النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة
[ما وقع من
الحوادث سنة 835]
ثم فى يوم الاثنين ثالث عشرين محرّم سنة خمس وثلاثين وثمانمائة وصلت
زوجة السلطان خوند جلبّان بعد أن حجّت وقضت المناسك، وقدم محمل الحاج
صحبة الأمير قراسنقر.
(14/355)
ثم فى يوم الخميس سابع شهر ربيع الآخر من
سنة خمس وثلاثين وثمانمائة المذكورة نزل عدّة من المماليك الجلبان من
الأطباق إلى بيت الصاحب كريم الدين بن كاتب المناخ- وهو يومئذ وزير
وأستادار- يريدون الفتك به، وكان علم من الليل، فتغيّب واستعدّ وهرب من
بيته، فلم يظفروا به ولا بشىء فى داره، فعادوا بعد أن أفسدوا فيما حوله
من بيوت جيرانه، وكان لهم من أيام الطاعون قد كفّوا عن هذه الفعلة،
فبلغ السلطان نزولهم فغضب وأخذ فى الدّعاء عليهم أيضا بالفناء والوباء،
حتى قال له التّاج الوالى بعد أن زال ما عنده: وسّط هؤلاء المعرّصين
ولا تدع بعود الطاعون على المسلمين، فقال له السلطان: يجوز قتل المسلم
بغير استحقاق؟ فقال التاج: وهؤلاء مسلمون؟ فقال السلطان: نعم، فقال
التاج: والله ما هو صحيح، فضحك السلطان وأمر به فلكموه الخاصّكيّة لكما
مزعجا، فقال: انظر صدق مقالتى، هذا فعل مسلم بمسلم؟
انتهى.
ثم أصبح الصاحب كريم الدين استعفى من وظيفة الأستادارية فأعفاه
السلطان، واستدعى الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله فى يوم السبت ثالث
عشرين شهر ربيع الآخر [المذكور] «1» وأخلع عليه باستقراره أستادارا
عوضا عن الصاحب كريم الدين بعد انقطاع ابن نصر الله فى بيته عدّة سنين،
وهذه ولاية ابن نصر الله الثانية لوظيفة الأستادارية.
ثم فى يوم الثلاثاء خامس عشرين جمادى الأولى ركب السلطان من القلعة
بغير قماش الموكب ونزل إلى بيت زين الدين عبد الباسط ناظر الجيش، ثم
ركب من بيت عبد الباسط إلى بيت القاضى سعد الدين إبراهيم بن كاتب جكم
ناظر الخواصّ فجلس عنده أيضا قليلا، ثم ركب وعاد إلى القلعة، فلما كان
يوم سادس عشرينه حمل عبد الباسط وسعد الدين ناظر الحاص تقادم جليلة إلى
السلطان، بسبب نزوله إليهما.
(14/356)
وفى هذه السنة تكرّر ركوب السلطان ونزوله
إلى الصّيد وعبوره إلى القاهرة وتوجّهه إلى النزه- بخلاف ما كان عليه
أولا- غير مرّة.
ثم فى يوم الثلاثاء ثانى جمادى الآخرة عزل السلطان الصاحب بدر الدين بن
نصر الله عن الأستادارية، وخلع من الغد على آقبغا الجمالى باستقراره
أستادارا عوضا عن ابن نصر الله المذكور، وهذه ولاية آقبغا الثانية،
ولزم ابن نصر الله داره على عادته؛ وكان سبب عزل الصاحب بدر الدين عن
الأستاداريّة أنه لما بلغ آقبغا الجمالى عزل الصاحب كريم الدين بن كاتب
المناخ عن الأستادارية سأل فى الحضور، وكان يتولى «1» كشف البحيرة،
فأجيب، فحضر وسعى فى الوظيفة على أنّه يحمل عشرة آلاف دينار، وإن سافر
السلطان إلى الشام حمل معه نفقة شهرين مبلغ أربعين ألف دينار، فأجيب
وأبقى الكشف أيضا معه، وأضيف إليه كشف الوجه البحرى.
ثم فى يوم السبت سابع عشرينه خلع السلطان على قاضى القضاة بدر الدين
محمود العينى وأعيد إلى قضاء الحنفية بالديار المصرية، [عوضا] «2» عن
زين الدين عبد الرحمن التّفهنى الحنفى بحكم طول مرضه، فباشر العينىّ
القضاء والحسبة ونظر الأحباس؛ معا لخصوصيته عند الملك الأشرف، فإنه كان
يقرأ له تواريخ الملوك وينادمه.
ثم فى يوم الثلاثاء أوّل شهر رجب خلع السلطان على الأمير صلاح الدين
محمد ابن الصاحب بدر الدين بن نصر الله باستقراره محتسب القاهرة عوضا
عن العينى بحكم عزله برغبته عنها، وكان صلاح الدين هذا منذ عزل عن
الأستادارية وعزل أبوه عن نظر الخاص وصودرا ملازمين لدارهما.
ثم فى يوم الخميس ثالث شهر رجب أدير المحمل على العادة فى كل سنة إلا
أنه عجّل به فى هذا اليوم لأجل حركة السلطان إلى السفر إلى البلاد
الشاميّة، وكان
(14/357)
السلطان أيضا فى هذه السنة أشاع سفره كما
قال فى العام الماضى، وتجهّز لذلك هو وأمراؤه.
ثم فى عشرينه قدم الأمير سودون من عبد الرحمن نائب الشام باستدعاء،
وصحبته القاضى كمال الدين محمد بن البارزىّ كاتب السّرّ بدمشق فباتا
بتربة الملك الظاهر برقوق بالصحراء، ثم صعدا من الغد فى يوم الاثنين
حادى عشرينه إلى القلعة وقبّلا الأرض، ولما «1» انفضّت الخدمة نزل
الأمير سودون من عبد الرحمن إلى مكان بغير خلعة، فعلم كلّ أحد أنه
معزول عن نيابة الشام.
فلما كان الغد وهو يوم الثلاثاء ثانى عشرين شهر رجب عملت الخدمة بالقصر
السلطانى على العادة، وحضر الأمراء الخدمة على العادة، فقدّم سودون من
عبد الرحمن قدّام جارقطلو وحجبه فى دخولهما على السلطان، وجلس جارقطلو
على ميمنة السلطان، وجلس سودون من عبد الرحمن على ميسرة السلطان إلى أن
قرىء الجيش ونجزت العلامة، ودخل السلطان من الخرجة إلى داخل القصر
الأبلق «2» ، وجلس به استدعى الخلع وخلع على الأمير سودون «3» من عبد
الرحمن نائب الشام باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية عوضا عن
جارقطلو، وخلع على جارقطلو باستقراره فى نيابة «4» الشام عوضا عن سودون
من عبد الرحمن، وقبّلا الأرض، وفى الوقت تحوّل سودون من عبد الرحمن إلى
ميمنة السّلطان وذهب جارقطلو إلى ميسرة السّلطان بعكس ما كان أوّلا،
ولما خرجا من الخدمة السلطانية حجب جارقطلو سودون من عبد الرحمن.
كل ذلك لما ثبت عند السلطان من القواعد القديمة الكائنة إلى يومنا هذا.
(14/358)
وفى هذا اليوم رسم السلطان بإبطال حركة سفر
السلطان إلى البلاد الشاميّة، فتكلّم الناس أن سبب حركة السلطان للسّفر
إنما كانت بسبب سودون من عبد الرحمن لما أشاعه عنه المتغرّضون من أنه
يريد الوثوب على السلطان، وليس الأمر كذلك، وإنما كان لعزل سودون من
عبد الرحمن أسباب:
أحدها: أنه طالت أيّامه فى نيابة الشام، وزادت عظمته، وكثرت مماليكه
وحواشيه، فخاف الملك الأشرف عاقبته فعزله.
وثانيها- وهو الأقوى عندى: أن السلطان لما استدعاه بكتاب على يد الأمير
ناصر الدين محمد بن إبراهيم بن منجك وعاد معه ابن منجك، فلما كان فى
بعض الطريق تحادثا، فكان من جملة كلام سودون من عبد الرحمن لابن منجك:
أنا أدخل أيضا إلى مصر أميرا بعد طول مدّتى فى نيابة دمشق، فنقلها ابن
منجك برمتها إلى الملك الأشرف، فتحقّق الملك الأشرف عند ذلك ما كان
أشيع عنه، فبادر وعزله، وكان مراد سودون من عبد الرحمن بقوله: أدخل مصر
أميرا غير ما حمله عليه ابن منجك، وهو أن مراد سودون من عبد الرحمن أنه
اعتاد بنيابة الشام، وأنه يكره الإقامة بمصر، وأن بعض نيابات البلاد
الشامية أحبّ إليه من أن يكون أتابكا بمصر، وأشياء غير ذلك.
ثم فى يوم الخميس ثانى شعبان خلع السلطان على الأمير جارقطلو خلعة
السّفر، وخرج من يومه الى مخيّمه بالرّيدانيّة خارج القاهرة وقد استقرّ
الأمير قراجا الخازندار الأشرفى مسفّره.
ثم خلع السلطان من الغد فى يوم الجمعة ثالثه على القاضى كمال الدين
محمد بن البارزىّ كاتب سرّ دمشق باستقراره فى قضاء دمشق مضافا لكتابة
سرّها عوضا عن شهاب الدين أحمد بن المحمرة، ولم يجتمع ذلك لأحد قبله فى
الجمع بين قضاء دمشق وكتابة سرّها.
ثم فى يوم الاثنين سادس عشرين شهر رمضان خلع السلطان على دولات خجا
(14/359)
الظاهرىّ باستقراره والى القاهرة عوضا عن
التاج الشّوبكى وأخيه عمر، ودولات خجا هو أحد أصاغر المماليك الظاهرية
برقوق ومن شرارهم، وكان وضيعا تركى الجنس، كثير الشّرّ، يمشى على قدميه
بالأسواق فى بعض الأحيان، وكان الملك الأشرف يعرفه أيّام جنديّته
ويتوقّى شرّه، فلما تسلطن ولّاه الكشوفيّة ببعض النواحى، فأباد أهل تلك
الناحية، ثم ولّاه الكشف بالوجه القبلى فتنوّع فى عذاب أهل الفساد
وقطّاع الطريق أنواعا كثيرة، منها: أنه كان إذا قبض على الحرامى أمسكه
ونفخ بالكير فى دبره حتى تندر «1» عيناه وينفلق دماغه، ومنها أنه كان
يعلّق الرجل منكسا ولا يزال يرمى عليه بالنّشّاب إلى أن يموت، وأشياء
كثيرة من ذلك، فلما ولى الولاية بالقاهرة أوّل ما بدأ به أنه أفرج عن
جميع أرباب «2» الجرائم من الحبوس، وحلف لهم أنه متى ظفر بأحد منهم وقد
سرق ليوسطنّه، وأرهب إرهابا عظيما، وصار يركب فى الليل ويطوف بحرمة
زائدة عن الحد، وصدق فى يمينة فى السّرّاق فما وقع له سارق ممن أطلقه-
وقد كتب أسماءهم عنده- إلا وسّطه، فذعر أهل الفساد منه، وانكفّوا عن
السّرقة، ثم أخذ فى التضييق على الناس وإلزامهم بإلزامات منها: أنه
أمرهم بكنس الشوارع ثم رشّها بالماء، وبتعليق كل سوقى قنديلا على
دكّانه، وعاقب على ذلك خلائق، ثم منع النساء من الخروج إلى التّرب فى
أيّام الجمع، وأشياء كثيرة إلى أن سئمته الناس وعزله الأشرف عنهم حسبما
يأتى ذكره.
ثم أرسل السلطان يطلب قاضى القضاة شهاب الدين أحمد بن الكشك الحنفى
ليستقرّ فى كتابة سرّ مصر بعد موت شهاب الدين أحمد بن السّفاح، على أنه
يحمل بسبب ذلك عشرة آلاف دينار، فقدم جوابه فى يوم الاثنين ثالث شوّال
فى ضمن كتاب الأمير جارقطلو نائب الشام على يد نجّاب، وهو يعتذر لعدم
حضوره بضعف بصره وآلام تعتريه، وأرسل بمبلغ من الذّهب له صورة، فأعفاه
السلطان عن ذلك،
(14/360)
واستدعى الصاحب كريم الدين عبد الكريم بن
كاتب المناح وخلع عليه فى يوم الثلاثاء «1» رابعه باستقراره كاتب
السّرّ الشريف مضافا إلى الوزر، ولم يقع ذلك فى الدّولة التركية لأحد
أنّ الوزر وكتابة السرّ اجتمعا لواحد معا، ونزل الصاحب كريم الدين فى
موكب جليل وباشر وظيفة كتابة السرّ والوزر، مع بعده عن صناعة الإنشاء،
وعن كل فضيلة، وقلّة دربته بقراءة القصص والمطالعات الواردة من الأعمال
والأقطار، وكان مع ما هو فيه من الجهل أجهر العينين لا ينظر فى الكتابة
إلا من قريب، وفى صوته خشونة، فكان إذا أمسك الكتاب فى يده ليقرأه على
السلطان تنظر أعاجيب من تبحّره فى الكتاب بعينه، ثم من توقّفه فى
القراءة، ثم من اللّحن الفاحش الخارج عن الحدّ، مع أن قراءته للكتب ما
كانت إلا نادرا، وفى الغالب لا يقرؤها على السلطان إلا القاضى شرف
الدين الأشقر نائب كاتب السرّ، وكنت أظن أن الأشرف إنما ولّى كريم
الدين هذا لكتابة السرّ إلا ليطيّت خاطره ويقويه حتى يعيده إلى وظيفة
الأستادارية، فإنه كان ماهرا بتدبير أمور الوزر والأستادارية، جيد
التنفيذ فيها إلى الغاية، لم تر عينى بعده أحسن [تدبيرا] «2» وتصرفا
منه فى فنّه، غير أنه ليس من خيل هذا الميدان، وبين معرفته بفنه
والدّربة بصناعة الإنشاء زحام، إلى أن كان بعض الأيام والأشرف جالس،
وقدم الصاحب كريم الدين هذا، فلمّا رآه الأشرف من بعيد قال لمن حوله:
هل رأيتم كاتب سرّ أحشم من هذا ولا أمثل؟ فقال له من حضر:
لا والله يا خوند، فعند ذلك تحقّقت خلاف ما كنت أظن وعلمت أن القوم فى
واد والأمم السالفة فى واد.
ثم فى يوم الخميس ثالث عشر شوال المذكور ابتدأ السّلطان بالجلوس فى
الإيوان بدار العدل من قلعة الجبل، وكان قد ترك الملوك الجلوس به بعد
الملك الظاهر برقوق فى يومى الاثنين والخميس إلا فى النادر أيام خدمة
الإيوان عند قدوم قصّاد ملوك الأقطار،
(14/361)
فتشعث الإيوان ونسيت عوائده ورسومه إلى أن
اقتضى رأى السلطان فى هذه الأيّام بعمارته وتجديد عهده، فأزيل شعثه
وتتبعت رسومه، وجلس الملك الأشرف به، وعمل الخدمة السلطانية فيه، وعزم
على ملازمتة فى يومى الخدمة، ورسم بحضور القضاة وغيرهم ممّن كان له
عادة بحضور خدمة دار العدل، فلم يتمّ ذلك وتركه كأنه لم يكن.
ثم فى ثانى عشرين شوّال هذا قدم الخبر من مكة المشرفة بأن عدة زنوك «1»
قدمت من الصين إلى سواحل الهند، وأرسى منها اثنان بساحل عدن فلم تنفق
بها بضائعهم من الصينى والحرير والمسك وغير ذلك لاختلال حال اليمن،
فكتب كبير هذين المركبين الزنكيين إلى الشريف بركات بن حسن بن عجلان
أمير مكة وإلى سعد الدين إبراهيم بن المرة ناظر جدّة يستأذن فى قدومهم
إلى جدّة، فكتبا إلى السلطان فى ذلك ورغّباه فى كثرة ما يتحصّل فى
قدومهم من المال، فكتب لهم السلطان بالقدوم إلى جدّة وإكرامهم.
ثم فى يوم الاثنين أوّل ذى القعدة استدعى السلطان القضاة الأربعة بجميع
نوّابهم فى الحكم بالقاهرة ومصر [إلى القلعة] «2» لتعرض نوابهم على
السلطان، وقد ساعت القالة فيهم عند السلطان، فدخل القضاة الأربعة إلى
مجلس السلطان وعوّق نوّابهم عن العبور إلى السلطان، فلما جلسوا خاشنهم
السلطان فى اللفظ بسبب كثرة نوّابهم، وانفضّ المجلس على أن يقتصر
الشافعىّ على خمسة عشر نائبا بمصر والقاهرة، والحنفى على عشرة نوّاب،
والمالكىّ على سبعة، والحنبلىّ على خمسة، ونزلوا على ذلك، فلم يزل عبد
الباسط وغيره بالسلطان حتى زادهم شيئا بعد شىء إلى أن عادت عدّتهم إلى
ما كانت عليه، والسلطان لا يعلم بذلك.
(14/362)
ثم فى سابعه خلع السلطان على التاج
الشّوبكى باستقراره والى القاهرة بعد عزل دولات خجا المقدم ذكره، وقد
أقمع دولات خجا المفسدين وأبادهم.
ثم فى يوم الأحد ثامن عشرين ذى القعدة أيضا ورد الخبر على السلطان بموت
جينوس بن جاك متملّك قبرس، فعيّن السلطان شخصا من الأعيان ومعه ستّون
مملوكا للتوجه إلى قبرس، فخرجوا فى يوم الجمعة خامس عشرين ذى الحجة من
سنة خمس وثلاثين وثمانمائة ومعهم خلعة لجوان بن جينوس باستقراره فى
مملكة جزيرة قبرس عوضا عن والده جينوس نيابة عن السلطان، ومطالبته بما
تأخر على أبيه وهو أربعة وعشرون ألف دينار وبما التزم فى كلّ سنة وهو
خمسة آلاف دينار، وساروا على ذلك إلى ما يأتى ذكره.
وانسلخت هذه السنة بيوم الأربعاء الموافق لرابع أيام النسىء، وهى سنة
تحويل «1» تحوّل الخراج فيها من أجل أنه لم يقع فيها نوروز، فحوّلت سنة
ست إلى سنة سبع وثلاثين.
قال المقريزى رحمه الله: واتّفق فى سنة ست وثلاثين هذه غرائب منها: أن
يوم الخميس كان أوّل المحرّم ووافقه أوّل يوم من تشرين وهو رأس سنة
اليهود، فاتّفق أوّل سنة اليهود مع أوّل سنة المسلمين، ويوم الجمعة
وافقه أوّل توت وهو أوّل سنة النّصارى القبط، فتوالت أوائل سنى الملل
الثلاث فى يومين متوالين، واتّفق مع ذلك أن طائفة اليهود الربانيين
يعملون رءوس سنيهم وشهورهم بالحساب، وطائفة القرائين يعملون رءوس سنيهم
وشهورهم برؤية الأهلّة كما هى عند أهل الإسلام، فيقع بين طائفتى اليهود
فى رءوس السنين والشهور اختلاف كبير، فاتّفق فى هذه السنة مطابقة حساب
الرّبّانيّين والقرّائين، فعمل الطائفتان جميعا رأس سنتهم يوم الخميس،
وهذا من النوادر التى لا تقع إلا فى الأعوام المتطاولة- انتهى.
[ما وقع من الحوادث سنة 836]
ثم فى يوم الاثنين سادس عشرين المحرم من سنة ست وثلاثين المذكورة عزل
(14/363)
السلطان آقبغا الجمالى عن الأستادارية،
وجعل الزّنجير الحديد فى رقبته، وأنزله على حمار من القلعة إلى بيت
التاج الوالى بسويقة الصاحب ليعاقبه على استخراج المال.
وأصبح السلطان من الغد خلع على الصاحب كريم الدين عبد الكريم بن كاتب
المناخ بإعادته إلى وظيفة الأستادارية عوضا عن آقبغا المذكور مضافا إلى
الوزر، وعزله عن وظيفة كتابة السّر، ورسم السلطان للقاضى شرف الدين
الأشقر نائب كاتب السر أن يباشر الوظيفة إلى أن يستقرّ فيها أحد، وعيّن
جماعة كبيرة للوظيفة المذكورة فلم يقع اختيار السلطان على أحد منهم.
ورسم السلطان بطلب القاضى كمال الدين ابن البارزىّ قاضى قضاة دمشق
وكاتب سرّها ليستقرّ فى كتابة سرّ مصر، وخرج القاصد بطلبه من القاهرة
فى يوم الأحد ثانى صفر من سنة ست وثلاثين وثمانمائة [ليستقر فى كتابة
سرّ مصر «1» ] ، وأن يستقرّ عوضه فى «2» القضاء بدمشق بهاء الدين محمد
ابن القاضى نجم الدين عمر بن حجّى، وأن يستقرّ عوضه فى كتابة سرّ دمشق
قاضى القضاة شهاب الدين أحمد بن الكشك الحنفىّ، ويستقرّ ولد ابن الكشك
شمس الدين محمد فى قضاء الحنفيّة بدمشق عوضا عن أبيه، ويستقرّ جمال
الدين يوسف بن الصّفّىّ فى نظر جيش دمشق عوضا عن بهاء الدين ابن حجّى.
ثم فى سابع صفر قدمت الرسل المتوجّهة إلى قبرس، وكان من خبرهم أنهم لما
توجّهوا إلى دمياط ركبوا منها البحر [المالح] «3» فى شينيين «4» وساروا
حتى وصلوا إلى الملّاحة فى يوم السبت عاشر المحرّم من سنة ست وثلاثين
المذكورة، فلما وصلوا إلى
(14/364)
الملّاحة سار أعيانهم فى البرّ إلى
الأفقسيّة وهى مدينة قبرس ودار ملكها، وبلغ متملّك قبرس مجيئهم فخرج
إلى لقائهم وزير الملك فى أكابر أهل قبرس، فأنزلوهم هناك وباتوا ليلتهم
بالمكان المذكور، وأصبحوا من الغد وهو يوم الاثنين ثانى عشر المحرم
عبروا المدينة ودخلوا على الملك جوان بن جينوس بن جاك فى قصره فإذا هو
قائم على قدميه فسلمّوا عليه وبلّغوه الرسالة وأوصلوه كتاب السلطان، كل
ذلك وهو قائم على قدميه، فأذعن بالسمع والطاعة، وقال: أنا مملوك
السلطان ونائبه، وقد كنت على عزم أن أرسل التقدمة، فبلغنى قدومكم
فأمسكت عن ذلك، فكلّموه أن يحلف على طاعة السلطان، فأجابهم إلى ذلك،
واستدعى القسيسين وحلف على الوفاء وعلى الاستمرار على الطّاعة والقيام
بما يجب عليه من ذلك، فعند ذلك أفيض عليه التّشريف السلطانى المجهّز له
على يد كبير القوم، فلبسه وقد أظهر السرور والبشر بذلك، ثم خرجت الرسل
من عنده فداروا بالمدينة وهم ينادى بين أيديهم باستقرار الملك جوان فى
نيابة السّلطنة بمدينة الأفقسيّة وسائر ممالكها، وأن لأهل قبرس الأمان
والاطمئنان، وأمروهم بطاعته وطاعة السلطان إلى أن داروا البلد، ثم
أنزلوهم فى بيت قد أعدّ لهم، وأجرى عليهم من الرّواتب ما يليق بهم من
كل ما عندهم.
ثم حمل إليهم فيما بعد سبعمائة ثوب صوف قيمتها عشرة آلاف دينار، وذلك
مما تأخّر على أبيه، ثم أظهر خصم أربعة آلاف دينار أخرى، ووعد بحمل
العشرة آلاف دينار الباقية بعد سنة، ثم بعث إليهم أيضا بأربعين ثوبا
صوفا برسم الهديّة للسلطان، ثم أرسل لكل من الرّسل شيئا بحسب مقامه
وعلى قدره، ثم أخذ فى تجهيزهم وتسفيرهم حتى كان سفرهم من قبرس بعد عشرة
أيام من قدومهم إلى اللّمسون، فأقاموا [بها] «1» إلى أن تهيئوا وركبوا
البحر وساروا فيه ستّة أيام ووصلوا إلى ثغر دمياط، ثم خرجوا من مراكبهم
وركبوا المراكب فى بحر النيل إلى أن قدموا القاهرة، وطلعوا إلى السلطان
وعرّفوه ما وقع لهم مفصّلا وما معهم من الصّوف وغيره، فقبل السلطان
(14/365)
ذلك، وقرأ كتابه فإذا هو يتضمّن السمع
والطاعة، وأنه نائب السلطان فيما تحت يده من البلاد والمملكة، وأنه فى
طيى علمه ومن جملة مماليكه، فسرّ السلطان بذلك غاية السّرور؛ فإنه كان
أشيع بمصر أنه لما ملك بعد أبيه خرج عن طاعة السلطان، ومنع الجزية،
فوقع خلاف ذلك- انتهى.
ثم فى يوم السبت ثامن صفر خلع السلطان على حسن بك بن سالم الدّوكرىّ
أحد أمراء التّركمان وهو ابن أخت قرايلك باستقراره فى نيابة البحيرة
عوضا عن أمير على، وأنعم عليه بمائة قرقل «1» ومائة قوس ومائة تركاش
«2» وثلاثين فرسا ووجهه إلى محل تحكمه بمدينة دمنهور، فأقام بها سنين
عديدة وإلى الآن متوليها هو ولده، وهو يومئذ متولى جعبر.
ثم ورد الخبر على السلطان بامتناع ابن الكشك من ولاية كتابة سرّ دمشق،
وأنه استعفى من ذلك، فأعفاه السلطان ورسم باستقرار القاضى تاج الدين
عبد الوهاب بن أفتكين أحد موقّعى الدّست بدمشق فى كتابة سرّ دمشق، وكتب
أيضا باستقرار محيى الدين يحيى بن حسن بن عبد الواسع الحبحابى المغربى
المالكى فى قضاء المالكية بدمشق عوضا عن القاضى شهاب الدين أحمد بن
محمد الأموى بعد موته.
ثم فى يوم الاثنين أوّل شهر ربيع الأوّل قدم إلى القاهرة رسول ملك
القطلان «3» من الفرنج بكتابه، وقد نزل على جزيرة صقلّية فى ثانى عشرين
شهر رمضان بما ينيف على مائة قطعة حربية، وتضمّن كتابه الإنكار على
الدّولة ما تعتمده من التجارة فى البضائع، وأن رعيّته الفرنج لا يشترون
من السلطان ولا من أهل دولته بضاعة، وأنهم لا يشترون إلا من التّجّار،
ثم أعاب على السلطنة صناعة المتجر، فردّ السلطان رسوله ردّا قبيحا،
وكتب له جوابا بمثل ذلك.
(14/366)
ثم فى هذا الشهر تكرّر توجّه السلطان إلى
الصيّد غير مرّة قبليا وبحريا فأبعد ما وصل قبليا إلى إطفيح «1» وبحريا
إلى شيبين القصر بالشرقيّة.
ثم فى تاسع عشر شهر ربيع الأوّل قدم القاضى كمال الدين محمد بن
البارزىّ من دمشق بعد أن خرج أكابر الدّولة إلى لقائه، وطلع إلى
السلطان وقبّل الأرض، ثم نزل إلى داره، وطلع من الغد إلى القلعة فى يوم
السبت العشرين من شهر ربيع الأوّل المذكور، وخلع السلطان عليه
باستقراره فى كتابة السّر بالديار المصريّة عوضا عن شهاب الدين أحمد بن
السفاح بعد شغور الوظيفة مدّة طويلة، وهذه ولاية كمال الدين المذكور
[لكتابة السّر] «2» ثانى مرة، ونزل فى موكب جليل.
قال المقريزى: وسر الناس به سرورا كبيرا؛ لحسن سيرته وكفايته، وجميل
طريقته، وكرمه وكثرة حيائه- فالله يؤيده بمنه- انتهى كلام المقريزى.
قلت: هو كما قاله المقريزى وزيادة حتى إننى لا أعلم فى عصرنا هذا من
يدانيه فى غزير محاسنه- رحمه الله تعالى.
ثم فى يوم الخميس أول جمادى الأولى قدم الأمير مقبل الحسامى الدوادار-
كان- نائب صفد، وكان السلطان قد ركب من القلعة إلى خارج القاهرة فلقيه
السلطان وخلع عليه، وعاد مقبل المذكور فى خدمة السلطان إلى القلعة، ثم
نزل مقبل فى دار أعدّت له، فأقام بالقاهرة إلى يوم حادى عاشره، وخلع
عليه خلعة السفر، وتوجه إلى محل كفالته بصفد.
ثم فى يوم الخميس ثامنه خلع السلطان على الأمير أسنبغا الطيارى أحد
أمراء العشرات، واستقر فى نظر جدّة عوضا عن سعد الدين إبراهيم بن
المرة، وأذن لابن المرة المذكور أن يتوجه إلى خدمته، فلما كان يوم حادى
عشر [جمادى الأولى المذكورة] «3»
(14/367)
نودى فى الناس بالإذن فى السّفر إلى
الحجاز- رجبيّة- صحبة الأمير أسنبغا الطيارى المذكور، فسرّ الناس بذلك
سرورا زائدا؛ لأن ابن المرة كان لا يدع أحدا أن يسافر معه خوفا عليهم
من قطاع الطريق.
ثم فى سابع عشرين جمادى الأولى المذكورة سافر الوزير كريم الدين بن
كاتب المناخ إلى جهة الوجه القبلى- وهو يوم ذاك يباشر الوزارة
والأستادارية معا- وكان سفره إلى الوجه القبلى لتحصيل ما يقدر عليه من
الجمال والخيل [والبغال] «1» والغنم والمال لأجل سفر السلطان إلى جهة
البلاد الشاميّة، كل ذلك والناس يأخذون ويعطون فى سفر السلطان؛ فإنه
وقع منه التجهيز للسفر غير مرة ثم تغير عزمه عن ذلك.
ثم فى تاسع عشرينه قدم إلى القاهرة كتاب القان شاه رخّ بن تيمور لنك
صاحب ممالك العجم وجغتاى على يد بعض تجّار العجم يتضمن أنه يريد كسوة
الكعبة، وأرعد فيه وأبرق، ولم يخاطب السلطان فيه إلا بالأمير برسباى،
وقد تكررت مكاتبته للسلطان بسبب كسوة الكعبة غير مرة، وهو لا يلتفت
إليه ولا يسمح له بذلك، بل يكتب له بأجوبة خشنة مشحونة بالتّوبيخ
والوعيد والبهدلة، حتى إنه كلّما ورد منه كتاب وأجابه السلطان بتلك
الأجوبة الخشنة لا يشك الناس أن شاه رخّ يرد إلى البلاد الشامية عقيب
ذلك، فلم يظهر له خبر ولا نظر له أثر، وقد استخف الملك الأشرف بشأنه
حتى [إنه] «2» صار إذا أتاه قاصده لا يلتفت إليه ولا إلى ما فى يده من
الكتب بالكلية، ويأتى- إن شاء الله تعالى- ذكر ما فعله ببعض قصّاده من
الضرب والبهدلة فى محله من هذا الكتاب.
قلت: لا أعرف للملك الأشرف فى سلطنته حركة بعد افتتاحه لقبرس أحسن من
ثباته مع شاه رخّ المذكور فى أمر الكسوة، وعدم اكتراثه به؛ فإنه أقام
بفعلته هذه حرمة للديار المصرية ولحكّامها إلى يوم القيامة- انتهى.
(14/368)
ثم فى يوم الجمعة خامس عشر جمادى الآخرة
أنفق السلطان فى المماليك المجرّدين إلى مكة- وهم خمسون مملوكا- لكل
واحد منهم مبلغ ثلاثين دينارا، وتجهّزوا للسفر إلى مكة صحبة الأمير
أسنبغا الطيارى [ «1» فلما كان يوم الاثنين ثامن عشر جمادى الآخرة
المذكورة برز فيه الأمير أسنبغا الطيّارىّ] «2» بمن معه من المماليك
السلطانية والحجّاج.
وفيه خلع السلطان على سعد الدين إبراهيم بن المرة ليكون رفيقا للأمير
أسنبغا الطيّارىّ فى التكلّم على بندر جدّة.
وفى هذه الأيام قوى عزم السلطان على السّفر، وظهر للناس حقيقة ذلك من
تجهيز أمور السلطان وتعلقاته للسفر، وأيضا فإنه رسم فى هذه الأيام بصرّ
«3» نفقة المماليك السلطانية بسبب السفر.
ثم فى يوم الخميس حادى عشرين جمادى الآخرة [المذكورة] «4» أنفق السلطان
فى الأمراء نفقه السّفر، فعند ذلك اضطرب الناس وأخذوا فى تجهيز أمورهم
وتيقّنوا صدق القالة، فحمل السلطان إلى الأمير الكبير أتابك العساكر
سودون من عبد الرحمن أكياس فضّة حسابا عن ثلاثة آلاف دينار، وإلى كلّ
من أمراء الألوف- وهم عشرة أنفس- لكل واحد ألفى دينار، وإلى كل من
أمراء الطّبلخانات خمسمائة دينار، وإلى كل من أمراء العشرات مائتى
دينار، وكل ذلك فضّة حسابا عن الذّهب من سعر الدينار بمائتين وعشرين
درهما، والدينار يومئذ بمائتين وثمانين، فالنفقة على هذا الحكم تنقص
مبلغا كبيرا، غير أنه من هو المشاحح لذلك، ولسان الحال يقول: (يد
الخلافة لا تطاولها يد) وكان هذا أيضا بخلاف القاعدة؛ فإنّ قاعدة
الملوك أن تنفق أولا على المماليك السلطانية، ثم تنفق على الأمراء،
فكان ذلك بخلاف ما كان، وكان له سبب
(14/369)
فيما قيل، وهو أن الملك الأشرف كان عنده
بخل وعدم محبة للسّفر من مبدأ أمره إلى أيّام سلطنته، وكان أشاع فى
السنين الماضية أنه يريد السّفر لقتال قرايلك يوهم قرايلك بذلك ليرسل
إليه بالدخول فى طاعته، وكان قرايلك أرسل إلى السلطان فى ذلك لمّا كان
ولده هابيل فى حبس الملك الأشرف، فلما مات هابيل بالطّاعون فى سنة ثلاث
وثلاثين فى محبسه أمسك قرايلك عن مكاتبات السلطان، وأخذ فى ضرب
معاملاته، وصار السلطان فى كل سنة يتجهز للسفر ويشيع ذلك إرداعا
لقرايلك، فلم يلتفت قرايلك لذلك، فلمّا طال الأمر على السلطان حقّق ما
كان أشاعه من السّفر مخافة العار والقالة فى حقّه.
وتأييد ما قيل أننى سمعته يقول فى بعض منازله فى سفره إلى آمد، وأظنه
فى العودة:
لو سألنى قرايلك فى الصّلح والدخول فى طاعتى بمقدار ما سأله للأمير جكم
من عوض نائب حلب لما مشى لفتاله أو أقل من ذلك لرضيت، فهذا الخبر يقوّى
القول المقدّم ذكره.
واستمر السلطان فى انتظار قدوم رسل قرايلك بالصّلح فى كل يوم وساعة،
وهو يترجّى أنه إذا بلغه صحة سفر السلطان إلى قتاله يرسل قصّاده فى
السّؤال بالصّلح، وأرباب دولته تشير عليه بالتربّص والتأنى فى أمر
السّفر مخافة من وقوعهم فى الكلف الكثيرة، فأشاروا عليه بأن ينفق فى
الأمراء أوّلا ربما يأتى رسول قرايلك فى السؤال ويبرم الصلح، فيكون
استعادة المال منهم أهون من استعادته من المماليك السلطانية، فحسن ذلك
ببال السلطان، وهو كما قيل فى الأمثال «إن كلمة الشح مطاعة» وأنفق فى
الأمراء وعوّق نفقة المماليك إلى أن كان يوم سلخ جمادى الآخرة وقع «1»
الإياس من قرايلك وأخذ فى نفقة المماليك السلطانية فى سلخ الشهر
المذكور، فأنفق على عدّة كبيرة من المماليك السلطانية لا يحضرنى
عدّتهم.
قال المقريزى: وهم ألفان وسبعمائة، وفى ظنى أنهم كانوا أكثر من ذلك غير
أنى
(14/370)
لم أحرّر عدّتهم، فجلس السلطان بالمقعد
الذي على باب البحرة من الحوش السلطانى بقلعة الجبل، وأعطى لكل مملوك
صرّة فيها ألف درهم وخمسون درهما [فضة] «1» أشرفيّة، عنها من الفلوس
اثنان وعشرون ألف درهم، وهى مصارفة مائة دينار من حساب صرف كل دينار
بمائتين وعشرين درهما فلوسا، وكان صرف الدينار يوم ذاك بمائتين وثمانين
درهما، كما حملت النفقة أيضا للأمراء على هذا الحساب، وكانت المماليك
السلطانية اتّفقوا على أنّهم لا يأخذون إلا مائة دينار ذهبا، ودخلوا
على ذلك، فلما استدعى الديوان أوّل اسم من طبقة الرّفرف خرج صاحبه وأخذ
وباس الأرض وعاد إلى حال سبيله، واستدعى الديوان من هو بعده فخرج واحد
بعد واحد إلى أن تمت النفقة «2» ولم يتفوّه أحد منهم بكلمة فى معنى ما
اتفقوا عليه، ولما نزولوا بعد القبض للنفقة صار بعضهم يوبخ البعض خفية
على ترك ما اتّفقوا عليه، إلى أن قال لهم بعض المماليك المؤيدية:
احمدوا الله على هذا العطاء، فو الله لو لم ينفق [السلطان] «3» فيكم
وأمركم بالسّفر معه من غير نفقة لخرجتم معه صاغرين، وأوّلهم أنا، فضحك
القوم من كلامه وانصرفوا.
قلت: تلك أمة قد خلت، هؤلاء القوم يأكلون الأرزاق صدقة عن تلك الأمم
السالفة؛ فإننا لا نعلم بقتال وقع فى هذا القرن- أعنى عن قرن
التسعمائة- غير وقعة تيمور لنك مع نوّاب البلاد الشاميّة على ظاهر حلب،
لا مع العساكر المصريّة. وأما ما وقع بعد ذلك من الوقائع فى الدولة
الناصرية [فرج] «4» الدولة المؤيدية [شيخ] «5» والدولة الظاهرية [ططر]
«6» والدولة المنصورية [محمد بن ططر] «7» فهو نوع «8» من القتال لا
القتال المعهود بعينه، وتصديق ذلك أنه لم تكن وقعة وقعت فى هذ الدّول
(14/371)
أعظم من وقعة شقحب «1» ومع ذلك لم يقتل فى
المصاف خمسون رجلا من الطائفتين.
وما وقع بعد ذلك من الوقائع فتنجلى الوقعة ولم يقتل فيها رجل واحد، وقد
ثبت عند المؤرخين أنه قتل فى الوقعة التى كانت بين تيمور لنك وبين ملك
دلى أحد ملوك الهند فى المصاف زيادة على عشرة آلاف نفس فى أقلّ من يوم،
ونحن لا نطالب أحدا بذلك، غير أن الازدراء بالغير على ماذا؟! - انتهى.
ثم فى يوم الثلاثاء ثالث شهر رجب قدم الصاحب كريم الدين عبد الكريم من
الوجه البحرى بعد أن أخذ خيول أهله وجمالهم وأغنامهم وأموالهم، هو
وأتباعه، فما عفّوا ولا كفّوا.
ثم فى يوم الخميس ثانى عشر شهر رجب المذكور أدير محمل الحاج، ولم يعمل
فيه ما جرت به العادة من التجمّل، ولعب الرّمّاحه، بل أوقف المحمل تحت
القلعة وأعيد، ولم يتوجّه إلى مصر، وهذا شىء لم يعهد بمثله، وكان سبب
ذلك اشتغال الرّمّاحة بالتجهيز للسفر صحبة السلطان.
ثم فى يوم السبب رابع عشر شهر رجب المذكور خرجت مدوّرة السلطان وخيام
الأمراء من القاهرة، ونصبت بالرّيدانيّة لأجل سفر السلطان.
ثم فى يوم الاثنين سادس عشره خرج أمراء الجاليش مقدّمة لعسكر السلطان،
وهم الأمير سودون من عبد الرحمن أتابك العساكر، والأمير إينال الجكمىّ
أمير سلاح، والأمير قرقماس الشّعبانىّ الناصرىّ حاجب الحجاب، والأمير
قانى باى الحمزاوى، والأمير سودون ميق، والجميع مقدّمو ألوف، ونزلوا
بخيمهم بطرف الرّيدانيّة تجاه مسجد التبن.
ثم رسم السلطان بإخراج البطّالين من الأمراء من الديار المصرية، فرسم
للأمير
(14/372)
ألطنبغا المرقبىّ حاجب الحجاب- كان- فى
الدولة المؤيدية [شيخ] «1» بالتوجّه إلى القدس، ثم رسم له أن يتوجّه
صحبة السلطان إلى السّفر فسافر فى ركاب السلطان، وهو يوم ذاك من جملة
أمراء العشرات، ثم رسم السلطان بإخراج الأمير أيتمش الخضرى الظاهرى
المعزول عن الأستادارية قبل تاريخه إلى القدس، فخرج إليه، ومنع السلطان
من بقى من أولاد الملوك من الأسياد من ذرّيّة الملك الناصر محمد بن
قلاوون وغيره من سكنى القلعة وطلوعها فى غيبة السلطان، وأخرجوا من
دورهم فيها، وكانوا لمّا منعوا من سنين من سكن القلعة، ورسم لهم الملك
الأشرف بالنزول منها والركوب حيث شاءوا، سكن أكثرهم بالقاهرة وظواهرها،
فذلّوا بعد عزّهم، وتهتّكوا بعد تحجّبهم، وبقى من أعيانهم طائفة مقيمة
بالقلعة، وتنزل إلى القاهرة فى حاجاتهم ثم تعود إلى دورهم، فلما كان
سفر السلطان فى هذه السنة أخرجوا الجميع منها ومنعوا من سكنى القلعة،
فنزلوا وتفرّقوا بالأماكن بالقاهرة.
والعجب أن الملك الناصر محمد بن قلاوون كان فعل ذلك بأولاد الملوك من
بنى أيّوب، فجوزى فى ذرّيته، وكان الملك الكامل محمد ابن [الملك] «2»
العادل أبى بكر بن أيوب فعل ذلك بأولاد الخلفاء الفاطميين، فكل واحد من
هؤلاء جوزى فى أولاده بمثل فعله، ووقع ذلك لابن الملك الأشرف ولغيره،
ولا يظلم ربّك أحدا.
ثم فى يوم سابع عشره خلع السلطان على دولات خجا الظاهرىّ بإعادته إلى
ولاية القاهرة عوضا عن التّاج بن سيفه الشّوبكىّ بحكم سفره مع السلطان
مهمندارا وأستادار الصّحبة، هذا وقد ترشّح الأمير آقبغا التّمرازى أمير
مجلس لإقامته بالقاهرة فى غيبة السلطان، وترشّح الأمير حسين بن أحمد
المدعو تغرى برمش البهسنىّ للإقامة بباب السّلسلة فى غيبة السلطان
حسبما يأتى ذكره.
(14/373)
تم الجزء الرابع عشر من النجوم الزاهرة
ويليه الجزء الخامس عشر وأوله ذكر سفر السلطان الملك الأشرف برسباى إلى
آمد
(14/374)
|