النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة
[ما وقع من
الحوادث سنة 805]
وفى يوم ثالث «1» المحرم من سنة خمس وثمانمائة أنعم السلطان بإقطاع
علان جلّق المستقر فى نيابة حماة على الأمير چركس القاسمى المصارع،
وبإقطاع جمق المستقر فى نيابة الكرك على آقباى الكركىّ الخازندار، وزيد
عليه قرية سمسطا «2» .
(12/290)
هذا والكلام يكثر بين الأمراء والمماليك،
والناس فى تخوّف من وقوع فتنة.
فلما كان سابع المحرم نزل الأمير سودون طاز الأمير آخور الكبير من
الإسطبل السلطانى بأهله ومماليكه إلى داره، وعزل نفسه عن الأمير
آخوريّة، وصار من جملة الأمراء.
ثم فى هذا الشهر قدم الوالد إلى دمشق بأمان كان كتب له من قبل السلطان
مع كتب جميع الأمراء.
فلما وصل إلى دمشق خرج الأمير شيخ المحمودى إلى تلقّيه، حتى عاد معه
إلى دمشق وأنزله بالقرمانية، وأكرمه غاية الإكرام بحيث إنه جاءه فى يوم
واحد ثلاث مرات.
ثم خرج الوالد بعد أيام من دمشق يريد الديار المصرية، فخرج الأمير شيخ
أيضا لوداعه، وسار حتى وصل [إلى «1» ] مصر فى سلخ المحرم. بعد ما خرج
الأمراء إلى لقائه، وطلع إلى القلعة، وقبّل الأرض بين يدى السلطان،
فأخلع السلطان عليه كاملّية بمقلب سمّور، وأركبه فرسا بسرج ذهب وكنبوش
زركش.
ثم نزل إلى داره ومعه سائر الأمراء؛ وظهر الأمير قرقماس الرّماح، فشفع
فيه الوالد، فإنه كان أنّبه «2» ، فقبل السلطان شفاعته.
وأما أمر سودون طاز، فإنه أقام بداره إلى ليلة الاثنين ثالث عشر صفر من
سنة خمس وثمانمائة المذكورة، خرج من القاهرة بمماليكه وحواشيه إلى
المرج «3»
(12/291)
والزيات «1» بالقرب من خانقاه سرياقوس «2»
ليقيم هناك حتى يأتيه من وافقه ويركب على أخصامه ويقهرهم ويعود إلى
وظيفته.
وكان خبر سودون طاز أنه لما وقع بينه وبين يشبك أولا وصار من حزب نوروز
وجكم وقبضوا على يشبك وأصحابه من الأمراء وسجنوا بثغر الاسكندرية حسبما
تقدم ذكره، صار تحكّم مصر له ويشاركه فى ذلك نوروز وجكم فثقلا عليه،
وأراد أن يستبدّ بالأمر والنهى وحده، فدبّر فى إخراجهما حتى تم له ذلك،
ظنا منه أنه ينفرد بالأمر بعدهما، فانتدب إليه يشبك الشعبانى الدوادار
وأصحابه لما كان فى نفوسهم منه قديما بعد مجيئهم من حبس الاسكندرية،
لأنه كان انحصر لخروجهم من الحبس.
وكان الملك الناصر يميل إلى يشبك وقطلوبغا الكركى، لأنّ كل واحد منهما
كان لالته «3» .
وكان الأمير آقباى طاز الكركى الخازندار يعادى سودون طاز قديما ويقول
«طاز واحد يكفى بمصر، فأنا طاز وهو طاز ما تحملنا مصر» واتفقوا الجميع
عليه، وظاهرهم السلطان فى الباطن، فتلاشى أمر سودون طاز لذلك، وما
زالوا فى التدبير عليه حتى نزل من الإسطبل السلطانى، خوفا على نفسه من
كثرة جموع يشبك الدوادار، وجرأة آقباى الخازندار الكركى؛ فعندما نزل ظن
أن السلطان يقوم بناصره، فلم يلتفت السلطان إليه، وأقام هذه المدّة من
جملة الأمراء،
(12/292)
فشق عليه عدم تحكمه فى الدولة، وكفه عن
الأمر والنهى، وكان اعتاد ذلك، فخرج لتأتيه المماليك السلطانية وغيرهم،
فإنه كان له عليهم أياد وإحسان زائد عن الوصف- ليحارب بهم يشبك
وطائفته، ويخرجهم من الديار المصرية، أو يقبض عليهم كما فعل أوّلا
ويستبدّ بعدهم بالأمر، فجاء حساب الدهر غير حسابه، ولم يخرج إليه أحد
غير أصحابه الذين خرجوا معه، وأخلع السلطان على الأمير إينال باى من
قجماس باستقراره عوضه أمير آخورا كبيرا فى يوم الاثنين عشرين صفر، وبعث
السلطان إلى سودون طاز بالأمير قطلوبغا الكركى يأمره بالعود على إقطاعه
وإمرته من غير إقامة فتنة، وإن أراد البلاد الشأمية فله ما يختاره من
النيابات بها، فامتنع من ذلك وقال: لا بدّ من إخراج آقباى طاز الكركى
الخازندار أوّلا إلى بلاد الشام، فلم يوافق السلطان على إخراج آقباى،
وبعث إليه ثانيا بالأمير بشباى الحاجب الثانى فلم يوافق، فبعث إليه مرة
ثالثة فلم يرض، وأبى إلا ما قاله أوّلا من إخراج آقباى، فلما يئس
السلطان منه ركب بالعساكر من قلعة الجبل «1» ، ونزل
(12/293)
جميع عساكره بالسلاح وآلة الحرب فى يوم
الأربعاء سادس شهر ربيع الأوّل، فلم يثبت سودون طاز، ورحل بمن معه وهم
نحو الخمسمائة من المماليك السلطانية ومماليكه، وقد ظهر الأمير قانى
باى العلائى ولحق به من نحو عشرة أيام، وصار من حزبه، فتبعه السلطان
بعساكره وهو يظن أنه توجه إلى بلبيس.
وكان سودون عند ما وصل إلى سرياقوس نزل من الخليج ومضى إلى جهة القاهرة
وعبر من باب «1» البحر بالمقس، وتوجّه إلى الميدان، وهجم قانى باى
العلائى فى عدّة كبيرة على الرّميلة «2» تحت القلعة ليأخذ باب السلسلة،
فلم يقدر على ذلك، ومر السلطان الملك الناصر وهو سائق على طريق بلبيس،
وتفرّقت عنه العساكر وتاهوا فى عدّة طرق.
وبينما السلطان فى ذلك بلغه أن سودون طاز توجه إلى نحو القاهرة وهو
يحاصر قلعة الجبل، فرجع بأمرائه مسرعا يربد القلعة حتى وصل إليها بعد
العصر، وقد بلغ منه ومن عساكره التعب مبلغا عظيما، ونزل السلطان
بالمقعد المطلّ على الرّميلة من الإسطبل بباب السلسلة، وندب الأمراء
والمماليك لقتال سودون طاز، فقاتلوه فى الأزقّة طعنا بالرّماح ساعة فلم
يثبت، وانهزم بمن معه، وقد جرح من الفريقين جماعة كثيرة، وحال الليل
بينهم، وتفرّق أصحاب سودون طاز عنه، وتوجّه كلّ واحد إلى داره، وبات
السلطان ومن معه على تخوّف، وأصبح من الغد فلم يظهر لسودون طاز ولا
قانى باى خبر، ودام ذلك إلى الليل، فلم يشعر الأمير يشبك وهو جالس
بداره بعد عشاء الآخرة إلا وسودون طاز دخل عليه فى ثلاثة
(12/294)
أنفس، وترامى عليه، فقبله وزاد «1» فى
إكرامه وأنزله عنده، وأصبح يوم الجمعة كتب سودون طاز وصيّته وأقام بدار
يشبك إلى ليلة الأحد عاشره، فأنزل فى حرّاقة وتوجه إلى [ثغر «2» ]
دمياط «3» بطّالا بغير قيد، ورتّب له بها ما يكفيه، بعد أن أنعم عليه
الأمير يشبك بألف دينار مكافأة له على ما كان سعى فى أمره حتّى أخرجه
من حبس الإسكندرية وعوّده إلى وظيفته وإبقائه فى قيد الحياة، فإن جكم
الدوادار كان أراد قتله عند ما ظفر به، وحبسه بالإسكندرية لولا سودون
طاز هذا.
وأمّا قانى باى هذا «4» فإنه اختفى ثانيا فلم يعرف له خبر، وسكنت
الفتنة.
فلمّا كان خامس عشرين شهر ربيع الأوّل قدم الأمير سودون الحمزاوى نائب
صفد إلى القاهرة باستدعاء من السلطان صحبة الطواشى عبد اللطيف اللّالا
بسعى الأمير آقباى طاز الكركى الخازندار فى ذلك لصداقة كانت بينهما.
واخلع السلطان على الأمير شيخ السليمانى شاد الشراب خاناه، واستقرّ فى
نيابة صفد عوضا عن سودون الحمزاوى، وأنعم السلطان على سودون الحمزاوى
بإمرة مائة وتقدمة ألف بالقاهرة.
(12/295)
ثم أنعم السلطان على الوالد بإمرة مائة
وتقدمة [ألف «1» ] ، وأزيد مدينة أبيار «2» من الديوان المفرد، ورسم له
أن يجلس رأس ميسرة.
ثم أخرج «3» الأمير قرقماس الرمّاح إلى دمشق على إقطاع الأمير صرق.
وأخلع «4» السلطان على سودون الحمزاوى المعزول عن نيابة صفد باستقراره
شادّ الشراب خاناه عوضا عن شيخ السليمانى المسرطن المنتقل إلى نيابة
صفد، فلم يقم سودون الحمزاوى فى المشدية إلا أياما، ومرض صديقه الأمير
آقباى الكركى الخازندار ومات، فولّى الخازندارية عوضه فى يوم الاثنين
سابع جمادى الآخرة.
ثم فى ليلة الأربعاء ثالث عشرين [جمادى الآخرة «5» ] غمز على قانى باى
العلائى فى دار فكبس عليها «6» ، وأخذ منها، وقيّد وحمل إلى
الإسكندرية.
وفى هذه الأيام ورد الخبر أن سودون طاز خرج من ثغر دمياط يوم الخميس
رابع عشرين جمادى الآخرة فى طائفة، وأنه اجتمع عليه جماعة كبيرة من
العربان والمماليك، فندب السلطان لقتاله الوالد والأمير تمراز الناصرى
أمير مجلس وسودون الحمزاوى فى عدة أمراء أخر، وخرجوا من القاهرة،
فبلغهم أنه عند الأمير [علم «7» الدين سليمان بن] بقر بالشرقية جاءه
ليساعده على غرضه، فعند ما أتاه أرسل [ابن «8» ] بقر إلى الأمراء
يعلمهم بأن سودون طاز عنده، فطرقه الأمراء وقبضوا عليه وأحضروه إلى
القلعة فى يوم الأربعاء سلخ جمادى الآخرة.
(12/296)
ثم أصبح السلطان فى يوم الخميس أول شهر
رجب، سمّر خمسة من المماليك السلطانية ممن كان مع [الأمير «1» ] سودون
طاز، أحدهم سودون الجلب الآتى ذكره فى عدة أماكن، ثم جانبك القرمانى
حاجب حجّاب زماننا هذا، فاجتمع المماليك السلطانية لإقامة الفتنة
بسببهم: وتكلّم الأمراء مع السلطان فى ذلك، فخلّى عنهم، وقيّدوا وسجنوا
بخزانة شمائل، ونفى سودون الجلب إلى قبرس بلاد الفرنج من الإسكندرية.
ثم فى ثالث شهر رجب حمل سودون طاز مقيّدا إلى الإسكندرية، وسجن بها عند
غريمه الأمير جكم من عوض الدوادار.
وفى هذا الشهر ورد الخبر من دمشق أنه أقيمت الجمعة بالجامع الأموى وهو
خراب، وكان بطّل منه صلاة الجمعة من بعد كائنة تيمور، وأن الأمير شيخا
المحمودى نائب دمشق سكن بدار السعادة بعد أن عمرت، وكانت حرقت أيضا فى
نوبة تيمور، وأن سعر الذهب زاد عن الحدّ، فأجيب: بأن الذهب [قد «2» ]
زاد سعره بمصر أيضا، حتى صار سعر المثقال الهرجة «3» بخمسة وستين
درهما، والدينار المشخّص «4» ، بستّين درهما.
ثم عقد السلطان للأمير «5» سودون الحمزاوى على أخته خوند زينب بنت
الملك الظاهر برقوق، وعمرها نحو الثمان سنين، فصارت أخوات السلطان
الثلاث
(12/297)
كل واحدة مع أمير من أمرائه، فخوند سارّة
زوجة الأمير نوروز الحافظى، وخوند بيرم زوجة الأمير إينال باى بن
قجماس، وخوند زينب وهى أصغر هن مع سودون الحمزاوى هذا.
ثم فى يوم الاثنين سادس عشرين شهر رجب أخلع السلطان على قاضى القضاة
كمال الدين عمر بن العديم باستقراره فى قضاء الحنفية بالديار المصرية
بعد أن عزل القاضى أمين الدين عبد الوهاب الطرابلسى بسفارة الوالد
لصحبة كانت بينهما من حلب.
ثم فى ليلة الثلاثاء سابع عشرين شهر رجب المذكور أرسل السلطان إلى
الإسكندرية الأمير أقبردى والأمير تنبك من الأمراء العشرات فى ثلاثين
مملوكا من المماليك السلطانية، فوصلوها فى تاسع شعبان، وأخرجوا الأمير
نوروز الحافظى، وجكم من عوض، وسودون طاز، وقانى باى العلائى من سجن
الإسكندرية وأنزلوهم فى البحر المالح، وساروا بهم إلى البلاد الشأمية،
فحبس نوروز وقانى باى فى قلعة الصّبيبة «1» من عمل دمشق. وحبس جكم فى
حصن الأكراد «2» من عمل طرابلس، وحبس سودون طاز فى قلعة المرقب «3» ،
ولم يبق بسجن الإسكندرية من الأمراء غير سودون من زاده، وتمربغا
المشطوب.
(12/298)
ثم حوّل جكم بعد مدّة إلى قلعة المرقب عند
غريمه سودون طاز.
ثم فى ثامن عشر شوّال خلع السلطان على الأمير بكتمر الرّكنى أمير سلاح
باستقراره رأس نوبة الأمراء عوضا عن نوروز الحافظى، واستقرّ الأمير
تمراز الناصرىّ أمير مجلس عوضه أمير سلاح، واستقرّ سودون الماردانى رأس
نوبة النّوب أمير مجلس عوضا عن تمراز، واستقرّ سودون الحمزاوى رأس نوبة
النوب عوضا عن سودون الماردانى، وأخلع السلطان على الأمير طوخ
باستقراره خازندارا عوضا عن سودون الحمزاوى.
ثم فى خامس عشرين ذى القعدة أفرج عن سعد الدين إبراهيم بن غراب وأخيه
فخر الدين ماجد، وكان السلطان قبض عليهما من شهر رمضان، وولّى وظائفهما
جماعة، واستمرّا فى المصادرة إلى يومنا هذا، وكان الإفراج عنهما بعد ما
التزم سعد الدين بن غراب بحمل ألف ألف درهم [فضة «1» ] وفخر الدين
بثلاثمائة ألف درهم، ونقلا إلى السالمىّ ليستخرج الأموال منهما ثم
يقتلهما «2» .
وكان ابن قايماز أهانهما وضرب فخر الدين وأهانه، فلم يعاملهما السالمىّ
[بمكروه «3» ] ولم ينتقم منهما، وخاف سوء العاقبة، فعاملهما من الاحسان
والإكرام بما لم يكن ببال أحد، وما زال يسعى فى أمرهما حتى نقلا من
عنده لبيت شادّ الدّواوين ناصر الدين محمد بن جلبان الحاجب، وهذا بخلاف
ما كانا فعلا مع السالمىّ، فكان هو المحسن وهم المسيئون.
ثم أخلع السلطان على يلبغا السالمىّ باستقراره أستادارا، وعزل ابن
قايماز، وهذه ولاية يلبغا السالمىّ الثانية.
(12/299)
ثم فى سابع ذى الحجّة من سنة خمس أخرج
السلطان الأمير أسنبغا المصارع، والأمير نكباى الأزدمرى وهما من أمراء
الطبلخاناه بمصر إلى دمشق، وإينال المظفّرى وآخر. وهما من الأمراء
العشرات، ورسم للاربعة بإقطاعات هناك، لأمر اقتضى ذلك، فساروا إلى «1»
القلعة «2» .
فلما كان يوم تاسع عشرين ذى الحجّة أغلق المماليك السلطانيّة باب القصر
من قلعة الجبل على من حضر من الأمراء، وعوّقوهم بسبب تأخّر جوامكهم،
فنزل الأمراء من باب السرّ «3» ، ولم يقع كبير أمر، وأمر السلطان
ليلبغا السالمىّ أن ينفق عليهم فنفق عليهم.
[ما وقع من الحوادث سنة 806]
ثم فى يوم الثلاثاء رابع المحرّم من سنة ستّ وثمانمائة عزل يلبغا
السالمى عن الأستادارية، وأعيد إليها ركن الدين عمر بن قايماز، وقبض
على السالمى وسلّم إليه.
ثم فى ثامنه أخلع السلطان على الصاحب علم الدين يحيى أبى كمّ واستقرّ
فى الوزارة ونظر الخاصّ معا عوضا عن تاج الدين بن البقرى واستقر ابن
البقرى على ما بيده من وظيفتى نظر الجيش ونظر ديوان المفرد «4» ، فلم
يباشر أبو كمّ الوزر غير ثمانية أيام وهرب واختفى، فأعيد تاج الدين بن
البقرى إليها، هذا والسالمىّ فى المصادرة.
(12/300)
وفى هذه السنة كان الشراقى العظيم «1»
بمصر، وعقبه الغلاء المفرط ثم الوباء، وهذه السنة هى أوّل سنين الحوادث
والمحن التى خرّب فيها معظم الديار المصرية وأعمالها، من الشراقى،
واختلاف الكلمة، وتغيير الولاة بالأعمال وغيرها.
ثم فى شهر ربيع الأول كتب بإحضار دقماق نائب حلب، وفيه اختفى الوزير
تاج الدين بن البقرى، فخلع على سعد الدين بن غراب واستقر فى وظيفتى
الأستادارية ونظر الجيش، وصرف ابن قايماز، وخلع على تاج الدين رزق الله
وأعيد إلى الوزارة.
وفى خامس صفر كتب باستقرار الأمير آقبغا الجمالى الأطروش فى نيابة حلب
عوضا عن دقماق، فلما بلغ دقماق أنه طلب إلى مصر هرب من حلب.
ثم قدم الخبر على السلطان بأنّ قرا يوسف بن قرا محمد قدم إلى دمشق.
فأنزله الأمير شيخ المحمودى بدار السعادة وأكرمه.
وكان من خبر قرا يوسف أنه حارب السلطان غياث الدين أحمد بن أويس وأخذ
منه بغداد.
فلما بلغ تيمور ذلك بعث إليه عسكرا، فكسرهم قرا يوسف، فجهّز إليه تيمور
جيشا ثانيا فهزموه، ففرّ بأهله وخاصّته إلى الرّحبة، فلم يمكّن منها
ونهبته العرب، فسار إلى دمشق، فوافى بها السلطان أحمد بن أويس وقد
قدمها أيضا قبل
(12/301)
تاريخه، وأخبر الرسول أيضا أن قانى باى
العلائى هرب من سجن الصّبيبة، فتأخر نوروز بالسجن ولم يعرف أين ذهب.
ثم فى يوم الثلاثاء خلع السلطان على بدر الدين حسن بن نصر الله الفوّى
«1» واستقرّ فى نظر الخاص عوضا عن ابن البقرى، وهذه أوّل ولاية الصاحب
بدر الدين ابن نصر الله للوظائف الجليلة.
ثم فى عاشره اختفى الوزير تاج الدين، وفى ثالث عشره أعيد ابن البقرى
للوزر على عادته ونظر الخاص، وصرف ابن نصر الله، هذا والموت فاش بين
الناس وأكثر من كان يموت الفقراء من الجوع.
ثم فى آخر جمادى الآخرة رسم بالقبض على السلطان أحمد بن أويس، وقرا
يوسف بدمشق، فقبض عليهما الأمير شيخ وسجنهما.
ثم فى يوم الاثنين ثامن عشر شهر رجب قدم إلى القاهرة سيف الأمير آقبغا
الجمالى الأطروش نائب حلب بعد موته، فرسم السلطان بانتقال الأمير
دمرداش المحمدى نائب طرابلس إلى نيابة حلب، وحمل إليه التقليد «2»
والتشريف الأمير سودون المحمدى المعروف تلى.
(12/302)
وفى أثناء ذلك ورد الخبر بأن الأمير دقماق
نزل على حلب ومعه جماعة من التركمان فيهم الأمير على بك بن دلغادر،
وفرّ منه أمراء حلب، فملك دقماق حلب، ورسم السلطان بانتقال الأمير شيخ
السليمانى المسرطن نائب صفد إلى نيابة طرابلس، وحمل إليه التقليد
والتشريف الأمير أقبردى، ورسم باستقرار الأمير بكتمر جلّق أحد أمراء
دمشق فى نيابة صفد «1» عوضا عن شيخ السليمانى المسرطن، وخرج الأمير
إينال المأمور «2» بقتل الأمراء المسجونين بالبلاد الشامية، وقبل وصول
إينال المذكور أفرج الأمير دمرداش نائب طرابلس عن الأمير جكم وعن سودون
طاز، وكانا ببعض حصون طرابلس وسار بهما إلى حلب، وهذا أوّل أمر جكم
وظهوره بالبلاد الشامية على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ثم فى يوم الخميس سابع عشر ذى الحجة قبض السلطان على الأمير بيبرس
الدوادار الثانى، وعلى الأمير جانم من حسن شاه، وعلى الأمير سودون
المحمدى تلى، وحملوا إلى سجن الإسكندرية، واستقر الأمير قرقماس أحد
أمراء الطبلخانات دوادارا ثانيا عوضا عن بيبرس المذكور.
[ما وقع من الحوادث سنة 807]
ثم فى صفر من سنة سبع وثمانمائة، وقع بين الأمير يشبك الشعبانى وبين
الأمير إينال باى بن قجماس الأمير آخور كبير وسبب ذلك: أن الأمير يشبك
الشعبانى الدوادار صار هو مدبّر الدولة وبيده جميع أمورها من الولاية
والعزل، فصار له بذلك عصبة كبيرة، فأحبوا عصبته عزل إينال باى من
الأمير اخورية، لاختصاصه بالسلطان الملك الناصر لقرابته منه ثم
لمصاهرته، فإنه كان تزوج بخوند
(12/303)
بيرم بنت الملك الظاهر برقوق، وسكن
بالإسطبل السلطانى «1» على عادة الأمير اخورية، فصار السلطان ينزل عنده
ويقيم ببيت أخته ويعاقره الشراب، فعظم أمر إينال باى لذلك، فخافه حواشى
يشبك، وأحبوا أن يكون چركس القاسمى المصارع عوضه أمير اخورا، واتفقوا
مع يشبك على ذلك، فانقطعوا عن حضور الخدمة السلطانية من جمادى الأولى،
فاستوحش السلطان منهم. وتمادى الحال إلى يوم الجمعة، فأمر السلطان
لإينال باى أن ينزل للأمراء المذكورين ويصالحهم، فمنع جماعة من
المماليك السلطانية إينال باى أن ينزل، واشتد ما بينهم من الشر حتى خاف
السلطان عاقبة ذلك، وباتوا مترقبين وقوع الحرب بينهما، وكان السلطان
رسم للأمير يشبك أن يتحول من داره قبل تاريخه، فإنها مجاورة لمدرسة
السلطان «2» حسن، فامتنع يشبك من ذلك
(12/304)
فساء ظن السلطان به، ثم استدعى السلطان
القضاة فى يوم السبت ثانى صفر إلى بيت الأمير الكبير بيبرس ليصلحوا بين
إينال باى وبين يشبك ورفقته، فلم يقع صلح بين الطائفتين، وتسوّر بعض
أصحاب يشبك على مدرسة السلطان حسن، فتحقّق السلطان عند ذلك ما كان
يظنّه بيشبك، ويحذّره منه إينال باى وغيره، وأخذ كلّ أحد من الطائفتين
فى أهبة الحرب، والسلطان من جهة إينال باى، وأصبحوا جميعا يوم الأحد
لابسين السلاح، وطلع أعيان الأمراء إلى السلطان، وهم الأتابك بيبرس،
والوالد، وبكتمر رأس نوبة الأمراء، وسودون الماردانى أمير مجلس، وآقباى
حاجب الحجّاب، وطوخ الخازندار فى آخرين من مقدّمى الألوف والطبلخانات
والعشرات والمماليك السلطانيّة.
وكان مع يشبك من أمراء الألوف سبعة «1» ، وهم الأمير تمراز الناصرى
أمير سلاح، ويلبغا الناصرى، وإينال حطب العلائى، وقطلوبغا الكركى،
وسودون الحمزاوى رأس نوبة النوب، وطولو، و چركس المصارع، وانضم معهم
سعد الدين إبراهيم بن غراب الأستادار، ومحمد بن سنقر البكجرىّ، وناصر
الدين محمد بن على ابن كلبك «2» ، فى جماعة من الأمراء والمماليك
السلطانية، وتجهّز يشبك للحرب، وأعدّ بأعلى مدرسة السلطان حسن مدافع
النفط والمكاحل والأسهم للرمى على الإسطبل السلطانىّ وعلى من يقف تحته
من الرميلة، واجتمع عليه خلائق، ونزل السلطان أيضا من القصر إلى
الإسطبل السلطانى، وجلس بالمقعد واجتمع عليه أكابر أمرائه وخاصّكيته،
ووقع القتال بين الطائفتين والحصار والرمى بالمدافع من بكرة يوم الأحد
إلى ليلة الخميس سابعه، وقد ظهر أصحاب السلطان على البشبكيّة، وحصروهم
والقتال مستمرّ بينهم، وأمر يشبك فى إدبار، وحال السلطان فى استظهار،
إلى أن
(12/305)
كانت ليلة الخميس المذكورة، فاتفق الأمير
يشبك مع أصحابه، وركب نصف الليل، وخرج بمن معه من الأمراء من الرميلة
على حميّة، ومرّوا من تحت الطبلخاناه إلى جهة الشام، فلم يتبعهم أحد من
السلطانيّة، ونودى بالقاهرة فى آخر الليلة المذكورة بالأمان، ومنع أهل
الفساد والزّعر من النّهب، ومرّ يشبك بمن معه من الأمراء والمماليك إلى
قطيا، فتلقّاه مشايخ عربان العائذ «1» بالتقادم، وسار إلى العريش وقد
بلغ خبره إلى غزّة، فتلقّاه نائب غزّة الأمير خير بك بعساكر غزّة،
فدخلها يوم الأربعاء ثالث عشر صفر «2» ونزل بها.
ثم بعث الأمير طولو إلى الأمير شيخ المحمودى نائب الشام يعلمه الخبر،
وسار طولو يريد دمشق حتى قدم دمشق يوم الأحد ثامن عشره، فخرج الأمير
شيخ إليه، وتلقّاه وأعلمه طولو الخبر، فشقّ ذلك عليه، ووعده بالقيام
بنصرته ليشبك «3» .
وكان فى ثامن عشر الشهر الخارج «4» قدم الأمير دقماق المحمّدى دمشق
فأكرمه الأمير شيخ.
وخبر دقماق وسبب قدومه إلى دمشق، أنه لمّا فرّ من حلب، وجمع التركمان
وأخذ حلب، وقدم الأمير دمرداش المحمّدى نائب طرابلس عليه وقد ولى نيابة
حلب بعد أن أطلق دمرداش وسودون طاز وجكم، وسار بهما من طرابلس إلى حلب
لقتال التركمان، وواقع التركمان بعد أن قتل سودون طاز، فانكسر دمرداش،
وملك جكم حلب منه بعد أمور صدرت يطول شرحها، فكتب السلطان إلى دقماق
يخيّره فى أىّ بلد يقيم؟ فاختار الشام، فقدمها.
(12/306)
ولما بلغ الأمير شيخ ما وقع ليشبك بعث
بالأمير ألطنبغا حاجب الحجّاب بدمشق والأمير شهاب الدين أحمد بن
اليغمورىّ، وجماعة أخر من الأعيان إلى الأمير يشبك، ومعهم أربعة أحمال
قماش ومال، وكتب شيخ على أيديهم مطالعات للأمير يشبك يرغّبه فى القدوم
عليه، وأنه يقوم بنصرته ويوافقه على غرضه.
فلمّا بلغ يشبك ذلك رحل من غزّة فى ليلة الاثنين خامس عشرينه، بعد ما
أقام بها ثلاثة عشر يوما، وأخذ ما كان بها من حواصل الأمراء وعدّة
خيول، وبعث إليه أهل الكرك «1» والشّوبك «2» بعدّة تقادم، بعد ما كان
عرض من معه من المقاتلة فكانوا ألفا وثلاثمائة وخمسة «3» وعشرين فارسا،
وتلقّاه بعد مسيره من غزّة بمشايخ بلاد الساحل «4» ، وحمل إليه الأمير
بكتمر جلق نائب صفد عدّة تقادم- وقدم عليه ابن بشارة فى عدّة من مشايخ
العشير.
ثم جهز إليه الأمير شيخ نائب الشام جماعة لملاقاته طائفة بعد أخرى.
ثم خرج إليه شيخ المذكور من دمشق حتى وافاه، فلمّا تقاربا ترجّل الأمير
شيخ عن فرسه، فلمّا عاينه يشبك ترجّل هو وأصحابه وسلّم عليه، ثم سلّم
على الأمراء وجلسا قليلا.
(12/307)
ثم ركبا، وسار يشبك المذكور وقد ألبسه شيخ
هو وجميع من معه من الأمراء الخلع بالطّرز العريضة، وعدّتهم أحد
وثلاثون أميرا من الطبلخانات والعشرات سوى من تقدّم ذكرهم من أمراء
الألوف، ودخلوا [دمشق «1» ] يوم الثلاثاء رابع شهر رجب.
ولمّا طال جلوسهم بدمشق سألهم الأمير شيخ عن خبرهم، فأعلموه بما كان
وذكروا له أنهم مماليك السلطان وفى طاعته، لا يخرجون عنها أبدا، غير
أنّ إينال باى نقل عنهم للسلطان ما لا يقع منهم، فتغيّر خاطر السلطان
عليهم حتى وقع ما وقع وأنهم ما لم ينصفوا منه ويعودوا لما كانوا عليه
وإلّا فأرض الله واسعة، فوعدهم بخير، وقام لهم بما يليق بهم، حتى قيل
إنه بلغت نفقته عليهم نحو مائتى ألف دينار مصريّة. ثم كتب شيخ إلى
السلطان يسأله فى أمرهم.
وأمّا أمر السلطان الملك الناصر، فإنّه لما أصبح وقد انهزم يشبك بمن
معه إلى جهة الشام، كتب بالإفراج عن الأمير سودون من زاده، وتمربغا
المشطوب، وصرق وكتب [إلى الأمير نوروز «2» بالحضور إلى الديار المصرية
ليستقرّ على عادته] وكتب للأمير جكم أمانا توجّه به طغاى تمر مقدّم
البريديّة.
ثم فى ثامن عشره خلع على عدّة من الأمراء بعدّة وظائف، فأخلع على سودون
الماردانى «3» أمير مجلس باستقراره دوادارا عوضا عن يشبك الشعبانى
المقدّم ذكره، وعلى الأمير سودون الطّيار الأمير آخور الثانى، واستقرّ
أمير مجلس عوضا عن سودون الماردانى «4» ، وعلى آقباى حاجب الحجّاب
باستقراره أمير سلاح عوضا
(12/308)
عن تمراز الناصرى، وخلع على أبى كمّ،
واستقرّ فى وظيفة نظر الجيش عوضا عن ابن غراب، وعلى ركن الدين عمر بن
قايماز، باستقراره أستادارا عوضا عن ابن غراب أيضا.
ثم فى تاسع عشره، قدم سودون من زاده وتمربغا المشطوب وصرق من سجن
الإسكندرية «1» وقبّلوا الأرض بين يدى السلطان ونزلوا إلى دورهم.
وفى حادى عشرينه خلع السلطان على الأمير يشبك بن أزدمر باستقراره رأس
نوبة النّوب «2» عوضا عن سودون الحمزاوى.
ثم ألزم السلطان مباشرى الأمراء المتوجّهين إلى الشام بمال، فقرّر على
موجود الأمير يشبك مائة ألف دينار، وعلى موجود تمراز مائة ألف دينار،
وعلى موجود سودون الحمزاوى ثلاثين ألف دينار، وعلى موجود قطلوبغا
الكركىّ عشرين ألف دينار، ورسم السلطان أن يكون الدينار بمائة درهم، ثم
افتقد السلطان المماليك السلطانية ممن توجه مع الأمير يشبك فكانوا
مائتى مملوك.
ثم قدم الخبر على السلطان أنّ الأمير نوروز قدم إلى دمشق من قلعة
الصّبيبة، فتلقّاه الأمير شيخ وأكرمه، وضربت البشائر لقدومه بدمشق،
فعظم ذلك على السلطان.
ثم فى يوم الثلاثاء رابع شهر رجب طلب السلطان جمال الدين يوسف البيرى
أستادار بجاس وأخلع عليه باستقراره أستادارا عوضا عن ابن قايماز، بعد
ما رسم على جمال الدين المذكور فى بيت شادّ الدواوين محمد بن الطبلاوى
يوما وليلة، واستمرّ يتحدّث فى استادارية الأتابك بيبرس فإنه كان خدم
عنده ليحميه من الوزر والأستادارية، فلم ينهض بيبرس بذلك.
(12/309)
ثم قدم الخبر بأن الأمير شيخا أفرج عن قرا
يوسف.
وأما خبر جكم مع دمرداش وكيف ملك منه حلب، وقد قدّمنا ذكر ذلك مجملا من
غير تفصيل، فإن جكم لما أطلقه دمرداش وأخذه صحبته إلى حلب، وقاتل معه
التركمان ووقع لهما أمور حاصلها أن جكم تخوّف من دمرداش وفرّ منه إلى
جهة التركمان، وانضم عليه سودون الجلب بعد مجيئه من بلاد الأفرنج،
والأمير حمق نائب الكرك كان وغيره من المخامرين.
ثم وافقه ابن صاحب الباز أمير التركمان بتركمانه، فعاد جكم وقاتل
دمرداش، ووقع بينهما أمور وحروب إلى أن ملك جكم طرابلس، وأرسل إليه
الأمير شيخ نائب الشام، والأمير يشبك ورفقته يستميلونه ليقدم عليهم
دمشق ويوافقهم على قتال المصريين، فأجابهم إلى ذلك، وخرج من طرابلس
كأنه يريد التوجه إلى دمشق.
فلما وصل حماة أخذ نائبها الأمير علان بمن انضم عليه وتوجه بهم إلى
دمرداش وقاتله حتى هزمه وأخذ منه مدينة حلب، وفرّ دمرداش بجماعة من
أمراء حلب إلى بلاد التركمان.
ولما ملك جكم حلب أنعم بموجود دمرداش على علّان نائب حماة، وأقرّه على
نيابة حماة على عادته، فصار مع جكم حلب وطرابلس وحماة، وأخذ يسير مع
الرعية أحسن سيرة، فأحبه الناس وجرى على ألسنتهم «جكم حكم، وما ظلم»
واستمرّ جكم بحلب إلى أن أرسل إليه الأمير شيخ نائب الشام الأمير سودون
الحمزاوى، والأمير سودون الظريف، فتوجها إلى جكم على أنه بطرابلس.
ثم أرسل الأمير شيخ الأمير شرف الدين موسى الهيدبانى «1» حاجب دمشق إلى
حلب رسولا إلى دمرداش يستدعيه إلى موافقته هو ومن عنده من الأمراء.
(12/310)
وكان قد ورد كتاب دمرداش على شيخ ويشبك أنه
معهما «1» ، ومتى دعواه حضر إليهما «2» ؛ فهذا ما كان من أمر جكم،
وبقية خبر قدومه يأتى إن شاء الله تعالى فيما بعد.
ثم إن الأمير شيخا نائب الشام عين جماعة من الأمراء ليتوجهوا لأخذ صفد،
فخرج الأمير تمراز الناصرىّ أمير سلاح، والأمير چاركس القاسمى المصارع،
والأمير سودون الظريف بعد عوده من طرابلس، وساروا بعسكرهم «3» لأخذ صفد
من بكتمر جلّق، بحيلة أنهم يسيرون إلى جشار «4» الأمير بكتمر جلق كأنهم
يأخذوه فإذا أقبل عليهم «5» بكتمر ليدفعهم عن جشاره قاطعوا عليه وأخذوا
مدينة صفد منه، فتيقظ بكتمر لذلك وترك لهم الجشار، فساقوه من غير أن
يتحرك بكتمر من المدينة وعادوا إلى دمشق وأخبروا الأمراء بذلك، فاستعد
شيخ لأخذ صفد وعمل ثلاثين «6» مدفعا وعدّة مكاحل ومنجنيقين، وجمع
الحجّارين والنقّابين وآلات الحصار، وخرج من دمشق يوم الثلاثاء سابع
عشر شعبان ومعه جمع كبير من عسكر مصر والشام من جملتهم قرا يوسف
بجماعته، وجماعة السلطان أحمد بن أويس [متملك بغداد «7» ] وجماعة من
التركمان الجشارية، وأحمد بن بشارة بعشرانه «8» وعيسى بن الكابولىّ
بعشرانه، ونادى شيخ بدمشق قبل خروجه منها: من أراد النهب والكسب فعليه
(12/311)
بمصر «1» ، فاجتمع عليه خلائق، وسار معه
مائة جمل تحمل مكاحل ومدافع وآلات الحصار، وولى الأمير ألطنبغا
العثمانى نيابة صفد كما كان أولا، وسار شيخ بمن معه من العساكر حتى
وافى مدينة صفد، فأرسل شيخ بالأمير علّان إلى بكتمر جلّق يكلّمه فى
تسليم مدينة صفد، فلم يذعن إليه بكتمر وأبى إلا قتاله، وقال: ماله عندى
إلا السيف؛ فحينئذ ركب شيخ ويشبك بمن معهما وأحاطا بقلعة صفد «2» ،
وحصراها من جميع جهاتها، وقد حصنها بكتمر وشحنها بالرجال، وقام يقاتل
شيخا أتم «3» قتال فاستمر الحرب بينهم أياما كثيرة خرح فيها من أصحاب
شيخ نحو ثلاثمائة رجل، وقتل أزيد من خمسين نفسا.
وبينما هم فى قتال صفد إذ ورد عليهم الخبر بقدوم جكم إلى دمشق، ففرحوا
بذلك، ولم يمكنهم العود إلى دمشق إلا عن فيصل من أمر صفد.
وكان خروج جكم من حلب فى حادى عشر شهر رمضان، وسار حتى قدم دمشق، وقد
حضر إليه شاهين دوادار الأمير شيخ يستدعيه، فإن شيخا كان أرسله إليه
قبل خروجه إلى صفد بعد عود سودون الحمزاوى وسودون الظريف من طرابلس،
وقبل خروج جكم من حلب سلّم قلعتها إلى الأمير شرف الدين موسى ابن يلدق،
وعمل حجّابا وأرباب وظائف، وعزم على أنه يتسلطن ويتلقب بالملك العادل.
(12/312)
ثم بدا له تأخير ذلك، وقدم دمشق لمرافقة
شيخ ويشبك ومن معهما، ووصل إلى دمشق ومعه الأمير قانى باى وتغرى بردى
القجقارى وجماعة كبيرة، فخرج من بدمشق من أمراء مصر والشام جميعهم إلى
لقائه، وأنزل بالميدان، فسلم جكم على الأمراء سلام السلاطين على
الأمراء، وأخذ يترفع عليهم ترفعا زائدا أوجب تنكرهم عليه فى الباطن،
إلا أن الضرورة قادتهم إلى الانقياد إليه، فأكرموه على رغمهم، وأنزلوه
وكلّموه فى القيام معهم، فأجاب، وأمرهم أن يكتبوا ليشبك وشيخ بقدومه
إلى دمشق، فكتبوا إلى يشبك وشيخ بذلك، وأخذ جكم فى إظهار شعار السلطنة
مع خدمه وأصحابه، فشق على الأمراء ذلك، وما زالوا به بالملاطفة حتى ترك
ذلك إلى وقته، وأقام معهم بدمشق إلى ليلة الأحد سابع عشرين شهر رمضان
من سنة سبع وثمانمائة المذكورة، فخرج من دمشق وتوجه مخفّا إلى طرابلس
ليجمع عساكر طرابلس، وترك ثقله «1» بدمشق، وورد عليه الخبر أن دمرداش
لما فر منه ركب البحر وتوجه إلى دمياط.
ثم قدم إلى مصر فى رابع عشرين شهر رمضان المذكور فهدأ سرّجكم بذلك عن
أمر حلب.
وأما يشبك وشيخ بمن معهما من الأمراء والعساكر لما طال عليهم القتال
على مدينة صفد، وعجزوا عن أخذها، تكلموا فى الصلح مع بكتمر حتى تم لهم
ذلك، واصطلحوا وتحالفوا، ونزل إليهم بكتمر جلّق فى يوم الاثنين حادى
عشرين شهر رمضان بعد أن كانت مدة القتال بينهم [على صفد «2» ] اثنين
وعشرين يوما، وعاد شيخ إلى دمشق وهو مجروح، ويشبك الشعبانى وهو مجروح
أيضا، و چاركس المصارع وهو مجروح.
(12/313)
وأما عساكرهم فغالبهم أثخنته الجراح،
فعندما أقاموا بدمشق قدم عليهم الأمير جكم من طرابلس بعد أن أرسلوا
يستحثونه على سرعة المجىء إليهم غير مرة فخرجوا لتلقّيه وسلّموا عليه،
وعادوا به إلى دمشق وهما فى غاية الحنق من جكم، وهو أنه لما وافاهما
جكم ترجّل إليه الأمير يشبك عن فرسه إلى الأرض، وسلّم عليه فلم يعبأ به
جكم، ولا التفت إليه، لأنه كان غريمه فيما تقدّم ذكره، فشق ذلك على
الأمير شيخ، ولام يشبك على ترجّله.
ثم عتب شيخ جكم على ما وقع منه فى عدم إنصاف يشبك، ونزل «1» جكم
بالميدان وجلس فى صدر المجلس، وجلس يشبك عن يمينه، وشيخ عن يساره، فكاد
شيخ ويشبك أن يهلكا فى الباطن، ولم يسعهما إلا الإذعان لتمام أمرهما.
ثم أمرهم جكم ألّا يفعلوا شيئا إلا بمشاورته، فاتفقوا على منع الدعاء
للسطان الملك الناصر فرج بمنابر دمشق، فوقع ذلك للخطباء، وذكروا «2»
اسم الخليفة فى الخطبة فقط.
وكان الأمير شيخ قبل قدوم جكم إلى دمشق أفرج عن السلطان أحمد بن أويس
صاحب بغداد من سجن دمشق، وأنعم عليه بمائة ألف درهم فضة وثلاثمائة فرس.
وأنعم أيضا على قرا يوسف بمائة ألف وثلاثمائة «3» فرس، وأخرج عدة كبيرة
من أمراء مصر إلى جهة غزة [بعد أن حمل إلى كل منهم مائة ألف درهم فضة
«4» ] وهم: الأمير تمراز الناصرىّ، وابنه الأمير سودون بقجة «5» ،
وسودون الحمزاوى،
(12/314)
ويلبغا الناصرى، وإينال حطب، و چاركس
المصارع بعد أن حمل شيخ أيضا إلى كل منهم مائة ألف درهم فضة، ولم يتأخر
بدمشق من أعيان الأمراء إلّا الأمير يشبك الدوادار والأمير شيخ نائب
الشام، وأقاما فى انتظار الأمير جكم [حتى قدم عليهما جكم «1» ] حسبما
تقدّم ذكره، وبعد قدوم جكم أجمعوا على المسير إلى جهة مصر، وبرزوا
بالخيام إلى قبة يلبغا فى يوم رابع عشر ذى القعدة.
ثم خرج الأمير شيخ والأمير يشبك وقرا يوسف من دمشق فى يوم عشرينه «2»
وساروا إلى الخربة «3» فافترقوا منها. فتوجه يشبك وقرا يوسف إلى صفد
لقتال نائبها بكتمر جلق ثانيا، فإنه بلغهم أنه مستمر على طاعة السلطان.
وتوجه شيخ إلى قلعة الصّبيبة وبها ذخائره وحريمه.
فلما بلغ بكتمر جلق مجىء العسكر لقتاله استعد هو أيضا لقتالهم، وقد قوى
قلبه، فإنه بلغه أن علّان نائب حماة دخل فى طاعة السلطان وخالف
الأمراء، وكذلك شيخ السليمانى المسرطن نائب طرابلس، فإنه دخل فى طاعة
السلطان، واستولى على طرابلس واستفحل أمره، وأن الأمير شيخا السليمانى
نائب طرابلس بعد أخذ طرابلس قدم عليه البريد بولاية «4» قانى باى على
طرابلس، فخرج منها شيخ السليمانى إلى حماة، فأشار عليه علّان نائب حماة
أنه لا يسلّم طرابلس لقانى باى حتى يراجع السلطان ويعلمه بما يترتب على
عزله من الفساد، فعاد شيخ إلى طرابلس، فبهذه الأخبار ثبت بكتمر جلق على
طاعة السلطان وقتال الأمراء.
(12/315)
ولما قارب يشبك، وقرا يوسف صفد أخرج بكتمر
كشّافته «1» بين يديه، ونزل جسر يعقوب «2» ، فالتقى كشافته بأصحاب يشبك
وقرا يوسف، فاقتتلوا قتالا شديدا ظهر فيه الصفديون «3» ، وأخذوا من
الشاميين عشرة أفراس، فعاد يشبك وقرا يوسف إلى طبرية «4» ، ونزلوا بها
حتى قدم عليهم الأمير شيخ نائب الشام.
ثم ساروا جميعا إلى غزة، وقد تقدّمهم الأمير جكم ونزل على الرملة «5» .
وأما أمراء الديار المصرية فإن السلطان الملك الناصر لما تحقق اتفاق
الأمير شيخ المحمودى نائب الشام مع يشبك ورفقته، وبلغه أخبارهم مفصّلا،
استشار الأمراء فى أمرهم فأجمعوا على خروج السلطان لقتالهم، فتجهّز
السلطان، وعلّق جاليش السفر فى ثانى ذى القعدة «6» بالطبلخاناة
السلطانية على العادة.
ثم أنفق فى رابعه على المماليك السلطانية على كل مملوك خمسة آلاف درهم.
وكان صرف الذهب يوم ذاك مائة درهم المثقال، فصرف لكل واحد منهم تسعة
«7» وأربعين مثقالا، واحتاج السلطان فى النفقة المذكورة حتى اقترض من
مال أيتام الأمير قلمطاى الدوادار عشرة آلاف مثقال، ورهن عندهم جوهرا،
وجعل كسب ذلك ألف دينار ومائتى دينار، وأخذ منهم أيضا نحو ستة عشر ألف
مثقال وباعهم بها بلدة من أعمال الجيزة تسمى البراجيل «8» ، وأخذ من
[تركة «9» ] التاجر برهان
(12/316)
الدين المحلّى وغيره مالا كثيرا، ووزّع له
قاضى القضاة شمس الدين الأخنائى الشافعى خمسمائة ألف درهم على تركات
خارجة عن المودع، وكانت نفقة السلطان على خمسة آلاف مملوك.
ثم عزل السلطان الأخنائى عن قضاء «1» الشافعية بقاضى القضاة جلال الدين
عبد الرحمن البلقينى، وعزل ابن خلدون بقاضى القضاة جمال الدين يوسف
البساطىّ المالكى.
ثم قدم الخبر على السلطان بنزول الأمراء على مدينة غزة، وأخذهم
الإقامات «2» المجهّزة للعساكر السلطانية.
وكانت غزة قد غلابها الأسعار لقلّة الأمطار، وبلغت الويبة القمح مائة
وعشرين درهما، فعند ذلك جد السلطان الملك الناصر فى حركة السفر،
والاستعداد للحرب.
وأما أمر الأمراء فإنه خرج جاليشهم من مدينة غزة إلى جهة الديار
المصرية فى يوم الأحد ثانى ذى الحجة.
ثم سار من الغد الأمير شيخ ويشبك وجكم ببقية عساكرهم، واستنابوا بغزة
الأمير ألطنبغا العثمانى.
ثم قدم الخبر على جناح الطير من بلبيس بنزول الأمراء على قطيا، فكثرت
حركات العسكر بالقاهرة، وخرجت مدوّرة «3» السلطان إلى الرّيدانيّة خارج
القاهرة، واختبط العسكر واضطرب لسرعة السفر.
(12/317)
ثم ركب السلطان من قلعة الجبل بأمرائه
وعساكره فى يوم السبت ثامن ذى الحجة من سنة سبع وثمانمائة، وسار حتى
نزل بالريدانية خارج القاهرة، وبات بها، وقد أقام من الأمراء بباب
السلسلة بكتمر الركنى رأس نوبة الأمراء وجماعة أخر بالقاهرة.
وبينما السلطان بالريدانية ورد عليه الخبر بنزول الأمراء بالصالحية فى
يوم التّروية وأخذوا ما كان بها من الإقامات السلطانية، فرحل السلطان
من الريدانية فى يوم الأحد تاسعه، ونزل العكرشة «1» ، ثم سار منها
ليلا، وأصبح ببلبيس وضحّى بها، وأقام عليها يومى الاثنين والثلاثاء،
ورحل من مدينة بلبيس بكرة نهار الأربعاء، ونزل على منزلة السعيدية «2»
، فأتاه كتب الأمراء الثلاثة، وهم: جكم، وشيخ، ويشبك بأن سبب حركتهم ما
جرى بين الأمير يشبك وبين إينال باى بن قجماس، وطلبوا منه أن يخرج
إينال باى المذكور ودمرداش المحمدى نائب حلب من مصر، وأن يعطى لكلّ من
يشبك وجكم وشيخ ومن معهم بمصر والشام ما يليق بهم من النيابات
والإقطاعات لتخمد هذه الفتنة باستمرارهم على الطاعة، ولحقن «3» الدماء
ويعمر بذلك ملك السلطان، وإن لم يكن ذلك تلفت أرواح كثيرة، وخرّبت بيوت
عديدة.
وكانوا أرادوا هذه المكاتبة من الشام، ولكن خشوا أن يظنّ بهم العجز،
فإنه ما منهم إلا من جعل الموت نصب عينيه، فلم يلتفت السلطان إلى ذلك،
ولم يأمر
(12/318)
بكتابة جواب لهم، وكان ذلك مكيدة من
الأمراء حتى كبسوا على السلطان فى ليلة الخميس وهم فى نحو ثلاثة آلاف
فارس وأربعمائة تركمانى من أصحاب قرا يوسف.
وبينما السلطان على منزلة السعيدية ورد الخبر على الوالد من بعض أصحابه
ممن هو صحبة الأمراء، أن الأمراء اتفقوا على تبييت السلطان والكبس عليه
فى هذه الليلة، فأعلم الوالد السلطان وحرّضه على الركوب بعساكره من
وقته، فمال إليه السلطان، فأخذ الأمير بيغوت وغيره يستبعد ذلك، ولا
زالوا بالسلطان حتى فتر عزمه عن الركوب، فعاد الوالد إلى وطاقه «1» ،
وأمر جميع مماليكه بالركوب بآلة الحرب.
وبينما هو فى ذلك إذ ثارث غبرة عظيمة وهجّة فى الناس، وقبل أن يسأل
السلطان عن الخبر طرقه الأمراء على حين غفلة، فركب السلطان فى الليل
بمن معه واقتتل الفريقان قتالا شديدا من بعد عشاء الآخرة إلى بعد نصف
الليل، جرح فيه جماعة كثيرة من الطائفتين، وقتل الأمير صرق الظاهرى
صبرا بين يدى الأمير شيخ المحمودى نائب الشام، لأن السلطان كان ولاه
عوضه نائب الشام، وانهزم السلطان وركب وسار «2» عائدا على الهجن إلى
جهة الديار المصرية، ومعه سودون الطيار وسودون الأشقر، وساقوا إلى أن
وصلوا إلى القلعة، وتفرقت العساكر السلطانية وانهزموا وتركوا أثقالهم
وخيامهم، وسائر أموالهم غنمها الشاميون، ووقع فى قبضة الأمراء من
المصريين الخليفة والقضاة، والأمير شاهين الأفرم، والأمير خير بك نائب
غزة، ونحو ثلاثمائة مملوك من المماليك السلطانية وغيرهم، وقدم
المنهزمون من السلطانية إلى القاهرة فى يوم الخميس ثالث عشر ذى الحجة،
ولم يحضر السلطان
(12/319)
ولا الأمراء الكبار، فكثر الإرجاف وماج
الناس، وانتهبت عدة حوانيت حتى قدم السلطان قريب العصر ومعه الأمراء،
وقد قاسى من [مرّ «1» ] العطش والتعب مالا يوصف، فسر الناس بقدومه،
وطلع إليه الأمراء والعساكر وباتوا تلك الليلة، وأصبح السلطان يتهيأ
للقاء الأمراء، وقبض على يلبغا السالمىّ وسلّمه لجمال الدين البيرىّ
الأستادار، فعاقبه وصادره، وشرع أمر السلطان كل يوم فى زيادة لعدم قدوم
العسكر الشامى إلى القاهرة.
فلما كان آخر نهار الأحد نزلت الأمراء بالريدانية خارج القاهرة.
ثم أصبحوا فى بكرة نهار الاثنين ركبوا وزحفوا على القاهرة، فأغلقت
أبواب المدينة وتعطلت الأسواق عن المعايش، ومشوا حتى وصلوا قريبا من
دار الضيافة «2» بالقرب من قلعة الجبل، فقاتلهم السلطانية من بكرة نهار
الاثنين المذكور إلى بعد الظهر، فلما أذّن الظهر أقبل جماعة كثيرة من
الأمراء إلى جهة السلطان طائعين: منهم الأمير يلبغا الناصرى، وآسنباى
أمير ميسرة الشام المعروف بالتركمانى، وسودون اليوسفى، وإينال حطب،
وجمق، فلما وقع ذلك اختل أمر الأمراء، وعزم جماعة منهم على العود إلى
البلاد الشامية فحمل ما خف من أثقاله وعاد، وفعل ذلك جماعة كبيرة بعد
أن أفرج شيخ عن الخليفة والقضاة وغيرهم، فتسلّل عند ذلك الأمير يشبك
الشعبانى الدوادار، والأمير تمراز الناصرى أمير سلاح، والأمير جاركس
القاسمى المصارع، والأمير قطلوبغا الكركى فى جماعة أخر، واختفوا
بالقاهرة وظواهرها.
فلما وقع ذلك ولى الأمير جكم والأمير شيخ والأمير طولو وقرا يوسف فى
طائفة يسيرة، وقصدوا البلاد الشأمية، فلم يتبعهم أحد من عسكر السلطان.
(12/320)
ثم نادى السلطان بالأمان لكل أحد، فطلع
إليه جماعة، فقبض عليهم وقيّدهم وبعث بهم إلى سجن الإسكندرية، وخمدت
الفتنة، وانجلت «1» هذه الواقعة عن إتلاف مال كثير من العسكرين، ذهب
فيها من الخيل والبغال والجمال والسلاح والثياب ما لا يدخل تحت حصر من
غير فائدة.
ثم أخذ الملك الناصر فى تمهيد أمور دولته وإصلاح الدولة والمفرد، فقبض
على الصاحب تاج الدين بن البقرى، وسلّمه لجمال الدين الأستادار،
واستقرّ عوضه فى الوزارة فخر الدين ماجد بن غراب.
وكان أخوه سعد الدين إبراهيم بن غراب مع العسكر الشامى، فلما قدم معهم
اختفى بالقاهرة، ثم ترامى على الأمير إينال باى بن قجماس، فجمع بينه
وبين السلطان ليلا، ووعده بستين ألف دينار.
وأصبح يوم الأربعاء تاسع عشر ذى الحجة طلع سعد الدين بن غراب إلى
القلعة فخلع عليه السلطان وجعله مشيرا.
ثم فى ثالث عشرينه خلع السلطان على الأمير نوروز الحافظى، وكان ممن قدم
مع العسكر، باستقراره فى نيابة دمشق عوضا عن الأمير شيخ المحمودى، وعلى
بكتمر جلّق باستقراره على نيابة صفد، وعلى سلامش حاجب غزّة بنيابة
غزّة.
وأما جكم وشيخ فإنهما قدما غزّة فى نحو خمسمائة فارس أكثرهم من
التركمان أصحاب قرا يوسف، وقد غنموا شيئا كثيرا، وتفرّقت عساكر شيخ،
وتلفت أمواله وخيوله، ومضى إلى دمشق، فخرج إليه الأمير بكتمر جلق
والأمير شيخ السليمانى المسرطن نائب طرابلس، فهرب منهما، فتتبّعاه إلى
عقبة «2» فيق، فنجا بنفسه
(12/321)
فلم يدركاه، ودخل دمشق وهو فى أسوأ حال،
فوجد السلطان أحمد بن أويس صاحب بغداد قد فرّ من دمشق إلى جهة بلاده فى
ليلة الأحد سادس عشر ذى الحجة، وكان قد تأخر بدمشق ولم يتوجه إلى نحو
الديار المصرية صحبة الأمراء.
ثم إن شيخا أوقع الحوطة على بيوت الأمراء الذين خامروا عليه وتوجهوا
إلى مصر، وأخذ فى إصلاح أمره ولمّ شعثه.
وأما جكم فإنه لما فارق حلب كان «1» بها عدّة من أمرائها، ورفعوا سنجق
«2» السلطان بقلعة حلب، فاجتمع إليهم العسكر، فحلف بعضهم لبعض على طاعة
السلطان وقدم ابنا شهدى الحاجب ونائب القلعة من عند التركمان البياضية
إلى حلب، وقام بتدبير أمور حلب الأمير يونس الحافظى، وامتدت أيدى عرب
العجل ابن نعير وتراكمين ابن صاحب الباز إلى معاملة حلب، فقسموها، ولم
يدعوا لأحد من الأمراء والأجناد شيئا، كل ذلك قبل قدوم جكم إليها من
مصر.
وأما السلطان فإنه رسم فى أواخر ذى الحجة بانتقال الأمير علّان
اليحياوى نائب حماة إلى نيابة حلب عوضا عن جكم، وحمل إليه التقليد
والتشريف الأمير إينال الخازندار، واستقرّ الأمير دقماق المحمدى فى
نيابة حماة عوضا عن علّان المذكور، واستقرّ الأمير بكتمرجلق نائب صفد
فى نيابة طرابلس عوضا عن شيخ السليمانى المسرطن، وتوجه بتقليده الأمير
جرباش العمرى، واستقر عوضه فى نيابة صفد الأمير بكتمر الركنى رأس نوبة
الأمراء درجة إلى أسفل.
[ما وقع من الحوادث سنة 808]
ثم فى ثالث المحرم سنة ثمان وثمانمائة قدم مبشر الحاج وأخبر بأنه كان
أشيع بمكة المشرفة قدوم تيمور لنك إليها، فاستعد صاحب مكة لذلك، فلم
يصحّ ما أشيع.
(12/322)
ثم قدم رسل الأمير شيخ نائب الشام إلى
السلطان بديار مصر، وهم شهاب الدين أحمد بن حجّى أحد خلفاء الحكم
بدمشق، والشريف ناصر الدين محمد بن على نقيب الأشراف، والشيخ المعتقد
محمد بن قويدار، والأمير يلبغا المنجكى، ومعهم كتبه تتضمن الترقق
والاعتذار عما وقع منه، وتسأل استقراره على عادته فى نيابة دمشق، فلم
يلتفت السلطان إلى قوله، ومنع رسله من الاجتماع بأحد.
ثم فى رابع عشرين المحرم سار الأمير نوروز الحافظى إلى نيابة دمشق وخرج
الأمراء لوداعه، ونزل بالريدانية ومعه متسفرّه «1» الأمير برد بك
الخازندار.
ثم وقعت الوحشة بين السلطان وبين الأمير إينال باى بن قجماس الأمير
آخور، فقبض السلطان فى يوم الاثنين سادس صفر على الأمير يشبك بن أزدمر
رأس نوبة النوب، وعلى الأمير تمر، وعلى الأمير سودون، وهما من إخوة
سودون طاز، فاختفى الأمير إينال باى أمير آخور ومعه الأمير سودون
الجلب، وأحاط السلطان بدورهم، ثم قيّد الأمراء وأرسلهم إلى سجن
الإسكندرية.
وأما إينال باى فإنه دار على جماعة من الأمراء ليركبوا معه، فلم يؤهّله
أحد لذلك، فاختفى إلى يوم الجمعة عاشره، فظهر، وطلع به الأتابك بيبرس
إلى القلعة، فكثر الكلام بين الأمراء حتى آل الأمر إلى مسك إينال باى
وإرساله إلى ثغر دمياط بطّالا.
ثم فى خامس عشرين صفر فرّق السلطان إقطاعات الأمراء الممسوكين، فأنعم
بإقطاع إينال باى على الوالد، وزاده إمرة طلبخاناه، وأنعم بإقطاع
الوالد على الأمير دمرداش المحمدى نائب حلب كان، وبإقطاع دمرداش على
الأمير أزبك الإبراهيمى.
(12/323)
وجميع هذه الإقطاعات تقادم ألوف، لكن شيئا
أحسن من شىء فى كثرة المغلّ.
وأنعم على الأمير بيبرس الصغير الدوادار بتقدمة ألف قبل أن تكمل لحيته،
وعلى الأمير بشباى الحاجب بتقدمة ألف، وعلى الأمير علّان بتقدمة ألف،
وعلى الأمير قراجا بإمرة عشرين، وأنعم بطبلخانات سودون الجلب على
الأمير أيتمش الشعبانى.
ثم أخلع على الأمير جرباش الشيخى رأس نوبة ثانى باستقراره أمير آخورا
كبيرا عوضا عن إينال باى.
وأما الأمير شيخ فإنه توجه صحبة الأمير جكم وقرا يوسف لحرب نعير.
ثم اختلفوا، فمضى جكم إلى طرابلس، وتوجه قرا يوسف إلى جهة الشرق عائدا
إلى بلاده، وعاد الأمير شيخ من البقاع ونزل سطح المزّة «1» ومعه خواصّه
فقط.
ثم توجه إلى الصّبيبة «2» هاربا من نوروز الحافظى، فدخل نوروز إلى دمشق
فى يوم الثلاثاء ثانى عشرين صفر من غير مدافع لضعف الأمير شيخ عن
مقاومته وقتاله.
وأما السلطان، فإنه أخلع على الأمير بشباى الحاجب باستقراره رأس نوبة
النوب عوضا عن يشبك بن أزدمر، وأخلع على الأمير أرسطاى باستقراره حاجب
الحجّاب بعد بشباى.
(12/324)
ثم فى يوم الثلاثاء وقع بالديار المصرية
فتنة، وكثر الكلام بين الأمراء إلى أن اتفق جماعة من المماليك الچركسية
وسألوا السلطان القبض على الوالد وعلى الأمير دمرداش المحمدى، وعلى
الأمير أرغون من بشبغا وجماعة أخر من كون السلطان اختص بهم، وتزوّج
بكريمتى على كره من الوالد، وكونه أيضا أعرض عن الچراكسة وأمسك إينال
باى، فخافوا أن تقوى شوكة هؤلاء عليهم، واتفقوا واجتمعوا على الأتابك
بيبرس، وتأخروا عن الخدمة السلطانية، وكثر كلام القوم فى ذلك إلى أن
طلب السلطان الأمراء واستشارهم فيما يفعل، فقال له دمرداش:
المصلحة [تقتضى] قتالهم «1» ، وأنا كفء هؤلاء الچراكسة، والسلطان لا
يتحرك من مجلسه فنهره الوالد وقال له ما معناه: نقاتل من؟ نقاتل
خشداشيّتك «2» ، كلّنا مماليك السلطان ومماليك أبيه مهما شاء السلطان
فعل «3» فينا وفيهم.
هذا وقد ظهر الملل على السلطان من كثرة الفتن، ولحظ الوالد منه ذلك،
فإنه قال فيما بعد: سمعته يقول فى ذلك اليوم: وددت لو كنت كما كنت ولا
أكون سلطانا.
ثم أمر السلطان الوالد أن يختفى حتى ينظر السلطان فى مصلحته، وأمر
دمرداش أيضا بذلك، وانفض المجلس من غير إبرام أمر.
ثم أصبح الناس يوم الأربعاء سابع شهر ربيع الأول من سنة ثمان المذكورة،
وقد ظهر الأمير يشبك الشعبانى الدوادار، والأمير تمراز الناصرى أمير
سلاح، والأمير جاركس القاسمى المصارع، والأمير قانى باى العلائى،
وكانوا مختفين بالقاهرة من يوم واقعة السعيدية.
(12/325)
وخبر ظهورهم أن الأتابك بيبرس ركب إلى
السلطان، وأخبره بمواضع الأمراء المذكورين، ووافقه على مصالحة الچراكسة
وإحضار الأمراء من اختفائهم، والإفراج عن إينال باى وغيره، فرضى
السلطان بذلك، وتقرر الحال على ذلك، وطلع الأمراء المذكورون من الغد فى
يوم الخميس ثامن شهر ربيع الأوّل المذكور، فأخلع «1» السلطان على
الأمير سودون المحمّدى باستقراره أمير آخورا كبيرا عوضا «2» عن جرباش
الشيخى، وعوده إلى إقطاعه إمرة طبلخاناة ووظيفنه رأس نوبة.
ثم فى عاشره طلع الأمير يشبك الدوادار والأمير تمراز الناصرى أمير سلاح
والأمير جاركس القاسمى المصارع وجماعة أخر إلى القلعة، وقبّلوا الأرض
بين يدى السلطان، فأخلع عليهم خلع الرضا، ونزل كل واحد إلى داره.
ثم فى خامس عشرة قدم الأمير قطلوبغا الكركى، وإينال حطب، وسودون
الحمزاوى، ويلبغا الناصرى، وأسندمر الناصرى، وتمر من سجن الإسكندرية،
وهؤلاء الذين كان السلطان نادى لهم بالأمان بعد وقعة السعيدية، فلما
طلعوا له قبض عليهم وسجنهم بالإسكندرية وهم رفقة يشبك وشيخ و چكم.
ثم قدم الأمير إينال باى بن قجماس من ثغر دمياط ومعه تمان تمر الناصرى.
ثم قدم الأمير يشبك بن أزدمر أيضا من سجن الإسكندرية.
ثم أمسك السلطان القاضى فتح الدين فتح الله كاتب «3» السرّ، وولّى عوضه
سعد الدين إبراهيم بن غراب، وألزم فتح الدين بحمل ألف ألف درهم.
ثم ظهر الأمير دمرداش [نائب حلب «4» ] من اختفائه، فأخلع السلطان عليه
نيابة غزّة، فسار فى يوم السبت رابع عشرينه، وخلع السلطان أيضا على
يشبك بن
(12/326)
أزدمر بنيابة ملطيّة، فامتنع من ذلك، فأكره
حتى لبس الخلعة «1» ، ووكّل به الأمير أرسطاى الحاجب والأمير محمد بن
جلبان الحاجب حتى أخرجاه من فوره إلى ظاهر القاهرة.
ثم بعث السلطان إلى الأمير أزبك الإبراهيمى الظاهرى المعروف بخاص خرجى
«2» ،- وكان تأخّر عن طلوع الخدمة- بأن يستقرّ فى نيابة طرسوس «3» ،
فأبى أن يقبل والتجأ إلى بيت الأمير إينال باى، فاجتمع طائفة من
المماليك ومضوا إلى يشبك بن أزدمر، وردّوه فى ليلة الجمعة ثالث عشرين
شهر ربيع الأوّل وقد وصل قريبا من سرياقوس، وضربوا الحاجب المرسّم
عليه، وصار العسكر فرقتين، وأظهر المماليك الجراكسة الخلاف، ووقفوا تحت
القلعة يمنعون من يقصد الطلوع إلى السلطان، وجلس الأتابك بيبرس بجماعة
من الأمراء فى بيته، وصار السلطان بالقلعة وعنده عدّة أمراء، وتمادى
الحال على ذلك يوم الخميس والجمعة والسبت والسقالة بينهم.
فلما كان يوم السبت نزل السلطان من القلعة إلى باب السلسلة، واجتمع
عنده بعض الأمراء لإصلاح الأمر، فلم يفد ذلك، وباتوا على ما هم عليه،
وأصبحوا يوم الأحد خامس عشرينه وقد كثروا وطلبوا من السلطان الوالد
أرغون من بشبغا.
وكان الوالد قد ظهر من يوم أخرج دمرداش إلى نيابة غزة، فلم يستجر أحد
يتكلم فى خروجه من القاهرة، واستمر على إمرته، فأبى الملك الناصر أن
يرسله إليهم،
(12/327)
فقال الوالد: هذا أمر يطول، ولا بدّ من
النزول، فنزل إليهم ومعه أرغون، وكلّم الأمراء فى سبب طلبهم إياه،
وخشّن للأتابك بيبرس فى القول، فإنه كان مسفّر الوالد لما ولى نيابة
حلب فى أيام الملك الظاهر برقوق، فلم يتكلّم بيبرس ولا غيره بكلمة
واحدة، وسكت الجميع.
فلما طال المجلس قال الوالد: ما تتكلموا، فعندها «1» تكلّم شخص من
الخاصكية الظاهرية يقال له: قرمش الأعور، وهو الذي قطع رأسه فى دولة
الملك الأشرف برسباى من أجل جانى بك الصوفى حسبما يأتى ذكره، وقال
قرمش: ياخوند، المقصود أنك تخرج من الديار المصرية حتى تسكن هذه
الفتنة، ثم تعود بعد أيام أو يعطيك السلطان ما تختار من البلاد. فقال
الوالد: بسم الله حتى أشاور السلطان ثم أسافر، وخرج فلم يجرؤ أحد أن
يقبضه ولا يرسّم عليه، وعاد إلى بيته ولم يطلع إلى السلطان.
وكان سكنه بالبيت الذي بباب الرّميلة تجاه مصلّاة المؤمنىّ «2» ، وأقام
به يومه وتجهّز وخرج فى الليل فى نحو مائة مملوك من خواصّه، فلم يقف له
أحد على خبر، وسار من البرّية إلى القدس الشريف فى دون الخمسة أيام،
ولم يجتز بقطيا خوفا من تسليط العربان عليه.
وكان لما خرج من بيت بيبرس أرسل إليه السلطان يعلمه أنه أيضا يريد
يختفى ويترك السلطنة، فلهذا جدّ الوالد فى السير لئلا يخرج القوم فى
أثره ويقبضون عليه.
(12/328)
فلما كان وقت الظهر من يوم خروج الوالد من
مصر وهو يوم الأحد خامس عشرين شهر ربيع الأوّل فقد السلطان الملك
الناصر فرج بن برقوق من قلعة الجبل ولم يعرف له خبر.
وسبب تركه السلطنة أنه كان فى يوم النوروز جلس السلطان مع جماعة من
الأمراء والخاصكية من مماليك أبيه، وشرب معهم حتى سكر، ثم ألقى بنفسه
إلى فسقيّة هناك، فألقى الجماعة أنفسهم معه، وقد غلب على السلطان
السكر، وصار يسبح معهم فى الماء ويمازحهم، وترك الوقار، فجاء من خلفه
الأمير أزبك الإبراهيمى المعروف بخاصّ خرجى، وقيل غيره، وأزبك الأشقر
«1» ، وأغمّه فى الماء مرارا وهو يمرق من تحته كأنه يمازحه حتى قبض
عليه وغرّقه فى الماء حتى كادت نفسه تزهق، ففطن به بعض مماليك أبيه من
الأروام ممن كان معهم أيضا فى الفسقية، وخلّصه منه، وأفحش فى سبّ أزبك
المذكور، وأراد قتله، فمنعه السلطان من ذلك، وقال: كان يلعب معى،
وأسرّها فى نفسه.
ثم طلع السلطان من الفسقيّة، وذهب كل واحد إلى حال سبيله، فذكر السلطان
بعد ذلك للوالد ما وقع له مع أزبك المذكور، وأمره أن يكتم ذلك لوقته،
فأخذ الوالد يزوّل عنه ذلك ويهوّنه عليه.
ثم عرّف السلطان جماعة من أكابر أمراء الجراكسة بذلك، فلم يلتفتوا
لقوله وقالوا: لم يرد بذلك إلّا مباسطة السلطان، فعند ذلك تحقّق
السلطان أنهم يريدون قتله، وكان ذلك بعد خروج الأمراء من السجن وظهور
يشبك ورفقته، وقد كثروا وعظم جمعهم، فلم يجد الملك الناصر بدّا من أن
يفوز بنفسه ويترك لهم ملك مصر.
(12/329)
ولما أراد النزول من القلعة ليختفى
بالقاهرة قام ومعه بكتمر مملوك القاضى سعد الدين بن غراب، ويوسف بن
قطلوبك صهر ابن غراب، ونزلوا من باب السرّ الذي يلى القرافة، وساروا
على بركة الحبش «1» ، ونزلوا منها فى مركب، وتركوا الخيل وتغيّبوا
نهارهم كلّه فى البحر حتى دخل الليل، فساروا بالمركب إلى بيت سعد الدين
ابن غراب وهو فيما بين الخليج «2» وبركة الفيل «3» بالقرب من قنطرة
طقزدمر «4» ، فلم يجدوه فى داره، فمروا على أقدامهم حتى باتوا فى بيت
بالقاهرة لبعض معارف بكتمر.
ثم بعثوا لابن غراب بمجيء السلطان إلى عنده، فهيأ له سعد الدين مكانا
من داره، وأنزله فيه من غير أن يعلم أحد به.
وأما الأمراء، فإنه لمّا بلغهم ذهاب السلطان الملك الناصر [خرج المذكور
«5» ] فى يوم الأحد خامس عشرين شهر ربيع الأوّل من سنة ثمان وثمانمائة،
بادروا بالطلوع إلى القلعة، وهم طائفتان: الطائفة التى كانت خالفت
السلطان الملك الناصر، وركبوا عليه وقاتلوه أياما، ثم توجهوا إلى الشام
وعادوا إلى الديار المصرية وصحبتهم جكم وشيخ وقرا يوسف وواقعوه
بالسعيدية «6» ، وكسروه. ثم اختفوا؛ ورأسهم يشبك الشعبانى الدوادار بمن
كان معه من الأمراء وقد مر ذكرهم فى عدّة مواضع، والطائفة الأخرى
كبيرهم بيبرس الأتابك، وسودون الماردانى الدوادار الكبير، وإينال باى
وغيرهم.
فلما طلعوا الجميع إلى القلعة، منعهم الأمير سودون تلى المحمدى الأمير
آخور الكبير من الطلوع إلى القلعة، فصاروا يتضرّعون إليه من نصف النهار
إلى بعد
(12/330)
غروب الشمس، حتى مكّنهم من العبور من باب
السلسلة، فطلعوا ومعهم الخليفة المتوكل على الله والقضاة الأربعة،
وتكلموا فيمن ينصّبوه سلطانا، حتى اتّفقوا على سلطنة الأمير عبد العزيز
بن الملك الظاهر برقوق، فإنه ولى عهد أخيه فى السلطنة حسبما قرّره
والده الملك الظاهر برقوق قبل وفاته، فطلبوه من الدّور السلطانية،
فمنعته أمه خوند قنّق باى أوّلا، ثم دفعته لهم فأحضروه، وتم أمره،
وتسلطن حسبما نذكره فى محلّه من ترجمته، وخلع الملك الناصر فرج من
السلطنة وسنّه نحو سبع عشرة سنة تخمينا، فكانت مدّة تحكم الملك الناصر
على مصر من يوم مات أبوه الملك الظاهر برقوق إلى يوم خلع ست سنين وخمسة
أشهر وأحد عشر يوما [والله أعلم «1» ] .
«انتهى الجزء الثانى عشر من النجوم الزاهرة، ويليه إن شاء الله تعالى
الجزء الثالث عشر، وأوّله: السنة الأولى من سلطنة الملك الناصر فرج بن
الظاهر برقوق الأولى على مصر» .
النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة، المقدمةج 13، ص: 1
[الجزء الثالث عشر]
بسم الله الرّحمن الرّحيم
تقديم
كتاب النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة لأبى المحاسن يوسف بن تغرى
بردى المتوفى فى أخريات سنة أربع وسبعين وثمانمائة هجرية من الكتب
القلائل التى جعلت الأحداث فى مصر وما يدور فى فلكها من الأقاليم
والأطراف مدار بحثها، إلا أنه ينفرد من بينها بأنه أجمعها وأسلسها لغة،
وأبعدها عن الحشو، وأكثرها تنظيما، وأشدها اهتماما بألوان الحضارة
المختلفة وتطورها على مدارج التاريخ فى الدولة العربية.
ثم هو يعدّ فى أجزائه من الأوّل إلى الثانى عشر- وهى التى تعالج الحقبة
التاريخية من سنة عشرين من الهجرة إلى سنة إحدى وثمانمائة- واسطة بين
الكتب والموسوعات التاريخية التى اهتمت بمعالجة الأحداث فى تلك الحقبة،
فهو وإن اعتمد عليها فى تأليف مادته فإنه تميز عليها فى كثير من
المواطن بأحكامه الصادقة واستنباطاته السليمة. ثم هو فيما بعد ذلك إلى
سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة من الهجرة يعتبر عمدة فى تاريخ مصر
والأطراف إذا ما قورن بغيره من الكتب التى تعرضت لأحداث ما بعد السنة
الحادية والثمانمائة من الهجرة.
النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة، المقدمةج 13، ص: 2
ومن هنا لقى هذا الكتاب اهتماما بالغا من العلماء العرب والمستشرقين
ابتداء من سنة 1855 م قشروا منه أجزاء تكاد تشمله كله. ومن قبل أمر
السلطان سليم الأول العثمانى بترجمته إلى اللغة التركية. بل ترجم إلى
اللغة اللاتينية وغيرها.
وكان لاهتمام القسم الأدبى بدار الكتب بتحقيق أجزاء منه ونشرها فضل
كبير فى تيسير الاستفادة به، ولقد بدأ فى نشره سنة 1929 م ثم توقف عن
الاستمرار فى نشره بعد أن أخرج الجزء الثانى عشر سنة 1956 م.
ثم أخذت المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر على
عاتقها مسئولية تحقيق الأجزاء الأربعة الباقية منه والتى لم يسبق نشرها
فى مصروفنا للمنهج الذي نهجه القسم الأدبى.
وأسند تحقيق هذا الجزء الثالث عشر إلى العالم الجليل الأستاذ/ حسن عبد
الوهاب ولكنه توفى إلى رحمة الله قبل أن يبدأ فى التحقيق، وتعثرت بقية
الأجزاء أيضا فى مرحلة التحقيق لأسباب مختلفة.
ولما توليت منصب رئيس مجلس إدارة المؤسسة، وأطل علينا عام الاحتفالات
بالعيد الألفى لمدينة القاهرة وجهت اهتمامى إلى دفع الأجزاء الباقية فى
مراحل التحقيق والنشر.
فأسندت المؤسسة تحقيق هذا الجزء الثالث عشر إلى الأستاذ/ فهيم محمد
شلتوت، وطلبت منه أن يفرغ جهده كله لتحقيقه وعمل فهارسه بحيث يكون
بداية فى طبع الأجزاء الأربعة الباقية. وقد قام السيد/ المحقق بواجبه
فى إخلاص وأمانة وأنجز التحقيق والفهارس على خير وجه.
النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة، المقدمةج 13، ص: 3
والجزء الثالث عشر هذا يعالج حقبة من تاريخ العالم العربى والأطراف
الدائرة فى فلكه، وهى حقبة سلطنة الملك الناصر فرج بن برقوق (801 هـ-
815 هـ) وما تخللها من سلطنة أخيه الملك المنصور عبد العزيز. ثم سلطنة
الخليفة المستعين بالله العباس، وقد شهدت فيها مصر وما والاها أحداثا
لم تشهد مثلها من قبل.
شهدت فيها غزو تيمورلنك لسوريا (802- 803 هـ) وما كان من عجز السلطان
وولاته عن دفع هذا الغزو، ثم ما كان من تلك المذابح التى تميز بها
الغزو التترى المغولى والتى لم يسجل مثلها التاريخ بشاعة وقسوة.
وشهدت هذه الحقبة أيضا أسوأ صورة للخلاف والصراع بين سلطان وكبار رجال
دولته بحيث فنى كثير منهم تحت عقوبته وبحد سيفه. ومع ذلك استمروا فى
صراعه حتى تغلبوا عليه وقتلوه بقلعة دمشق سنة 815 هـ.
وشهدت فيها قيضاصور فن النيل (806- 807 هـ) مما أدى إلى الجدب العظيم
الذي شمل البلاد وأصابها بسنة من السنين العجاف التى حلت بالدولة
الإسلامية على مدارج التاريخ.
وشهدت هذه الفترة أيضا انتشار الطاعون (808 هـ، 813 هـ) والموتان
المنتشر بين السكان شرقا وغربا وشمالا وجنوبا.
كما شهدت الغلاء الفاحش والفقر المدقع والجوع الشامل.
وانعكس أثر ذلك كله فى الحياة السياسية والاقتصادية والعمرانية ففسدت
الأحوال وتولى الأمور من لا يحسن أداءها، وتوصل كل طالب وظيفة إليها
بالرشوة والبذل، ثم تسلط بعد ذلك على رقاب ذوى الحرف والتجار والزراع
يفرض عليهم أنواع الضرائب والإتاوات، ولا يكف عن طلبها ولا يعف
النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة، المقدمةج 13، ص: 4
فى تحصيلها، وابتلى أهل الريف خاصة بكثرة المغارم وتنوّع المظالم،
فاختلت أحوالهم، وجلوا عن أوطانهم.
وكما يقول تقي الدين المقريزى «1» : «فاقتضى الحال من أجل ذلك ثورة أهل
الريف، وانتشار الزّعّار وقطاع الطريق ... وتزايدت غباوة أهل الدولة،
وأعرضوا عن مصالح العباد ... ثم إن قوما ترقوا فى خدم الأمراء يتولّفون
إليهم بما جبوا من الأموال ... فأحبوا مزيدا من القربة منهم- ولا وسيلة
أقرب إليهم من المال- فتعدوا إلى الأراضى الجارية فى إقطاعات الأمراء،
وأحضروا مستأجريها من الفلاحين وزادوا فى مقادير الأجر ... وجعلوا
الزيادة ديدنهم فى كل عام حتى بلغ الفدان- لهذا العهد- نحوا من عشرة
أمثاله قبل هذه الحوادث» .
ولقد كان ذلك الخراب الذي نزل بالديار المصرية، وقضى على كثير من
المنشآت العمرانية نتيجة للإهمال، ولاستحواز السلطان وبطانته على
أوقافها وتوجيه أرياعها إلى مصارف أخرى، وأصبح الحديث عن سنة 806 هـ-
فيما تلاها من الأزمان- يعطى صورة لأفدح ما أصيبت به الآثار العمرانية-
التى وصلت إلى قمة الفن المعمارى للعصر المملوكى والأيوبى والفاطمى- من
الهدم والخراب والاندثار.
وإنى إذ أقدم هذا الجزء الثالث عشر للقارئ فإننى أرجو أن يجد بقية
النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة، المقدمةج 13، ص: 5
الأجزاء الأربعة من الكتاب بين يديه تباعا بإذن الله، حيث إنه قد تم
تحقيقها وأخذت طريقها إلى المطابع.
ولعل نشر هذه الأجزاء من هذا الكتاب يكون بمثابة تحية من الهيئة
المصرية العامة للتأليف والنشر للقاهرة فى عام أعيادها الألفية.
والله ولى التوفيق.
شوال سنة 1389 هـ. دكتورة ديسمبر سنة 1969 م. سهير القلماوى
(12/331)
تراثنا النّجوم الزاهرة فى ملوك مصر
والقاهرة تأليف جمال الدين أبى المحاسن يوسف بن تغرى بردى الاتابكى
الجزء الثالث عشر تحقيق فهيم محمّد
شلتوت الهيئة للمصرية العامة للتأليف والنشر 1389 هـ- 1970 م
(13/1)
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على
سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
[ما وقع من الحوادث سنة 801]
السنة الأولى من سلطنة الملك الناصر فرج ابن الظاهر برقوق- الأولى على
مصر وهى سنة إحدى وثمانمائة، على أنّ والده الملك الظاهر برقوق حكم
منها إلى نصف شوّال، ثمّ حكم فى باقيها الملك النّاصر هذا.
فيها توفّى قاضى القضاة عماد الدين أحمد بن عيسى بن سليم بن جميل
الأزرقىّ العامرىّ الكركىّ الشافعىّ، قاضى قضاة الكرك «1» ، ثم الدّيار
المصرية بالقدس فى سادس شهر ربيع الأوّل، وكان فاضلا رئيسا نبيلا، وهو
أحد من قام مع الملك الظّاهر برقوق عند خروجه من سجن الكرك، وخدمه فى
أيّام حبسه بها- وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه فى ترجمة الملك الظّاهر برقوق-
ولمّا عاد الملك الظّاهر إلى ملكه عرف له ذلك، وطلبه إلى الدّيار
المصريّة، وولّاه قضاء الشّافعيّة بالدّيار المصريّة، وولّى أخاه علاء
الدين كاتب سرّ الكرك كتابة «2» سرّ مصر، ثم صرف القاضى
(13/3)
عماد الدين هذا عن القضاء برغبة منه، وولى
مشيخة الصلاحية «1» بالقدس الشّريف إلى أن مات به.
وتوفّى الأمير سيف الدين أرغون شاه بن عبد الله الإبراهيمىّ الظّاهرىّ-
يرقوق- نائب حلب بها، فى ليلة خامس عشرين صفر، وكان من أخصّاء مماليك
الملك الظّاهر برقوق؛ رقّاه إلى أن ولّاه نيابة صفد «2» ، ثم طرابلس،
ثم تقله إلى نيابة حلب بعد عزل الوالد عنها فى سنة ثمانمائة، فدام بها
إلى أن مات، وكان أميرا عاقلا ساكنا، مشكور السيرة، وتولّى بعده نيابة
حلب الأمير آقبغا الجمالى الأطروش.
وتوفّى الأمير زين الدين أمير حاج بن مغلطاى، أحد الأمراء بالدّيار
المصريّة.
فى شهر ربيع الأول، وكان له رياسة ووجاهة.
وتوفّى الشيخ الإمام العلّامة قنبر بن محمد العجمىّ السّيرامىّ «3»
الشافعى، العالم المشهور بالقاهرة، فى شعبان، وكان قدومه إليها من بلاد
العجم فى حدود سنة سبع وثمانين وسبعمائة، ونزل بجامع الأزهر، وكان
متفنّنا فى عدّة فنون من العلوم، درّس، واشتغل، وانتفع به الطلبة، وكان
تاركا للدّنيا، متقشّفا فى ملبسه، قد قنع بجبّة من لبد «4» ، وطاقيّة
من لبد- صيفا وشتاء- وقال العينىّ بعدما أثنى على علمه: وكان يميل إلى
سماع المغانى واللهو والرقص، وكان يتّهم بالمسح على رجليه من غير خفّ
«5» - انتهى.
(13/4)
وتوفّى الأمير سيف الدين بكلمش بن عبد الله
العلائىّ. أمير سلاح»
كان- بطّالا- بالقدس فى صفر، وأصله من مماليك الأمير طيبغا الحسنىّ
الناصرىّ، المعروف بالطويل، وترقّى بعده حتى صار من جملة الأمراء، ثمّ
أنعم عليه الملك الظاهر برقوق بإمرة طبلخاناة «2» قبل خلعه من الملك،
ثمّ جعله فى سلطنته الثانية أمير آخورا كبيرا «3» مدّة سنين، ثمّ نقله-
بعد أن أمسكه وحبسه- إلى إمرة سلاح، فدام على ذلك سنين إلى أن قبض عليه
فى تاسع عشرين المحرم من سنة ثمانمائة، وقبض- معه أيضا- على الأمير
الكبير كمشبغا الحموىّ، وحملا إلى سجن الإسكندرية، وتولّى الأمير
آخورية بعده الأمير تنبك الظاهرى، فدام بكلمش هذا فى السجن إلى أن أفرج
عنه، وبعثه إلى القدس بطّالا، فدام به إلى أن مات، وكان أميرا شجاعا
مقداما، ذا كلمة نافذة فى الدولة، إلا أنه كان فيه كبر وجبروت، وخلق
سيئ مع كرم وإنعام، وكان سبب القبض عليه أنّه ضرب موقّعه القاضى صفىّ
الدين الدميرى وصادره، فشكا صفىّ الدين حاله إلى السلطان فى أبيات مدح
السلطان فيها، وذمّ بكلمش المذكور، من جملتها قوله:
يأكلنى ذئب وأنت ليث «4»
فسمع بذلك بكلمش، فطلبه وضربه ثانيا بالمقارع، وكلما ضربه رشّ عليه
الملح، فكان كلّما صاح يقول له بكلمش قل للّيث يخلّصك من الذئب، فأقام
بعد
(13/5)
ذلك مدة، ومات من تلك العقوبة، وبلغ
السلطان ذلك فأمهله مدة ثم قبض عليه.
وفيها توفّى الأمير حسام الدين حسن الكجكنّىّ «1» نائب الكرك، ثم أحد
مقدمى الألوف بالديار المصرية، وهو الذي أخرج الملك الظاهر يرقوق من
سجن الكرك، ولما أرسل إليه منطاش الشهاب البريدىّ بقتله فقام حسام
الدين هذا بنصرته، فلما عاد الملك الظاهر إلى ملكه كافأه وأنعم عليه
بإمرة مائة «2» ، وتقدمة ألف بديار مصر، وصار من أعظم أمرائه إلى أن
مات- رحمه الله- وكان عارفا، عاقلا، سيوسا، وعنده فضيلة، وفهم جيد
ومذاكرة.
وتوفّى الشيخ المعتقد خلف بن حسن بن حسين الطّوخى «3» ، فى ثانى عشرين
شهر ربيع الأول، وكان للناس فيه اعتقاد ومحبّة.
وتوفّى الشيخ المعتقد الصالح خليل بن عثمان بن عبد الرحمن بن عبد
الجليل المغربىّ، ويعرف بابن المشيّب، فى سادس عشرين شهر ربيع الأول
«4» .
وتوفّى الشيخ الإمام العالم العامل شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أبى
بكر ابن محمد العبّادىّ الحنفىّ الفقيه المشهور، فى ليلة الأحد تاسع
عشر شهر ربيع الآخر، وكان من فضلاء الحنفيّة، أفتى ودرّس فى عدة فنون.
وتوفّى الشيخ الإمام الأديب البليغ علاء الدين أبو الحسن علىّ بن أيبك
[التقصباوى الناصرى] «5» الدّمشقىّ الشاعر المشهور، فى ثالث عشر ربيع
الأول بدمشق، وكان بارعا فى النّظم، وله شعر رائق، ذكرنا منه قطعة جيدة
فى ترجمته فى
(13/6)
تاريخنا «المنهل الصافى والمستوفى بعد
الوافى» ومولده فى سنة ثمان وعشرين وسبعمائة بدمشق، ومن شعره- رحمه
الله- قوله: (الكامل)
قم زفّ بنت الكرم ثمّ استجلها ... بكرا لها فى الكأس رأس أشمط
فالطّير شاد والنّسيم مشبّب ... والغصن يرقص والغمام ينقّط
وله أيضا: (الوافر)
كأنّ الرّاح لمّا راح يسعى ... بها فى الرّاح ميّاس القوام
سنا المرّيخ فى كفّ الثّريّا ... يحيّينا به بدر التّمام
وله الموشح المشهور الذي أوله:
يا من حكى خدّه الشّقائق ... وماله فى اليها «1» شقيق
تركتنى بالدموع شارق ... لمّا بدا خدّك الشّريق
سللت من ناظريك صارم ... للفتك يا شادن الصّريم
وسرت يوم الفراق سالم ... وقد تركت الحشا سليم
متى أراك الغداة قادم ... يا من حديثى به قديم
شيّبت من أجلك المفارق ... وسرت مع جملة الفريق
ما بين حاد حدا وسائق ... حملى بمن ساقه وسيق
وهو أطول من ذلك.
وتوفّى العارف بالله شمس الدين محمد بن أحمد بن علىّ، المعروف بابن نجم
الصوفىّ بمكة المشرّفة، فى صفر بعد أن جاور بها عدة سنين.
(13/7)
وتوفّى الخليفة أمير المؤمنين المعتصم
بالله زكريا بن إبراهيم بن محمد بن أحمد- وهو مخلوع من الخلافة- فى
رابع عشرين جمادى الأولى، وقد تقدم ذكر ولايته للخلافة فى أيام أينبك
البدرى «1» ، بعد قتل الملك الأشرف شعبان بن حسين فى سنة ثمان وسبعين
وسبعمائة، ثم خلع حتى ولاه الملك الظاهر برقوق ثانيا بعد موت أخيه
الواثق، فلم تطل مدته أيضا، وخلعه الملك الظاهر من الخلافة فى أول
جمادى الأولى من سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، وأعاد المتوكل على الله،
فاستمرّ المعتصم هذا معزولا طول عمره إلى أن مات فى هذه السنة، وخلافته
الأولى والثانية لم تطل مدته فيهما- انتهى.
وتوفّى الأمير سيف الدين شيخ بن عبد الله الصّفوىّ الخاصّكىّ «2» ،
أمير مجلس، وهو مسجون بسجن المرقب «3» ، وكان ممن رقاه الملك الظّاهر
برقوق إلى أن جعله أمير مائة ومقدّم ألف فى سلطنته الثانية، وجعله أمير
مجلس، ثمّ قبض عليه فى سنة ثمانمائة، وأنعم بإقطاعه على الوالد بعد
عزله عن نيابة حلب، وأخرجه الملك الظاهر إلى القدس بطّالا، فساءت سيرته
بها، وكان مسرفا على نفسه منغمسا فى اللذات، فأمر الملك الظاهر به فنقل
من القدس إلى حبس المرقب إلى أن مات به، قلت: وشيخ هذا هو أول أمير
عظيم فى دولة الملك الظاهر برقوق ممن سمّى بهذا الاسم، ثم بعده شيخ
المحمودىّ الساقىّ، أعنى الملك المؤيد، ثم بعده شيخ السّليمانىّ
المسرطن نائب طرابلس، فهؤلاء الثلاثة هم أعظم من سمّى بهذا الاسم، ثم
جاء بعدهم فى الدولة الأشرفيّة- برسباى- اثنان: شيخ الأمير آخور الثانى
مملوك بيبرس الأتابك، وشيخ الحسنىّ الحسنىّ الظاهرىّ أمير عشرة ورأس
نوبة، وهما كلا شىء بالنسبة إلى هؤلاء الثلاثة- انتهى.
(13/8)
وتوفّى العبد الصالح الأمير الطواشىّ
الرّومىّ صندل بن عبد الله المنجكىّ «1» ، خازندار «2» الملك الظاهر
برقوق، وعظيم دولته، وصاحب الطّبقة- بالقلعة- المعروفة بالصّندليّة، فى
ثالث شهر رمضان، ووجد الملك الظاهر عليه وجدا عظيما، ومات ولم يخلّف من
المال إلا النّزر اليسير إلى الغاية، هذا مع تمكّنه فى الدولة، وطول
مدته فى وظيفة الخازنداريّة فى تلك الأيام، وأنياته «3» جماعة كبيرة من
المماليك الظاهريّة، ومنهم جماعة فى قيد الحياة يحكون عن زهده وصلاحه
وعبادته أشياء عظيمة إلى الغاية، وكان الشيخ تقىّ الدين المقريزىّ إذا
حدّث عنه يقول: حدّثنى من لا أتّهمه العبد الصالح المنجكىّ- انتهى.
وتوفّى الأمير الكبير- أتابك العساكر بالدّيار المصريّة، وعظيم
المماليك اليلبغاويّة- كمشبغا بن عبد الله الحموىّ اليلبغاوىّ، بسجن
الإسكندرية، فى العشرين من شهر رمضان، وهو أحد من قام بنصرة الملك
الظّاهر برقوق عند خروجه من سجن الكرك، وكان كمشبغا يوم ذلك يلى نيابة
حلب، وقد تقدم ذكر كمشبغا هذا فى مواطن كثيرة من أواخر دولة الملك
الأشرف شعبان بن حسين إلى أن أمسك وحبس، ومات، وكان من أجلّ الملوك
وأعظمها قدرا، قيل للوالد لما ولى الأتابكيّة بالديار المصرية: يا خوند
امش على قاعدة الأمير كمشبغا، فقال الوالد:
(13/9)
أيش أنا حتى أمشى على طريق كمشبغا! كمشبغا
فى مقام أستاذى، وكان بخدمة الوالد يومئذ أزيد من ثلاثمائة مملوك،
ورأيت سماطه ومرتّباته تسعمائة رطل من اللحم فى كل يوم، وفى هذا كفاية
فى التعريف بحال كمشبغا- رحمه الله.
وتوفّى قاضى القضاة ناصر الدين أحمد بن محمد بن محمد بن محمد بن عطاء
الله ابن عواض بن نجا بن أبى الثّناء محمود بن نهار بن مؤنس بن حاتم بن
نيلى ابن جابر بن هشام بن عروة بن الزّبير بن العوّام- رضى الله عنه-
المعروف بابن التّنسىّ [السكندرى] «1» المالكىّ، قاضى قضاة الإسكندرية،
ثم الديار المصرية- بها- وهو قاض، فى أول شهر رمضان، وكان مشكور
السيرة- رحمه الله- وهو والد القاضى بدر الدين محمد بن التّنسىّ الآتى
ذكره.
وتوفّى الأمير سيف الدين قديد بن عبد الله القلمطاوىّ، أحد أمراء
الطّبلخانات- بطّالا- بالقدس، فى شهر ربيع الأول، وكان من قدماء
الأمراء، وولى نيابة الكرك فى بعض الأحيان.
وتوفّى الشيخ المعتقد المجذوب العجمى، المعروف بالزهورىّ «2» فى أول
صفر، وكان شيخا عجميّا، وللناس فيه اعتقاد كبير لا سيما الملك الظاهر
برقوق؛ فإنه كان له فيه اعتقاد كبير إلى الغاية.
أخبرنى بعض حواشى الملك الظاهر: أن الزهورىّ هذا كان إذا جلس عند الملك
الظاهر برقوق وكلّمه يأخذ الملك الظاهر كلامه على سبيل المكاشفة، وكان
يقيم عنده غالبا فى الدور السّلطانيّة عند الخوندات «3» ، ووقع له مع
(13/10)
الظاهر خوارق ومكاشفات، منها: أنه قال له
يوما- وقد حان أجلهما- يا برقوق أنا آكل فراريج وأنت تأكل بعدى دجاجا
ثم تروح، ففطن برقوق أنه يقيم بعد موت الزّهورىّ بمقدار ما يكبر فيه
الفرّوج، ومرض الزهورىّ ومات، وضاق صدر برقوق حتى كلمه جماعة فى عدم ما
ظنه، فلم يقم بعده الظاهر إلا ثمانية أشهر ومات.
وتوفّى العلامة القاضى بدر الدين محمود بن عبد الله الكلستانىّ
السّرّائىّ «1» الحنفىّ، كاتب السرّ الشريف بالديار المصرية، وأحد
العلماء الأعيان فى عاشر جمادى الأولى بالقاهرة، وولى بعده كتابة السرّ
فتح الدين فتح الله رئيس الأطباء- وقد تقدم ذكر ولاية الكلستانىّ هذا
لوظيفة كتابة السرّ بعد موت بدر الدين بن فضل الله بدمشق فى ترجمة
الملك الظاهر برقوق الثانية- وكان إماما بارعا مفتنّا فى علوم كثيرة،
عارفا باللغة العربية والعجمية والتركية، وسمّى بالكلستانىّ لكثرة
قراءته كتاب السعدىّ العجمىّ الشاعر، وكان الكتاب المذكور يسمى كلستان
«2» .
أمر النيل فى هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع وأربعة عشر أصبعا، مبلغ
الزيادة ثمانية عشر ذراعا وخمسة أصابع- والله أعلم.
(13/11)
[ما وقع من
الحوادث سنة 802]
السنة الثانية من سلطنة الملك الناصر فرج ابن الظاهر برقوق- الأولى على
مصر وهى سنة اثنتين وثمانمائة:
فيها كانت وقعة أيتمش مع الملك الناصر، ثم وقعة تنم نائب الشام- وقد
تقدم ذكرهما فى أول ترجمة الملك الناصر.
وفيها توفّى خلائق من أعيان الأمراء بالسيف فى واقعة تنم: منهم الأمير
الكبير أيتمش بن عبد الله الأسندمرى البجاسى الجرجاوى «1» ثم الظاهرى،
أتابك «2» العساكر بالديار المصرية، ذبح فى سجنه بقلعة دمشق، فى ليلة
رابع عشر شعبان، وكان أصله من مماليك أسندمر البجاسى الجرجاوى، وترقّى
إلى أن صار من جملة أمراء الألوف بديار مصر، بسفارة الأتابك برقوق فى
دولة الملك الصالح حاجى، وأمير آخورا، ولما تسلطن الملك الظاهر برقوق
جعله رأس نوبة كبيرا، ثم اشتراه من ورثة الأمير جرجى لما بلغه أنه إلى
الآن فى الرّقّ- وقد مر ذلك كله- ثم جعله أتابك العساكر بالديار
المصرية، ثم ندبه فيمن ندب من الأمراء لقتال الناصرى ومنطاش، فقبض عليه
هناك، وحبس بقلعة دمشق مدة طويلة إلى أن أطلق بعد عود الملك الظاهر
للملك وقدم القاهرة، وكان الأمير إينال اليوسفى يوم ذاك أتابك العساكر
بالديار المصرية، فأنعم الملك الظاهر على أيتمش بإقطاع يضاهى إقطاع
الأتابكية، وولّاه رأس نوبة الأمراء وجعله أتابكا، فدام على ذلك سنين
إلى أن قبض الملك الظاهر على الأتابك كمشبغا الحموى، وأعاده إلى
الأتابكيّة من بعده على عادته أولا، ثم جعله فى مرض موته وصيّه
المتحدّث فى تدبير مملكة ولده الملك الناصر فرج، فأخذ أيتمش يدبر ملك
الناصر
(13/12)
بعد موت برقوق أحسن تدبير، فثار عليه
الأمراء الأجلاب من مماليك برقوق، وقاتلوه وكسروه، وأخرجوه من مصر إلى
الشام، فسار إلى دمشق، ووافق تنم نائبها على قتالهم هو ورفقته، مثل:
الوالد، وأرغون شاه أمير مجلس، وغيرهم، فواقعوا الأمراء المذكورين
بغزّة، وانكسروا ثانيا، وقبض على الجميع، وحبسوا بقلعة دمشق ثم قتلوا
عن آخرهم، وكان كسر تنم وأيتمش هذا وقتلهما وتحكّم الأمراء الأجلاب أول
وهن وقع بالديار المصرية، وكان أيتمش معظّما فى الدول، قليل الشّرّ
كثير الخير، متجمّلا فى ملبسه ومركبه ومماليكه، هو وكمشبغا الحموى،
كانا من عظماء الأتابكية فى الدولة التركية بعد يلبغا العمرى الخاصّكى،
وشيخون العمرى.
وتوفّى أيضا- قتيلا بقلعة دمشق فى التاريخ «1» المذكور مع الأتابك
أيتمش- الأمير سيف الدين أرغون شاه البيدمرى الظاهرى «2» - أمير مجلس،
وكان من خواص مماليك الملك الظاهر برقوق، وأكابر مماليكه وخيارهم.
وتوفّى قتيلا- أيضا- الأمير سيف الدين فارس بن عبد الله القطلقجاوى «3»
، ثم الظاهرى، حاجب الحجّاب بالديار المصريّة- ذبحا- بقلعة دمشق، فى
رابع عشر شعبان، وكان أصله من مماليك الأمير خليل بن عرام نائب
الإسكندرية، اشتراه من شخص خباز بالإسكندريّة، وكان فارس هذا يبيع
الخبز على حانوت أستاذه، فرآه ابن عرّام فأعجبه وابتاعه منه، ثم ملكه
الملك الظاهر برقوق بعد ابن عرام، وما أعلم نسبته بالقطلقجاوى لأى
قطلقجا، ولعله تاجره الذي جلبه من بلاده أولا- والله أعلم- وكان فارس
يعرف أيضا بالأعرج، وكان من الشّجعان الفرسان الأقشيّة
(13/13)
المعدودة، الذين يضرب برميهم المثل، وقد
تقدم من ذكره فى واقعة أيتمش ما يكتفى بذكره «1» .
وتوفى- قتيلا أيضا فى رابع عشر شعبان بقلعة دمشق- الأمير شهاب الدين
أحمد- أمير مجلس- ابن الأتابك يلبغا العمرى الخاصكى صاحب الكبش «2» ،
وأستاذ برقوق وغيره من اليلبغاوية، ولد بالكبش، فى حياة والده الأتابك
يلبغا، ثم نشأ بمصر، وصار من جملة الأمراء، فلما تسلطن الملك الظاهر
برقوق ولّاه أمير مجلس، ثم ندبه لقتال الناصرى ومنطاش فيمن ندب من
الأمراء، فلما وصل إلى دمشق عصى على برقوق، وانضم على الناصرى، وهو
أيضا مملوك أبيه فأقرّه الناصرى على إمرته ووظيفته، إلى أن قبض عليه
منطاش وحبسه مع الناصرى إلى أن أخرجهما الملك الظاهر برقوق فى سلطنته
الثانية، وخلع عليه على عادته أمير مجلس، فدام على ذلك سنين عديدة إلى
أن تنكّر عليه برقوق وحبسه، ثم أطلقه- بطّالا- بالبلاد الشامية إلى أن
ثار الأمير تنم الحسنى نائب الشام، فقدم عليه أحمد هذا ووافقه، فقبض
عليه مع من قبض عليه من الأمراء، وقتل، وكان مشهورا بالشّجاعة
والإقدام.
وتوفّى- قتيلا أيضا بقلعة دمشق فى رابع عشر شعبان- الأمير سيف الدين
جلبان [بن عبد الله «3» ] الكمشبغاوىّ الظاهرىّ، المعروف بقرا سقل نائب
حلب، ثم أتابك دمشق، كان من أكابر مماليك الملك الظاهر برقوق، وأول من
نال منهم الرّتب السنية، صار أمير مائة، ومقدّم ألف فى أوائل سلطنة
(13/14)
الملك الظاهر برقوق الثانية، ثم رأس «1»
نوبة النّوب، ثم ولى نيابة حلب بعد الأتابك قرا دمرداش الأحمدىّ، وهو
الذي قام فى أمر منطاش حتى أخذه وتسلمه من نعير، ثم أمسكه الظاهر
وحبسه، وولّى الوالد عوضه نيابة حلب، فحبس مدة ثم أطلق، واستقرّ أتابك
دمشق، فدام على ذلك مدة، ثم قبض عليه برقوق ثانيا، وحبسه بقلعة دمشق
إلى أن أطلقه الأمير تسنم بعد موت الظاهر برقوق، فدام من حزبه إلى أن
أمسك وقتل مع من قتل، وكان جليل المقدار، عاقلا شجاعا، معدودا من رؤساء
المماليك الظاهريّة.
وتوفّى- قتيلا أيضا بقلعة دمشق فى التاريخ المذكور- سيف الدين يعقوب
شاه [بن عبد الله] «2» الظاهرىّ الخازندار، ثم الحاجب «3» الثانى، وأحد
مقدّمى الألوف بالديار المصرية، وكان أيضا من خواصّ الملك الظّاهر
برقوق، وأجلّ مماليكه، وهو أيضا ممن انضم على أيتمش وتنم.
وتوفّى- قتيلا أيضا بقلعة دمشق- الأمير سيف الدين آقبغا [بن عبد الله]
«4» الطولوتمرىّ الظاهرى، المعروف باللكّاش، أمير مجلس، وكان من جملة
أمراء الألوف فى دولة أستاذه الملك الظاهر برقوق، ثم صار أمير مجلس،
فلما ركب على باى على الملك الظاهر اتّهم آقبغا هذا بممالأة على باى فى
الباطن فأخرج إلى الشّام، ودام به حتى وافق تنم، وقتل مع من قتل من
الأمراء، وكان شجاعا مقداما، من وجوه المماليك الظاهريّة.
وتوفّى- قتيلا أيضا بقلعة دمشق- الأمير بى خجا الشّرفىّ المدعوّ
(13/15)
طيفور [بن عبد الله الظاهرى «1» ] نائب
غزّة، ثم حاجب حجّاب دمشق، وهو أيضا من مماليك الظاهر برقوق، وممّن صار
فى أيامه أمير طبلخاناة، وأمير آخور ثانيا.
فهؤلاء قتلوا جميعا فى ليلة واحدة، ومعهم جماعة أخر مثل الأمير بيغوت
اليحياوىّ الظاهرى، والأمير مبارك المجنون، والأمير بهادر العثمانى
نائب ألبيرة «2» ، ولم يبق من أعيان من قتل فى هذه الواقعة- صبرا- إلّا
تنم [الحسنى] «3» ويونس بلطا، أخّروهما حتى استصفوا أموالهما، ثم
قتلوهما حسبما يأتى ذكره الآن.
وتوفّى- أيضا قتيلا- الأمير تنبك الحسنىّ الظاهرىّ، المدعو تنم نائب
الشام، وقد مر من ذكره فى واقعته مع الملك الناصر فرج ما فيه غنية عن
التكرار، غير أننا نذكر مبادئ أمره وترقّيه إلى انتهائه على سبيل
الاختصار، فنقول: هو من أعيان خاصّكية أستاذه الظاهر برقوق، ثم أمّره
إمرة عشرة فى سلطنته الثانية، ثم أخرجه إلى دمشق، وجعله أتابكا بها بعد
إياس الجرجاوى، ثم نقله بعد مدة يسيرة إلى نيابة دمشق، بعد موت الأمير
كمشبغا الأشرفى الخاصكى، فدام على نيابة دمشق نحو سبع سنين، إلى أن مات
الظاهر، وخرج عن الطاعة، وانضم عليه سائر نواب البلاد الشامية، ثم جاءه
أيتمش والوالد، وغيرهما من أمراء مصر، وواقع الملك الناصر على غزة،
وانكسر مع كثرة عساكره- خذلانا من الله- وأمسك، وحبس بقلعة دمشق، وعوقب
على المال، ثم خنق فى ليلة الخميس رابع شهر رمضان، وخنق معه الأمير
يونس [بن عبد الله] «4» الظاهرى المعروف ببلطا [وبالرماح] «5» نائب
(13/16)
طرابلس. وكان يونس أيضا من كبار المماليك
الظاهرية وأمرائها. وقد ولى نيابة صفد وحماة وطرابلس. إلا أنه كان
ظالما جبارا متكبرا، سفا كاللدماء، قتل بطرابلس من القضاة والعلماء
والأعيان خلائق لا تدخل تحت حصر، وقد مر ذكر هذه الوقائع كلّها فى
أوائل ترجمة الملك الناصر فرج الأولى، فلينظر هناك.
وتوفّى قاضى القضاة مجد الدين إسماعيل بن إبراهيم بن محمد بن علىّ [بن
موسى] «1» قاضى قضاة الحنفيّة بالديار المصريّة- وهو معزول- فى خامس
جمادى الأولى، وكان فقيها مفتنّا فاضلا، أفتى ودرّس سنين بحلب وغيرها،
إلى أن طلب إلى مصر، وولّى القضاء بها، إلى أن عزل لثقل بدنه من
السّمن، وقلّة حركته؛ فإنّه كان إذا طلع للسلام على السلطان وجلس عنده
لا يستطيع القيام إلّا بعد جهد من السّمن.
وتوفّى قاضى القضاة برهان الدين إبراهيم ابن قاضى القضاة ناصر الدين
نصر الله بن أحمد بن محمّد بن أبى الفتح الحنبلىّ «2» ، قاضى قضاة
الديار المصريّة بها- وهو قاض- فى ثامن شهر ربيع الأوّل، وتولّى القضاء
بعده أخوه موفّق الدين أحمد.
وتوفّى المعلّم شهاب الدين أحمد بن محمّد الطولونىّ المهندس، بطريق
مكّة فى صفر، وقد توّجه لعمارة المناهل «3» بطريق الحجاز.
وتوفّى شيخ شيوخ خانقاة «4» سرياقوس جلال الدين أبو العبّاس أحمد ابن
شيخ الشيوخ نظام الدين إسحاق بن عامر الأصبهانىّ الحنفىّ «5» ، بخانقاة
سرياقوسن، فى خامس عشر شهر ربيع الآخر.
(13/17)
وتوفّى الأمير الطّواشى زين الدين بهادر
الشهابىّ «1» ، مقدّم المماليك السلطانيّة، فى سابع عشر شهر رجب، وكان
من عظماء الخدّام، وغالب أعيان مماليك الظاهر برقوق من أنياته.
وتوفّى الشيخ المعتقد المجذوب سليم السّوّاق القرافىّ «2» بالقرافة، فى
تاسع عشر شهر ربيع الأوّل، وكان للناس فيه اعتقاد، ويقصد للزيّارة.
وتوفّى الأمير سيف الدين قجماس بن عبد الله المحمّدىّ الظاهرىّ، شادّ
السّلاح خاناة- قتيلا-[فى ثامن شهر ربيع الأول] «3» فى الواقعة التى
كانت بين الأتابك أيتمش وبين الأمراء الذين كانوا بالقلعة.
وتوفّى أيضا الأمير سيف الدين قشتمر بن قجماس أخو إينال باى، الأمير
آخور، فى ثامن شهر ربيع الأوّل- قتيلا- فى الواقعة.
وتوفّى الأمير سيف الدين قطلوبغا بن عبد الله الحسامىّ المنجكىّ «4»
بالينبع «5» بطريق الحجاز.
وتوفّى الأمير سيف الدين قرابغا بن عبد الله الأسنبغاوىّ «6» أحد أمراء
الطبلخانات، كان من قدماء الأمراء بديار مصر.
وتوفّى الأمير جمال الدين عبد الله ابن الأمير بكتمر الحاجب «7» ، فى
خامس عشرين شهر ربيع الآخر، بداره خارج باب النصر «8» من القاهرة.
(13/18)
وتوفّيت خوند شيرين [بنت عبد الله الرومية]
«1» والدة الملك الناصر فرج بن برقوق، بعد مرض طويل، فى ليلة السبت
أوّل ذى الحجّة، ودفنت بالمدرسة الظاهريّة البرقوقية «2» بين القصرين،
وحضر ولدها الملك الناصر الصّلاة عليها، بباب القلّة «3» من القلعة،
ومشى سائر أمراء الدولة وأعيانها أمام نعشها من القلعة إلى بين
القصرين، وكانت أمّ ولد للملك الظّاهر برقوق، روميّة الجنس، وهى بنت
عمّ الوالد، وكانت من خيار نساء عصرها حشمة ورياسة وعقلا.
أمر النّيل فى هذه السنة: الماء القديم ثلاثة أذرع سواء، مبلغ الزّيادة
ثمانية عشر ذراعا وأربعة عشر إصبعا.
(13/19)
[ما وقع من
الحوادث سنة 803]
السنة الثالثة من سلطنة الملك الناصر فرج ابن الظاهر برقوق- الأولى على
مصر وهى سنة ثلاث وثمانمائة:
فيها كان ورود تيمور لنك إلى البلاد الشّاميّة، ومات بسيفه ولقدومه
خلائق لا يعلمها إلا الله تعالى كثرة، حسبما ذكرناه مفصّلا.
وفيها تجرّد «1» السّلطان الملك النّاصر فرج إلى البلاد الشّامية بسبب
تيمورلنك- وقد مرّ ذلك أيضا- وهى تجريدته الثانية إلى البلاد الشّامية.
وفيها قتل الأمير سيف الدين سودون بن عبد الله الظاهرىّ، قريب الملك
الظّاهر برقوق، المعروف بسيّدى سودون، نائب الشّام، فى أسر تيمور بظاهر
دمشق، ودفن بقيوده من غير أن يتولّاه «2» ، واختلفت الأقوال فى موتته،
فمن الناس من قال: ذبحا، ومنهم من قال: ألقاه تيمور إلى فيل كان معه
فداسه برجله حتى مات، وكان ذلك فى أواخر شهر رجب، وتولّى نيابة دمشق
بعده الوالد؛ وهى نيابته الأولى على دمشق، وكان سودون المذكور قدم من
بلاد الجركس «3» صغيرا مع جدّته لأمّه أخت الملك الظاهر برقوق، ومع
خالة أمّه أمّ الأتابك بيبرس، والجميع صحبة الأمير أنص والد الملك
الظّاهر برقوق، فربّاه الظّاهر ورقّاه إلى أن جعله أمير آخور كبيرا بعد
القبض على الأمير نوروز الحافظىّ، ثمّ وقع له
(13/20)
أمور، وقبض عليه بعد موت الملك الظّاهر
برقوق، وسجن بالإسكندريّة إلى أن أخرج بعد واقعة الأتابك أيتمش، ثمّ
ولى نيابة دمشق بعد مسك الأمير تنم الحسنىّ نائب الشّام، ودام بدمشق
إلى أن ورد عليه قاصد تيمورلنك فوسّطه فكان ذلك أكبر الأسباب فى قتله،
فإن تيمور لم يقتل أحدا من نوّاب البلاد الشّاميّة سواه.
وتوفّى قاضى القضاة موفّق الدين أحمد ابن قاضى القضاة ناصر الدين نصر
الله بن أحمد ابن محمد بن أبى الفتح العسقلانىّ الحنبلىّ، فى ثامن عشر
شهر رمضان، وكان مشكور السيرة، ولم تطل مدّته فى القضاء، فإنه ولى
القضاء بعد أخيه برهان الدين إبراهيم فى السنة الماضية.
وتوفّى قاضى القضاة تقىّ الدين عبد الله بن يوسف [بن الحسين بن سليمان
ابن فزارة بن بدر بن محمد بن يوسف] «1» الكفرىّ- بفتح الكاف- الحنفىّ
الدمشقىّ، قاضى قضاة دمشق، فى العشرين من ذى القعدة فى أسر تيمور.
وتوفّى قاضى القضاة شهاب الدين أحمد [بن عبد الله] «2» النّحريرىّ
المالكىّ، قاضى قضاة الديار المصريّة، وهو معزول فى ثانى شهر رجب.
وتوفّى الأمير شهاب الدين أحمد بن عمر بن الزّين «3» ، والى القاهرة فى
ثانى عشر شهر ربيع الأوّل، بعد أن ولى شدّ الدّواوين، وولاية القاهرة
غير مرّة، وكان من الظّلمة.
وتوفّى الأمير سيف الدين أسنبغا بن عبد الله العلائىّ الدّوادار
الظاهرىّ، فى سادس عشر جمادى الأولى، وكان من جملة الدّواداريّة
الصّغار فى دولة الملك الظّاهر برقوق.
(13/21)
وتوفّى الأمير زين الدّين فرج الحلبىّ «1»
نائب الإسكندريّة بها، فى آخر شهر ربيع الأوّل، وقد ولى شدّ الدّواوين
«2» بالقاهرة، ثمّ صار من جملة الحجاب، ثمّ ولى أستادارية «3» الذخيرة
والأملاك، ثم ولى نيابة الإسكندريّة، فدام بها إلى أن مات.
وتوفّى الأمير زين الدين [وقيل سيف الدّين] »
أبو بكر بن سنقر ابن أخى بهادر الجمالى، فى ثالث عشر جمادى الآخرة،
وكان ولى الحجوبية الثانية بالدّيار المصرية بتقدمة ألف، وتوجّه أمير
حاجّ المحمل، وتنقّل فى عدّة وظائف، وطالت أيامه فى السعادة، وهو من
بيت رئاسة وإمرة.
وتوفّى الأمير سيف الدين بجاس بن عبد الله النّوروزىّ [العثمانى
اليلبغاوىّ] «5» أحد مقدّمى الألوف بالدّيار المصرية بها- بطّالا- بعد
ما كبرت سنّه، فى ثانى عشر شهر رجب، وكان لمّا استعفى من الإمرة بعد
موت الملك الظاهر برقوق، أنعم بإقطاعه على الأمير شيخ المحمودىّ: أعنى
الملك المؤيد، فرعاه أستاداره جمال الدّين يوسف البيرى البجاسىّ، فعرف
له ذلك الملك المؤيد شيخ لمّا تسلطن، وأحسن لذرّيته.
وتوفّى الوزير كريم الدّين عبد الكريم بن عبد الرزّاق بن إبراهيم بن
مكانس «6» القبطى المصرى، أخو الشّاعر فخر الدين، فى خامس عشر جمادى
الآخرة، وهو معزول عن الوزر، وقد ولى الوزر بالديار المصرية، ونكب
وصودر غير مرّة، وجمع فى
(13/22)
بعض الأحيان بين وظيفتى الوزر ونظر الخاص
معا، وكان سيّىء السيرة، كثير الظلم والرّمايات، وولّى مشيرا «1» فى
سلطنة الملك الظاهر برقوق، ثمّ نكب هو وإخوته، ومات- بعد خطوب قاساها-
يوم الثلاثاء رابع عشرين جمادى الآخرة، وكان من أعاجيب الزّمان من
الخفّة، والطيش، وسرعة الحركة، يقال إنه قال لبعض حواشيه- وهو نازل فى
موكبه بخلعة الوزارة، لمّا أعيد إليها، والناس بين يديه: يا فلان ما
هذه الركبة غالية بعلقة مقارع.
وتوفّى قاضى قضاة الدّيار المصرية نور الدين على بن يوسف بن مكى
الدميرى «2» المالكىّ المعروف بابن الجلال، باللجون «3» من طريق دمشق
فى جمادى الأولى، وهو مجرّد صحبة السلطان.
وتوفّى الشيخ الإمام الفقيه سيف الدين قطلوبغا بن عبد الله الحنفى، فى
نصف جمادى الأولى، وكان فقيها فاضلا مستحضرا لمذهبه، معدودا من فقهاء
الحنفية.
وتوفّى قاضى القضاة بدر الدين محمد بن أبى البقاء الشافعى قاضى قضاة
الدّيار المصرية، وهو معزول عن القضاء، فى سابع عشرين شهر ربيع الآخر.
وتوفّى قاضى القضاة شرف الدّين محمد بن محمد الدّمامينى المالكى
الإسكندرى، قاضى الإسكندرية، ثم ناظر الجيش والخاص بالدّيار المصرية،
فى سابع عشرين المحرم، كان رئيسا فاضلا، ولى قضاء الإسكندرية، ثم وكالة
بيت المال «4» ، ونظر الكسوة «5» ،
(13/23)
ثم نظر ديوان المفرد «1» ، ثم نظر الأسواق
«2» ، وولى حسبة «3» القاهرة غير مرة، ثمّ ولى نظر «4» الجيش بالدّيار
المصرية بعد موت القاضى جمال الدين محمود العجمى- مضافا إلى وكالة بيت
المال فى سنة تسع وتسعين إلى أن صرف بسعد الدين إبراهيم بن غراب واستمر
على وكالة بيت المال- ثم أعيد إلى نظر الجيش والخاصّ معا، فلم تطل مدته
فيهما، وعزل وأعيد إليهما ابن غراب، وتولى قضاء الإسكندرية، فدام بها
إلى أن مات فى التاريخ المذكور.
وتوفّى قاضى القضاة جمال الدين يوسف بن موسى بن محمد الملطىّ الحنفى
«5» ، قاضى قضاة الدّيار المصرية- وهو قاض- فى تاسع عشر شهر ربيع
الآخر، وكان بارعا فى الفقه والأصول، والعربيّة، وعلمى المعانى
والبيان، وكان تفقّه فى مبادئ أمره على العلّامة الشيخ قوام الدين
الأترارىّ الحنفىّ شارح الهداية «6» ، ثم على العلامة أرشد الدين
(13/24)
السرائى «1» ، وغيرهما بالدّيار المصرية،
ثم انتقل إلى حلب، واشتغل بها أيضا إلى أن برع وأفتى ودرّس، وتفقّه به
جماعة كبيرة من العلماء إلى أن طلب إلى قضاء الديار المصرية بعد وفاة
القاضى شمس الدين الطرابلسى سنة ثمانمائة، فدام قاضيا إلى أن مات، وقد
ناهز الثمانين سنة.
وتوفّى قاضى قضاة الحنابلة- بدمشق- تقي الدين إبراهيم ابن العلامة شمس
الدين محمد بن مفلح «2» ، الحنبلىّ الدّمشقى بها، فى شعبان.
وتوفّى قاضى القضاة صدر الدين أبو المعالى محمد بن إبراهيم بن إسحاق بن
إبراهيم ابن عبد الرحمن السلمى المناوى «3» الشافعى، قاضى قضاة الديار
المصرية، وهو فى أسر تيمور غريقا بنهر «4» الزّاب، بعد ما مرّت به محن
وشدائد، بعد أن ولى قضاء الدّيار المصرية غير مرّة.
وتوفّى قاضى القضاه الحنفية- بدمشق- بدر الدين محمد بن محمد بن مقلد
«5» القدسىّ الحنفىّ، بمدينة غزّة، فى شهر ربيع الأوّل، فارّا من
تيمورلنك إلى الديار المصرية، وكان فاضلا بارعا، أفتى ودرّس وناب فى
الحكم، ثمّ استقلّ بالقضاء مدّة.
وتوفّى السلطان الملك الأشرف إسماعيل ابن الملك الأفضل عباس ابن الملك
المجاهد علىّ ابن الملك المؤيّد داود ابن الملك المظفّر يوسف ابن الملك
المنصور عمر بن علىّ ابن رسول «6» ، صاحب اليمن، فى ليلة السبت ثامن
عشر شهر ربيع الأول، بمدينة
(13/25)
تعز «1» من بلاد اليمن، عن سبع وثلاثين
سنة، وكان ولى سلطنة اليمن بعد موت أبيه فى سنة ثمان وسبعين وسبعمائة،
فدام فى الملك إلى أن مات فى التاريخ المذكور فى هذه السنة، وكان ملكا
جليلا سخيّا، مقبلا على أهل العلم، وصنّف تاريخا حسنا، وجمع كتبا
كثيرة، وتولى مملكة اليمن من بعده ابنه الملك الناصر أحمد.
وتوفّى السّلطان الأعظم ملك دلّى «2» من بلاد الهند فيروز شاه بن نصرة
شاه، وكان من أجلّ الملوك، ومملكته متّسعة جدا، ذكر عنها القاضى شهاب
الدين أحمد بن فضل الله أشياء عظيمة فى كتابه مسالك الأبصار فى ممالك
الأمصار، من ذلك أن له ألف مغنّ، وألف نديم، وذكر عن سماطه أشياء خارجة
عن الحد، وأظنّ أن فيروز شاه هو حفيد الملك الذي ترجمه القاضى شهاب
الدين أحمد بن فضل الله، قلت ولما سمع تيمور لنك بموت فيروز شاه بادر
وتوجه إلى الهند، واستولى على ممالكه حسبما تقدم ذكره فى ترجمة الملك
الناصر فرج هذا، وقام بممالك الهند بعده ابنه محمد شاه، وجميع مملكته
حنفيّة، بل غالب ممالك الهند.
أمر النيل فى هذه السنة: الماء القديم ثلاثة أذرع سواء، مبلغ الزيادة
تسعة عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا، وهى سنة تحويل «3» .
(13/26)
[ما وقع من
الحوادث سنة 804]
السنة الرابعة من سلطنة الملك الناصر فرج بن برقوق- الأولى على مصر وهى
سنة أربع وثمانمائة:
فيها توفّى الأمير سيف الدين جنتمر بن عبد الله التّركمانىّ
الطّرخانىّ، كاشف الوجه القبلى، فى صفر، كان له مع الأعراب أمور
ووقائع، وكان شجاعا، أبادهم وأفنى منهم خلائق إلى أن مهد بلاد الصعيد
وقراها.
وتوفى الشيخ الإمام المقرئ فخر الدين عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان
البلبيسىّ «1» الشافعى، الضرير، إمام جامع الأزهر، وشيخ القراءات، فى
ثانى ذى القعدة.
وتوفّى الشيخ سيف الدين لاجين بن عبد الله الچركسىّ «2» ، فى شهر ربيع
الآخر، عن ثمانين سنة، وكان معظّما عند طائفة الجراكسة، يزعمون أنه
يملك الديار المصرية، ويشيعون ذلك، ولأجله هرب جماعة من الأمراء من
دمشق فى واقعة تيمور، وعادوا إلى الديار المصرية ليسلطنوه، فكان ما حصل
على أهل الشّام من تيمور بسبب هذا المشؤوم الطلعة، وكان لاجين المذكور
لا يكتم ذلك، بل كان يعد الناس أنه إذا ملك مصر يبطل الأوقاف التى على
المساجد والجوامع، ويحرّق كتب الفقه، ويعاقب الفقهاء، ويولّى بمصر
قاضيا واحدا من الحنفيّة، وهو من الأتراك لا من الفقهاء، فسلبه الله ما
أمّله قبل أن يتأمّر عشرة، بل مات وهو على جنديّته، وكان يتمعقل ويدعى
العرفان، مع جهل مفرط، وخفة عقل، وهو مع ذلك مقبول الكلام عند
(13/27)
الطائفة إلى الغاية، وببعض كلامه يتمثّل
بعضهم إلى يومنا هذا، وممن أدركناه من أتباعه سودون الفقيه حمو الملك
الظاهر ططر، وسودون الأعرج الظاهرىّ، وطرباى الأتابك نائب طرابلس،
وكانوا يحكون عنه أمورا يقصدون بذلك تعظيمه؛ لو تأملوها لعلموا أنه رفع
عنه وعنهم القلم.
وتوفّى الشيخ المعتقد الصالح شهاب الدين أحمد بن محمد بن محمد بن
الناصح «1» فى سابع عشر شهر رمضان، ودفن بالقرافة.
أمر النيل فى هذه السنة؛ الماء القديم أربعة أذرع وأربعة عشر إصبعا،
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأحد وعشرون إصبعا.
(13/28)
[ما وقع من
الحوادث سنة 805]
السنة الخامسة من سلطنة الملك الناصر فرج بن برقوق- الأولى على مصر وهى
سنة خمس وثمانمائة:
فيها كانت وقعة تيمور لنك مع أبى يزيد بن عثمان متملّك بلاد الروم، وقد
مرّ ذكر ذلك، وأسره تيمور ومات فى أسره.
وفيها توفّى قاضى القضاة تاج الدين بهرام بن عبد الله بن عبد العزيز
الدميرىّ المالكىّ، فى يوم الاثنين سابع جمادى الآخرة، عن سبعين سنة،
وقد انتهت إليه رئاسة السّادة المالكية فى زمانه.
وتوفّى شيخ الإسلام سراج الدين أبو حفص عمر بن رسلان بن نصير بن صالح
«1» - وصالح أول من سكن بلقينة «2» - بن شهاب بن عبد الخالق بن مسافر
بن محمد البلقينىّ الكنانىّ الشافعى، فى يوم الجمعة، عاشر ذى القعدة،
وصلى عليه بجامع الحاكم «3» ، ثم دفن بمدرسته التى أنشأها تجاه داره
بحارة بهاء الدين قراقوش من القاهرة، ومولده ببلقينة، فى ليلة الجمعة
ثانى عشر شعبان سنة أربع وعشرين وسبعمائة.
وأجاز له من دمشق الحافظ أبو الحجاج «4» المزّى، والحافظ الذهبى «5» ،
والمسند أحمد
(13/29)
ابن الجزرىّ «1» - فى آخرين- ثم حفظ
المحرّر فى الفقه، والكافية لابن مالك فى النحو، ومختصر ابن الحاجب فى
الأصول والشّاطبيّة فى القراءات، وأقدمه أبوه إلى القاهرة، وله اثنتا
عشرة سنة، وطلب العلم واشتغل على علماء عصره، مثل: أثير الدين أبى
حيّان «2» ، وأبى الثّناء «3» محمود الأصبهانىّ، وتفقّه بجماعة كثيرة،
وبرع فى الفقه وأصوله، والعربية والتفسير، وغير ذلك، وأفتى ودرّس سنين،
وانفرد فى أواخر عمره برئاسة مذهبه، وولى إفتاء دار العدل، ودرّس
بزاوية الشافعى المعروفة بالخشّابيّة «4» من جامع عمرو بن العاص، وولى
قضاء دمشق فى سنة سبع وتسعين وسبعمائة عوضا عن تاج الدين عبد الوهاب
السّبكىّ، فباشر مدة يسيرة، ثم تركه وعاد إلى مصر، واستمر بمصر يقرئ
ويشتغل ويفتى بقية عمره، وانتفع به عامة الطلبة إلى أن مات، وقد
استوعبنا ترجمته فى المنهل الصافى بأوسع من هذا- فلينظر هناك.
وتوفّى شيخ الشيوخ بدر الدين حسن بن على بن الآمدى خارج القاهرة، فى
أول شعبان وكان يعتقد فيه الخير، ويقصد للزيارة.
وتوفّى السيد الشريف عنان بن مغامس بن رميثة «5» المكىّ الحسنىّ
بالقاهرة، فى أول شهر ربيع الأول.
(13/30)
وتوفّى الأمير سيف الدين آقباى بن عبد الله
الكركىّ «1» الظاهرى، الخازندار، وأحد مقدمى الألوف، المعروف بالطّاز،
فى ليلة السبت رابع عشر جمادى الأولى بعد مرض طويل، ودفن بالحوش «2»
الظاهرى بالصحراء، وهو أحد المماليك الصغار الأربعة الذين توجهوا صحبة
الملك الظاهر برقوق إلى سجن الكرك، ولذلك سمى بالكركىّ، وكان من
الأشرار، كثير الفتن، وقد مرّ من ذكره نبذة كبيرة فى ترجمة الملك
الناصر فرج، هذا وكان بينه وبين سودون طاز الأمير آخور الكبير عداوة،
فكان يقول له: أنت طاز وأناطاز ما تسعنا مصر، فأراح الله الناس منهما
فى مدة يسيرة.
وتوفّى الأمير سيف الدين يلبغا [بن عبد الله] «3» السّودونىّ حاجب
حجّاب دمشق، وتولى الحجوبيّة من بعده الأمير جركس المعروف بوالد تنم
الحسنى، نقل إليها من حجوبيّة طرابلس.
وتوفى الأمير سيف الدين قرقماس الإينالى الرّمّاح «4» - قتيلا بدمشق-
فى أواخر شهر رمضان، بأمر السلطان، وكان أصله من مماليك الأتابك إينال
اليوسفى، وصار من بعده أميرا بديار مصر من جملة الطّبلخانات، وكان رأسا
فى لعب الرّمح، ووقع له أمور بديار مصر حتى أخرجه السلطان الملك الناصر
منها إلى دمشق، على إقطاع الأمير صرق، فثار بدمشق أيضا وهرب منها، فقبض
عليه عند مدينة بعلبكّ فقتل بها فى عدة مماليك أخر.
وتوفّى خوند كار أبو يزيد بن مراد بك بن أورخان بن عثمان «5» ملك
الروم.
(13/31)
وصاحب برصا «1» ، فى أسر تيمور- بعد أن
واقعه- ومات فى ذى القعدة، وكان من أجلّ ملوك بنى عثمان حزما وعزما
وجلالة وشجاعة وإقداما، وقد تقدم ذكر واقعته مع تيمور فى ضمن ترجمة
الملك الناصر، هذا وكان أبو يزيد هذا يعرف بيلدرم بايزيد، [ويلدرم] «2»
هو باللغة التركية اسم للبرق، وهو بكسر الياء آخر الحروف، وسكون اللام،
وكسر الدال المهملة، والراء المهملة، وسكون الميم- انتهى.
وتوفّى قاضى قضاة المالكيّة- بدمشق- علم الدين محمد القفصى «3»
المالكى، فى حادى عشر المحرم، وكان من فضلاء المالكية.
وتوفّى السلطان محمود خان، وكان يعرف بصر غتمش، الذي كان تيمور لنك
يدبّر مملكته، وليس له من الأمر مع تيمور إلا مجرد الاسم فقط، وهو من
ذرّية جنكز خان، ولهذا كان سلطنه تمر وصار مدبّر مملكته؛ لكون القاعدة
عند التتار لا يتسلطن إلا من يكون من ذرية الملوك.
وتوفّى الأمير شهاب الدين أحمد ابن الوزير ناصر الدين محمد بن رجب أحد
أمراء العشرات «4» بديار مصر.
وتوفى سيف الدين سودون بن عبد الله بن على بك الظّاهرى، الأمير آخور
الكبير، المعروف بسودون طاز «5» ، أحد أعيان المماليك الذين مر ذكرهم
فى عدة مواضع، لا سيما واقعته مع يشبك، ففيها ذكرنا أحواله مفصّلا، قتل
فى سجن المرقب
(13/32)
بالبلاد الشامية بعد ما نقل إليها من سجن
الإسكندرية، وكان سودون طاز رأسا فى لعب الرّمح، يضرب بقوّة طعنه، وشدة
ثباته على فرسه المثل. وأما سرعة حركته، وحسن تسريحه لفرسه فى ميادين
اللّعب بالرمح فإليه المنتهى فى ذلك، وكان أحد الأشرار الذين يثيرون
الفتن والوقائع، وقد مرّ من ذكره ما فيه كفاية عن ذكره هنا ثانيا.
أمر النيل فى هذه السنة: الماء القديم ذراعان وعشرون إصبعا، مبلغ
الزيادة ثمانية عشر ذراعا سواء.
(13/33)
[ما وقع من
الحوادث سنة 806]
السنة السادسة من سلطنة الملك الناصر فرج بن برقوق- الأولى على مصر وهى
سنة ست وثمانمائة:
فيها توفّى قاضى القضاة ناصر الدين محمد بن محمد بن عبد الرحمن الصالحى
الشافعىّ، قاضى قضاة الشافعية بالديار المصرية- وهو قاض- فى يوم
الأربعاء ثانى عشر المحرم بالقاهرة، وكان رئيسا نبيلا كريما كثير البرّ
والإحسان، إلّا أنه كانت بضاعته مزجاة من العلم.
وتوفّى شمس الدين محمد بن البجانسىّ الصعيدى، محتسب القاهرة، فى يوم
الثلاثاء رابع جمادى الأولى، بعد أن ولى حسبة القاهرة غير مرّة بالسعى
والبذل.
وتوفّى الحافظ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين بن أبى بكر العراقىّ «1»
الشافعىّ، شيخ الحديث بالدّيار المصرية، فى يوم الأربعاء ثامن شعبان
بها، ومولده فى سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وسمع الكثير ورحل [فى] «2»
البلاد، وكتب وألف وصنّف وأملى سنين كثيرة، وكان ولى قضاء المدينة
النبويّة، وعدّة تداريس، وانتهت إليه رئاسة علم الحديث فى زمانه، ومن
شعره فيمن كان يشبه النبي- صلى الله عليه وسلّم- أنشدنا حافظ العصر
شهاب الدين أحمد بن حجر- إجازة- أنشدنا الحافظ زين الدين عبد الرحيم
العراقىّ رحمه الله تعالى- إجازة إن لم يكن سماعا. [البسيط]
وسبعة شبّهوا بالمصطفى قسما ... لهم بذلك قدر قد زكا ونما
(13/34)
سبط النّبيّ، أبو سفيان، سائبهم ... وجعفر
وابنه ذو الجود والقثما «1»
وله بالسّند فى الصحابة العشرة المشهود لهم بالجنة فقال: [الطويل]
وأفضل أصحاب النّبيّ مكانة ... ومنزلة من بشّروا بجنان
سعيد زبير سعد عثمان عامر ... علىّ ابن عوف طلحة العمران
وقد استوعبنا مسموعه ومصنفاته فى المنهل الصافى، حيث هو محلّ الإطناب.
وتوفّى الأمير سيف الدين أزبك بن عبد الله الرمضانىّ الظاهرى، أحد
أمراء الطبلخانات بديار مصر، فى ليلة الثلاثاء رابع عشر شهر ربيع
الأول، وكان من أعيان المماليك الظاهرية.
وتوفّى الأمير سيف الدين قطلوبك بن عبد الله، أستادار الأمير الكبير
أيتمش البجاسىّ، فى يوم الأربعاء سابع شهر ربيع الآخر، كان ولى
أستاداريّة السلطان فى بعض الأحيان مدة يسيرة، فلم ينجح أمره، وعزل
وعاد إلى حاله أوّلا، وكان له ثروة ومال، غير أنه لم يعظم إلا بصهارته
لسعد الدين بن غراب.
وتوفّى التاجر برهان الدين إبراهيم بن عمر بن على المحلّى المصرىّ «2»
التاجر المشهور بكثرة المال، فى يوم الأربعاء ثانى عشرين شهر ربيع
الأول.
(13/35)
وتوفّى الأمير شهاب الدين أحمد ابن الأمير
شيخ على، فى ذى القعدة بدمشق، بعد ما ولى نيابة صفد وغيرها، ثم صار
أمير مائة، ومقدّم ألف بدمشق حتى مات، وكان من أعيان الأمراء.
وتوفّى القاضى علاء الدين على بن خليل الحكرىّ الحنبلىّ «1» ، فى يوم
السبت ثامن المحرم.
وتوفّى الأمير سيف الدين آقبغا [بن عبد الله] «2» الجمالىّ الظاهرىّ،
المعروف بالأطروش والهيدبانىّ «3» نائب حلب بها، فى ليلة الجمعة سابع
عشر جمادى الآخرة، وكان من أعيان المماليك الظاهريّة- برقوق- وممن صار
فى دولة أستاذه حاجب حجّاب حلب، ثم ولى نيابة صفد، ثم ولى نيابة طرابلس
بعد الأمير دمرداش المحمّدى، بحكم توجّه دمرداش أتابكا بحلب، ثم نقله
الملك الظاهر إلى نيابة حلب بعد موت أرغون شاه الإبراهيمى، فى سنة إحدى
وثمانمائة، ودام على نيابة حلب إلى أن خرج تنم نائب الشام عن طاعة
الملك الناصر، فوافقه آقبغا هذا، وصار من حزبه، إلى أن قبض عليه مع من
قبض عليه من الأمراء، وحبس مدّة ثم أطلق، وولى نيابة طرابلس ثانيا بعد
الأمير شيخ المحمودى، بحكم أسره مع تيمور، فلم يتم أمره، وأعيد شيخ إلى
نيابة طرابلس، واستقر آقبغا هذا أتابكا بدمشق مدّة، ثم ولى نيابة دمشق
بعد الوالد؛ بحكم خروجه من دمشق إلى حلب، فلم تطل أيامه بدمشق، وعزل
بالأمير شيخ المحمودى، وتوجّه- بطّالا- إلى القدس إلى أن أعيد إلى
نيابة حلب بعد دقماق المحمدى، فتوجّه إليها، وأقام بها إلى أن مات فى
التّاريخ المذكور.
وتوفّى الأمير سيف الدين دمشق خجا بن سالم الدّوكارى «4» التركمانىّ،
نائب
(13/36)
قلعة جعبر «1» - قتيلا بيد الأمير نعير بن
حيّار- فى سابع عشر شهر رمضان.
وتوفّى الشّيخ شمس الدّين محمد بن مبارك شيخ الرّباط النبوىّ- المعروف
بالآثار- فى المحرم.
وتوفّى الشيخ محمد المعروف بالحرفىّ «2» فى شوال من السنة، وكان عالما
بعلم الحرف، وله مشاركة فى غيره.
أمر النيل فى هذه السنة: الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرة أصابع، مبلغ
الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة عشر إصبعا، والوفاء خامس توت.
(13/37)
[ما وقع من
الحوادث سنة 807]
السنة السابعة من سلطنة الملك الناصر فرج بن برقوق- الأولى على مصر وهى
سنة سبع وثمانمائة:
فيها كان الشراقى العظيم بالديار المصرية.
وفيها كانت واقعة السعيديّة «1» بين الملك الناصر فرج صاحب الترجمة،
وبين يشبك، وشيخ، وجكم، وقرا يوسف، حسبما تقدّم ذكره.
وفيها توفّى الشيخ الإمام العالم عبيد الله الأردبيلىّ الحنفىّ، فى آخر
شهر رمضان، وكان من الفضلاء، معدودا من فقهاء الحنفيّة.
وتوفّى الوزير الصاحب بدر الدين محمد بن محمد الطوخىّ «2» ، وزير
الديار المصرية، تنقّل فى الخدم الدّيوانية حتى ولى ناظر الدولة «3» ،
ثم نقل إلى الوزر سنة تسع وتسعين بعد مسك ابن البقرىّ «4» ، وتولّى
بعده نظر الدولة سعد الدين الهيصم، ثم باشر الوزر بعد ذلك غير مرّة،
ووقع له أمور ومحن إلى أن مات- بطّالا- فى هذه السنة.
وتوفّى الأمير سيف الدين قانى باى بن عبد الله الظاهرى، رأس نوبة، وأحد
أمراء العشرات بديار مصر، فى يوم الخميس أول جمادى الآخرة، وكان من
خاصكيّة الملك الظاهر برقوق الصّغار.
(13/38)
وتوفّى الشيخ الإمام العالم الفقيه عبد
المنعم بن محمد بن داود «1» البغدادى الحنبلىّ، ثم المصرىّ بها، فى يوم
السبت ثامن عشر شوال، وقد انتهت إليه رئاسة مذهب الإمام أحمد بن حنبل،
بعد ما كتب على الفتوى، ودرّس عدة سنين، وكان لما قدم من بغداد إلى
الدّيار المصرية تفقّه بقاضى الفضاة موفق الدين الحنبلى، وهو جدّ
صاحبنا قاضى القضاة بدر الدين محمد بن محمد بن عبد المنعم- رحمه الله.
وتوفّى القاضى ناصر الدين محمد ابن صلاح الدين صالح «2» الحلبىّ،
الموقع الشافعى، المعروف بابن السّفّاح، موقّع الأمير يشبك الشّعبانىّ
الدّوادار، فى يوم الثلاثاء ثانى عشرين المحرم.
وتوفّى الشيخ نور الدين على ابن الشيخ الإمام سراج الدين عمر
البلقينىّ»
، فى يوم الاثنين سلخ شعبان فجاءة بمدينة بلبيس، وحمل منها إلى
القاهرة، ودفن بتربة «4» الصوفية، خارج باب النّصر عند أبيه، وكان
مولده فى شوال سنة ثمان وستين وسبعمائة، وكان بارعا فى الفقه والعربية،
ودرّس بعد موت أبيه بعدّة مدارس.
وتوفّى القاضى شمس الدين محمد بن عباس بن محمد بن حسين بن محمود بن
عباس الصّلتىّ، فى مستهل جمادى الأولى، بعد ما ولى القضاء بعدّة بلاد
من معاملة دمشق وغيرها، ولى قضاء بعلبك، وحمص، وغزّة، وحماة، ثم عمل
مالكيّا وولى قضاء المالكيّة بدمشق، ثم ترك ذلك بعد مدة وولى قضاء
الشافعية بدمشق، ولم تحمد سيرته فى مباشرته القضاء، وكيف تحمد سيرته
وهو ينتقل فى كلّ قليل إلى مذهب لأجل المناصب! فلو كان يرجع إلى دين ما
فعل ذلك، ومن لم يحترز على دينه يفعل ما يشاء.
قلت- والشيء بالشيء يذكر- وهو أننى اجتمعت مرة بالقاضى كمال الدين بن
(13/39)
البارزى، كاتب السر الشريف بالدّيار
المصرية- رحمه الله تعالى- فدفع إلىّ كتابا من بعض أهل غزّة، ممن هو فى
هذه المقولة، فوجدت الكتاب يتضمّن السعى فى بعض وظائف غزّة، وهو يقول
فيه: يا مولانا، المملوك منذ عزل من الوظيفة الفلانية بغزّة خاطره
مكسور، والمسؤول من صدقات المخدوم أن يوليه قضاء الشّافعية بغزّة، فإن
لم يكن فقضاء الحنفيّة، فإن لم يكن فقضاء المالكية، وإلا فقضاء
الحنابلة، فكتبت على حاشية الكتاب بخطى: فإن لم يكن، فمشاعلىّ «1» ملك
الأمراء- انتهى.
أمر النيل فى هذه السنة: الماء القديم ذراع واحد وعشرة أصابع، مبلغ
الزيادة تسعة عشر ذراعا وثلاثة أصابع.
(13/40)
[ما وقع من
الحوادث سنة 808]
ذكر سلطنة الملك المنصور عبد العزيز على مصر السلطان الملك المنصور عز
الدين عبد العزيز ابن السلطان الملك الظاهر سيف الدين أبى سعيد برقوق
ابن الأمير أنص العثمانىّ، سلطان الديار المصرية، وهو السلطان السابع
والعشرون من ملوك التّرك بالديار المصرية، والثالث من الجراكسة، تسلطن
بعهد من أبيه له بعد أخيه الملك الناصر فرج، وباتفاق الأمراء من أعيان
مماليك أبيه؛ بعد ما اختفى أخوه الملك الناصر فرج ابن الملك الظّاهر
برقوق، بعد عشاء الآخرة من ليلة الاثنين سادس عشرين شهر ربيع الأول سنة
ثمان وثمانمائة، وقد ناهز الاحتلام، بعد أن حضر الخليفة والقضاة
والأعيان من الأمراء، وطلب عبد العزيز من الدور السلطانية إلى الإسطبل
«1» السلطانى، وبويع بالسلطنة، وفوّض عليه الخلعة الخليفتية، وركب فرس
النوبة فى الفوانيس والشموع، والأمراء مشاة بين يديه حتى طلع إلى
القصر، وجلس على تخت الملك، وقبّلت الأمراء الأرض بين يديه، ولقّب
بالملك المنصور أبى العز عبد العزيز، ودقت البشائر- على العادة- وأصبح
نودى من الغد بالأمان والدعاء للسلطان الملك المنصور عبد العزيز. وأمّ
الملك المنصور هذا أم ولد تترية، تسمّى قنّق باى، صارت خوند بسلطنة
ولدها هذا، وعاشت إلى حدود سنة خمس وثلاثين وثمانمائة.
ولما تسلطن الملك المنصور هذا فى الليلة المذكورة، أصبح الناس فى هدوء
وأمان، وتحيّرت الناس فى أمر السلطان الملك الناصر فرج، ولم يشكّ أحد
فى أن الوالد أخذه ومضى إلى البلاد الشامية؛ لأنه كان عقد على الأخت
قبل تاريخه بمدة يسيرة ولم يدخل بها، فاطمأنّ بذلك قلب من هو من أصحاب
الملك الناصر، وكان ممّن اختفى بعد خروج الوالد من مصر من أعيان
الأمراء، دمرداش المحمّدىّ نائب حلب، والأمير
(13/41)
بيغوت، وهمّ كثير من حواشى الملك الناصر
فرج باللحاق بهما إلى البلاد الشامية، لولا أن أشاع آخرون قتل الملك
الناصر المذكور، ثمّ أشيع بعد ذلك أنه اختفى بالقاهرة، وأعرض أكابر
الأمراء عن الفحص فى أخبار الملك الناصر، والتفتيش عليه.
وقام بتدبير مملكة الملك المنصور، القاضى سعد الدين إبراهيم بن غراب،
وهو يوم ذاك كاتب سرّ مصر، وصار الملك المنصور تحت كنف أمه، ليس له من
السلطنة سوى مجرد الاسم فقط، وهى كثيرة التخوّف عليه من أخيه الملك
الناصر فرج، وكانت امتنعت عن سلطنته، وحجبته عن الأمراء حين طلبوه
للسلطنة، حتى أخذ منها بحيلة، دبّروها عليها، واستقرّ الأمير بيبرس
الصغير لا لا «1» السلطان الملك المنصور.
ثمّ فى يوم الخميس تاسع عشرين شهر ربيع الأوّل المذكور، عملت الخدمة
بالإيوان من قلعة الجبل على العادة، وجلس الملك المنصور على تخت الملك،
وحضر الأمراء، والقضاة، وسائر أعيان الدّولة، وخلع الملك المنصور على
جماعة كبيرة من الأمراء باستمرارهم على وظائفهم، وبتجديد وظائف أخر،
فخلع على بيبرس باستقراره أتابك العساكر على عادته، وعلى الأمير آقباى
باستقراره أمير سلاح على عادته، وعلى سودون الطيّار باستقراره على
عادته أمير مجلس، وعلى سودون تلى المحمّدىّ الأمير آخور باستمراره على
عادته، وعلى بشباى رأس نوبة النوب على عادته، وعلى الأمير أرسطاى حاجب
الحجّاب على عادته، وعلى سودون الماردانىّ الدّوادار الكبير على عادته،
وعلى سعد الدّين بن غراب على عادته كاتب السرّ، وعلى أخيه فخر الدين
ماجد وزيرا على عادته، وعلى فخر الدين ماجد بن المزوّق ناظر الجيش على
عادته، وعلى جمال الدّين يوسف البيرىّ الأستادار على عادته، وأنعم
بإقطاعات الأمراء المنهزمين، مثل الوالد وغيره، على الأمير إينال باى
بن قجماس، ومن كان قدم من الحبوس.
(13/42)
وأخذ من هذا اليوم أمر يشبك الشّعبانىّ
الدّوادار- كان- ورفقته يضعف، وأمر الأتابك بيبرس ورفقته يقوى، حتى صار
يشبك والأمراء يطلعون إلى بيبرس ويأكلون على سماطه، وإذا كان لهم حاجة
سألوا بيبرس فيها، ولم يعهدوا قبل ذلك لبيبرس فى الدولة كلاما، فعزّ
ذلك على يشبك وحاشيته إلى الغاية، وندموا على ما وقع منهم فى حقّ الملك
الناصر فرج، وتساعوا فى عوده، ولم يعرفوا للناصر خبرا، كلّ ذلك وسعد
الدين بن غراب لا يعرّف أحدا بأمر الملك الناصر فرج، لكنه يدبّر فى
إخراجه، وعوده إلى ملكه من حيث لا يعلم بذلك أحد، وأخذ يدبّر أيضا على
قبض إينال باى بن قجماس فى الباطن، فلم يتمّ له ذلك؛ لكثرة حاشيته
وعصبته، واضطراب الدولة، وعدم اجتماع الكلمة فى واحد بعينه.
ثمّ فى يوم الأربعاء ثامن عشر شهر ربيع الآخر، أفرج عن فتح الدين فتح
الله كاتب السرّ- كان- على أنه يحمل خمسمائة ألف درهم ثمنها يوم ذاك
ثلاثة آلاف وثلاثة وثلاثون مثقالا ذهبا وثلث مثقال، كلّ ذلك والدولة
غير مستقيمة، وأحوال الناس متوقفة؛ لترقّبهم وقوع فتنة، غير أنّ أخبار
الناصر لا تظهر، مع علمهم أنه مختف بالقاهرة، لما يظهر من أمر بيبرس
ورفقته من الاحتراز من الناصر، وإصلاح أمر الملك المنصور عبد العزيز
فيما يثبّت به ملكه.
ثم فى حادى عشر جمادى الأولى، توجه الطواشى شاهين الحسنىّ، رأس نوبة
الجمداريّة، ولالا السلطان الملك المنصور، ومعه نحو عشرة أنفس، إلى
البلاد الشامية لإحضار الأمير شيخ المحمودىّ الساقى نائب الشام- كان-
إلى الديار المصرية، وكان يوم ذاك الأمير نوروز الحافظىّ ولى نيابة
الشام عوضا عن شيخ المذكور، وخرج لقتال شيخ وكسره، وحصره بقلعة
الصّبيبة «1» ، ولإحضار الأمير جكم من عوض نائب حلب، ثمّ ورد كتاب
الأمير شيخ المذكور، وكتاب جكم
(13/43)
أيضا إلى الديار المصرية بعد ذلك بعشرة
أيام، يخبران بأنهما حاربا الأمير نوروزا الحافظىّ وهزماه، وأنه لحق
بطرابلس، وأنهما دخلا دمشق وأقاما بها أياما، ثم إن جكم خرج من دمشق
لقتال نوروز الحافظى بطرابلس، وتبعه شيخ، فلما بلغ نوروزا ذلك خرج من
طرابلس إلى حماة، ونزل جكم وشيخ على حمص، ثم سارا إلى طرابلس، ففرّ
منها نائبها الأمير بكتمر جلّق، فوصل جكم وشيخ إلى طرابلس، وبلغ الأمير
علّان جلق نائب حلب نزول نوروز وبكتمر جلّق إلى حماة، فخرج بعساكره من
حلب، وقدم عليهما ووافقهما على قتال جكم وشيخ.
ولما وصل هذا الخبر إلى الديار المصرية، عظم على الأتابك بيبرس وحاشيته
انهزام نوروز من جكم وشيخ إلى الغاية، وسر بذلك يشبك وحاشيته فى
الباطن، وكثر قلق يشبك وأصحابه من الأمراء على الملك الناصر فرج،
لاسيما لما مرض الملك المنصور عبد العزيز فى يوم الثلاثاء أول جمادى
الآخرة، فلما رأى سعد الدين إبراهيم ابن غراب أمر يشبك الشعبانىّ فى
إدبار عزّ عليه ذلك، لأن يشبك المذكور كان هو الذي أقامه بعد موت الملك
الظاهر برقوق، وقام بمساعدته أعظم قيام، حتى كان من أمر ابن غراب ما
كان، فعند ذلك أعلمه ابن غراب بأمر الملك الناصر مفصلا، وأنه عنده مقيم
من يوم تسحب من قلعة الجبل، وقال له: أى وقت تشتهى الاجتماع به فعلت لك
ذلك، فسرّ يشبك بذلك غاية السرور، وأعلم إخوته وحواشيه بما وقع، وأخذ
من يومه فى تدبير أمر الملك الناصر فرج، وظهوره وعوده إلى ملكه فى
الباطن، حتى استحكم أمرهم، ووافق ذلك مرض الملك المنصور عبد العزيز،
فقويت حركتهم، وكثرت القالة بين الناس فى أمر الملك الناصر وعوده إلى
الملك، وتحقّق كلّ أحد أنه مقيم بالديار المصرية، وصارت أخباره تأتى
يشبك وأصحابه مياومة ومساعاة، هذا بعد أن اجتمع عليه يشبك وغيره من
الأمراء فى اللّيل غير مرة، وواعدوه، وتردّدوا إليه فى أماكن عديدة،
كلّ ذلك وبيبرس ورفقته لا يعرفون ما الخبر، بل يتحقّقون أنه مقيم
بالقاهرة لاغير، وأنّ له عصبية كبيرة من الأمراء، ومع ذلك
(13/44)
قلوبهم مطمئنة أنّ القلعة بيدهم والسلطان
عندهم، وأن الناصر أمره تلاشى واضمحل.
فلما كان يوم الجمعة رابع جمادى الآخرة من سنة ثمان وثمانمائة
المذكورة، سعى المماليك بعضهم إلى بعض، وكثر هرجهم، وعادت خيول كثيرة
من الربيع، وصاروا يركبون جمعا كبيرا ويتسارّون بالكلام، وبلغ ذلك
بيبرس ورفقته، فأمرهم بيبرس وإينال باى بن قجماس بالفحص عن أخبارهم،
فخرج جماعه كبيرة منهم وداخلوا المماليك المذكورة فى كلام الناصر، فلم
يقفوا له على خبر، وعمّى عليهم جميع أحوال الملك الناصر، غير أنهم
علموا أنّ الملك الناصر يريد الظهور والعود إلى الملك فاضطرب أمرهم،
وحرّضوا بعضهم بعضا على قتاله إن خرج، وتهيئوا لذلك، وحصنوا القلعة،
وطلبوا جماعة كبيرة من المماليك السلطانية، ووعدوهم بالأمريّات
والإقطاعات والوظائف، وحذروهم من عود الملك الناصر إلى الملك؛ أنه لا
يبقى على أحد منهم، وتواصوا على القيام مع الملك المنصور عبد العزيز
وإتمام أمره، كلّ ذلك وأحوالهم مفلولة، لعدم أهلية بيبرس بتنفيذ
الأمور، ومعرفة الحروب، والقيام بأعباء الملك؛ لانهماكه فى اللذات،
ولانعكافه على اللهو والطرب عمره كلّه، لا يميل لغير ذلك، ومنذ مات
خاله الملك الظاهر برقوق لم يدخل بنفسه فى أمر غير هذا المعنى المذكور،
ولسان حاله ينشد ويقول: [موشح]
خلّى الملوك تسطو بالملك والسلاح ... إنى قنعت منهم بالراح والملاح.
قلت: وليته دام على ما كان عليه من لهوه وطربه، ولم يدخل بنفسه فى هذه
المضايق التى ذهبت فيها روحه، وأما رفيقه إينال باى فإنه كان فيه طيش
وخفة مع عدم تدبير ومعرفة، وأيضا لو علم ذلك كله، لم يكن أهلا إلى
القيام بمثل هذا الأمر مع وجود من هو أعظم منه فى النفوس، وأكبر منه
قدرا، وهم جماعة كبيرة، فلهذا كله لم ينتج أمرهم، وزال ملك الملك
المنصور عبد العزيز بعد ما كان تمّ أمره، وقطع الناصر آماله من الملك.
(13/45)
واستمرّ الأمر على ذلك، وباتوا ليلة السبت
المذكورة، والحال على ما هو عليه، إلى أن كان نصف الليل، فخرج الملك
الناصر فرج بن برقوق من بيت القاضى سعد الدين إبراهيم بن غراب، كاتب
السرّ، فى جماعة كبيرة، من غير تستّر، بل فى موكب عظيم سلطانىّ، ومضى
بعساكره إلى بيت الأمير سودون الحمزاوىّ ونزل به، وأرسل استدعى الأمراء
والمماليك السلطانية، وتسامعت به الناس، فأتوه من كلّ فج بالسلاح وآلة
الحرب، ثم لبس الملك الناصر سلاحه وركب فى أمرائه وعساكره، وقصد قلعة
الجبل، وقد استعدّ بيبرس وإينال، وغيرهما من الأمراء الذين بالقلعة
لقتاله، وحصّنوا القلعة، فلما حضر إليها الملك الناصر فرج بعساكره
ناوشوه بالقتال، ورموا عليه، وتقاتل الفريقان قتالا ليس بذاك، فلما رأى
الملك الناصر أمر أهل القلعة مفلولا، توجّه إلى نحو باب القلعة، وكان
به الأمير صوماى الحسنىّ الظاهرىّ- رأس نوبة-[و] قد وكّل بباب المدرّج
«1» ، فعندما رأى صوماى الملك الناصر فتح له باب القلعة، فطلع منه
الملك الناصر بأمرائه، وملك القلعة وجلس بالقصر السلطانى، هذا وبيبرس
وإينال باى يقاتلان أمراء السلطان من باب «2» السلسلة من الإسطبل
السلطانى.
فبينما هم فى ذلك، وإذا بالرمى عليهم من القصر، فالتفتوا وإذا بالناصر
جالس بالقصر السلطانى، فلم يثبت بيبرس عند ذلك ساعة واحدة، وانهزم من
وقته، ونزل بمن معه فارّا إلى خارج القاهرة، فأرسل السلطان فى أثره
الأمير سودون الطيّار- أمير مجلس- فى جماعة، فأدركه خارج القاهرة، فلم
(13/46)
يدفع عن نفسه، فقبض عليه سودون الطيّار،
وأتى به إلى الملك الناصر، فقيّد فى الحال، وأرسل إلى الإسكندرية، فسجن
بها، واختفى إينال باى، وسودون الماردانىّ، وطلب السلطان الملك الناصر
فرج أخاه السلطان الملك المنصور عبد العزيز، وطيّب خاطره، وأرسله إلى
أمه بالدّور السلطانيّة، وتم أمر الملك الناصر، وأعيد إلى ملكه بعد أن
خلع من الملك هذه المدة، وزال ملك الملك المنصور كأنه لم يكن، فكانت
مدّة سلطنة الملك المنصور عبد العزيز المذكور على مصر شهرين وعشرة
أيام، ليس له فيها إلا مجرد الاسم لا غير، وأقام عند أمه بالدور
السلطانية من قلعة الجبل إلى أن أخرجه أخوه الملك الناصر فرج إلى ثغر
الإسكندرية، ومعه أخوه إبراهيم بن الملك الظاهر برقوق، صحبة الأمير
قطلوبغا الحسنىّ الكركىّ، والأمير إينال حطب العلائىّ، فى حادى عشرين
صفر من سنة تسع وثمانمائة المذكورة، فأقام الملك المنصور عبد العزيز
المذكور وأخوه إبراهيم بالإسكندرية مدة يسيرة، ومرضا معا، فمات الملك
المنصور هذا فى ليلة الاثنين سابع شهر ربيع الآخر من سنة تسع وثمانمائة
المذكورة، بعد أن لزم الفراش واحدا وعشرين يوما، ومات أخوه إبراهيم
بعده فى ليلته، فاتهم الملك الناصر أنه أمر باغتيالهما بالسّم قبل سفره
إلى الشام- حسبما يأتى ذكره.
قلت: لا يبعد ذلك من وجوه عديدة ليس لإبدائها محل- والله أعلم.
(13/47)
[ما وقع من
الحوادث سنة 809]
ذكر سلطنة الملك الناصر فرج الثانية على مصر «1» ولما كان صبيحة يوم
السبت خامس جمادى الآخرة، طلع الملك الناصر فرج إلى قلعة الجبل وملكها،
وقبض على الأتابك بيبرس، ثم على من يأتى ذكره، ثم طلب الخليفة والقضاة
فحضروا، وجدّدت له بيعة السّلطنة ثانيا، وثبت خلع الملك المنصور عبد
العزيز، وتسلطن وعاد إلى ملك مصر، وخلع على الخليفة والقضاة، وتمّ
أمره، وانفضّ الموكب، ونزل الجميع إلى دورهم، وسكن أمر الناس.
فلما كان يوم الاثنين سابع جمادى الآخرة المذكورة، خلع السلطان على
الأمير يشبك الشّعبانىّ الظاهرىّ الدّوادار- كان- باستقراره أتابك
العساكر بالديار المصرية، عوضا عن بيبرس ابن أخت السّلطان الملك الظاهر
برقوق، وخلع على الأمير سودون الحمزاوىّ الظاهرىّ باستقراره دوادارا
كبيرا، عوضا عن سودون الماردانىّ، وعلى الأمير جركس القاسمىّ المصارع
باستقراره أمير آخور كبيرا، عوضا عن سودون تلى «2» المحمدىّ، ثم أمسك
السلطان الأمير جارقطلو- رأس نوبة- وقانى باى- أمير آخور- وآقبغا- رأس
نوبة- والثلاثة أمراء عشروات، وأمسك بردبك وصمغار- رأس نوبة- أحد أمراء
الطبلخانات- ثم خلع على القاضى سعد الدين إبراهيم ابن غراب، واستقر رأس
«3» مشورة، وأنعم عليه بإمرة مائة، وتقدمة ألف بالدّيار
(13/48)
المصريّة، وصار أميرا بعدما كان مباشرا،
ولبس الكلفتاة «1» ، وتقلّد بالسيف، وكان فى أمسه قد ركب مع السلطان
الملك الناصر بقرقل «2» وعليه آلة الحرب- كاملا- وصار بعد من جملة
المقاتلين، وتزيّا بزىّ الأتراك، وطلع إلى الخدمة من جملة الأمراء، ثمّ
نزل إلى داره بقماش الموكب- على عادة الأمراء- فلم يركب بعدها، ولزم
الفراش حتى مات، حسبما يأتى ذكره فى محله.
وخلع السلطان على فخر الدين ماجد بن المزوّق- ناظر الجيش- باستقراره فى
كتابة السرّ، عوضا عن سعد الدين بن غراب المذكور؛ بحكم انتقاله إلى
إمرة مائة، وتقدمة ألف بالديار المصريّة، ثم أمر السلطان فكتب بتقليد
الأمير شيخ المحمودىّ باستقراره فى نيابة دمشق على عادته، عوضا عن
الأمير نوروز الحافظىّ، وأن يتوجّه نوروز المذكور إلى القدس بطّالا،
وحمل التقليد والتّشريف إلى الأمير شيخ الأمير إينال المنقار شادّ «3»
الشّراب خاناة، وكتب بتقليد الأمير جكم بنيابة حلب، عوضا عن علّان،
وحمل إليه التقليد والتّشريف سودون السّاقى، وكتب للأمير دمرداش
المحمدىّ نائب حلب- كان- بالحضور إلى مصر، ثم قبض السلطان الملك الناصر
على سودون المحمدىّ المعروف بتلى الأمير آخور الكبير، وأخرج إلى دمشق
على إقطاع الأمير سودون اليوسفىّ، ثمّ خلع السلطان على الأمير سودون من
زادة باستقراره فى نيابة غزّة عوضا عن سلامش.
ثمّ فى حادى عشرين جمادى الآخرة المذكورة، خلع السّلطان على الأمير
تمراز الناصرىّ باستقراره نائب السّلطنة الشّريفة بالدّيار المصرية،
وكانت شاغرة سنين
(13/49)
عديدة، من يوم تركها سودون الفخرىّ
الشيخونىّ، فى دولة الملك الظاهر برقوق، وخلع على الأمير آقباى أمير
سلاح، واستقر رأس نوبة الأمراء، واستقرّ سودون الطّيّار أمير سلاح عوضا
عن آقباى المذكور، واستقرّ يلبغا الناصرىّ أمير مجلس عوضا عن سودون
الطّيّار.
وأما البلاد الشّاميّة، فإنه لمّا بلغ أعيان الأمراء بها عود الملك
الناصر فرج إلى ملكه، وتولية شيخ ثانيا نيابة دمشق عوضا عن نوروز،
فرحوا بذلك فرحا عظيما، ودقّت البشار لذلك أياما، وخرج نوروز الحافظىّ،
وعلّان جلّق «1» من حماة، وتوجّها إلى حلب بمن معهما، وكان الأمير
دمرداش المحمّدىّ قد فرّ منها، وتوجّه إلى بلاد التّركمان، فمضيا إليه،
ثم فارقاه وعادا إلى جهة أخرى حسبما يأتى ذكره، وأقام بحلب الأمير
دقماق المحمّدىّ، فلما قدم جكم إلى حلب امتنع دقماق بحلب، وقاتله
وانكسر، وأخذ دقماق وقتل بين يدى جكم صبرا- على ما يأتى ذكره فى محلّه.
وأما السّلطان الملك الناصر فرج، فإنه لمّا كان يوم الخميس رابع شهر
رجب، قبض على الأمير أزبك الرّمضانىّ، وقيّده وبعثه إلى الإسكندرية
فسجن بها، ثم ورد عليه الخبر بأنّ الأمير جكم سار إلى حلب ومعه الأمير
شيخ نائب الشام، ونوروز بحلب، فلمّا وصلا إلى المعرّة كتب إليهما نوروز
يعتذر بأنّه لم يعلم بولاية الأمير جكم لحلب، وخرج بمن معه منها إلى
البرّيّة، فدخل جكم حلب من غير قتال، وعاد شيخ إلى الشّام، فلما بلغ
السلطان ذلك كتب إلى الأمير جكم بنيابة طرابلس مضافا على ما بيده من
نيابة حلب بمثال سلطانى من غير تقليد، وتوجّه بالمثال الأمير مغلباى،
وكتب إلى نوروز بالحضور إلى القدس- بطّالا- كما كتب له أولا، وكتب إلى
الأمير بكتمر جلّق نائب طرابلس بأن يكون أميرا كبيرا بدمشق.
وأمّا جكم فإنّه لمّا استقرّ بحلب ما زال يكاتب نوروزا وعلّان [جلّق]
«2»
(13/50)
حتى قدما عليه، فأكرمهما وصارا من جملة
أصحابه، ثمّ وقع له مع شيخ وغيره أمور نذكرها فى محلّها.
وفى يوم الاثنين أول شعبان، استدعى السّلطان الملك الناصر أبا الفضل
العبّاس ولد الخليفة المتوكل على الله أبى عبد الله محمد، وبايعه
بالخلافة بعد موت أبيه المذكور، ولبس التّشريف، ولقّب بالمستعين بالله،
ونزل إلى داره. وكانت وفاة المتوكل على الله فى سابع عشرين شهر رجب،
ثمّ كتب السّلطان باستقرار الأمير طولو من علىّ باشاه فى نيابة صفد
عوضا عن بكتمر الرّكنىّ، المعروف بكتمر باطيا، وجهّز تشريف طولو على يد
الأمير آقبردى رأس نوبة، وكتب باستقرار الأمير دمرداش المحمّدىّ فى
نيابة حماة، ثم ورد الخبر بوصول الأمير علّان جلّق إلى دمشق مفارقا
لجكم نائب حلب. ومات سعد الدين إبراهيم بن غراب فى يوم الخميس تاسع عشر
شهر رمضان- كما سيأتى ذكره فى الوفيات- ثم أمسك السلطان الأمير إينال
الأشقر وأرسله إلى سجن الإسكندرية لأمر بلغه عنه، ثمّ فى أواخر شهر
رمضان قبض على الأمير سودون الماردانىّ من بيت بالقاهرة، فقيّد وحمل
إلى سجن الإسكندرية، ثمّ كتب السلطان أمانا لكلّ من جمق، وأسنباى،
وأرغز، وسودون اليوسفىّ، وبرسباى الدّقماقىّ، أعنى الملك الأشرف،
وجهّزه إليهم بالشام، ثمّ قبض السلطان على الوزير فخر الدين ماجد بن
غراب فى سابع ذى القعدة، وسلّمه إلى جمال الدين يوسف البيرىّ
الأستادار، ثم كتب السلطان إلى الأمير نوروز لحافظىّ- وهو عند جكم
بحلب- أنه قد قدّمت مكاتبة السلطان له أنّه يتوجّه إلى القدس بطّالا،
وأنه أيضا ساعة وصول هذا المرسوم إليه يحضر إلى الدّيار المصريّة، فلم
يلتفت جكم إلى مرسوم السلطان، ونهر القاصد، وخشّن له فى الكلام.
ثمّ فى سابع من ذى الحجّة، خلع السلطان على القاضى فتح الدين فتح الله
بإعادته إلى وظيفة كتابة السّر، بعد عزل فخر الدين بن المزوّق عنها، ثم
أفرج السّلطان عن فخر الدين بن غراب، وخلع عليه، واستقرّ وزيرا ومشيرا
وناظر الخاص- على عادته أوّلا- بعد أن حمل عشرين ألف دينار.
(13/51)
وكان فى هذه السّنة- أعنى سنة ثمان
[وثمانمائة] «1» - الطاعون العظيم بصعيد مصر، حتى شمل الخراب غالب بلاد
الصعيد، ثمّ بلغ السّلطان أنّ جكم من عوض نائب حلب قد عظم أمره، وأنه
قد بدا منه أمور تدلّ على المخالفة، فكتب السّلطان بعزله عن نيابة حلب
وطرابلس، وولاية الأمير دمرداش نيابة حلب عوضه، وتولية الأمير علّان
اليحياوىّ [جلّق] «2» ، نيابة طرابلس عوضه، وتولية الأمير عمر
الهيدبانىّ نيابة حماة، وتوجّه بتقاليدهم ألطنبغا شقل مملوك الأمير شيخ
المحمودىّ نائب الشام، ولم يرسل السلطان إليهم أحدا من أمراء مصر لضعف
حالهم وعدم موجودهم، وقبل أن يصل إليهم الخبر بذلك اقتتل الأمير شيخ مع
الأمير جكم بأرض الرّستن «3» - فيما بين حماة وحمص- فى خامس من ذى
الحجة قتالا عظيما، قتل فيه الأمير علّان اليحياوىّ جلّق، والأمير طولو
من علىّ باشاه نائب صفد، وجماعة كبيرة فى الواقعة، وأما علّان وطولو
فإنه قبض عليهما فقدّما بين يدى الأمير جكم؛ فأمر بضرب رقابهما، فضربت
أعناقهما بين يديه، وضرب عنق طواشى كان فى خدمة الأمير شيخ معهما.
قلت: وهذا ثالث أمير قتله الأمير جكم من أعيان الملوك من خشداشيّته فى
هذه السنة- أعنى: دقماق المحمّدىّ نائب حلب، وعلّان هذا نائب حلب أيضا،
وطولو نائب صفد- انتهى. وانهزم الأمير شيخ المحمودىّ نائب الشام ومعه
الأمير دمرداش نائب حلب إلى دمشق، فلم يقدر شيخ على الإقامة بدمشق خوفا
من نوروز الحافظىّ، وخرج من دمشق ومضى إلى الرّملة «4» يريد القدوم إلى
القاهرة، ودخل نوروز إلى دمشق، وملك المدينة من جهة جكم بعساكره فى يوم
الاثنين سابع عشرين
(13/52)
ذى الحجة المذكورة، ثمّ دخل جكم دمشق بعده
فى يوم الخميس سلخ ذى الحجة، ونادى جكم فى دمشق بالأمان، وأنه لا يشوّش
أحد على أحد، وكان جكم قد شنق رجلا من عسكره بحلب؛ كونه رعى فرسه زرعا،
وشنق آخر على شىء وقع منه فى حقّ بعض الرعيّة، ثم لما قدم دمشق شنق بها
أيضا جنديا بعد المناداة على شىء من ذلك، فخافته عساكره وانكفّوا عن
مظالم الناس، وعن شرب الخمر، حتى لهجت النّاس بقولهم: جكم حكم وما ظلم،
وعظم أمر جكم بالبلاد الشامية إلى الغاية.
ولما بلغ خبر هذه الواقعة المصريين خارت قواهم وتخوّفوا من جكم، وخرج
البريد من يومه يطلب الأمير تغرى بردى- أعنى الوالد- من برّيّة القدس،
فحضر إلى القاهرة، وجلس رأس الميسرة، بعد أن بنى السلطان على ابنته-
كريمة «1» مؤلف هذا الكتاب «2» - ثم جهّز السلطان تشريفا للأمير شيخ فى
حادى عشر المحرم من سنة تسع وثمانمائة بنيابة الشام على عادته، وأمدّه
بمال وسلاح، وقبل خروج القاصد إليه قدم الخبر بوصول شيخ المذكور إلى
مدينة بلبيس، فخرج إليه المطبخ السّلطانىّ وتلقّته الأمراء.
ثم قبض السلطان على الأمير كزل العجمىّ حاجب الحجاب- وكان أمير حاجّ
المحمل- لما فعله مع الحجّاج فى هذه السّنة؛ فإنه أخذ من الحاج على كلّ
جمل دينارا وباعهم الماء الذي يردونه، فصادره السلطان وأخذ منه نحو
المائتى ألف درهم، ففر فى سلخه، فأخذ له حاصل كبير «3» أيضا.
وأما جكم، فإنّه أقام بدمشق مدة وقرّر أمورها، وجعل على نيابتها الأمير
نوروزا الحافظى، وكان الأمير سودون تلّى المحمّدى الأمير آخور- كان- فى
سجن الأمير شيخ، ففرّ منه ولحق بالأمير نوروز الحافظىّ، ثم ورد الخبر
من قضاة حماة أنه سمع طائر يقول:
(13/53)
«اللهمّ انصر جكم» وهذا من غريب الاتّفاق،
وهذا والناس فى جهد وبلاء من غلوّ الأسعار بالديار المصرية، لا سيّما
لحم الضأن والبقر وغيره، فإنه عزّ وجوده البتة، ثم خرج الأمير الكبير
يشبك الشّعبانىّ وغالب الأمراء إلى ملاقاة شيخ، ودمرداش، ومعهما خير بك
نائب غزّة، وألطنبغا العثمانى حاجب حجّاب دمشق، ويونس الحافظىّ نائب
حماة- كان- وسودون الظريف نائب الكرك- كان- وتنكزبغا الحططىّ فى آخرين،
وطلع الجميع إلى القلعة، وقبلّوا الأرض بين يدى السلطان، فأكرمهم
السلطان غاية الإكرام، ثم نزلوا إلى القاهرة، وعقيب ذلك ورد الخبر بأخذ
عسكر جكم مدينة صفد، والكرك، والصّبيبة وغيرها.
ثمّ فى سادس صفر من سنة تسع وثمانمائة المذكورة، خلع السّلطان على
الأمير شيخ المحمودىّ بنيابة الشام على عادته، وعلى الأمير دمرداش
بنيابة حلب على عادته، وأخذ السّلطان فى تجهيز أمر السّفر إلى البلاد
الشّامية.
ثم فى حادى عشرين صفر من سنة تسع المذكورة، حمل السلطان الملك الناصر
أخاه الملك المنصور عبد العزيز، وأخاه إبراهيم- ابنى الملك الظاهر
برقوق- إلى سجن الإسكندرية صحبة الأمير قطلوبغا الكركىّ، والأمير إينال
حطب العلائىّ، ورسم لهما أن يقيما باسكندريّة عندهما، وقد تقدّم ذكر
ذلك فى أواخر ترجمة الملك المنصور عبد العزيز.
ثمّ أنعم السّلطان على الأمير شيخ بأشياء كثيرة، فتجهّز شيخ المذكور
وخرج من الديار المصرية فى يوم الاثنين أول شهر ربيع الأول، وخلع
السلطان على الأمير دمرداش المحمّدى نائب حلب أيضا خلعة السّفر، وخرج
صحبة الأمير شيخ، وتوجّها بجماعتهما ونزلا بالرّيدانيّة «1» ثم لحق
بهما الأمير سودون الحمزاوىّ الدوادار الكبير،
(13/54)
والأمير سودون الطّيّار أمير سلاح بطلبهما
«1» ومماليكهما وهؤلاء كالجاليش «2» . وأقام الجميع بالرّيدانيّة إلى
أن رحلوا منها، وبعد رحيلهم نزل السّلطان بعساكره وأمرائه من قلعة
الجبل، ونزل بمخّيمه من الرّيدانيّة خارج القاهرة، فى ثامن شهر ربيع
الأول المذكور من سنة تسع وثمانمائة، وهذه تجريدة الملك النّاصر
الثالثة إلى البلاد الشّاميّة، فإنّ الأولى كانت من سنة اثنتين لقتال
تنم، والثانية فى سنة ثلاث لقتال تمر لنك، وهذه الثالثة.
وأقام السلطان بالرّيدانيّة إلى يوم ثانى عشر شهر ربيع الأول، فرحل
منها بعساكره إلى جهة الشّام، بعد أن خلع على الأمير تمراز الناصرىّ
نائب السلطنة الشّريفة بالديار المصرية باستقراره أيضا فى نيابة الغيبة
«3» بالقاهرة، وأنزل السلطان بقلعة الجبل جماعة أخرى من الأمراء ممن
يثق بهم، وكذلك بالقاهرة.
قال المقريزىّ- رحمه الله: ولم يحمد رحيل السّلطان الملك النّاصر من
الرّيدانيّة فى يوم الجمعة، فقد نقل عن الإمام أحمد بن حنبل- رحمه
الله- أنه قال: ما سافر أحد يوم الجمعة إلّا رأى ما يكره. وسار السلطان
بعساكره حتى دخل دمشق فى يوم الاثنين سابع شهر ربيع الآخر من السنة
بتجمّل عظيم، ونزل بدار السّعادة «4» بعد أن زيّنت له دمشق، فأقام
بدمشق إلى يوم سابع عشره، فرحل من دمشق بعساكره يريد حلب، وسار حتى دخل
حلب فى يوم سادس عشرينه، وقد فرّ منها جكم وعدّى الفرات خوفا من الملك
النّاصر فرج، ومعه الأمير نوروز الحافظىّ وتمربغا المشطوب، فى جماعة
أخر، فنزل السلطان
(13/55)
بالقلعة من حلب، وبعث بجماعة فى طلب جكم
ورفقته، فتوجّهوا فى أثره، ثمّ عادوا بعد أيام بغير طائل، وخرج
السّلطان من حلب عائدا إلى الدّيار المصريّة يريد الشّام فى أوّل جمادى
الآخرة، بعد ما ولّى الأمير جركس القاسمىّ المصارع الأمير آخور الكبير
نيابة حلب عوضا عن جكم من عوض، وولّى الأمير سودون بقجة نيابة طرابلس.
وجدّ السلطان فى سيره بعد خروجه من حلب حتى قدم دمشق فى خامس جمادى
الآخرة، وبعد خروج السلطان من حلب بيوم ثارت طائفة من المماليك ومعهم
عامّة حلب على جركس المصارع، ثمّ قدم الأمير نوروز الحافظىّ إلى نحو
حلب، ففرّ منها جركس المصارع يريد دمشق ونوروز فى أثره، فعثر نوروز
بحلم «1» الملك النّاصر- وكان تخلّف عن السّلطان لسرعة سير السّلطان-
فقطعه نوروز ووقع النهب فيه، ولحق الأمير جركس السلطان ودخل معه دمشق،
فنزل السّلطان فى دار السعادة، ونادى بالإقامة فى دمشق شهرين، وكان
الأتابك يشبك الشّعبانىّ قدم دمشق، وهو متمرّض فى أمسه، ومعه الأمير
دمردش المحمّدىّ، وبشباى رأس نوبة النّوب، وورد الخبر على السّلطان
بنزول نوروز على حماة، وبقدوم جكم إلى حلب.
فلمّا بلغ السّلطان ذلك خرج من دمشق فى يوم الأحد سادس عشر جمادى
الآخرة، بعد ما أمر العسكر أنّ من كان فرسه عاجزا فليتوجّه إلى
القاهرة، وألّا يتبع السلطان إلّا من كان قويّا، فتسارع أكثر العسكر
إلى العود لجهة الديار المصريّة، ولم يتبع السّلطان من عسكره إلا
القليل، وسار الملك النّاصر حتى وصل إلى منزلة قارا «2» ، ثمّ عاد
مجدّا فدخل دمشق وقد تمزّق عسكره، وتأخّر جماعة كبيرة من الأمراء مع
شيخ نائب الشّام، ثم قدموا دمشق، ثم خرج الأمير شيخ فى ثالث عشرينه من
دمشق ومعه دمرداش المحمّدىّ،
(13/56)
وألطنبغا العثمانىّ فى عدّة من الأمراء إلى
جهة صفد، وسار السّلطان ويشبك، ومعهما جميع الأمراء إلى جهة مصر، فدخل
السلطان إلى القدس، وقد تخلّف عنه الأمير سودون الحمزاوىّ الدّوادار
الكبير بدمشق، ومعه عدّة من الأمراء مغاضبين للسّلطان لأمر اقتصى ذلك،
ثمّ خرج الحمزاوىّ من دمشق يريد صفد، وأخذ كثيرا من الأثقال
السّلطانيّة واستولى على صفد.
وأما نوروز فإنه جهّز عسكرا عليهم الأمير سودون تلّى المحمّدىّ، وأزبك
الدّوادار «1» فى آخرين، فساروا إلى جهة الرّملة، ثمّ قدم على الأمير
نوروز الحافظىّ الأمير إينال باى بن قجماس والأمير يشبك بن أزدمر،
وكانا مختفيين بالقاهرة من يوم خروج الملك النّاصر فرج وعوده إلى ملكه،
واختفيا حتى خرجا صحبة السلطان إلى البلاد الشّامية، فلما عاد السّلطان
إلى نحو الدّيار المصريّة توجّها إلى نوروز بدمشق، وتوجّه معهما الأمير
سودون المحمّدىّ لصعف أصابه، فأكرمهما الأمير نوروز غاية الإكرام،
وأنعم عليهما بأشياء كثيرة، وكتب للأمير جكم بقدومهما.
وأمّا السلطان الملك النّاصر، فإنه سار من القدس حتى دخل إلى القاهرة
فى حادى عشر شهر رجب بغير طائل، وقد تلف له ولعساكره مال كبير، وزيّنت
القاهرة لقدومه، وخرج أعيان المصريّين لتقّيه، ثمّ بعد قدومه بسبعة
أيام وصل دمرداش نائب حلب، وسودون من زادة نائب غزّة إلى القاهرة،
واستمرّ سودون الحمزاوىّ وشيخ نائب الشّام بصفد، وأخذ [سودون] «2»
الحمزاوىّ يسعى فى الصّلح بين شيخ ونوروز، ولا زال فى ذلك حتى أجاب
نوروز، وكتب فى هذا المعنى إلى جكم، فبينما هم فى ذلك خرج سودون
الحمزاوىّ يوما من صفد ليسير، فقام شيخ وركب واستولى على قلعة صفد،
وأخذ جميع ما للحمزاوىّ، وبلغ ذلك الحمزاوىّ
(13/57)
فهرب ونجا بنفسه فى قليل من أصحابه، وتوجّه
إلى دمشق فرحّب به نوروز، غير أنّ نوروزا كان مشغولا بعمارة قلعة دمشق،
فلم ينهض بالخروج معه لقتال شيخ.
وأمّا الملك النّاصر، فإنّه فى يوم الجمعة رابع شعبان، مسك الوزير فخر
الدين ماجد بن غراب وسلّمه لجمال الدين الأستادار، ليصادره ويعاقبه،
واستقرّ جمال الدين فى وظيفتى الوزير وناظر الخاصّ مضافا إلى
الأستاداريّة، وهذا أوّل ابتداء تحكّم جمال الدين فى الناس، ثم قبض على
الأمير خير بك نائب عزّة، وقدم به إلى القاهرة مقيّدا، ثمّ عيّن
السلطان جماعة من الأمراء للتجريدة بالبلاد الشّامية ومقدّمهم الأمير
تمراز النّاصرىّ النائب، وآقباى، وغيرهما، وخرجوا من القاهرة فى عاشر
شهر رمضان، فورد الخبر بأن عسكرا من الشام أخذ غزّة، وأن يشبك بن أزدمر
أخذ قطيا «1» ، وأخربها وعاد إلى غزّة، فأقام تمراز بمن معه على مدينة
بلبيس أياما، ثم عاد هو وآقباى بمن معهما إلى القاهرة فى سابع شوّال.
ثمّ قدم الخبر على الملك الناصر بأن الأمير جكم من عوض نائب حلب تسلطن
بقلعة حلب فى يوم حادى عشر شوال من سنة تسع وثمانمائة المذكورة، وتلقّب
بالملك العادل أبى الفتح عبد الله جكم، وخطب باسمه من الفرات إلى غزّة-
ما عدا صفد- فإن بها الأمير شيخا المحمودىّ، وقد استولى عليها من سودون
الحمزاوىّ حسبما تقدّم ذكره، وأنه لم يخطب باسم جكم، وأنه مستمرّ على
طاعة السّلطان، وأن الأمير نوروزا نائب الشّام باس الأرض لجكم، وخلع
على بكتمر جلّق بنيابة صفد بأمر الملك العادل جكم، ثمّ قدم بعد ذلك
عدّة كتب من أمراء الشّام على السّلطان يرغّبون السّلطان فى الخروج إلى
البلاد الشّامية، ثم قدمت عدّة كتب من جكم إلى عربان مصر وفلّاحيها
بمنعهم من دفع الخراج إلى السلطان وأمرائه وأجناده، وتحذيرهم من ذلك
حتى يقدم جكم إلى مصر، ثم ورد الخبر من البلاد الشّامية أنه فى ثامن
عشر شوال وصل إلى دمشق
(13/58)
قاصد الملك العادل جكم، وعلى يده مرسوم جكم
بأنّ الأمير سودون الحمزاوى يكون دوادارا بالدّيار المصرية على عادته،
وأن الأمير إينال باى بن قجماس يكون أمير آخور كبيرا على عادته؛ وأن
الأمير يشبك بن أزدمر يكون رأس نوبة النّوب على عادته، وأن الأمير
نوروزا مستمرّ على نيابة دمشق، وجىء له بالخلعة فلبسها نوروز، وقبّل
الأرض، ودقت البشائر لذلك- بدمشق- أياما، وزيّنت المدينة.
فلما بلغ السّلطان ذلك أراد الخروج إلى البلاد الشّامية فكلمه أمراؤه
فى تأخير السفر حتى يخفّ الطاعون من الدّيار المصريّة، فإنه كان فشا
بها وكثر، فلم يلتفت السلطان لذلك، وشرع فى أوّل ذى الحجة فى الاهتمام
إلى سفر الشّام هو وعساكره، ثم فى خامس عشرين ذى الحجة المذكورة علّق
السلطان جاليش «1» السفر، وصرفت النّفقة للمماليك السّلطانية فى تاسع
عشرين، لكل مملوك ثلاثون مثقالا وألف درهم فلوسا، فتجمّع المماليك تحت
الطّبلخاناة السلطانيّة وامتنعوا من أخذها، فكلّمهم بعض الأمراء على
لسان السّلطان فى ذلك، فرضوا، وبينما السلطان فى ذلك ورد عليه الخبر
بقتل الأمير جكم بآمد «2» ، من ديار بكر بن وائل، فى سابع عشر ذى
القعدة من سنة تسع وثمانمائة المذكورة.
وسبب قتلة جكم المذكور أنه لما تسلطن بمدينة حلب، ووافقه وأطاعه غالب
نوّاب البلاد الشّاميّة، وعظم أمره، وكثرت عساكره، وخافه كلّ أحد حتى
أهل مصر، وتهيّأ الملك النّاصر إلى الخروج من مصر لقتاله، ابتدأ جكم
بالبلاد الشّاميّة، واستعد لأخذها، على أن الدّيار المصريّة صارت فى
قبضته، وأعرض عنها حتى ينتهى من بلاد الشرق، وجعل تلك الناحية هى
الأهم، وخرج من مدينة حلب بعساكره إلى نحو الأمير عثمان بن طرعلىّ
المعروف بقرايلك، صاحب آمد، وغيرها
(13/59)
من ديار بكر، وكان قرايلك المذكور يومئذ
نازلا بآمد، فسار جكم حتّى نزل على البيرة، وحصرها وأخذها، وقتل نائبها
الأمير كزل، فأتته بها رسل قرايلك يرغب إليه فى الطّاعة، ويسأله الرجوع
عنه إلى حلب، وأنه يحمل إليه من الجمال والأغنام عدّة كبيرة، ويخطب له
بديار بكر، فلم يقبل جكم ذلك، وسار حتى نزل قرب ماردين «1» ، فأقام
هناك أياما حتى قدم عليه الملك الظّاهر مجد الدين عيسى الأرتقىّ صاحب
ماردين، ومعه حاجبه فيّاض بعساكره، فاستصحبه جكم معه إلى نحو مدينة
آمد، وقد تهيأ قرا يلك لقتال جكم المذكور، فعبّأ جكم عساكره، ومشى على
آمد، فالتقاه قرايلك بظاهرها، وتقاتلا قتالا شديدا قاتل فيه جكم بنفسه،
وقتل بيده إبراهيم بن قرايلك، ثمّ حمل على قرايلك بنفسه، فانهزم قرايلك
بمن معه إلى مدينة آمد وامتنعوا بها، وغلّقوا أبوابها، فاقتحم جكم فى
طائعة من عسكره القرايلكيّة، وساق خلفهم حتى صار فى وسط بساتين آمد،
وكان قرايلك قد أرسل المياه على أراضى آمد حتى صارت ربوا، يدخل فيها
الفارس بفرسه فلا يقدر على الخلاص، فلما وصل جكم إلى ذلك الموضع
المذكور أخذه الرّحم هو ومن معه من كلّ جهة، وقد انحصروا من الماء الذي
فاض على الأرض، وجعلها ربوا، فصاروا لا يمكنهم فيه الكرّ والفرّ، فصوّب
عند ذلك بعض التّراكمين من القرايلكيّة على جكم، وهو لا يعرفه، ورماه
بحجر فى مقلاع أصاب جبهته وشجّه، وسال الدّم على ذقنه ووجهه، وجكم
يتجلّد ويمسح الدّم عن وجهه، فلم يتمالك نفسه وسقط عن فرسه مغشيّا
عليه، وتكاثر التّركمان على رفقته فهزموهم بعد أن قتلوا منهم عدّة
كبيرة، فنزل بعض التّراكمين وقطع رأس جكم، وجال العسكر واضطرب أمر جيش
جكم ساعة، ثم انكسروا لفقد جكم، وقد عاينت أنا موضع قتل جكم بظاهر
مدينة آمد لما نزل السّلطان
(13/60)
الملك الأشرف برسباى عليها فى سنة ستّ
وثلاثين وثمانمائة، عرّفنى ذلك الأمير السّيفىّ صربغا أمير آخور
الوالد، فإنه كان يوم ذاك صحبة جكم فى الواقعة المذكورة- انتهى.
ثم أخذ التّركمان فى الأسر والقتل والنّهب فى عساكر جكم وعساكر ماردين
حتى إنه لم ينج منهم إلّا القليل، فلما ذهب القوم نزل قرايلك وتطلّب
جكم بين القتلى حتى ظفر به، فقطع «1» رأسه، وبعث به إلى السلطان الملك
النّاصر إلى الدّيار المصريّة، وقتل فى هذه الواقعة مع الأمير جكم من
الأعيان: الملك الظّاهر عيسى صاحب ماردين، وكان من أجلّ الملوك،
والأمير ناصر الدين محمد بن شهرىّ حاجب حجّاب حلب، والأمير قمول نائب
عين «2» تاب، وصارو سيّدى، وفرّ الأمير تمربغا المشطوب. وكمشبغا
العيساوىّ، حتى لحقا بحلب فى عدّة يسيرة من المماليك، وكانت هذه
الواقعة فى سابع عشر ذى القعدة من سنة تسع وثمانمائة- انتهى أمر جكم
وقتلته.
وأما أمر الأمير شيخ المحمودىّ نائب الشّام- كان- فإنه فى ذى القعدة
أيضا ركب من صفد يريد الأمراء الذين من جهة نوروز وجكم. وقد وصلوا من
دمشق إلى غزّة، وهم إينال باى بن قجماس، وسودون الحمزاوىّ، ويشبك ابن
أزدمر، ويونس الحافظىّ نائب حماة- كان- وسودون قرناص فى آخرين، فسار
شيخ بمن معه وطرقهم بغزّة على حين غفلة فى يوم الخميس رابع ذى الحجة،
فركبوا وقاتلوه قتالا شديدا، قتل فيه إينال باى بن قجماس، ويونس
الحافظىّ، وسودون قرناص، وقبض شيخ على سودون الحمزاوىّ، بعد ما قلعت
عينه، وهرب يشبك بن أزدمر إلى دمشق، وقبض شيخ على
(13/61)
عدّة مماليك من المماليك السّلطانيّة،
فوسّط منهم تسعة، وغرّق أحد عشر، وأفرج عن مماليك الأمراء، ولم يتعرض
لهم بسوء، وبعث بطائفة أخرى من المماليك السّلطانيّة إلى الملك النّاصر
فرج، ثم عاد شيخ إلى صفد.
[ما وقع من الحوادث سنة 810]
ثمّ ورد الخبر بأن الأمير نوروزا نائب الشام عاد إلى طاعة السّلطان بعد
قتل جكم، وأنّ تمربغا المشطوب تغلّب على حلب، وقاتلته التّراكمين حتى
ملك قلعة حلب بعد أمور، وأنه أخذ ما كان لجكم بحلب واستخدم مماليك جكم،
فعظم أمره لذلك، فأمر السلطان بتجهيز أموره للسفر إلى البلاد
الشّاميّة، وتجهزت العساكر، فلمّا كان يوم الاثنين سادس المحرم من سنة
عشرة وثمانمائة فرّق السلطان الجمال على المماليك السّلطانيّة؛ برسم
السّفر إلى الشّام صحبة السّلطان.
ثمّ فى يوم الجمعة عاشر المحرم قدم إلى القاهرة حاجب الأمير نعير برأس
الأمير جكم، ورأس ابن شهرى، فخلع السلطان عليه، وطيف بالرأسين على
رمحين، ونودى عليهما بالقاهرة، ثمّ علّقا على باب زويلة، ودقّت
البشائر، وزيّنت القاهرة لذلك.
ثمّ فى تاسع عشر المحرم، خرجت مدوّرة «1» السلطان إلى الرّيدانيّة خارج
القاهرة، ثمّ فى يوم حادى عشرينه، برز الجاليش السّلطانى من الأمراء
إلى الرّيدانيّة، وهم الأتابك يشبك، والوالد، وهو تغرى بردى
البشبغاوىّ، والأمير بيغوت فى آخرين من الأمراء، ورحلوا فى خامس عشرينه
من الرّيدانيّة، ونزل السّلطان من قلعة الجبل فى يوم الاثنين ثامن
عشرينه إلى الرّيدانيّة ببقيّة أمرائه وعساكره. وهذه تجريدة الملك
النّاصر الرابعة إلى البلاد الشّاميّة، غير واقعة السّعيدية.
ثمّ رحل السلطان من الرّيدانيّة فى يوم ثانى صفر من سنة عشرة
وثمانمائة، يريد البلاد الشاميّة.
وأما البلاد الشّاميّة- فإنّ نوروزا الحافظىّ خرج من دمشق فى أوّل محرم
من
(13/62)
هذه السنة لقتال شيخ، فضعف شيخ عن مقاومته،
ولم يخرج من صفد، وأرسل يستحثّ السلطان على سرعة المجىء إلى البلاد
الشّاميّة، فعاد نوروز إلى دمشق بعد أن حاصر شيخا أياما، وأرسل إلى
السلطان يطلب أمانا، وأنه يمتثل ما يرسم به السّلطان، وأنه يوافق شيخا،
ويرضى بما يولّيه السلطان من البلاد.
ثمّ أرسل نوروز إلى شيخ بأن يكاتب السلطان بأن يكون نائب حلب ويكون شيخ
نائب الشام على عادته، فلم يلتفت شيخ إلى كلامه، وانتهز الفرصة وقد قوى
أمره بعد ما كان خائفا من نوروز؛ لقدوم السّلطان الملك النّاصر إلى
البلاد الشّاميّة، وسار بمماليكه وحواشيه حتى نزل بالقرب من دمشق، ففرّ
فى تلك الليلة من نوروز إلى شيخ جماعة من الأمراء، منهم: قمش، وجمق،
ثمّ تحوّل نوروز من المزّة «1» إلى قبّة «2» يلبغا، فوصل إليه قاصد
الأمير شيخ، بأنّ السلطان أرسل إليه تشريفا بنيابة دمشق، وأنه طلب من
السلطان لنوروز نيابة حلب، فأبى السّلطان ذلك، وأن عسكر السّلطان وصل
إلى مدينة غزّة، فتحول عند ذلك نوروز إلى برزة «3» ، ودخلت مماليك
الأمير شيخ إلى الشام من غير قتال.
وأمّا السّلطان الملك النّاصر فإنه لمّا رحل من الرّيدانيّة بعد أن عمل
الأمير تمراز نائب السّلطنة نائب غيبته بديار مصر، وأنزله بباب
السّلسلة، وأنزل الأمير آقباى بقلعة الجبل، وسكّن سودون الطيّار أمير
سلاح بالرميلة «4» تجاه باب السّلسلة، وسار السّلطان حتى وصل إلى غزّة
فى ثانى عشر صفر، فورد عليه الخبر بفرار نوروز، فلم يلتفت إلى ذلك،
وسار حتى دخل إلى دمشق فى يوم ثانى عشرين صفر بعد
(13/63)
ما خرج الأمير شيخ إلى لقائه، وقبّل الأرض
بين يديه، وسار معه حتى دخل دمشق فى خدمته من جملة الأمراء، ونزل
السّلطان بدار السّعادة من دمشق، وصلّى الجمعة بجامع بنى أمية، ثم قبض
على قضاة دمشق ووزيرها، وكاتب سرها، وأهانهم السّلطان وألزمهم بحمل مال
كبير.
ثم فى يوم الأحد خامس عشرين صفر، أمسك السّلطان الأمير شيخا المحمودىّ
نائب دمشق، والأمير الكبير يشبك الشّعبانىّ الأتابكى، واعتقلهما بقلعة
دمشق، وكان الأمير جركس القاسمىّ المصارع الأمير آخور قد تأخّر فى هذا
اليوم عن الخدمة السلطانية بداره، فلما بلغه الخبر فرّ من وقته، فلم
يدرك، وهرب جماعة كبيرة من الشّيخيّة واليشبكيّة.
ثمّ فى سادس عشرين صفر خلع السلطان على الأمير بيغوت باستقراره فى
نيابة دمشق عوضا عن شيخ المحمودىّ، بحكم حبسه بقلعة دمشق، وخلع على
الأمير فارس دوادار تنم باستقراره حاجب حجّاب دمشق، وخلع على الأمير
عمر الهيدبانىّ بنيابة حماة، وعلى صدر الدّين علىّ بن الأدمىّ
باستقراره قاضى قصاة الحنفيّة بدمشق، ودام يشبك وشيخ بقلعة دمشق إلى أن
استمالا نائب قلعتها الأمير منطوقا، حتى أفرج عنهما فى ليلة الاثنين
ثالث شهر ربيع الأوّل من سنة عشرة وثمانمائة، وهو أن منطوقا تحيّل على
من عنده من المماليك بأنّ السّلطان رسم له بأن ينقل الأميرين شيخا
ويشبك، من حبس إلى آخر فصدّقوه، فأخرجهما على أنه ينقلهما، وفرّ بهما،
ونزل من القلعة، فلم يبلغ السلطان الخبر حتى ذهبوا حيث شاءوا، وأصبح
السلطان يوم الاثنين ندب الأمير بيغوت لطلبهم، فركب بيغوت من وقته
بمماليكه، وسار فى طلبهم- غارة- وقد اختفى الأمير شيخ بدمشق ولم يخرج
منها، وتوجّه يشبك فلم يدرك بيغوت سوى منطوق نائب قلعة دمشق الذي
أطلقهما؛ لثقل جثّته؛ فإنه كان فى غاية من السّمن، ففرّ يشبك، وقاتل
منطوق
(13/64)
بيغوت ساعة ثمّ انهزم، وقبض عليه [بيغوت]
«1» وقطع رأسه، وحملها إلى الملك الناصر، ورفعت على رمح وطيف بها دمشق،
ثمّ علّقت على سور دمشق، ثمّ قدم الخبر باجتماع الأتابك يشبك وشيخ
وجركس، وأنّهم فى دون الألف فارس، وهم على حمص، وأنّهم اشتدّوا على
النّاس فى طلب المال، فكتب السّلطان فى الحال للأمير نوروز الحافظىّ
وهو بمدينة حلب، عند تمربغا المشطوب يستدعيه لمحاربة يشبك وشيخ، وأنه
ولّاه نيابة الشّام وأمره أن يحمل إليه جماعة من الأمراء، ويبعث
السلطان إليه التّقليد والتّشريف مع الأمير سلامش، ثم جهّز السلطان
سلامش إلى نوروز، وعلى يده خلعته بنيابة دمشق، فلبس نوروز الخلعة،
وقبّل الأرض وامتثل ما أمره السّلطان به من قتال الأمراء وغيره، وكتب
يعتذر من عدم الحضور بما عنده من الحياء من السّلطان، والخوف لما وقع
منه قبل تاريخه، وأنّه إذا سار السّلطان من دمشق نحو الدّيار المصرية
قدمها وكفاه أمر هؤلاء.
ثمّ أرسل نوروز بعد ذلك بأنّه قبض على جماعة من الأمراء الذين فرّوا من
السلطان من دمشق، وهم: الأمير علّان، والأمير جانم من حسن شاه، والأمير
إينال الجلالىّ المفقار، والأمير جقمق العلائى أخو جركس المصارع: أعنى
الملك الظاهر جقمق، والأمير أسنباى التّركمانى، أحد أمراء الألوف
بدمشق، والأمير اسنباى أمير آخور، والأمير جمق، نائب الكرك- كان- وبعث
بهم الجميع ما خلا جانم، ثم أرسل إلى الدّيار المصريّة بالقبض على
الأمير تمراز النّاصرىّ نائب السّلطنة بالدّيار المصريّة. ثمّ نائب
الغيبة، فأذعن تمراز وسلّم نفسه، فمسك وقيّد وحبس بالبرج «2» من
(13/65)
قلعة الجبل، وسكن سودون الطيّار عوضه بباب
السّلسلة من الإسطبل السّلطانى.
ثمّ ركب السّلطان الملك الناصر فى يوم الأربعاء رابع شهر ربيع الآخر من
دار سعادة دمشق، وتوجّه إلى الرّبوة «1» فتنزّه بها ثم عاد إلى دار
السّعادة، ثمّ أصبح لعب الكرة بالميدان، وقدم عليه الأمير بكتمر جلّق
بالأمراء الذين قبض عليهم الأمير نوروز، وهم المقدّم ذكرهم، فرسم
السلطان بحبسهم، ثمّ فى اليوم المذكور خرج حريم السّلطان من دمشق إلى
جهة الدّيار المصرية.
ثمّ خرج السّلطان من دمشق فى يوم السّبت سابع شهر ربيع الآخر يريد
الدّيار المصرية ومعه الأمراء المقبوض عليهم، وفيهم: الأمير سودون
الحمزاوىّ وقد أحضر من سجن صفد، والأمير آقبردى رأس نوبة أحد أمراء
الطبلخانات، وسودون الشّمسىّ أمير عشرة، وسودون البجاسىّ أمير عشرة،
وسار السّلطان إلى مصر، وجعل بكتمر جلّق نائب الغيبة بدمشق حتى يحضر
إليها نائبها الأمير نوروز، وكان بكتمر جلّق المذكور قد خلع عليه
السّلطان باستقراره فى نيابة طرابلس قبل تاريخه، وأصبح شيخ لمّا بلغه
خروج السّلطان من دمشق طرقها ومعه يشبك وجركس، وأخذها من بكتمر، وملكها
بعد أن فرّ بكتمر منها، وقبض شيخ على جماعة من أمراء دمشق، وولّى وعزل،
وأخذ خيول الناس، وصادر جماعة.
ثم ورد الخبر على يشبك وشيخ بنزول بكتمر جلّق على بعلبك بأناس قليلة
فخرج إليه يشبك الشّعبانىّ وجركس فى عسكر، ومضى بكتمر جلّق إلى حمص،
وسار يشبك وجركس حتى وصلا إلى بعلبك، فوافاهما الأمير نوروز بعساكره
(13/66)
على كروم بعلبك، فبرز إليه يشبك وجركس بمن
معهما، فقاتلهم نوروز حتى هزمهم، وقتل الأتابك يشبك الشّعبانىّ، وجركس
القاسمى المصارع فى ليلة الجمعة ثالث عشر شهر ربيع المذكور، وقتل جماعة
أخر، وقبض نوروز على جماعة، وفرّ من بقى، فلما بلغ ذلك شيخا خرج من
وقته من دمشق على طريق جرود «1» ، ودخل الأمير نوروز فى يوم رابع عشره
إلى دمشق وملكها من غير قتال، وبعث نوروز بهذا الخبر إلى السلطان،
فوافاه المخبر بذلك على العريش، فسرّ السلطان بذلك سرورا كبيرا، وهان
عليه أمر شيخ بعد ذلك.
ثمّ سار السلطان الملك الناصر مجدّا حتى دخل إلى الديار المصرية ضحى
نهار الثلاثاء، رابع عشرين شهر ربيع الآخر، وبين يديه ثمانية عشر أميرا
فى الحديد، ورمّة الأمير إينال باى بن قجماس، وقد حملها الملك الناصر
من غزة لأنه كان خصّيصا عند الملك الناصر، وقتل بغزّة فى واقعة شيخ
بغير اختيار السلطان، وطلع السلطان إلى قلعة الجبل، وحبس الأمراء
المذكورين بالبرج من قلعة الجبل إلى أن كان يوم سادس عشرينه، فاستدعى
السلطان القضاة إلى بين يديه، وأثبت عندهم إراقة دم الأمير سودون
الحمزاوىّ لقتله إنسانا ظلما، فحكموا بقتله، فقتل، وقتل معة تمربغا
دواداره، والأمير آقبردى، وجمق، وأسنباى التركمانى، وأسنباى أمير آخور،
وتأخر الأمير إينال المنقار، وسودون الشّمسىّ، وجقمق العلائى، وجماعة
أخر، وسودون البجاسى فى البرج من قلعة الجبل.
ثمّ فى يوم سابع عشرين شهر ربيع الآخر، أنعم السلطان على الوالد بإقطاع
الأتابك يشبك الشّعبانىّ، وأنعم بإقطاع الوالد على الأمير قردم
الخازندار، وأنعم على الأمير قراجا بإقطاع تمراز الناصرىّ المقبوض عليه
فى غيبة السلطان بالقاهرة، واستقرّ قراجا المذكور شادّ الشّراب خاناة،
وأنعم بإقطاع قراجا على الأمير أرغون من بشبغا، وأنعم بإقطاع أرغون
المذكور على الأمير شاهين قصقا، وأنعم بإقطاع شاهين على الأمير طوغان
الحسنىّ.
(13/67)
ثم فى يوم الخميس ثالث جمادى الأولى خلع
السلطان على الوالد باستقراره أتابك العساكر بالدّيار المصرية عوضا عن
يشبك الشّعبانىّ، وخلع على الأمير كمشبغا المزوّق الفيسىّ باستقراره
أمير آخور كبيرا، عوضا عن جركس القاسمىّ المصارع.
وفى اليوم المذكور قدم إلى القاهرة قاصد الأمير نوروز الحافظىّ برأس
الأتابك يشبك، ورأس جركس المصارع، ورأس الأمير فارس التّنمىّ حاجب
حجّاب دمشق.
وفيه شاور جمال الدين الأستادار السّلطان أنه يعمّر للسلطان مدرسة بخط
رحبة باب العيد «1» ، فأذن له السلطان فى ذلك، فشقّ جمال الدين أساسها
فى هذا اليوم، وبدأ بعمارتها.
ثم أرسل السلطان إينال المنقار، وعلّان، وبلبغا الناصرىّ إلى سجن
الإسكندرية.
ثم ركب الملك الناصر متخفّفا بثياب جلوسه ونزل إلى عيادة الأمير قراجا،
فعاده، ثم سار إلى بيت جمال الدين الأستادار وأخذ تقدمته، ثم ركب وسار
حتى نزل بالمدرسة الظاهرية ببين القصرين، وزار أمه وجده لأبيه الأمير
أنص، وجعل ناحية منبابة «2» بالجيزة وقفا عليها.
ثم ركب منها إلى دار الأمير بشباى- رأس نوبة النّوب- ونزل عنده، ثم ركب
من عنده، وتوجّه إلى بيت الأمير كزل العجمىّ حاجب الحجّاب، ثم سار من
عنده إلى قلعة الجبل.
قال المقريزى: ولم نعهد ملكا من ملوك مصر ركب من القلعة بقماش جلوسه
غيره، قلت: لعل المقريزى أراد بقماش جلوسه عدم لبس السّلطان الكلفتاة،
وقماش الخدمة، وهذا كان مقصوده- والله أعلم.
(13/68)
ثم فى تاسع عشر جمادى الأولى المذكور، خلع
السلطان على الأمير طوخ الخازندار باستقراره أمير مجلس عوضا عن يلبغا
النّاصرى بحكم القبض عليه، والعامة تسمّى طوخ هذا طوق الخازندار،
والصواب ما قلناه. وخلع على الأمير قردم باستقراره خازندارا عوضا عن
طوخ المذكور.
ثم فى سادس عشر جمادى الآخرة قبض السّلطان على الأمير سودون من زادة،
وقيّده وحمله إلى الإسكندريّة، فسجن بها مع من بها من الأمراء.
وأمّا الأمير نوروز الحافظىّ فإنّه منذ دخل دمشق كانت مكاتبات الأمير
شيخ ترد عليه بطلب الصّلح، ويترقّق شيخ لنوروز، ويتخضّع إليه إلى أن
أجاب نوروز إلى ذلك، وخرج من دمشق فى سادس عشرين شهر رجب، إلى جهة حلب،
ليصالح الأمير شيحا، فتقدّم الأمير شيخ إليه والتقاه واصطلحا، ومسك
نوروز بكتمر جلّق، بعد ما كان أعزّ أصحاب نوروز؛ مراعاة لخاطر شيخ.
وحكى لى من أثق به من أعيان المماليك الظّاهريّة ممّن كان فى صحبتهم
يوم ذاك قال: لمّا أراد شيخ الصّلح مع نوروز، طلب منه القبض على بكتمر،
فبلغ بكتمر ذلك، فلم يصدّق أنّ نوروزا يقع فى مثل هذا لما كان بينهما
من تأكّد الصّحبة، فلمّا اجتمع شيخ مع نوروز وأراد نوروز القبض على
بكتمر، قال بلسان الجركسىّ: وبط «1» . قال بكتمر: يا جنس النّحس بلغنى
ذلك من مدّة، ولكنّنى ما ظننت أنّها تخرج من فمك فى حقّى أبدا، ومسك
بكتمر جلّق، وسجن بقلعة دمشق، ثمّ دخل الأمير شيخ ونوروز إلى دمشق، وقد
استقرّت طرابلس للأمير شيخ، ودمشق للأمير نوروز، فأقام شيخ بدمشق عشرة
أيّام، ثم خرج منها وسار إلى طرابلس، وكثرت المصادرات بدمشق وغيرها فى
أيام هذه الفتن، وأخرجت الأوقاف عن أربابها، وخربت
(13/69)
بلاد كثيرة بمصر والشّام؛ لكثرة التّجاريد،
وسرعة انتقال الأمراء من إقطاع إلى إقطاع.
ولمّا بلغ الملك الناصر ذلك، وما وقع من نوروز فى حقّ شيخ من الإكرام
شقّ عليه ذلك؛ لأن شيخا كان قد تلاشى أمره، ونفر عنه مماليكه وأصحابه؛
من كثرة الأسفار والانتقال من بلد إلى بلد، وافتقر وصار لا يجد بلدا
يأوى إليه، حتّى صالحه نوروز، وأعطاه طرابلس، فعاد إليه مماليكه، ودار
فيه الرّمق- انتهى.
ثمّ فى حادى عشر شعبان أفرج السّلطان عن الأمير تمراز النّاصرىّ نائب
السّلطنة- كان- من حبسه بالبرج من قلعة الجبل، ونزل إلى داره، ثمّ ورد
الخبر على الملك النّاصر بأن بكتمر جلّق فرّ من سجن قلعة دمشق فى ليلة
الأربعاء عاشر شهر رمضان من سنة عشر وثمانمائة، وأنّه توجّه إلى صفد،
ثمّ نزل غزّة.
ثمّ ورد على السّلطان كتاب الأمير شيخ يسأل السلطان الملك الناصر
الرّضى عنه، وعن جماعته، فلم يقبل السّلطان ذلك، فلم تزل مكاتبات شيخ
ترد على السّلطان فى ذلك حتّى رضى عنه. وكتب له بنيابة الشّام على
عادته، وحمل إليه التّقليد الأمير ألطنبغا بشلاق صحبة مملوك شيخ
ألطنبغا شقل، وقاضى القضاة نجم الدين عمر بن حجّىّ، وقاضى القضاة صدر
الدين بن الأدمى، وقد تولّى كلّ منهما قاضيا بدمشق على مذهبه، وكانا
هما وألطنبغا شقل قدموا فى إصلاح أمر شيخ مع أستاذه الملك النّاصر فرج.
ثمّ كتب السّلطان باستقرار بكتمر جلّق فى نيابة طرابلس على عادته، وكتب
السّلطان أيضا باستقرار يشبك بن أزدمر فى نيابة حماة، ووصلت رسل
السّلطان إلى الأمير شيخ وغيره من الأمراء المذكورين من البحر المالح
من عكّا، وساروا حتّى لقوا شيخا على المرقب، وقد تغيّر
(13/70)
عن حاله، وأوصلوه التّقليد بنيابة الشّام،
فقال: أنا لا أعادى نوروزا وقد أحسن إلىّ، وأقامنى ثانيا، وأيضا لم يكن
لى قدرة على قتاله، وأخذ الخلعة منهم، وبعثها إلى الأمير نوروز، وأعلمه
أنه باق على طاعته، فدقّت البشائر لذلك، وزيّنت دمشق.
[ما وقع من الحوادث سنة 811]
ثمّ فى أوّل المحرم من سنة إحدى عشرة وثمانمائة برز الأمير نوروز من
دمشق، يريد قتال الأمير بكتمر جلّق، فتهيّأ بكتمر أيضا لقتاله،
وتصاففا، واقتتلا قتالا شديدا، قتل بينهما أناس، وحرقت الزّروع، وخربت
البلاد. ثمّ عاد نوروز إلى جهة الرّملة لحفظ مدينة غزّة.
وكان الملك النّاصر لمّا بلغه أنّ سودون تلّى المحمّدى صار نائب غزّة،
من قبل نوروز، ولّى الأمير ألطنبغا العثمانىّ نيابة غزّة وندبه لقتال
سودون المحمّدىّ. وأرسل معه من الأمراء بشباى رأس نوبة النّوب، وسودون
بقجة، وطوغان الحسنىّ، والجميع يتوجّهون لقتال سودون المحمّدى، ثمّ
يمضون إلى صفد؛ نجدة لمن بها من السلطانيّة، وخرجوا من القاهرة، وساروا
حتى وصلوا إلى العريش، فبلغهم أنّ الأمير بكستمر جلّق، والأمير جانم من
حسن شاه، خرجا من صفد إلى غزّة، وملكاها من سودون المحمّدى؛ وفرّ سودون
المحمّدى، ولحق بالأمير نوروز، فجهّزه نوروز فى الحال بعدّة مقاتلة
لقتالهم، وأنّ نوروزا يكون فى أثره إلى غزّة. فلمّا بلغ بكتمر جلق،
وجانم، مجىء سودون المحمّدى، ونوروز إلى غزّة، خرجا من غزّة وعادا إلى
صفد، وبلغ هذا الخبر بشباى وهو بالعريش، فعاد هو وأصحابه إلى الدّيار
المصرية؛ من كونه لا يقاوم نوروزا؛ لكثرة جموعه، فسكت السّلطان عن
نوروز لما يأتى ذكره.
ثمّ أفرج السلطان عن الأمير إينال المنقار، والأمير علّان، من سجن
الإسكندريّة، وقدم الخبر على السلطان فى أثناء ذلك بوقوع الفتنة بين
(13/71)
شيخ ونوروز، وأنّ شيخا نزل القريتين «1» ،
ونوروزا بالقرب منه، وتراسلا فى الكفّ عن القتال، فامتنع شيخ وقال:
السلطان ولّانى نيابة دمشق، وباتا على القتال، فلمّا كان الليل سار شيخ
بمن معه يريد دمشق، وأكثر فى منزلته من إشعال النّيران، يخدع بذلك
نوروزا، فلم يفطن نوروز برحيله، حتىّ مضى أكثر الليل، فركب فى الحال
نوروز فى أثر شيخ حتّى سبقه إلى دمشق، ودخلها، ولم يقدر شيخ على دخول
دمشق وكان مع نوروز يشبك بن أزدمر نائب حماة، ووقع أمور إلى أن واقع
نوروز شيخا بعساكره، وكان مع شيخ نفر يسير، وقد تعوّق عنه أصحابه، لكنه
كان متولى دمشق من قبل السلطان، ومعه سنجق «2» الملك النّاصر، وأردفه
بكتمر جلّق، وسيدى الكبير [الأمير قرقماس] «3» وغيرهما من الأمراء،
فتواقعا بسعسع «4» ، فانهزم نوروز بمن معه، وقصد حلب، وركب شيخ
أقفيتهم، فدخل نوروز دمشق، فى عدّة يسيرة من الأمراء من أصحابه، وبات
بها ليلة واحدة، ثمّ خرج منها على وجهه إلى حلب، وبعد خروج نوروز من
دمشق، دخل إليها الأمير بكتمر جلّق، والأمير قرقماس ابن أخى دمرداش،
المعروف بسيدى الكبير، ونودى فى دمشق بالأمان، وأنّ شيخا نائب دمشق،
ثمّ دخل شيخ بعدهم إلى دمشق، ونزل بدار السعادة، ثم خرج شيخ من دار
السعادة ونزل بقبة يلبغا، ولبس التّشريف السلطانىّ المجهز إليه من مصر
بنيابة الشام قبل تاريخه، وعاد إلى دار السعادة فى موكب جليل،
(13/72)
وقبض على الأمير نكباى حاجب دمشق، وعلى
الأمير أرغز، وهما من أصحاب نوروز، وعلى جماعة أخر من النوروزية. ثمّ
قدم عليه الأمير دمرداش المحمّدى، فأكرمه شيخ وأنزله بدمشق مدّة أيام،
ثمّ ندبه هو والأمير بكتمر جلّق لقتال نوروز ومعهما عساكر دمشق، وورد
الخبر على السلطان بذلك، فسرّ سرورا عظيما، وكتب للأمير شيخ بالشكر
والثّناء على ما فعله مع نوروز؛ لأنّ الملك النّاصر كان حصل له من
نوروز قهر عظيم، كونه كان ولّاه نيابة دمشق، ولم يلتفت إلى شيخ، فتركه
نوروز، ووافق شيخا، فلم يقم شيخ على صلحه مع نوروز إلّا أياما يسيرة،
وتركه وعاد إلى طاعة السّلطان، وحارب نوروزا، فعرف له السّلطان ذلك
وولّاه نيابة دمشق عوضا عن نوروز، وسلّط بعضهم على بعض.
ثمّ إنّ الملك النّاصر فى يوم الجمعة سابع جمادى الأولى من سنة إحدى
عشرة وثمانمائة أمسك أعزّ أمرائه الأمير بيغوت، وأمسك معه الأمير سودون
بقجة، والأمير أرنبغا أحد أمراء الطبلخانات، والأمير قرا يشبك، أحد
أمراء العشرات، وقيد الجميع وأرسلهم إلى سجن الإسكندرية، وخلع على
إينال المنقار، وعلّان، ويشبك الموساوىّ، وجعل كلّا منهم أمير مائة،
ومقدّم ألف بالدّيار المصرية، ثمّ خلع السّلطان على الأمير أرغون من
بشبغا، واستقرّ به أمير آخور كبيرا، عوضا عن كمشبغا الفيسىّ.
وأمّا أمراء الشام فإنّ الأمير نوروزا الحافظى، لمّا خرج من دمشق لم
يأمن على نفسه أن يكون بحلب عند تمربغا المشطوب، وكان أوّل ما قدمها
قابله تمر بغا المذكور ووافقه، ثمّ بدا له أن يكون على طاعة السّلطان،
ففطن نوروز بذلك؛ فخرج من حلب بعد أمور، وسار إلى ملطية واستقرّ بها،
وآواه ابن صاحب الباز «1» التركمانىّ، ثمّ سلم تمربغا المشطوب حلب
للامير قرقماس ابن
(13/73)
أخى دمرداش المعروف بسيدى الكبير، ونزل من
قلعتها، ثمّ فرّ جماعة من الأمراء أصحاب نوروز إلى شيخ، وهم: الأمير
سودون تلى المحمّدىّ، وسودون اليوسفىّ، وأخبروه أن نوروزا عزم على
الفرار من أنطاكيّة، فسار شيخ بجموعه من العمق «1» يريد نوروزا بغتة،
فأدرك أعقابه، وقبض على عدّة من أصحابه وعاد إلى العمق، وبعث العسكر فى
طلبه، فقدم عليه الخبر أنّه أمسك هو ويشبك بن أزدمر فى جماعة أخر، فكتب
شيخ فى الحال يعرّف السّلطان بذلك كلّه، فشكره السّلطان على ذلك وأرسل
إليه بالخلع.
ثمّ إنّ السّلطان فى هذه السّنة أضاف إمرة المدينة النّبوية، وإمرة
الينبع، وخليص «2» ، والصّفراء «3» ، وأعمالهم، إلى الشّريف حسن بن
عجلان أمير مكة، وكتب له بذلك توقيعا، وهذا شىء لم ينله أمير مكة قبله
فى هذا الزّمان.
ثمّ فى خامس عشرين جمادى الآخرة، أنعم السّلطان بإقطاع بشباى رأس نوبة
النّوب- بعد وفاته- على الأمير إينال المحمّدى السّاقىّ المعروف إينال
ضضع، وأنعم بإقطاع إينال المذكور على الأمير أرغون من بشبغا الأمير
آخور الكبير، وأنعم بإقطاع أرغون المذكور على الأمير مقبل الرّومىّ،
والجميع تقادم ألوف، لكن بينهم التّفاوت فى كثرة المغلّ والخراج، وأنعم
بإقطاع مقبل الرّومىّ- وهو إمرة طبلخاناة- على الأمير بردبك، ثمّ خلع
السّلطان على الامير إينال الساقىّ المذكور باستقراره رأس نوبة النّوب،
عوضا عن بشباى المذكور بحكم موته.
ثمّ قدم الخبر على السلطان من شيخ بأن التركمان الذين كانوا قبضوا على
نوروز أطلقوه، وأنّ تمربغا المشطوب هرب من الأمير شيخ، وأن نوروزا
توجّه
(13/74)
بعد خلاصه من يد التركمان إلى قلعة «1»
الرّوم، وأنّه خرج من دمشق جماعة كبيرة من عند شيخ إلى نوروز، فركب شيخ
فى أثرهم فلم يدركهم، فعاد إلى دمشق وقبض على الأمير يشبك العثمانىّ،
ثمّ بعد مدّة يسيرة بلغ الأمير شيخا أنه قيل للسلطان عنه إنّه عاص،
فطلب الأمير شيخ القضاة وأعيان أهل دمشق، وكتب محضرا بأنه باق على طاعة
السلطان الملك النّاصر، وبعث به مع القاضى نجم الدين عمر بن حجّىّ،
وقدم ابن حجّىّ بالمحضر، ومع المحضر المذكور كتاب الأمير شيخ يستعطف
خاطر السّلطان عليه، ويعتذر عن تأخّره بإرسال من طلبه السّلطان من
الأمراء النّوروزيّة، وكان السّلطان قد بعث إليه قبل ذلك يشبك
الموساوىّ بطلب جماعة من الأمراء، فلم يرسلهم شيخ إليه، فلم يقبل
السّلطان عذره، واشتدّ غضبه، وأظهر الاهتمام بالسّفر إلى الشّام، ثم
كتب الجواب بتجهيز أمراء عيّنهم، وواعدهم على مدة ستة وعشرين يوما،
ومتى مضت هذه المدّة ولم يجهّزهم، سار السّلطان لقتاله، وبعث السلطان
بذلك على يد قاصد شيخ نجم الدين بن حجّىّ، فعاد ابن حجى إلى الأمير شيخ
وأدّى الرّسالة، فأخذ شيخ فى تجهيز الأمراء الذين طلبهم السّلطان،
وامتثل مرسومه بالسّمع والطّاعة.
وبينما هو فى ذلك، بلغه أنّ تغرى برمش كاشف «2» الرّملة فرّ منها لقدوم
كاشف ونائب القدس من قبل السّلطان، وأنّ السلطان قد عزم على المسير إلى
الشّام، وأخرج الرّوايا والقرب على الجمال ومعهم الطّبول، نحو
(13/75)
مائتى جمل إلى البركة «1» ، فعند ذلك رجع
شيخ عن إرسال الأمراء، وعوّل على مصالحة نوروز، وبعث إليه الأمير جانم
ليصلح بينهما، وجهز له شيخ ستّة آلاف دينار، فمال نوروز لمصالحته، فلما
بلغ دمرداش نائب حلب الخبر اهتمّ لقتال نوروز، وجمع طوائف التّركمان
والعربان، وسار إليه بكتمر جلّق نائب طرابلس، وحضر إليه أيضا نائب
أنطاكيّة «2» وبعث دمرداش ابن أخيه تغرى بردى المعروف بسيّدى الصغير-
وهو يومئذ أتابك حلب- إلى مرج «3» دابق ومعه جماعة كبيرة من التّركمان،
ثم أتاه بكتمر جلّق، فرحلا من حلب بعساكرهما وقصدا نوروزا، وقد نزل
نوروز بجموعه على عين تاب، فتقدّم إليه تغرى بردى سيّدى الصغير
بالتركمان الكبكيّة»
، جاليش عمّه دمرداش، فرحل نوروز إلى مرعش «5» ، وتحاربت كشّافته مع
كشّافة دمرداش محاربة قويّة، أسر فيها عدّة من النّوروزية، وانهزم
نوروز، واستولى عسكر دمرداش على عين تاب، وعاد دمرداش إلى حلب، وكتب
بذلك إلى السّلطان.
[ما وقع من الحوادث سنة 812]
فسرّ السلطان بذلك، وكتب الجواب: إنّى واصل عقيب ذلك إلى البلاد
الشامية، وعظم اهتمام السلطان وعساكره للسّفر، إلى أن خرج جاليشه من
الأمراء إلى الرّيدانيّة، فى يوم الأربعاء سابع المحرّم من سنة اثنتى
عشرة
(13/76)
وثمانمائة، وهم: الوالد- وهو يومئذ أتابك
العساكر بالدّيار المصرية- وآقباى الطّرنطائىّ رأس نوبة الأمراء، وطوخ
أمير مجلس، وطوغان الحسنىّ، وإينال المنقار، وكمشبغا الفيسىّ المعزول
عن الأمير آخورية، ويشبك الموساوىّ الأفقم، وعدّة أمراء أخر من
الطّبلخانات والعشرات، ونزل الجميع بالريدانية.
ثمّ فى يوم الاثنين حادى عشر المحرّم المذكور، ركب السّلطان الملك
النّاصر ببقيّة أمرائه وعساكره من قلعة الجبل، ونزل بمخيّمه
بالرّيدانيّة، وفى اليوم المذكور، رحل الوالد بمن معه من الأمراء وهو
جاليش السّلطان، وسار بهم يريد دمشق.
ثمّ خلع السّلطان على الأمير أرغون من بشبغا الأمير آخور الكبير
باستقراره فى نيابة الغيبة، وأنه يقيم بسكنه بالإسطبل السلطانى، وخلع
على مقبل الرومىّ، ورسم له أن يقيم بقلعة الجبل، وخلع على الأمير يلبغا
النّاصرىّ باستقراره فى نيابة الغيبة، ويقيم بالقاهرة للحكم بين
النّاس، وكذلك الأمير كزل العجمىّ حاجب الحجّاب، ثمّ رحل السلطان فى
رابع عشر المحرّم من الرّيدانيّة، يريد البلاد الشّاميّة.
وأما الأمير شيخ نائب الشّام، فإنه لما سمع بخروج السّلطان من مصر،
أفرج عن الأمير سودون تلى المحمّدى، وعن سودون اليوسفى، وعن الأمير
طوخ، وهم الذين كان السلطان أرسل إلى شيخ بطلبهم، وأظهر شيخ العصيان،
وأخذ فى مصادرات أهل دمشق، وأفحش فى ذلك إلى الغاية، ثمّ سار الملك
النّاصر إلى أن وصل إلى غزّة، وعزل عنها الأمير ألطنبغا العثمانىّ
وولاه نيابة صفد، وخلع على الأمير إينال الصّصلانى الأمير آخور الثانى
باستقراره عوضه فى نيابة غزّة، وكان الأمير شيخ قد أرسل قبل ذلك الأمير
سودون المحمّدى ودواداره شاهين إلى غزّة، فلما وصل جاليش السلطان إليها
انهزما من الرّملة إلى شيخ، وأخبراه بنزول السلطان على غزّة، وكان
استعدّ
(13/77)
شيخ فى هذه المرة لقتال السّلطان، فلمّا
تحقق قدومه، خارت طباعه، وتحوّل فى الوقت إلى داريّا «1» فقدم عليه
الأمير قرقماس ابن أخى دمرداش فارّا من صفد، وشجّع الأمير شيخا على
ملاقاة السلطان وقتاله، وعرّفه أن غالب عساكره قد تغير خاطرهم على
السلطان، فلم يلتفت شيخ لذلك، وأبى إلا الهروب، ثم قدم عليه الأمير
جانم نائب حماة بعسكره، وعرّفه قدوم نوروز عليه، وهو مع ذلك فى تجهيز
الرّحيل من دمشق.
وسار السّلطان من غزّة حتى نزل اللجون فى يوم السبت أوّل صفر من سنة
اثنتى عشرة وثمانمائة، فكثر الكلام فى وطاق «2» السّلطان بتنكّر قلوب
المماليك الظّاهريّة على السّلطان، وتحدّثوا فى بعضهم بإثارة فتنة؛
لتقديمه مماليكه «3» الجلب عليهم، وكثرة عطاياه لهم، فلما أصبح السلطان
رحل من اللجون ونزل بيسان «4» وأقام بها نهاره إلى أن غربت الشمس، فماج
العسكر، وهدّت الخيم، واشتد اضطراب الناس، وكثر قلق السّلطان طول ليلته
إلى أن أصبح وجد الأمير تمراز النّاصرىّ النائب، وإنيّه وزوج بنته
سودون بقجة، والأمير إينال المنقار، والأمير قرايشبك، والأمير سودون
الحمصىّ، وعدة كبيرة من المماليك السلطانيّة قد فروا إلى الأمير شيخ،
وكان سبب فرارهم فى هذه الليلة أنّ آقبغا الدّوادار اليشبكىّ عرّف
السلطان بأنّ هؤلاء الجماعة يريدون إثارة فتنة، فطلب السّلطان كاتب
سرّه فتح الله، وجمال الدين الأستادار، وعرّفهما ما بلغه عن الجماعة،
فدار الأمر بينهم على أنّ السّلطان فى وقت المغرب يرسل خلفهم
(13/78)
ويقبض عليهم، وخرجوا على ذلك من عند
السّلطان، فغدر جمال الدين الأستادار وأرسل- بعد خروجه من عند
السّلطان- عرّف الأمراء بالأمر، وكان تمراز قدم من مصر فى محفّة، لرمد
كان اعتراه، فأعلمهم جمال الدين بالخبر، وبعث إليهم بمال كبير لهم
وللأمير شيخ نائب الشّام، فأخذوا حذرهم، وركبوا قبل أن يرسل السّلطان
خلفهم، ولحقوا بالأمير شيخ، ولمّا خرجوا من الوطاق وساروا لم يكن حينئذ
عند السلطان أحد من أكابر الأمراء؛ لتوجّههم فى الجاليش أمام السّلطان،
فبعث السّلطان خلف فتح الله وجمال الدين الأستادار، ولا علم للسّلطان
بما فعله جمال الدين المذكور، وكلّمهما فيما يفعل، واستشارهما، فأشار
عليه فتح الله بالثّبات، وأشار عليه جمال الدين بالرّكوب ليلا وعوده
إلى مصر، يريد بذلك إفساد حاله، فمال السّلطان إلى كلام فتح الله،
وأقام بوطاقه، فلمّا طلع الفجر ركب وسار بعساكره نحو دمشق، فقدم عليه
الخبر برحيل شيخ من دمشق إلى بصرى «1» ، فنزل السّلطان على الكسوة «2»
، ففرّ فى تلك الليلة الأمير علّان وجماعة من المماليك لشيخ، فركب
السّلطان بكرة يوم الخميس سادس صفر، ودخل دمشق، ونزل بدار السّعادة،
ثمّ قبض على شهاب الدين أحمد الحسبانىّ وسلّمه إلى الأمير ألطنبغا شقل؛
من أجل أنّه أفتى بقتاله، وطلب ابن التّبّانىّ فإذا هو سار مع شيخ،
وكتب السلطان بالإفراج عن الأمير أرغز، وسودون الظّريف، وسلمان «3» ،
من قلعة الصّبيبة، وخلع على الأمير زين الدين عمر الهيدبانىّ باستقراره
حاجب حجّاب دمشق، وعلى ألطنبغا شقل حاجبا ثانيا، وخلع على الأمير بردبك
باستقراره
(13/79)
فى نيابة حماة عوضا عن جانم، ثمّ كتب
السّلطان للأمير نوروز تقليدا بنيابة حلب عوضا عن الأمير دمرداش
المحمّدىّ.
ثمّ قدم الأمير بكتمر جلّق نائب طرابلس إلى دمشق، وأخبر أنّ الطاعون
فشا ببلاد حمص وطرابلس، ثمّ فى عشرينه قدم الأمير دمرداش المحمّدىّ
نائب حلب فأكرمه السلطان وخلع عليه، ثمّ خلع السّلطان على الأمير بكتمر
جلّق باستقراره فى نيابة دمشق عوضا عن شيخ المحمودىّ، وخلع على دمرداش
المحمّدىّ باستقراره فى نيابة طرابلس عوضا عن بكتمر حلّق- مضافا لنيابة
حلب.
ثمّ وقع من جمال الدين الأستادار نكبة فى حقّ بعض أصحاب الأمير شيخ،
وهو أنّه أمسك جمال الدين القاضى ناصر الدين ابن البارزىّ وضربه ضربا
مبرّحا، لأجل معلوم تناوله لشمس الدين أخى جمال الدّين الأستادار، ثمّ
فى ليلة السبت أيضا قتل جمال الدين الأستادار القاضى شرف الدين بن
الشّهاب محمود الحلبىّ كاتب سرّ دمشق؛ لحقد كان فى نفس جمال الدين منه
أيّام خموله بحلب، وكان شرف الدين أيضا من أصحاب الأمير شيخ، وكان عبد
الباسط بن خليل فى خدمة شرف الدّين هذا، ومنه تعرّف بالأمير شيخ، وكان
عبد الباسط فى أيّام سعادته بمصر ينقل فى غالب أفعاله عن أستاذه شرف
الدين هذا.
ثمّ فى يوم الاثنين ثانى شهر ربيع الأوّل، خرج أطلاب السّلطان والأمراء
من دمشق، وتبعهم السّلطان بعساكره وهم بآلة الحرب والسلاح، ونزل بالكوة
وأصبح راحلا إلى جهة الأمير شيخ ورفقته، فالتقى كشّافة السلطان مع
كشّافة شيخ، واقتتلوا، وأسر من الشّيخيّة رجل، ثمّ انهزمت الشّيخيّة،
ثمّ سار السّلطان بكرة يوم الأربعاء فنزل قرية الحراك «1» نصف النهار،
وأقام بها قدر ما أكل السّماط، ثم ركب منها بعساكره وسار سيرا مرعجا،
ونزل عند الغروب
(13/80)
بكرك البثنيّة «1» من حوران، وبات وأصبح
وسار حتّى نزل مدينة بصرى، فتحقّق هناك خبر شيخ بأنّه فى عصر يوم
الأربعاء الماضى بلغه أنّ السّلطان خرج من دمشق فى أثره، فرحل من بصرى
بعساكره فزعا يريد صرخد بعد ما كلّمه الأمراء فى الثّبات، وقتال الملك
الناصر؛ فلم يقبل، وركب من وقته، وترك غالب أصحابه بمدينة بصرى، ثم
تبعته أصحابه مع كثرة عددهم إلى صرخد.
ولما بلغ الملك الناصر فرار شيخ وأصحابه، تأوّه لذلك وقال لكاتب سرّه
فتح الله ولجمال الدين الأستادار: ألم أقل لكما إن شيخا فظيع ليس له
قلب ولو كان معه مائة ألف مقاتل لا يقدر أن يقابلنى بهم؛ لرعب سكن فى
قلبه منى؟ ثم أقام السّلطان على بصرى إلى بكرة يوم السبت، فقدم عليه
وهو ببصرى الأمير برسباى الدّقماقىّ الساقى: أعنى الملك الأشرف،
والأمير سكب اليوسفىّ، فأكرمهما السلطان ووعدهما بكلّ خير، ثمّ ركب
وسار- وهو ثمل- حتى نزل بقرية عيون تجاه صرخد، فتناوش العسكران
بالقتال، فقتل من جماعة شيخ فارسان، وجرح جماعة من السلطانيّة، ثم فرّ
جماعة أخر من السلطان إلى الأمير شيخ، وبات السّلطان وأصبح فى وقت
الفجر نادى أن لا يهدّ أحد خيمته، ولا يحمّل جمل، وأن يركب العسكر
خيولهم، ويجرّ كل فارس جنيبه مع غلامه من غير أن يأخذوا أثقالهم،
فركبوا، وسار بهم على هذه الحالة حتى طرق شيخا وأصحابه على حين غفلة،
بعد أن كان سار هو بنفسه أمام عسكره مسرعا، وأمراؤه يخذّلونه من انقطاع
عساكره عنه، ويقولون له: بمن تلقى شيخا، وقد عظم جمعه وتخلفت عساكر
السلطان منقطعة؟ والملك الناصر لا يلتفت إلى قولهم ويقول:
لو بقى معى عشرة مماليك لقيت بهم شيخا ومن معه، [أنا] «2» أعرفهم حقّ
المعرفة.
(13/81)
ودام على سيره حتى طرق شيخا على حين غفلة،
وقد عبأ شيخ عساكره، فأوقف المصريين ناحية: أعنى الذين فرّوا إليه من
الملك الناصر، وجعل عليهم الأمير تمراز النائب، ووقف هو فى ثقاته
وخواصه، وهم نحو خمسمائة نفر، فتقدّم السلطان وصدم بعساكره الأمير
تمراز بمن معه- وكانوا جمعا كبيرا- فانكسروا من أوّل وهلة، ثم مال على
الأمير شيخ وأصحابه، وقد تقهقر شيخ وأصحابه إلى جهة القلعة، فكان بينهم
معركة صدرا من النهار، وهو يتأخر إلى المدينة، وأصحابه تتسلّل منه،
وصار القتال يجدران مدينة صرخد، ولا زال شيخ يتأخر بمن معه، والملك
الناصر يتقدّم بمن معه، حتى ملك وطاق شيخ وانتهب جميع ما كان فيه من
خيل وقماش وغيرها، ثمّ هرب شيخ إلى داخل جدران المدينة، واستولى
السلطان على جامع صرخد، وأصعد أصحابه فرموا من أعلى المنارة بمكاحل «1»
النفط والمدافع والأسهم الخطائية «2» على شيخ، وشيخ يلوم أصحابه
ويوبّخهم على ما أشاروا عليه من قتال الملك النّاصر، ثمّ حمل السلطان
عليه حملة منكرة بنفسه، فلم يثبت شيخ وانهزم والتجأ فى نحو العشرين من
أصحابه إلى قلعة صرخد، وكانت خلف ظهره وقد أسند عليها، فتسارع إليه
عدّة من أصحابه، وتمزّق باقيهم، وطلع شيخ إلى قلعة صرخد فى أسوإ حال،
وأحاط السّلطان على المدينة، ونزل حول القلعة، وأتاه الأمراء فقبّلوا
الأرض بين يديه، وهنّئوه بالظفر والنّصر، وامتدّت أيدى السلطانية إلى
مدينة صرخد، فما تركوا بها لأهلها جليلا ولا حقيرا، وانطلقت ألسنة أهل
صرخد بالوقيعة فى شيخ وأصحابه، وأكثروا له التوبيخ بكلام معناه أنه إذا
لم يكن له قوّة ما باله يقاتل من لم يطق دفعه وقتاله، وسار الأمير
تمراز، وسودون بقجة، وسودون الجلب،
(13/82)
وسودون المحمدىّ، وتمربغا المشطوب، وعلّان
فى عدة كبيرة إلى دمشق، فقدموها يوم الاثنين تاسعه، فقاتلتهم العامّة
ودفعوهم عنها، وأسمعوهم من المكروه أضعاف ما سمعه شيخ بصرخد، فولوا
يريدون جهة الكرك وهم فى أحقر ما يكون من الأحوال، وساروا عن دمشق بعد
ما قتل منهم جماعة، وجرح جماعة، وتأخّر كثير منهم بظواهر دمشق، ومضى
منهم جماعة إلى حماة، والجميع فى أنحس حال، وأخذ منهم جماعة كثيرة
بدمشق وغيرها.
ولمّا دخلت الأمراء على السّلطان الملك الناصر للتّهنئة حسبما ذكرناه
التفت السّلطان للوالد، وكان يسمّيه أطا: أعنى أب، وقال له: يا أطا،
أنا ما قلت لك أنا أعرف شيخا، إذا كان معى عشرة مماليك قاتلته بهم، ثم
تكلّم فى حقّ شيخ بما لا يليق ذكره، فقال له الوالد: يا مولانا
السّلطان، هذا كلّه بسعد مولانا السّلطان، وعظم مهابته، وأمّا شيخ
فإنّه إذا كان من حزب السّلطان وشمله نظر مولانا السّلطان من ذا يضاهيه
فى الفروسيّة؟ غير أنّ للرّعب الذي فى قلبه من حرمة مولانا السّلطان،
وغضبه عليه يقع فى مثل هذا أو أكثر.
قلت: وأظهر الملك النّاصر من الشجاعة والإقدام ما سيذكر عنه إلى يوم
القيامة، على أنّ غالب أمرائه ومماليكه الأكابر كانوا اتفقوا مع جمال
الدين الأستادار أنهم يكبسون عليه ويقتلونه فى اللّيل، وبلغ الملك
النّاصر ذلك من يوم خروجه من غزّة، فاحترز على نفسه، وأشار عليه كلّ من
خواصّه أن يرجع عن قتال شيخ وأصحابه بحيلة يدبّرها، ويرجع إلى نحو
الدّيار المصرية؛ مخافة أن تخذله عساكره، فلم يلتفت إلى كلام أحد، وأبى
إلّا قتال شيخ، وهذا شىء مهول عظيم إلى الغاية، وإن كان هو يهول فى
السّماع، فإذا تحقّقه الشخص يهوله إلى الغاية؛ من كون عسكر الملك يكون
مختلفا عليه وهو يريد يقاتل ملوكا عديدة، كل واحد منهم مرشّح للسّلطنة،
وما أظنّ أن بعد الملك الأشرف خليل بن قلاوون ولّى على مصر سلطان أشجع
من الملك النّاصر هذا فى ملوك التّرك جميعها. ولقد أخبرنى جماعة كبيرة
من أعيان المماليك
(13/83)
الظاهريّة الذين كانوا يوم ذاك مع الأمير
شيخ المذكور.
قالوا: لمّا قيل للأمير شيخ: إنّ السّلطان الملك الناصر قدم إلى جهة
صرخد، تغيّر لونه واختلط فى كلامه، وأراد طلوع قلعد صرخد قبل أن يقاتل
الملك الناصر، فلامه على ذلك بعض خواصّه، وقالوا له: قد انضمّ عليك فى
هذه المرّة من الأمراء والعساكر ما لم يجتمع مثله لأحد قبلك، فإن كنت
بهم لا تقاتل الملك الناصر فى هذه النّوبة فمتى تقاتله؟ وبعد هذا فلا
ينضمّ عليك أحد، فقال شيخ:
صدقت فيما قلت، غير أنّ جميع من تنظره الآن وهو يتنمّر على فرسه إذا
وقع بصره على الملك النّاصر صار لا يستطيع الهروب، فكيف القتال؟! فقال
له القائل: فالذى يعلم هذا لا يصلح له أن يعصى ويتطلّب السّلطنة، فقال
شيخ: والله ما أريد السّلطنة، وإنّما غالب ما أفعله خوفا من شرّ هذا
الرّجل، وقد بذلت له الطاعة غير مرّة، وتوجّهت إلى خدمته بمصر والشّام،
وقاتلت أعداءه، والله أنا أهابه أكثر من أستاذى الملك الظاهر برقوق،
غير أنّه لا يريد إلّا أخذ روحى، والرّوح والله لا تهون، فأيش يكون
العمل؟
وشرع يتكلم فى هذا المعنى ويكثر حتى أمره تمراز النائب بالكفّ عن هذا
الكلام فى مثل هذا الوقت، والعمل فيما يعود نفعه عليه وعلى رفقته، فكفّ
شيخ عن ذلك، وأخذ فى تدبير أمره وتعبية عساكره، حتى وقع ما حكيناه-
انتهى.
ولمّا نزل السّلطان الملك الناصر على قلعة صرخد، أصر النّوّاب أن
يتوجّه كلّ واحد منهم إلى محلّ كفالته، فسار الجميع إلّا الأمير دمرداش
المحمّدىّ، فإنه أرسل ابن أخيه تغرى بردى المدعو سيّدى الصّغير إلى
حلب؛ ليكون نائبا عنه بها، وأقام هو عند السّلطان على صرخد، وكذلك
الأمير بكتمر جلّق نائب الشّام، فإنّه أيضا أقام عند السّلطان، وأخذ
السّلطان فى حصار قلعة صرخد، وعزم على أنّه لا يبرح عن قتالها حتى
يأخذها.
(13/84)
ثمّ قدم الخبر على السّلطان أنّ تركمان
الطّاعة «1» قاتلوا نوروزا وكسروه كسرة قبيحة، فدقّت البشائر بصرخد
لذلك، ثمّ أمر السّلطان دمرداش المحمّدىّ بالتوجّه إلى محل كفالته
بحلب، هذا ونوّاب الغيبة بدمشق فى أمر كبير من مصادرات الشّيخيّة،
وقبضوا على جماعة كبيرة من حواشيه، منهم: علم الدين داود، وصلاح الدين
أخوه أبنا الكويز، قبض عليهما من بيت نصرانىّ بدمشق، فأهينا، وقبض أيضا
على شهاب الدين أحمد الصّفدىّ موقّع الأمير شيخ، وتوجّه الطّواشى فيروز
الخازندار فتسلّمهم من دمشق، هذا والملك الناصر مستمر على حصار قلعة
صرخد، وأحرق جسر القلعة، فامتنع شيخ بمن معه داخلها، فأنزل السّلطان
الأمراء حول القلعة، وألزم كلّ أمير أن يقاتل من جهته، والسّلطان فى
لهوه وظربه لا يركب إلى جهة القلعة إلّا ثملا، ثمّ طلب السّلطان مكاحل
النّفط، والمدافع من قلعة الصّبيبة وصفد ودمشق، ونصبها حول القلعة،
وكان فيها ما يرمى بحجر زنته ستّون رطلا دمشقيّا، وتمادى الحصار ليلا
ونهارا؛ حتى قدم المنجنيق «2» من دمشق على مائتى جمل، فلمّا تكامل نصبه
ولم يبق إلّا أن يرمى بحجره، وزنة حجره تسعون رطلا بالدمشقىّ، فلمّا
رأى شيخ ذلك خاف خوفا عظيما، وتحقّق أنّه متى ظفر به الملك الناصر على
هذه الصّورة لا يبقيه، فترامى على الوالد، وعلى بقيّة الأمراء، وألقى
إليهم الأوراق فى السّهام، وأخذ شيخ لا يقطع كتبه عن الوالد فى كلّ يوم
وساعة، وهو يقول له فى الكتب: صن دماء المسلمين واجعلنا عتقاءك، وما لك
فينا جميلة فإنّنا إنيّاتك «3» ، وخشداشيّتك، ولم يكن فى القوم من له
علىّ أنا خاصّة شفقة وإحسان غيرك، وأنت أتابك العساكر وحمو السّلطان،
وأعظم مماليك أبيه، فأنت عنده فى مقام برقوق، وكلمتك لا تردّ عنده،
وشفاعتك مقبولة. وأشياء كثيرة من هذا الكلام وأشباهه، وكان الوالد يميل
إلى الأمير
(13/85)
شيخ لما كان لشيخ عليه من الخدم بالقصر
السّلطانىّ أيّام أستاذهما الملك الظّاهر برقوق من تلبيسه القماش،
والقيام فى خدمته، ثمّ كاتب شيخ أيضا الأمير جمال الدين الأستادار،
وفتح الله كاتب السرّ، وكان جمال الدين قد انحطّ قدره عند الملك
النّاصر فى الباطن، واتّفق السّلطان مع الوالد على مسكه بدمشق، فمنعه
الوالد من ذلك، ووعده أنه يكفيه أمره ويمسكه بالقرب من القاهرة، حتى لا
يفرّ أحد من أقاربه وحواشيه.
ثمّ أخذ الوالد مع السّلطان فى أمر شيخ ورفقته فى كلّ يوم وساعة، ولا
زال يخذّل الملك الناصر عن قتالهم، ويحسّن له الرّضى عنهم حتى أذعن
السّلطان، وشرط عليه شروطا، فعند ذلك ركب الوالد ومعه الخليفة المستعين
بالله العبّاس، وفتح الله كاتب السّرّ، فى يوم السّبت ثانى عشرين شهر
ربيع الأوّل من سنة اثنتى عشرة وثمانمائة المذكورة، وساروا حتى نزلوا
على جانب الخندق، وخرج شيخ وجلس بداخل باب القلعة، فأخذ الوالد يوبخه
على أفعاله، وما وقع للنّاس والبلاد بسببه، وهو ساكت لا يتكلّم، وقيل
إنّ شيخا أراد الخروج إليهم فغمزه الوالد ألّا يخرج، ففطن شيخ بها،
وجلس بداخل باب القلعة، ثمّ أخذ فتح الله أيضا يحذّره مخالفة السّلطان،
ويخوّفه عواقب البغى، وفى كل ذلك يعتذر شيخ للوالد بأعذار مقبولة،
ويستعفى من مقابلة السّلطان؛ خوفا من سوء ما اجترمه، والوالد يشتدّ
عليه، ويلزمه بالخروج معه إلى السلطان فى الظاهر، وفى الباطن يشير عليه
بعدم الخروج- هكذا حكى الملك المؤيد شيخ بعد سلطنته- وطال الكلام حتى
قام الوالد، والخليفة، وفتح الله، وأعادوا بالجواب على السّلطان، فأبى
السّلطان الرّضى عنه إلّا أن ينزل إليه، فكلّم الوالد السّلطان فى
العفو عن ذلك، فلم يقبل، فكرّر عليه السّؤال مرّات، وقبّل يده والأرض
غير مرّة، واعتذر عن عدم حضوره بأعذار مقبولة.
ثمّ عاد الوالد وفتح الله فقط إلى شيخ، فخرج شيخ حينئذ للوالد فعانقه
الوالد، فبكى شيخ، فقال له الوالد على سبيل المداعبة والمماجنة: ما متّ
يا شيخ حتى مشينا
(13/86)
فى خدمتك، فقال شيخ: لم تزل الأكابر تمشى
فى مصالح الأصاغر، كلّ ذلك فى حال الوقوف للسلام ثمّ جلسا، وعرّفه
الوالد رضى السّلطان عليه، وعرّفه الشّروط فقبلها، وقام قائما وقبّل
الأرض غير مرّة، وتقدّم فتح الله حلّفه على طاعة السّلطان، وأخذ منه
الأمير كمشبغا الجمالىّ، وأسنبغا- وكانا فى حبس الأمير شيخ- بعد ما خلع
عليهما شيخ وأدلاهما من سور قلعة صرخد، ثمّ أدلى الأمير شيخ أبنه
إبراهيم ليتوجّه مع الوالد ويقبّل يد السّلطان، فلمّا تعلّق الصغير من
أعلى السّور بالسّريّاقات «1» ، صاح وبكى من خوفه أن يقع، فرحمه الوالد
وأمره بردّه إلى القلعة، فنشلوه ثانيا، وقال الوالد: أنا أكفيك هذا
الأمر، ولا يحتاج إلى نزول الصّغير، ثمّ تصايح الفريقان من أعلى السّور
ومن جمع خيم العسكر:
الله ينصر السّلطان؛ فرحا بوقوع الصّلح، وفرح أهل القلعة من أصحاب شيخ
فرحا عظيما؛ لأنهم كانوا قد أشرفوا على الهلاك، وأمّا فرح العسكر فإن
غالب أمراء الملك الناصر كانوا غير نصحاء له، ولم يرد أحد منهم أن يظفر
بشيخ، حتى ولا الوالد، خشية أن يتفرّغ السّلطان من شيخ لهم.
ثمّ أصبحوا يوم الأحد، ركب الوالد وكاتب السرّ وجماعة من الأمراء،
طلعوا إلى قلعة صرخد، وجلسوا على عادتهم، وخرج شيخ وجلس على باب
القلعة، وأحلف فتح الله من بقى مع شيخ من الأمراء، وهم جانم من حسن شاه
نائب حماة، وقرقماس ابن أخى دمرداش- وقد فارق عمّه دمرداش، وصار من حزب
شيخ- وتمراز الأعور، وأفرج شيخ عن تجّار دمشق، الذين كان قبض عليهم لما
خرج عن الطّاعة وصادرهم، ثمّ بعث شيخ بتقدمة إلى السلطان فيها عدّة
مماليك.
وتقرّر الحال على أنّ شيخا المذكور يكون نائب طرابلس، وأن يلبس التشريف
(13/87)
السلطانىّ إذا رحل السلطان. ثمّ قام الوالد
ومن معه وسلم على شيخ، وعاد إلى السّلطان.
فرحل السلطان من وقته، وسار حتى نزل زرع «1» وبات بها، ثمّ سار حتى قدم
دمشق يوم الثلاثاء أوّل شهر ربيع الآخر، بعد أن جدّ فى السير، فنزل
بدار السعادة على عادته.
وأمّا شيخ فإنه نزل من قلعة صرخد بعد رحيل السّلطان، ولبس التّشريف
السلطانىّ بنيابة طرابلس، وقبّل الأرض على العادة، ثمّ قبّل يد الوالد
غير مرّة، ثمّ جهز شيخ ولده إبراهيم صحبة الوالد إلى السّلطان الملك
الناصر، ورحل الوالد، ورحل معه سائر من تخلّف عنده من الأمراء، منهم:
بكتمر جلّق نائب الشّام- وهو أعدى عدوّ للأمير شيخ- وساروا حتى وصلوا
الجميع دمشق فى سابع شهر ربيع الآخر المذكور، وأحضر الوالد إبراهيم ابن
الأمير شيخ إلى السلطان، فأكرمه السّلطان وخلع عليه، وأعاده إلى أبيه،
ومعه خيول، وجمال، وثياب، ومال كبير.
ثمّ خلع السلطان على الشّريف جمّاز بن هبة الله بإمرة المدينة
النبويّة- على ساكنها أفضل الصّلاة والسلام- وشرط عليه إعادة ما أخذه
من الحاصل بالمدينة.
ثمّ فى رابع عشر شهر ربيع الآخر المذكور، خرج قضاة مصر الذين كانوا فى
صحبة الملك الناصر من دمشق عائدين إلى الديار المصرية، هم وكثير من
الأثقال، ونزلوا بداريّا خارج دمشق، ثمّ طلبت القضاة من يومهم فعادوا
إلى مدينة دمشق؛ لعقد [عقد «2» ] ابنة السلطان على الأمير بكتمر جلّق
نائب الشّام، ثمّ فى يوم الخميس سابع عشره حمل بكتمر جلّق المهر،
وزفّته المغانى حتى دخل دار السّعادة إلى السّلطان، ثمّ عقد العقد
بحضرة
(13/88)
السلطان والأمراء والقضاة، فتولى العقد
السلطان بنفسه، وقبله عن الأمير بكتمر جلّق الوالد، ثمّ خرجت القضاة من
الغد فى يوم الجمعة سائرين إلى مصر، ثمّ صلّى السلطان صلاة الجمعة
بالجامع الأموىّ، وخرج منه وسار من دمشق بعساكره يريد القاهرة، ونزل
بالكسوة، وخلع على الأمير نكباى باستقراره حاجب حجّاب دمشق، عوضا عن
عمر بن الهيدبانىّ.
ثم فى تاسع عشره أخلع السلطان على الأمير سودون الجلب باستقراره فى
نيابة الكرك، ثم سار السّلطان فى ليلة الأحد من الكسوة، واستولى بكتمر
جلّق على دمشق، ونزل بدار السّعادة، وسار السّلطان حتى نزل الرّملة فى
رابع عشرينه، وركب منها وسار مخفّا يريد زيارة القدس، وبعث الأثقال إلى
غزّة، ودخل القدس وزاره، وتصدّق بخمسة آلاف دينار، وعشرين ألف درهم
فضّة، وبات ليلته فى القدس، وسار من الغد إلى الخليل عليه السلام فبات
به، ثمّ توجه إلى غزة، فدخلها فى سابع عشرينه، وأقام بها إلى ثانى
جمادى الأولى، فرحل منها.
وأمّا دمشق، فإنه قدم إليها فى ثالث جمادى الأولى كتاب السّلطان إلى
أعيان أهل دمشق بأنّه قد ولّى الأمير شيخا نيابة طرابلس، فإن قصد دمشق
فدافعوه عنها وقاتلوه، وسببه أنّ الأمير شيخا كان قصد دخول دمشق، وكتب
إلى الأمير بكتمر جلّق يستأذنه فى الحضور إليها ليقضى بها أشغاله ثمّ
يرحل إلى طرابلس، وكان الذي قصده الأمير شيخ على حقيقته، وليس له غرض
فى أخذ دمشق، فلم يأذن له بكتمر فى الحضور إليها وخاشنه بالكلام، فقال
شيخ أنا أسير إلى جهة دمشق ولا أدخلها، وسار حتى نزل شيخ فى ليلة
الجمعة عاشر جمادى الأولى على شقحب «1» ، وكان الأمير بكتمر قد خرج
بعساكر دمشق إلى لقائه، ونزل
(13/89)
بقبّة يلبغا، ثمّ ركب ليلا يريد كبس الأمير
شيخ، فصدف كشّافته عند خان ابن ذى النّون فواقعهم، فبلغ ذلك شيخا فركب
وأتى بكتمر وصدمه بمن معه صدمة كسره فيها، وانهزم بكتمر بمن معه إلى
جهة صفد، ومعه قريب من مائة فارس، وعدّة من الأمراء، وتخلّف عنه جميع
عساكر دمشق، وسار شيخ حتّى أتى دمشق بكرة يوم الجمعة، ونزل بدار
السّعادة من غير ممانع، وقد تلقّاه أعيان الدّماشقة فاعتذر إليهم، وحلف
لهم أنّه لم يقصد سوى النّزول بالميدان خارج دمشق ليقضى أشغاله، وأنّه
لم يكن له استعداد لقتال، وأنّه كتب يستأذن الأمير بكتمر فى ذلك، فأبى
ثم خرج وقاتله فانهزم، وسأل جماعة من أعيان دمشق أن يكتبوا للسّلطان
بذلك بعد أن كتب بهذا جميعه محضرا، وأراد إرساله إلى السّلطان فلم يجسر
أحد من الشاميّين أن يمضى به إلى السّلطان الملك الناصر؛ خوفا من
سطوته.
ثمّ فى ثالث عشره ولّى الأمير شيخ شهاب الدّين أحمد بن الشّهيد نظر جيش
دمشق، وولّى شمس الدين محمّد بن التّبّانىّ نظر الجامع الأموىّ، وولّى
تغرى برمش أستاداره نيابة بعلبكّ، وولّى إياسا الكركىّ نيابة القدس،
وولّى منكلى بغا كاشف القبليّة، وولى الشّريف محمّدا محتسب دمشق.
وأمّا السّلطان فإنّه لمّا خرج من مدينة غزّة سار منها حتّى نزل قرية
غيتا «1» خارج مدينة بلبيس فى يوم الخميس تاسع جمادى الأولى، ولمّا
استقرّ السّلطان فى المنزلة المذكورة، وقد خرج الناس لتلقى العسكر،
وخرج غالب أقارب جمال الدين الأستادار إلى تلقّيه، وفرشت له الدّور
بالقاهرة، فركب الوالد بقماش جلوسه من مخيّمه من غير أن يجتمع
بالسّلطان؛ لاتّفاق كان بينهما من دمشق فى القبض على جمال الدّين
المذكور لأسباب نذكرها، وكان الوالد يكره جمال الدين بالطّبع، على أنّه
باشر أيّام عظمته أستاداريّة الوالد، مضافا إلى أستاداريّة السّلطان،
وصار
(13/90)
يجلس مع مباشريه وينفّذ الأمور، ومع ذلك لم
يقبل عليه الوالد؛ لقلّة دينه وسفكه الدّماء، وعظم ظلمه، وسار الوالد
من مخيّمه ومماليكه مشاة حوله يقصد وطاق جمال الدّين.
حدّثنى القاضى شرف الدين أبو بكر بن العجمىّ، موقّع جمال الدين، وزوج
بنت أخيه، قال: كنت جالسا بين يدى الأمير جمال الدين الأستادار فى
وطاقه، وقد حضر إلى تلقّيه غالب أقاربة، فقيل له إنّ الأمير الكبير
تغرى بردى قادم إلى جهتك، فلمّا سمع جمال الدّين ذلك تغيّر لونه وقال:
هذا من دون عسكر السّلطان لا يعودنى فى مرضى، فما مجيئه فى هذا الوقت
لخير. ونهض من وقته قبل أن نردّ عليه الجواب، وخرج من خامه ماشيا إلى
جهة الوالد خطوات كثيرة غالبها هرولة حتى لقى الوالد- وهو راكب- فقبّل
رجله فى الرّكاب، فمسكه الوالد من رأسه ثمّ أمر به فقيّد فى الحال،
وقال لمن تولّى تقييده هذا الأمير جمال الدين عظيم الدّولة، أبصر له
قيدا ثقيلا يصلح له، فبكى جمال الدين ودخل تحت ذيله.
ثمّ أمر الوالد بالقبض على جميع أقاربه وحواشيه، فقبض على ابنه أحمد،
وعلى ابنى أخته أحمد وحمزة، وكان الوالد ندب جماعة من مماليكه إلى
القاهرة للحوطة على دور جمال الدين وأقاربه، ثمّ أخذهم الوالد «1» ،
وأركبهم بالقيود، وسار بهم إلى جهة الدّيار المصريّة، كلّ ذلك
والسّلطان لا يعلم بما وقع إلّا بعد سير الوالد إلى جهة القاهرة، وأخذ
جمال الدين فى طريقه يترقّق للوالد ويعده ويسأله القيام فى أمره، كلّ
ذلك والوالد لا يعتبه إلّا على قتل أستاداره عماد الدين إسماعيل وأخذ
ماله.
وكان خبر إسماعيل مع جمال الدين المذكور أن [عماد الدين] «2» إسماعيل
كان أستادار الوالد، وكان له عزّ وثروة ومعرفة ورئاسة قبل أن يترأس
جمال الدين، فكان يستخفّ بجمال الدين، ويطلق لسانه فى حقّه، وجمال
الدين لا يصل إليه من انتمائه للوالد، فأخذ جمال الدين يسعى فى
أستاداريّة الوالد مدّة طويلة
(13/91)
حتى ولّاه الوالد أستاداريته، بعد أن بذل
جمال الدّين مالا كثيرا للوالد ولحواشيه، واستأذن الوالد أنّه يقبض على
[عماد الدين] «1» إسماعيل ويؤدّبه ويظهر للوالد فى جهته جملة كبيرة من
الأموال، وفى ظنّ الوالد أنّه يوبّخه بالكلام، أو يهينه ببعض الضرب ثمّ
يطلقه، فأذن له الوالد فى ذلك، وكان [عماد الدين] «2» إسماعيل المذكور
مسافرا، فلمّا قدم من السّفر ركب وأتى إلى الوالد، وكان الوالد تغيّر
عليه قبل ذلك لسبب من الأسباب، فقبّل يد الوالد، وخرج من عنده فصدف
جمال الدين عند مدرسة سودون من زادة، فقال له الأمير جمال الدين: بسم
الله يا أمير عماد الدين، أين الهديّة؟ فعاد معه عماد الدين، وحال
وصوله إلى بيته أجرى عليه العقوبة، وأخذ منه أربعين ألف دينار، ثمّ
ذبحه من ليلته، فلمّا سمع الوالد بقتلته من الغد كاد عقله أن يذهب،
وأراد الرّكوب فى الحال والطّلوع إلى السّلطان، فقال له حواشيه
وخواصّه: يا خوند قد فات الأمر، وما عسى أن يصنع فيه الملك الناصر مع
خصوصيّته عنده، فسكت الوالد على دغل «3» ، وأخذ فى توغير خاطر السّلطان
عليه، ويعرّف السّلطان بأفعال جمال الدين، ولا زال به حتّى تغيّر عليه
مع أمور أخر وقعت من جمال الدين، فكان ذلك أكبر أسباب ذهاب جمال الدين،
وأراح الله المسلمين منه.
ثمّ ركب السلطان من غيتا وسار حتى نزل بالخانقاه «4» ، ثمّ سار حتى طلع
إلى قلعة الجبل فى يوم السّبت حادى عشر جمادى الأولى المذكور، بعد أن
زيّنت له القاهرة ومصر، وخرج النّاس لتلقّيه، فكان لدخوله يوم عظيم،
وحمل الوالد على رأسه القبّة والطّير «5» ، ولمّا استقرّ السّلطان
بقلعة الجبل- وقد حبس بها جمال الدين-
(13/92)
ثمّ رسم السّلطان للوالد أن يتسلّم جمال
الدين ويعاقبه، فقال الوالد: يا مولانا السلطان جمال الدين كلب لا
يتسلّمه إلّا كلب مثله، فقال تاج الدّين عبد الرّزّاق «1» ابن الهيصم:
يا خوند، أنا ذلك الكلب، فسلّمه السلطان له.
وأمّا أسباب القبض على جمال الدين فكثيرة، منها: ما فعله ليلة بيان
لمّا استشاره السلطان هو وفتح الله، وفرّ الأمراء، وكان جمال الدين
لمّا خرج من عند السّلطان أرسل إلى الأمراء بذلك، وطلب جمال الدين
صيرفيّه عبد الرحمن وأمره فصرّ للأمير شيخ المحمودىّ نائب الشّام بخمسة
آلاف دينار يرسلها له صحبة الأمراء المتوجّهين فى الليل إليه، وإلى
تمراز بثلاثة آلاف دينار، وهو رأس الأمراء الذين عزموا على الفرار،
وعلى رفقته: سودون بقجة، وعلّان، وإينال، لكلّ واحد بألفى دينار، وبعث
بالمبلغ إليهم، وأعلمهم بما عزم عليه «2» السلطان من القبض عليهم، فكان
هذا من أكبر الأسباب فى هلاك جمال الدين، ولم يعلم السلطان ذلك إلّا
بعد أيّام.
ومنها أنّ السلطان الملك الناصر لم يكن معه فى هذه السّفرة من الذّهب
إلّا النزر اليسير، فسأل جمال الدين فى مبلغ فقال جمال الدّين: ما معى
إلّا مبلغا هيّنا، فندب السلطان فتح الله كاتب السرّ فى الفحص عن ذلك،
فقال له فتح الله: قد رافق جمال الدين فى هذه السّفرة تاج الدين عبد
الرزّاق بن الهيصم كاتب المماليك، وأخوه مجد الدين عبد الغنىّ مستوفى
الديوان «3» المفرد فاسألهما «4» وتلطّف بهما تعلم ما مع جمال الدين من
الذّهب، فطلبهما السلطان، وفعل ذلك، فأعلماه بليلة بيسان، وما فعله
جمال الدين من إرسال الذّهب، وإعلام الأمراء بقصد السّلطان حتى فرّوا
ولحقوا
(13/93)
بالأمير شيخ، فقال السلطان: من أين لكم هذا
الخبر؟ فقالا: صيرفيّه عبد الرحمن ينزل عندنا وعند تقىّ الدين عبد
الوهّاب بن أبى شاكر ناظر ديوان المفرد، وهو الحاكى، فصدّق السلطان
مقالتهما وأسرّها فى نفسه، واستشار الوالد فى القبض على جمال الدين،
فقال له الوالد: المصلحة تركه حتى يعود إلى جهة القاهرة، ويقبض عليه
وعلى جميع أقاربه؛ حتى لا يفوت السّلطان منهم أحد، وتكون الحوطة على
الجميع معا، فأعجب السّلطان ذلك، وسكت عن قبضه بالديار الشامية.
ثمّ إن [تاج الدين عبد الرزّاق «1» ] بن الهيصم لا زال حتى أوصل عبد
الرحمن الصّيرفىّ إلى السلطان، وحكى له الواقعة من لفظه فى مجلس شرابه،
وشرب معه عبد الرحمن فى تلك الليلة.
ومنها: أنّ القاضى محبى الدين أحمد المدنىّ كاتب سرّ دمشق لقى ابن
هيازع عند باب الفراديس «2» بدمشق، فأعلمه ابن هيازع أن أصحابه وجدوا
عند مدينة زرع ساعيا معه كتب، فقبضوا عليه وأخذوا منه الكتب وجاءوا بها
إليه، وكان محيى الدين المذكور معزولا عن كتابة سرّ دمشق من مدّة، فأخذ
الكتب ولم يدر ما فيها وسلّمها لفتح الله، فأخذ فتح الله الكتب ومحيى
الدين إلى السّلطان وفتحت الكتب، وقرئت بحضرة السّلطان، فاذا هى من
جمال الدين إلى الأمير شيخ، فزاد السلطان غضبا على غضبه، وأخفى ذلك
كلّه عن جمال الدين لأمر سبق، وأخذ السلطان يغالط جمال الدين والتغيير
يظهر من وجهه؛ لشبيبته وشدّة حقده عليه، فتقهقر جمال الدين قليلا، وأخذ
يغالط السلطان، ويسأله أن يسلّم له ابن الهيصم وابن أبى شاكر، وألحّ فى
ذلك والسّلطان لا يوافقه ويعده ويمنّيه، إلى أن نزل السلطان بمدينة
غزّة، وأظهر لجمال الدين الجفاء، وأراد القبض عليه، فلم يمكّنه الوالد،
فتركه السّلطان إلى أن نزل بلبيس ووقع ما حكيناه.
(13/94)
وأما أصل جمال الدين ونسبه فانّه يوسف بن
أحمد بن محمّد بن أحمد بن جعفر ابن قاسم البيرىّ الحلبىّ البجاسيّ، كان
أبوه يتزيّا بزىّ الفقهاء، وكان يخطب بألبيرة، فتزوّج بأخت شمس الدين
عبد الله بن سهلول، وقيل سحلول، المعروف بوزير حلب، فولدت له يوسف هذا،
ولقّب بجمال الدين، وكنّى بأبى المحاسن هو وأخوته، ونشأ جمال الدين
يوسف المذكور بألبيرة، ثمّ قدم البلاد الشّاميّة على فاقة عظيمة،
وتزيّا بزىّ الجند، وخدم بلاصيّا «1» عند الشّيخ علىّ كاشف برّ دمشق،
ثمّ عند غيره من الكشّاف، وطال خموله، وخالط «2» الفقر ألوانا إلى أن
خدم عند الأمير بجاس- وهو أمير طبلخاناة- بعد أمور يطول شرحها، ثمّ
جعله بجاس أستاداره وتموّل وعرف عند الناس بجمال الدين أستادار بجاس،
وكثر ماله، وسكن بالقصر بين القصرين، وأتّهم أنّه وجد به من خبايا
الفاطميّين خبيثة، ثمّ خدم بعد بجاس عند جماعة من الأمراء إلى أن عدّ
من الأعيان، وصحب سعد الدين إبراهيم بن غراب، فنوّه ابن غراب بذكره إلى
أن طلب أن يلى الوزر فامتنع من ذلك، وطلب الأستاداريّة، فخلع السلطان
عليه باستقراره أستادارا عوضا عن سعد الدين بن غراب المذكور، بحكم
توجّه ابن غراب مع يشبك الدّوادار إلى البلاد الشّاميّة، وذلك فى رابع
شهر رجب سنة سبع وثمانمائة، ومن يومئذ أخذ أمره يظهر حتّى صار حاكم
الدّولة ومدبّرها، بعد أن قتل خلائق من الأعيان لا تدخل تحت حصر من كلّ
طائفة، بالعقوبة والذّبح والخنق وأنواع ذلك.
قلت: لا جرم أنّ الله تعالى قاصصه فى الدنيا ببعض ما فعله؛ فعوقب
أيّاما بالكسّارات وأنواع العذاب، ثمّ ذبح فى ليلة الثلاثاء حادى عشر
جمادى الآخرة، وأراح الله الناس من سوء فعله وقبح منظره- انتهى.
(13/95)
ثمّ فى يوم الثلاثاء رابع عشر جمادى الأولى
المذكور خلع السلطان على تاج الدين عبد الرزّاق بن الهيصم ناظر
الإسطبل، وكاتب المماليك السلطانيّة، باستقراره أستادارا عوضا عن جمال
الدين يوسف البيرىّ- بحكم القبض عليه- وترك لبس المباشرين ولبس
الكلفتاة «1» ، وتقلّد بالسيف وتزيّا بزىّ الأمراء، وخلع على أخيه مجد
الدين عبد الغنى بن الهيصم مستوفى ديوان المفرد، واستقر فى نظر الخاصّ،
وخلع على سعد الدين إبراهيم بن البشرىّ ناظر الدّولة، واستقر فى
الوزارة، وكل هذه الوظائف كانت مع جمال الدين الأستادار، وخلع على تقىّ
الدين عبد الوهّاب بن أبى شاكر واستقرّ ناظر ديوان المفرد، وأضيف إليه
أستادارية الأملاك والأوقاف السلطانيّة، عوضا عن أحمد ابن أخت جمال
الدين، وخلع على تاج الدين فضل الله بن الرّملىّ واستقرّ ناظر الدّولة،
وخلع على حسام الدين حسين الأحول- عدوّ جمال الدين- واستقر أمير
جاندار.
ثمّ قدم الخبر بأخذ شيخ لدمشق، وفرار بكتمر جلّق إلى صفد، وأرسل الأمير
شيخ محضرا يتضمن أنه كان يريد التوجّه إلى طرابلس، فلما وصل شقحب قصده
بكتمر جلّق وقاتله، فركب ودفع عن نفسه، وشهد له فى المحضر جماعة كبيرة
من أهل دمشق وغيرها، وكان الأمر كما قاله شيخ- حسبما ذكرناه قبل
تاريخه- وسكت الوالد، واحتار فى نفسه بين بكتمر وشيخ، فإنّه كان يميل
إلى كل منهما.
ثمّ قدم فى أثناء ذلك الأمير بكتمر جلّق إلى القاهرة فى سابع عشرين
جمادى الأولى، بعد دخول السلطان إلى القاهرة بنحو ستّة عشر يوما، وقدم
صحبة بكتمر المذكور الأمير بردبك نائب حماة، والأمير نكباى حاجب دمشق،
والأمير ألطنبغا العثمانىّ، والأمير يشبك الموساوىّ الأفقم نائب غزّة،
فخرج السلطان إلى لقائهم، ودخل بهم من باب النّصر، وشقّ القاهرة وخرج
من باب زويلة، ونزل بدار الأمير طوخ
(13/96)
- أمير مجلس- يعوده فى مرضه، ثمّ طلع إلى
القلعة، ولم يعتب السّلطان على الوالد فى أمر شيخ، ولا فاتحه الوالد فى
أمره حتى قال الوالد لبعض مماليكه:
كأن السلطان عذر الأمير شيخا فيما وقع منه- والله أعلم.
وفى هذه الأيّام، تناولت جمال الدين وحواشيه العقوبات، وأخذوا له عدّة
ذخائر من الأموال، وما استهلّ جمادى الآخرة حتى كان مجموع ما أخذ منه
من الذّهب العين المصرىّ تسعمائة ألف دينار وأربعة وستّين ألف دينار،
وهو إلى الآن تحت العقوبة والمصادرة.
ثمّ ورد الخبر على السلطان من البلاد الشامية، من دمرداش نائب حلب،
بأنّ الأمير نوروزا الحافظىّ قدم إلى حلب، ومعه يشبك بن أزدمر وغيره،
وأنّ الأمير دمرداش المحمّدى نائب حلب تلقّاه وأكرمه وحلّفه للسلطان،
ثمّ كتب يعلم السلطان بذلك، ويسأله أن يعيده إلى نيابة دمشق، وأن يولّى
يشبك بن أزدمر نيابة طرابلس، وأن يولّى ابن أخيه [تغرى بردى] «1»
المعروف بسيّدى الصغير نيابة حماة، فأجاب السّلطان إلى ذلك، وأرسل
الأمير مقبلا الرّومىّ فى البحر إلى نوروز المذكور وعلى يده التّقليد
والتّشريف بنيابة الشّام، فوصل إليه مقبل الرومىّ المذكور فى رابع
شعبان، فلبس نوروز التشريف، وقبل الأرض، وجدّد اليمين للسّلطان
بالطّاعة على كلّ حال، وعدم المخالفة، ولما بلغ شيخا ذلك فرّ منه جماعة
من الأمراء وأتوا إلى الأمير نوروز، منهم: تمربغا العلائىّ المشطوب،
وجانم من حسن شاه نائب حماة، وسودون الجلب. وجانبك القرمىّ وبردبك حاجب
حلب، فلمّا وقع ذلك أرسل الأمير شيخ إلى السلطان الملك الناصر إمام
الصّخرة «2»
(13/97)
وجنديّا آخر بكتابه، فقدما إلى القاهرة فى
ثانى جمادى الآخرة المذكور وعلى يدهما أيضا محضر مكتوب، فغضب السلطان
غضبا عظيما، ووسّط الجندىّ، وضرب إمام الصخرة ضربا مبرّحا وسجنه بخزانة
شمائل «1» .
ثمّ من الغد أنزل جمال الدين وابنه أحمد على قفصى حمّال إلى بيت تاج
الدين بن الهيصم، ثمّ قبض السّلطان على الأمير بلاط أحد مقدّمى الألوف،
وعلى الأمير كزل العجمىّ حاجب الحجّاب وقيدهما وأرسلهما إلى سجن
الإسكندرية.
ثمّ فى حادى عشر جمادى الآخرة نقل جمال الدين الأستادار- فى قفص حمال
أيضا- من بيت ابن الهيصم، بعد ما قاسى محنا وشدائد، إلى بيت حسام الدين
الأحول، فتنوّع حسام الدين فى عقوبته أنواعا؛ لما كان فى نفسه منه،
وأخذ فى استصفاء أمواله، فاستحثه القوم فى قتله خشية أن يحدث فى أمره
حادث، فقتله خنقا، ثمّ حزّ رأسه من الغد وحمله إلى السّلطان حتى رآه،
ثمّ أعاده فدفن مع جثته بتربته بالصّحراء، وقد ذكرنا تاريخ موته عند
القبض عليه.
ثم أصبح السلطان خلع على الأمير يلبغا الناصرىّ باستقراره حاجب الحجاب-
بالدّيار المصرية- بعد مسك كزل العجمىّ.
ثم ورد الخبر بأن الأمير شيخا توجه لقتال نوروز بحماة، فتوجه وحصره
بها، وأنّ الأمير يشبك الموساوىّ نائب غزة كان بينه وبين سودون المحمدى
وعلّان واقعة قتل فيها جماعة، وفرّ يشبك الموساوى إلى جهة الديار
المصرية، وأن علّان جرح فى وجهه فحمل إلى الرملة فمات بها.
(13/98)
قلت: وعلّان هذا هو خلاف علّان جلّق نائب
حماة وحلب- الذي قتله جكم مع طولو نائب صفد فى سنة [ثمان و] «1»
ثمانمائة- حسبما تقدّم ذكره، وأن سودون المحمدى بعث يسأل شيخا فى نيابة
صفد فأجابه إلى ذلك، كل هذا ورد على السلطان فى يوم واحد.
ولما طال حصار شيخ لنوروز على حماة، خرج دمرداش نائب حلب وقدم إلى
حماة- نجدة لنوروز- ومعه عساكر حلب، فلمّا بلغ شيخا قدوم دمرداش، بادر
بأن ركب وترك وطاقه وأثقاله وتوجه إلى ناحية العربان «2» فركب دمرداش
بسكرة يوم الأحد، وأخذ وطاق شيخ واستولى عليه، فعاد شيخ وتقاتلا بمن
معهما قتالا شديدا قتل فيه جماعة كبيرة، منهم: بايزيد- من إخوة نوروز
الحافظىّ- وأسر عدّة كبيرة من أصحاب دمرداش، منهم: الأمير محمد بن
قطبكى كبير التركمان الأوشرية «3» ، وفارس أمير آخور دمرداش، واستولى
الأمير شيخ على طبلخاناة الأمير دمرداش، وكسر أعلامه، ثم ركب شيخ وسار
يريد حمص.
ثم إن الأمير شيخا بعد مدّة أرسل يخادع السلطان بكتاب يسترضيه ويقول
فيه: إنه باق على طاعة السلطان، وحكى ما وقع له مع الأمير بكتمر جلّق
نائب الشام، ثم ما وقع له مع الأمير نوروز، ثم مع الأمير دمرداش وأن
كلّ ذلك ليس بإرادته ولا عن قصده، غير أنه يدافع عن نفسه خوفا من
الهلاك، وأنّه تاب وأناب ورجع إلى طاعة السّلطان، وأرسل أيضا للوالد
بكتاب مثل ذلك، فلم يتكلّم الوالد فى حقّه بكلمة، ثم أخذ شيخ يقول عن
نوروز أشياء ويغرى السّلطان به؛ من ذلك أنّه يقول: إنّ نوروزا يريد
الملك لنفسه، وهو حريص على ذلك من أيّام السّلطان السّعيد الشهيد الملك
الظاهر
(13/99)
برقوق، وأنّه لا يطيع أبدا، وأنّه هو لا
يريد إلّا الانتماء إلى السّلطان فقط، ورغبته فى عمل مصالح العباد
والبلاد، ثمّ كرّر السؤال فى العفو والصّفح عنه فى هذه المرّة، فلم يمش
ذلك على الملك الناصر ولم يلتفت إلى كتابه.
وشرع السّلطان فى التّنزّه، وأكثر من الرّكوب إلى برّ الجيزة للصّيد فى
كلّ قليل، ووقع منه ذلك فى الشهر غير مرة، ولمّا عاد فى بعض ركوبه فى
يوم الخميس ثالث عشرين شوّال من سنة اثنتى عشرة وثمانمائة المذكورة،
ووصل قريبا من قناطر السّباع «1» عند الميدان الكبير أمر السّلطان
بالقبض على الأمير قردم الخازندار، وعلى الأمير إينال المحمّدى
السّاقىّ- المعروف بضضع- أمير سلاح، فقبض فى الحال على قردم، وأما
إينال ضضع المذكور فإنّه شهر سيفه وساق فرسه ومضى، فلم يلحقه غير
الأمير قجق الشّعبانىّ، فأدركه وضربه بالسّيف على يده ضربة جرحته جرحا
بالغا، ثم فاته ولم يقدر عليه، وطلع السلطان القلعة، كلّ ذلك وهو لا
يملك نفسه على فرسه من شدّة السّكر، ونودى فى الحال بالقاهرة على
الأمير إينال المحمّدىّ المذكور، فلم يظهر له خبر، وقيّد قردم وحمل إلى
الإسكندريّة من يومه.
وأمّا الأمير شيخ، فإنّه كمّل فى هذا الشهر- وهو ذو الحجّة من سنة
اثنتى عشرة وثمانمائة- سبعة أشهر وهو يقاتل نوروزا ودمرداش، ويحاصرهما
بحماة، ووقع بينهم فى هذه المدّة المذكورة حروب وخطوب يطول شرحها، وقتل
بينهم خلائق لا تحصى، واشتدّ الأمر على نوروز وأصحابه بحماة، وقلّت
عندهم الأزواد، وقاسوا شدائد حتّى وقع الصلح بينه وبين الأمير شيخ؛
وذلك عندما سمعوا بخروج الملك الناصر فرج إلى البلاد الشّاميّة، وخاف
نوروز إن ظفر به
(13/100)
الملك الناصر لا يبقيه؛ فاحتاج إلى الصّلح،
وحلف كلّ من نوروز وشيخ لصاحبه، واتّفقا على أنّ نوروزا يمسك دمرداش
نائب حلب، وأنّ شيخا يمسك ابن أخيه قرقماس- المدعوّ سيّدى الكبير- ففطن
دمرداش بذلك، وأرسل أعلم ابن أخيه قرقماس المذكور مع بعض الأعوان، وهرب
دمرداش من نوروز إلى العجل ابن نعير، وفرّ ابن أخيه قرقماس من عند شيخ
إلى أنطاكيّة، والعجب أنّ قرقماس المذكور كان قد صار من حزب شيخ، وترك
عمّه دمرداش وخالفه وصار يقاتل نوروزا وعمه هذه المدة الطويلة، وعمه
دمرداش يرسل إليه فى الكفّ عن قتالهم، ويدعوه إلى طاعة نوروز ويوبخه
بالكلام وهو لا يلتفت، ولا يبرح عن الأمير شيخ، حتى بلغه من عمّه أنّ
شيخا يريد القبض عليه، فعند ذلك تركه وهرب، ثمّ إنّ الأمير نوروزا قصد
حلب وأخذها واستولى عليها، وهرب مقبل الرومىّ، الذي كان حمل للأمير
نوروز التّقليد بنيابة الشام، ولحق بالسّلطان على غزّة.
[ما وقع من الحوادث سنة 813]
وأمّا السلطان الملك الناصر، فإنه أخذ فى التّجهيز إلى السفر نحو
البلاد الشّامية، وعظم الاهتمام فى أوّل محرم سنة ثلاث عشرة وثمانمائة،
وخلع فى عاشر المحرّم على الأمير قراجا شادّ الشراب خاناة باستقراره
دوادارا كبيرا- دفعة واحدة- بعد موت الأمير قجاجق، وخلع على سودون
الأشقر باستقراره شادّ الشّراب خاناة عوضا عن قراجا المذكور، ثمّ عمل
السلطان فى هذا اليوم عرس الأمير بكتمر جلّق، وزفّت عليه ابنة السلطان
الملك الناصر- التى كان عقد عليه عقدها بدمشق- وعمرها يوم ذلك نحو سبع
سنين أو أقلّ، وبنى عليها بكتمر فى ليلة الجمعة حادى عشر المحرّم
المذكور، وأخذ السّلطان فى أسباب السفر، وتهيأ وأنفق على المماليك
السلطانيّة وغيرهم من الأمراء، ومن له عادة بالنّفقة، فأعطى لكلّ مملوك
من المماليك السلطانية عشرين ألف درهم، وحمل إلى الأمراء مقدّمى الألوف
لكلّ واحد ألفى دينار،
(13/101)
ما خلا الوالد وبكتمر فإنه حمل لكلّ منهما
ثلاثة آلاف دينار، وأعطى لكل أمير من أمراء الطّبلخانات خمسمائة دينار،
ولأمراء العشرات ثلاثمائة دينار.
ثم خرج الأمير بكتمر جلّق جاليشا من القاهرة إلى الرّيدانيّة، وصحبته
عدّة من أمراء الألوف وغيرهم، فى يوم الخميس ثالث عشرين صفر، فالذى كان
معه من أمراء الألوف هم:-
يلبغا الناصرى حاجب الحجّاب، وألطنبغا العثمانىّ، وطوغان الحسنىّ رأس
نوبة النّوب، وسنقر الرّومى، وخيربك، وشاهين الأفرم، وعدة كبيرة من
أمراء الطّبلخانات والعشرات، وسار بكتمر بعد أيام قبل خروج السلطان.
ثمّ ركب السلطان من قلعة الجبل ببقيّة أمرائه وعساكره فى يوم الاثنين
رابع شهر ربيع الأول من سنة ثلاث عشرة المذكورة، ونزل بالرّيدانية،
وهذه تجريدة الملك الناصر السادسة إلى البلاد الشامية، غير سفرة
السعيدية، وخلع على أرغون من بشبغا الأمير آخور الكبير بنيابة الغيبة
على عادته، وأنه يستمر بسكنه بباب السلسلة، وأنزل الأمير كمشبغا
الجمالى بقلعة الجبل، وجعل بظاهر القاهرة الأمير إينال الصصلانى الحاجب
الثانى أحد مقدمى الألوف، ومعه عدّة أمراء أخر، والذي كان بقى مع
السلطان- من أمراء الألوف وخرجوا صحبته- الوالد رحمه الله، وهو أتابك
العساكر، وقجق الشعبانى، وسودون الأسندمرى، وسودون من عبد الرحمن،
وسودون الأشقر شاد الشّراب خاناة، وكمشبغا الفيسى المعزول عن الأمير
آخورية، وبردبك الخازندار.
ثمّ ركب الملك الناصر من الغد فى يوم الثلاثاء خامس شهر ربيع الأوّل من
الرّيدانية إلى التربة التى أنشأها على قبر أبيه بالصّحراء.
قلت: وجماعة كبيرة من النّاس يظنّون أنّ هذه التربة العظيمة أنشأها
الملك الظاهر برقوق قبل موته، ويسمونها الظاهريّة، وليس هو كذلك، وما
عمرها إلّا الملك
(13/102)
الناصر فرج بعد موت أبيه بسنين، وهى أحسن
تربة بنيت بالصّحراء- انتهى.
وسار الملك النّاصر حتى نزل بالتّربة المذكورة، وقرّر فى مشيختها صدر
الدين أحمد بن محمود العجمىّ «1» ، ورتّب عنده أربعين صوفيّا، وأجرى
عليهم الخبز واللحم الضأن للطبوخ فى كلّ يوم، وفرشت السّجادة لصدر
الدين المذكور بالمحراب، وجلس عليها. أخبرنى العلّامة علاء الدين علىّ
القلقشندىّ «2» قال: حضرت جلوس صدر الدين المذكور فى ذلك اليوم مع من
حضر من الفقهاء، وقد جلس السلطان بجانب صدر الدين فى المحراب، وعن
يمينه الأمير تغرى بردى من بشبغا الأتابك- يعنى الوالد- وتحته بقيّة
الأمراء، وجلس على يسار السلطان الشيخ برهان الدين إبراهيم بن زقّاعة
«3» ، وتحته المعتقد الكركى «4» ، فجاء القضاة فلم يجسر قاضى القضاة
جلال الدين البلقينى «5» الشافعىّ أن يجلس عن يمين السّلطان فوق الأمير
الكبير، وتوجّه وجلس عن ميسرة السّلطان تحت ابن زقّاعة
(13/103)
والكركى، فإنهما كان لهما عادة بالجلوس فوق
القضاة من أيّام الملك الظاهر برقوق- انتهى.
قلت: والعادة القديمة من أيّام شيخون العمرىّ إلى ذلك اليوم، أنه لا
يجلس أحد فوق الأمير الكبير من القضاة ولا غيرهم، حتى ولا ابن
السّلطان، غير صاحب مكة المشرّفة؛ مراعاة لسلفه الطاهر- انتهى.
ثمّ ركب السّلطان بأمرائه وخواصه وعاد إلى مخيّمه بالرّيدانية، وأقام
به إلى أن رحل منه فى يوم السبت تاسع شهر ربيع الأوّل المذكور، يريد
البلاد الشّامية.
وأمّا الأمير شيخ، فإنه لمّا بلغه خروج السّلطان من الديّار المصرية،
لم يثبت وداخله الخوف، وخرج من دمشق فى يوم الثلاثاء سادس عشرين شهر
ربيع الأوّل المذكور بعساكره ومماليكه، وتبعه الأمير جانم نائب حماة.
فدخل بكتمر جلّق إلى الشّام من الغد فى يوم سابع عشرينه- على حين غفلة-
حتى يطرق شيخا، ففاته شيخ بيوم واحد، لكنّه أدرك أعقابه وأخذ منهم
جماعة، ونهب بعض أثقال شيخ، ثمّ دخل السلطان الملك النّاصر إلى دمشق
بعد عشاء الآخرة من ليلة الخميس ثامن عشرينه، وقد ركب من بحيرة طبريّة
«1» فى عصر يوم الأربعاء على جرائد الخيل ليكبس شيخا، ففاته بيسير،
وكان شيخ قد أتاه الخبر وهو جالس بدار السّعادة من دمشق، فركب من وقته
وترك أصحابه، ونجا بنفسه بقماش جلوسه، فما وصل إلى سطح المزّة إلّا
وبكتمر جلّق داخل دمشق، ومرّ شيخ على وجهه منفردا عن أصحابه، ومماليكه
وحواشيه فى أثره، والجميع فى أسوإ ما يكون من الأحوال.
(13/104)
ولمّا دخل السّلطان إلى دمشق، أصبح نادى
بدمشق بالأمان والاطمئنان لأهل الشّام، وألا ينزل أحد من العسكر فى بيت
أحد من الشّاميّين، ولا يشوّش أحد منهم على أحد فى بيع ولا شراء، ونودى
أن الأمير نوروزا الحافظىّ هو نائب الشّام.
ثمّ فى ثانى شهر ربيع الآخرة قدم الأمير شاهين الزّردكاش «1» نائب صفد
على السّلطان بدمشق، ثمّ فى ثالثه خلع السّلطان على الأمير يشبك
الموساوىّ الأفقم باستقراره فى نيابة طرابلس، واستقرّ أبو بكر بن
اليغمورىّ فى نيابة بعلبك، وأخوه شعبان فى نيابة القدس، ثمّ فى سادس
شهر ربيع الآخر المذكور، خرج أطلاب السّلطان والأمراء من دمشق إلى
برزة، وصلى السلطان الجمعة يجامع بنى أميّة، ثمّ ركب وتوجه بأمرائه
وعساكره جميعا إلى أن نزل بمخّيمه ببرزة، وخلع السلطان على شاهين
الزّردكاش نائب صفد باستقراره نائب الغيبة بدمشق، وسكن شاهين بدار
السعادة، وتأخر بدمشق من أمراء السلطان الأمير قانى باى المحمّدىّ،
لضعف كان اعتراه، وتخلّف بدمشق أيضا القضاة الأربعة، والوزير سعد الدين
بن البشيرىّ، وناظر الخاص مجد الدين بن الهيصم، وسار السّلطان بعساكره
إلى جهة حلب حتى وصلها، فى قصد شيخ ونوروز بمن معهما من الأمراء، ثمّ
كتب السّلطان لنوروز وشيخ يخيّرهما، إما الخروج من مملكته، أو الوقوف
لمحاربته، أو الرجوع إلى طاعته، يريد- بذلك- الملك الناصر الشفقة على
الرعيّة من أهل البلاد الشّامية؛ لكثرة ما صار يحصل لهم من الغرامة
والمصادرة، وخراب بلادهم من كثرة النّهّابة من جهة العصاة، ثمّ أخبرهما
الملك الناصر أنه عزم على الإقامة بالبلاد الشّامية السنتين والثلاثة
حتى ينال غرضه، فأجابه الأمير شيخ بأنه ليس بخارج عن طاعته، ويعتذر عن
حضوره بما خامر قلبه من شدة
(13/105)
الخوف والهيبة عند ما قبض عليه السّلطان مع
الأتابك يشبك الشعبانىّ فى سنة عشر وثمانمائة، وأنه قد حلف لا يحارب
السلطان ما عاش، من يوم حلّفه الأمير الكبير تغرى بردى- أعنى الوالد-
فى نوبة صرخد، وكرّر الاعتذار عن محاربته لبكتمر جلّق، حتى قال: وإن
كان السلطان ما يسمح له بنيابة الشّام على عادته، فينعم عليه بنيابة
أبلستين «1» ، وعلى الأمير نوروز بنيابة ملطية، وعلى يشبك بن أزدمر
بنيابة عين تاب، وعلى غيرهم من الأمراء ببقية القلاع؛ فإنهم أحق من
التركمان المفسدين فى الأرض، وكان ما ذكروه على حقيقته، فلم يرض
السّلطان بذلك، وصمّم على الإقامة ببلاد الشام، وكتب يستدعى التركمان
وغيرهم، كلّ ذلك والسلطان بأبلستين، وبيناهم فى ذلك فارق الأمير سودون
الجلب شيخا ونوروزا، وتوجه إلى الكرك واستولى عليها بحيلة تحيّلها.
ثمّ عاد السّلطان إلى حلب فى أوّل جمادى الآخرة، ولم يلق حربا، فقدم
عليه بها قرقماس ابن أخى دمرداش- المدعو سيّدى الكبير- والأمير جانم من
حسن شاه نائب حماة- كان- فأكرمهما السلطان وأنعم على قرقماس بنيابة
صفد، وعلى جانم بنيابة طرابلس، واستقرّ الأمير جركس والد تنم حاجب
حجّاب دمشق، ثمّ خلع على الأمير بكتمر جلّق باستقراره فى نيابة الشام
ثانيا، وأنعم بإقطاعه على الأمير دمرداش المحمّدىّ نائب حلب، ثمّ بعد
مدّة غيّر السلطان قرقماس سيّدى الكبير- من نيابة صفد إلى نيابة حلب،
عوضا عن عمّه الأمير دمرداش المحمّدىّ، وأخلع على أخيه تغرى بردى-
المدعو سيّدى الصّغير- باستقراره فى نيابة صفد.
وبينما السلطان فى ذلك بحلب، ورد عليه الخبر بأنّ شيخا ونوروزا وصلا
عين تاب، وسارا على البريّة إلى جهة الشّام، فركب السلطان مسرعا
(13/106)
من حلب على حين غفلة فى ثالث عشرين شهر رجب
ببعض عساكره، وسار حتى دخل دمشق فى أربعة أيّام، ثمّ قدم فى أثره
الوالد بغالب العساكر، ثمّ الأمير بكتمر جلّق نائب الشّام، ثمّ بقيّة
الأمراء والعساكر، ثمّ فى ثالث شعبان قدم الأمير تمراز النّاصرى نائب
السّلطنة- كان- إلى دمشق فى خمسين فارسا، داخلا فى طاعة السّلطان بعدما
فارق شيخا ونوروزا، فركب السّلطان وتلقّاه وبالغ فى إكرامه، قلت،
وتمراز هذا هو الذي كان فرّ من السّلطان فى ليلة بيسان ومعه عدّة
أمراء- وقد تقدّم ذكر ذلك فى وقته- ثمّ فى الغد سمّر السّلطان ستة نفر
من أصحاب شيخ ووسّطهم.
وأما شيخ ونوروز، فإنّهما لمّا سار السّلطان عن أبلستين خرجا من
قيساريّة «1» بمن معهم، وجاءوا إلى أبلستين فمنعهم أبناء دلغادر
وقاتلوهم، فانكسروا منهم وفرّوا إلى عين تاب، فلمّا قربوا من تلّ باشر
«2» تمزّقوا وأخذت كلّ طائفة جهة من الجهات، فلحق بحلب ودمشق منهم عدّة
وافرة، واختفى منهم جماعة، ومرّ شيخ ونوروز بحواشيهما على البريّة إلى
تدمر «3» فامتاروا منها، ومضوا مسرعين إلى صرخد وتوجهوا إلى البلقاء
«4» ودخلوا بيت المقدس، ثمّ توجّهوا إلى غزّة بعد أن مات من أصحابهم
الأمير
(13/107)
تمربغا المشطوب نائب حلب- كان- والأمير
إينال المنقار، كلاهما بالطّاعون بمدينة حسبان «1» .
ثمّ قدم عليهم سودون الجلب من الكرك، فتتّبعوا ما بغزّة من الخيول
فأخذوها، وأقاموا بها حتى أخرج السّلطان إليهم بكتمر جلّق على عسكر
كبير، فسار إلى زرع، ثمّ كتب للسّلطان يطلب نجدة، فأخرج إليه السّلطان
من دمشق بعسكر هائل من الأمراء والمماليك السلطانيّة، ورأس الأمراء
الأمير تمراز النّاصرىّ- الذي قدم على السّلطان طائعا بدمشق- ويشبك
الموساوىّ الأفقم، وألطنبغا العثمانىّ، وأسنبغا الزّرد كاش وسودون
الظّريف نائب الكرك- كان- والأمير طوغان الحسنىّ رأس نوبة النّوب،
فخرجوا من دمشق مجدّين فى السّير إلى قاقون «2» - وبها الأمير بكتمر
جلّق- فساروا جميعا إلى غزّة، فقدموها فى عصر يوم الثلاثاء من ثالث شهر
رمضان، وقد رحل شيخ ونوروز بمن معهما بكرة النهار عند ما قدم عليهم
سودون بقجة وشاهين الدّوادار من الرّملة، وأخبراهم بقدوم عسكر السلطان
إليهم، فنهبوا غزّة وأخذوا منها خيولا كثيرة وغلالا، فتبعهم الأمير خير
بك نائب غزّة إلى الزّعقة «3» ، وسارت كشّافته فى أثرهم إلى العريش،
ثمّ عادوا إلى غزّة.
فلمّا وصل بكتمر جلّق بمن معه من الأمراء إلى غزّة، وبلغه توجّه شيخ
ونوروز إلى جهة مصر، أرسل بكتمر الأمير شاهين الزّردكاش والأمير أسنبغا
الزّردكاش على البرّية إلى مصر ليخبرا من بقلعة الجبل بقدوم شيخ ونوروز
إلى مصر، فسارا وسبقا شيخا ونوروزا، وعرّفا الأمير أرغون الأمير آخور
(13/108)
وغيره ممن هو من الأمراء بمصر، وردّ جواب
أرغون على بكتمر بأنه حصّن قلعة الجبل، والإسطبل السلطانىّ، ومدرسة
السلطان حسن، ومدرسة الملك الأشرف شعبان بن حسين- التى كانت تجاه
الطبلخاناة عند الصّوة «1» - وأنه هو ومن معه قد استعدّوا للقاء شيخ
ونوروز.
وأمّا شيخ ونوروز ومن معهم فإنهم ساروا من مدينة غزّة إلى جهة الدّيار
المصرية، فمات بالعريش شاهين دوادار الأمير شيخ- وكان عضد الأمير شيخ
وأعظم مماليكه- ثمّ ساروا إلى قطيا «2» ونهبوها، ثم ساروا من قطيا إلى
أن وصلوا إلى مصر فى يوم الأحد ثامن شهر رمضان من سنة ثلاث عشرة
وثمانمائة المذكورة، ودخل شيخ ونوروز بمن معهما من أمراء الألوف، وهم:
الأمير يشبك بن أزدمر، والأمير سودون بقجة، والأمير سودون المحمّدى
تلّى، والأمير يشبك العثمانىّ، وغيرهم من أمراء الطّبلخانات مثل قمش
وقوزى وغيرهما، ودخل معهم إلى القاهرة خلائق من الزّعر، وبنى وائل- من
عرب الشّرقية- والأمير سعيد الكاشف- وهو معزول- فبلغهم تحصين القلعة
والمدرستين «3» ، وأنّ الأمير أرغون ومن معه من الأمراء قبضوا على
أربعين مملوكا من النّوروزيّة- أعنى ممن كان له ميل إلى نوروز من
المماليك السلطانيّة- وسجنوهم بالبرج من قلعة الجبل خوفا من غدرهم،
فساروا من جهة المطريّة خارج القاهرة إلى بولاق، ومضوا
(13/109)
إلى الميدان الكبير إلى الصّليبة «1» ،
وخرجوا إلى الرّميلة «2» تحت قلعة الجبل، فرماهم المماليك السلطانية
بالمدافع والنّشّاب، وبرز لهم الأمير إينال الصصلانىّ الحاجب الثانى
بمن معه، ووقف تجاه باب السّلسلة، وقاتل الشيخية والنّوروزية ساعة،
فتقنطر من القوم فارسان، ثمّ انهزم إينال الصّصلانىّ وعاد إلى بيته
تجاه سبيل المؤمنىّ «3» - المعروف ببيت نوروز- وبات الأمراء تلك الليلة
بالقاهرة، وأصبح الأمير شيخ أقام رجلا فى ولاية القاهرة فنادى بالأمان،
ووعد الناس بترخيص الأسعار، وبإزالة المظالم، فمال إليه جمع من
العامّة، وأقاموا ذلك اليوم، وملكوا مدرسة الملك الأشرف شعبان التى
كانت بالصوّة تجاه الطّبلخاناة السلطانية، هذا والقتال مستمر بينهم
وبين أهل القلعة، ثمّ ملك الأمراء مدرسة السلطان حسن، وهزموا من كان
فيها من المقاتلة، بعد قتال شديد، وأقاموا بها جماعة رماة من أصحابهم،
ورموا على قلعة الجبل يومهم وليلتهم، وطلع الأمير أرغون من بشبغا-
الأمير آخور- من الإسطبل السّلطانىّ إلى أعلا القلعة عند الأمير جرباش
وكمشبغا الجمالى، فأدخلاه القلعة بمفرده من غير أصحابه.
فلمّا كانت ليلة الاثنين، كسرت خوخة أيدغمش «4» ، ودخلت طائفة من
الشاميّين إلى القاهرة، ومعهم طوائف من العامة؛ ففتحوا باب زويلة، وكان
والى القاهرة حسام الدين الأحول، وقد اجتهد فى تحصين المدينة، ثمّ
كسروا باب خزانة شمائل، وأخرجوا من كان بها، وكسروا سجن
(13/110)
الدّيلم «1» أيضا، وسجن رحبة باب العيد «2»
، وانتشروا فى حارات القاهرة، ونهبوا بيت كمشبغا الجمالىّ، وتتبّعوا
الخيول والبغال من الإسطبلات وغيرها، وأخذوا منها شيئا كثيرا، ثمّ
فتحوا حاصل الديوان المفرد ببين القصرين وأخذوا منه مالا كثيرا، ثمّ
ملك شيخ باب السلسلة، وجلس بالحرّاقة هو ورفقته، ثمّ طلبوا من الأمراء
الذين بالقلعة فتح القلعة لهم فى بكرة يوم الثلاثاء، فاعتذر الأمراء
لهم «3» بأنّ المفاتيح عند الزّمام «4» كافور، فاستدعوه فأتاهم،
وكلّمهم من وراء الباب، فسلموا عليه من عند الأمير شيخ ومن عند أنفسهم،
وكان الأمير نوروز من جملة من كان واقفا على الباب، وسألوه الفتح لهم،
فقال: ما يمكن ذلك؛ فإنّ حريم السّلطان بالقلعة، فقالوا مالنا غرض فى
النهب وإنما نريد أن نأخذ ابن أستاذنا، يعنون بابن أستاذنا: الامير فرج
ابن السّلطان الملك الناصر فرج، وكان هذا الصبىّ سمى على اسم أبيه- وهو
أكبر أولاد الملك الناصر- فقال كافور الزّمام: وأيش صاب السّلطان حتى
تأخذوا ولده؟ فقالوا: لو كان السّلطان حيّا ما كنّا هاهنا- يعنون أنهم
(13/111)
قتلوا السلطان، وساروا إلى الديار المصرية
لبسلطنوا ولده- فلم يمش ذلك على كافور ولا على غيره، وطال الكلام بينهم
فى ذلك، فلم يلتفت كافور إلى كلامهم، فهدّدوه بإحراق الباب، فخاف وقال:
إن كنتم ما تريدون إلا ابن أستاذكم فليحضر إلى باب السرّ اثنان منكم أو
ثلاثة، وتحضر القضاة، ثمّ احلفوا أنكم لا تغدرون به ولا تمسّونه بسوء،
وكان كافور يقصد بذلك التطويل، فإنه كان بلغه هو والأمراء الذين
بالقلعة قرب مجىء العسكر السلطانىّ إلى القاهرة، فبعثوا لهم البطاقة من
القلعة باستعجالهم، وأنهم فى أقوى ما يكون من الحصار، ومتى «1» لم
يدركوا أخذوا، وأخذ كافور فى مدافعة الجماعة والتمويه عليهم- قلت: وعلى
كل حال فهو أرجل من أرغون الأمير آخور، فإنّ أرغون مع كثرة من كان عنده
من المماليك السلطانية ومماليكه لم يقدر على منع باب السّلسلة، وتركها
وفرّ فى أقلّ من يومين، وكان يمكنه مدافعة القوم أشهرا- انتهى.
وبينما [كافور] «2» الزّمام فى مدافعتهم لاحت طلائع العسكر السلطانىّ
لمن كان شيخ أوقفه من أصحابه يرقبهم بالمآذن بقلعة الجبل، وقد ارتفع
العجاج، واقبلوا سائقين سوقا عظيما جهدهم، فلما بلغ شيخا وأصحابه ذلك
لم يثبتوا ساعة واحدة، وركبوا من فورهم ووقفوا قريبا من باب السّلسلة،
فدهمهم العسكر السّلطانىّ فولوا هاربين نحو باب القرافة «3» والعسكر فى
أثرهم، فكبا بالأمير شيخ فرسه عند سوق الخيم «4» بالقرب من باب
(13/112)
القرافة، فتقنطر من عليه، فلم يستطع النهوض
ثانيا؛ لعظم روعه وسرعة حركته، فأركبه بعض أمراء آخوريته- يقال إنه
الأمير جلبّان الأمير آخور، الذي كان ولى نيابة الشام فى دولة الملك
الظاهر جقمق إلى أن مات فى دولة الملك الاشرف إينال فى سنة ثمان وخمسين
وثمانمائة- وركب شيخ ولحق بأصحابه، فمرّوا على وجوههم على جرائد الخيل،
وتركوا ما أخذوه من القاهرة، وأيضا ما كان معهم، وساروا على أقبح وجه
بعد أن قبض عسكر السّلطان على جماعة من أصحاب شيخ، مثل الأمير قرايشبك-
قريب نوروز- وبردبك رأس نوبة نوروز؛ لأنّ نوروزا ثبت قليلا بالرّميلة
بعد فرار الأمير شيخ، وعلى برسباى الطّقطائىّ أمير جاندار، وثمانية
وعشرين فارسا، وجرح جماعة كبيرة، منهم السيفىّ يشبك السّاقىّ الظاهرىّ-
الذي ولّى فى الدولة الأشرفية [برسباى] «1» الأتابكية- ومن هذا الجرح
صار أعرج بعد أن أشرف على الموت «2» .
ودخل الأمير بكتمر جلّق بعساكره، وأرسل الامير سودون الحمصىّ فاعتقل
جميع من أمسك من الشّاميين، وأخذ يتتبّع من بقى من الشّامية بالقاهرة،
ثمّ نادى فى الوقت بالأمان، ثمّ أخذت عساكره يقتلون فى الشاميّين،
ويأسرون وينهبون إلى طمّوه «3» ، وألزم بكتمر جلّق والى القاهرة بمسك
الزّعر الذين قاموا مع الشّاميين، فأبادهم الوالى، وقطع أيدى جماعة
كبيرة، وحبس جماعة أخر بعد ضربهم بالمقارع، وأخذ الامير بكتمر جلّق فى
تمهيد أحوال الديار المصرية، وقدم عليه الخبر فى ليلة الأربعاء حادى
عشر من شهر رمضان المذكور بأنّ شيخا
(13/113)
نزل إطفيح «1» ، وأنّ شعبان بن محمد بن
عيسى العائذىّ توجه بهم إلى نحو الطور «2» ، فنودى بالقاهرة ومصر
بتحصيل من اختفى من الشاميين بها، ثمّ قدم الخبر بوصولهم إلى السّويس،
وأنهم أخذوا علفا كان هناك للتجّار، وزادا وجمالا، وسار بهم شعبان بن
عيسى فى درب الحاج «3» إلى نخل «4» ، فأخذوا عدّة جمال للعربان، وأن
شعبان المذكور أمدّهم بالشعير والزّاد، وأنهم افترقوا فرقتين، فرقة
رأسها الأمير نوروز الحافظىّ ويشبك بن أزدمر وسودون بقجة، وفرقة رأسها
الأمير شيخ المحمودىّ وسودون تلّى المحمدىّ وسودون قراصقل، وكلّ فرقة
منهما معها طائفة كبيرة من الأمراء والمماليك، وأنهم لما وصلوا إلى
الشّوبك «5» دفعهم أهلها عنها، فساروا إلى جهة الكرك وبها سودون الجلب،
فتضرعوا له حتّى نزل إليهم من قلعة الكرك، وتلقّاهم وادخلهم مدينة
الكرك، وأنهم استقرّوا بالكرك.
وأما الأمير بكتمر جلّق بمن معه من الأمراء والعساكر السّلطانية، فإنهم
أقاموا بالقاهرة نحو ستّة أيّام حتّى تحقّقوا توجّه القوم إلى جهة
البلاد الشّامية، فخرجوا من القاهرة فى يوم سادس عشر من رمضان يريدون
البلاد الشّاميّة إلى الملك الناصر وهو بدمشق، وتأخّر بالقاهرة من
الأمراء من
(13/114)
أصحاب بكتمر جلق: طوغان الحسنىّ رأس نوبة
النّوب- وقد استقرّ قبل تاريخه دوادارا كبيرا بعد موت الأمير قراجا
بطريق دمشق، فى ذهاب الملك النّاصر إلى الشّام- ويشبك الموساوىّ
الأفقم، وشاهين الزّرد كاش وأسنبغا الزّرد كاش، وسار بكتمر جلّق بمن
بقى حتى وصل دمشق.
وأما السّلطان الملك النّاصر، فإنه كان فى هذه الأيام بدمشق، وبلغه ما
وقع بالدّيار المصرية مفصلا، لكن نقل إليه أنّ بكتمر جلّق وطوغان
الحسنىّ قصّرا فى أخذ شيخ ونوروز، ولو قصدا أخذهما لأمكنهم ذلك،
فأسرّها الملك الناصر فى نفسه، قلت: ولا يبعد ذلك؛ لما حكى لى غير
واحد- ممّن حضر هذه الواقعة- من ضعف شيخ ونوروز، وتقاعد الأمراء عن
المسير فى أثرهم. ولمّا بلغ الملك الناصر ذلك لم يسعه إلّا السكات،
وعدم معاتبة الأمراء على ذلك.
ثمّ إنّ السّلطان أمسك الأمير جانبك القرمىّ بدمشق فى يوم الاثنين أوّل
شوّال، وضربه ضربا مبرّحا، وسجنه بقلعة دمشق، ثمّ أمر السّلطان الأمير
قرقماس ابن أخى دمرداش- المعروف بسيّدى الكبير- بالمضىّ إلى محلّ
كفالته بحلب، فسار من دمشق عائدا إلى حلب، واستمرّ السّلطان بدمشق إلى
يوم سابع عشر ذى القعدة، وخرج منها إلى قبّة يلبغا، ورحل من الغد
بأمرائه وعساكره يريد الكرك بعد ما تحقّق نزول الأمراء بالكرك، وخلع
على بكتمر جلّق بنيابة الشام على عادته، وعاد بكتمر إلى دمشق.
وأما شيخ ونوروز وجماعتهما، فإنهم أقاموا بالكرك أياما، واطمأنّوا بها،
ثمّ أخذوا فى تحصينها، فلما كان بعض الأيام نزل الأمير شيخ ومعه الأمير
سودون بقجة، وقانى باى المحمّدىّ فى طائفة يسيرة من قلعة الكرك إلى
حمّام الكرك، فدخل جميع هؤلاء الحمام، وبلغ ذلك الأمير شهاب الدين أحمد
حاجب الكرك، فبادر بأصحابه ومعه جمع كبير من أهل
(13/115)
البلد، واقتحموا الحمام المذكورة ليقتلوا
بها الأمير شيخا وأصحابه، فسبقهم بعض المماليك وأعلم الأمير شيخا، فخرج
من وقته من الحمام ولبس ثيابه ووقف فى مسلخ الحمام عند الباب، ومعه
أصحابه الذين كانوا معه فى الحمام، فطرقهم القوم بالسلاح، فدافع كلّ
واحد منهم عن نفسه، وقاتلوا قتال الموت، حتى أدركهم الأمير نوروز
بجماعته، فقاتلوهم حتى هزموهم بعد ما قتل الأمير سودون بقجة، وأصاب
الأمير شيخا سهم غار فى بدنه، فنزف منه دم كثير حتى أشرف على الموت،
وحمل إلى قلعة الكرك فأقام ثلاثة أيام لا يعقل، ثمّ أفاق، ومن هذه
الرّجفة حصل له مرض المفاصل الذي تكسّح منه بعد سلطنته، هكذا ذكر
المؤيد لبعض أصحابه.
وأمّا الأمير نوروز لمّا بلغه قتل سودون بقجة وهو يعارك القوم جدّ فى
قتالهم حتى كسرهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة، ثمّ عاد إلى الكرك وقد جرح
من أصحابه جماعة، وبلغ هذا الخبر السلطان الملك النّاصر فسرّ بقتل
سودون بقجة سرورا عظيما؛ لكثرة ما كان أحسن إليه ورقّاه حتى ولّاه
نيابة طرابلس، فتركه وتوجّه إلى الأمير شيخ ونوروز من غير أمر أوجب
تسحبّه، بل لأجل خاطر أغاته «1» وحميّه الأمير تمراز النائب.
ثمّ وقع بين الأمراء وبين سودون الجلب بالكرك، فنزل سودون الجلب من
الكرك وتركها لهم، ومضى حتى عدّى الفرات.
وأما السّلطان الملك النّاصر، فإنه سار من مدينة دمشق حتى نزل على
مدينة الكرك فى يوم الجمعة رابع عشرين ذى القعدة، وأحاط بها ونصب عليها
الآلات، وجدّ فى قتالها، وحصرها وبها شيخ ونوروز وأصحابهما، واشتدّ
الحصار عليهم بالكرك، وأخذ الملك النّاصر يلازم قتالهم حتى أشرفوا على
الهلاك والتّسليم، ثمّ أخذ شيخ ونوروز والأمراء يكاتبون
(13/116)
الوالد ويتضرّعون إليه، وهو يتبرّم من
أمرهم والكلام فى حقهم، ويوبخهم بما فعله الأمير شيخ مع بكتمر جلّق بعد
حلفه فى واقعة صرخد، فأخذ شيخ يعتذر ويحلف بالأيمان المغلظة أن بكتمر
جلّق كان الباغى عليه والبادئ بالشرّ، وأنه هو دفع عن نفسه لا غير،
وأنّه ما قصده فى الدّنيا سوى طاعة السّلطان، وأنت الأمير الكبير،
وأكبر خشدا شيتنا، إن لم تتكلم بيننا فى الصلح «1» فمن يتكلم؟ ثمّ
كاتبوا أيضا جماعة من الأمراء فى طلب العفو والصّلح، ولا زالوا حتى
تكلم الوالد مع السّلطان فى أمرهم، فأبى السّلطان إلّا قتالهم وأخذهم،
والوالد يمعن فى ذلك حتى ابترم الصّلح غير مرّة والسلطان يرجع عن ذلك.
ثمّ تردّدت الرسل بينهم وبين السّلطان أياما حتى انعقد الصلح، على أن
يكون الوالد نائب الشام، وأن يكون الأمير شيخ نائب حلب، وأن يكون
الأمير نوروز نائب طرابلس، وكان ذلك بإرادة شيخ ونوروز؛ فإنهما قالا:
لا نرضى أن يكون بكتمر جلّق أعلى منا رتبة بأن يكون نائب الشّام- ونحن
أقدم منه عند السّلطان- فإن كان ولا بدّ، فيكون الأمير الكبير تغرى
بردى فى نيابة الشّام، ونكون نحن تحت أوامره، ونسير فى المهمّات
السّلطانية تحت سنجقه، وأمّا بكتمر ودمرداش فلا، وإن فعل السّلطان ذلك
لا يقع منّا بعدها مخالفة أبدا.
ولمّا بلغ الأمراء والعساكر هذا القول أعجبهم غاية الإعجاب، وقد ضجر
القوم من الحصار، وملّوا من القتال، فلا زالوا بالسلطان حتى أذعن ومال
إلى تولية الوالد نيابة الشّام، وكلّم الوالد فى ذلك، فأبى وامتنع غاية
الامتناع، وكان السّلطان قد شرط على الأمراء شروطا كثيرة فقبلوها- على
أن يكون الوالد نائب دمشق- وأخذ الملك الناصر يكلم الوالد فى ذلك
(13/117)
والوالد مصمم على عدم القبول، وأرمى سيفه
غير مرّة بحضرة السّلطان، وأراد التوجّه إلى القدس بطّالا.
وصار الوالد كلّما امتنع من الاستقرار وحنق يكفّ عنه السلطان، فإذا رضى
كلّمه، ثمّ سلط عليه الأمراء فكلّموه من كلّ جهة [حتى قبل] «1» ، ثمّ
قام إليه السّلطان واعتنقه، وطلب الخلعة فجىء بها فى الحال، وألبسها
للوالد باستقراره فى نيابة دمشق عوضا عن بكتمر جلّق، واستقرّ الأمير
شيخ فى نيابة حلب عوضا عن قرقماس سيّدى الكبير، والأمير نوروز فى نيابة
طرابلس عوضا عن جانم من حسن شاه، واستقرّ جانم المذكور أمير مجلس بإمرة
مائة وتقدمة ألف بالدّيار المصرية، واستقرّ تغرى بردى سيّدى الصّغير فى
نيابة حماة على عادته، ورسم للأمير سودون من عبد الرحمن نائب صفد أن
ينتقل من نيابة صفد إلى تقدمة ألف بالدّيار المصرية، وأن يكون الأمير
يشبك بن أزدمر أتابك دمشق عند الوالد، فإنه كان من ألزامه، وعقد عقده
بعد ذلك على إحدى بناته- ولها من العمر نحو ثلاث سنين- ويكون قانى باى
المحمّدى أميرا بحلب عند الأمير شيخ، ثمّ شرط السّلطان على شيخ ونوروز
ألا يخرجا إقطاعا، ولا إمرة، ولا وظيفة لأحد من النّاس إلا بمرسوم
السّلطان، وأن يسلّما قلعة الكرك إلى السلطان، ويسلّم شيخ قلعد صهيون
«2» وصرخد أيضا، فرضوا بذلك جميعه، وحلفوا على طاعة السّلطان، وخلع
السلطان عليهم خلعا جليلة، ومدّ لهم سماطا أكلوا منه.
ثمّ رحل السّلطان من الكرك بعساكره يريد القدس، فوصله وأقام به خمسة
أيّام، ثمّ خرج منه وسار يريد القاهرة.
(13/118)
[ما وقع من
الحوادث سنة 814]
وأمّا الوالد فإنه سار من الكرك إلى نحو دمشق حتى دخلها فى يوم سادس
المحرّم من سنة أربع عشرة وثمانمائة، ونزل بدار السّعادة وقد خمدت
الفتنة، وسكن هرج النّاس، ثمّ خرج الأمير شيخ والأمير نوروز من الكرك
إلى محلّ كفالتهما، وقدما إلى دمشق بمن معهما من الأمراء والمماليك
لعمل مصالحهما بدمشق، فلمّا بلغ الوالد قدومهما خرج لتلقّيهما بقماش
جلوسه فى خواصّه لا غير، فلمّا وقع بصرهما على الوالد نزلا عن خيولهما،
فأقسم عليهما الوالد فى عدم النزول، فنزلوا قبل أن يسمعوا القسم، فعند
ذلك نزل لهم الوالد أيضا عن فرسه وسلّموا عليه، فحلف عليهم الوالد
بالنزول فى دار. السّعادة، فامتنعوا من ذلك، فأنزلهم بالمزّة، ثمّ ركب
إليهم الوالد وأخذهم من وطاقهم غصبا.
وأنزل الأمير شيخا بالقرمانيّة، ونوروزا بدار الأمير فرج بن منجك، ونزل
كلّ واحد من أصحابهما بمكان حتى عملت مصالحهم، وكثر تردادهم إلى الوالد
بدار السّعادد فى تلك الأيام؛ فسرّ أهل الشّام بذلك غاية السّرور، وصار
الأمير شيخ يتنزّه بدمشق، ويتوجّه إلى الأماكن ومعه قليل من مماليكه.
حدّثنى بعض مماليك الوالد: أن الأمير شيخا كان يجيء فى تلك المدّة إلى
الوالد فى دار السعادة ومعه شخص واحد من مماليكه، وينزل ويقيل بالبحرة
«1» ، وينام بها نومة كبيرة إلى أن يطبخ له ما اقترحه من المآكل.
ثمّ خرج الأمير شيخ والأمير نوروز كلّ منهما إلى محلّ كفالته
(13/119)
بعد أن أنعم الوالد فى يوم سفرهما على كلّ
واحد بألف دينار، وقيّد له فرسا بسرج ذهب وكنبوش «1» زركش، وأشياء غير
ذلك كثيرة.
وأمّا أمر السّلطان الملك النّاصر، فإنّه سار من القدس حتّى نزل بتربة
والده بالصّحراء خارج القاهرة فى يوم الأربعاء ثانى عشر المحرّم من سنة
أربع عشرة وثمانمائة، وخلع على الخليفة المستعين بالله العبّاس، وعلى
القضاة والأمراء، وسائر أرباب الدّولة، وخلع على الأمير دمرداش
المحمدىّ باستقراره أتابك العساكر بالدّيار المصرية، عوضا عن الوالد؛
بحكم انتقاله إلى نيابة دمشق حسبما تقدّم ذكره، ثمّ ركب السّلطان من
التربة المذكورة وطلع إلى القلعة بعد ما خرج الناس للفرجة عليه، فكان
لطلوعه يوما مشهودا، وزيّنت القاهرة أياما لقدومه، ثمّ بعد قدوم
السّلطان باثنى عشر يوما قدم الأمير بكتمر جلّق المعزول عن نيابة دمشق،
فركب السّلطان وتلقّاه وألبسه تشريفا، وخلع على الأمير الكبير دمرداش
بنظر البيمارستان المنصورىّ «2» ، ودخل السّلطان من باب النصر وشقّ
القاهرة، ونزل بمدرسته التى أنشأها جمال الدين الأستادار له برحبة باب
العيد المعروفة بالجمالية، وقد أثبت القضاة أنها له وسمّيت بالنّاصرية،
ثمّ ركب السّلطان من المدرسة المذكورة، ونزل بمدرسة والده المعروفة
بالبرقوقيّة «3» ببين القصرين، ثمّ ركب منها وأمر الأتابك دمرداش بعبور
البيمارستان المنصورىّ، وتوجّه السّلطان إلى جهة القلعة.
(13/120)
ثمّ فى ثانى عشر صفر من سنة أربع عشرة
وثمانمائة عيّن السّلطان اثنين وعشرين أميرا من الأمراء البطّالين
ليتوجّهوا إلى الشّام على إقطاعات عيّنها السّلطان لهم، منهم: الأمير
حزمان الحسنى، وتمان تمر النّاصرىّ، وسونجبغا، وشادى خجا، وألطنبغا،
وقانى باى الأشقر، ومعهم مائتا مملوك؛ ليكونوا أعوانا للوالد بدمشق،
وفى خدمته، وكان الوالد شفع فى هؤلاء المذكورين حتى أطلقهم السلطان-
على عادتهم- من السجن، ثم أمر السّلطان بقتل جانبك القرمىّ، وأسندمر
الحاجب، وسودون البجاسىّ، وقانى باى أخى بلاط، والجميع كانوا بسجن
الإسكندرية.
ثمّ فى حادى عشرين صفر خلع السلطان على تقىّ الدين عبد الوهّاب ابن
الوزير فخر الدين ماجد بن أبى شاكر باستقراره فى وظيفة نظر الخاصّ-
وكانت شاغرة منذ توفّى مجد الدين عبد الغنى بن الهيصم فى ليلة الأربعاء
العشرين من شعبان من سنة ثلاث عشرة وثمانمائة- ثمّ أمسك السّلطان
بثلاثة أمراء من أمراء الألوف، وهم: قانى باى المحمّدى، ويشبك الموساوى
الأفقم، وكمشبغا الفيسىّ، وقبض على جماعة أخر من الطبلخانات والعشرات،
وهم: الأمير منجك، والأمير قانى باى الصّغير العمرى ابن بنت أخت الملك
الظاهر برقوق- وقانى باى هذا جد خوند بنت جرباش الكريمىّ وزوجة السلطان
الملك الظاهر جقمق لأمّها- وكان أمير عشرة، وعلى الأمير شاهين، وخير
بك، ومأمور، وخشكلدى، وحملوا الجميع إلى سجن الإسكندريّة فسجنوا بها.
ثمّ رسم السّلطان للأمير تمراز الناصرىّ أن يكون طرخانا «1» لا يمشى
(13/121)
فى الخدمة، ويقيم بداره أو يتوجّه إلى
دمياط، وتمراز هذا هو الذي كان فرّ من السّلطان وصحبته الأمراء من
بيسان إلى الأمير شيخ.
ثمّ خلع السّلطان على الأمير سنقر الرّومىّ باستقراره رأس نوبة النوب
عوضا عن قانى باى المحمّدىّ المقبوض عليه قبل تاريخه.
ثمّ أرسل الوالد إلى السّلطان يعلمه برفع الطّاعون من دمشق وغيرها،
وأنّه أحصي من مات من أهل دمشق فقط فكانوا خمسين ألفا سوى من لم يعرف.
وفى أوّل شهر ربيع الأوّل، قدم الأمير إينال المحمّدىّ السّاقىّ
المعروف بضضع من سجن الإسكندريّة- بطلب من السّلطان- ورسم له أن يكون
بطّالا بالقاهرة.
ثمّ أخرج السّلطان إقطاع الأمير جرباش كبّاشة، ورسم له بأن يتوجّه إلى
دمياط بطّالا.
ثمّ بعده توجّه تمراز الناصرىّ المقدّم ذكره إلى دمياط أيضا بطّالا.
ثمّ قبض السّلطان على جماعة من كبار المماليك الظاهريّة- برقوق- وحبسهم
بالبرج من القلعة.
ثمّ قدم الخبر على السّلطان بأنّ شيخا ونوروزا لم يمضيا حكم المناشير
السّلطانيّة، وأنّهما أخرجا إقطاعات حلب وطرابلس لجماعتهما، وأنّ
الأمير شيخا سيّر يشبك العثمانىّ لمحاصرة قلعة ألبيرة وقلعة الرّوم،
وأنّ عزمهما العود لما كانا عليه من الخروج عن الطّاعة.
فعلم السّلطان عند ذلك أنّ الذي يحرّك هؤلاء على الخروج عن الطّاعة
والعصيان إنّما هم المماليك الظّاهريّة الذين هم فى خدمة السّلطان،
ووافقه على ذلك أكابر أمرائه، وحسّنوا له القبض عليهم، وكان الوالد
ينهاه عن مسكهم، ويحذّره من الوقوع فى ذلك، فلمّا استقرّ الوالد فى
نيابة دمشق خلا له الجوّ، وفعل ما حدّثته نفسه ممّا كان فيه ذهاب روحه،
فقبض الملك النّاصر على
(13/122)
جماعة كبيرة منهم، وحبسهم بالبرج من
القلعة، ثمّ قتلهم بعد شهر، وكانوا جمعا كبيرا.
ثمّ أمسك السّلطان الأمير خير بك نائب غزّة، وهو يومئذ من أمراء الألوف
بالدّيار المصريّة.
ثمّ ورد الخبر على السّلطان بحصار عسكر نوروز لحصن الأكراد «1» ،
فاختبط السّلطان وكتب إلى شيخ ونوروز بالتّهديد والوعيد.
ثمّ فى أوّل شهر ربيع الآخر خلع السّلطان على الأمير أسنبغا الزّردكاش-
أحد أمراء الألوف وزوج أخته خوند بيرم بنت الملك الظّاهر برقوق-
باستقراره شاد الشّراب خاناة عوضا عن الأمير سودون الأشقر.
ثمّ فى ثالث عشره خلع السّلطان على فخر الدين عبد الغنىّ بن أبى الفرج
كاشف الوجه البحرىّ باستقراره أستادارا عوضا عن تاج الدين عبد الرزّاق
بن الهيصم؛ بحكم القبض عليه، وتسليمه وحواشيه إلى فخر الدين المذكور.
ثمّ فى أوّل جمادى الأولى رسم السّلطان بهدم مدرسة الملك الأشرف شعبان
ابن حسين، التى كانت بالصّوّة تجاه الطبلخاناة السّلطانيّة، ومكانها
اليوم بيمارستان «2» الملك المؤيّد شيخ، فوقع الهدم فيها، وكانت من
محاسن الدّنيا، ضاهى بها الملك الأشرف مدرسة عمّه السّلطان الملك
الناصر حسن التى بالرّميلة تجاه قلعة الجبل.
ثمّ رسم السّلطان بهدم البيوت التى هى ملاصقة للميدان من مصلّاة
المؤمنىّ «3» إلى باب القرافة، فهدمت بأجمعها وصارت خرابا.
(13/123)
ثمّ أمر السّلطان بالقبض على أقارب جمال
الدين يوسف الأستادار وعقوبتهم، فأمسكوا وعوقبوا عقوبات كثيرة.
ثمّ خنق أحمد أبنه، وأحمد ابن أخته، وحمزة أخاه فى ليلة الأحد سادس عشر
جمادى الأولى.
ثمّ كتب السّلطان ثانيا إلى الأمير شيخ يخوّفه ويحذّره، ويأمره أن
يجهّز إليه الأمير يشبك العثمانىّ، وبردبك، وقانى باى الخازندار، ويرسل
سودون الجلب إلى دمشق؛ ليكون من جملة أمرائها.
ثمّ بعد إرسال الكتاب تواترت الأخبار باتّفاق شيخ ونوروز على الخروج عن
الطّاعة، وعزما على أخذ حماة، فوقع الشّروع والاهتمام لسفر السّلطان
إلى البلاد الشّامية، وكتب إليها بتجهيز الإقامات.
ثمّ تكلّم الأستادار فخر الدين بن أبى الفرج مع السّلطان وحسّن له
القبض على الوزير ابن البشيرىّ «1» ، وعلى ناظر الخاصّ ابن أبى شاكر
«2» ، فلمّا بلغهما ذلك بادرا واتّفقا مع السّلطان على مال يقومان به
للسّلطان إن قبض على فخر الدين ابن أبى الفرج المذكور، فمال السّلطان
إلى كلامهما وأمسك فخر الدين المذكور فى سلخ جمادى الآخرة، وسلّمه
للوزير ابن البشيرىّ، فلم يدع ابن البشيرىّ نوعا من العقوبات حتى عاقب
ابن أبى الفرج المذكور بها، فلم يعترف بشىء غير أنّه وجد له ستّة آلاف
دينار، وجرار كثيرة قد ملئت خمرا، واستمرّ ابن أبى الفرج فى العقوبة
أيّاما كثيرة.
ثمّ فى شهر رجب نزل السّلطان من القلعة إلى الصيّد، فبات ليلة وعزم على
مبيت ليلة أخرى بسرياقوس، فبلغه أنّ طائفة من الأمراء والمماليك
اتّفقوا
(13/124)
على قتله، فعاد إلى القاهرة مسرعا، وأخذ
يتتبّع ما قيل حتّى ظفر بمملوكين عندهما الخبر؛ فعاقبهما فى ثامن عشر
شهر رجب المذكور، فأظهرا ورقة فيها خطوط جماعة كبيرة، كبيرهم الأمير
جانم من حسن شاه نائب طرابلس- كان- وهو يوم ذاك أمير مجلس.
وكان جانم المذكور قد سافر قبل تاريخه إلى منية ابن سلسيل «1» ، وهى من
جملة إقطاعه، فندب السّلطان الأمير بكتمر جلّق، والأمير طوغان الحسنىّ
الدّوادار؛ لإحضار جانم المذكور، وخرجا فى يوم السّبت عشرين شهر رجب،
على أنّ بكتمر جلّق يسير فى البرّ ويمسك عليه الطّريق، وطوغان يتوجّه
إليه فى البحر، ويمسكه ويحضره إلى السّلطان، فساروا.
ومسك السّلطان بعد خروجهما جماعة كبيرة من الأمراء والمماليك
الظّاهريّة، منهم: الأمير عاقل، والأمير سودون الأبويزيديّ.
وأمّا طوغان الدّوادار فإنّه سار فى البحر حتى وافى الأمير جانم،
واقتتلا فى البرّ، ثمّ فى المراكب حتى تعيّن «2» طوغان على جانم، فألقى
جانم نفسه فى الماء لينجو فرماه أصحاب طوغان بالنّشّاب حتى هلك، وأخذ
وقطع رأسه فى ثانى عشرينه، وقدم طوغان على السّلطان فى رابع عشرينه.
وكان السّلطان قد مسك فى يوم ثانى عشرينه فى القاهرة الأمير إينال
الصّصلانىّ الحاجب، والأمير أرغز، والأمير سودون الظّريف، وجماعة من
المماليك الظّاهريّة.
ثمّ قبض السّلطان فى يوم ثالث عشرينه أيضا على الأمير سودون الأسندمريّ
أحد أمراء الألوف وأمير آخور ثانى، وعلى الأمير جرباش العمرىّ رأس
نوبة، وأحد أمراء الألوف أيضا.
(13/125)
ثمّ فى خامس عشرينه قبض السّلطان على جماعة
من أكابر المماليك الظاهريّة، ووسّط منهم خمسة؛ فنفرت القلوب منه، ووجد
شيخ ونوروز للوثوب عليه سبيلا لكمين كان فى نفسهما منه.
ثمّ خلع السّلطان على منكلى أستادار الخليلىّ باستقراره أستادارا عوضا
عن فخر الدين بن أبى الفرج.
ثمّ كتب السّلطان للوالد بالقبض على الأمير يشبك بن أزدمر أتابك دمشق،
وعلى إينال الخازندار، وعلى بردبك الخازندار، وعلى بردبك أخى طولو،
وعلى سودون من إخوة الأتابك يشبك، وعلى تنبك من إخوة يشبك أيضا، والفحص
عن نكباى الحاجب؛ فإن وجده من جملة المنافقين فليقبض عليه، ويعتقلهم،
وسار البريد للوالد بذلك، وبعد خروج البريد بذلك، ذبح السلطان فى ليلة
الأربعاء- مستهل شعبان- عشرين مملوكا ممّن قبض عليهم.
ثمّ وسّط من الأمراء فى يوم الأربعاء ثامنه عشرة أخر تحت القلعة، منهم:
الأمير حزمان نائب القدس، والأمير عاقل، وأرغز أحد أمراء الألوف بدمشق،
والأمير سودون الظّريف، والأمير مغلباى، والأمير محمّد بن قجماس.
وفى ليلة الأربعاء المذكورة قتل السّلطان أيضا بالقلعة من المماليك
الظّاهريّة زيادة على مائة مملوك من الجراكسة من مماليك أبيه.
ثمّ ركب سحر يوم الخميس إلى الصّيد بناحية بهتيت «1» - من ضواحى
القاهرة- وأمر والى القاهرة أن يقتل عشرة من المماليك الظّاهريّة
لتخلّفهم عن الرّكوب معه، فقتلوا.
وعاد السّلطان من الصّيد بثياب جلوسه، وشقّ القاهرة وهو سكران لا يكاد
(13/126)
يثبت على فرسه من شدّة سكره، ومرّ فى أقلّ
من مائة فارس، وسار على ذلك حتى طلع القلعة نصف النّهار.
وفى شعبان هذا، ابتدأ بالوالد مرض موته، ولزم الفراش بدار السّعادة،
وقد لهجت الناس أنّ الملك النّاصر قد اغتاله بالسّمّ؛ فإن كان ما قيل
حقيقة فقد التقيا بين يدى حاكم لا يحتاج إلى بيّنة، وسبب ذلك- على ما
قيل- عدم مسك الوالد للأمير شيخ ونوروز لمّا دخلا عليه بدار السّعادة
بدمشق، وأيضا أنّه لمّا أمره بمسك من تقدّم ذكرهم فأمسك منهم جماعة،
وأعلم يشبك بن أزدمر بالخبر ففرّ إلى جهة شيخ ونوروز، وأشياء غير ذلك.
ولكن حدّثنى كريمتى خوند فاطمة زوجة الملك الناصر المذكور بخلاف ذلك،
وهو أنّه لمّا قدم عليه الخبر بمرضه صار يتأسّف ويقول: إن مات أبوك
تخربت مملكتى، وبقى كلّما ورد عليه الخبر بعافيته يظهر السّرور، وكلّما
بلغه أنّه انتكس يظهر الكآبة، وأنّه ما أخذها صحبته فى التجريدة إلى
الشّام إلّا حتى تعوده فى مرضه، وأشياء من ذلك.
ثمّ إنّ السّلطان نادى فى أوّل شهر رمضان من سنة أربع عشرة وثمانمائة
بالقلعة بالأمان، وأنّهم عتقاء شهر رمضان.
ثمّ تتبّعهم «1» بعد الأمان وأمسك منهم جماعة كبيرة؛ حتى إنّه لم يخرج
شهر رمضان حتى أمسك منهم أزيد من أربعمائة نفر وسجنهم بالبرج من
القلعة.
وفى رابع شهر رمضان المذكور أفاق الوالد من مرضه، وزيّنت دمشق ودقّت
البشائر بسائر البلاد الشّاميّة حتى حلب وطرابلس، وأرسل الأمير شيخ
ونوروز إليه بالتّهنئة، فعظم ذلك أيضا على الملك الناصر.
وفى هذا الشهر تأكّد عند السّلطان خروج شيخ ونوروز عن طاعته، وبلغه أنّ
نوروزا قتل آق سنقر الحاجب، فتحقّق السّلطان عصيان المذكورين.
(13/127)
ثمّ ذبح السّلطان فى ليلة ثالث شوّال أزيد
من مائة نفس من المماليك السّلطانية الظّاهريّة المحبوسين بالبرج، ثمّ
ألقوا من سور القلعة إلى الأرض، ورموا فى جبّ ممّا يلى القرافة،
واستمرّ الذبح فيهم.
ثمّ فى يوم الاثنين عاشر شوّال عدّى السلطان النيل إلى ناحية وسيم «1»
للرّبيع «2» وبات به، ورحل فى السّحر بعساكره يريد مدينة إسكندريّة،
بعد ما نودى فى القاهرة بألّا يتأخّر أحد من المماليك السلطانيّة
بالقاهرة، وأن يعدّوا إلى برّ الجيزة فعدّوا بأجمعهم، فمنهم من أمره
السلطان بالسّفر، ومنهم من أمره بالإقامة.
ثمّ بعث السلطان الأمير طوغان الحسنىّ الدّوادار، والأمير جانبك
الصّوفىّ، وسودون الأشقر، ويلبغا النّاصرىّ، وجماعة من المماليك إلى
عدّة جهات من أراضى مصر؛ لأخذ الأغنام والخيول والجمال حيث وجدت لكائن
من كان، فسار الأمراء وشنّوا الغارات فما عفّوا ولا كفّوا.
ثمّ سار السلطان ببقيّة أمرائه وعساكره إلى الإسكندريّة، فدخلها فى يوم
الثلاثاء ثامن عشر شوّال من سنة أربع عشرة المذكورة، فقدم بها على
السلطان مشايخ البحيرة بتقادمهم، فخلع عليهم ثمّ أمسكهم وساقهم فى
الحديد، واحتاط على أموالهم، ففرّ باقيهم إلى جهة برقاء، ثم قدم
الأمراء وقد ساقوا ألوفا من الأغنام التى انتهبوها من النواحى، وقد مات
أكثرها، فسيقت إلى القاهرة مع الأموال والجاموس والخيول.
ثمّ رسم السلطان أن يؤخذ من تجار المغاربة العشر، وكان يؤخذ منهم قبل
ذلك الثّلث، فشكر النّاس له ذلك.
ثمّ خرج من الإسكندرية عائدا إلى القاهرة، وسار حتى نزل على وسيم فى
يوم السبت تاسع عشرينه.
(13/128)
وقد مات بسجن الإسكندريّة الأمير خيربك
نائب غزّة، فانّهم السلطان أنّه اغتاله بالسّم، والصحيح أنّه مات حتف
أنفه.
ثمّ قدم كتاب الأمير نوروز الحافظىّ على السلطان على يد فقيه يقال له
سعد الدّين، ومملوك آخر، ومعهما محضر شهد فيه ثلاثة وثلاثون رجلا من
أهل طرابلس- ما بين قاض وفقيه وتاجر- بأنه لم يظهر منه بطرابلس منذ قدم
إليها إلا الإحسان للرعيّة، والتمسك بطاعة السلطان، وامتثال مراسيمه،
وأنّ أهل طرابلس كانوا قد خرجوا منها فى أيّام جانم لما نزل بهم من
الضرر والظلم، فعادوا إليها أيّام نوروز المذكور، وأنّه كلّما ورد عليه
مثال سلطانىّ يتكرّر منه تقبيل الأرض، وأنّه حلف- بحضرة من وضع خطّه-
بالأيمان المغلّظة الجامعة لمعانى الحلف أنه مقيم على طاعة السّلطان،
متمسّك بالعهد واليمين، فلم يغترّ السلطان بالمحضر ولا التفت إليه؛ لما
ثبت عنده من عصيانهما «1» .
قلت: ولهذه الأيمان الحانثة ذهب الجميع على السيف فى أسرع مدّة، حتى
إننى لا أعلم أن أحدا من هؤلاء «2» الأمراء مات على فراشه، بل غالبهم
تفانوا قتلا على أنواع مختلفة لتجرّئهم على الله تعالى، وكان يمكنهم
الخروج على الملك النّاصر المذكور لسوء سيرته فيهم ثمّ يعودون إلى
طاعته من غير أن يتعرّضوا للأيمان والعهود، والتلاعب بذلك فى كلّ قليل،
وصار ذلك دأبا لهم إلى أن سلط الله بعضهم على بعض، فذهبوا كأنهم لم
يكونوا- مع قوّتهم، وشدّة بأسهم، وفرط شجاعتهم- وملك بعدهم من لم يكن
فى رتبتهم ولا يدانيهم فى معنى من المعانى، ودانت له البلاد، وأطاعته
العباد، وصفا له الوقت من غير معاند ولا مدافع.
(13/129)
«وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ
مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ»
«1» .
ثمّ إنّ السّلطان الملك الناصر بعد حضور هذا المحضر أخذ فى الاهتمام
للسّفر.
ثمّ نزل من القلعة وعدّى النيل فى يوم الاثنين ثانى ذى القعدة، وتوجّه
إلى الربيع، وعاد من يومه إلى القلعة وهو فى أناس قليلة، ثمّ بعد عوده
رسم بقتل الأمير جرباش العمرىّ، والأمير خشكلدى بثغر الإسكندريّة،
فقتلا بها ودفنا بالثّغر المذكور.
ثمّ فى رابع عشر من ذى القعدة، أنفق السّلطان على المماليك السّلطانية
نفقة السفر؛ فأعطى لكلّ نفر سبعين دينارا ناصريّا، وبعث للأمير الكبير
دمرداش المحمّدىّ ثلاثة آلاف دينار، ولكلّ من أمراء الألوف بألفى
دينار، ولامراء الطّبلخانات ما بين سبعمائة دينار إلى خمسمائة دينار.
ثم فى ليلة الخميس رابع عشرين ذى القعدة، طلب السّلطان الأمير شهاب
الدين أحمد بن محمد بن الطّبلاوىّ؛ فلما حضر إلى عنده ضرب عنقه بيده،
بعد أن قتل مطلّقته بنت صرق بيده تهبيرا بالسّيف عند كريمتى بقاعة
العواميد «2» ، فإنها كانت يوم ذاك صاحبة القاعة.
وخبر ذلك: أن السّلطان الملك الناصر كان قد طلّق خوند بنت صرق
المذكورة، ونزلت إلى دارها، وكان له إليها ميل، فوشى بها أنّ
(13/130)
ابن الطّبلاوىّ المذكور وقع بينه وبينها
اجتماع، وظهر له قرائن تدلّ على ذلك، منها أنّه وجد لها خاتم عنده.
فأرسل السّلطان خلفها، فلبست أفخر ثيابها ظنّا منها أنّ السّلطان يريد
يعيدها لعصمته. قالت أختى خوند فاطمة: وكان السّلطان جالسا عندى
بالقاعة، فلمّا قيل له جاءت خوند بنت صرق نهض من وقته وخرج إلى
الدّهليز، وجلس به على مسطبة.
قالت: فخرجت خلفه ولا علم لى بقصده، فجاءت بنت صرق وقبّلت يده، فقال
لها: يا قحبة، مراكيب الملوك تركبها البلّاصية؟!
وقبل أن تتكلم ضربها بالنّمجاة «1» قطع أصابعها- وكانت مقمعة بالحناء-
فصاحت وهربت، فقام خلفها وضربها ضربة ثانية قطع من كتفها قطعة، وصارت
تجرى وهو خلفها- وقد اجتمع جميع الخوندات عندى بالقاعة للسّلام على بنت
صرق المذكورة- ولا زال يضربها بالنّمجاة وهى تجرى إلى أن دخلت
المستراح، فتمّم قتلها فى صحن المستراح، ثمّ قطع رأسها وأخذها
بدبّوقتها «2» - وفى آذانها الحلق البلخش «3» الهائلة- وخرج إلى قاعة
الدّهيشة «4» ، ووضعها بين يديه وغطّاها بفوطة، ثمّ طلب ابن الطبلاوىّ
المقدّم ذكره وأجلسه وكشف له عن الفوطة، وقال له: تعرف هذه الرأس؟
فأطرق.
(13/131)
فضربه بالنّمجاة طيّر رقبته. ولفهما معا فى
لحاف وأمر بدفنهما فى قبر واحد. قالت أختى [خوند فاطمة] «1» : وصار دم
بنت صرق فى حيطان القاعة ودهليزها.
وقالت: فوالله لمّا دخل الفداويّة «2» بقلعة دمشق على الملك الناصر
ليقتلوه- وكان استصحبنى معه لأعود الوالد فى مرضه- فصارت الفداويّة
تضربه بالسكاكين، وهو يفرّ من بين أيديهم كما كانت تفرّ بنت صرق أمامه
وهو يضربها بالنّمجاة. وبقى دمه بحيطان البرج شبه دم بنت صرق بحيطان
القاعة. قلت: فانظروا إلى هذا الجزاء الذي من جنس العمل- انتهى.
ثمّ أصبح السلطان أمر بخروج الجاليش من الأمراء إلى البلاد الشّامية،
فخرجوا بتجمّل عظيم- وعليهم آلة الحرب هم ومماليكهم- وعرضوا على
السّلطان وهم مارّون من تحت القلعة والسّلطان ينظر إليهم من أعلى القصر
السلطانىّ. وساروا حتى نزلوا بالرّيدانيّة خارج القاهرة فى يوم الخميس
رابع عشرين ذى القعدة من سنة أربع عشرة وثمانمائة.
وهم: الأمير بكتمر جلّق رأس نوبة الأمراء وصهر السلطان زوج ابنته،
وشاهين الأفرم أمير سلاح، وطوغان الحسنىّ الدّوادار الكبير، وشاهين
الزّردكاش، بمضافيهم.
وكان السّلطان قبل خروج الأمراء المذكورين- من عظم غضبه وحنقه على
الأمير نوروز الحافظىّ- جمع القضاة، وطلّق أخته خوند سارة بنت الملك
الظاهر
(13/132)
برقوق من زوجها الأمير نوروز، وزوّجها
للأمير مقبل الرّومىّ- على كره منها، بعد أن هدّدها بالقتل- بعقد ملفق
من قضاة الجاه والشوكة.
فعظم ذلك على الأمير نوروز إلى الغاية، ولم يحسن ذلك ببال أحد- انتهى.
ودام الأمراء بالرّيدانيّة إلى يوم السّبت خامس ذى الحجّة فرحلوا منها
يريدون الشّام.
ثمّ ركب السلطان فى يوم الثلاثاء ثامن ذى الحجّة ونزل من قلعة الجبل
ببقيّة أمرائه وعساكره- والجميع عليهم آلة السّلاح- بزىّ لم ير أحسن
منه، بطلب هائل جرّفيه ثلاثمائة جنيب من خواصّ الخيل بالسّروج الذّهب
التى بعضها مرصّع بالفصوص المجوهرة المثمّنة «1» ، ومياثرها «2» المخمل
المطرّز بالزركش، وعلى أكفالها العبى «3» الحرير المثمنة، وفيها العبى
المزركشة بالذهب، وفيها بالكنابيش «4» الزّركش، والكنابيش المثلّثة
بالزّركش والرّيش واللؤلؤ، وكلّها باللّجم المسقّطة «5» بالذّهب
والفضّة، والبذلات المينة «6» ، والبذلات الذّهب الثّقيلة، ومن وراء
الجنائب المذكورة ثلاثة آلاف
(13/133)
فرس ساقها جشارا «1» ثمّ عدد كبير من العجل
التى تجرّها الأبقار وعليها آلات الحصار؛ من مكاحل النّفط الكبار
ومدافع النّفط المهولة، والمناجيق «2» العظيمة ونحو ذلك، ثمّ خرجت
خرانة السّلاح- أعنى الزّردخاناة- على أكثر من ألف جمل تحمل القرقلات
«3» ، والخوذ، والزّرديّات، والجواشن «4» ، والنّشّاب، والرّماح،
والسّيوف وغير ذلك.
ثمّ خرجت خزانة المال فى الصّناديق المغطّاة بالحرير الملوّن، وفيها
زيادة على أربعمائة ألف دينار، وجميع الطّبّال والزّمّار- مماليكه
مشتراواته- بالكلفتات، وعليهم ططريّات «5» صفر، وغالبهم قد ناهز الحلم،
بأشكال بديعة من الحسن، وقد تعلموا صناعة ضرب الطبل والزّمر وأتقنوه
إلى الغاية، وهذا شىء لم يفعله ملك قبله.
ثمّ خرج حريم السّلطان فى سبع محفّات «6» قد غشّيت بالحرير المخمّل
الملوّن، ما خلا محفّة الأخت فإنها غشّيت بالزّركش؛ كونها كانت خوند
الكبرى صاحبة القاعة، ومن ورائهم نحو الثلاثين حملا من المحاير»
المغشّاة بالحرير والجوخ.
ثمّ خرج المطبخ السّلطانىّ، وقد ساق الرّعيان برسمه ثمانية وعشرين
(13/134)
ألف رأس من الغنم الضّأن، وكثيرا من البقر
والجاموس لحلب ألبانها، فبلغت عدّة الجمال التى صحبة السّلطان إلى
ثلاثة وعشرين ألف جمل، وهذا شىء كثير إلى الغاية.
ثمّ سار السلطان من القاهرة حتى نزل بمخيّمه من الرّيدانيّة تجاه مسجد
التّبن «1» وهذه تجريدة السلطان الملك النّاصر السّابعة إلى البلاد
الشّاميّة، وهى التى قتل فيها حسبما يأتى ذكره، وهذه التّجاريد خلاف
تجريدة السّعيديّة التى انكسر فيها الملك النّاصر من الأمراء وعاد إلى
الدّيار المصرية، ولم يصل إلى قطيا، على أنّه تكلّف فيها إلى جمل
مستكثرة، وذهب له من الأثقال والقماش والسّلاح أضعاف ما تكلّفه فى
النّفقة وغيرها. وكانت تجريدته الأولى إلى قتال الأمير تنم الحسنىّ
الظّاهرىّ نائب الشّام فى سنة اثنتين وثمانمائة.
وتجريدته الثانية لقتال تيمورلنك فى سنة ثلاث وثمانمائة.
والثالثة لقتال جكم من عوض فى سنة تسع وثمانمائة بعد واقعة السّعيدية.
والرابعة فى سنة عشر وثمانمائة، التى مسك فيها الأمير شيخا المحمودىّ
نائب الشّام والأتابك يشبك الشّعبانىّ، وحبسهما بقلعة دمشق، وأطلقهما
منطوق نائب قلعة دمشق.
والخامسة فى محرّم سنة اثنتى عشرة وثمانمائة، وهى التى حصر فيها شيخا
ونوروزا بصرخد.
والسادسة سنة ثلاث عشرة وثمانمائة، وهى التى حصر فيها أيضا شيخا
ونوروزا بقلعة الكرك.
والتجريدة السابعة هذه.
فجملة تجاريده ثمانى سفرات بواقعة السعيدية- انتهى.
(13/135)
ثمّ خرج الخليفة المستعين بالله أبو الفضل
العبّاس، والقضاة الأربعة، وهم:
قاضى القضاة جلال الدين عبد الرحمن البلقينىّ الشّافعىّ، وقاضى القضاة
ناصر الدين محمّد بن العديم الحنفىّ، وقاضى القضاة المالكىّ «1» ،
وقاضى القضاة الحنبلىّ «2» ، ونزل الجميع بالرّيدانيّة، وتردّد
السّلطان فى مدّة إقامته بالرّيدانيّة إلى التّربة التى أنشأها على قبر
أبيه بالصّحراء خارج باب النّصر، وبات بها ليالى، ونحر بها ضحاياه،
وجعل الأمير يلبغا الناصرىّ نائب الغيبة بالقاهرة، وجعل فى باب
السّلسلة الأمير ألطنبغا العثمانىّ، وبقلعة الجبل الأمير أسنبغا
الزّردكاش شادّ الشّراب خاناة، وزوج أخته خوند بيرم، وولّى نيابة
القلعة للأمير شاهين الرّومىّ عوضا عن كمشبغا الجمالىّ، وبعث كمشبغا
الجمالىّ صحبة حريمه، وقدّمهم بين يديه بمرحلة.
ثمّ رحل السّلطان من تربة أبيه قبيل الغروب من يوم الجمعة ثانى عشر ذى
الحجّة من سنة أربع عشرة وثمانمائة، لطالع اختاره له الشيخ برهان الدين
إبراهيم بن زقاعة، وقد حزر ابن زقاعة وقت ركوبه، وعوّق السّلطان عن
الركوب- والعساكر واقفة- حتى دخل الوقت الذي اختاره له، فأمره فيه
بالرّكوب، فركب السّلطان وسار يريد البلاد الشّاميّة، ونزل بمخيّمه من
الرّيدانيّة، وفى ظنّه أنّه منصور على أعدائه؛ لعظم عساكره، ولطالع
اختاره له ابن زقاعة، فكانت عليه أيشم «3» السّفرات، فلعمرى هل رجع
الشيخ برهان الدين بن زقاعة المذكور بعد ذلك عن معرفة هذا العلم أم
استمرّ على دعواه؟!.
وأنا أتعجّب من وقاحة أرباب هذا الشّأن حيث يقع لهم مثل هذا الغلط
الفاحش وأمثاله، ثم يعودون إلى الكلام فيه والعمل به- انتهى.
(13/136)
ثمّ استقلّ السّلطان بالمسير فى سحر يوم
السبت ثالث عشر ذى الحجّة.
وفى هذا الشّهر انتكس الوالد ثالث مرّة، ولزم الفراش إلى أن مات «1»
حسبما يأتى ذكره.
وأمّا السّلطان الملك الناصر فإنّه قبل المسير حذّر عسكره من الرّحيل
قبل النّفير، فبلغه وهو بالرّيدانيّة أنّ طائفة رجلت، فركب بنفسه وقبض
على واحد ووسّطه، ونصب مشنقة، فما وصل إلى غزّة حتى قتل عدّة من
الغلمان؛ من أجل الرّحيل قبل النّفير، فتشاءم الناس بهذه السّفرة.
ثمّ سار حتى نزل مدينة غزّة، فوسّط بها تسعة عشر نفرا من المماليك
الظاهريّة وهو لا يعقل من شدّة السّكر، وعقيب ذلك بلغه أنّ الأمراء
الذين بالجاليش توجّهوا بأجمعهم إلى شيخ ونوروز، وكان من خبرهم أنّهم
لمّا وصلوا إلى دمشق دخلوا إلى الوالد وقد ثقل فى الضّعف وسلّموا عليه،
وأخبره بكتمر جلّق وطوغان أنهما بمن معهما يريدون التّوجّه إلى شيخ
ونوروز، فرجّعهم الوالد عن ذلك، فذكروا له أعذارا فسكت عنهم، فقاموا
عنه وخرجوا بأجمعهم وتوجّهوا إلى شيخ ونوروز- ما خلا شاهين الزّردكاش-
فإنّه لم يوافقهم على الذّهاب، فمسكوه وذهبوا به إلى شيخ ونوروز.
ولمّا بلغ الملك الناصر ذلك، ركب وسار من غزّة مجدّا فى طلبهم، وقد
نفرت منه القلوب، حتى نزل بالكسوة فى يوم الثلاثاء سلخ ذى الحجّة،
فألبس من معه من العساكر السّلاح ورتبهم بنفسه.
ثمّ سار بهم قاصدا دمشق حتى دخلها من يومه وقت الزّوال، وقد خرج أعيان
دمشق وعوامّها لتلقّيه وللفرجة عليه، وزيّنت لقدومه دمشق، ونزل بالقلعة
(13/137)
بعد أن نزل عند الوالد بدار السّعادة وسلّم عليه، وأمر زوجته خوند
[فاطمة «1» ] بالإقامة عند الوالد. |