجوا من دمشق في يوم الاثنين حادى عشرينه إلى برزة «4» والتقوا بالناصرىّ على خان لاجين، وتصاففوا ثم اقتتلوا قتالا شديدا ثبت فيه كلّ من الفريقين ثباتا لم يسمع بمثله، ثمّ تكاثر العسكر المصرىّ وصدقوا الحملة على الناصرىّ ومن معه فهزموهم وغيّروه عن موقفه.

(11/264)


ثمّ تراجع عسكر الناصرىّ وحمل بهم، والتقى العسكر السّلطانى ثانيا واصطدما صدمة هائلة ثبت فيها أيضا الطائفتان وتقاتلا قتالا شديدا، قتل فيها جماعة من الطائفتين، حتى انكسر الناصرىّ ثانيا. ثم تراجع عسكره وعاد إليهم والتقاهم ثالث مرّة، فعندما تنازلوا في المرّة الثالثة «1» والتحم القتال، أقلب الأمير أحمد بن يلبغا أمير مجلس رمحه ولحق بعساكر الناصرىّ بمن معه من مماليكه وحواشيه، ثم تبعه الأمير أيّدكار العمرىّ حاجب الحجاب أيضا بطلبه ومماليكه، ثم الأمير فارس الصّرغتمشىّ ثم الأمير شاهين [حسين «2» ] أمير آخور بمن معهم وعادوا قاتلوا العسكر المصرىّ، فعند ذلك ضعف أمر العساكر المصريّة وتقهقروا وانهزموا أقبح هزيمة، فلما ولّوا الادبار في أوائل الهزيمة هجم مملوك من عسكر الناصرىّ يقال له يلبغا الزينىّ الأعور وضرب الأمير جاركس الخليل الأمير آخور بالسيف قتله وأخذ سلبه وترك رمّته عارية، إلى أن كفّنته امرأة بعد أيام ودفنته.
ثم مدّت التركمان والعرب أيديهم ينهبون من انهزم من العسكر المصرىّ ويقتلون ويأسرون من ظفروا به وساق الأمير الكبير أيتمش البجاسىّ حتى لحق بدمشق وتحصّن بقلعتها وتمزّق العسكر المصرىّ وذهب كأنه لم يكن ودخل الناصرىّ من يومه إلى دمشق بعساكره ونزل بالقصر من الميدان وتسلّم بالقلعة بغير قتال وأوقع الحوطة على سائر [ما «3» ] للعسكر وأنزل بالأمير الكبير أيتمش وقيّده هو والأمير طرنطاى نائب الشام وسجنهما بقلعة دمشق وتتبّع بقيّة الأمراء والمماليك حتى قبض من يومه أيضا على الأمير بكلمش العلائى في عدّة من أعيان المماليك

(11/265)


الظاهريّة، فاعتقلهم أيضا بقلعة دمشق. ثم مدّت التركمان والأجناد أيديهم في النهب، فما عفّوا ولا كفّوا وتمادوا على هذا عدّة أيام.
وقدم هذا الخبر على الملك الظاهر من غزة في يوم سابع عشرين شهر ربيع الآخر المذكور فاضطربت الناس اضطرابا عظيما لا سيما لمّا بلغهم قتل الأمير جاركس الخليلىّ والقبض على الأمير الكبير أيتمش البجاسىّ وغلّقت الأسواق وانتهبت الأخباز وتشغّبت الزّعر وطغى أهل الفساد، هذا مع ما للناس فيه من الشغل بدفن موتاهم وعظم الطاعون بمصر، كلّ ذلك وإلى الآن لم يعرف السلطان بقتل الأمير يونس النّوروزىّ الدوادار على ما سيأتى ذكره.
وأما السلطان الملك الظاهر برقوق فإنه لمّا بلغه ما وقع لعسكره وجم وتحيّر فى أمره وعظم عليه قتل جاركس الخليلىّ والقبض على أيتمش أكثر من انهزام عسكره، فإنهما ويونس الدوادار كانوا هم القائمين بتدبير ملكه، وأخذ يفحص عن أخبار يونس الدوادار المذكور، فلم يقف له على خبر، لسرعة مجىء خبر الوقعة له من مدينة غزّة وإلى الآن لم يأته أحد ممن باشر الواقعة غير أنه صحّ عنده ما بلغه.
ثمّ خرج إلى الإيوان بالقلعة واستدعى الأمراء والمماليك وتكلّم معهم السلطان فى أمر الناصرىّ ومنطاش واستشارهم، فوقع الاتفاق على خروج تجريدة ثانية، فانفضّ الموكب وخرج السلطان في ثامن عشر شهر ربيع الآخر إلى الإيوان، وعيّن من المماليك السلطانيّة ممن اختار سفره خمسمائة مملوك، وأنفق فيهم ذهبا حسابا عن ألف درهم فضّة لكل واحد، ليتوجّهوا إلى دمشق صحبة الأمير سودون الطّرنطائىّ، وقام السلطان فكلّمه بعض خواصّه في قلّة من عيّن من المماليك، وأن العسكر الذي كان صحبة أيتمش كان أضعاف ذلك وحصل ما حصل، فعرض العسكر ثانيا وعيّن

(11/266)


خمسمائة أخرى ثم عيّن أربعمائة أخرى لتتمّة ألف وأربعمائة مملوك، وأنفق في الجميع ألف درهم فضة، لكل واحد.
ثمّ أنفق السلطان في المماليك الكتابيّة لكل مملوك مائتى درهم فضّة، فإنه بلغه أنهم في قلق لعدم النفقة عليهم.
هذا، وقد طمع كلّ أحد من المماليك وغيرهم في جانب الملك الظاهر لما وقع لعسكره بدمشق.
ثم عمل السلطان الموكب في يوم الأربعاء أوّل جمادى الأولى، وأنعم على كلّ من قرابغا البوبكرىّ وبجاس النّوروزىّ نائب قلعة الجبل وشيخ الصّفوىّ وقرقماس الطّشتمرىّ بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية، عوضا عمّن قتل أو أمسك بالبلاد الشامية.
ثم أنعم السلطان أيضا في اليوم المذكور على كل من الجيبغا الجمالىّ الخازندار وألطنبغا العثمانىّ رأس نوبة ويونس الإسعردىّ الرمّاح وقنق باى الألجاوىّ اللالا وأسنبغا الأرغونىّ شاوىّ وبغداد الأحمدىّ وأرسلان اللّفّاف وأحمد الأرغونىّ وجرباش الشيخىّ وألطنبغا شادى وأرنبغا «1» المنجكىّ وإبراهيم بن طشتمر العلائىّ الدوادار وقرا كسك السيفىّ بإمرة طبلخاناه.
وأنعم على كل من السيد الشريف بكتمر الحسينىّ «2» والى القاهرة [كان «3» ] وقنق باى الأحمدى بإمرة عشرين. وأنعم على كل من بطا الطّولوتمرىّ الظاهرىّ ويلبغا السودونىّ وسودون اليحياوىّ وتنّبك «4» اليحياوىّ وأرغون شاه البيدمرىّ وآقبغا

(11/267)


الجمالىّ الهذبانىّ وفوزى الشعبانىّ وتغرى بردى البشبغاوىّ والد كاتبه وبكبلاط السعدىّ «1» وأرنبغا «2» العثمانىّ وشكرباى العثمانىّ وأسنبغا السيفىّ بإمرة عشرة، وكلّ هؤلاء مماليك الملك الظاهر برقوق وخاصّكيّته أمرّهم في هذه الحركة وكانوا قبل ذلك من جملة الخاصكيّة، ومنهم من هو إلى الآن لم يحضر من التجريدة.
ثمّ قدم البريد على السلطان من قطيا بأنّ الأمير إينال اليوسفىّ أتابك دمشق المنعم عليه بنيابة حلب بعد عصيان الناصرىّ والأمير إينال أمير آخور والأمير إياس أمير آخور دخلوا إلى غزّة في عسكر كثيف من عساكر الناصرىّ وقد صاروا قبل تاريخه من حزب الناصرىّ واستولوا على مدينة غزة والرّملة وتمزّقت عساكرها، فعظم لهذا الخبر جزع الملك الظاهر وتحيّر في أمره.
ثم في يومه «3» استدعى السلطان القضاة والأمراء والأعيان وبعث الأمير سودون الطّرنطائى والأمير قرقماش الطشتمرىّ إلى الخليفة المتوكّل على الله بمسكنه في قلعة الجبل فأحضراه، فلمّا رآه الملك الظاهر قام له وتلقّاه وأجلسه، وأشار إلى القضاة فحلّفوا كلّا منهما للآخر على الموالاة والمناصحة، وخلع السلطان على الخليفة المتوكل على الله المذكور خلعة الرضا، وقيّد إليه حجرة شهباء من خواصّ خيل السلطان بسرج ذهب وكنبوش مزركش وسلسلة ذهب وأذن له في النزول إلى داره، فركب ونزل من القلعة إلى داره في موكب جليل، وأعيدت إقطاعاته ورواتبه وأخلى له بيت بقلعة الجبل ليسكن فيه.

(11/268)


ثمّ طلع الخليفة من يومه ونقل حرمه إلى البيت المذكور بالقلعة، وصار يركب فى بعض الأحيان وينزل إلى داره بالمدينة ثم يطلع من يومه إلى مسكنه بالقلعة ويبيت فيه مع أهله وحرمه، واستمرّ على ذلك إلى ما سيأتى ذكره.
ثم في يوم الجمعة ثالث جمادى الأولى المذكورة قدم الأمير شهاب الدين أحمد ابن بقر أمير عرب الشرقيّة، ومعه هجّان الأمير جاركس الخليلىّ، فحدّث السلطان بتفصيل واقعة العسكر المصرى مع الناصرى، وأنه فرّمع الأمير يونس الدوادار فى خمسة نفر طالبين الديار المصرية، فعرض لهم الأمير عنقاء بن شطّى أمير آل فضل بالقرب من خربة اللصوص من طريق دمشق، وقبض على الأمير يونس الدّوادار ووبّخه لما كان في نفسه منه، ثم قتله وحزّ رأسه وبعث به إلى الناصرىّ، فعندما بلغ السلطان قتل يونس الدوادار وتحقّقه كادت نفسه تزهق وكان بلغه هذا الخبر، غير أنه لم يتحقّقه إلا في هذا اليوم وبقتل يونس الدوادار استشعر كلّ أحد بذهاب ملك الملك الظاهر.
ثم أصبح السلطان أمر بالمناداة بمصر والقاهرة بإبطال سائر المكوس من سائر ديار مصر وأعمالها، فقام جميع كتّاب المكوس من مجالسهم.
ثم في سادس الشهر «1» ركب الخليفة المتوكّل على الله من القلعة بأمر السلطان الملك الظاهر ونزل إلى القاهرة، ومعه الأمير سودون الفخرىّ الشيخونىّ نائب السلطنة وقضاة القضاة وشيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقينىّ وسائر الحجّاب وداروا في شوارع القاهرة ورجل أمامهم على فرس يقرأ ورقة فيها: إنّ السلطان قد أزال المكوس والمظالم وهو يأمر الناس بتقوى الله وطاعته وإنّا قد سألنا العدق

(11/269)


الباغى في الصلح فأبى وقد قوى أمره فأغلقوا دوركم وأقيموا الدروب «1» على الحارات وقاتلوا عن أنفسكم وحريمكم، فلمّا سمع الناس ذلك تزايد خوفهم وقلقهم ويئس كلّ واحد من الملك الظاهر وأخذ الناس في العمل للتوصّل إلى الناصرىّ، حتى حواشى برقوق لمّا سمعوا هذه المقالة وقد تحقّقوا بسماعها بأنّ الملك الظاهر لم يبق فيه بقيّة يلقى بها الناصرىّ وعساكره وقول الملك الظاهر: وإنا قد سألنا العدوّ فى الصلح فأبى وقوى، فإنه كان لمّا توجه العسكر من مصر لقتال الناصرى أمرهم أن يرسلوا له في طلب الصلح مع الناصرىّ ففعلوا، فلم ينتظم صلح ووقع ما حكيناه من القتال وغيره.
ثمّ إن الناس لمّا سمعوا هذه المناداة شرعوا في عمل الدّروب فجدّد بالقاهرة دروب كثيرة وأخذوا في جمع الأقوات والاستعداد للقتال والحصار وكثر كلام العامّة فيما وقع وهان الملك الظاهر وعساكره في أعين الناس وقلّت الحرمة وتجمّع الزّعر، ينتظرون قيام الفتنة لينهبوا الناس وتخوّف كلّ أحد على ماله وقماشه، كلّ ذلك والناصرى إلى الآن بدمشق.
ثم انقطع أخبار الناصرىّ عن مصر لدخول الأمير حسام الدين بن باكيش نائب غزة في طاعة الناصرىّ.
ثم قدم الخبر بدخول الأمير مأمور القلمطاوى نائب الكرك في طاعة الناصرىّ وأنه سلّم له الكرك بما فيها من الأموال والسلاح، فتيقّن كلّ أحد عند سماع هذا الخبر أيضا بزوال ملك الملك الظاهر. هذا والأمراء والعساكر المعيّنة للسفر فى اهتمام، غير أنّ عزائم السلطان فاترة وقد علاه وله وداخله الخوف من غير أمر

(11/270)


يوجب ذلك. وكان السلطان لمّا عيّن هذه التجريدة الثانية أرسل إلى بلاد الصعيد يطلب نجدة فقدم إلى القاهرة في هذا اليوم طوائف من عرب هوّارة نجدة للسلطان ونزلوا تحت القلعة.
ثمّ أمر السلطان بحفر خندق «1» القلعة وتوعير طريق باب القلعة المعروف بباب القرافة وباب الحرس وباب «2» الدّرفيل.
ثمّ أمر السلطان بسدّ خوخة «3» الأمير أيدغمش خارج بابى زويلة، فسدّت حتى صار لا يدخل منها راكب ثمّ أمر السلطان فنودى بالقاهرة بإبطال مكس النّشا والجلود.

(11/271)


وفي يوم الجمعة عاشر جمادى الأولى من سنة إحدى وتسعين وسبعمائة خطب للخليفة المتوكّل على الله أبى عبد الله محمد، فإنه أعيد إلى الخلافة من يوم خلع عليه السلطان خلعة الرّضا، ثمّ قرئ تقليده في ثانى عشره بالمشهد «1» النّفيسىّ وحضره القضاة ونائب السلطنة. ولمّا انقضى مجلس قراءة التقليد توجّهوا الجميع إلى الآثار النّبوية «2» وقرءوا به صحيح البخارىّ ودعوا الله تعالى للسلطان الملك الظاهر برقوق بالنصر وإخماد الفتنة بين الفريقين.
ثمّ في يوم ثالث عشر أخلع السلطان على الأمير قرا دمرداش الأحمدىّ اليلبغاوى باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية عوضا عن الأمير أيتمش البجاسى بحكم حبسه بقلعة دمشق وعلى الأمير سودون باق باستقراره أمير سلاح، عوضا عن قرا دمرداش المذكور وعلى الأمير قرقماس الطّشتمرىّ باستقراره دوادارا كبيرا عوضا عن يونس النّوروزىّ المقتول بيد عنقاء أمير آل فضل وعلى الأمير تمربغا «3» المنجكىّ أمير آخور كبيرا عوضا عن الأمير جاركس الخليلىّ المقتول في واقعة الناصرىّ

(11/272)


بدمشق وعلى قرابغا البوبكرىّ باستقراره أمير مجلس عوضا عن أحمد بن يلبغا بحكم عصيانه ودخوله في طاعة الناصرىّ وعلى آقبغا الماردينىّ باستقراره حاجب الحجاب عوضا عن أيدكار العمرىّ الداخل أيضا في طاعة الناصرى ونزل الجميع بالخلع والتشاريف.
ثمّ أنعم السلطان على الأمير صلاح الدين محمد [بن محمد «1» ] بن تنكز الناصرىّ نائب الشّام كان بإمرة طبلخاناه وعلى جلبان الكمشبغاوى الخاصكى الظاهرى بإمرة طبلخاناه.
وكثر في هذه الأيام تحصين السلطان لقلعة الجبل فعلم بذلك كلّ أحد أنه لم تخرج تجريدة من مصر ولم يثبت الملك الظاهر لقتال الناصرىّ بما أفرزوا من أحوال السلطان، خذلان من الله تعالى.
ثمّ أخذ السلطان ينقل إلى قلعة الجبل المناجنيق والمكاحل والعدد وأمر السلطان لسكّان قلعة الجبل من الناس بادّخار القوت بها لشهرين.
ثمّ رسم السلطان للمعلم أحمد بن الطّولونى بجمع الحجّارين لسدّ فم وادى «2» السدرة بجوار الجبل الأحمر وأن يبنى حائط من جوار باب الدرفيل إلى الجبل.
ثمّ نودى بالقاهرة بأنّ من له فرس من أجناد الحلقة يركب للحرب ويخرج مع العسكر، فكثر الهرج وتزايد قلق الناس وخوفهم وصارت الشوارع كلها ملآنة بالخيول الملبّسة، هذا وإلى الآن لم يعرف السلطان ما الناصرىّ فيه وطلبت آلات الحرب من الخوذ والقرقلات والسيوف والأرماح بكل ثمن غال.

(11/273)


ثمّ رسم السلطان للأمير حسام الدين حسين [بن «1» على] بن الكورانى والى القاهرة بسدّ باب المحروق «2» أحد أبواب القاهرة فكلّمه الوالى في عدم سدّه، فنهره وأمره بسدّه وسدّ الباب الجديد «3» أيضا أحد أبواب القاهرة، ففعل. ثمّ سدّ باب الدّرفيل المعروف قديما بباب سارية ويعرف في يومنا هذا بباب المدرّج «4» .
ثمّ أمر السلطان بسدّ جميع الخوخ، فسدّ عدّة خوخ وركّب عند قناطر «5» السباع ثلاثة دروب: أحدها من جهة مصر والآخر من جهة قبو «6» الكرانىّ والآخر بالقرب من الميدان ثمّ بنى بالقاهرة عدّة دروب أخر وحفر خنادق كثيرة.

(11/274)


هذا والموت بالطاعون عمّال بالديار المصريّة في كل يوم يموت عدّة كبيرة.
وأما الأمير يلبغا الناصرىّ نائب حلب وصاحبه منطاش نائب ملطية بمن معهما، فإنّ الناصرىّ لمّا استقرّ بدمشق وملكها بعد الوقعة، نادى في جميع بلاد الشام وقلاعها بألا يتأخر أحد عن الحضور إلى دمشق من النوّاب والأمراء والأجناد ومن تأخّر سوى من غبن لحفظ البلاد قطع خبزه وسلبت نعمته، فاجتمع الناس بأسرهم في دمشق من سائر البلاد وأنفق الناصرى فيهم وتجهّز وتهيأ للخروج من دمشق وبرز منها بعساكره وأمرائه من الأمراء والأكراد والتركمان والعربان وكان اجتمع إليه خلائق كثيرة جدّا في يوم السبت حادى عشر جمادى الأولى من سنة إحدى وتسعين وسبعمائة المقدّم ذكرها، بعد أن أقرّ في نيابة دمشق الأمير جنتمر المعروف بأخى طاز وسار الناصرى بمن معه من العساكر يريد الديار المصرية وهو يظنّ أنّه يلقى العساكر المصريّة بالقرب من الشام واستمرّ في سيره على هيّنة إلى أن وصل إلى غزّة، فتلقّاه نائبها حسام الدين بن باكيش بالتّقادم والإقامات، فسأله الناصرى عن أخبار عسكر مصر، فقال: لم يرد خبر بخروج عسكر من مصر وقد أرسلت جماعة كبيرة غير مرة لكشف هذا الخبر ولم يكن منى تهاول في ذلك، فلم يبلغنى عن الديار المصرية إلا أنّ برقوقا في تخوّف كبير وقد استعدّ للحصار فلم يلتفت الناصرى إلى كلامه، غير أنه صار متعجبا على عدم خروج العساكر المصرية لقتاله.
ثم قال في نفسه: لعله يريد قتالنا في فم الرمل بمدينة قطيا «1» ، ليكون عسكره فى راحة من جواز الرّمل وأقام الناصرىّ بغزّة يومه. ثم سار من الغد يريد ديار مصر وأرسل أمامه جماعة كبيرة من أمرائه ومماليكه كشّافة واستمرّ في السّير إلى أن نزل مدينة قطيا وجاء الخبر بنزول الناصرىّ بعساكره على قطيا فلم يتحرّك بحركة.

(11/275)


وفي ليلة وصول الخبر فرّ من أمراء مصر جماعة كبيرة إلى الناصرىّ وهي ليلة الثلاثاء ثامن عشرين جمادى الأولى المذكورة وهم: الأمير طغيتمر الجركتمرى وأرسلان اللّفاف وأرنبغا العثمانىّ في عدّة كبيرة من المماليك ولحقوا بالناصرىّ ودخلوا تحت طاعته، بعد ما صرفوا في طريقهم الأمير عز الدين [أيدمر «1» ] أبا درقة كاشف الوجه البحرى وقد سار من عند الملك الظاهر لكشف الأخبار، فضربوه وأخذوا جميع ما كان معه وساقوه معهم إلى الناصرىّ، فلما وصلوا إلى الناصرى حرّضوه على سرعة الحركة وعرّفوه ما الظاهر فيه من الخوف والجبن عن ملاقاته، فقوى بذلك قلب الناصرى وهو إلى الآن يأخذ في أمر الملك الظاهر ويعطى.
ثم جلس الملك الظاهر صبيحة هرب الأمراء بالإيوان من قلعة الجبل وهو يوم الثلاثاء ثامن عشرينه وأنفق على المماليك جميعها، لكل مملوك من مماليك السلطان ومماليك الأمراء، لكل واحد خمسمائة درهم فضة واستدعاهم طائفة بعد طائفة وأعطى كل واحد بيده وصار يحرّضهم على القتال معه وبكى بكاء شديدا في الملأ.
ثمّ فرّق جميع الخيول حتى خيل الخاصّ في الأمراء والأجناد وأعطى الأمير اقبغا الماردينى حاجب الحجّاب جملة كبيرة من المال ليفرّقه على الزّعر وعظم أمر الزعر وبطل الحكم من القاهرة وصار الأمر فيها لمن غلب وتعطّلت الأسواق وأكثر الناس من شراء البقسماط والدقيق والدهن ونحو ذلك.
ثم وصل الخبر على السلطان بنزول الناصرىّ على الصالحيّة «2» بمن معه وقد وقف لهم عدّة خيول في الرمل وأنّه لما وجد الصالحية خالية من العسكر سجد لله تعالى

(11/276)


شكرا، فإنه كان يخاف أن يتلقّاه عسكر السلطان بها ولو تلقّاه عسكر السلطان لما وجد لعسكره منعة للقتال، لضعف خيولهم وشدّة تعبهم، فلهذا كان حمده لله تعالى.
وأخبر السلطان أيضا أنّ الناصرىّ لمّا نزل إلى الصالحيّة تلقّاه عرب العائد مع كبيرهم الأمير شمس الدين محمد بن عيسى وخدموه بالإقامات والشعير وغيرها فردّ بذلك رمقهم.
فلمّا سمع السلطان ذلك رسم للأتابك الأمير قرادمرداش الأحمدىّ أن يتوجّه لكشف الأخبار «1» من جهة بركة الحبش مخافة أن يأتى أحد من قبل إطفيح «2» ، فسار لذلك. ثم رتّب السلطان العسكر نوبتين: نوبة لحفظ النهار ونوبة لحفظ الليل وسيّر «3» ابن عمه الأمير قجماس في عدّة أمراء إلى المرج «4» والزيات «5» طليعة للكشف.

(11/277)


ثمّ في يوم الأربعاء تاسع عشرين جمادى الأولى المذكور أنفق السلطان فى مماليك أمراء الطبلخانات والعشرات، فأعطى كلّ واحد أربعمائة درهم فضة وأنفق السلطان أيضا في الطّبرداريّة [والبزداريّة «1» ] والأوجاقية وأعطاهم القسىّ والنّشّاب. ثم رتّب من الأجناد البطّالين جماعة بين شرفات القلعة ليرموا على من لعلّه يحاصر القلعة، وأنفق فيهم أيضا. ثم استدعى السلطان رماة قسىّ الرمل من ثغر الإسكندرية فحضر منهم جماعة كبيرة وأنفق فيهم الأموال.
ثم عاد الأمير قجماس بمن معه من المرج والزيّات وأخبر السلطان أنه لم يقف للقوم على خبر.
ثم خرج الأمير سودون الطّرنطائىّ في ليلة الخميس في عدّة من الأمراء والمماليك إلى قبّة النصر للحرس وسارت طائفة أخرى إلى بركة «2» الحبش وبات السلطان بالإسطبل السلطانى ساهرا لم ينم ومعه الأمير سودون الشيخونى النائب والأتابك قرادمرداش الأحمدىّ، بعد أن عاد من بركة الحبش وعدّة كبيرة من المماليك والأمراء.
ثم توجّه الأمير قرابغا الأبوبكرىّ أمير مجلس في يوم الخميس أوّل جمادى الآخرة إلى قبّة النصر، ثم عاد ولم يقف على خبر، كلّ ذلك لضعف خيول عساكر الناصرى وكلّهم من السفر، فلم يجد الناصرىّ لهم منعة، فأقام بهم على الصالحية ليتراجع أمرهم وتعود قواهم، هذا والأمراء بالديار المصريّة لابسون آلة الحرب وهم على ظهور خيولهم بسوق الخيل تحت القلعة.

(11/278)


وفي ليلة الخميس المذكورة هرب من المماليك السلطانية اثنان ومن مماليك الأمراء جماعة «1» كبيرة بعد أخذهم نفقة السلطان وساروا الجميع إلى الناصرىّ.
ثمّ طلب السلطان أجناد الحلقة، فدارت النقباء عليهم فأحضروا منهم جماعة كبيرة فرّقوا على أبواب القاهرة ورتّبوا بها لحفظها.
ثمّ ندب السلطان الأمير ناصر الدين محمدا ابن الدوادارى أحد أمراء الطبلخانات ومعه جماعة لحفظ قياسر القاهرة وأغلق والى القاهرة باب البرقيّة. ثمّ رتّب السلطان النّفطيّة على برج الطبلخاناه السلطانية وغيره بقلعة الجبل.
ثمّ قدم الخبر على السلطان بنزول طليعة الناصرىّ بمدينة بلبيس «2» ومقدّمها الطواشى طقطاى الرومىّ الطّشتمرىّ.
ثم في يوم الجمعة نزلت عساكر الناصرى بالبئر البيضاء»
، فأخذ عند ذلك عسكر السلطان يتسلّل إلى الناصرى شيئا بعد شىء، وكان أوّل من خرج إليه من القاهرة الأمير جبريل الخوارزمىّ ومحمد بن بيدمر نائب الشام وبجمان المحمدى نائب الإسكندرية وغريب الخاصّكىّ والأمير أحمد بن أرغون الأحمدىّ [اللّالا «4» ] .

(11/279)


ثمّ نصب السلطان السناجق السلطانيّة على أبراج القلعة ودقّت الكوسات الحربيّة فاجتمعت العساكر جميعها وعليهم آلة الحرب والسلاح ثم ركب السلطان والخليفة المتوكل على الله معه من قلعة الجبل بعد العصر وسار السلطان بمن معه حتى وقفا خلف دار الضّيافة وقد اجتمع حول السلطان من العامة خلائق لا تحصى كثرة، فوقف هناك ساعة ثم عاد وطلع إلى الإسطبل «1» السلطانى وجلس فيه من غير أن يلقى حربا وصعد الخليفة إلى منزله بقلعة الجبل، وقد نزلت الذّلّة على الدولة الظاهريّة وظهر من خوف «2» السلطان وبكائه ما أبكى الناس شفقة له ورحمة عليه.
فلمّا غربت الشمس صعد السلطان إلى القلعة وبات بالقصر السلطانى ومعه عامّة مماليكه وخاصّكيّته وهم عدّة كبيرة إلى الغاية.
ثمّ في يوم السبت ثالث جمادى الآخرة نزل الناصرى بعساكره بركة «3» الجبّ ظاهر القاهرة، ومعه من أكابر الأمراء الأمير تمربغا الأفضلىّ الأشرفىّ المدعو منطاش والأمير بزلار العمرى الناصرىّ حسن والأمير كمشبغا الحموى اليلبغاوى نائب طرابلس كان والأمير أحمد بن يلبغا العمرى أمير مجلس والأمير أيدكار حاجب الحجاب وجماعة أخر من أمراء الشام ومصر وغيرها.
ثمّ تقدمت عساكر الناصرىّ إلى المرج وإلى مسجد التّبن «4» ، فعند ذلك غلّقت أبواب القاهرة كلّها إلا باب زويلة وأغلقت جميع الدروب والخوخ وسدّ باب القرافة وانتشرت الزّعر في أقطار المدينة تأخذ ما ظفرت به ممّن يستضعفونه.

(11/280)


ثمّ ركب السلطان ثانيا من القلعة ومعه الخليفة المتوكل على الله ونزل إلى دار الضّيافة فقدم عليه الخبر بأنّ طليعة الناصرىّ وصلت الى الخراب طرف الحسينيّة فلقيتهم كشّافة السلطان فكسرتهم.
ثمّ ندب السلطان الأمراء فتوجهوا بالعساكر إلى جهة قبّة النصر ونزل السلطان ببعض الزوايا عند دار الضيافة إلى آخر النهار.
ثمّ عاد إلى الإسطبل السلطانىّ وصحبته الأمراء الذين توجّهوا لقبّة النصر والكوسات تدقّ وهم على أهبة اللّقاء وملقاة العدوّ وخاصّكيّة السلطان حوله والنّفوط لا تفترّ والرّميلة قد امتلأت بالزّعر والعامة ومماليك الأمراء ولم يزالوا على ذلك حتّى أصبحوا يوم الاثنين «1» وإذا بالأمير آقبغا الماردينىّ حاجب الحجاب والأمير جمق ابن أيتمش البجاسى والأمير إبراهيم بن طشتمر العلائى الدوادار قد خرجوا «2» فى الليل ومعهم نحو خمسمائة مملوك من المماليك السلطانية ولحقوا بالناصرىّ.
ثمّ أصبح السلطان من الغد وهو يوم خامس «3» جمادى الآخرة، فرّ الأمير قرقماس الطّشتمرى الدوادار الكبير وقرادمرداش الأحمدىّ أتابك العساكر بالديار المصرية والأمير سودون باق أمير مجلس ولحقوا بالناصرىّ وكانوا في عدّة وافرة من المماليك والخدم والأطلاب الهائلة، ولم يتأخر عند السلطان من أعيان الأمراء إلا ابن عمه الأمير قجماس وسودون الشّيخونى النائب وسودون طرنطاى وتمزبغا المنجكىّ وأبو بكر ابن سنقر وبيبرس التّمان تمرىّ وشيخ الصفوىّ ومقدم المماليك شنكل وطائفة من أمرائه مشترواته وخاصّكيّته والعجب أنّ السلطان كان أنعم في أمسه على الأمراء

(11/281)


الذين توجّهوا للناصرى لكلّ أمير من أمراء الألوف عشرة آلاف دينار ولكل أمير طبلخاناه خمسة آلاف دينار وحلّفهم على طاعته ونصرته وأعطى في ليلة واحدة للأمير الكبير قرادمرداش الأحمدىّ ثلاثين ألف دينار دفعة واحدة وخاتما مثمّنا، قيمته آلاف عديدة، حتى قال له: قرادمرداش المذكور: يا مولانا السلطان روحى فداؤك لا تخف ما دمت أنا واقف في خدمتك أنت آمن، فشكره السلطان، فنزل من عنده في الحال ركب وخرج من باب القرافة وقطع الماء الذي يجرى إلى القلعة وتوجّه مع من ذكرنا من الأمراء إلى الناصرىّ، فلم يلتفت الناصرىّ لهم ذاك الالتفات الكلّىّ، بل فعل معهم كما فعل مع غيرهم ممّن توجّه إليه من أمراء مصر. انتهى.
ولمّا بلغ السلطان نفاق هؤلاء الأمراء عليه بعد أن أنعم عليهم بهذه الأشياء، علم أنّ دولته قد زالت، فأغلق في الحال باب زوبلة وجميع الدروب وتعطّلت الأسواق وامتلأت القاهرة بالزّعر واشتدّ فسادهم وتلاشت الدولة الظاهريّة وانحلّ أمرها وخاف والى القاهرة حسام الدين بن الكورانىّ على نفسه، فقام من خلف باب زويلة وتوجّه إلى بيته واختفى وبقى الناس غوغاء وقطع المسجونون قيودهم بخزانة شمائل «1» وكسروا باب الحبس وخرجوا على حميّة جملة واحدة، فلم يردّهم أحد بشغل كلّ واحد بنفسه وكذلك فعل أهل حبس «2» الدّيلم وأهل سجن

(11/282)


الرّحبة «1» ، هذا والسلطان إلى الآن بقلعة الجبل والنّفوط عمالة والكوسات تدقّ حربيا، ثمّ أمر السلطان مماليكه فنزلوا ومنعوا العامة من التوجّه إلى يلبغا الناصرىّ،

(11/283)


فرجمهم العامّة بالحجارة، فرماهم المماليك بالنّشاب، قتلوا منهم جماعة تزيد عدّتهم على عشر أنفس.
ثمّ أقبلت طليعة الناصرىّ مع عدّة من أعيان الأمراء من أصحابه، فبرز لهم لأمير قجماس ابن عمّ السلطان في جماعة كبيرة وقاتلهم وأكثر الرّمى عليهم من فوق القلعة بالسّهام والنفوط والحجارة بالمقاليع وهم يوالون الكرّ والفرّ غير مرة وثبتت السلطانيّة ثباتا جيّدا غير أنهم في علم بزوال دولتهم.
هذا وأصحاب السلطان تتفرّق عنه شيئا بعد شىء، فمنهم من يتوجّه إلى الناصرىّ ومنهم من يختفى خوفا على نفسه، حتى لم يبق عند السلطان إلّا جماعة يسيرة ممن ذكرنا من الأمراء، فلمّا كان آخر النهار المذكور أراد السلطان أن يسلّم نفسه، فمنعه من بقى عنده من الأمراء وخاصكيّته وقالت مماليكه: نحن نقاتل بين يديك حتى نموت، ثم سلّم بعد ذلك نفسك فلم يثق بذلك منهم، لكنه شكرهم على هذا الكلام والسعد مدبر والدولة زائلة.
ثمّ بعد العصر من اليوم المذكور قدم جماعة من عسكر الناصرىّ عليهم الطواشىّ طقطاى الرّومى الطّشتمرىّ والأمير بزلار العمرى الناصرىّ وكان من الشجعان والأمير ألطنبغا الأشرفىّ في نحو الألف وخمسمائة مقاتل، يريدون القلعة، فبرز لهم الأمير بطا الطّولوتمرى الظاهرىّ الخاصّكى والأمير شكرباى «1» العثمانىّ الظاهرىّ وسودون شقراق والوالد، فى نحو عشرين مملوكا من الخاصكيّة الظاهريّة وبلاقوا مع العسكر المذكور صدموهم صدمة واحدة كسروهم فيها وهزموهم إلى قبّة النصر ولم يقتل منهم غير سودون شقراق، فإنه أمسك وأتى به إلى الناصرىّ فوسّطه فلم يقتل

(11/284)


الناصرى في هذه الوقعة أحدا غيره لا قبله ولا بعده، أعنى صبرا، غير أن جماعة كبيرة قتلوا في المعركة ورد الخبر بنصرتهم على الملك الظاهر، فلم يغترّ بذلك وعلم أن أمره قد زال، فأخذ في تدبير أمره مع خواصّه، فأشار عليه من عنده أن يستأمن من الناصرى، فعند ذلك أرسل الملك الظاهر الأمير أبا بكر بن سنقر الحاجب والأمير بيدمر المنجكىّ «1» شادّ القصر بالمنجاة إلى الأمير يلبغا الناصرىّ أن يأخذا له أمانا على نفسه ويترقّقا له، فسارا من وقتهما إلى قبّة النصر ودخلا على الناصرى وهو بمخيّمه واجتمعا به في خلوة فآمنه على نفسه وأخذ منهما منجاة الملك وقال الملك الظاهر: أخونا وخشداشنا ولكنّه يختفى بمكان إلى أن تخمد الفتنة، فإن الآن كلّ واحد له رأى وكلام، حتى ندبّر له أمرا يكون فيه نجاته، فعادا بهذا الجواب إلى الملك الظاهر برقوق وأقام السلطان بعد ذلك في مكانه مع خواصه إلى أن صلّى عشاء الآخرة وقام الخليفة المتوكل على الله إلى منزله بالقلعة على العادة في كل ليلة وبقى الملك الظاهر في قليل من أصحابه، أذن لسودون النائب في التوجّه إلى حال سبيله والنظر في مصلحة نفسه، فوادعه وقام ونزل من وقته. ثمّ فرّق الملك الظاهر بقية أصحابه، فمضى كلّ واحد إلى حال سبيله.
ثمّ استتر الملك الظاهر وغيّر صفته، حتى نزل من الإسطبل إلى حيث شاء ماشيا على قدميه، فلم يعرف له أحد خبرا وانفصّ ذلك الجمع كله في أسرع ما يكون وسكن فى الحال دقّ الكوسات ورمى مدافع النفط ووقع النهب في حواصل الإسطبل حتى أخذوا سائر ما كان فيه من السّروج واللّجم وغيرها والعبىّ ونهبوا أيضا ما كان بالميدان من الغنم الضأن وكان عدّتها نحو الألفى رأس ونهبت طباق المماليك بالقلعة

(11/285)


وطار الخبر في الوقت إلى الناصرى فلم يتحرك من مكانه ودام بمخيّمه وأرسل جماعة من الأمراء من أصحابه فسار من عسكره عدّة كبيرة واحتاطوا بالقلعة.
واصبح الأمير يلبغا الناصرىّ بمكانه وهو يوم الاثنين خامس جمادى الآخرة من سنة إحدى وتسعين وسبعمائة وندب الأمير منطاش في جماعة كبيرة إلى القلعة، فسار منطاش إلى قلعة الجبل في جموعه وطلع إلى الإسطبل السلطانىّ فنزل إليه الخليفة المتوكّل على الله أبو عبد الله محمد وسار مع منطاش إلى الناصرى بقبّة النصر، حتى نزل بمخيّمه، فقام الناصرى إليه وتلقّاه وأجلسه بجانبه ووانسه بالحديث.
هذا وقد انضمّت العامّة والزّعر والتّركمان من أصحاب الناصرى وتفرّقوا على بيوت الأمراء وحواصلهم، فنهبوا ما وجدوا حتى أخربوا الدور وأخذوا أبوابها وخشبها وهجموا منازل الناس خارج القاهرة ونهبوها واستمرّوا على ذلك وقد صارت مصر غوغاء وأهلها رعيّة بلا راع، حتى أرسل الناصرى الأمير ناصر الدين محمد بن الحسام وقد ولّاه ولاية القاهرة فسار ابن الحسام إلى القاهرة فوجد باب النصر مغلوقا، فدخل بفرسه راكبا من جامع «1» الحاكم إلى القاهرة وفتح باب النصر «2» وباب الفتوح «3» وعند فتح الأبواب طرق جماعة كبيرة من عسكر الناصرىّ القاهرة ونهبوا منها جانبا كبيرا، فقاتلهم الناس وقتلوا منهم أربعة نفر ومرّ بالناس في هذه الأيام شدائد وأهوال، وبلغ الناصرى الخبر فبعث أبا بكر بن سنقر الحاجب وتنكز بغا رأس نوبة إلى حفظ القاهرة فدخلاها.

(11/286)


ثمّ نودى بها من قبل الناصرى بالأمان ومنع النّهب، فنزل تنكز بغا المذكور عند الجملون «1» وسط القاهرة ونزل سيدى أبو بكر بن سنقر عند باب زويلة وسكن الحال وهدأ ما بالناس وأمنوا على أموالهم.
وأمّا الناصرى، فإنّه لمّا نزل إليه الخليفة وأكرمه، كما تقدّم وحضر قضاه القضاة والأعيان للهناء، أمرهم الناصرىّ بالإقامة عنده وأنزل الخليفة بمخيّم وأنزل القضاة بخيمة أخرى، ثمّ طلب الناصرىّ من عنده من الأمراء والأعيان وتكلم معهم فيما يكون وسألهم فيمن ينصّب في السلطنة بعد الملك الظاهر برقوق، فأشار أكابرهم بسلطنة الناصرىّ فامتنع الناصرى من ذلك أشدّ امتناع وهم يلحّون عليه ويقولون له: ما المصلحة إلا ما ذكرنا وهو يأبى وانفضّ المجلس من غير طائل، فعند ذلك تقدّم الناصرى بكتابة مرسوم عن الخليفة، وعن الأمير الكبير يلبغا الناصرىّ بالإفراج عن الأمراء المعتقلين بتغر الإسكندرية وهم: ألطنبغا الجوبانىّ نائب الشام وقردم الحسنى وألطنبغا المعلّم أمير سلاح وإحضارهم إلى قلعة الجبل والجميع يلبغاويّه، فسار البريد بذلك ثم أمر الناصرى بالرحيل من قبّة النصر إلى نحو الديار المصرية وركب في عالم كبير من العساكر نحو الستين ألفا، حتى إنه

(11/287)


كان عليق جمالهم في كل ليلة ألفا [وثلثمائة «1» ] إردب فول وسار الناصرى بخيوله وبجيوشه حتى طلع إلى القلعة ونزل بالإسطبل السلطانى وطلع الخليفة إلى منزله بقلعة الجبل ونزل كلّ أمير في بيت من بيوت الأمراء بديار مصر وجلس الناصرىّ فى مجلس عظيم وحضر إلى خدمته الوزير كريم الدين عبد الكريم بن الغنّام وموفّق الدين أبو الفرج ناظر الخاص والقاضى جمال الدين محمود ناظر الجيش والقاضى بدر الدين محمد بن فضل الله كاتب السر الشريف وغيرهم من أرباب الوظائف، فأمرهم الأمير الكبير بتحصيل الأغنام إلى مطابخ الأمراء ونودى في القاهرة ثانيا بالأمان.
ثمّ رسم للأمير تنكزبغا رأس نوبة بتحصيل [مماليك «2» ] الملك الظاهر برقوق، فأخذ تنكزبغا يتتبّع أثره وأصبح الناس في يوم الثلاثاء سادس جمادى الآخرة فى هرج كبير ومقالات كثيرة مختلفة في أمر الملك الظاهر برقوق.
ثمّ استدعى الأمير الكبير يلبغا الناصرىّ الأمراء واستشارهم فيمن ينصّبه فى سلطنة مصر، فكثر الكلام بينهم وكان غرض غالب الأمراء سلطنة الناصرىّ ماخلا منطاش وجماعة من الأشرفيّة، حتى استقرّ الرأى على إقامة الملك الصالح أمير حاج ابن الملك الأشرف شعبان في السلطنة ثانيا، بعد أن أعيا الأمراء أمر الناصرىّ في عدم قبوله السّلطنة وهو يقول: المصلحة سلطنة الملك الصالح أمير حاج، فإن الملك الظاهر برقوقا خلعه من غير موجب، فطلعوا في الحال من الإسطبل إلى القلعة واستدعوا الملك الصالح وسلطنوه وغيّروا لقبه بالملك المنصور

(11/288)


على ما سنذكره في أوّل ترجمته الثانية- إن شاء الله تعالى- بعد أن نذكر حوادث سنين الملك الظاهر برقوق كما هي عادة كتابنا هذا من أوّله إلى آخره.
وأمّا الملك الظاهر برقوق فإنّه دام في اختفائه إلى أن قبض عليه بعد أيام على ما سنحكيه في سلطنة الملك الصالح مفصّلا إلى أن يسجن بالكرك ويعود إلى ملكه ثانيا.
قلت: وزالت دولة الملك الظّاهر برقوق كأن لم تكن- فسبحان من لا يزول ملكه- بعد أن حكم مصر أميرا كبيرا وسلطانا إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر وسبعة وعشرين يوما، تفصيله مدّة تحكّمه أميرا منذ قبض على الأمير طشتمر العلائىّ الدوادار في تاسع ذى الحجّة سنة تسع وسبعين وسبعمائة إلى أن جلس على تخت الملك وتلقّب بالملك الظاهر في يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمائة أربع سنين وتسعة أشهر وعشرة أيّام. وكان يقال له في هذه المدة:
الأمير الكبير أتابك العساكر ومن حين تسلطن في سنة أربع وثمانين المذكورة إلى يوم ترك الملك واختفى في ليلة الاثنين خامس جمادى الآخرة من سنة إحدى وتسعين وسبعمائة ست سنين وثمانية أشهر وسبعة عشر يوما، فهذا تفصيل تحكّمه على مصر أميرا أو سلطانا إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر وسبعة وعشرين يوما.
وذهب ملكه من الديار المصريّة على أسرع وجه مع عظمة في النفوس وكثرة مماليكه وحواشيه، فإنه خلع من السلطنة وله نحو الألفى مملوك مشترى، غير من أنشأه من أكابر الأمراء والخاصكيّة من خشداشيّته وغيرهم، هذا مع ما كان فيه من القوّة والشّجاعة والإقدام، فإنّه قام في هذا الأمر بالقوّة في ابتداء أمره وتوثّب على الرئاسة والإمرة بيده دفعة واحدة حسب ما تقدّم ذكره، ولم يكن له يوم ذاك عشرة مماليك مشتراة، وأعجب من هذا ما سيكون من أمره في سلطنته الثانية عند

(11/289)


خروجه من حبس الكرك وهو في غاية ما يكون من الفقر وقلّة الحاشية ومع هذا يملك مصر ثانيا، كما سيأتى ذكر ذلك مفصلا. وما أرى هذا الذي وقع للملك الظاهر في خلعه من الملك مع ما ذكرنا إلّا خذلانا من الله تعالى ولله الأمر.
وقال المقريزى- رحمه الله-: وكان في سلطنته مخلّطا يخلّط الصالح بالطالح.
ومما حكاه المقريزىّ قال: وكان له في مدته أشياء مليحة، منها: إبطاله ما كان يؤخذ من أهل البرلّس «1» وشورى «2» وبلطيم «3» من أعمال مصر شبه الجالية فى كلّ سنة.
قلت: وقد تجدّد ذلك في دولة الملك الظاهر جقمق ثانيا في سنة سبع وأربعين وثمانمائة: قال وهو مبلغ ستّين ألف درهم فضّة يعنى عن الذي كان يؤخذ من هذه الجهات المذكورة، قال: وأبطل ما كان يؤخذ على القمح بثغر دمياط من المكوس وما كان يؤخذ من معمل الفراريح بالجيزيّة وأعمالها والغربية وغيرها، وما كان يؤخذ على الملح من المكس بعينتاب «4» وما كان يؤخذ على الدقيق بالبيرة «5» من المكس. وأبطل

(11/290)


أيضا ما كان يؤخذ في طرابلس عند قدوم النائب إليها- من قضاة البرّ وولاة الأعمال عن كل واحد خمسمائة درهم وأبطل أيضا ما كان يؤخذ في كلّ سنة من الخيل والجمال والبقر والغنم من أهل الشرقيّة من أعمال مصر. وأبطل ما كان يؤخذ من المكس بديار مصر على الدريس والحلفاء خارج باب النصر. وأبطل ضمان المغانى بالكرك والشوبك ومن منية «1» ابن خصيب وزفتة من أعمال مصر وأبطل رمى الأبقار بعد فراغ عمل الجسور على أهل النّواحى وأنشأ من العمائر في هذه السلطنة الأولى المدرسة بخطّ بين القصرين من القاهرة ولم يعمّر داخل القاهرة مثلها ولا أكثر معلوما منها وله أيضا الصهريج والسبيل بقلعة الجبل تجاه الإيوان وعمّر الطاحون أيضا بالقلعة وأنشأ جسر الشريعة على نهر الأردن بطريق الشام وطوله مائة وعشرون ذراعا في عرض عشرين ذراعا وجدّد خزائن السلاح بثغر الاسكندريّة وعمّر سور دمنهور بالبحيرة وعمّر الجبال الشرقيّة بالفيوم وزاوية البرزخ بدمياط وبنى قناطر بالقدس وبنى بحيرة برأس وادى بنى سالم قريبا من المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام قال: وكان حازما مهابا محبّا لأهل الخير والعلم إذا أتاه أحد منهم قام إليه ولم يعرف أحد قبله من الملوك [الترك] يقوم لفقيه وقلّما كان يمكّن أحدا منهم من تقبيل يده، إلا أنه كان محبّا لجمع المال وحدث في أيامه تجاهر الناس بالبراطيل، فكان لا يكاد يولّى أحدا وظيفة ولا عملا إلا بمال وفسد بذلك كثير من الأحوال وكان مولعا بتقديم الأسافل وحطّ ذوى البيوتات.
قلت: وهذا البلاء قد تضاعف الآن حتّى خرج عن الحدّ وصار ذوو البيوت معيرة في زماننا هذا. انتهى.

(11/291)


قال: وغيّر ما كان للناس من الترتيب. واشتهر في أيامه ثلاثة أشياء قبيحة:
إتيان الذكران من اشتهاره بتقريب المماليك الحسان وتظاهر البراطيل وكان لا يكاد يولّى أحدا وظيفة إلا بمال واقتدى بهذا الملوك من بعده وكساد الأسواق لشحه وقلة عطائه، فمساوئه أضعاف حسناته. انتهى كلام المقريزىّ من هذا المعنى.
قلت: ونحن نشاحح الشيخ تقىّ الدين المقريزىّ في كلامه حيث يقول:
وحدث في أيامه ثلاثة أشياء قبيحة، فأمّا إتيان الذكران، فأقول: البلاء قديم وقد نسب اشتهار ذلك من يوم دخول الخراسانيّة إلى العراق في نوبة أبى مسلم الخراسانىّ في سنة اثنتين وثلاثين ومائة من الهجرة.
وأما اقتناؤه المماليك الحسان، فأين الشيخ تقىّ الدين من مشترى الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى حسان المماليك بأغلى الأثمان الذي لم يقع للملك الظاهر فى مثلها، حتى إن الملك الناصر محمد قدّم جماعة من مماليكه ممن شغف بمحبّتهم وأنعم عليهم بتقادم ألوف بمصر ولم يطرّ شارب واحد منهم، مثل بكتمر الساقى ويلبغا اليحياوى وألطنبغا الماردينى وقوصون وملكتمر الحجازى وطقزدمر الحموى وبشتك وطغاى الكبير وزوّجهم بأولاده، فحينئذ الفرق بينهما في هذا الشأن ظاهر. وأما قوله: أخذ البراطيل، فهذا أيضا قديم جدّا من القرن الثالث وإلى الآن، حتى إنه كان في دولة الملك الصالح إسماعيل ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون ديوان يعرف بديوان البذل (أعنى بديوان البرطيل) وشاع ذلك في الأقطار وصار من له حاجة يأتى إلى صاحب الديوان المذكور ويبذل فيما يرومه من الوظائف وهذا شىء لم يصل الملك الظاهر برقوق اليه.
وأما شحّه فهو بالنسبة لمن تقدّمه من الملوك شحيح وإلى من جاء بعده كريم والشيخ تقي الدين- رحمه الله- كان له انحرافات معروفة تارة وتارة ولولا ذاك

(11/292)


ما كان يحكى عنه في تاريخه السلوك قوله: ولقد سمعت العبد الصالح جمال الدين عبد الله السكسرىّ «1» المغربى يخبرنى «2» - رحمه الله- أنه رأى قردا في منامه صعد المنبر بجامع الحاكم فخطب ثم نزل ودخل المحراب ليصلّى بالناس الجمعة، فثار الناس عليه في أثناء صلاته بهم، فأخرجوه من المحراب وكانت هذه الرؤيا في أواخر سلطنة الملك الأشرف شعبان بن حسين في سنة ثمان وسبعين وسبعمائة، فكان ذلك تقدّم الملك الظاهر برقوق على الناس وسلطنته تأويل هذه الرؤيا، فإنه كان متخلّقا بكثير من أخلاق القردة شحا [وطمعا «3» ] وفسادا ولكن الله يفعل ما يريد ولله الأمر من قبل ومن بعد. انتهى كلام المقريزى.
قلت: وتعبير الشيخ تقي الدين لهذه الرؤيا أن القرد هو الملك الظاهر فليس بشىء من وجوه عديدة، منها: أن برقوقا لم يتسلطن بعد قتل الملك الأشرف إلا بعد أن تسلطن ولد الملك الأشرف الملك المنصور علىّ وولده الملك الصالح أمير حاجّ.
ثم تسلطن برقوق بعد ستّ سنين من وفاة الأشرف ومنها: أن الناس لمّا أخرجوا القرد في أثناء الصلاة كان ينبغى أن يعود ويصلّى بالناس بعد إخراجه ثانيا صلاة أطول من الصّلاة الأولى، فإن برقوقا لما خلع عاد إلى السلطنة ثانيا ومكث فيها أكثر من سلطنته الأولى حتى كانت تطابق ما وقع لبرقوق وقولنا: إن الشيخ تقي الدين كان له تارات يشكر فيها وتارات يذم فيها، فإنه لما صحب الملك الظاهر المذكور فى سلطنته الثانية وأحسن إليه الظاهر أمعن في الثناء عليه في عدّة أماكن من مصنفاته ونسى مقالته هذه وغيرها وفاته أن يغيّر مقالته هذه، فإنه أمعن، ويقال

(11/293)


فى المثل من شكر وذمّ، فكأنما كذّب نفسه مرّتين. وبإجماع الناس أن الملك الظاهر برقوقا كان في سلطنته الأولى أحسن حالا من سلطنته الثانية، فإنه ارتكب فى الثانية أمورا شنيعة مثل قتل العلماء وإبعادهم والغضّ منهم، لمّا أفتوا بقتاله عند خروجه من الكرك ونحن أعرف بأحوال الملك الظاهر وابنه الناصر من الشيخ تقي الدين وغيره وإن كان هو الأسنّ، ولم أرد بذلك الحطّ على الشيخ تقىّ الدين ولا التعصّب للملك الظاهر، غير أن الحق يقال والحق المحض فيه أنّه كان له محاسن ومساوئ وليس للإمعان محلّ، كما هي عادة الملوك والحكّام. وبالجملة فهو أحسن حالا ممن جاء بعده من الملوك بلا مدافعة. والله تعالى أعلم.
السنة الأولى من سلطنة الملك الظاهر برقوق الأولى على مصر
وهي سنة أربع وثمانين وسبعمائة، على أن الملك الصالح حاجيّا حكم منها إلى تاسع عشر شهر رمضان ثم حكم الملك الظاهر في باقيها.
وفيها توفّى قاضى قضاة الحنفيّة بدمشق همام الدين أمير غالب ابن العلّامة قاضى القضاة قوام الدين أمير كاتب الإتقانى الفارابى الانزارى الحنفى، ولى أوّلا حسبة دمشق ثم القضاء بها، وكان قليل العلم بالنسبة إلى أبيه، إلّا أنه كان رئيسا حسن الأخلاق كريم النفس، عادلا في أحكامه وكان في ولايته يعتمد على العلماء من نوّابه، فمشى حاله وشكرت سيرته إلى أن مات في جمادى الأولى.
وتوفّى قاضى القضاة بدر الدين عبد الوهاب ابن الشيخ كمال الدين أحمد ابن قاضى القضاة علم الدين محمود «1» بن أبى بكر بن عيسى [بن بدران «2» ] السعدىّ

(11/294)


الإخنائى المالكىّ. ولد في حدود العشرين وسبعمائة وتولّى القضاء بعد موت القاضى برهان الدين إبراهيم الإخنائى وكان ضعيفا، فجاءه التشريف من الملك الأشرف شعبان وألقى عليه على لحافه، فلما عوفى لبسه وباشر القضاء وحسنت سيرته إلى أن صرف بعلم الدين سليمان بن خالد بن نعيم البساطى في ذى القعدة سنة ثمان وسبعين وسبعمائة، ثم أعيد في صفر سنة تسع وسبعين وعزل في السنة بالبساطىّ ثانيا ولزم داره إلى أن مات. وكان خيّرا ديّنا مشكور السيرة.
وتوفّى الوزير الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن الرّويهب في سابع «1» عشر شهر رمضان، وقد اتّضع حاله وافتقر وكان من أعيان الأقباط وباشر عدّة مباشرات، منها الوزر ونظر الدولة والاستيفاء وغير ذلك.
وتوفّى الشيخ علاء الدين أبو الحسن علىّ بن عمر بن محمد ابن قاضى القضاة تقي الدين محمد ابن دقيق العيد موقّع الحكم في خامس عشر «2» صفر.
وتوفّى الشيخ جمال الدين محمد بن علىّ [بن يوسف «3» ] الأسوانىّ «4» فى يوم الأحد عاشر شهر ربيع الأوّل وكان معدودا من الفضلاء.
وتوفّى الأمير فخر الدين إياس بن عبد الله الصّرغتمشىّ الحاجب أحد أمراء الطبلخانات في ثالث شهر ربيع الآخر وكان فيه شجاعة وعنده كرم وتعصّب لمن يلوذ به.

(11/295)


وتوفّى الشيخ الإمام عزّ الدين عبد العزيز بن عبد الحق «1» الأسيوطى الشافعى فى يوم الأحد «2» عاشر ذى القعدة بعد ما تصدّر للاشتغال والإفتاء عدّة ستين ودرّس بعدّة مدارس وكان من أعيان الشافعية.
وتوفى الأمير زين الدين زبالة الفارقانىّ نائب قلعة دمشق بها في شعبان.
وتوفى السلطان الملك المعزّ حسين بن أويس ابن الشيخ حسن بن حسين ابن آقبغا بن أيلكان المنعوت بالشيخ حسين سلطان بغداد وتبريز وما والاهما وكان سبط ألقان أرغون بن بو سعيد ملك التتار. ولى سلطنة بغداد في حياة أبيه، لأن والده أويسا، كان رأى مناما يدلّ على موته في يوم معين، فاعتزل الملك وسلطن ولده هذا وقد تقدّم ذكره في ترجمة والده المذكور فى سنة ست وسبعين وسبعمائة. ودام الشيخ حسين هذا في الملك إلى أن قتله أخوه السلطان أحمد ابن أويس وملك بغداد بعده بإشارة خجاشيخ الكجحانىّ في هذه السنة. وكان الشيخ حسين هذا ملكا شابا جميلا «3» جليلا شجاعا مقداما كريما محببّا للرعية كثير البر قليل الطمع؛ ولقد كانت العراق في أيامه مطمئنة معمورة إلى أن ملكها أخوه أحمد بعده فاضطربت أحوالها إلى أن قتل، ثم ملكها قرا يوسف وأولاده، فكان خراب العراق على أيديهم. وبالجملة فكان الشيخ حسين هذا هو آخر ملوك بغداد والعراق.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع ونصف. مبلغ الزيادة عشرون ذراعا وثلاثة أصابع. وهي سنة الغرقى لعظم زيادة النيل.

(11/296)