النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة
[ما وقع من
الحوادث سنة 825]
ذكر سلطنة الملك الأشرف برسباى على مصر السلطان الملك الأشرف سيف الدين
أبو النصر برسباى الدّقماقى الظاهرىّ «1» سلطان الديار المصريّة، جلس
على تخت الملك يوم خلع الملك الصالح محمد ابن الملك الظاهر ططر فى يوم
الأربعاء ثامن شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين وثمانمائة، بعد أن حضر
الخليفة والقضاة وجميع الأمراء والأمير تنبك ميق نائب الشام، وبويع
بالسلطنة، ولبس الخلعة الخليفتيّة السّوداء، وركب من طبقة الأشرفية
بقلعة الجبل والأمراء مشاة بين يديه إلى أن نزل على باب القصر، ودخل
وجلس على تخت الملك، وقبّلت الأمراء الأرض بين يديه، وخلع على الخليفة
المعتضد بالله داود، وعلى من له عادة بالخلع فى مثل هذا اليوم، وتمّ
أمره ونودى باسمه وسلطنته بالقاهرة ومصر، من غير أن يأمر للمماليك
السلطانية بنفقة كما هى عادة الملوك، وهذا كان من أوائل سعد ناله
[فإننا] «2» لم نعلم أحدا من الملوك التركية تسلطن ولم ينفق إلا برسباى
هذا- انتهى.
قلت: والأشرف هذا هو السلطان الثانى والثلاثون من ملوك التّرك وأولادهم
بالدّيار المصريّة، والثامن من الچراكسة وأولادهم، وأصل الملك الأشرف
هذا چاركسى الجنس، وجلب من البلاد فاشتراه الأمير دقماق المحمدى
الظاهرىّ نائب ملطية، وأقام عنده مدّة.
ثم قدّمه إلى الملك الظاهر برقوق فى عدّة مماليك أخر، ولتقدمته سبب،
وهو أن الأمير تنبك اليحياوىّ الأمير آخور الكبير بلغه أن الأمير دقماق
اشترى أخاه من بعض التّجّار، وكان أخوه يسمّى طيبرس، فوقف الأمير تنبك
إلى الملك الظّاهر
(14/242)
برقوق وطلب منه أن يرسل يطلب أخاه من
دقماق، فرسم السلطان بذلك، وكتب لدقماق مرسوما شريفا «1» بإحضار طيبرس
المذكور، وقبل أن يخرج القاصد إلى دقماق وقف الأمير على باى الظاهرىّ
الخازندار صاحب الوقعة أيضا، إلى السلطان وذكر له أن أخته أيضا عند
الأمير دقماق، فكتب السلطان بإحضارها أيضا، وسار البريدىّ من مصر إلى
دقماق بذلك، فامتثل دقماق المرسوم الشّريف، وأراد إرسال طيبرس المذكور،
فقال له دواداره: «2» [ما تريد تفعل؟ فقال: أرسل المملوك الذي طلبه
أستاذى إليه، فقال دواداره] «3» : لا يمكن إرساله وحده، جهّز معه عدّة
مماليك وتقدمة هائلة، وأبعث بالمطلوب فى ضمنها، فأعجب دقماق ذلك وجهّز
نحو ثمانية عشر مملوكا صحبة طيبرس المذكور من جملتهم برسباى هذا وتمراز
القرمشىّ أمير سلاح، وأشياء أخر من أنواع الفزو والقماش والخيل
والجمال، ثمّ اعتذر دقماق عن إرسال الجارية أنها حامل منه، والجارية هى
السّت أردباى أمّ ولد دقماق، وزوجة الأمير تمراز القرمشىّ أمير سلاح فى
دولة الملك الظّاهر جقمق المتوفى سنة ثلاث وخمسين وثمانمائة، وتوفّيت
هى أيضا بعده بأيّام، وكلاهما بالطّاعون. فسار البريدىّ بالمماليك
والتقدمة من ملطية إلى الديار المصرية، فوصلها بعد موت الأمير تنبك
اليحياوىّ المذكور، وقد استقرّ عوضه فى الأمير آخوريّة الأمير نوروز
الحافظىّ، فقبل الملك الظاهر [برقوق] «4» التقدمة، وفرّق المماليك على
الأطباق، فوقع برسباى هذا بطبقة الزّمّاميّة إنيا للأمير چاركس
القاسمىّ المصارع، وتمراز القرمشى إنيا ليلبغا النّاصرىّ، فدام برسباى
بالطبقة مدّة يسيرة وأعتقه السلطان، وأخرج له خيلا فى عدّة كبيرة من
المماليك السلطانية.
وسبب سياقنا لهذه الحكاية أن قاضى القضاة شهاب الدين بن حجر رحمه الله
نسبه أنه عتيق دقماق، وليس الأمر على ما نقله، وهو معذور فيما نقله
لبعده عن معرفة اللغة
(14/243)
التركية ومداخلة الأتراك، وقد اشتهر أيضا
بالدّقماقىّ فظنّ أنه عتيق دقماق، ولم يعلم أن نسبته بالدّقماقىّ كما
أن نسبة الوالد [رحمه الله] «1» بالبشبغاوىّ، والملك المؤيد شيخ
بالمحمودىّ، ونوروز بالحافظىّ، وجكم نائب حلب بالعوضىّ، ودمرداش
بالمحمدىّ وغيرهم، وقد وقفت على هذه المقالة فى حياته على خطّه، ولم
أعلم أن الخط خطه فإنه كان رحمه الله يكتب ألوانا، وكتبت على حاشية
الكتاب وبيّنت خطأه، وأنا أظن أن الخط خطّ ابن قاضى شهبة، وعاد الكتاب
إلى أن وقع فى يد قاضى القضاة المذكور «2» فنظر إلى خطى وعرفه، واعترف
بأنه وهم فى ذلك، وكان صاحبنا الحافظ قطب الدين محمد الخيضرى حاضرا،
فذكر لى ما وقع، فركبت فى الحال وهو معى وتوجّهنا إلى السّيفىّ طوغان
الدّقماقى، وهو من أكابر مماليك دقماق، وسألته عن الملك الأشرف سؤال
استفهام، فقال: هو عتيق الملك الظاهر برقوق وقدّمه أستاذنا إليه، ثم
حكى له ما حكيته من سبب إرساله، ثم عدنا وأرسلت أيضا خلف جماعة من
مماليك دقماق، لأن غالبهم كان خدم عند الوالد بعد موت دقماق، فالجميع
قالوا مثل قول طوغان الدّقماقى، فتوجّه قطب الدين المذكور، وعرفه هذا
كله، فأنصف غاية الإنصاف، وأصلح ما عنده ثم ذاكرت أنا قاضى القضاة
المذكور فيما بعد، وعرفته أن دقماق قدّمه فى أوائل أمره، وأن برسباى
صار ساقيا فى دولة الملك المنصور عبد العزيز، معدودا من أعيان الدولة،
يتقاضى حوائج دقماق بالديار المصرية، ثم خرج برسباى عن طاعة الملك
الناصر [فرج] «3» مع الأمير إينال باى بن قجماس إلى البلاد الشامية
وبقى من أعيان القوم، كل ذلك ودقماق فى قيد الحياة بعد سنة ثمان
وثمانمائة، وكان لمّا قدم دقماق إلى مصر نزل عند برسباى هذا وبرسباى
المذكور يخاطبه تارة يا خوند وتارة يا أغاة، ثم عرّفته بأن ولد دقماق
الناصرى محمدا من جملة أصحابى، وأن والدته الست أردباى زوجة الأمير
تمراز القرمشىّ أمير سلاح.
(14/244)
قلت: وعلى كل حال إن هذا الوهم هو أقرب
للعقل من مقالة المقريزىّ فى الملك الظّاهر ططر «إن الملك الناصر فرجا
أعتقه بعد سنه ثمان فى سلطنته الثّانية» وأيضا أحسن ممّا قاله
المقريزىّ فى حقّ الملك الأشرف [برسباى] «1» هذا بعد وفاته فى تاريخه
«السلوك» فى وفيات سنة إحدى وأربعين وثمانمائة، وقد رأيت أنّ السّكات
عن ذكر ما قاله فى حقّه أليق والإضراب عنه أجمل لما وصفه به من الألفاظ
الشّنيعة القبيحة التى يستحى من ذكرها فى حقّ كائن من كان- انتهى.
وقد خرجنا عن المقصود، ولنعد إلى ما نحن بصدده من ذكر الملك الأشرف
[برسباى] «2» فنقول: واستمرّ الملك الأشرف من جملة المماليك السلطانيّة
إلى أن صار خاصّكيّا ثم صار ساقيا فى سلطنة الملك المنصور عبد العزيز
ابن الملك الظاهر برقوق.
ثم خرج مع الأمير إينال باى بن قجماس من الدّيار المصريّة- مباينا
للملك الناصر فرج- إلى البلاد الشاميّة، ثم انضمّ مع الأميرين شيخ
ونوروز وتقلّب معهما فى أيّام تلك الفتن ولا زال معهما إلى أن قتل
الملك الناصر فرج، وقدم إلى القاهرة صحبة الأمير الكبير شيخ المحمودىّ،
فأنعم عليه الأمير شيخ المذكور بإمرة عشرة، ثم نقله إلى إمرة طبلخاناه
بعد سلطنته، فدام على ذلك سنين إلى أن نقله إلى إمرة مائة وتقدمة ألف
بالدّيار المصريّة، ثم ولّاه كشف التّراب بالغربيّة من أعمال القاهرة،
إلى أن طلبه الملك المؤيّد شيخ وولّاه نيابة طرابلس بعد عزل الأمير
بردبك قصقا الخليلىّ عنها، وذلك فى يوم الاثنين ثالث عشرين شهر ربيع
الآخر سنة إحدى وعشرين وثمانمائة، ولمّا ولى نيابة طرابلس كان فى خدمته
جماعة من مماليك الوالد [رحمه الله] «3» من جملتهم شخص يسمّى سودون،
فطلبه أن يتوجّه معه إلى طرابلس، فقال سودون:
أنا ما أخلّى جامع طولون وأتوجّه إلى طرابلس، فتوجّه معه خشداشاه أزدمر
(14/245)
وجرباش، فلما تسلطن الأشرف- بعد أمور
نذكرها- جعل أزدمر المذكور ساقيا، وندم سودون على مفارقته- انتهى.
وتوجّه برسباى المذكور إلى نيابة طرابلس، ومعه سودون الأسندمرى وقد
استقر أتابك طرابلس، وأقام بطرابلس مدّة إلى أن واقع التّركمان
الإينالية «1» والبياضية «2» والأوشرية «3» على صافيتا من عمل طرابلس،
وكانوا حضروا إلى النّاحية المذكورة جافلين من قرا يوسف، وأفسدوا
بالبلاد، فنهاهم الأمير برسباى المذكور فلم ينتهوا، فركب عليهم وقاتلهم
فى يوم الثلاثاء سادس عشرين شعبان من سنة إحدى وعشرين المذكورة، فقتل
بينهم خلق كبير، منهم: الأمير سودون الأسندمرى أتابك طرابلس، وانهزم
باقيهم عراة، فغضب الملك المؤيد، ورسم بعزله عن نيابة طرابلس واعتقاله
بقلعة المرقب، وولّى سودون القاضى نيابة طرابلس عوضه، فدام فى سجن
المرقب مدّة إلى أن كتب الملك المؤيد بالإفراج عنه فى العشرين من
المحرم سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة، وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف
بدمشق، كل ذلك بسعى الأمير ططر فى أمره، فاعتمرّ بدمشق إلى أن مات
الملك المؤيّد، وخرج جقمق عن طاعة ططر، وقبض على برسباى المذكور، وسجنه
بقلعة دمشق إلى أن أطلقه الأتابك ألطنبغا القرمشىّ، وخرج إلى ملاقاة
الأمير ططر لما قدم دمشق، وانضم عليه إلى أن خلع عليه ططر باستقراره
دوادارا كبيرا بعد الأمير على باى المؤيدىّ، فلم تطل أيّامه فى
الدّواداريّة، ومات ططر بعد أن جعله لالا لولده الملك الصالح محمّد،
وجعل جانى بك الصّوفىّ الأتابك مدبر مملكة ولده الصالح المذكور، ووقع
ما حكيناه فى ترجمة الملك الصالح من واقعته مع جانى بك الصّوفى، ثم مع
طرباى، ثم من خلعه الملك الصالح وسلطنته.
(14/246)
ولما تمّ أمر الملك الأشرف برسباى هذا فى
السّلطنة، وأصبح يوم الخميس تاسع شهر ربيع الآخر خلع على الأمير بيبغا
المظفرىّ أمير سلاح «1» باستقراره أتابك العساكر بالدّيار المصريّة
عوضا عن الأمير طرباى وكانت شاغرة من يوم أمسك طرباى، وخلع على الأمير
قجق العيساوىّ أمير مجلس باستقراره أمير سلاح عوضا عن بيبغا المظفّرىّ،
وخلع على الأمير آقبغا التّمرازىّ باستقراره أمير مجلس عوضا عن الأمير
قجق.
وأوّل ما بدأ به الأشرف فى سلطنته أنّه منع الناس كافّة من تقبيل الأرض
بين يديه، فامتنعوا من ذلك، وكانت هذه العادة- أعنى عن تقبيل الأرض-
جرت بالديار المصريّة من أيّام المعزّ معدّ أوّل خلفاء بنى عبيد بمصر
المقدّم ذكره فى هذا الكتاب، وبقيت إلى يوم تاريخه، وكان لا يعفى أحدا
عن تقبيل الأرض.
والكلّ يقبل الأرض: الوزير والأمير والمملوك وصاحب القلم ورسل ملوك
الأقطار، إلّا قضاة الشّرع وأهل العلم وأشراف الحجاز، حتى لو ورد مرسوم
السلطان على ملك من نوّاب السّلطان قام على قدميه وخرّ إلى الأرض
وقبلها قبل أن يقرأ المرسوم، فأبطل الملك الأشرف ذلك وجعل بدله تقبيل
اليد، فمشى ذلك أيّاما ثم بطل، وعاد تقبيل الأرض لكن بطريق أحسن من
الأولى؛ فإن الأولى كان الشخص يخر إلى الأرض حتى يقبلها «2» كالسّاجد،
والآن صار الرجل ينحنى كالرّاكع ويضع أطراف أصابع يده على الأرض
كالمقبّل لها ثمّ يقوم ولا يقبّل الأرض بفمه أبدا بل ولا يصل بوجهه إلى
قريب الأرض، فهذا على كلّ حال أحسن مما كان أوّلا بلا مدافعة، فعدّ ذلك
من حسنات الملك الأشرف برسباى.
ثم فى يوم الثلاثاء رابع عشر شهر ربيع الآخر المذكور خلع السلطان الملك
الأشرف على الأمير تنبك العلائى ميق نائب الشام خلعة السّفر، وتوجّه
إلى محلّ كفالته.
(14/247)
ومن خرق العادات أيضا فى سلطنة الملك «1»
الأشرف أنه لما تسلطن لم ينفق على المماليك السّلطانية، وأعجب من ذلك
أنه ما طولب بها، وهذا أغرب وأعجب.
ثم رسم السلطان الملك الأشرف- فى يوم الخميس ثامن جمادى الأولى، ونودى
بذلك فى القاهرة- بأن لا يستخدم أحد من اليهود ولا من النصارى فى ديوان
من دواوين السّلطان والأمراء، وصمّم الأشرف على ذلك، فلم يسلم من بعض
عظماء الأقباط من مباشرى الدّولة فلم يتمّ ذلك.
ثم قدم الخبر على السلطان بكثرة الوباء ببلاد حلب وحماة وحمص فى رابع
عشر جمادى الآخرة، ورسم السلطان فنودى بسفر الناس إلى مكّة فى شهر رجب،
فكثرت المسرّات، بذلك لبعد العهد بسفر الرجبيّة.
ثم جلس السلطان للحكم بين الناس كما كان الملك المؤيّد ومن قبله، وصار
يحكم فى يومى السبت والثلاثاء بالمقعد من الإسطبل السلطانى، ثم كتب
السلطان إلى الأمير تنبك البجاسىّ نائب حلب أن يتوجّه إلى بهسنا «2»
لحصار تغرى بردى المؤيّدى المعزول عن نيابة حلب.
ثم ورد الخبر على السلطان بخروج الأمير إينال نائب صفد عن الطاعة، وكان
سبب خروجه عن الطّاعة أنه كان من جملة مماليك الملك الظّاهر ططر، ربّاه
صغبرا ثم ولاه نيابة قلعة صفد بعد سلطنته، فلما قام الملك الأشرف بعد
الملك الظاهر ططر بالأمر ولّى إينال المذكور نيابة صفد، وبلغه خلع ابن
أستاذه الملك الصالح محمد من السلطنة، فشقّ عليه ذلك، وأخذ فى تدبير
أمره، واتّفق مع جماعة على العصيان، وخرج عن الطّاعة، وأفرج عمّن كان
محبوسا بقلعة صفد، وهم: الأمير يشبك أنالى المؤيّدى
(14/248)
الأستادار ثم رأس نوبة النّوب، والأمير
إينال الجكمى أمير سلاح ثم نائب حلب، والأمير جلبّان أمير آخور أحد
مقدّمى الألوف، وقبض على من خالفه من أمراء صفد وأعيانها، ففى الحال
كتب السلطان الملك الأشرف للأمير مقبل الحسامى الدّوادار حاجب حجّاب
دمشق باستقراره فى نيابة صفد «1» ، وأن يستمرّ إقطاع الحجوبيّة بيده
حتى يتسلّم صفد، ثم كتب إلى الأمير تنبك ميق نائب الشّام أن يخرج بعسكر
دمشق لقتال إينال المذكور، وبينما السلطان فى ذلك ورد عليه الخبر بوقعة
كانت بين الأمير يونس الرّكنىّ نائب غزّة وبين عرب جرم، وان يونس
المذكور انهزم وقتل عدّة من عسكره، ثم وردت الأخبار بكثرة الفتن فى
بلاد الصّعيد، ثم ورد على السلطان كتاب الأمير تنبك ميق نائب الشّام
بمجيء الأمير إينال الجكمى، ويشبك أنالى، وجلبّان أمير آخور إليه من
صفد طائعين للسلطان، فدقّت البشائر لذلك.
وفى سابع عشرين شهر رجب قدم الأمير فارس نائب الإسكندرية إلى القاهرة
بطلب، وخلع عليه باستمراره على إمرته وإقطاعه بمصر، وهى تقدمه ألف
بالدّيار المصرية، وخلع على الأمير أسندمر النورىّ الظاهرىّ برقوق أحد
أمراء الألوف باستقراره فى نيابة الإسكندرية عوضا عن فارس المذكور.
ولما كان يوم الخميس رابع شعبان- الموافق لتاسع عشرين أبيب «2» - أوفى
النيل ستّة عشر ذراعا، وهذا من النّوادر من الوفاء قبل مسرى بيومين،
فتباشر الناس بكعب الملك الأشرف [برسباى] «3» .
ثم فى يوم الثلاثاء سادس عشر شعبان المذكور أخرج الملك المظفّر أحمد
ابن الملك المؤيّد شيخ وأخوه من قلعة الجبل نهارا وحملا فى النّيل إلى
الإسكندرية.
وفى هذا الشهر كثر عبث الإفرنج بسواحل المسلمين، وأخذوا مركبا للتجّار
(14/249)
من ميناء الإسكندرية فيها بضائع بنحو مائة
ألف دينار، فشقّ ذلك على الملك الأشرف إلى الغاية مع شغله بنائب صفد.
ثم فى حادى عشرين شهر رمضان خلع السلطان على الأمير أيتمش الخضرى
الظّاهرىّ باستقراره أستادارا عوضا عن أرغون شاه النّوروزىّ الأعور،
وقدم عليه الخبر بتوجّه عسكر الشام مع الأمير مقبل إلى جهة صفد، وأنه
مستمرّ على حصار صفد، فسرّ السلطان بذلك، وكتب إلى نائب الشام بالقبض
على الأمير إينال الجكمى ويشبك أنالى وجلبّان وحبسهم بقلعة دمشق.
ثم فى سابع عشرين شوّال قدم الخبر على السلطان بأخذ صفد، وقدم من صفد
ثلاثون رجلا فى الحديد ممّن أسر من أصحاب إينال نائب صفد، فرسم السلطان
بقطع أيديهم فقطعوا الجميع إلا واحدا منهم فإنه وسط، وأخرج الذين قطعت
أيديهم من القاهرة من يومهم إلى البلاد الشامية، فمات عدّة منهم
بالرمل، ولم يشكر الملك الأشرف على ما فعله من قطع أيدى هؤلاء.
وكان من خبر هؤلاء وإينال نائب صفد أنه لما قدم عليه الأمير مقبل
الدّوادار بعساكر دمشق انهزم منهم إلى قلعة صفد، فلم يزل مقبل على حصار
قلعة صفد، إلى يوم الاثنين رابع شوال فنزل إليه إينال بمن معه بعد أن
تردّدت الرسل بينهم أيّاما كثيرة، فتسلم أعوان السلطان قلعة صفد فى
الحال، وعندما نزل إينال أمر الأمير مقبل أن تفاض عليه خلعة السلطان
ليتوجّه أميرا بطرابلس، وكان قد وعد بذلك لما تردّدت الرسل بينهم وبينه
مرارا حتى استقرّ الأمر على أن يكون إينال المذكور من جملة أمراء
طرابلس، وكتب له السلطان أمانا ونسخة يمين فانخدع الخمول ونزل من
القلعة، فما هو إلا أن قام بلبس الخلعة وإذا هم أحاطوا به وقيّدوه
وعاقبوه أشدّ عقوبة على إظهار المال، ثم قتلوه وقتلوا معه مائة رجل ممن
كان معه بالقلعة، وعلّقوهم بأعلاها، ثم أرسلوا بهذه الثلاثين الذين
قطعت أيديهم.
ثم بعد ذلك بأيام ورد الخبر بأن الأمير تغرى بردى المؤيدى سلم قلعة
بهسنا ونزل
(14/250)
بالأمان فأخذه تنبك البجاسى، وقيده وحمله
إلى قلعة حلب فسجنه بها، وزال ما كان بالملك الأشرف من جهة صفد وبهسنا،
وهدأ سره واطمأن خاطره.
ثم فى يوم الاثنين ثانى ذى القعدة ركب السلطان من قلعة الجبل إلى مطعم
الطّيور بالريدانية خارج القاهرة ولبس به قماش الصوف برسم الشتاء على
عادة الملوك، ثم عاد إلى القاهرة من باب النّصر، ورأى عمارته بالركن
المخلق «1» ، وخرج من باب زويلة إلى القلعة، ونثر عليه الدنانير
والدراهم، وهذه أوّل ركبة ركبها من يوم تسلطن.
ثم فى يوم الخميس خامس ذى القعدة عزل السلطان أيتمش الخضرى «2» عن
الأستادارية وأعيد إليها أرغون شاه النوروزى، ولم تشكر سيرة أيتمش لشدة
ظلمه مع عجزه عن القيام بالكف السلطانية.
ثم فى يوم الخميس رابع ذى الحجّة اختفى الوزير تاج الدين عبد الرزّاق
بن كاتب المناخ فخلع السلطان على أرغون شاه الأستادار وأضيف إليه الوزر
«3» فى يوم الاثنين ثامن ذى الحجّة.
ثم خلع السلطان على القاضى علم الدين صالح ابن الشيخ سراج الدين عمر
البلقينى باستقراره قاضى قضاة الشافعية بالديار المصرية عوضا عن ولىّ
الدين أبى زرعة العراقى بحكم عزله.
[ما وقع من الحوادث سنة 826]
ثم فى المحرم أنعم السلطان على مملوكه جانبك الخازندار بإمرة طبلخاناه
من جملة إقطاع الأمير فارس المعزول عن نيابة الإسكندريّة بعد موته.
ثم رسم السلطان بطلب الأمير إينال النوروزى نائب طرابلس فحضر إلى
القاهرة
(14/251)
فى يوم الاثنين سادس عشرين صفر من سنة ست
وعشرين وثمانمائة، وطلع إلى القلعة فأكرمه السلطان.
وخلع على الأمير قصروه من تمراز الأمير آخور الكبير باستقراره فى نيابة
طرابلس عوضا عن إينال النوروزى المقدّم ذكره، وأنعم على الأمير إينال
المذكور بإقطاع الأمير قصروه، وإينال المذكور هو صهرى زوج كريمتى، وأخذ
الأمير قصروه فى إصلاح شأنه إلى أن خلع السلطان عليه خلعة السّفر فى
يوم ثانى عشر صفر، وخرج من يومه ولم يستقر أحد فى الأمير آخورية
الكبرى.
ثم فى يوم الثلاثاء خامس عشرين شهر ربيع الأول سنة ست وعشرين ثارت ريح
مريسية «1» طول النهار، فلما كان قبل الغروب بنحو ساعة ظهر فى السماء
صفرة من عند غروب الشمس كست الجو والجدران والأرض بالصفرة، ثم أظلم
الجو حتى صار النهار مثل وقت العتمة، فما بقى أحد إلا واشتد فزعه،
ولهجت العامة بأن القيامة تقوم.
فلمّا كان بعد ساعة وهو وقت الغروب أخذ الظلام ينجلى قليلا قليلا
ويعقبه ريح عاصف [حتى] «2» كادت المبانى تتساقط منه، وتمادى ذلك طول
ليلة الأربعاء، فرأى الناس أمرا مهولا مزعجا من شدّة هبوب الرّياح
والظّلمة التى كانت فى النهار، وعمّت هذه الظلمة أرض مصر حتى وصلت
دمياط والإسكندرية وجميع الوجه البحرى وبعض بلاد الصّعيد، ورأى بعض من
يظنّ به الخير والصلاح فى منامه كأن قائلا يقول له: لولا شفاعة رسول
الله- صلّى الله عليه وسلم- لأهل مصر لأهلكت هذه الريح الناس، لكنه شفع
فيهم فحصل اللطف. قلت: لم أر قبلها مثلها ولا بعدها [مثلها] «3» ، وكان
هذا اليوم من الأيام المهولة التى لم يدركها أحد من الطاعنين فى السّن-
انتهى.
(14/252)
ثمّ فى يوم الاثنين ثانى شهر ربيع الآخر
ركب السلطان من قلعة الجبل وعدّى النيل إلى برّ الجيزة، وأقام بناحية
وسيم- حيث مربط الخيول على الرّبيع- بأمرائه ومماليكه يتنزه، وأقام به
سبعة أيّام والخدمة تعمل هناك إلى أن عاد فى تاسعه، وأقام بالقلعة إلى
يوم الخميس سادس عشرين [شهر] «1» ربيع الآخر المذكور فوصل فيه الأمير
تنبك البجاسىّ «2» نائب حلب إلى القاهرة وطلع إلى السلطان، وقبّل الأرض
بين يديه على ما قرّره الملك الأشرف فى أوّل سلطنته، ثم خلع السلطان
عليه خلعة الاستمرار وأنزله بمكان ورتّب له ما يليق به، وأقام تنبك إلى
يوم الخميس ثالث جمادى الأولى، وخلع السلطان عليه خلعة السّفر، وخرج من
يومه إلى محلّ كفالته بحلب.
ثم فى يوم الاثنين رابع عشر جمادى الأولى المذكورة خلع السلطان على
الأمير جقمق «3» العلائى حاجب الحجّاب باستقراره أمير آخور [كبيرا] «4»
عوضا عن قصروه المنتقل إلى نيابة طرابلس، وكانت شاغرة من يوم ولى قصروه
نيابة طرابلس إلى يومنا هذا.
ثم ورد الخبر فى جمادى الآخرة بعظم الوباء بدمشق، وأنه وصل إلى غزّة،
واستمرّ السلطان ولم يكن عنده ما يشوّش عليه فى جميع أشيائه إلى أن كان
يوم الجمعة سابع شعبان ورد الخبر على السلطان بأنّ الأمير الكبير جانى
بك الصّوفى فرّ «5» من الإسكندرية من البرج الذي كان مسجونا به، وخرج
من الثّغر المذكور ولم يفطن به أحد، فلمّا سمع السلطان هذا الخبر كادت
نفسه أن تزهق، وقامت قيامته، ومن يومئذ حلّ بالناس من البلاء والعقوبات
والهجم على البيوت ما سنذكره فى طول سلطنته،
(14/253)
وتنغّص عيش الأشرف من يوم بلغه الخبر،
واستوحش من جماعة كبيرة من أمرائه، وأمسكهم ونفى منهم آخرين- حسبما
نذكر ذلك كلّه فى وقته.
ثم فى يوم الخميس العشرين من شعبان خلع السلطان على الأمير جرباش
الكريمىّ المعروف بقاشق باستقراره حاجب الحجّاب بالدّيار المصرية عوضا
عن جقمق العلائى بحكم انتقال جقمق أمير آخور كبيرا، وكانت الحجوبيّة
شاغرة عن جقمق من يوم ولى الأمير آخورية.
وفيه رسم السلطان بانتقال الأمير تنبك البجاسىّ نائب حلب إلى نيابة
دمشق «1» عوضا عن الأمير تنبك ميق بحكم وفاته، واستقر الأمير جار قطلو
الظاهرىّ نائب حماة «2» فى نيابة حلب عوضا عن تنبك البجاسىّ، وكان جار
قطلو أيضا ولى نيابة حماة عن تنبك البجاسىّ كما تقدّم ذكره؛ وكذا وقع
أيضا فى الدّولة المؤيّدية أنه بعد عصيان تنبك البجاسىّ مع قانى باى
نائب الشّام وتوجّهه إلى بلاد الشّرق ولى جار قطلو نيابة حماة بعده
أيضا، والعجب أن جارقطلو كان أغاة تنبك البجاسىّ، فكانا إذا اجتمعا فى
مهمّ سلطانى لا يجلس تنبك البجاسى من ناحية جار قطلو لئلا يجلس فوقه
حياء منه- انتهى.
وتولى الأمير جلبّان أمير آخور المؤيّد- وهو يوم ذاك أحد مقدّمى الألوف
بدمشق- نيابة حماة عوضا عن جارقطلو، وتوجّه الأمير جانى بك الخازندار
الأشرفىّ «3» فى ثامن عشرين شعبان المذكور بتقاليد المذكورين وتشاريفهم
الجميع، وكان هذا الأمر يتوجه فيه ثلاثة من أعيان الأمراء، فأضاف
الأشرف جميع ذلك لجانى بك، كونه كان خصّيصا عنده ربّاه من أيام إمرته،
فعاد إلى مصر ومعه من الأموال جملة مستكثرة.
(14/254)
ثم فى يوم الاثنين ثانى شهر رمضان- الموافق
لسادس عشر مسرى- أو فى النيل ستة عشر ذراعا فنزل المقام الناصرى محمد
بن السلطان فى وجوه الأمراء وأعيان الدولة حتى خلّق المقياس، وفتح خليج
السّدّ على العادة، وهو أوّل نزوله إلى ذلك، وكان فى العام الماضى
تولّى ذلك الأمير الكبير بيبغا المظفّرى.
وفيه أخرج السلطان الأمير سودون الأشقر الظاهرىّ «1» رأس نوبة النّوب-
كان- فى دولة الملك الناصر، ثم أمير مجلس فى دولة الملك المؤيّد، وهو
يومئذ أمير عشرين بمصر، منفيّا إلى القدس، ثم شفع فيه فأنعم عليه بإمرة
مائة وتقدمة ألف بدمشق، وأنعم بإمرته على شريكه الأمير كزل العجمىّ
الأجرود الذي كان حاجب الحجّاب فى الدّولة الناصريّة فرج، فصار من جملة
الطبلخانات، والإقطاع المذكور هو ناحية ميمون بالوجه القبلى.
وفيه ندب السلطان عدّة أمراء إلى السّواحل لورود الخبر بحركة الفرنج،
فتكامل خروجهم فى ثامن عشرين شهر رمضان المذكور، وكان الذي توجّه منهم
من مقدّمى الألوف إلى ثغر الإسكندرية الأمير آقبغا التّمرازىّ أمير
مجلس.
ثم فى يوم الخميس عاشر شوّال خلع السلطان على جمال الدين يوسف بن
الصّفّىّ «2» الكركىّ، واستقرّ كاتب السّرّ الشّريف بالديار المصرية
بعد موت علم الدين داود ابن الكويز.
قال الشيخ تقىّ الدين المقريزى- رحمه الله تعالى: فأذكرتنى ولايته بعد
ابن الكويز قول أبى القاسم خلف الألبيرى المعروف بالسميسر وقد هلك وزير
يهودىّ لباديس بن حبوس الحميرى أمير غرناطة من بلاد الأندلس فاستوزر
بعد اليهودى وزيرا نصرانيا فقال: [الخفيف]
كلّ يوم إلى ورا ... بدّل البول بالخرا
(14/255)
فزمانا تهوّدا ... وزمانا تنصّرا
وسيصبو إلى المجو ... س إذا الشّيخ عمرا
قال وقد كان أبو الجمال هذا من نصارى الكرك، وتظاهر بالإسلام فى واقعة
كانت للنّصارى هو وأبو علم الدين داود بن الكويز، وخدم كاتبا عند قاضى
الكرك عماد الدين أحمد المقيرى، فلما قدم عماد الدين إلى القاهرة وصل
أبو جمال الدين هذا فى خدمته، وأقام ببابه حتى مات وهو بائس فقير، لم
يزل دنس الثياب مغتم الشكل، وابنه جمال الدين هذا معه فى مثل حاله، ثم
خدم جمال الدين هذا بعد موت القاضى عماد الدين عند التّاجر برهان الدين
إبراهيم المحلى كاتبا لدخله وخرجه، فحسنت حاله وركب الحمار، ثم سار بعد
المحلى إلى بلاد الشّام وخدم بالكتابة هناك، حتى كانت أيّام [الملك]
«1» المؤيّد شيخ فولّاه علم الدين بن الكويز نظر الجيش بطرابلس، فكثر
ماله بها، ثم قدم فى آخر أيّام ابن الكويز إلى القاهرة، فلما مات ابن
الكويز وعد بمال كبير حتى ولى كتابة السّرّ بالديار المصرية، فكانت
ولايته من أقبح حادثه رأيناها- انتهى كلام المقريزى برمته.
قلت: وعدّ ولاية هذا الجاهل لمثل هذه الوظيفة العظيمة من غلطات الملك
الأشرف وقبح جهله، فإنه لو كان عند الملك الأشرف معرفة وفضيلة [لا
نتظر] «2» حتى يرد عليه كتاب من بعض ملوك الأقطار يشتمل على نثر ونظم
وفصاحة وبلاغة، وأراد الأشرف من كاتب سرّه أن يجيب عن ذلك بأحسن منه أو
بمثله- كما كان يفعله الملك الناصر محمد بن قلاوون وغيره من عظماء
الملوك- لعلم تقصير من ولّاه لهذه الوظيفة، ولاحتاج لعزله فى الحال
ولولاية غيره ممن يصلح؛ لئلا يظهر فى ملكه بعض تقصير ووهن؛ لأنه يقال
فى الأمثال «تعرف شهامة الملك وعظمته من ثلاث:
كتابه، ورسله، وهديته» فهذا شأن من يكون له شهامة وعلوّ همّة من الملوك
[وأما
(14/256)
الذي بخلاف ذلك فسدّ بمن شئت وول من كان-
بالبذل- ولو كان حارس مقات] «1» ولهذا المقتضى ذهبت الفنون، واضمحلّت
الفضائل، وسعى الناس فى جمع المال حيث علموا أن الرّتب صارت معذوقة
بالباذل «2» لا بالفاضل، وهذا على مذهب من قال:-[الكامل]
المال يستر كلّ عيب فى الفتى ... والمال برفع كلّ وغد ساقط
فعليك بالأموال فاقصد جمعها ... واضرب بكتب الفضل بطن الحائط
- انتهى.
ثم كتب السلطان باستقرار الأمير آقبغا التّمرازى أمير مجلس فى نيابة
الإسكندرية «3» عوضا عن الأمير أسندمر النّورىّ الظاهرى برقوق، وقدم
أسندمر [المذكور] «4» من الإسكندرية إلى القاهرة فى رابع عشر شوال
وقبّل الأرض، ونزل إلى داره، وكان بيده إمرة مائة وتقدمة [ألف] «5»
زيادة على نيابة الإسكندرية، وبعد نزوله أرسل السلطان خلف السّيفى
يلخجا من مامش السّاقى الناصرىّ وأمره أن يأخذ الأمير أسندمر هذا
ويتوجّه به إلى ثغر دمياط بطّالا، وكان ذنب أسندمر المذكور تفريطه فى
أمر جانى بك الصّوفى حتى فرّ من سجنه، ولولا أن أسندمر المذكور كان من
أغوات الملك الأشرف المذكور ومن أكابر إنّيّات الأمير چاركس القاسمىّ
المصارع لكان له معه شأن آخر.
ثم فى تاسع عشر شوّال خرج محمل الحاج صحبة أمير الحاج الطّواشى افتخار
الدين ياقوت الأرغون شاوىّ الحبشى مقدم المماليك السلطانيّة، وهذه ثانى
سفرة سافرها
(14/257)
بالمحمل، وكان أمير حاج الأوّل الأمير
إينال الشّشمانىّ الناصرى أحد أمراء العشرات ورأس نوبة، وحججت أنا أيضا
فى هذه السنة.
ثم فى سابع عشرين شوّال أمسك السلطان الأمير أرغون شاه النّوروزى
الأستادار والوزير لعجزه عن القيام بجوامك المماليك السلطانية مع ظلمه
وعسفه.
ثم أصبح السلطان فى يوم الاثنين ثامن عشرينه خلع على ناصر الدين محمد
ابن شمس الدين محمد بن موسى المعروف بابن المرداوى والمعروف بابن بولى،
والعامة تسميه ابن أبى والى باستقراره أستادارا عوضا عن أرغون شاه
المذكور، وعوقب أرغون شاه يين يدى السلطان.
وخبر ابن بولى هذا وأصله أنه كان أبوه من حجة ومردة من أعمال الشّام،
وسكن القدس وصار من جملة التّجّار، وولد له ابنه هذا فتزيّا بزىّ الجند
وخدم من جملة الأجناد البلاصيّة «1» عند الأمير أرغون شاه المذكور أيام
أستاداريته لنوروز، ثم تنقّل إلى أن صار أستادار الأمير جقمق الدّوادار
وصادره جقمق وصرفه بعد أن كثر ماله، ثم خدم بعد ذلك فى عدّة جهات إلى
أن طلب إلى مصر، وألزم بحمل عشرين ألف دينار، فوعد أنه يحمل منها ثلاثة
آلاف دينار ويمهل فيما بقى عدّة أيام، فلمّا قبض السلطان على أرغون شاه
المذكور سوّلت له نفسه وزيّن له شيطانه أن يكون أستادارا ويسدّ المبلغ
الذي ألزم بحمله من وظيفة الأستادارية، فكان خلاف ما أمّل، ونزل
بالخلعة إلى بيت أرغون شاه المذكور وعليه قماشه، ثم تسلّم أرغون شاه
وأدخله إلى داره المذكورة وهو فى الحديد، فرأى أرغون شاه من كان من
جملة غلمانه قد جلس على مقعده وفى بيته وتحكّم فيه وأخذ يعاقبه بحضرة
من كان يخدمه بها، فلما رأى ما حلّ به دمعت عيناه وبكى، فكان فى هذا
الأمر عبرة لمن اعتبر.
وفى هذا اليوم المذكور خلع السلطان عن الأمير إينال النّوروزىّ المعزول
عن نيابة طرابلس قبل تاريخه باستقراره أمير مجلس عوضا عن آقبغا
التّمرازى، وكلاهما
(14/258)
صهرى وزوج إحدى أخواتى.
وفيه أيضا خلع السلطان على كريم الدين عبد الكريم ابن الوزير تاج الدين
عبد الرزاق بن كاتب المناخ باستقراره وزيرا وذلك فى حياة والده، حكى
الصاحب كريم الدين قال: دخلت بخلعة الوزارة على والدى فقال لى: يا عبد
الكريم أنا ولّيت هذه الوظيفة ومعى خمسون ألف دينار ذهبت فيها ولم أسد،
تسد أنت من أين؟ قال فقلت: من أضلاع المسلمين، فضحك وحوّل وجهه عنى.
ثم فى يوم الخميس أوّل ذى القعدة قدم إلى القاهرة جماعة من إخوة
السلطان وأقاربه من بلاد الچاركس بعد أن خرج الأمراء إلى لقائهم، وكبير
القوم يشبك أخو السلطان الملك الأشرف.
وفيه خرج من القاهرة الأمير قجق العيساوىّ أمير سلاح، والأمير أركماس
الظاهرى أحد مقدّمى الألوف، وزين الدين عبد الباسط بن خليل ناظر الجيش
إلى مكة «1» على الرّواحل حاجّين.
ثم فى سادس عشر ذى القعدة [المذكورة] «2» قدم الأمير جانى بك الأشرفىّ
الخازندار من الشّام بعد تقليد نائبها الأمير تنبك البجاسىّ فخلع
السلطان عليه باستقراره دوادارا «3» ثانيا عوضا عن الأمير قرقماس
الشّعبانى النّاصرى فرج بحكم استقراره أمير مائة ومقدّم ألف وتوجّهه
أمير مكّة، ومن يومئذ عظم أمر جانى بك المذكور فى الدّولة حتى صار هو
صاحب عقدها وحلّها، ونال من السعادة والوجاهة والحرمة فى الدّولة ما لم
ينله دوادار فى عصره ولا من بعده إلى يومنا هذا.
وفى هذه الأيام اشتدّ طلب السلطان على جانى بك الصّوفىّ، وقبض على بعض
المماليك بسببه، وعوقب بعضهم حتى هلك، ثم أمسك السلطان أصهار جانى بك
الصّوفى
(14/259)
أولاد قطلوبك الأستادار، وعاقب بعض
حواشيهم، هذا بعد الهجم على بيوت جماعة كبيرة ممن يغمز عليهم بعض
أعدائهم، فيحل على صاحب البيت المذكور من البلاء والرجيف مالا مزيد
عليه، وتداول ذلك سنين وهذا أوله حسبما يأتى ذكره.
ثم فى ثامن عشرين ذى الحجة قدم مبشّر الحاج وأخبر بالأمن والرّخاء
وكثرة الأمطار، غير أن الشريف حسن بن عجلان لم يقابل أمير الحاج ونزح
عن مكّة لما أشيع أن السلطان يريد القبض عليه، فغضب السلطان لذلك ورسم
فنودى على المماليك البطّالين ليجهزوا إلى التجريدة لقتال أشراف مكّة.
ثم اشتغل السلطان عن ذلك بأمر جانى بك الصّوفى، وأخذ فيما هو فيه من
كبس البيوت وإرداع الناس، وأيضا لما ورد عليه أن متملك الحبشة وهو أبرم
ويقال إسحاق ابن داود «1» بن سيف أرعد قد غضب بسبب غلق كنيسة قمامة «2»
بالقدس، وقتل عامّة من كان فى بلاده من رجال المسلمين، واسترقّ نساءهم
وأولادهم، وعذّبهم عذابا شديدا، وهدم ما فى مملكته من المساجد، وركب
إلى بلاد جبرت، فقاتلهم حتى هزمهم، وقتل عامّة من كان بها، وسبى
نساءهم، وهدم مساجدهم، فكانت فى المسلمين ملحمة عظيمة فى هذه السّنة لا
يحصى فيها من قتل من المسلمين، فاشتاط السلطان غضبا، وأراد قتل بطرك
النّصارى وجميع ما فى مملكته من النّصارى ثم رجع عن ذلك.
[ما وقع من الحوادث سنة 827]
ثم فى يوم الاثنين ثانى المحرم من سنة سبع وعشرين وثمانمائة قدم الأمير
مقبل الحسامى الدّوادار نائب صفد إلى القاهرة، وقبّل الأرض بين يدى
السلطان، فخلع عليه باستقراره على عمله «3» .
وفى ثامن المحرم قدم الأمير قجق، وأركماس الظاهرى وعبد الباسط من الحج،
(14/260)
وتأخّر الأمير قرقماس الشّعبانى بالينبع،
وأرسل يطلب عسكرا ليقاتل به الشّريف حسن بن عجلان صاحب مكّة ويستقرّ
عوضه فى إمرة مكّة، فنودى على المماليك البطّالة وعيّن منهم جماعة مع
حسين الكردى الكاشف ليتوجّه بهم إلى مكة.
هذا وقد اشتغل سر السلطان «1» بما أشيع من عصيان الأمير تنبك البجاسىّ
نائب دمشق، وصار خبر الإشاعة عنده هو الأهمّ، وأخذ يدبّر فى القبض عليه
قبل أن يستفحل أمره، وكتب عدّة ملطّفات لأمراء دمشق بالقبض عليه، هذا
وقد قوى عند الملك الأشرف خروجه عن الطاعة، وبادر وخلع على الأمير «2»
سودون من عبد الرحمن الدّوادار فى يوم الاثنين ثالث عشرين المحرّم
باستقراره فى نيابة دمشق عوضا عن تنبك البجاسىّ، فلبس سودون من عبد
الرحمن الخلعة ونزل من القلعة سائرا إلى دمشق على جرائد الخيل، ولم
يدخل إلى داره، وسار سودون من عبد الرحمن إلى جهة دمشق وقد تقدّمته
الملطّفات بمسك تنبك المذكور، فلما وقف أمراء دمشق على الملطّفات،
اتّفقوا الجميع وركبوا بمن معهم وأتوادار السّعادة فى ليلة الجمعة رابع
صفر، واستدعوا الأمير تنبك البجاسى المذكور ليقرأ كتاب السلطان، فعلم
بما هو القصد وخرج من باب السّرّ- وعليه السلاح- فى جميع مماليكه
وحواشيه، فأقبلوا عليه الأمراء وقاتلوه حتى مضى صدر من نهار الجمعة
المذكور، ثم انهزموا منه أقبح هزيمة وتشتت شملهم، فتحصّن منهم طائفة
بقلعة دمشق، ومضى منهم آخرون إلى الأمير سودون من عبد الرحمن، فوافوه
وهو نازل على صفد، واستولى تنبك المذكور على دمشق وقوى بأسه، وكان
انضمّ عليه من أمراء دمشق الأمير قرمش الأعور المقدّم ذكره من أصحاب
جانى بك الصّوفىّ، والأمير تمراز المؤيّدى الخازندار وغيرهما من أمراء
دمشق، ثم تجهّز تنبك البجاسىّ هو وأصحابه لمّا بلغهم قدوم سودون من عبد
الرحمن، وخرج من دمشق بجموعه فى أسرع وقت، وسار حتى وافى الأمير
(14/261)
سودون من عبد الرحمن وهو نازل على جسر
يعقوب «1» فى يوم الجمعة حادى عشر صفر وقد قطع سودون من عبد الرحمن
الجسر لئلا يصل إليه تنبك المذكور، وكان سودون لما خرج من مصر بمماليكه
وسار إلى جهة دمشق حتى نزل على صفد وافاه الأمير مقبل الحسامى نائب صفد
بعساكر صفد وسارا معا حتى نزلا جسر يعقوب، فلمّا بلغ سودون مجىء تنبك
إليه جبن عن قتاله وقطع الجسر، فقدم تنبك فلم يجد سبيلا لقتال سودون
فبات كل منهما من جهة، وكلاهما لا يصل إلى الآخر بسوء، فبانوا يتحارسون
إلى الصباح.
فلما أصبح يوم السبت ثانى عشر صفر شرعوا يترامون بالنّشّاب نهارهم كله
حتى حجز الليل بينهم، فباتوا ليلة الأحد على تعبئتهم وقد قوى أمر تنبك،
وأصبح الأمير تنبك فى يوم الأحد ثالث عشره راحلا إلى جهة الصّبيبة فى
انتظار ابن بشارة أن يأتيه بجموعه، وقد أرصد جماعة لسودون من عبد
الرحمن بوطاقه، فكتب سودون من عبد الرحمن بذلك إلى السلطان.
ثم ركب بمن معه على جرائد الخيل وقصد مدينة دمشق وترك الأثقال فى
مواضعها مع نائب القدس يوهم عسكر تنبك البجاسىّ أنه مقيم بمكانه، وساق
حتى دخل دمشق فى يوم الأربعاء سادس عشر صفر المذكور وملك المدينة
وتمكّن من قلعة دمشق، وبلغ الأمير تنبك البجاسىّ ذلك فركب من وقته وساق
حتى وافى سودون من عبد الرحمن بدمشق من يومه، وبلغ سودون قدومه فخرج
إليه وتلقّاه بمن معه من عساكر دمشق بباب الجابية وقاتلوه فثبت لهم
تنبك البجاسىّ مع قلّة عسكره وكثرة عساكرهم، وقاتلهم أشد قتال والرّمى
ينزل عليه من قلعة دمشق، وهو مع ذلك يظهر التجلّد إلى أن حرّك فرسه فى
غرض له فأصابه ضربة على كتفه حلّته فتقنطر عند ذلك عن فرسه، فتكاثروا
عليه وأخذوه أسيرا إلى قلعة دمشق ومعه نحو
(14/262)
عشرين من أصحابه، وفرّ من كان معه من
الأمراء إلى حال سبيلهم، وكتب الأمير سودون من عبد الرحمن فى الحال
بجميع ذلك إلى السلطان.
وأما الملك الأشرف فإنه بعد خروج سودون من عبد الرحمن أخذ ينتظر ما يرد
عليه من الأخبار فى أمر تنبك، فقدم عليه كتاب سودون من عبد الرحمن من
جسر يعقوب أوّلا فى يوم الأحد عشرين صفر فعظم عليه هذا الخبر، وعزم على
سفر الشام، واضطرب الناس ووقع الشّروع فى حركة السّفر، وأحضرت خيول
كثيرة من مرابطها من الرّبيع، وبينما الناس فى ذلك قدم كتاب سودون من
عبد الرحمن الثانى من دمشق يتضمن النّصر على تنبك البجاسىّ والقبض عليه
وحبسه بقلعة دمشق فسرّ السلطان بذلك غاية السرور ودقت البشائر، وكتب
بقتل تنبك البجاسى وحمل رأسه إلى مصر وبالحوطة على موجوده، وتتبّع
حواشيه ومن كان معه من أمراء دمشق، وهدأ سرّ السلطان من جهة دمشق،
وبطلت حركة السّفر، والتفت إلى ما كان عليه أوّلا من الفحص على جانى بك
الصّوفىّ.
فلما كان سابع عشرين صفر المذكور نودى بالقاهرة ومصر على جانى بك
الصّوفىّ ووعد من أحضره إلى السلطان بألف دينار، وإن كان جنديا بإمرة
عشرة، وهدّد من أخفاه وظهر عنده بعد ذلك بإحراق الحارة التى هو ساكن
بها، وحلف المنادى على كل واحدة مما ذكرنا يمينا عن السلطان، هذا بعد
أن قوى عند السلطان الملك الأشرف أن جانى بك الصوفىّ مختف بالقاهرة،
ولو كان بالبلاد الشامية لظهر وانضمّ مع تنبك البجاسى، وهو قياس صحيح.
ثم التفت السلطان أيضا إلى أمر مكة، فلما كان يوم الجمعة ثانى شهر ربيع
الأول نودى بالقاهرة بالخروج إلى حرب مكة المشرفة، فاستشنع الناس هذه
العبارة، ثم عيّن جماعة من المماليك السلطانية وأنفق على كل واحد منهم
أربعين دينارا.
ثم فى حادى عشرين شهر ربيع الأوّل قدم رأس الأمير تنبك البجاسىّ إلى
القاهرة فطيف بها على رمح، ثم علّقت على باب النّصر أيّاما.
(14/263)
وفى سابع عشرين شهر ربيع الأول خلع السلطان
على الأمير أزبك المحمدى الظاهرى رأس نوبة النّوب باستقراره دوادارا
كبيرا «1» عوضا عن سودون من عبد الرحمن المنتقل إلى نيابة الشام.
وخلع على الأمير تغرى بردى المحمودى الناصرى باستقراره رأس نوبة النّوب
عوضا عن أزبك المذكور.
ثم فى يوم السبت تاسع شهر ربيع الآخر خلع السلطان على القاضى شمس الدين
محمد الهروىّ باستقراره كاتب السّرّ الشريف بالديار المصرية عوضا عن
جمال الدين يوسف ابن الصّفىّ الكركىّ، ونزل فى موكب جليل وكان الهروىّ
علّامة فى فنون كثيرة من العلوم.
ثم فى يوم الجمعة سابع جمادى الأولى أقيمت الخطبة بالمدرسة الأشرفيّة
«2» بخط العنبريين من القاهرة ولم يكمل منها سوى الإيوان القبلى.
وفى يوم الاثنين ثانى جمادى الآخرة خلع السلطان على الأمير صلاح الدين
محمد ابن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله باستقراره أستادارا بعد عزل
ناصر الدين محمد بن بولى والقبض عليه، وهذه ولاية صلاح الدين الثانية
للأستادارية.
ثم فى ثانى عشره خلع السلطان على الصاحب كريم الدين بن كاتب المناخ
واستقرّ ناظر ديوان المفرد مضافا على الوزر عوضا عن القاضى كريم الدين
بن كاتب جكم.
وفى يوم الأحد خامس عشر جمادى المذكور توفّيت زوجة السلطان الملك
الأشرف ودفنت بالقبّة بالمدرسة الأشرفيّة.
قال المقريزى: واتّفق فى موتها نادرة، وهى أنها لما ماتت عمل لها ختم
«3» عند
(14/264)
قبرها فى الجامع الأشرفى «1» ونزل ابنها
الأمير ناصر الدين محمد من القلعة لحضور الختم، وقد ركب فى خدمته الملك
الصالح محمد بن ططر، فشقّ القاهرة من باب زويلة وهو فى خدمة ابن
السلطان بعد ما كان بالأمس سلطانا، وصار جالسا بجانبه فى ذلك الجمع
وقائما بخدمته إذا قام، فكان فى ذلك موعظة لمن اتّعظ- انتهى.
قلت: حضرت أنا هذه الختم المذكورة وشاهدت ما نقله المقريزى بعينى فهو
كما قال غير أنه لم يكن فى خدمته وإنما جلسا فى الصّدر معا، بل كان
الصالح متميّزا عليه فى الجلوس وكذلك فى مسيره من القلعة إلى الجامع
المذكور، وقد ذكرنا طرفا من هذه المقالة فى أواخر ترجمة الملك الصّالح
المذكور، غير أنه كما قاله المقريزى إنه من النوادر، ثم فى يوم السبت
حادى عشرين جمادى الآخرة خلع السلطان على قاضى القضاة نجم الدين عمر بن
حجّى باستقراره كاتب السّرّ الشريف بالديار المصرية بعد عزل قاضى
القضاة شمس الدين الهروى، ونزل ابن حجّى على فرس بسرج ذهب وكنبوش زركش
فى موكب جليل إلى الغاية.
قال المقريزى: وقد ظهر نقص الهروى وعجزه «2» ، فقد باشر بتعاظم زائد مع
طمع شديد وجهل بما وسّد إليه، بحيث كان لا يحسن قراءة القصص ولا الكتب
الواردة، فتولّى قراءة ذلك بدر الدين محمد بن مزهر نائب كاتب السرّ،
وصار يحضر الخدمة ويقف على قدميه وابن مزهر هو الذي يتولّى القراءة على
السلطان- انتهى كلام المقريزى برمّته.
قلت: لا يسمع قول المقريزى فى الهروى، فأما قوله «باشر بتعاظم [زائد]
«3» » فكان أهلا لذلك لغزير علمه ولما تقدّم له من الولايات الجليلة
بعمالك العجم، ثم بالديار المصرية.
وقوله «وعجزه بما وسّد إليه» يعنى عن وظيفة كتابة السرّ، نعم كان لا
يدرى الاصطلاح
(14/265)
المصرى، ولم يكن فيه طلاقة لسان بالكلام
العربىّ كما هى عادة الأعاجم، وأمّا علمه وفضله وتبحّره فى العلوم
العقلية فلا يشكّ فيه إلا جاهل، وهو أهل لهذه الرّتبة وزيادة، غير أنه
صرف عن الوظيفة بمن هو أهل لها أيضا وهو القاضى نجم الدين بن حجّى قاضى
قضاة دمشق ورئيسهم، وكلاهما أعنى المتولّى والمعزول من أعيان العلماء
وقدماء الرؤساء، والتعصّب فى غير محلّه مردود من كل أحد على كائن من
كان- انتهى.
ثم فى سلخ الشهر المذكور خلع السلطان على القاضى الشريف شهاب الدين
نقيب الأشراف بدمشق باستقراره قاضى قضاة دمشق، عوضا عن القاضى نجم
الدين بن حجّى المقدم ذكره.
ثم فى يوم الخميس رابع شهر رجب خلع السلطان على العلّامة علاء الدين
على الرّومى الحنفى باستقراره شيخ الصّوفيّة، ومدرّس الحنفية بالمدرسة
الأشرفية بخط العنبريّين بالقاهرة، وكان له مدّة يسيرة من يوم قدم من
بلاد الرّوم.
وفيه قدم «1» الخبر على السلطان بأخذ الفرنج مركبين من مراكب المسلمين
قريبا من ثغر دمياط، فيهما بضائع كثيرة وعدّة أناس يزيدون على مائة
رجل، فكتب السلطان بإيقاع الحوطة على أموال تجّار الفرنج التى ببلاد
الشام والإسكندرية ودمياط والختم عليها، وتعويقهم عن السّفر إلى بلادهم
حتى تردّ الفرنج ما أخذوه من المسلمين، فكلّمه أهل الدّولة فى إطلاقهم
فلم يقبل، وأخذ فى تجهيز غزوهم.
وفيه «2» ركب السلطان من قلعة الجبل ونزل إلى جامعه الذي أنشأه بخط
العنبرييّن المقدّم ذكره، وجلس به ساعة، ثم عاد إلى القلعة بغير قماش
الموكب «3» .
(14/266)
وفى «1» يوم الأربعاء أوّل شعبان ابتدئ
بقراءة صحيح البخارى بين يدى السّلطان.
قال المقريزى: وحضر القضاة ومشايخ العلم، والهروىّ، والشيخ شمس الدين
محمد ابن الجزرى بعد قدومه بأيّام، وكاتب السرّ نجم الدين بن حجّى،
ونائبه بدر الدين ابن مزهر، وزين الدين عبد الباسط ناظر الجيش،
والفقهاء الذين رتّبهم المؤيد، فاستجدّ.
فى هذه السنة حضور المباشرين، وكانت العادة من أيّام الأشرف شعبان بن
حسين أن تبدأ قراءة البخارى فى أول يوم من شهر رمضان، ويحضر قاضى
القضاة الشافعىّ، والشيخ سراج الدين عمر البلقينىّ وطائفة قليلة العدد
لسماع البخارى، ويختم فى سابع عشرينه، ويخلع على قاضى القضاة، ويركب
بغلة بزنّارىّ «2» تخرج له من الإسطبل السلطانى، ولم يزل الأمر على هذا
حتى تسلطن المؤيد شيخ فابتدأ بالقراءة من أول شعبان إلى سابع عشرين
[شهر] «3» رمضان، وطلب قضاة القضاة الأربعة ومشايخ العلم وقرّر عدّة من
الطلبة يحضرون أيضا، فكانت تقع بينهم أبحاث يسىء بعضهم على بعض فيها
إساءات منكرة، فجرى السلطان [الأشرف] «4» على هذا واستجدّ- كما ذكرنا-
حضور المباشرين، وكثر الجمع، وصار المجلس جميعه صياحا- انتهى.
قلت: ليس فى هذا شىء منكر وكما جدّد الأشرف [شعبان] «5» قراءة البخارى
فى شهر رمضان جعله غيره من أوّل شعبان، وكل ممّن «6» فعل ذلك سلطان
يتصرّف كيف شاء، ولا يشكّ أحد أن التأنى فى القراءة أفضل من الإدراج لا
سيما كتب
(14/267)
الحديث ليفهمه كلّ أحد من مبتدئ أو منته،
وأيضا كلّما كثر الجمع عظم الأجر والثّواب، وأما الصّياح فلم تبرح
مجالس العلم فيها البحوث والمشاحنة، ولو وقع منهم ما عسى أن يقع فهم فى
أجر وثواب، وليس للاعتراض هنا محلّ بالجملة- انتهى.
ثم فى يوم الأحد رابع شهر رمضان أخرج السلطان الأمير أرغون شاه
النّوروزى، والأمير ناصر الدين محمد بن بولى من القاهرة إلى دمشق
بطّالين، وقد تقدّم أن كليهما قد ولى الأستادارية بالديار المصرية.
وفى هذه الأيام ندب السلطان جماعة من المماليك السلطانيّة للغزاة.
ولما كان يوم الجمعة تاسع شهر رمضان سار غرابان من ساحل بولاق ظاهر
القاهرة فى بحر النيل بعد أن أشحنا بالمقاتلة والأسلحة، وكان فيهما من
المماليك السلطانيّة ثمانون نفرا غير المطّوّعة، ورسم السلطان لهم أن
يسيروا فى البحر إلى طرابلس، ويأخذوا أيضا من سواحل الشام عدّة أغربة
أخر فيها المقاتلة، ويسيروا فى البحر المالح لعلّهم يجدون من يتجرّم فى
البحر من الفرنج، وهذه أوّل غزاة «1» جهزها السلطان الملك الأشرف
برسباى رحمه الله «2» .
ثم فى يوم الثلاثاء رابع شوّال أمر السلطان بحفر صهريج «3» بوسط صحن
جامع الأزهر، فابتدءوا فيه من هذا اليوم وحفروا بوسط «4» صحن الجامع
المذكور فوجدوا فيه آثار فسقيّة قديمة وبها عدّة أموات، ثم شرعوا فى
بنائها حتى كملت وعمّر فوقها مقعد لطيف على صفة السبيل، وانتفع أهل
الجامع به، ودام سنين إلى أن أمر السلطان الملك الظاهر [جقمق] «5»
بهدمه، فهدم وردم.
ثم فى يوم السبت تاسع عشرين شوال المذكور حضر الأمراء الخدمة السلطانية
(14/268)
على العادة، ونزلوا إلى دورهم، فاستدعى
السلطان بعد نزولهم الأمير بيبغا المظفّرى أتابك العساكر إلى القلعة،
فلمّا صار إليها قبض عليه وقيّد وحمل إلى الإسكندرية من يومه.
ثم فى يوم الخميس رابع ذى القعدة خلع السلطان على الأمير قجق العيساوىّ
أمير سلاح باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية عوضا عن بيبغا
المظفّرى بحكم القبض عليه، وخلع على إينال النّوروزىّ أمير مجلس
باستقراره أمير سلاح عوضا عن قجق المذكور، وأنعم السلطان بإقطاع بيبغا
المذكور على الأمير إينال الجكمىّ أحد الأمراء البطّالين بالقدس وكتب
بإحضاره، وعلى الأمير حسين بن أحمد المدعو تغرى برمش البهسنىّ
التّركمانىّ نائب قلعة الجبل نصفين بالسّوية بعد أن أخرج منه بلدة من
القليوبيّة «1» .
ثم فى يوم الاثنين ثامن ذى القعدة خلع السلطان على قاضى القضاة شمس
الدين محمد الهروىّ المعزول عن وظيفة كتابة السرّ قبل تاريخه باستقراره
قاضى قضاة الشافعية بالديار المصرية، عوضا عن قاضى القضاة شهاب الدين
أحمد بن حجر بحكم عزله، وهذه ولاية القاضى الهروىّ الثانية للقضاء.
وقدم الأمير إينال الجكمىّ من القدس فى يوم الاثنين خامس عشره، وخلع
السلطان عليه باستقراره أمير مجلس عوضا عن إينال النّوروزى.
وفى هذه الأيام أنعم السلطان على الأمير تنبك من بردبك الظّاهرىّ أحد
أمراء العشرات ورأس نوبة بإمرة طبلخاناه عوضا عن تغرى برمش البهسنى،
واستقرّ أيضا عوضه فى نيابة قلعة الجبل، وتنبك المذكور هو أتابك
العساكر بديار مصر فى زماننا هذا.
ثم فى يوم السبت العشرين من ذى القعدة وصلت الغزاة المقدّم ذكرهم
بالغنائم والأسرى.
(14/269)
وكان من خبرهم أنّهم لمّا خرجوا من ثغر
دمياط تبعهم خلائق من المطّوّعة فى سلّورة «1» وساروا إلى طرابلس وسار
معهم أيضا غرابان، وتوجّهوا الجميع إلى الماغوصة «2» فأضافهم متملّكها
وأكرمهم، فلم يتعرضوا لبلاده، ومضوا عنه إلى بلد يقال لها اللّمسون «3»
من جزيرة قبرص فوجدوا أهلها قد استعدّوا لقتالهم وأخرجوا أهاليهم
وعيالهم، وخرجوا فى سبعين فارسا تقريبا وثلاثين راجلا، فقاتلهم
المسلمون حتى هزموهم، وقتلوا منهم فارسا واحدا وعدّة رجال، وغرّقوا بعض
أغربة وأحرقوا بعضها، ونهبوا ما وجدوه من ظروف السمن والعسل وغير ذلك،
وأسروا ثلاثة وعشرين رجلا، وأخذوا قطع جوخ كثيرة، فسرّ الناس بعودهم
وسلامتهم وتشوّق كلّ أحد للجهاد- انتهى.
ثم فى ثامن عشرين ذى الحجة خلع السلطان على الشيخ سعد الدين سعد ابن
قاضى القضاة شيخ الإسلام شمس الدين محمد الدّيرى الحنفى باستقراره فى
مشيخة صوفيّة الجامع المؤيدى ومدرّس الحنفية به بعد موت أبيه بالقدس.
[ما وقع من الحوادث سنة 828]
ثم فى تاسع عشرين المحرم من سنة ثمان وعشرين وثمانمائة ركب السلطان
مخفّا من قلعة الجبل، ونزل إلى جامعه بخط العنبريين وكشف عمائره، ثم
ركب وسار إلى جامع الأزهر لرؤية الصّهريج الذي عمّره، ثم تقدّم وزار
الشيخ خليفة والشيخ سعيدا وهما من المغاربة لهما بالجامع الأزهر مدّة
سنين وشهرا بالخير والصّلاح، ثم خرج من الجامع إلى
(14/270)
دار الشيخ محمد بن سلطان وهو أيضا أحد من
يظنّ فيه الخير والصّلاح فزاره أيضا وعاد إلى القلعة.
ثم فى هذا الشهر أيضا وقع الشروع فى عمل عدّة مراكب لغزو بلاد الفرنج،
واستمرّ العمل فيهم كل يوم إلى أن نزل السلطان فى يوم الثلاثاء حادى
عشر صفر من سنة ثمان وعشرين المذكورة وكشف عمل المراكب المذكورة، ثم
عاد من على جزيرة الفيل إلى جهة مناظر «الخمس وجوه» المعروفة بالتّاج
التى كان الملك المؤيد جدّدها فأقام بها ساعة هينة، وعاد من على الخندق
من جهة خليج الزّعفران إلى أن طلع إلى القلعة، هذا كله والسلطان لا
يفتر عن الفحص على أخبار جانى بك الصّوفى ولا يكذّب فى أمره خبر مخبر.
ثم فى يوم الاثنين رابع عشرين صفر خلع السلطان على الشيخ محب الدين
أحمد بن نصر الله بن أحمد بن محمد بن محمد بن عمر الشّشترىّ البغدادى
الحنبلى باستقراره قاضى قضاة الحنابلة بالديار المصرية بعد موت قاضى
القضاة علاء الدين على بن محمود بن مغلى، وكلّ منهما كان أعجوبة زمانه
فى الحفظ وسعة العلم.
ثم فى ليلة الجمعة خامس شهر ربيع الأوّل عمل السلطان المولد النبوى
بالحوش السلطانى من قلعة الجبل كعادة عمله فى كل سنة.
ثم فى يوم الأحد سابعه سار الأمير أرنبغا اليونسى الناصرى أحد أمراء
العشرات ورأس نوبة تجريدة إلى مكّة ومعه مائة مملوك من المماليك
السلطانية، وتوجه معه سعد الدين إبراهيم المعروف بابن المرة أحد
الكتّاب لأخذ مكس «1» المراكب الواردة ببندر جدّة من بلاد الهند، وهذا
أول ظهور أمر جدّة، وكان ذلك بتدبير الأمير يشبك الساقى الأعرج، فإنه
نفاه الملك المؤيد [شيخ] «2» إلى مكّة، فأقام بها سنين وعلم أحوال
أشراف
(14/271)
مكة وما هم عليه، فحسّن للسلطان الاستيلاء
على بندر جدّة ولا زال به حتى وقع ذلك وصار أمر جدّة كما هى عليه الآن.
ثم فى يوم الخميس سابع عشر شهر ربيع الآخر قدم الأمير سودون من عبد
الرحمن نائب الشّام إلى القاهرة، وطلع إلى القلعة بعد أن تلقّاه أكابر
الدّولة وقبّل الأرض، وخلع عليه باستمراره، وأنزل بمكان يليق به إلى أن
خلع السلطان عليه خلعة السّفر، وعاد إلى محل ولايته فى سادس عشر شهر
ربيع الآخر المذكور.
وفى هذا الشهر كمل عمارة البرج الذي عمّر بالقرب من الطّينة «1» على
بحر الملح وجاء مربّع الشكل مساحة كلّ ربع منه ثلاثون ذراعا، وشحن
بالأسلحة، وأقيم فيه خمسة وعشرون مقاتلا، فيهم عشرة فرسان، وأنزل حوله
جماعة من عرب الطّينة، فانتفع به المسلمون غاية النّفع، وذلك أن الفرنج
كانت تقبل فى مراكبها نهارا إلى برّ الطّينة وتنزل بها وتتخطّف الناس
من المسلمين من هناك فى مرورهم من قطيا إلى جهة العريش من غير أن
يمنعهم من ذلك أحد؛ لخلوّ هذا المحلّ من الناس، وتولّى عمارة هذا البرج
المذكور الزّينى عبد القادر بن فخر الدين بن عبد الغنى بن أبى الفرج،
وأخذ الآجرّ والحجر الذي بنى هذا البرج به من خراب مدينة الفرما «2»
وأحرق أيضا الجير من حجارتها، وقد تقدّم ذكر غزو الفرما فى مجىء عمرو
بن العاص إلى مصر فى أوّل هذا الكتاب.
ثم فى يوم السبت عاشر جمادى الأولى خلع السلطان على الصاحب بدر الدين
حسن بن نصر الله ناظر الخواصّ الشريفة باستقراره أستادارا عوضا عن ولده
صلاح الدين محمد.
(14/272)
ثم فى يوم الاثنين ثانى عشر جمادى الأولى
المذكورة خلع السلطان على القاضى كريم الدين عبد الكريم بن سعد الدين
بركة المعروف بابن كاتب جكم باستقراره فى وظيفته نظر الخاصّ الشّريف
عوضا عن بدر الدين بن نصر الله المذكور.
وخلع على أمين الدّين إبراهيم ابن مجد الدين عبد الغنى بن الهيصم
باستقراره ناظر الدّولة عوضا عن كريم الدين بن كاتب جكم المذكور.
وفى هذه الأيام كثرت الأخبار بحركة الفرج فخرج عدّة من الأمراء
والمماليك لحراسة الثّغور.
ثم فى عاشر جمادى الآخرة أمسك السلطان القاضى نجم الدين عمر بن حجّى
كاتب السّرّ، وسلّم إلى الأمير جانى بك الأشرفى الدّوادار الثانى فسجنه
بالبرج من قلعة الجبل، وأحيط بداره، وكان سبب مسك ابن حجّى أنه التزم
عن ولايته كتابة السّرّ بعشرة آلاف دينار، ثم تسلم ما كان جاريا فى
إقطاع ابن السّلطان من حمايات «1» علم الدين داود بن الكويز
ومستأجراته، على أن يقوم لديوان ابن السلطان فى كل سنة بألف وخمسمائة
دينار، فحمل فى مدّة ولايته لكتابة السّرّ إلى الخزانة الشريفة خمسة
آلاف دينار فى دفعات متفرقة، فلما كان هذه الأيام طلب السلطان منه حمل
ما تأخّر وهو ستة آلاف دينار، فسأل السلطان مشافهة أن ينعم عليه بألف
وخمسمائة دينار المقرّرة من الحمايات والمستأجرات، وتشكّى من قلّة
متحصّلها معه، فلم يجب السلطان سؤاله، فنزل إلى داره وكتب ورقة إلى
السلطان تتضمّن: أنه غرم من حين ولى كتابة السّرّ إلى يوم تاريخه اثنى
عشر ألف دينار، منها الحمل إلى الخزانة خمسة آلاف دينار، ولمن لا يسمّى
مبلغ ألفى دينار، وللأمراء أربعة آلاف دينار، وذكر تفصيل الأربعة آلاف
دينار؛ فلما قرئت على السلطان فهم أنه أراد بمن لا يذكر أنه الأمير
جانى بك الدّوادار، وأخذ
(14/273)
السلطان يسأل من جانى بك عندما حضر هو
والأمراء عمّا وصل إليهم وإليه، فما هو إلا أن طلع ابن حجّى إنى القلعة
حصل بينهما مفاحشات ومقابحات آلت إلى غضب السلطان والنصرة لمملوكه جانى
بك فقبض عليه.
وله سبب آخر خفىّ؛ وهو أن السلطان استدعى الأمير سودون من عبد الرحمن
نائب الشام بكتاب عبد الباسط، فلمّا وقعت بطاقة سودون من عبد الرحمن
سأل ابن حجّى: لم جاء نائب الشام؟ فقيل له بطلب من السلطان، فقال: أنا
لم أكتب له عن السلطان بالمجىء، فقال عبد الباسط: أنا كتبت له، فحنق
نجم الدين لمّا سمع هذا الكلام وخاشن عبد الباسط باللّفظ، وقال له:
اعمل أنت كاتب السّرّ ونظر الجيش معا، ثم أخذ يخاشنه بالكلام استخفافا
به لمعرفته به قديما؛ لأن ابن حجّى كان معدودا من أعيان دمشق وعبد
الباسط يوم ذاك بخدمة ابن الشهاب محمود، فأسرّها عبد الباسط فى نفسه،
وعلم أنه متى طالت يده ربما يقع منه فى حقّه ما يكره، فأخذ يدبّر عليه
حتّى غيّر خاطر الأمير جانى بك عليه وتأكدت العداوة بينهما، ووقع ما
حكيناه.
واستمرّ ابن حجّى فى البرج من قلعة الجبل إلى ليلة الثلاثاء ثالث عشر
جمادى الآخرة من سنة ثمان وعشرين المذكورة، وأخرج من البرج فى الحديد
وحمل إلى دمشق حتى يكشف بها عن سيرته، ويأخذ ابن حجى فى تجهيز ما بقى
عليه من المال، وكتب فى حقه لنائب الشام، ولقضاة دمشق بعظائم مستشنعة
هو برىء عن غالبها.
ثم فى يوم الاثنين ثامن عشره خلع السلطان على القاضى بدر الدين «1»
محمد ابن مزهر نائب كاتب السّرّ باستقراره فى كتابة السّرّ عوضا عن نجم
الدين ابن حجى المذكور.
وخلع السلطان أيضا على تاج الدين عبد الوهاب الأسلمى المعروف بالخطير
(14/274)
باستقراره فى نظر الإسطبل السلطانى عوضا عن
ابن مزهر، وكان الخطير المذكور قريب عهد بالإسلام، وله قدم فى دين
النصرانية، وكان يباشر عند الملك الأشرف فى أيام إمرته فرقّاه إلى هذه
الوظيفة، وبعد أن كان يخاطب بالشيخ الخطير صار ينعت بالقاضى، فيشترك هو
وقضاة الشرع الشريف فى هذا الاسم، وقد تداول هذا البلاء بالمملكة قديما
وحديثا، وأنا لا ألوم الملوك فى تقديم هؤلاء لأنهم محتاجون إليهم
لمعرفتهم لأنواع المباشرة، غير أننى أقول: كان يمكن الملك أنه إذا رقّى
واحدا من هؤلاء إلى رتبة من الرّتب لا ينعته بالقاضى وينعته بالرئيس أو
بالكاتب أو مثل ولى الدّولة وسعد الدّولة وما أشبه ذلك، ويدع لفظة قاض
لقضاة الشرع ولكاتب السّرّ وناظر الجيش ولفضلاء المسلمين، ليعطى كل
واحد حقه فى شهرته والتعريف به، وقد عيب هذا على مصر قديما [وحديثا]
«1» فقال بعضهم: قاضيها مسلمانى، وشيخها نصرانى، وحجها غوانى، قلت: فإن
كانت ألفاظ هذه الحكاية خالية من البلاغة فهى قريبة مما نحن فيه.
والخطير [هذا «2» ] إلى الآن فى قيد الحياة وقد كبر سنّة وهرم بعد ما
ولى الوزر بديار مصر ثم نظر الدولة، وهو مع ذلك عليه من الغلاسة، وعدم
النورانية، وفقد الحشمة، وقلة الطلاوة [ما لا يعبر عنه] «3» ، وقد
تخومل ولزم داره سنين طويلة من يوم صادره الملك الظاهر جقمق وحطّ قدره،
فعد ذلك من حسنات الملك الظاهر- رحمه الله تعالى.
وفى هذا الشهر أخذ السلطان فى تجهيز «4» الغزاة، وعين جماعة كبيرة من
المماليك السلطانية والأمراء، وألزم كل أمير أيضا أن يجهز عشرة مماليك
من مماليكه، ونجز عمل الطرائد «5» والأغربة،
(14/275)
ثم فى يوم الاثنين ثالث شهر رجب خلع
السلطان على قاضى القضاة شهاب الدين أحمد بن حجر وأعيد إلى قضاء الديار
المصرية بعد عزل قاضى القضاة شمس الدين الهروىّ.
ثم فى يوم الثلاثاء رابع شهر رجب المذكور حمل الشريف مقبل أمير ألينبع،
والشريف رميثة بن محمد بن عجلان إلى الإسكندرية وسجنا بها.
ثم فى ثالث عشره أنفق السلطان فى ستمائة رجل من الغزاة مبلغ عشرين
دينارا لكل واحد منهم، وجهز الأمراء أيضا ثلاثمائة رجل، ثم نودى: من
أراد الجهاد فليحضر لأخذ النّفقة، وقام السلطان فى الجهاد أتمّ قيام
وقد شرح الله صدره له.
ثم فى عشرينه سارت خيول الأمراء والأعيان من المجاهدين فى البر إلى
طرابلس وعدتها نحو ثلاثمائة فرس لتحمل من طرابلس صحبة غزاتها فى البحر
لحيث هو القصد.
ثم ركب السلطان فى يوم الجمعة من القلعة بغير قماش الخدمة بعد صلاة
الجمعة، ونزل إلى ساحل بولاق حتى شاهد الأغربة والطرائد التى عملت برسم
الجهاد، وقد أشحنوا بالسلاح والرجال، ثم عاد إلى القلعة، ثم ركب من
الغد المقام الناصرى محمد ابن السلطان الملك الأشرف من القلعة ونزل
ومعه لالاته الأمير جانى بك الأشرفى الدوادار الثانى، وتوجّه إلى بيت
زين الدين عبد الباسط المطلّ على النيل ببولاق حتى شاهد الأغربة عند
سفرهم، فانحدر أربعة أغربة بكل غراب أمير، وتقدّم الأربعة الأمير جرباش
الكريمى الظاهرى حاجب الحجاب المعروف بقاشق، فكان لسفر هذه المراكب
ببولاق يوم مشهود، ثم انحدر بعد هذه الأغربة الأربعة أربعة أغربة أخر
فى كل واحد منهم مقدّم من أعيان المماليك السلطانية، وكان آخرهم سفرا
الغراب الثامن فى يوم الأربعاء ثامن «1» شعبان، وهذه الغزوة الثانية من
غزوات الملك الأشرف [برسباى] «2»
(14/276)
ثم فى آخر هذا الشهر أفرج السلطان عن
الأمير الكبير طرباى من سجنه «1» بالإسكندرية، ونقل إلى القدس الشريف
بطالا ليقيم به غير مضيّق عليه بعد أن أنعم عليه بألف دينار، وكان
الإفراج عن طرباى بخلاف ما كان فى ظن الناس، وعدّ ذلك من محاسن الملك
الأشرف، كون طرباى المذكور كان عانده فى الملك، وكونه أيضا من عظماء
الملوك وأكابر المماليك الظاهريّة [برقوق] «2» ممّن يخاف منه، فلم
يلتفت الأشرف إلى هذا كله وأفرج عنه لما كان بينهما من الود القديم
والصّحبة من مبادئ أمرهما.
ثم فى يوم الثلاثاء ثامن شهر رمضان المذكور أمسك السلطان الصاحب بدر
الدين حسن بن نصر الله الأستادار، وأمسك معه ولده الأمير صلاح الدين
محمد المعزول عن الأستادارية بأبيه المذكور، وعوّقا بالقلعة أربعة
أيام، ثم نزلا على أنهما يقومان بنفقة الجامكية شهرا وعليقه، وكانت
الجامكية يوم ذاك كل شهر ثلاثين ألف دينار.
ثم فى يوم الخميس عاشره خلع السلطان على زين الدين عبد القادر ابن فخر
الدين حسن بن نصر الله.
ثم فى رابع عشره خلع السلطان على جمال الدين يوسف بن الصّفّى الكركى
المعزول عن كتابة سرّ دمشق عوضا عن بدر الدين حسين.
وفى يوم الثلاثاء ثانى عشرين شهر رمضان- الموافق لرابع عشر مسرى- أوفى
النيل ستة عشر ذراعا، ونزل المقام الناصرى محمد [بن السلطان] «3»
لتخليق المقياس وفتح خليج السد على العادة، ونزل معه الملك الصالح محمد
ابن الملك الظاهر ططر، وحضر تخليق المقياس، وفتح الخليج- فتعجب الناس
لنزوله مع ابن السلطان بعد خلعه من ملك مصر حسبما تقدّم.
(14/277)
قلت: وكان قصد الأشرف برسباى بركوب الملك
الصالح [محمد] «1» هذا مع ولده انبساط الصالح- كونه كان كالمحجور عليه
بقلعة الجبل- وتنزّهه، لا كما زعم بعض الناس أنّه يريد بذلك مشيه فى
خدمة ولده وازدراءه، كل ذلك وخاطر السلطان مشغول بأمر جانى بك الصوفى،
والفحص عنه مستمر؛ غير أن السلطان يتشاغل بشىء بعد شىء، وهو الآن مشغول
الفكرة فى أمر المجاهدين لا يبرح يترقب أخبارهم إلى أن كان يوم الخميس
تاسع شوّال ورد عليه الخبر من طرابلس بنصرة المسلمين على الفرنج، فدّقت
البشائر [لذلك] «2» بقلعة الجبل وغيرها، وجمع القضاة وأعيان الدّيار
المصرية بالجامع الأشرفى بخط العنبريين وقرىء عليهم الكتاب الوارد من
طرابلس بنصرة المسلمين، فضجّ الناس وأعلنوا بالتكبير والتهليل، ونودى
بزينة القاهرة ومصر، ثم قرىء الكتاب المذكور من الغد بجامع عمرو بن
العاص بمصر، وبينما الناس مستبشرون فى غاية ما يكون من السّرور والفرح
بنصر الله قدم الخبر فى يوم الاثنين ثالث عشر شوّال [المذكور] «3»
بوصول الغزاة المذكورين إلى الطينة، فقلق السلطان من ذلك وتنغّص فرح
الناس وكثر الكلام فى أمر عودهم.
وكان من خبرهم: أنهم لما توجّهوا من ساحل بولاق إلى دمياط ساروا منه فى
البحر المالح إلى مدينة طرابلس فطلعوا إليها، فانضمّ عليهم بها خلائق
من المماليك والعساكر الشامية وجماعة كبيرة من المطوعة إلى أن رحلوا عن
طرابلس فى بضع وأربعين مركبا، وساروا إلى جهة الماغوصة، فنزلوا عليها
بأجمعهم وخيموا فى برها الغربى، وقد أظهر متملك الماغوصة طاعة السلطان
وعرفهم تهيؤ صاحب قبرس واستعداده لقتالهم وحربهم، فاستعدوا وأخذوا
حذرهم وباتوا بمخيمهم على الماغوصة، وهى ليلة الأحد العشرين من شهر
رمضان، وأصبحوا يوم الاثنين شنّوا الغارات على ما بغربى قبرس من
الضياع،
(14/278)
ونهبوا وأسروا وقتلوا وأحرقوا وعادوا
بغنائم كثيرة، وأقاموا على الماغوصة ثلاثة أيّام يفعلون ما تقدم ذكره
من النهب والأسر [وغيره] «1»
ثم ساروا ليلة الأربعاء يريدون الملّاحة، وتركوا فى البرّ أربعمائة من
الرّجّالة يسيرون بالقرب منهم إلى أن وصلوا إليها ونهبوها وأسروا
وأحرقوا أيضا، ثم ركبوا البحر جميعا وأصبحوا باكر النهار فوافاهم
الفرنج فى عشرة أغربة وقرقورة «2» كبيرة فلم يثبتوا للمسلمين وانهزموا
من غير حرب، واستمر المسلمون بساحل الملّاحة وقد أرست مراكبهم عليها.
وبينما هم فيما هم فيه كرّت أغربة الفرنج راجعة إليهم، وكان قصد الفرنج
بعودهم أن يخرج المسلمون إليهم فيقاتلوهم فى وسط البحر، فلما أرست
المسلمون على ساحل الملّاحة كرّت الفرنج عليهم فبرزت إليهم المسلمون
وقاتلوهم قتالا شديدا إلى أن هزمهم الله تعالى، وعادوا بالخزى، وبات
المسلمون ليلة الجمعة خامس عشرين شهر رمضان، فلمّا كان بكرة نهار
الجمعة أقبل عسكر قبرس وعليهم أخو الملك، ومشى على المسلمين فقاتله
مقدار نصف العسكر الإسلامى أشدّ قتال حتى كسروهم، وانهزم أخو الملك بمن
كان معه من العساكر بعد أن كان المسلمون أشرفوا على الهلاك، ولله الحمد
[والمنة] «3» ، وقتل المسلمون من الفرنج مقتلة عظيمة، ثم أمر الأمير
جرباش بإخراج الخيول إلى البرّ فأخرجوا الخيول من المراكب إلى البرّ فى
ليلة السبت وتجهّزوا للمسير ليغيروا على نواحى قبرس [من الغد] «4» .
فلما كان بكرة يوم السبت المذكور ركبوا وساروا إلى المغارات «5» حتى
(14/279)
وافوها، فأخذوا يقتلون ويأسرون ويحرقون
وينهبون القرى حتى ضاقت مراكبهم عن حمل الأسرى، وامتلأت أيديهم
بالغنائم، وألقى كثير منهم ما أخذه إلى الأرض، فعند ذلك كتب الأمير
جرباش مقدّم العساكر المجاهدة كتابا إلى الأمير قصروه من تمراز [نائب
طرابلس] «1» بهذا الفتح [العظيم] «2» والنصر [المبين] «3» صحبة قاصد
بعثه الأمير قصروه مع المجاهدين ليأتيه بأخبارهم، فعند ما وصل الخبر
للأمير قصروه كتب فى الحال إلى السلطان بذلك، وفى طىّ كتابه كتاب
الأمير جرباش المذكور، وهو الكتاب الذي قرىء بالأشرفيّة بالقاهرة، ثم
بجامع عمرو بن العاص، ثم إن الأمير جرباش لمّا رأى أن الأمر أخذ حدّه،
وأن السلامة غنيمة، ثم ظهر له بعض تخوّف عسكره؛ فإنّه بلغهم أن صاحب
قبرس قد جمع عساكر كثيرة واستعدّ لقتال المسلمين، فشاور من كان معه من
الأمراء والأعيان، فأجمع رأى الجميع على العود إلى جهة الدّيار
المصريّة مخافة من ضجر العسكر الإسلامى إن طال القتال بينهم وبين أهل
قبرس إذا صاروا فى مقابله، فعند ذلك أجمع رأى الأمير جرباش المذكور أن
يعود بالعساكر الإسلاميّة على أجمل وجه، فحّل القلاع بعد أن تهيّأ
للسّفر وسار عائدا حتى أرسى على الطّينة قريبا من قطيا وثغر دمياط، ثم
توجّهوا إلى الدّيار المصريّة، ولما بلغ الناس ذلك وتحقّق كلّ أحد ما
حصل للمسلمين من النّصر والظّفر عاد سرورهم لأن السلطان كان لما بلغه
عودهم نادى فى الناس من أراد الجهاد فليحضر لأخذ النّفقة، فكثر قلق
الناس لذلك، وظنوا كلّ ظن حتى علموا من أمرهم ما حكيناه.
هذا ما كان من أمر الغزاة، وأما السلطان فإنه أفرج فى يوم الاثنين ثالث
عشر شوّال عن الأمير الكبير بيبغا «4» المظفّرىّ من سجن الإسكندرية
ونقله إلى ثغر دمياط، وأنعم عليه بفرس بقماش ذهب ليركبه بدمياط إلى حيث
يشاء.
(14/280)
ثم أخذ السلطان ينتظر الغزاة إلى أن قدموا
عليه يوم السبت خامس عشرين شوّال المقدم ذكره، ومعهم ألف وستون أسيرا
ممن أسروا فى هذه الغزوة، وباتوا تلك الليلة بساحل بولاق، وصعدوا فى
بكرة يوم الأحد سادس عشرينه إلى القلعة، وبين أيديهم الأسرى والغنائم،
وهى على مائة وسبعين حمّالا وأربعين بغلا وعشرة جمال، ما بين جوخ،
وصوف، وصناديق، وحديد، وآلات حربيّة، وأوان، وسار الجميع من شارع
القاهرة، وقد جلس الناس بالحوانيت والبيوت والأسطحة والشوارع بحيث إن
الشخص كان لا يكاد أن يمرّ إلى طريقه إلا بعد مشقّة كبيرة، وربما لا
يستطيع السير ويرجع إلى حيث أتى، وبالجملة فإنه كان يوما مشهودا لم
يعهد مثله فى الدّولة التركيّة، ولما طلع ذلك كلّه إلى القلعة وعرض على
السلطان رسم السلطان ببيع الأسرى وتقويم الأصناف، فقوّمت الأصناف.
ثم ابتدئ بالبيع فى يوم الاثنين سابع عشرين شوّال بالحرّاقة من باب
السّلسلة بحضرة الأمير جقمق العلائى أمير آخور الكبير «1» ، وتولّى
البيع عن السلطان الأمير إينال الشّشمانى الناصرىّ أحد أمراء العشرات
ورأس نوبة، فاشتراهم النّاس على اختلاف طبقاتهم من أمير وجندى وقاض
وفقيه وتاجر وعلمىّ، ورسم السلطان أن لا يفرّق بين الآباء وأولادهم،
ولا بين قريب وقريبه، فكانوا يشترونهم جميعا، والذي كان وحده أبيع
وحده، واستمرّ البيع فيهم أيّاما، وجمع ما تحصّل من أثمانهم فأنفق
السلطان من ذلك على المجاهدين، فأعطى لطائفة سبعة دنانير ونصفا،
ولطائفة ثلاثة دنانير ونصفا، وانقضى أمر المجاهدين فى هذه السنة.
قال المقريزى: فى يوم الجمعة سابع ذى الحجّه اتّفقت حادثة شنيعة، وهى
أن الخبز قلّ وجوده فى الأسواق فعند ما خرج بدر الدين محمود العينتابى
«2» محتسب
(14/281)
القاهرة من داره سائرا إلى القلعة صاحت
عليه العامة واستغاثوا بالأمراء وشكوا إليهم المحتسب، فعرّج عن الشارع
وطلع إلى القلعة وهو خائف من رجم العامّة له وشكاهم إلى السلطان، وكان
يختصّ به ويقرأ له فى اللّيل تواريخ الملوك ويترجمها له بالتّركيّة،
فحنق السلطان وبعث طائفة من الأمراء إلى باب زويلة، فأخذوا أفواه
السّكك ليقبضوا على الناس، فرجم بعض العبيد بعض الأمراء بحجر أصابه
فقبض عليه وضرب، ثم قبض على جماعة كبيرة من الناس وأحضروا بين يدى
السلطان، فرسم بتوسيطهم، ثم أسلمهم إلى الوالى فضربهم وقطع آنافهم
وآذانهم وسجنهم ليلة السبت، ثمّ عرضوا من الغد على السلطان فأفرج عنهم،
وعدّتهم اثنان وعشرون رجلا من المستورين ما بين شريف وتاجر، فتنكّرت
القلوب من أجل ذلك، وانطلقت الألسنة بالدعاء وغيره- انتهى كلام
المقريزى برمته.
وهو كما قال، غير أنه سكت عن رجم العامّة للعينتابىّ المذكور يريد بذلك
تقوية الشّناعة على العينتابىّ لبغض كان بينهما قديما وحديثا.
ثمّ قدم كتاب الأمير تغرى بردى المحمودىّ رأس نوبة النّوب وأمير حاجّ
المحمل من مكّة فى يوم الجمعة حادى عشرين ذى الحجة، يتضمّن أنه لما نزل
عقبة أيلة «1» بعث قاصدا إلى الشّريف حسن بن عجلان أمير مكّة يرغّبه فى
الطاعة ويحذّره عاقبة المخالفة، فقدم عليه ابنه بركات بن حسن بن عجلان
وقد نزل بطن مرّ «2» فى ثامن عشرين ذى القعدة، فسرّ بقدومه ودخل معه
مكّة فى أوّل ذى الحجة، وحلف له بين الحجر الأسود والملتزم أن أباه لا
يناله مكروه من قبله ولا من قبل السلطان، فعاد إلى أبيه وقدم به مكّة
فى يوم الاثنين ثالث ذى الحجة، وأنه حلف له ثانيا وألبسه التّشريف
السّلطانى وقرّره فى إمرة مكّة على عادته، وأنه عزم على حضوره إلى
السلطان صحبة الرّكب واستخلاف ولده بركات على مكّة- انتهى.
(14/282)
[ما وقع من
الحوادث سنة 829]
ثم فى يوم الاثنين خامس عشرين المحرم سنة تسع وعشرين وثمانمائة خلع
السلطان على الأمير إينال الشّشمانى أحد أمراء العشرات ورأس نوبة
باستقراره فى حسبة القاهرة عوضا عن قاضى القضاة بدر الدين محمود العينى
الحنفى.
ثم فى رابع عشرين المحرم قدم الأمير «1» تغرى بردى المحمودى رأس نوبة
النوب وأمير حاج المحمل بالمحمل، وقدم معه [الأمير] «2» الشريف حسن بن
عجلان، فأكرمه السلطان وأنزله بمكان يليق به، ثم خلع عليه فى يوم سابع
عشرينه باستقراره فى إمرة مكّة على عادته بعد أن التزم بحمل ثلاثين ألف
دينار، وأرسل قاصده إلى مكّة ليحضر المبلغ المذكور، وأقام هو بالقاهرة
رهينة، وقدم أيضا مع الحاج الأمير قرقماس الشّعبانى الناصرىّ أحد
مقدّمى الألوف، بعد أن أقام بمكة نحو السنتين شريكا لأمير مكّة فى هذه
المدّة، ومهّد أمورها وأقمع عبيد مكّة ومفسديها وأبادهم.
ثم فى يوم الأربعاء نصف صفر جمع السلطان الأمراء والقضاة وكثيرا من
أكابر التجار وتحدّث معهم فى إبطال المعاملة بالذّهب المشخّص «3» الذي
يقال له الإفرنتى، وهو من ضرب الفرنج، وعليه شعار كفرهم الذي لا تجيزه
الشريعة المحمديّة، وأن يضرب عوضه ذهبا عليه السّكّة الإسلامية، فضوّب
من حضر رأى السلطان فى ذلك «4» ، وهذا الإفرنتى المذكور قد كثرت
المعاملة به فى زماننا من حدود سنة ثمانمائة فى أكثر مدائن الدّنيا
مثل: القاهرة ومصر، والبلاد الشّاميّة، وأكثر بلاد الرّوم، وبلاد
الشرق، والحجاز، واليمن، حتى صار هو النقد الرّائج والمطلوب فى
المعاملات، وانفضّ المجلس على ذلك، وقد كثر ثناء الناس على السلطان
بسبب إبطال ذلك.
(14/283)
ولما كان الغد طلب السلطان صنّاع دار
الضّرب وشرع فى ضرب الذّهب الأشرفى، وتطلّب من كان عنده من الذهب
الإفرنتى.
ثم فى سادس عشرينه نودى بالقاهرة بإبطال المعاملة بالذهب الإفرنتى، وأن
يتعامل الناس بالدّنانير الأشرفيّة زنة الدّينار منها زنة الإفرنتى، ثم
ألزم السلطان الناس بحمل ما عندهم من الإفرنتية إلى دار الضّرب.
ثم فى يوم الخميس رابع عشر شهر «1» ربيع الأول قدم الأمير قصروه «2» من
تمراز نائب طرابلس، وطلع إلى القلعة وقبّل الأرض وخلع السلطان عليه
خلعة الاستمرار بولايته على عادته، ثمّ فى يوم السبت قدّم هديّته إلى
السلطان، وكانت تشتمل على شىء كثير.
وفى يوم الخميس المذكور وصل «3» إلى القاهرة الأمير يربغا التّنمىّ أحد
أمراء العشرات عائدا من بلاد اليمن بغير طائل، وسببه أن السلطان كان
أطمعه بعض الناس فى أخذ اليمن وهوّن عليه أمرها- وهو كما قيل- غير أن
الملك الأشرف لم يلتفت إلى ذلك بالكلية تكذيبا للقائل له، فأرسل الأمير
يربغا هذا بهديّة لصاحب اليمن وصحبته السّيفى ألطنبغا فرنج الدّمرداشىّ
والى دمياط- كان- ومعهما أيضا خمسون مملوكا من المماليك السلطانية،
فساروا إلى جدّة، ثم ركبوا منها البحر وتوجّهوا إلى جهة اليمن، إلى أن
وصلوا حلى بنى يعقوب «4» ، فسار منه يربغا التّنمى ومعه من المماليك
خمسة نفر لا غير، ومعه الهدية والكتاب لصاحب اليمن، وهو يتضمن طلب مال
للإعانة على الجهاد، وأقام ألطنبغا فرنج ببقية المماليك فى المراكب،
فأكرم صاحب اليمن يربغا
(14/284)
المذكور وأخذ فى تجهيز هدية عظيمة، وبينما
هو فى ذلك قدم عليه الخبر بأن ألطنبغا فرنج نهب بعض الضّياع وقتل أربعة
رجال، فأنكر صاحب اليمن أمرهم وتنبّه لهم، وقال للأمير يربغا: ما هذا
خبر خير؛ فإن العادة لا يحضر إلينا فى الرّسالة إلا واحد، وأنتم حضرتم
فى خمسين رجلا، ولم يحضر إلى منكم إلا أنت فى خمسة نفر وتأخر باقيكم
وقتلوا من رجالى أربعة «1» ، وطرده عنه من غير أن يجهّز هدية ولا وصله
بشىء، ولولا خشية العاقبة لقتله، فنجا يربغا بمن معه بأنفسهم، وعادوا
إلى مكة، وقدم يربغا إلى القاهرة مخفّا، فلما بلغ السلطان ذلك أراد أن
يجهّز إلى اليمن عسكرا فمنعه من ذلك شغله بغزو الفرنج.
ثم فى يوم السبت أوّل شهر ربيع الآخر خلع السلطان على الأمير قصروه
خلعة السفر، وخرج من يومه إلى محلّ كفالته بطرابلس.
ثم فى يوم السبت ثامنه خلع السلطان على الأمير يشبك السّاقى الأعرج
واستقرّ أمير سلاح عوضا عن إينال النوروزى بحكم موته.
ثم فى خامس عشرين شهر ربيع الآخر المذكور «2» استقرّ العلامة كمال
الدين محمد ابن همام الدين محمد السّيواسى الأصل الحنفى فى مشيخة
التصوف بالمدرسة الأشرفية وتدريسها عوضا عن العلامة علاء الدين على
الرومى بحكم رغبته وعوده إلى بلاده.
ثم فى يوم الخميس سابع عشرينه خلع السلطان على القاضى بدر الدين محمود
العينتابى باستقراره قاضى قضاة الحنفية بالديار المصرية عوضا عن زين
الدين عبد الرحمن التفهنى، واستقر التفهنى المذكور فى مشيخة صوفية
خانقاه شيخون بعد موت شيخ الإسلام سراج الدين عمر قارىء الهداية.
وفى يوم الجمعة ثامن عشرين [شهر «3» ] ربيع الآخر المذكور نزل من
القلعة جماعة
(14/285)
كبيرة من الأمراء والمماليك وهم متقلدون
بسيوفهم حتى طرقوا الجودرية «1» إحدى حارات القاهرة، فأحاطوا بها مع
جميع جهاتها وكبسوا على دورها وفتشوها تفتيشا عظيما، وقدوشى بعض الناس
إلى السلطان بأن جانى بك الصوفى فى داربها، فلم يقعوا له على خبر،
وقبضوا على القاضى فخر الدين ماجد بن المزوق الذي كان ولى كتابة السرّ
ونظر الجيش فى دولة الملك الناصر فرج وأحضروه بين يدى السلطان، فسأله
عن الأمير جانى بك الصوفى وحلف له إن دله على مكانه لا يمسه بسوء، فحلف
فخر الدين المذكور أنه لا يعرف مكانه ولا وقع بصره عليه من يوم أمسك
وحبس، فلم يحمله السلطان على الصدق لمصاهرة كانت بينه وبين جانى بك
الصوفى وصحبة قديمة، وأمر به فضرب بين يديه بالمقارع وأمر بنفيه، ثم
نودى من الغد أن لا يسكن أحد بالجودرية لما ثبت عند السلطان أن جانى بك
الصوفى مختف بها، والظاهر أن الذي كان ثبت عند الأشرف أن جانى بك
الصّوفى كان مختفيا بها كان على حقيقته فيما بلغنا بعد موت الملك
الأشرف، غير أن السّتّار ستره وحماه، فلم يعثروا عليه حتى قيل إنه كان
بالدّار المهجوم عليها ولم ينهض للهروب فالتفّ بحصيرة بها، وكلّ من دخل
الدّار رأى الحصيرة المذكورة فلم يجسّها أحد بيده؛ لتعلم أن الله على
كل شىء قدير.
ولما نودى أن لا يسكن أحد بالجودريّة انتقل منها جماعة كبيرة واستمرت
خالية زمانا طويلا، هذا والسلطان فى كلّ قليل يقبض على جماعة من
المماليك السلطانية ويعاقبهم ليقرّوا على جانى بك الصّوفى، فلم يقع له
على خبر، كلّ ذلك والسلطان فى شغل بتجهيز المجاهدين لغزو قبرس:
وورد عليه- فى يوم السّبت سابع عشرين جمادى الأولى- رسول صاحب إستانبول
(14/286)
وهى القسطنطينيّة بهديّة وشفع فى أهل قبرس
أن لا يغزوا، فلم يلتفت السلطان إلى شفاعته، وأخذ فيما هو فيه من تجهيز
العساكر.
ثم فى يوم الاثنين ثالث عشر جمادى الآخرة من سنة تسع وعشرين المذكورة
قدم من عساكر البلاد الشّاميّة عدة كبيرة من الأمراء والمماليك والعشير
وطائفة كبيرة من المطّوّعة ليسيروا إلى الجهاد، فأنزلوا بالميدان
الكبير.
وفيه خلع السلطان على قاضى القضاة عزّ الدين عبد العزيز بن على بن
العزّ قاضى قضاة الحنابلة بدمشق زمن المؤيّد شيخ باستقراره قاضى قضاة
الحنابلة بديار مصر، عوضا عن قاضى القضاة محبّ الدين أحمد بن نصر الله
البغدادى بحكم صرفه عنها، وكان عزل قاضى القضاة محب الدين لسوء سيرة
أخيه وابنه.
ثم فى ثالث عشرين جمادى الآخرة جلس السلطان بالحوش من قلعة الجبل لعرض
المجاهدين، وأنفق فيهم مالا كبيرا، فكان يوما من أجلّ الأيّام وأحسنها،
لما وقع فيه من بذل السلطان الأموال على من تعيّن للجهاد، وعلى عدم
التفات المجاهدين لأخذ المال، بل كان الشخص إذا وقف فى مجلس السلطان
ينظر رءوس النّوب تتهارب من المماليك السلطانية الذين يريدون أخذ
الدّستور «1» من السّلطان للتوجّه إلى الجهاد، والسلطان يأمرهم بعدم
السّفر، ويعتذر أنه لم تبق مراكب تحملهم، وهم يتساعون فى ذلك مرّة بعد
أخرى، وربما تكرّر وقوف بعضهم الأربع مرّات والخمسة، وأيضا من عظم
ازدحام الناس على كتّاب المماليك ليكتبوهم فى جملة المجاهدين فى
المراكب المعيّنة، حتى إنه سافر فى هذه الغزوة عدّة من أعيان الفقهاء،
ولمّا أن صار السلطان لا ينعم لأحد بالتّوجّه بعد أن استكفت العساكر
سافر جماعة من غير دستور، وأعجب من هذا أنه كان الرّجل ينظر فى وجه
المسافر للجهاد يعرفه قبل أن يسأله لما بوجهه من السّرور والبشر الظاهر
بفرحه للسّفر، وبعكس ذلك فيمن لم يعيّن للجهاد، هذا مع كثرة من تعيّن
للسفر من المماليك السلطانية وغيرهم، وما أرى هذا إلا أنّ الله
(14/287)
[تعالى] «1» قد شرح صدورهم للجهاد وحببهم
فى الغزو وقتال العدوّ، ليقضى الله أمرا كان مفعولا، ولم أنظر ذلك فى
غزوة من الغزوات قبلها ولا بعدها- انتهى.
ثمّ فى يوم الخميس أوّل شهر رجب أدير المحمل بالقاهرة ومصر على العادة
فى كل سنة، وعجّل عن وقته لسفر المجاهدين للغزاة.
ثم فى يوم الجمعة ثانى شهر رجب من سنة تسع وعشرين المذكورة خرجت
المجاهدون من القاهرة، وسافروا من ساحل بولاق إلى جهة الإسكندرية
ودمياط، ومقدّموا العساكر جماعة كبيرة من أمراء الألوف وأمراء
الطبلخانات وأمراء العشرات وأعيان الخاصّكيّة، وجماعة كبيرة من أعيان
أمراء دمشق وغيرها، فالذى كان من مقدّمى الألوف: الأمير إينال الجكمىّ
أمير مجلس، وهو مقدّم العساكر فى المراكب بالبحر، ومعه الأمير قرامراد
خجا الشّعبانى أمير جاندار وأحد مقدّمى الألوف، وعدة من الأمراء
والمماليك السّلطانية وغيرهم، والذي كان مقدّم العساكر فى البرّ الأمير
تغرى بردى المحمودىّ الناصرىّ رأس نوبة النّوب، ومعه الأمير حسين ابن
أحمد المدعو تغرى برمش نائب القلعة- كان- وهو يوم ذاك أحد مقدّمى
الألوف، فهؤلاء الأربعة من أمراء الألوف، والذي كان من أمراء
الطبلخانات الأمير قانصوه النّوروزىّ، والأمير يشبك السّودونىّ المشدّ
الذي صار أتابك فى دولة الملك الظاهر جقمق، والأمير إينال العلائىّ
ثالث رأس نوبة، أعنى عن السلطان الملك الأشرف إينال سلطان زماننا،
وأمير آخر لا يحضرنى الآن اسمه، والذي توجّه من أمراء العشرات فعدّة
كبيرة، والذي كان من أمراء دمشق: الأمير طوغان السّيفى تغرى بردى أحد
مقدّمى الألوف بدمشق، وهو دوادار الوالد [رحمه الله] «2» ومملوكه،
وجماعة كبيرة أخر دونه فى الرّتبة من أمراء دمشق، وخرجت الأمراء فى
(14/288)
هذا اليوم، وتبعهم المجاهدون فى السّفر فى
النيل أرسالا حتى كان آخرهم سفرا فى يوم السبت حادى عشر شهر رجب
المذكور.
وكان ليوم خروج المجاهدين بساحل بولاق نهار يجلّ عن الوصف، تجمّع الناس
فيه للفرجة على المسافرين من الأقطار والبلاد والنّواحى، حتى صار ساحل
بولاق لا يستطيع الرّجل أن يمرّ فيه لحاجته إلا بعد تعب ومشقة زائدة،
وعدّى الناس إلى البرّ الغربىّ ببرّ منبابة وبولاق التّكرور، ونصبوا
بها الخيم والأخصاص، هذا وقد انتشر البحر بالمراكب التى فيها
المتنزّهون، وأمّا بيوت بولاق فلم يقدر على بيت منها إلا من يكون له
جاه عريض أو مال كبير، وتقضّى للناس بها أيام سرور وفرح وابتهال إلى
الله تعالى بنصر المسلمين وعودهم بالسلامة والغنيمة.
وسار الجميع إلى ثغر دمياط، وثغر الإسكندرية، وتهيّئوا للسفر والسلطان
متشوّف لما يرد عليه من أخبار سفرهم.
وبينما هو فى ذلك ورد عليه الخبر فى يوم الثلاثاء ثامن عشرين شهر رجب
المذكور بأن الغزاة مرّوا فى طريقهم «1» إلى رشيد، وأقلعوا من هناك يوم
رابع عشرينه، وساروا إلى أن كان يوم الاثنين انكسر منهم نحو أربعة
مراكب غرق فيها نحو العشرة أنفس، وكانوا بالقرب من ساحل الإسلام بثغور
أعمال مصر، ولما بلغ السلطان ذلك انزعج غاية الانزعاج حتى إنه كاد
يهلك، وبكى بكاء كثيرا، وصار فى قلق عظيم، بحيث إن القلعة ضافت عليه،
وعزم على عدم سفر الغزاة المذكورين، ثم قوى عنده أنه يرسل الأمير جرباش
الكريمىّ قاشق حاجب الحجاب لكشف خبرهم ولعمل مصالحهم وللمشورة مع
الأمراء فى أمر السفر، وخرج الأمير جرباش المذكور مسافرا إليهم وترك
السلطان فى أمر مريج، وكذلك جميع الناس إلا أنا تباشرت بالنّصر من
يومئذ، وقلت: ما بعد الكسر إلا الجبر، وكذا وقع فيما يأتى ذكره إن شاء
الله تعالى، وسار الأمير جرباش إلى العسكر فوجد الذي حصل بالمراكب
المذكورة ترميمه سهل، وقد
(14/289)
شرعت الصنّاع فى إصلاحه، فتشاور مع الأمراء
فأجمع الجميع على السّفر، فعند ذلك جمع الأمير جرباش الصّنّاع وأصلح
جميع ما كان بالمراكب من الخلل إلى أن تمّ أمرهم، فركبوا وساروا على
بركة الله وعونه، وعاد الأمير جرباش وأخبر السلطان بذلك فسكن ما كان
به.
وكان قبل قدوم جرباش أو بعد قدومه فى يوم الثلاثاء خامس شعبان ورد
الخبر على السلطان بأن طائفة من غزاة المسلمين من العسكر السلطانى لمّا
ساروا من رشيد إلى الإسكندرية صدفوا فى مسيرهم أربع قطع من مراكب
الفرنج وهم قاصدون «1» ثغر الإسكندرية فكتب المسلمون لمن فى رشيد من
بقيّة الغزاة بسرعة إلحاقهم ليكونوا يدا واحدة على قتال الفرنج
المذكورين، وتقاربوا من مراكب الفرنج وتراموا معهم يومهم كلّه
[بالنّشّاب] «2» إلى الليل، وباتوا يتحارسون إلى الصباح، فاقتتلوا أيضا
باكر النهار، وبينماهم فى القتال وصل بقيّة الغزاة من رشيد، فلما رآهم
الفرنج ولّوا الأدبار بعد ما استشهد من المسلمين عشر نفر، وساروا حتى
اجتمعوا بمن تقدّمهم من الغزاة من ثغر الإسكندرية، وسافر الجميع معا
يريدون قبرس فى يوم الأربعاء العشرين من شعبان، إلى أن وصلوا إلى قلعة
اللّمسون فى أخريات شعبان المقدم ذكره، فبلغهم أن صاحب جزيرة قبرس قد
استعدّ لقتالهم، وجمع جموعا كثيرة، وأنه أقام بمدينة الأفقسيّة «3» -
وهى مدينة قبرس- وعزم على لقاء المسلمين، فأرسلوا بهذا الخبر إلى
السلطان، ثم انقطعت أخبارهم عن السلطان إلى ما يأتى ذكره.
وفى يوم السبت رابع عشر شهر رمضان خلع السلطان على الأمير يشبك السّاقى
الأعرج أمير سلاح باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية عوضا عن
الأمير قجق
(14/290)
العيساوىّ بحكم وفاته، وأنعم بإقطاع يشبك
الأعرج المذكور على الأمير قرقماس الشّعبانى الناصرى القادم من مكة قبل
تاريخه، وأنعم بإقطاع قرقماس المذكور على الأمير بردبك السيفى يشبك بن
أزدمر الأمير آخور الثانى، وصار من جملة مقدّمى الألوف، وأنعم بإقطاع
بردبك على الأمير يشبك أخى السلطان الملك الأشرف برسباى القادم قبل
تاريخه بمدّة يسيرة من بلاد الچاركس، والإقطاع إمرة طبلخاناه، وخلع على
سودون ميق رأس نوبة باستقراره أمير آخور ثانيا عوضا عن بردبك المقدّم
ذكره.
(14/291)
ذكر غزوة قبرس على
حدتها
ولما كان يوم الاثنين ثالث عشرين شهر رمضان ورد الخبر على السلطان بأخذ
مدينة قبرس وأسر ملكها جينوس بن جاك، فدقّت البشائر بالقلعة لهذا الفتح
ثلاثة أيام، وكان من خبر ذلك أن الغزاة لما ساروا من الثّغور المذكورة
إلى جهة قبرس وصلوا إلى مدينة اللّمسون مجتمعين ومتفرّقين، فبلغهم من
أهل اللّمسون أن متملك قبرس جاءه نجدة كبيرة من ملوك الفرنج، وأنه
استعدّ لقتالهم كما تقدّم ذكره، ولما وصلوا إلى اللّمسون نازلوا قلعتها
وقاتلوا من بها حتى أخذوها عنوة فى يوم الأربعاء سادس عشرين شعبان،
ونهبوها وسبوا أهلها، وقتلوا جماعة كبيرة ممن كان بها من الفرنج، ثم
هدموها عن آخرها، وساروا منها فى يوم الأحد أوّل شهر رمضان من سنة تسع
وعشرين المقدم ذكرها بعد أن أقاموا عليها نحو ستة أيام، وساروا فرقتين
فرقة فى البرّ وعليهم الأمير تغرى بردى المحمودى والأمير حسين بن أحمد
المدعو تغرى برمش أحد مقدّمى الألوف ومن انضاف إليهم من أمراء
الطبلخانات والعشرات والعساكر [المصرية والشاميّة] «1» من الخيّالة
والرّجّالة، وفرقة فى البحر ومقدّمهم الأمير إينال الجكمىّ أمير مجلس،
والأمير قرامراد خجا الشّعبانىّ أحد مقدّمى الألوف بمن انضاف إليهم من
العساكر المصرية والشاميّة، وكان سبب مسير هؤلاء فى البحر مخافة أن
يطرق الفرنج المراكب من البحر ويأخذوها ويصير المسلمون ببلادهم
يقاتلونهم على هيئتهم، وكان ذلك من أكبر المصالح، ثم سار الذين فى
البرّ متفرقين حتى صاروا بين اللّمسون والملّاحة وهم من غير تعبئة
لقتال بل على صفة السّفار غير أنّ على بعضهم السلاح وأكثرهم بلا سلاح
لشدّة الحر، وصار كلّ واحد من القوم يطلب قدّاما من غير أن يتربّص
أحدهم لآخر، وفى ظنهم أن صاحب قبرس لا يلقاهم إلا خارج قبرس، وتأخّر
الأمراء ساقة العسكر كما هى عادة مقدّمى العساكر،
(14/292)
والناس تجدّ فى السّير إلى أن يقاربوا قبرس
[ثم] «1» يقفوا هناك يريحون [خيلهم] «2» إلى أن تكتمل العساكر وتتهيّأ
الأطلاب للقتال ثم يسيرون جملة واحدة بعد التعبئة والمصاففة.
وبينما هم فى السير إذا هم بمتملك قبرس بجيوشه وعساكره ومن انضاف إليه
من ملوك الفرنج وغيرها وقد ملأت الفضاء، وكان الذين وافاهم صاحب قبرس
من المسلمين الذين سبقوا طائفة قليلة جدا وأكثرهم خيّالة من أعيان
المماليك السلطانية، فعندما وقع العين على العين لم يتمالك المسلمون أن
يصبروا لمن خلفهم حتى يصيروا جملة واحدة بل انتهزوا الفرصة وتعرّضوا
للشهادة، وقال بعضهم لبعض: هذه الغنيمة، ثم حرّكوا خيولهم وقصدوا القوم
بقلب صادق- وقد احتسبوا نفوسهم فى سبيل الله- وحملوا على الفرنج حملة
عظيمة [وصاحوا الله أكبر] «3» وقاتلوهم أشدّ قتال، وأردفهم بعض جماعة
وتخلّف عنهم أخر، منهم رجل من أكابر الخاصّكيّة أقام يستظلّ تحت شجرة
[كانت] «4» هناك، وتقاتل المسلمون مع الفرنج قتالا شديدا، قتل فيه
السّيفى تغرى بردى المؤيّدى الخازندار، وكان من محاسن الدنيا، لم
ترعينى أكمل منه فى أبناء جنسه، والسّيفى قطلوبغا المؤيّدى البهلوان،
وكان رأسا فى الصّراع، ومن مقولة تغرى بردى المقدّم ذكره فى الشجاعة
والفروسيّة، والسيفى إينال طاز البهلوان، والسّيفى نانق اليشبكىّ
وهؤلاء الأربعة من الأعيان والأبطال المعدودة- عوّض الله شبابهم الجنة
بمنّه وكرمه- ثم قتل من المسلمين جماعة أخر، وهم مع قلتهم ويسير عددهم
فى ثبات إلى أن نصر الله الإسلام، ووقع على الكفرة الخذلان وانكسروا،
وأسر متملك قبرس مع كثرة جموعه وعظم عساكره التى لا تحصر، وقلة عسكر
المسلمين، حتى إن الذي كان حضر أوائل الوقعة أقل من سبعين نفسا قبل أن
يصل إليهم الأمير إينال العلائى الناصرى أحد أمراء الطبلخانات [ورأس
نوبة ثالث] «5» وهو الملك الأشرف إينال، والأمير تغرى برمش، ثم تتابع
القوم طائفة بعد طائفة؛ كلّ ذلك بعد أن انكسرت الفرنج وأسر
(14/293)
صاحب قبرس، وقتل من قتل من المسلمين، ولمّا
ترادفت عساكر الإسلام ركبوا أقفية الفرنج ووضعوا فيهم السّيف، وأكثروا
من القتل والأسر، وانهزم من بقى من الفرنج إلى مدينة قبرس الأفقسيّة،
ثم وجد المسلمون مع الفرنج طائفة من التركمان المسلمين قد أمدّ الفرنج
بهم على بك بن قرمان- عليه من الله ما يستحقه- فقتل المسلمون كثيرا
منهم.
واجتمع عساكر البرّ والبحر من المسلمين فى الملّاحة يوم الاثنين ثانى
شهر رمضان، وتسلم الأمير تغرى بردى المحمودى صاحب قبرس، كل ذلك
والمسلمون يقتلون ويأسرون وينبهون حتى امتلأت أيديهم وتغلّبوا عن حمل
الغنائم.
وأما القتلى من الفرنج فلا تحصر ويستحى من ذكرها كثرة؛ حدثنى بعض
مماليك الوالد ممن باشر الواقعة من أوّلها إلى آخرها وجماعة كبيرة من
الأصحاب الثقات قالوا: كان موضع الوقعة أزيد من ألفى قتيل من قتلى
الفرنج، هذا فى الموضع الذي كان فيه القتال، وأما الذي قتل من الفرنج
بالضّياع والأماكن وبطريق قبرس فلا حدّ له ولا حساب، فإنه استمرّ القتل
فيهم أيّاما، واستمروا على الملّاحة إلى يوم الخميس خامس شهر رمضان
فساروا منها يريدون الأفقسيّة مدينة قبرس.
ولما ساروا وافاهم الخبر- بعد أن تقدّم منهم جماعة كبيرة من المطّوّعة
والمماليك السلطانية إلى مدينة قبرس- بأن أربعة عشر مركبا من مراكب
الفرنج مشحونة بالسلاح والمقاتلة أتت [المراكب] «1» لقتال المسلمين،
منها سبعة أغربة، وسبعة مربّعة القلاع، فلاقاهم الأمير إينال الجكمىّ
أمير مجلس، والأمير قرامراد خجا الشعبانى، والأمير طوغان السّيفى تغرى
بردى أحد مقدّمى دمشق، والأمير جانى بك رأس نوبة السّيفى يلبغا
النّاصرى المعروف بالثّور بعساكرهم وبمن انضاف إليهم من المطوّعة
وغيرهم؛ وهؤلاء الأمراء الذين كانوا مقدّمى العساكر فى البحر بالمراكب،
واقتتلوا مع الفرنج المذكورين أشدّ قتال حتى هزموهم وأخذوا منهم مركبا
مربّعا من مراكب
(14/294)
الفرنج بعد أن قتلوا منهم عدّة كبيرة تقارب
ما ذكرنا ممّن قتل بمكان الوقعة الأولى، وولت الفرنج الأدبار.
واستمرّ الذي توجّه من الغزاة إلى الأفقسيّة من المماليك السلطانية
وغيرهم يقتلون فى طريقهم ويأسرون إلى أن وصلوا إلى المدينة ودخلوا قصر
الملك ونهبوه.
ثم عادوا ولم يحرقوا بمدينة قبرس إلا مواضع يسيرة، ولم يدخل المدينة
أحد من أعيان العسكر، وغالب الذي دخلها من المماليك السلطانية
والمطّوّعة، وكان دخولهم وإقامتهم بها وعودهم منها فى يومين وليلة
واحدة.
ثم أقام جميع الغزاة بالملّاحة وأراحوا بها أبدانهم سبعة أيّام، وهم
يقيمون فيها شعائر الإسلام من الأذان والصلاة والتسبيح- ولله الحمد على
هذه المنة بهذا الفتح العظيم الذي لم يقع مثله فى الإسلام من يوم غزاهم
معاوية بن أبى سفيان، رضى الله عنه فى سنة نيّف وعشرين من الهجرة.
ثم ركبت الغزاة المراكب عائدين إلى جهة الدّيار المصرية، ومعهم الأسرى
والغنائم، ومن جملتها متملّك قبرس فى يوم الخميس ثانى عشر رمضان بعد أن
بعث أهل الماغوصة يطلبون الأمان- هذا ما كان من أمرهم-[انتهى] «1» .
وجزيرة قبرس تسمّى باللغة الرّومية شبرا، والبحر يحيط بها مائتى ميل،
والميل أربعة آلاف ذراع، والذراع أربعة وعشرون إصبعا، والإصبع ست
شعيرات مضموم بعضها إلى بعض، والفرسخ بهذا الميل ثلاثة أميال والبريد
بهذا الفرسخ أربعة فراسخ، وجزيرة قبرس من الإقليم الرّابع من الأقاليم
السبعة، وسلطانها يقال له أرادا شبرا: أى سلطان الجزيرة، وقبرس مدينة
بالجزيرة تسمّى الأفقسيّة، ومسيرة جزيرة قبرس سبعة أيام، وبالجزيرة
المذكورة اثنا عشر ألف قرية كبارا وصغارا، وبمدنها وقراها من الكنائس
والدّيارات والقلالى والصوامع كثير، وبها البساتين المشتملة على
الفواكه المختلفة، وبها
(14/295)
الرياحين العطرة كالخزام والياسمين والورد
والسّوسن والنرجس والريحان والنسرين والأقحوان وشقائق النعمان وغير
ذلك، وبمدن الجزيرة المذكورة الأسواق والخانات والحمّامات والمبانى
العظيمة [انتهى] «1»
وأما أمر السلطان الملك الأشرف [برسباى] «2» فإنه لما بلغه خبر أخذ
قبرس فى يوم الاثنين ثالث عشرين رمضان حسبما تقدّم ذكره كاد أن يطير
فرحا، ولقد رأيته وهو يبكى من شدّة الفرح، وبكى الناس لبكائه، وصار
يكثر من الحمد والشكر لله، ودقّت البشائر بقلعة الجبل وبسائر مدن
الإسلام لما بلغهم ذلك، وارتجّت القاهرة وماجت الناس من كثرة السرور
الذي هجم عليهم، وقرىء الكتاب الوارد بهذا النصر على الناس بالمدرسة
الأشرفية بخط العنبريّين بالقاهرة حتى سمعه كلّ من قصد سماعه «3» ،
وقالت الشعراء فى هذا الفتح عدّة قصائد، من ذلك القصيدة العظيمة التى
نظمها الشيخ زين الدين عبد الرحمن بن الخراط أحد أعيان موقعى الدّست
«4» بالديار المصرية، وأنشدها بين يدى السلطان بحضرة أرباب الدولة،
والقصيدة ثلاثة وسبعون بيتا، أولها. [الكامل]
بشراك يا ملك المليك الأشرفى ... بفتوح قبرس بالحسام المشرفى
فتح بشهر الصوم تمّ له فيا ... لك أشرف فى أشرف فى أشرف
فتح تفتحت السماوات العلى ... ... من أجله بالنصر واللطف الخفى
والله حف جنوده بملائك ... عاداتها التأييد وهو بها حفى
(14/296)
ومنها:
الأشرف السلطان أشرف مالك ... لولاه أنفس ملكه لم تشرف
هو مكتف بالله أحلم قادر ... راض لآثار النبوة مقتفى
حامى حمى الحرمين بيت الله وال ... قبر الشريف لزائر ومطوف
وكلها على هذا النسق- انتهى.
قلت: وكل ذلك والنّصارى تكذب هذا الخبر وتستغربه من أسر متملّك قبرس
وهزيمته على هذا الوجه، لأن أمر هذا النّصر فى غاية من العجب من وجوه
عديدة.
أوّلها: قلة من قاتل الفرنج من المسلمين، فإنهم كانوا فى غاية من
القلّة [ «1» بحيث إن العقل لا يقبل ذلك إلا بعد وقوعه فى هذه المرة
«2» ] .
وثانيهما: أنه لم تتعب عساكر الإسلام ولا وقع مصاف.
وثالثها: أنه كان يمكن هزيمة صاحب قبرس من المسلمين بعد أيّام كثيرة من
وجوه عديدة يطول الشرح فى ذكرها لا تخفى على من له ذوق.
ورابعها: أنه كان يمكن هزيمة الفرنج ولا يمكن مسك الملك وأسره أيضا من
وجوه عديدة.
وخامسها: أن غالب العسكر إذا حصل لهم هزيمة يتحايون ويرجعون غير مرة
على من هزمهم لا سيما كثرة عساكر الفرنج وقلة من حضر الوقعة من عساكر
المسلمين فى هذه المرّة، فكان على هذا يمكنهم الكرّ على المسلمين بعد
هزيمتهم غير مرّة.
وسادسها: أن الوقعة والقتال والهزيمة والقبض على الملك وتشتت شمل
الفرنج والاستيلاء على ممالكهم كل ذلك فى أقل من نصف يوم؛ فهذا أعجب من
العجب.
(14/297)
وما أرى إلا أن الله سبحانه وتعالى أعزّ
الإسلام وأهله، وخذل الكفر وأهله بهذا النصر العظيم الذي لم يسمع بمثله
فى سالف الأعصار، ولا فرح بمثله ملك من ملوك الترك، ولقد صار للملك
الأشرف برسباى بهذا الفتح ميزة على جميع ملوك التّرك إلى يوم القيامة-
اللهم لا مانع لما أعطيت.
ولما بلغ الملك الأشرف عود الغزاة المذكورين إلى جهة الدّيار المصريّة
رسم فنودى بالقاهرة ومصر بالزّينة، ثم ندب السلطان جماعة كبيرة [من
المماليك السلطانية] «1» بالتوجّه إلى الثّغور لحفظ مراكب الغزاة بعد
خروجهم منها خوفا من أن يطرقهم طارق من الفرنج مما يأتى صاحب قبرس من
نجدات الفرنج- وكان هذا من أكبر المصالح- ثم رسم السلطان لهم أن يأخذوا
جميع المراكب من ثغر دمياط ويأتوا بها إلى ثغر الإسكندرية لتحفظ بها؛
وسبب ذلك أن الغزاة المذكورين كان منهم من وصل إلى ثغر الإسكندرية،
ومنهم من وصل إلى ثغر دمياط، ومنهم من وصل إلى الطّينة؛ لكثرة المراكب
ولاختلاف الأرياح.
وبينما السلطان فى انتظار المجاهدين قدم عليه السيّد الشريف بركات «2»
بن حسن بن عجلان أمير مكّة منها، وقد استدعى بعد موت أبيه، فأكرمه
السلطان وخلع عليه بإمرة مكّة على أنه يقوم بما تأخّر على أبيه من
الذّهب، وهو مبلغ خمسة وعشرين ألف دينار، فإن أباه الشريف حسن بن عجلان
كان قد حمل من الثلاثين ألف دينار- التى التزم بها قبل موته- خمسة آلاف
دينار، ثم التزم بركات أيضا بحمل عشرة آلاف دينار فى كلّ سنة، وأن لا
يتعرض السلطان لما يؤخذ من بندر جدّة من عشور بضائع التّجّار الواصلة
من الهند وغيره، وأن يكون ذلك جميعه لبركات المذكور [انتهى] «3» .
ولما كان يوم عيد الفطر ابتدأ دخول «4» الغزاة إلى ساحل بولاق أرسالا
كما خرجوا
(14/298)
منها، ووافق فى هذه الأيام وفاء النيل ستة
عشر ذراعا، فتضاعف مسرّات الناس من كل جهة، واستمرّ دخولهم فى كل يوم
إلى ساحل بولاق إلى أن تكامل فى يوم الأحد سابع شوّال ونزلوا بالميدان
الكبير بالقرب من موردة الجبس، وأصبحوا من الغد فى يوم الاثنين ثامن
شوّال- وهو يوم فطر السلطان؛ فإنّه كان يصوم الستة أيّام من شوّال-
طلعوا إلى القلعة على كيفيّة ما يذكر، وهم جميع الأمراء والأعيان من
المجاهدين والأسرى، والغنائم بين أيديهم، ومتملّك قبرس الملك جينوس بن
جاك أمامهم وهو منكّس الأعلام، وقد اجتمع لرؤيتهم خلائق لا يعلم عدّتهم
إلا الله تعالى، حتى أتت أهل القرى والبلدان من الأرياف للفرجة، وركبت
الأمراء من الميدان ومعهم غالب الغزاة، وساروا من أرض اللّوق «1» حتى
خرجوا من المقس «2» ودخلوا من باب القنطرة، وشقوا القاهرة إلى باب
زويلة، وتوجّهوا من الصّليبة «3» من تحت الخانقاه الشيخونية من سويقة
منعم «4» إلى الرّميلة، والخلق فى طول هذه المواضع تزدحم بحيث إن الرجل
لا يسمع كلام رفيقه من كثرة زغاريط النّساء، التى صفّت على حوانيت
القاهرة بالشوارع من غير أن يندبهم أحد لذلك. والإعلان بالتكبير
والتهليل، ومن عظم التهانى.
هذا مع تخليق الزّعفران والزينة المخترعة بسائر شوارع القاهرة حتى فى
الأزقة- وفى الجملة كان هذا اليوم من الأيام التى لم نرها قبلها ولا
سمعنا بمثلها- وساروا على هذه الصّفة إلى أن طلعوا إلى القلعة من باب
المدرّج «5» ، وهم مع ذلك فى ترتيب فى مشيهم
(14/299)
يذهب العقل؛ وهو أنهم قدّموا أوّلا الفرسان
من الغزاة أمام الجميع، ومن خلف الفرسان طوائف الرّجّالة من المطّوّعة
وعشران البلاد الشّاميّة وعربان البلاد وزعر القاهرة، ومن خلف هؤلاء
الجميع الغنائم محمولة على رءوس الحمّالين، وعلى ظهور الجمال والخيول
والبغال والحمير، والتى كانت على الرءوس فيها تاج الملك وأعلامه منكّسة
وخيله تقاد من وراء الغنائم، ثم من بعدهم الأسرى من رجال الفرنج، ثم من
بعدهم السّبى من النساء والصّغار وهم أزيد من ألف أسير تقريبا سوى ما
ذهب فى البلاد والقرى مع المطّوّعة وغيرهم من غير إذن مقدّم العساكر،
وهو أيضا يقارب ما ذكر، ومن وراء الأسرى جينوس ملك قبرس وهو راكب على
بغل بقيد حديد، وأركب معه اثنان من خواصّه، وعن يمينه الأمير إينال
الجكمىّ أمير مجلس، وأمامه قرا مراد خجا الشّعبانىّ أحد مقدّمى الألوف
أيضا، وعن يساره الأمير تغرى بردى المحمودىّ رأس نوبة النّوب، وأمامه
الأمير حسين المدعو تغرى برمش أحد مقدّمى الألوف أيضا، وأمامهم أمراء
الطبلخانات والعشرات على مراتبهم، وأمراء البلاد الشاميّة.
وساروا على هذه الصّفة حتى طلعوا إلى القلعة فأنزل جينوس عن البغل وكشف
رأسه عند باب المدرّج، وقد احتاطه الحجّاب وأمراء جاندار، وقد صفت
العساكر الإسلامية من باب المدرّج إلى داخل الحوش السلطانى.
فلما دخل جينوس من باب المدرّج قبّل الأرض، ثم قام ومشى ومعه الأمراء
من الغزاة والحجّاب ورءوس النّوب وهو يرسف فى قيوده على مهل لكثرة
الزّحام.
هذا وقد جلس الملك الأشرف بالمقعد الذي على باب البحرة المقابل لباب
الحوش السّلطانى فى موكب عظيم من الأمراء والخاصّكيّة، وعنده الشريف
بركات بن حسن بن عجلان أمير مكة، وهو جالس فوق الأمراء، ورسل خوند كار
مراد بن عثمان متملّك بلاد الرّوم، ورسل صاحب تونس من بلاد المغرب،
ورسول الأمير عذرا أمير العرب بالبلاد الشّاميّة، وقد طال جلوس الجميع
عند السلطان إلى قريب الظّهر، والسلطان يرسل إلى الغزاة رسولا بعد رسول
باستعجالهم حتى اجتازوا بتلك الأماكن المذكورة؛ فإنها
(14/300)
مسافة طويلة، وأيضا لا يقدرون على سرعة
المشى من كثرة ازدحام الناس بالطرقات، ثم ساروا من باب المدرج إلى أن
دخلوا باب الحوش، فلمّا رأى متملك قبرس السلطان وهو جالس على المقعد
المذكور فى موكبه وأمره من معه بتقبيل الأرض غشى عليه وسقط إلى الأرض،
ثم أفاق وقبل الأرض وقام على قدميه عند باب الحوش تجاه السلطان على
بعد، وسارت الغنائم بين يدى السلطان حتى عرضت عليه بتمامها وكمالها، ثم
الأسرى بأجمعهم حتى انتهى ذلك كله، فتقدّمت الأمراء الغزاة وقبلوا
الأرض على مراتبهم إلى أن كان آخرهم الأمير إينال الجكمىّ مقدّم
العساكر.
ثم أمر السلطان بإحضار متملّك قبرس فتقدّم ومشى وهو بقيوده ورأسه
مكشوفة، وبعد أن مشى خطوات أمر فقبّل الأرض، ثم قام، ثم قبّل الأرض
ثانيا بعد خطوات، وأخذ يعفّر وجهه فى التّراب، ثم قام فلم يتمالك نفسه-
وقد أذهله ما رأى من هيبة الملك وعزّ الإسلام- فسقط ثانيا مغشيا عليه،
ثم أفاق من غشوته وقبّل الأرض، وأوقف ساعة بالقرب من السلطان بحيث إنه
يتحقّق شكله، هذا والجاويشيّة تصيح والشّبابة السلطانية تزعق والأوزان
يضرب على عادته «1» ، ورءوس النّوب والحجّاب تهول الناس بالعصى من كثرة
العساكر، والناس بالحوش المذكور، هذا مع ما الناس فيه من التّهليل
والتّكبير بزقاقات القلعة، وأطباق المماليك السلطانية وغيرها.
ثم أمر السلطان بجينوس المذكور أن يتوجّه إلى مكان بالحوش السلطانى،
فمروا به فى الحال إلى المكان المذكور.
ثم طلب السلطان مقدّمى عساكر الغزاة من أمراء مصر والشام والخاصّكيّة
المقدّم كل واحد منهم على مركب، وكانوا كثيرا جدا؛ لأن عدّة مراكب
الغزاة المصريين والشاميين زادت على مائة قطعة، وقيل مائتان، وقيل أكثر
أو أقل ما بين أغربة، وقراقير، وزوارق وغير ذلك، فأوّل من بدأ بهم
السلطان وخلع عليهم أمراء الألوف
(14/301)
بمصر والشام، وخلع على كل واحد منهم أطلسين
متمّرا «1» ، وقيّد له فرسا بقماش ذهب، وهم الأمير إينال الجكمى أمير
مجلس، والأمير تغرى بردى المحمودىّ الناصرى رأس نوبة النّوب، والأمير
قرا مرادخجا الشّعبانى الظاهرى برقوق أمير جاندار والأمير حسين بن أحمد
المدعو تغرى برمش البهسنىّ التّركمانىّ أحد مقدّمى الألوف، والأمير
طوغان السّيفى تغرى بردى أحد مقدّمى الألوف بدمشق، ثم أمراء الطبلخانات
والعشرات من أمراء مصر والشام على كل واحد فوقانى حرير كمخا «2» أحمر
وأخضر وبنفسجىّ بطرز زركش على قدر مراتبهم، وكذلك كل مقدّم مركب من
الخاصّكيّة والأجناد وغيرهم، فكان هذا اليوم يوما عظيما جليلا لم يقع
مثله فى سالف الأعصار، أعزّ الله تعالى فيه دين الإسلام وأيّده وخذل
فيه الكفر وبدّده.
ثم انفض الموكب ونزل كلّ واحد إلى داره، وقد كثرت التهانى بحارات
القاهرة وظواهرها لقدوم المجاهدين حتى إن الرّجل كان لا يجتاز بدرب ولا
حارة إلا وجد فيها التخليق بالزّعفران والتهانى، ثم أمر السلطان بهدم
الزينة فهدمت، وكان لها مدّة طويلة.
ثم أصبح السلطان من الغد وهو يوم الثلاثاء تاسع شوّال جمع التّجّار
لبيع الغنائم من القماش والأوانى والأسرى.
ثم أرسل السلطان يطلب من متملك قبرس المال، فقال: مالى إلا روحى وهى
بيدكم، وأنا رجل أسير لا أملك الدرهم الفرد، من أين تصل يدى إلى مال
أعطيه لكم؟
وتكرّر الكلام معه بسبب ذلك وهو يجيب بمعنى ما أجاب به أوّلا، حتى طلبه
السلطان بالحوش- وكان به أسارى الفرنج- فلما حضر بين يدى السّلطان
وقبّل الأرض وأوقف وشاهده الأسرى من الفرنج فى تلك الحالة صرخوا
بأجمعهم صرخة واحدة، وحثوا
(14/302)
التراب على رءوسهم، والسلطان ينظر إليهم من
مجلسه بالمقعد الذي كان جلس به من أمسه، وسبب صراخ الأسرى وعظيم بكائهم
أنه كان فيهم من لا يصدق أنّ ملكهم قد أسر لكثرتهم وتفرقهم فى المراكب،
والاحتفاظ بهم، وعدم اجتماع بعضهم على بعض، فكان إذا قيل لبعضهم إن
ملككم معنا أسيرا يضحك، ثم يقول: أين هو؟ فإذا قيل له بهذه المركب
ويشار إلى مركب الأمير تغرى بردى المحمودىّ يهزأ بذلك ويتبسم، فلما
عاينوه تحقّقوا أسره فهالهم ذلك، وقيل إنّ بعض سبى الفرنج سألت من رجل
من المسلمين- لما كسروا الصليب الكبير الذي يعرف به جبل الصليب
ببلادهم، وكان هذا الصليب معظما عندهم إلى الغاية- وقالت: نحن إذا حلف
منا رجل أو امرأة على هذا الصّليب باطلا أوذى فى الوقت، وأنتم قد كسر
تموه وأحرقتموه ولم يصبكم بأس، ما سبب ذلك؟ فقال لها الرجل: أنتم أطعتم
الشيطان فصار يغويكم ويستخفّ بعقولكم، ونحن قد هدانا الله للإسلام
وأنزل علينا القرآن فلا سبيل له علينا، فعند ما كسرناه بعد أن ذكرنا
اسم الله تعالى عليه فرّ منه الشيطان وذهب إلى لعنة الله، فقالت
المرأة: هو ما قلته، وأسلمت هى وجماعة معها- انتهى.
ولما أوقف جينوس المذكور بالحوش بين يدى السلطان، وأوقف معه جماعة من
قناصلة الفرنج ممن كان بمصر وأعمالها، وتكلم الترجمان معه فيما يفدى به
نفسه من المال وإلا يقتله السلطان، صمم هو على مقالته الأولى، فالتزم
القناصلة عنه بالمال لفدائه من غير تعيين قدر بعينه ... ، ولكنهم
أجابوا السلطان بالسمع والطاعة فيما طلبه، وعادوا بجينوس إلى مكانه من
الحوش والترسيم عليه، وكان الذي رسم عليه السّيفى أركماس المؤيدى
الخاصكى المعروف بأركماس فرعون، وأقام جينوس بمكانه إلى يوم الأربعاء،
فرسم له السلطان ببدلتين من قماشه، وأمر له بعشرين رطل لحم فى كل يوم،
وستة أطيار دجاج، وخمسمائة درهم فلوسا برسم حوائج الطعام، وفسح له فى
الاجتماع بمن يختاره من الفرنج وغيرهم، وأدخل إليه جماعة من حواشيه
لخدمته، كلّ ذلك والسلطان مصمم على طلب خمسمائة ألف دينار منه يفدى بها
نفسه وإلّا يقتله، والرسل
(14/303)
تتردّد بينهم من التراجمين والقناصلة إلى
أن تقرر الصلح بعد أيّام على أنه يحمل مائتى ألف دينار يقوم منها بمائة
ألف دينار عاجلة، وإذا عاد إلى بلاده أرسل بالمائة ألف دينار الأخرى،
وضمنه جماعة فى ذلك، وأنه يقوم فى كل سنة بعشرين ألف دينار جزية،
واشترط جينوس مع السلطان أن يكف عنه طائفة البنادقة «1» وطائفة
الكيتلان «2»
من الفرنج، فضمن له السلطان ذلك، وانعقد الصلح ثم أطلقه من السجن بعد
أيام كما سنذكره فى يومه.
هذا ما كان من أمر صاحب قبرس وغزوه [انتهى] «3» .
وأما أمور المملكة فإنه لما كان يوم الخميس حادى عشر شوّال المذكور
سافر الشريف بركات [بن حسن] «4» من القاهرة إلى مكّة المشرفة أميرا بها
مكان والده [حسن] «5» .
ثم فى يوم الاثنين خامس عشر شوّال خلع السلطان على الأمير إينال «6»
الجكمى أمير مجلس باستقراره أمير سلاح عوضا عن الأتابك يشبك الأعرج،
وكانت شاغرة عنه من يوم صار أتابك العساكر لغيبة إينال هذا فى الجهاد،
وخلع على الأمير جرباش الكريمى قاشق حاجب الحجاب باستقراره أمير مجلس
عوضا عن إينال الجكمىّ، وخلع على الأمير قرقماس الشعبانى الناصرى
باستقراره حاجب الحجاب بالديار المصرية عوضا عن جرباش المذكور.
ثم فى ثامن عشره خلع السلطان على الشّريف خشرم بن دوغان بن جعفر
الحسينى باستقراره أمير المدينة النبويّة عوضا عن الشريف عجلان بن نعير
بن منصور بن جمّاز، على أنه يقوم بخمسة آلاف دينار، ووقع بسبب ولاية
خشرم هذا بالمدينة حادثة قبيحة،
(14/304)
وهى أن خشرما المذكور لما قدم المدينة وقد
رحل عنها المعزول عنها وهو الشريف عجلان بن نعير لما بلغه عزله، فلم
يلبث خشرم بالمدينة غير ليلة واحدة وصبّحه عجلان بجموعه- وقد حشد
العربان- وقاتل الشريف خشرما وحصره ثلاثة أيّام حتى كسروه، ودخل العرب
المدينة ونهبوا دورها، وشعّثوا أسوارها، وأخذوا ما كان للحجّاج
الشامييّن من ودائع وغيرها، وقبضوا على خشرم المذكور ثم أطلقوه بسبب من
الأسباب، واستهانوا بحرمة المسجد، وارتكبوا عظائم. كل ذلك فى أواخر ذى
القعدة.
ثم فى يوم الخميس ثانى عشرين ذى الحجة قدم الأمير جار قطلو الظاهرى
برقوق نائب حلب، فطلع إلى القلعة وقبّل الأرض وخلع السلطان عليه خلعة
الاستمرار على نيابته، واستمرّ بالقاهرة إلى يوم السبت أول محرم سنة
ثلاثين وثمانمائة خلع السلطان عليه خلعة السّفر وخرج من يومه إلى محل
كفالته،
[ما وقع من الحوادث سنة 830]
ثم فى يوم الخميس سادس المحرم خلع السلطان على الأمير أزدمر من على خان
الظاهرى «1» أحد مقدمى الألوف بديار مصر المعروف بشايا باستقراره فى
حجوبية حلب، قلت: درجة إلى أسفل؛ فإنه يستحق ذلك وزيادة، لما كان يشتمل
عليه من المساوئ والقبائح، لا أعرف فى أبناء جنسه أقذر منه؛ كان دميم
الخلق مذموم الخلق، بشع المنظر، كريه المعاشرة، بخيلا متكبّرا، ظالما
جبّارا، هذا مع الجبن والجهل المفرط وعدم التفات الملوك إليه فى كل
دولة من الدّول، وعدّ إخراجه من مصر من حسنات الملك الأشرف، وأنا أقول:
لو كان الرّجل يرزق على قدر معرفته، وما يحسنه من الفضائل والفنون
لكانت رتبة أزدمر هذا أن يكون صبيّا لبعض أوباش السّراباتيّة «2» ، وقد
استوعبنا مساوئه فى ترجمته فى تاريخنا المنهل الصافى والمستوفى بعد
الوافى- انتهى.
ثم أخذ السلطان فى الفحص على جائى بك الصّوفىّ على عادته.
(14/305)
وأهلّ شهر ربيع الأوّل، ففى ليلة الجمعة
رابعه عمل السلطان المولد النبوىّ بالحوش من قلعة الجبل.
ثم فى يوم السبت حادى عشرينه أفرج السلطان عن جينوس متملّك قبرس من
سجنه بقلعة الجبل، وخلع عليه، وأركبه فرسا بسرج ذهب وكنبوش زركش، ونزل
إلى القاهرة فى موكب، وأقام بدار أعدّت له، وقد استقرّ أركماس المؤيّدى
المعروف بفرعون مسفّره، وصار يركب من منزله المذكور ويمرّ بشوارع
القاهرة ويزور كنائس النّصارى ومعابدهم، ويتوجّه إلى حيث اختار من غير
حجر عليه، بعد أن أجرى السلطان عليه من الرّواتب ما يقوم به وبمن فى
خدمته، هذا والخدم تأتيه من النصارى والكتّاب والقناصلة، وحضرت أنا معه
فى مجلس فرأيت له ذوقا ومعرفة عرفت منه بالحدس كونه لا يعرف باللغة
العربية.
ولما كان يوم الخميس سابع جمادى الأولى خلع السلطان على الأمير جرباش
الكريمىّ قاشق أمير مجلس باستقراره فى نيابة طرابلس عوضا عن الأمير
قصروه من تمراز بحكم انتقال قصروه إلى نيابة حلب، عوضا عن جار قطلو
بحكم عزل جار قطلو وقدومه إلى القاهرة.
وفيه قدم رسول صاحب رودس «1» الفرنجىّ فأركب فرسا وفى صدره صليب وأطلع
إلى القلعة، وقبّل الأرض بين يدى السلطان وسأل عن مرسله صاحب رودس أنه
طلب الأمان، وأنه يسأل أن يعفى من تجهيز العساكر [الإسلامية] «2» إليه،
وأن يقوم للسلطان بما يطلبه منه، وكان السلطان تكلّم قبل تاريخه فى
غزوة رودس المذكورة.
(14/306)
ثم فى يوم الخميس خامس جمادى الآخرة خلع
السلطان على جينوس بن جاك متملّك قبرس خلعة السّفر.
ثم فى يوم الثلاثاء عاشر جمادى الآخرة المذكورة أمسك السلطان الأمير
تغرى بردى المحمودىّ رأس نوبة النّوب بعد فراغه من لعب الكرة بالحوش
السلطانى، فقبض على تغرى بردى «1» المذكور وهو بقماش لعب الكرة، وقيّد
وأخرج من يومه إلى سجن الإسكندرية، ولم يعلم أحد ذنبه عند السلطان حتى
ولا تغرى بردى المذكور؛ فإنى سألته فيما بعد فقال: لا أعلم على ماذا
أمسكت، غير أن المقريزى ذكر أنه له ذنوب وأسباب فى مسكه نذكرها بعد أن
نذكر قصّة مباشره.
واتّفق فى مسكه حادثة غريبة، وهو أن رجلا من مباشريه يقال له ابن
الشّاميّة كان بخدمته، فلمّا بلغه القبض عليه شقّ عليه ذلك، وخرج إلى
جهة القلعة ليسلّم عليه فوافى نزوله من القلعة مقيّدا إلى الإسكندرية،
فصار يصيح ويبكى ويستغيث وهو ماش معه حتى وصل إلى ساحل النّيل، ووقف
حتى أحدر أستاذه تغرى بردى المحمودى فى الحرّاقة إلى جهة الإسكندرية،
فلمّا عاين سفره اشتد صراخه إلى أن سقط ميتا، فحمل إلى داره وغسّل
وكفّن ودفن.
ثم خلع السلطان على الأمير أركماس «2» الظاهرى باستقراره رأس نوبة
النّوب عوضا عن تغرى بردى المذكور، وأنعم عليه بإقطاعه أيضا، وأنعم
بإقطاع أركماس المذكور وتقدمته على الأمير قانى باى الأبوبكريّ
الناصرىّ المعروف بالبهلوان ثانى رأس نوبة، وأنعم بطبلخانات قانى باى
على سودون ميق الأمير آخور الثانى، وخلع على الأمير إينال العلائى
الناصرى باستقراره رأس نوبة ثانيا عوضا عن قانى باى البهلوان المذكور،
وإينال «3» هذا هو الملك الأشرف إينال سلطان زماننا.
(14/307)
وأمّا ما وعدنا بذكره من قول المقريزى فى
سبب مسك تغرى بردى المذكور قال: وهذا المحمودى من جملة مماليك الملك
الناصر فرج، فلما قتل [فرج] «1» خدم عند [الأمير] «2» نوروز الحافظىّ
بدمشق، وصار له ميزة عنده، فلما قتل نوروز سجنه الملك المؤيّد شيخ
بقلعة المرقب، فما زال محبوسا بها حتى تنكّر المؤيّد على الأمير برسباى
الدّقماقى نائب طرابلس وسجنه بالمرقب مع المحمودى، وإينال الشّشمانىّ،
فرأى تغرى بردى المحمودى فى ليلة من الليالى مناما يدلّ على أن برسباى
يتسلطن، فأعلمه به، فعاهده على أن يقدّمه إذا تسلطن ولا يعترضه بمكروه،
فلمّا كان من سلطنة الملك الأشرف برسباى ما كان، وتقدمته للمحمودى فيما
مضى، وتمادى الحال إلى أن بات بالقصر على عادته، فقال لبعض من يثق به
من المماليك ما تقدّم من منامه بالمرقب وأنه وقع كما رأى [وأنه] «3»
أيضا رأى مناما يدلّ على أنه يتسلطن ولا بدّ، فوشى ذلك المملوك به
للسلطان فحرّك منه كوامن، منها: أنه صار يقول لما حججنا أحضرت ابن
عجلان، ولما مضيت إلى قبرس أسرت ملكها، أين كان الأشرف حتى يقال هذا
بسعده؟ والله ما كان هذا إلا بسعدى، وتنقل كل ذلك إلى السلطان- انتهى
كلام المقريزى بتمامه.
ثم فى يوم الاثنين أوّل شهر رجب قدم الخبر على السلطان بموت الملك
المنصور عبد الله ابن الملك الناصر أحمد صاحب اليمن، وأن أخاه ملك بعده
ولقّب بالأشرف إسماعيل.
ثم فى يوم الاثنين ثامن شهر رجب قدم الأمير جار قطلو المعزول عن نيابة
حلب إلى القاهرة، وطلع إلى القلعة، وقبّل الأرض فخلع عليه السلطان
باستقراره أمير مجلس عوضا عن جرباش قاشق بحكم انتقال جرباش إلى نيابة
طرابلس حسبما تقدم ذكره.
(14/308)
ثم فى تاسع عشر رجب المذكور توجّه الزينى
عبد الباسط ناظر الجيش على الهجن إلى حلب لعمارة سورها ولغير ذلك من
المهمّات السلطانية بعد ما قدّم عدّة خيول قبل ذلك بأيّام.
ثم فى يوم الخميس أوّل شهر رمضان فتح الجامع «1» الذي أنشأه الأمير
جانى بك الأشرفى الدّوادار الثانى بالشارع الأعظم خارج باب زويلة بخط
القربيّين، وأقيم به الجمعة فى يوم الجمعة ثانيه.
ثم فى سابع عشر شهر رمضان المذكور قدم عبد الباسط إلى القاهرة من حلب
وطلع إلى القلعة، وخلع السلطان عليه.
ثم فى ثالث عشرينه طلع زين الدين عبد الباسط بهديّة إلى السلطان فيها
مائتا فرس، وحلى كثير ما بين زركش ولؤلؤ وقماش مذهّب برسم السلطان «2»
وثياب صوف وفرو وغيره.
ثم فى عاشر ذى القعدة قدم الخبر على السلطان بأن قاضى قضاة دمشق نجم
الدين عمر بن حجّى وجد مذبوحا على فراشه ببستانه بالنّيرب «3» خارج
دمشق، ولم يعرف قاتله واتّهم الناس الشريف كاتب سرّ دمشق ابن الكشك
وعبد الباسط بالممالأة على قتله، وراحت على من راحت، وكان ابن حجّىّ
المذكور من أعيان أهل دمشق وفضلائهم، وقد تقدّم من ذكره نبذة فى ولايته
كتابة سرّ مصر قبل تاريخه.
ثم فى رابع عشر ذى القعدة، خلع السلطان على الأمير قانى باى البهلوان
أحد مقدّمى الألوف بمصر باستقراره فى نيابة ملطية «4» زيادة على ما
بيده من إقطاع تقدمة ألف بديار
(14/309)
مصر عوضا عن أزدمر شايا المقدّم ذكره لعجزه
عن القيام بقتال التّركمان، وأعيد أزدمر شايا إلى إقطاعه بحلب كما كان
أوّلا.
ثم فى يوم الاثنين سلخ ذى القعدة خلع السلطان على بهاء الدين محمد ابن
القاضى نجم الدين عمر بن حجى باستقراره قاضى قضاة دمشق عوضا عن والده
بحكم وفاته، وولى بهاء الدين هذا القضاء قبل أن يستكمل عذاره.
ثم فى سابع عشرين ذى الحجة قدم مبشّر الحاج وأخبر بسلامة الحاجّ ورخاء
الأسعار بمكة، وأنه قرىء مرسوم السلطان بمكة المشرّفة فى الملأ بمنع
الباعة من بسط البضائع أيام الموسم فى المسجد الحرام، ومن ضرب الناس
الخيام بالمسجد المذكور، ومن تحويل المنبر فى يوم الجمعة والعيدين من
مكانه إلى جانب الكعبة حتى يسند إليها، فأمر أن يترك مكانه مسامتا
لمقام إبراهيم الخليل عليه السلام، ويخطب الخطيب عليه هناك، وأن تسدّ
أبواب المسجد بعد انقضاء الموسم إلا أربعة أبواب من كل جهة باب واحد،
وأن تسدّ الأبواب الشارعة من البيوت إلى سطح المسجد، فامتثل جميع ذلك.
قال المقريزى: وأشبه هذا قول عبد الله بن عمر رضى الله عنه وقد سأله
رجل عن دم البراغيث فقال: عجبا لكم يا أهل العراق تقتلون الحسين بن على
وتسألون عن دم البراغيث!! وذلك أن مكة استقرّت دار مكس حتى إنه يوم
عرفة قام المشاعلىّ- والناس بذلك الموقف العظيم يسألون الله مغفرة
ذنوبهم- فنادى معاشر الناس كافة، من اشترى بضاعة وسافر بها إلى غير
القاهرة حلّ دمه وماله للسلطان، فأخذ التجار القادمون من الأقطار حتى
صاروا مع الركب المصرى على ما جرت به هذه العادة المستجدة منذ سنين
لتؤخذ منهم مكوس بضائعهم، ثم إذا ساروا من القاهرة إلى بلادهم من
البصرة والكوفة والعراق أخذ منهم المكس ببلاد الشّام وغيرها، فهذا لا
ينكر وتلك الأمور بعثنا بإنكارها- انتهى كلام المقريزى.
قلت: أنا لا أتابعه على ما أعاب، وأبلق خير من أسود، وكونه رسم بردّ
التجار
(14/310)
إلى الدّيار المصرية لتؤخذ منهم المكوس لا
يلزم أنه لا يفعل معروفا آخر، وأما جميع ما أبطله ورسم بمنعه ففيه غاية
الصلاح والتعظيم للبيت العتيق، أما منع الباعة بالحرم فكان من أكبر
[المصالح و] «1» المعروف، فإنه كان يقوم الشخص فى طوافه وعبادته وأذنه
ملأى من صياح الباعة والغوغاء من كثرة ازدحام الشّراة، وأما نصب الخيام
فكان من أكبر القبائح، ولعل الله تعالى يغفر للملك الأشرف جميع ذنوبه
بإبطال ذلك من الحرم الشريف، فإنه قيل إن بعض الناس كان إذا نصب خيامه
بالمسجد الحرام نصب به أيضا بيت الراحة وحفر له حفرة بالحرم، وفى هذا
كفاية، وأما تحويل المنبر فإنه قيل للسلطان إن المنبر فى غاية ما يكون
من الثقل، وأنه كلما ألصق بالبيت الشريف انزعج منه وتصدّع، فمنع بسبب
ذلك، وقد صار الآن يحول إلى القرب من البيت، غير أنه لا يلصق به، فحصلت
المصلحة من الجهتين، وأما غلق أبواب المسجد فى غير أيّام الموسم إلا
أربعة فيعرف فائدة ذلك من جاوره بمكة، ويطول الشرح فى ذكر ما يتأتى من
ذلك من المفاسد، وإن كان فيه بعض مصلحة لسكان مكة- انتهى.
ثم فى رابع عشرين ذى الحجة قبض بالمدينة على أميرها الشريف خشرم بن
دوغان ابن جعفر بن هبة الله بن جمّاز بن منصور بن جمّاز، فإنه لم يقم
بالمبلغ الذي وعد به، واستقرّ عوضه فى إمرة المدينة الشريفة مانع بن
على بن عطية بن منصور بن جمّاز بن شيحة بن هاشم بن قاسم بن مهنّأ بن
داود بن قاسم بن عبد الله بن طاهر بن يحيى بن الحسين بن جعفر بن الحسين
بن على بن أبى طالب [كرم الله وجهه] «2» .
[ما وقع من الحوادث سنة 831]
ثم فى يوم الجمعة ثالث المحرم سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة قدم الحمل من
جزيرة قبرس ومبلغه خمسون ألف دينار مشخّصة، فرسم السلطان بضربها دنانير
أشرفيّة، فضربت بقلعة الجبل والسلطان ينظر إليها إلى أن تمّت.
ثم فى يوم السبت حادى عشر المحرّم المذكور ركب السلطان من قلعة الجبل
بغير
(14/311)
قماش الخدمة ونزل إلى دار الأمير جانى بك
الأشرفى الدّوادار الثانى بحدرة البقر «1» ليعوده فى مرضه.
ثم فى يوم الأربعاء ثانى عشرينه قدم الركب الأوّل من الحاج، وقدم
المحمل من الغد ببقية الحاجّ، ومعهم الشريف خشرم فى الحديد، وقدم معهم
أيضا الأمير بكتمر السّعدى من المدينة، وكان له بها من العام الماضى.
ثم فى يوم الثلاثاء ثانى عشر صفر من سنة إحدى وثلاثين خلع السلطان على
قاضى القضاة محبّ الدين أحمد بن نصر الله البغدادى الحنبلى، وأعيد إلى
قضاء الحنابلة بالديار المصرية بعد عزل قاضى القضاة عز الدين عبد
العزيز الحنبلى «2» ولم يكن عزل عزّ الدين المذكور لسوء سيرته بل إنه
سار فى القضاء على طريق غير معتادة، وهو أنه صار يمشى فى الأسواق
ويشترى ما يحتاجه بيده من الأسواق، وإذا ركب أردف خلفه على بغلته عبده،
ويمر على هذه الهيئة بجميع شوارع القاهرة، وكان كثير التردد إلىّ فى كل
وقت، لأنه كان من جمله أصحاب الوالد، فكان يأتى من المدرسة الصالحيّة
ماشيا، ويجلس حيت انتهى به المجلس، فلم يحسن ذلك ببال أعيان الدّولة،
وحملوه على أنه يفعل ذلك تعمدا ليقال، وقالوا للسلطان- وكان له إليه
ميل زائد-: هذا مجنون، ولا زالوا به حتى عزله وأعاد القاضى محب الدين.
ثم فى يوم الثلاثاء تاسع عشر صفر المذكور ركب السلطان من القلعة بغير
قماش الخدمة- وقد صار ركوب السلطان بغير قماش الخدمة عادة، وكان يقبح
ذلك فى سالف الأعصار، وأول من فعل ذلك الملك الناصر فرج، ثم المؤيد، ثم
الأشرف [هذا] «3» .
انتهى- وسار حتى شقّ القاهرة ودخل من باب زويلة وخرج من باب النّصر إلى
خليج الزعفران، فرأى البستان الذي أنشأه هناك، وعاد من خارج القاهرة
على تربته
(14/312)
التى عمّرها بجوار تربة الملك الظاهر برقوق
بالصحراء «1» ثم سار حتى طلع إلى القلعة، ثم فى ليلة الجمعة سابع شهر
ربيع الأوّل قرىء المولد النبوىّ بالحوش السلطانى من قلعة الجبل على
العادة.
ثم فى يوم الخميس ثالث عشر شهر ربيع الأوّل المذكور أنعم السلطان
بإقطاع الأمير بكتمر السعدى على الأمير قجقار السيفى بكتمر جلّق
الزردكاش المعروف بجغتاى،- والإقطاع إمرة طبلخاناه- بعد موت بكتمر
السّعدىّ، وكان بكتمر من محاسن الدّهر معدودا من أرباب الكمالات، كان
فقيها جنديا شجاعا عالما، هينا قويا عاقلا، مقداما عفيفا لطيفا، لا
أعلم فى أبناء جنسه من يدانيه أو يقاربه فى كثرة محاسنه، صحبته سنين،
وانتفعت بفضله ومعرفته وأدبه، وقد استوعبنا ترجمته فى [تاريخنا] «2»
المنهل الصافى، ويأتى ذكره أيضا فى الحوادث من هذا الكتاب فى محله إن
شاء الله تعالى، ولهو أحقّ بقول القائل: [الكامل]
عقم النّساء فما يلدن شبيهه ... إنّ النساء بمثله عقم
ثم فى آخر شهر ربيع الأوّل استقر تمرباى «3» التّمربغاوى الدوادار
الثالث دوادارا ثانيا بعد موت الأمير جانى بك [الأشرفى] «4» الدّوادار،
ولم ينعم عليه بإمرة إلا بعد مدة طويلة أنعم عليه بإمرة عشرة، وأما
جانى بك يأتى ذكره فى الوفيات مطوّلا [إن شاء الله تعالى] «5»
ثم فى شهر ربيع الآخر من هذه السنة تشكّى التجار الشاميّون من حملهم
البضائع
(14/313)
التى يشترونها من بندر جدّة إلى القاهرة،
فوقع الاتفاق على أن يؤخذ منهم بمكّة عن كل حمل- قلّ ثمنه أو كثر-
ثلاثة دنانير ونصف، وأن يعفوا عن حمل ما يقبضونه من جدّة إلى مصر، فإذا
حملوا ذلك إلى دمشق أخذ منهم مكسها هناك على ما جرت به العادة، وتم
ذلك.
قال المقريزى: وفى هذا الشهر- يعنى عن جمادى الأولى من سنة إحدى
وثلاثين وثمانمائة- كانت الفتنة الكبيرة بمدينة تعز «1» من اليمن؛ وذلك
أن الملك الأشرف إسماعيل ابن الملك الأفضل عباس ابن المجاهد على ابن
المؤيد داود ابن المظفر يوسف ابن المنصور عمر بن على بن رسول [صاحب
اليمن] «2» لما مات قام من بعده ابنه [ «3» الملك الناصر أحمد ابن
الأشرف إسماعيل، وقام بعد الناصر أحمد ابنه «3» ] الملك المنصور عبد
الله فى جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين وثمانمائة، ومات فى جمادى الآخرة
سنة ثلاثين وثمانمائة، فأقيم بعده أخوه الملك الأشرف إسماعيل بن أحمد
الناصر فتغيّرت عليه نيّات الجند كافة من أجل وزيره شرف الدين إسماعيل
بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عمر العلوى، فإنه أخّر صرف جوامكهم
ومرتّباتهم، فتغيرت منه القلوب، وكثرت حسّاده لاستبداه على السلطان
وانفراده بالتصرّف دونهم، وكان يليه فى الرّتبة الأمير شمس الدين على
بن الحسام ثم القاضى نور الدين على المحالبى مشدّ الاستيفاء «4» ، فلما
اشتدّ الأمر على العسكر وكثرت إهانة الوزير لهم. وإطراحه جانبهم ضاقت
عليهم الأحوال حتى كادوا أن يموتوا جزعا، فاتّفق تجهيز خزانة من عدن
وبرز الأمر بتوجّه طائفة من العبيد والأتراك إليها لتلقّيها، فسألوا أن
ينفق فيهم أربعة دراهم
(14/314)
لكل [واحد] «1» منهم يرتفق بها، فامتنع
الوزير ابن العلوىّ من ذلك، وقال:
ليمضوا غصبا إن كان لهم غرض فى الخدمة، وحين وصول الخزانة يكون خيرا
وإلا ففسح الله لهم فما للدهر بهم حاجة، والسلطان غنىّ عنهم، فهيّج هذا
القول خفاء بواطنهم، وتحالف العبيد والترك على الفتك بالوزير، وإثارة
فتنة، فبلغ الخبر السلطان فأعلم به الوزير، فقال: ما يسوّوا شيئا، بل
نشنق كلّ عشرة فى موضع، وهم أعجز من ذلك.
فلما كان يوم الخميس تاسع جمادى الأولى هذه قبيل المغرب هجم جماعة من
العبيد والترك دار العدل بتعزّ، وافترقوا أربع فرق: فرقة دخلت من باب
الدار، وفرقة دخلت من باب السر، وفرقة وقفت تحت الدار، وفرقة أخذت
بجانب آخر، فخرج إليهم الأمير سنقر أمير جاندار فهبروه بالسّيوف حتى
هلك وقتلوا معه عليا المحالبى مشدّ الدّواوين وعدّة رجال، ثم طلعوا إلى
الأشرف وقد اختفى بين نسائه وتزيّا بزيّهن فأخذوه، ومضوا إلى الوزير
العلوى فقال لهم: ما لكم فى قتلى فائدة، أنا أنفق على العسكر نفقة
شهرين، فمضوا إلى الأمير شمس الدين على بن الحسام فقبضوا عليه وقد
اختفى، وسجنوا الأشرف فى طبقة المماليك ووكلوا به، وسجنوا ابن العلوى
الوزير وابن الحسام قريبا من الأشرف ووكلوا بهما، وقد قيدوا الجميع،
وصار كبير هذه الفتنة برقوق من جماعة الأتراك، فصعد هو وجماعة ليخرج
الملك الظاهر يحيى ابن الأشرف إسماعيل بن عباس من تعبات «2» ، فامتنع
أمير البلد من الفتح ليلا، وبعث الظاهر إلى برقوق أن يمهل إلى الصبح،
فنزل برقوق ونادى فى البلد بالأمان والاطمئنان والبيع والشراء، وأن
السلطان هو الملك الظّاهر يحيى بن الأشرف، هذا وقد نهب العسكر عند
دخولهم دار العدل جميع ما فى دار السلطنة، وأفحشوا فى نهبهم؛ فسلبوا
الحريم ما عليهن، وانتهكوا منهن ما حرّم الله، ولم يدع فى الدار ما
قيمته الدّرهم الفرد «3» .
(14/315)
فلما أصبح يوم الجمعة عاشره اجتمع بدار
العدل التّرك والعبيد وطلبوا بنى زياد وبنى السنبلى والخدّام وسائر
أمراء الدّولة والأعيان، فلما تكامل جمعهم وقع بينهم الكلام فيمن
يقيمونه، فقال بنو زياد: وما ثمّ غير يحيى فاطلعوا له هذه الساعة، فقام
الأمير زين الدين جيّاش الكاملى والأمير برقوق وطلعا إلى تعبات فى
جماعة من الخدّام والأجناد فإذا الأبواب مغلقة، فصاحوا بصاحب البلد حتى
فتح لهم، ودخلوا إلى القصر وسلّموا على الظاهر يحيى بالسلطنة، وسألوه
أن ينزل معهم إلى دار العدل، فقال: حتى يصل العسكر أجمع، ففكّوا القيد
من رجليه، وطلبوا العسكر بأسرهم، فطلعوا بأجمعهم وأطلعوا معهم بعشرة
جنائب، فتقدّم الترك والعبيد وقالوا للظاهر:
لا نبايعك حتى تحلف لنا أنّك لا يحدث علينا منك شىء بسبب هذه الفعلة
ولا ما سبق قبلها، فحلف لهم وهم يردّدون عليه الأيمان، وذلك بحضرة قاضى
القضاة موفّق الدين على بن الناشرى، ثم حلفوا له على ما يحبّ ويختار،
فلما انقضى الحلف وتكامل العسكر ركب ونزل إلى دار العدل بأبهة السلطنة،
ودخلها بعد صلاة الجمعة، فكان يوما مشهودا، وعندما استقرّ بالدار أمر
بإرسال ابن أخيه الأشرف إسماعيل إلى تعبات فطلعوا به وقيّدوه بالقيد
الذي كان الظّاهر يحيى مقيّدا به وسجنوه بالدّار التى كان [الظاهر
مسجونا] «1» بها، ثم حمل بعد أيّام إلى الدّملوة «2» ومعه أمّه
وجاريته، وأنعم السلطان على أخيه الملك الأفضل عباس بما كان له، وخلع
عليه وجعله نائب السلطنة كما كان أوّل دولة الناصر وخمدت الفتنة.
وكان الذي حرّك هذه الفتنة بنو زياد، فقام أحمد بن محمد بن زياد
الكاملى بأعباء هذه الفتنة لحنقه من الوزير ابن العلوى، فإنه كان قد
مالأ على قتل أخيه جيّاش وخذّل عن الأخذ بثأره، وصار يمتهن «3» بنى
زياد، ثم ألزم الوزير ابن العلوى وابن الحسام
(14/316)
بحمل المال، وعصرا على كعابهما وأصداغهما،
وربطا من تحت إبطيهما وعلّقا منكّسين، وضربا بالشيب والعصىّ وهمايوردان
المال، فأخذ من ابن العلوى- ما بين نقد وعروض- ثمانون ألف دينار، ومن
ابن الحسام مبلغ ثلاثين ألف دينار، واستقرّ الأمير برقوق أمير جاندار،
واستقر الأمير بدر الدين محمد الشّمسى أتابك العساكر، واستقرّ ابنه
العفيف أمير آخور، ثم استقرّ الأمير بدر الدين المذكور أستادارا، وشرع
فى النفقة على العسكر، وظهر من السلطان نبل وكرم وشهامة بحيث أطاعته
العساكر بأجمعهم، فإن له قوة وشجاعة حتى [قيل] «1» إن قوسه يعجز من
عندهم من التّرك عن جرّه، ومدحه الفقيه يحيى بن رويك بقصيدة أولها:
[الوافر]
بدولة ملكنا يحيى اليمانى ... بلغنا ما نريد من الأمانى
وعدّة القصيدة واحد وأربعون بيتا، وأجيز عليها بألف دينار. وبهذه
الكائنة اختلّ ملك بنى رسول من اليمن- انتهى كلام المقريزى.
قلت: وقد خرجنا عن المقصود بطول هذه الحكاية، غير أن فى ذكرها نوعا من
الأخبار والتعريف بالممالك، ولنرجع إلى ما نحن فيه «2» من أحوال الملك
الأشرف برسباى صاحب الترجمة.
ولما كان يوم الاثنين خامس جمادى الآخرة خلع السلطان على الأمير
جارقطلو «3» أمير مجلس باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية بعد
موت الأمير الكبير يشبك السّاقى الأعرج، وكان يشبك الساقى المذكور من
أفراد العالم، وهو أحد من أدركناه من الملوك من أهل المعرفة والذّوق
والفضل والرأى والتدبير، كما سنبينه فى ترجمة وفاته من هذا الكتاب [إن
شاء الله] «4» .
(14/317)
ثم فى يوم السبت عاشر جمادى الآخرة
المذكورة كتب [السلطان] «1» بإحضار جرباش الكريمى المعروف بقاشق نائب
طرابلس ليستقرّ أمير مجلس على عادته أوّلا عوضا عن الأمير الكبير
جارقطلو «2» ، وكتب إلى الأمير الكبير [طرباى] «3» الظاهرى المقيم
بالقدس بطّالا باستقراره فى نيابة طرابلس.
ثم فى يوم السبت أوّل شهر رجب عمل السلطان الخدمة بالإيوان بدار العدل
«4» من القلعة، وأحضرت رسل مراد بك بن عثمان متملك برصا «5» وأدر
نابولى «6» وغيرهما من ممالك الرّوم، فكان موكبا جليلا أركب فيه
الأمراء والمماليك السلطانية وأجناد الحلقة وغيرهم على عادة هيئة خدمة
الإيوان من تلك الأشياء المهولة، وقد بطل خدم الإيوان من أيّام الملك
الظاهر جقمق، وذهب من كان يعرف ترتيبه، حتى لو أراد أحد من الملوك أن
يفعله لا يمكنه ذلك.
ثم فى سابع شهر رجب المذكور خلع السلطان على القاضى كمال الدين «7» بن
البارزىّ- المعزول قبل تاريخه عن كتابة السّرّ ثم عن نظر الجيش بالديار
المصرية- باستقراره فى كتابة سرّ دمشق عوضا عن بدر الدين حسين بحكم
وفاته، من غير سعى فى ذلك، بل طلبه السلطان وولّاه، وكان القاضى كمال
الدين المذكور من يوم عزل من وظيفة نظر الجيش بعد كتابة السّرّ ملازما
لداره على أجمل حالة، وأحسن طريقة من الاشتغال بالعلم والوقار
والسكينة، وهو على هيئة عمله من الحشم والخدم، وبسط يديه بالإحسان لكل
أحد، وترداد الأكابر والأعيان والفضلاء إلى بابه، وسافر فى ثانى
عشرينه.
(14/318)
ثم فى حادى عشره أدير محمل الحاج على
العادة «1» فى كل سنة.
ثم فى ثالث عشرينه قدم الأمير جرباش الكريمى معزولا عن نيابة طرابلس
فخلع السلطان عليه باستقراره أمير مجلس على عادته أوّلا، كل ذلك
والسلطان فى قلق من جهة جانى بك الصّوفىّ.
ثم فى عشرين شعبان خلع السلطان على الأمير قانصوه النّوروزىّ أحد أمراء
الطبلخانات باستقراره فى نيابة طرسوس وأضيف إقطاعه إلى الديوان المفرد.
ثم فى يوم الثلاثاء ثامن عشرين شوّال أمسك السلطان الأمير قطج من تمراز
«2» أحد مقدّمى الألوف بالديار المصرية، ثم الأمير جرباش الكريمى قاشق
أمير مجلس، فحمل قطج فى الحديد إلى الإسكندرية فسجن بها، وأخرج جرباش
الكريمى بغير «3» قيد إلى ثغر دمياط بطالا، كل ذلك بسبب جانى بك
الصّوفىّ، ولما تحدّت السلطان نفسه بما يفعله من كثرة قلقه منه، ولهذا
السبب أيضا أخرج قانصوه وغيره، ويأتى ذكر آخرين.
ثم خلع السلطان على الأمير إينال العلائى الناصرى رأس نوبة ثانى
باستقراره «4» فى نيابة غزّة عوضا عن تمراز القرمشى بحكم قدوم تمراز
للدّيار المصرية، وأنعم السلطان بإقطاع إينال المذكور على الأمير
تمرباى التّمر بغاوىّ الدّوادار الثانى، ثم كتب بإحضار الأمير بيبغا
المظفرى من القدس، وكان نقل إلى القدس من دمياط من نحو شهر واحد، فقدم
من القدس إلى القاهرة فى يوم الخميس حادى عشرين ذى القعدة وطلع إلى
القلعة، وخلع السلطان عليه باستقراره أمير مجلس عوضا عن جرباش الكريمى
قاشق، ومنزلة أمير مجلس فى الجلوس عند السّلطان يكون ثانى الميمنة تحت
الأمير الكبير، فلما ولى بيبغا هذا إمرة مجلس أجلسه السلطان
(14/319)
على الميسرة فوق الأمير إينال الجكمى أمير
سلاح لما سبق له من ولايته أتابكيّة العساكر بالديار المصرية قبل
تاريخه، فصار فى الحقيقة رتبته أعظم من رتبة الأمير الكبير جار قطلو
بجلوسه فوق أمير سلاح؛ لأن الأمير الكبير لا يمكنه الجلوس فوق أمير
سلاح إلا لضرورة، وصار بيبغا هذا دائما جلوسه فوقه، غير أن إقطاع
الأمير الكبير أكثر متحصلا من إقطاعه، وأيضا لالتفات السلطان إليه،
فإنه كان أكثر كلامه فى الموكب السلطانى معه فى كل تعلقات المملكة،
وليس ذلك لمحبّته فيه غير أنه كان يداريه بذلك اتّقاء فحشه، وكان سبب
القبض عليه أوّلا أن السلطان شكاله بعض الأجناد من ظلم كاشف التّراب،
فقال الملك الأشرف: الكاشف ماله منفعة، فبادره بيبعا هذا فى الملأ وقال
له: أنت ما عملت كاشف ما تعرف، فعظم ذلك على الأشرف وأسرّها فى نفسه،
ثم قبض عليه، وكذا كان وقع لبيبغا المذكور مع الملك المؤيّد، حتى قبض
عليه أيضا وحبسه، وكان هذا شأنه المغالظة مع الملوك فى الكلام، غير أنه
كان مناصحا للملوك ظاهرا وباطنا، ولهذا كانت الملوك لا تبرح تغضب عليه
ثم ترضى؛ لعلمهم بسلامة باطنه، وكان الملك الأشرف يمازحه فى بعض
الأحيان، ويسلّط عليه بعض الچراكسة بأن يزدرى جنس التّتار ويعظّم
الچراكسة، فإذا سمع بييغا ذلك سبّ القائل وهجر «1» عليه، وأخذ فى تفضيل
الأتراك على طائفة الچراكسة فى الشّجاعة والكرم والعظمة، فيشير عليه
بعض أمراء الأتراك بالكف عن ذلك، فلا يلتفت ويمعن، والملك الأشرف يضحك
[من ذلك] «2» ويساعده على غرضه حتى يسكت، وقيل إنه جلس مرّة فى مجلس
أنس مع جماعة من الأمراء فأخذ بيبغا فى تعظيم ملك التّتارچنكز خان،
وزاد وأمعن واخترق اختراقات عجيبة، فقال له الأمير طقز الظّاهرىّ
الچركسىّ: وأيش هو چنكز خان؟ فلما سمع بيبغا ذلك أخذ الطّبر وأراد قتل
طقز حقيقة، وقال له: كفرت، فأعاقه الأمراء عنه حتى قام طقز من المجلس
وراح إلى حال سبيله، وقيل إنه لم يجتمع به بعد ذلك، ومع
(14/320)
هذا كلّه كان لجنونه طلاوة ولانحرافه
حلاوة، على أنه كان من عظماء الملوك وأحسنها طريقة.
ثم فى يوم الخميس سادس ذى الحجة من سنة إحدى وثلاثين المذكورة أمسك
السلطان الأمير أزبك المحمدى «1» الدّوادار الكبير، وأخرجه من ليلته
بطّالا إلى القدس بعد أن قبض [السلطان] «2» على عدّة من خاصّكيّته،
ولذلك أسباب أعظمها أمر جانى بك الصّوفىّ وأشياء أخر، منها: أن فى
أواخر ذى القعدة بلغ السلطان أن جماعة من مماليكه وخاصّكيّته يريدون
الفتك به وقتله ليلا، فقبض على جماعة منهم السّيفى سنطباى الأشرفى
وغيره فى أيّام متفرقة، ونفى جماعة منهم إلى الشام وقوص بعد أن عاقب
جماعة منهم، فكثرت القالة فى ذلك، قيل إنه سأل بعضهم بأن قال: لو
قتلتمونى من الذي تنصّبونه بعدى فى السلطنة؟ فقالوا: الأمير أزبك، وقيل
غير ذلك، وأخذ السلطان فى الاستعداد والحذر، وسقط عليه أيضا مرارا سهام
نشّاب من أطباق المماليك السلطانية، فهذا كان السبب لقبض أزبك وغيره،
وأنا أقول: إن جميع ما وقع من مسك الأمراء، وضرب جماعة من الخاصّكيّة
بالمقارع، ونفى بعضهم إنما هو لسبب جانى بك الصّوفى لا غير.
ثم فى يوم السبت ثامنه خلع السّلطان «3» على الأمير أركماس الظاهرى رأس
نوبة النّوب باستقراره دوادارا كبيرا عوضا عن أزبك المذكور، وخلع على
الأمير تمراز القرمشىّ المعزول عن نيابة غزّة باستقراره رأس نوبة،
وأنعم عليه بإقطاع أركماس المذكور، وأنعم بإقطاع تمراز الذي كان
السلطان أنعم عليه به بعد مجيئه من غزّة وهو تقدمة ألف أيضا على الأمير
يشبك السّودونى شاد الشراب خاناه، وأنعم بطبلخانات يشبك السّودونى على
الأمير قراجا الأشرفى الخازندار، وخلع السلطان فى هذه الأيّام على صفىّ
الدين جوهر السّيفى قنقباى اللّالا باستقراره خازندارا عوضا عن الأمير
خشقدم
(14/321)
الظاهرى الرّومى بحكم انتقاله زمّاما بعد
موت «1» الأمير كافور الشّبلى الصّرغتمشىّ الرّومى بعد وفاته فى السنة
الماضية، وكانت وظيفة الخازندارية شاغرة من يوم تاريخه، والسلطان ينظر
فيمن يولّيه من الخدام من قدماء خدام الملوك فرشّح مرجان خادم الوالد
فخافه الخدّام من شدّة بأسه وحوّلوا الأشرف عنه، وكان الطّواشى جوهر
الجلبّانىّ الحبشىّ لالا ابن السلطان له حنوّ وصحبة قديمة بجوهر هذا
فتكلّم السلطان بسببه ونغته بالدين [والعفّة] «2» والعقل والتّدبير،
ولا زال بالسلطان حتى طلبه وولّاه الخازندارية دفعة واحدة؛ فإنه كان من
أصاغر الخدّام لم تسبق له رئاسة قبل ذلك، وإنما كان يعرف بين الخدام
بأخى اللالا، فنال جوهر هذا من الحرمة والوجاهة والاختصاص بالملك
الأشرف ما لم ينله خادم قبله- انتهى.
ثم فى سابع عشرين ذى الحجة من سنة إحدى وثلاثين المذكورة قدم مبشّر
الحاج العراقى «3» وأخبر بسلامة الحاج، وأنه قدم محمل العراق فى
أربعمائة جمل جهّزه السلطان حسين بن على ابن السلطان أحمد بن أويس من
الحلّة «4» ، وكان السلطان حسين هذا قد استولى على ششتر «5» والحلّة،
وصاهر العرب فقوى بأسه بهم، وقاتل شاه محمد ابن قرا يوسف صاحب بغداد
وتمّ أسره بهذه البلاد المذكورة، وجهّز الحاج وكان له سنين قد انقطع
لاستيلاء هذا الزّنديق شاه محمد بن قرا يوسف [على العراق] «6» ، فإنه
كان محلول العقيدة لا يتديّن بدين، وقتل العلماء وأباد الناس، وهو أحد
أسباب خراب بغداد والعراق هو وأخوته كما سيأتى ذكره، وذكر أقاربه فى
(14/322)
وفيات هذا الكتاب عند وفاتهم، وذهاب روحهم
الخبيثة اللعينة إلى جهنم وبئس المصير.
[ما وقع من الحوادث سنة 832]
ثم فى يوم الاثنين خامس عشر المحرم سنة اثنتين وثلاثين وثمانمائة حدث
مع غروب الشمس برق ورعد شديد متوال، ثم مطر غزير خارج عن الحدّ، وكان
الوقت فى أثناء فصل الخريف.
(14/323)
ذكر قتلة الخواجا
نور الدين على التبريزى العجمى المتوجه برسالة الحطى ملك الحبشة إلى
ملوك الفرنج
ولمّا كان يوم الثلاثاء رابع عشرين جمادى الأولى من سنة اثنتين وثلاثين
وثمانمائة استدعى السلطان قضاة الشرع الشريف إلى بين يديه فاجتمعوا،
وندب السلطان قاضى القضاة شمس الدين محمدا البساطىّ المالكى للكشف عن
أمره وإمضاء حكم الله فيه، وكان التّبريزى مسجونا فى سجن السلطان،
فنقله القاضى من سجن السلطان إلى سجنه، وادّعى عليه بالكفر وبأمور
شنيعة، وقامت عليه بينة معتبرة بذلك، فحكم بإراقة دمه، فشهّر فى يوم
الأربعاء خامس عشرين جمادى الأولى المذكورة على جمل بالقاهرة ومصر
وبولاق، ونودى عليه: هذا جزاء من يجلب السلاح إلى بلاد العدوّ، ويلعب
بالدّينين، وصار وهو راكب الجمل يتشاهد ويقرأ القرآن ويشهد الناس أنه
باق على دين الإسلام، والخلق صحبته أفواجا، ومن الناس من يبكى لبكائه،
وهم العامة الجهلة، والذي أقوله فى حقه: إنه كان زنديقا ضالّا مستخفّا
بدين الإسلام، ولا زالوا به إلى أن وصلوا إلى بين القصرين فأنزل عن
الجمل وأقعد تحت شبّاك المدرسة الصالحية وضربت عنقه فى الملإ من
الخلائق التى لا يعلم عددها إلا الله تعالى- فنسأل الله السلامة فى
الدين، والموت على الإسلام.
وكان خبر هذا التّبريزىّ أنه كان أوّلا من جملة تجّار الأعاجم بمصر
وغيرها، وكان يجول فى البلاد بسبب المتجر على عادة التجار، فاتّفق أنه
توجّه إلى بلاد الحبشة فحصل له بها الرّبح الهائل المتضاعف، وكان فى
نفسه قليل الدين مع جهل وإسراف فطلب الزيادة فى المال، فلم يرم بوصله
إلى مراده إلا أن يتقرّب إلى الحطىّ ملك الحبشة بالتحف، فصار يأتيه
بأشياء نادرة لطيفة؛ من ذلك أنه صار يصنع له الصّلبان من الذّهب
المرصّع بالفصوص الثمينة، ويحملها إليه فى غاية الاحترام والتّعظيم كما
هى عادة النّصارى
(14/324)
فى تعظيمهم للصليب، وأشياء من هذه المقولة،
ثم ما كفاه ذلك حتى [إنه] «1» صار يبتاع السلاح المثمّن من الخوذ
والسّيوف الهائلة والزرديات والبكاتر «2» بأغلى الأثمان ويتوجّه بها
إلى بلاد الحبشة، وصار يهوّن عليهم أمر المسلمين، ويعرفهم ما المسلمون
فيه بكل ما تصل القدرة إليه، فتقرّب بذلك من الحطّى حتى صار عنده
بمنزلة عظيمة، فعند ذلك ندبه الحطّى بكتابه إلى ملوك الفرنج عند ما
بلغه أخذ قبرس وأسر ملكها جينوس يحثّهم فيه على القيام معه لإزالة دين
الإسلام وغزو المسلمين وإقامة الملّة العيسوية ونصرتها، وأنه يسير فى
بلاد الحبشة فى البرّ بعساكره، وأن الفرنج تسير فى البحر بعساكرها فى
وقت معيّن إلى سواحل الإسلام، وحمّله مع ذلك مشافهات، فخرج التّبريزى
هذا من بلاد الحطّى بكتابه وبما حمله من المشافهات لملوك الفرنج بعزم
واجتهاد وسلك فى مسيره من بلاد الحبشه البرّيّة حتى صار من وراء
الواحات [ثم سلك من وراء الواحات] «3» إلى بلاد المغرب، وركب منها
البحر إلى بلاد الفرنج، وأوصل إليهم كتاب الحطّىّ وما معه من
المشافهات، ودعاهم للقيام مع الحطّىّ فى إزالة الإسلام وأهله، واستحثهم
فى ذلك، فأجابه غالبهم، وأنعموا عليه بأشياء كثيرة، فاستعمل بتلك
البلاد عدّة ثياب مخمّل مذهّبة باسم الحطّىّ، ورقمها بالصلبان؛ فإنه
شعارهم.
قلت: لولا أنه داخلهم فى كفرهم، وشاركهم فى مأكلهم ومشربهم ما طابت
نفوسهم لإظهار أسرارهم عليه، وكانوا يقولون: هذا رجل مسلم يمكن أنه
يتجسّس أخبارنا وينقلها للمسلمين ليكونوا منا على حذر، وربما أمسكوه بل
وقتلوه بالكلية- انتهى.
ثم خرج من بلاد الفرنج وسار فى البحر «4» حتى قدم الإسكندرية ومعه
الثياب
(14/325)
المذكورة ورهبان من رهبان الحبشة، وكان له
عدّة عبيد، وفيهم رجل دين فنمّ عليه بما فعله، ودلّهم على ما معه من
القماش وغيره، فأحيط بمركبه وبجميع ما فيها فوجدوا بها ما قاله العبد
المذكور، فحمل هو والرّهبان وجميع ما معه إلى القاهرة، فسعى بمال كبير
فى إبقاء مهجته وساعده فى ذلك ممّن يتّهم فى دينه، فلم يقبل السلطان
ذلك، وأمر به فحبس ثم قتل حسبما ذكرناه [عليه من الله ما يستحقه] «1»
انتهى.
ثم فى يوم الخميس تاسع شهر رجب خلع «2» السلطان على جلال الدين محمد
ابن القاضى بدر الدين محمد بن مزهر باستقراره فى وظيفة كتابة السّرّ
بالديار المصرية عوضا عن والده بحكم وفاته، وله من العمر دون العشرين
سنة ولم يطر شاربه، وخلع السلطان على القاضى شرف الدين أبى بكر بن
سليمان سبط ابن العجمى المعروف بالأشقر أحد أعيان موقّعى الدّست
باستقراره نائب كاتب السّرّ، ليقوم بأعباء الديوان عن هذا الشاب لعدم
معرفته وقلّة دربته بهذه الوظيفة، وكانت ولاية جلال الدين المذكور
لكتابة السّرّ على حمل تسعين ألف دينار من تركة أبيه.
ثم فى يوم الخميس ثالث عشرين شهر رجب المذكور قدم الأمير سودون من عبد
الرحمن نائب الشام إلى القاهرة وصحبته القاضى كمال الدين محمد بن
البارزىّ كاتب سر دمشق، وطلعا إلى القلعة فخلع السلطان عليهما خلع
الاستمرار، واجتمع به «3» غير مرّة: أعنى بسودون من عبد الرحمن، فكلّمه
سودون فيما يفعله مماليكه الجلبان بالمباشرين وغيرهم، وخوفّه عاقبة
المماليك القرانيص من ذلك، فقال له الملك الأشرف: قد عجزت عن إصلاحهم،
ثم كشف رأسه ودعا عليهم بالفناء والموت غير مرة، فقال له الأتابك
جارقطلو: ضع فيهم السيف وأقم عوضهم، وما دام رأسك تعيش فالمماليك كثير،
ومائة من
(14/326)
القرانيص «1» خير من ألف من هؤلاء الأجلاب،
ولولا حرمة السلطان لكان صغار عبيد القاهرة كفئا لهم.
وكان سبب ذلك أنهم صاروا يضربون مباشرى الدّولة وينهبون بيوتهم، ووقع
منهم فى دوران المحمل فى هذه السنة أمور شنيعة إلى الغاية، وتقاتلوا مع
العبيد حتى قتل بينهما جماعة وأشياء غير ذلك، فمال السلطان إلى كلام
جار قطلو وأراد مسك جماعة كبيرة منهم، ونفى آخرين، وتفرقة جماعة أخر
على الأمراء، وقال: أحسب أن مائة ألف دينار ما كانت، ومتى حصل نفع
المماليك المشتروات لأستاذهم أو لذرّيّته؟ فلما رأى الأمير بيبغا
المظفرى ميل السلطان لكلام جار قطلو أخذ فى معارضته وردّ كلامه، فكان
من جملة ما قاله: والله لولا المماليك المشتروات ما أطاعك واحد منا-
وأشار بخروج جانى بك الصوفى من السجن واختفائه بالقاهرة- وخلّ عنك كلام
هذا وأمثاله، وكان عبد الباسط مساعدا لجار قطلو، ثم التفت بيبغا وقال
لعبد الباسط: أنت تكون سببا لزوال ملك هذا، فعند ذلك أمسك الأشرف عما
كان عزم عليه لعلمه بنصيحة بيبغا المظفرىّ له، وانفض المجلس بعد أن
أمرهم السلطان بكتمان ما وقع عند السلطان من الكلام، فلم يخف ذلك عن
أحد، وبلغ المماليك الأشرفية فتحلّفوا لجار قطلو ولعبد الباسط ولسودون
من عبد الرحمن.
فلما كان يوم الجمعة ثانى شعبان نزل المماليك الأشرفية من الأطباق إلى
بيت الوزير كريم الدين بن كاتب المناخ ونهبوه لتأخر رواتبهم، وسافر فيه
الأمير سودون من عبد الرحمن إلى محل كفالته، وكان السلطان أراد عزله
وإبقاءه بمصر فوعد بخمسين ألف دينار حتىّ خلع عليه باستمراره، فكلّمه
بعض أصحابه فى ذلك فقال: أحمل مائة ألف دينار ولا أقعد بمصر فى تهديد
الأجلاب.
ثم لما كان يوم الثلاثاء سادس شعبان «2» ثارت الفتنة بين المماليك
الجلبان وبين
(14/327)
الأمير الكبير جارقطلو، وكان ابتداء الفتنة
أنه وقع بين بعض المماليك السلطانية وبين مماليك الأمير الكبير جارقطلو
وضربت الجلبان بعض مماليك جارقطلو فأخذ المملوك [يدافع] «1» عن نفسه
وردّ على بعضهم وكان شجّ بعض المماليك السلطانية، فعند ذلك قامت
قيامتهم، وحرّك ذلك ما كان عندهم من الكمين من أستاذهم جارقطلو،
فتجمعوا على المملوك المذكور وضربوه، فهرب إلى بيت أستاذه واحتمى به،
فعادت المماليك إلى إخوتهم واتفقوا على جارقطلوا، وتردّدوا إلى بابه
غير مرّة، وباتت الناس على تخوّف من وقوع الفتنة لوقوع هذه القضيّة،
وأصبحوا من الغد فى جمع كثير من تحت القلعة وقد اتفقوا على قتل جار
قطلو ومماليكه، فماج الناس لذلك وغلقوا الأسواق خشية من [وقوع] «2»
النهب، وتزاحم الناس على شراء الخبز، وغلقت الدّروب، وانتشرت الزعر
وأهل الفساد، وتعوّق مباشر والدولة من النزول من القلعة إلى دورهم،
وأرسل السلطان إليهم جماعة بالكف عن ما هم فيه، وهدّدهم إن لم يرجعوا،
فلم يلتفتوا إلى كلامه، وساروا بأجمعهم إلى بيت الأمير الكبير جارقطلو
وكان سكنه ببيت الأمير طاز «3» بالشارع الأعظم عند حمام الفارقانى «4»
فأغلق جارقطلو بابه، وأصعد مماليكه على طبلخاناته فوق باب داره ليمنعوا
المماليك السلطانية من كسر الباب المذكور وإحراقه، وتراموا بالنشاب،
وأقام الأجلاب يومهم كلّه مع كثرتهم لا يقدرون على الأمير الكبير
جارقطلو ولا على مماليكه مع كثرة عددهم؛ لعدم معرفتهم بالحروب ولقلة
دربتهم وسلاحهم.
هذا والسلطان يرسل إليهم بالكفّ عما هم فيه، وهم مصممون على ما هم فيه
يومهم كله، ووقع منهم أمور قبيحة فى حق أستاذهم وغيره، فلما وقع ذلك
غضب السلطان غضبا عظيما، وأراد أن يوسع الأمراء فى حق مماليكه فخوفه
الأمراء سوء عاقبة ذلك، فأخذ يكثر من الدعاء عليهم سرا وجهرا، وباتوا
على ذلك.
(14/328)
فلما أصبحوا يوم الخميس ثامن شعبان استشار
الملك الأشرف الأمراء فى أمر مماليكه، فأشاروا عليه بأن يرسل يطلب من
الأمير الكبير جارقطلو المماليك الذين كانوا سببا لهذه «1» الفتنة،
وكانت المماليك الجلبان [لما رأوا] «2» فى الأمس حالهم فى إدبار أرسلوا
يطلبون غرماءهم من مماليك جارقطلو [من السلطان] «3» فلم يجبهم السلطان
إلى ذلك، فأرسل السلطان [بعد ذلك] «4» للأمير الكبير يطلب مماليكه
الذين كانوا فى أوّل هذه الفتنة، فأرسل إليه بجماعة منهم فأخذهم
السلطان وضربهم ضربا ليس بذاك، ثم أمر بجبسهم، ووافق ذلك عجز المماليك
الجلبان عن قتال الأمير الكبير لعدم اجتماع كلمتهم ولفرار أكثرهم
وطلوعهم إلى الطّبقة، فأذعنوا بالصلح وخمدت الفتنة- ولله الحمد- بعد أن
كاد أمر هذه الوقعة أن يتّسع إلى الغاية، لأن غالب الأمراء شقّ عليهم
ما وقع للأمير الكبير، وقالوا إذا كان هذا يقع للأمير الكبير فنحن من
باب أولى وأحقّ لأعظم من هذا، وتنبّه من كان عنده كمين من الملك الأشرف
من المماليك المؤيّدية [شيخ] «5» وغيرهم، وظهر للسلطان لوايح من ذلك
فاحتار بين مماليكه وأمرائه إلى أن وقع الصّلح، ومن يومئذ تغيّر خاطر
جارقطلو من الملك الأشرف فى الباطن مع خصوصيته بالأشرف حتى أبدى بعض ما
كان عنده فى سفرة آمد حسبما يأتى ذكره.
ثم ورد الخبر على السلطان بأن فى خامس شعبان هذا ورد إلى ميناء
الإسكندرية خمسة أغربة فيها مقاتلة الفرنج مشحونة بالسلاح، وباتوا بها
وقد استعدّ لهم المسلمون، فلما أصبح النهار واقعوهم وقد أدركهم الزّينى
عبد القادر بن أبى الفرج الأستادار- وكان مسافرا بترّوجة- ومعه غالب
عرب البحيرة نجدة للمسلمين، فلما كثر جمع المسلمين انهزم الفرنج وردّوا
من حيث أتوا فى يوم الأحد حادى عشره ولم يقتل من المسلمين سوى فارس
واحد من جماعة ابن أبى الفرج.
(14/329)
قلت [قوله تعالى] «1» (وردّ الله الّذين
كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال) «2» .
كل ذلك والسلطان مشغول بتجهيز «3» تجريدة إلى بلاد الشّرق، فلما كان
ثانى عشر شعبان المذكور أنفق السلطان فى ثلاثمائة وتسعين مملوكا من
المماليك السلطانية، لكل واحد «4» خمسين دينارا، وفى أربعة من أمراء
الألوف، وهم: أركماس الظاهرىّ الدوادار الكبير، وقرقماس حاجب الحجاب،
وحسين بن أحمد المدعو تغرى برمش البهسنى، ويشبك السّودونى المعروف
بالمشد، لكل واحد ألفى دينار، وأنفق أيضا فى عدّة من أمراء الطبلخانات
والعشرات، فبلغت نفقة الجميع نحو ثلاثين ألف دينار، ورسم بسفرهم إلى
الشّام، فسافروا فى سادس «5» عشرين شعبان المذكور.
ثم فى يوم الخميس «6» رابع عشر شهر رمضان حملت جامكيّة المماليك
السلطانية إلى القلعة لتنفق فيهم على العادة، فأمتنعوا من قبضها،
وطلبوا زيادة لكل واحد ستمائة درهم وصمموا على ذلك، وترددت الرّسل
بينهم وبين السلطان إلى أن زيد فى جوامك عدّة منهم وسكن شرّهم، وأخذوا
الجامكيّة فى يوم الاثنين ثامن عشره.
ثم بعد ذلك وقع بين المماليك الجلبان وبين العبيد، فتجمّع السّودان
وقاتلوهم فقتل بينهم عدّة وصاروا جمعين لكل جمع عصبيّة.
ثم فى يوم الأربعاء تاسع ذى القعدة ورد الخبر على السلطان بأخذ الأمراء
المتوجّهين إلى جهة بلاد الشّرق مدينة الرّها من نواب قرايلك، وكان من
خبر ذلك
(14/330)
أن العساكر المصرية لما سارت من القاهرة
إلى جهة الشّام لأخذ خرتبرت «1» - وقد مات متولّيها، ونازلها عسكر
قرايلك صاحب آمد- فلما وصلوا إلى مدينة حلب ورد عليهم الخبر بأخذ
قرايلك قلعة خرتبرت وتحصينها وتسليمها لولده، فأقاموا بحلب إلى أن ورد
عليهم الأمير سودون من عبد الرحمن نائب الشام بعساكر دمشق، ثم جميع
نوّاب البلاد الشامية بعساكرها، وتشاوروا فى السّير لها، فأجمع رأيهم
على المسير، فمضوا بأجمعهم: العسكر المصرى [والعسكر] «2» الشامى إلى
جهة الرّها، فأتاهم بألبيرة كتاب أهل الرّها بطلب الأمان وقد رغبوا فى
الطاعة، فأمنوهم وكتبوا لهم كتابا، وساروا من ألبيرة وبين أيديهم مائتا
فارس من عرب الطّاعة كشّافة، فوصلت الكشّافة المذكورون إلى الرّها فى
شوّال، فوجد والأمير هابيل بن الأمير عثمان بن طرعلى المدعو قرايلك
صاحب آمد قد وصل إليها ودخلها وحصنّها وجمع فيها خلائق من أهل الضياع
بمواشيهم وعيالهم وأموالهم، فنزلوا عليها فرموهم بالنّشّاب من فوق
أسوار المدينة.
فلما رأى هابيل قلّة العرب برز إليهم فى نحو ثلاثمائة رجل من عسكره
وقاتلهم فثبتوا له وقاتلوه، فقتل بين الفريقين جماعة والأكثر من العرب،
فأخذ هابيل رءوسهم وعلقها على أسوار المدينة، وبينماهم فى ذلك «3»
أدركهم العسكر المصرى والشامىّ ونزلوا على ظاهر الرّها يوم الجمعة
العشرين من شوال، فوجدوا هابيل قد حصّن المدينة، وجعل جماعة من عساكره
على أسوارها، فلما قرب العسكر من سور مدينة الرّها رماهم الرّجال من
أعلى السور بالنّشّاب والحجارة، فتراجع العسكر عنهم ونزلوا بخيامهم إلى
بعد الظهر، فركبوا الجميع وأرسلوا إلى أهل الرّها بالأمان، وأنهم إن لم
(14/331)
يكفوا عن القتال أخربوا المدينة، فلم
يلتفتوا إلى كلامهم ورموهم بالنّشّاب، فاتّفق العسكر حينئذ على الزّحف
وركبوا بأجمعهم وزحفوا على المدينة وجدّوا فى قتالها، فلم يكن غير ساعة
إلا وأخذوا المدينة واستولوا عليها، وتعلق أعيان البلد ومقاتلتها
بالقلعة، فانتشر العسكر وأتباعهم بالمدينة ينهبون ويأخذون ما وجدوا
ويأسرون من ظفروا به، وأمعنوا فى ذلك حتى خرجوا عن الحدّ، وأصبحوا يوم
السبت جدّوا فى حصار القلعة، وأرسلوا إلى من بها بالأمان فلم يقبلوا
واستمرّوا بالرّمى بالنّشّاب والحجارة وغير ذلك، ونصبوا على القلعة
المكاحل والمدافع وأخذوا فى النقوب وباتوا ليلة الأحد على ذلك، وأصبحوا
يوم الأحد على ما هم عليه من القتال والحصار إلى وقت الضحى، فضعف أمر
من بالقلعة بعد قتال شديد وطلبوا الأمان، فكفّوا عند ذلك عن قتالهم،
ونزلت رسلهم إلى الأمير سودون من عبد الرحمن نائب الشام، وهو مقدّم
العساكر، وكلّموهم فى نزولهم وتسليمهم القلعة، وحلّفوه هو والأمير
قصروه نائب حلب «1» على أنهم لا يؤذونهم ولا يقتلون أحدا منهم، فركنوا
إلى أيمانهم، ونزل الأمير هابيل بن قرايلك ومعه تسعة «2» من أعيان
أمراء أبيه فى وقت الظهر من يوم الأحد ثانى عشرين شوال المذكور، فتسلمه
الأمير أركماس الظاهرىّ الدّوادار الكبير، وركب الأمير سودون من عبد
الرحمن ومعه بقية النّواب إلى القلعة، فوجدوا المماليك السلطانية قد
وقفوا على باب القلعة ليدخلوا إليها، فكلّمهم النّوّاب فى عدم دخولهم
وقالوا لهم: نحن أعطيناهم أمانا، ومنعوهم من الدخول إليها، فأفحشوا فى
الرّدّ على النوّاب، فراجعوهم فى ذلك فهمّوا المماليك بقتالهم، وهجموا
القلعة بغير رضاء النّوّاب والأمراء ودخلوها، فشقّ ذلك على النّوّاب
وعادوا إلى مخيّمهم، فمدّ المماليك أيديهم هم والتّركمان والأعراب
والغلمان فى النّهب والسّبى حتى نهبوا جميع ما كان بالقلعة، وأسروا
النّساء والصّبيان وأفحشوا بها إلى الغاية.
(14/332)
ثم ألقوا النار فيها فأحرقوها بعد ما
أخلوها من جميع ما كان فيها، وقتلوا من كان بها وبالمدينة من الرجال
والمقاتلة، حتى جاوز فعلهم الحدّ.
ثم أخربوا المدينة وألقوا النار فيها فاحترقت واحترق فى الحريق جماعة
من النّسوة فإنهن اختفين فى الأماكن من البلد خوفا من العسكر، فلما
احترقت المدينة احترقن الجميع فى النار التى أضرمت بسكك المدينة
وخباياها، واحترق أيضا معهن عدة كبيرة من أولادهن.
هذا بعد أن أسرفوا فى القتل بحيث إنه كان الطريق قد ضاق من كثرة
القتلى، وفى الجملة فقد فعلوا بمدينة الرّها فعل التّمرلنكيين وزيادة
من القتل والأسر والإحراق والفجور بالنساء- فما شاء الله كان.
ثم رحلوا من الغد فى يوم الاثنين ثالث عشرينه وأيديهم قد امتلأت من
النهب والسبى، فقطعت منهم عدّة نساء من التّعب فمتن عطشا، وبيعت منهن
بحلب وغيرها عدة كبيرة.
قال المقريزى: وكانت هذه الكائنة من مصيبات الدّهر.
[الوافر]
وكنّا نستطب إذا مرضنا ... فجاء الدّاء من قبل الطّبيب
لقد عهدنا ملك مصر إذا بلغه عن أحد من ملوك الأقطار قد فعل مالا يجوز
أو فعل ذلك رعيته بعث ينكر عليه ويهدّده، فصرنا نحن نأتى من الحرام
بأشنعه ومن القبيح بأفظعه- وإلى الله المشتكى- انتهى كلام المقريزى.
قلت: لم يكن ما وقع من هؤلاء الغوغاء بإرادة الملك الأشرف، ولا عن أمره
ولا فى حضوره، وقد تقدّم أن نوّاب البلاد الشامية وأكابر الأمراء
(14/333)
منعوهم من دخول القلعة بالجملة فلم يقدروا
على ذلك لكثرة من كان»
، اجتمع بالعسكر من التّركمان والعرب النّهابة كما هى عادة العساكر،
وإن كان كون الأشرف جهّز العسكر إلى جهة الرّها، فهذا أمر وقع فيه كلّ
أحد من ملوك الأقطار قديما وحديثا، ولا زالت الملوك على ذلك من مبدأ
الزّمان إلى آخره، معروف ذلك عند كل أحد- انتهى.
ثم فى ليلة الخميس ثامن ذى الحجة سنة اثنتين وثلاثين المذكورة قدم
السيد الشريف شهاب الدين «2» أحمد من دمشق بطلب من السلطان بعد أن خرج
أكابر الدّولة إلى لقائه، واستمرّ بالقاهرة إلى يوم الخميس خامس عشر ذى
الحجة فخلع السلطان عليه باستقراره كاتب السرّ الشريف بالديار المصرية،
عوضا عن جلال الدين محمد بن مزهر بحكم عزله، وعملت الطرحة خضراء برقمات
ذهب، فكان له موكب جليل إلى الغاية.
ثم فى يوم الجمعة سادس عشره خلع السلطان على جلال الدين [محمد] «3» بن
مزهر المقدم ذكره واستقر فى توقيع المقام الناصرى محمد بن السلطان.
ثم فى يوم السبت رابع عشرينه قدم «4» القاهرة الأمير هابيل بن قرايلك
المقبوض عليه من الرّها ومعه جماعة فى الحديد، فشهّروا بالقاهرة إلى
القلعة، وسجنوا بها، وقد تخلف العسكر المصرى بحلب مخافة أن يهجم قرايلك
على البلاد الحلبية.
وفى هذه السنة كان خراب مدينة تبريز؛ وسبب ذلك أن صاحبها إسكندر بن
(14/334)
قرا يوسف بن قرا محمد بن بيرم خجا
التركمانى زحف على مدينة السّلطانية «1» وقتل متملكها من جهة القان شاه
رخّ بن تيمور لنك فى عدة من أعيان المدينة، ونهب السلطانية وأفسد بها
غاية الإفساد، فسار إليه شاه رخّ فى جموع كثيرة فخرج إسكندر من تبريز
وجمع لحربه ولقيه وقد نزل خارج تبريز، فانتدب لمحاربة إسكندر المذكور
الأمير عثمان بن طر على المدعو قرايلك صاحب آمد- وقد أمدّه شاه رخّ
بعسكر كثيف- وقاتله خارج تبريز فى يوم الجمعة سادس عشر ذى الحجة قتالا
شديدا قتل فيه كثير من الفئتين إلى أن كانت الكسرة على إسكندر وجماعته،
وانهزم وهم فى أثره يطلبونه ثلاثة أيام ففاتهم إسكندر، فنهبت الجغتاى
عامّة بلاد أذربيجان وكرسى أذربيجان تبريز، وقتلوا وسبوا وأسروا وفعلوا
أفاعيل أصحابهم من أعوان تيمور حتى لم يدعوا بها ما تراه العين، ثم
ألزم شاه رخّ أهل تبريز بمال كبير، ثم جلاهم بأجمعهم إلى سمرقند، فما
ترك [فى] «2» تبريز إلا ضعيفا أو عاجزا لا خير فيه، ثم بعد مدّة طويلة
زحل إلى جهة بلاده، وبعد رحيله انتشرت الأكراد بتلك النواحى تعبث وتفسد
حتى فقدت الأقوات وأبيع لحم الكلب الرطل بعدة دنانير.
قلت: وقد تكرّر قتال إسكندر هذا لشاه رخّ المذكور غير مرّة، وهو فى كل
وقعة تكون الكسرة والذّلة عليه، وهولا يرعوى ولا يستحى ولا يرجع عن
جهله وغيّه، وقد نسبه بعض الناس للشجاعة لكثرة مواقعته مع شاه رخّ
المذكور، وأنا أقول: ليس ذلك من الشجاعة إنما هو من قلّة مروءته،
وإفراط جهله، وسخفه وجنونه، وعدم إشفاقه على رعيّته وبلاده؛ حيث يقاتل
من لا قبل له به ولا طاقة له بدفعه، فهذا هو الجنون بعينه، وإن طاب له-
من هذا- الكحل فليكتحل، وأما إسكندر
(14/335)
فإنه بعد هزيمته جال [فى] «1» البلاد
وتشتّت شمله وتبدّدت عساكره، وسار إلى بلاد الأكراد وقد وقع بها
الثّلوج، ثم سار إلى قلعة سلماس «2» فحصره بها الأكراد، وقاسى شدائد
إلى أن نجا منها بنفسه وسار إلى جهة من الجهات- انتهى.
[ما وقع من الحوادث سنة 833]
ثم فى يوم الأحد رابع عشرين المحرّم سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة قدم
إلى القاهرة رسول ملك الشّرق شاه رخّ بن تيمور لنك بكتابه يطلب فيه شرح
البخارى للحافظ شهاب الدين [أحمد] «3» بن حجر، وتاريخ الشيخ تقي الدين
المقريزىّ المسمى بالسّلوك لدول الملوك، ويعرض أيضا فى كتابه بأنه يريد
يكسو الكعبة، ويجرى العيش بمكّة، فلم يلتفت السلطان إلى كتابه ولا إلى
رسوله، وكتب له بالمنع فى كلّ ما طلبه.
ثم فى يوم الخميس سادس عشرين صفر خلع السلطان على قاضى القضاة علم
الدين صالح البلقينىّ وأعيد إلى قضاء الشافعية بعد عزل الحافظ شهاب
الدين بن حجر، وخلع أيضا على القاضى زين الدين عبد الرّحمن التّفهنىّ
وأعيد أيضا إلى قضاء الحنفية بعد عزل قاضى القضاة بدر الدين محمود
العينى، واستقرّ القاضى صدر الدين أحمد بن العجمىّ فى مشيخة خانقاه
شيخون عوضا عن التّفهنىّ، وخلع عليه فى يوم الاثنين أوّل شهر ربيع
الأوّل.
ثم فى يوم الثلاثاء سلخ شهر ربيع الأوّل «4» المذكور خلع السلطان على
القاضى سعد الدين إبراهيم ابن القاضى كريم الدين عبد الكريم بن سعد
الدين بركة المعروف بابن كاتب جكم باستقراره ناظر الخواصّ الشريفة بعد
موت والده.
ثم فى يوم السبت رابع شهر ربيع الآخر خلع السلطان على قاضى القضاة بدر
الدين
(14/336)
محمود العينى المقدّم ذكره باستقراره فى
حسبة القاهرة عوضا عن الأمير إينال الشّشمانىّ مضافا لما معه من نظر
الأحباس.
ثم فى يوم الخميس تاسع شهر ربيع الآخر المذكور خلع السلطان على الأمير
شهاب الدين أحمد الدّوادار المعروف بابن الأقطع- وقد صار قبل تاريخه
زرد كاشا- باستقراره فى نيابة الإسكندرية عوضا عن آقبغا التّمرازىّ
بحكم عزله وقدومه إلى القاهرة على إمرته، فإنه كان ولى نيابة إسكندرية
على إقطاعه: تقدمة ألف بالديار المصرية.
ثم فى خامس عشرينه خلع السلطان على «1» آقبغا الجمالىّ الكاشف
باستقراره أستادارا بعد عزل الزّينى عبد القادر بن أبى الفرج، على أن
آقبغا يحمل مائة ألف دينار بعد تكفية الديوان، فكذب وتخومل وعزل بعد
مدّة يسيرة حسبما نذكره، وكان أصل آقبغا هذا من الأوباش من مماليك
الأمير كمشبغا الجمالى أحد أمراء الطبلخانات، وصار يتردّد إلى إقطاع
أستاذه كمشبغا المذكور، ثم خدم بلّاصيّا عند الكشّاف، ثم ترقّى حتى ولى
الكشف فى دولة الملك الأشرف هذا، وأثرى وكثر ماله فحسّن له شيطانه أن
يكون أستادارا وأخذ يسعى فى ذلك سنين إلى أن سمح له الملك الأشرف بذلك،
وتولّى الأستادارية، وأستاذه [الأمير] «2» كمشبغا الجمالى فى قيد
الحياة من جملة أمراء الطبلخانات، فلم تحسن سيرته وعزل بعد مدّة.
وفى هذا الشهر وقع الطاعون بإقليم «3» البحيرة والغربيّة بحيث إنه أحصى
من مات من أهل المحلّة زيادة على خمسة آلاف إنسان، وكان الطاعون أيضا
قد وقع بغزّة والقدس وصفد ودمشق من شعبان فى السنة الخالية، واستمرّ
إلى هذا الوقت، وعدّ ذلك من النّوادر لأنّ الوقت [كان] «4» شتاء ولم
يعهد وقوع الطاعون إلا فى فصل
(14/337)
الرّبيع، ويعلّل الحكماء ذلك بأنه سيلان
الأخلاط فى فصل الرّبيع وجمودها فى الشتاء، فوقع فى هذه السنة بخلاف
ذلك، وكان قدم الخبر أيضا بوقوع الطاعون بمدينة برصا من بلاد الرّوم،
وأنه زاد عدّة من يموت بها فى كل يوم على ألف وخمسمائة إنسان، ثم بدأ
الطاعون بالديار المصرية فى أوائل شهر ربيع الآخر.
قلت: وهذا الطاعون هو الفناء العظيم الذي حصل بالدّيار المصرية
وأعمالها فى سنة ثلاث وثلاثين المذكورة.
ثم فى يوم الخميس أوّل جمادى الأولى نودى بالقاهرة بصيام ثلاثة أيّام،
وأن يتوبوا إلى الله تعالى من معاصيهم، وأن يخرجوا من المظالم، ثم إنهم
يخرجون فى يوم الأحد رابع جمادى الأولى المذكور إلى الصحراء، فلما كان
يوم الأحد رابعه «1» خرج قاضى القضاة علم الدين صالح البلقينىّ فى جمع
موفور إلى الصّحراء خارج القاهرة، وجلس بجانب تربة الملك الظاهر برقوق،
ووعظ الناس فكثر ضجيج النّاس وبكاؤهم فى دعائهم وتضرّعهم، ثم انفضوا
فتزايدت عدّة الأموات فى هذا اليوم عمّا كانت فى أمسه ثم فى ثامن جمادى
الأول هذا قدم كتاب إسكندر بن قرايوسف صاحب تبريز أنه قدم إلى بلاده
وقصده أن يمشى بعد انقضاء الشّتاء لمحاربة قرايلك، فلم يلتفت السلطان
إلى كتابه لشغله بموت مماليكه وغيرهم بالطّاعون.
ثم ورد كتاب قرايلك أيضا على السلطان يسأل فيه العفو عن ولده هابيل
وإطلاقه، فلم يسمح له السلطان بذلك.
ثم عظم الوباء فى هذا الشهر، وأخذ يتزايد فى كل يوم، ثم ورد الخبر
[أيضا] «2» أنه ضبط من مات من النّحريريّة بالوجه البحرى إلى يوم
تاريخه تسعة آلاف سوى من لم يعرف وهم كثير جدا، وأنه بلغ عدّة الأموات
فى الإسكندرية فى كل يوم نحو المائة، وأنه شمل الوباء غالب الأقاليم
بالوجه البحرى.
(14/338)
ثم وجد فى هذا الشهر بنيل مصر والبرك كثير
من السمك والتماسيح قد طفت على وجه الماء ميتة واصطيدت [سمكة تسمى] «1»
بنيه كبيرة فإذا هى كأنما صبغت بدم من شدّة ما بها من الاحمرار، ثم وجد
فى البرّيّة ما بين السويس والقاهرة عدة كبيرة من الظّباء والذئاب
موتى.
ثم قدم الخبر بوقوع الوباء أيضا ببلاد الفرنج.
[ثم «2» ] فى يوم الخميس سلخه ضبطت عدّة الأموات التى صلّى عليها
بمصليات القاهرة وظواهرها فبلغت ألفين ومائة، ولم يرد منها فى أوراق
الدّيوان غير أربعمائة ونيّف، وببولاق سبعين، وفشا الطاعون فى الناس،
وكثر بحيث إن ثمانية عشر إنسانا من صيّادى السّمك كانوا فى موضع [واحد]
«3» فمات منهم فى يوم واحد أربعة عشر، ومضى الأربعة ليجهّزوهم إلى
القبور فمات منهم وهم مشاة ثلاثة، فقام الواحد بشأن الجميع حتى أوصلهم
إلى القبور فمات هو أيضا. قاله الشيخ تقي الدين المقريزى فى تاريخه، ثم
قال [أيضا] «4» : وركب أربعون رجلا فى مركب وساروا من مدينة مصر نحو
بلاد الصّعيد فماتوا بأجمعهم قبل وصولهم إلى الميمون، ومرّت امرأة من
مصر تريد القاهرة وهى راكبة على مكارى فماتت وهى راكبة وصارت ملقاة
بالطريق يومها كلّه حتى بدأ يتغيّر ريحها فدفنت ولم يعرف لها أهل، وكان
الإنسان إذا مات تغيّر ريحه سريعا مع شدّة البرد، وشنع الموت بخانقاه
سرياقوس حتى بلغت العدّة فى كل يوم نحو المائتين، وكثر أيضا بالمنوفيّة
والقليوبيّة حتى كان يموت فى الكفر الواحد متمائة إنسان.
قلت: والذي رأيته أنا فى هذا الوباء أن بيوتا كثيرة خلت من سكّانها مع
كثرة عددهم، وأن الإقطاع الواحد كان ينتقل فى مدّة قليلة عن ثلاثة
أجناد وأربعة وخمسة، ومات من مماليك الوالد [رحمه الله] «5» فى يوم
واحد أربعة من أعيان الخاصّكيّة، وهم:
أزدمر السّاقى «6» ، وملج السلاح دار، وبيبرس الخاصّكىّ، ويوسف
الرّمّاح؛ ماتوا
(14/339)
الجميع فى يوم واحد، فتحيّرنا بمن نبدأ
بتجهيزه ودفنه على اختلاف سكناهم وقلّة التّوابيت والدّكل، وبالله لم
أشهد منهم غير يوسف الرّماح، وأرسلت لمن بقى غيرى، مع أنّ كلّ واحد
منهم أهل لنزول السلطان للصلاة عليه.
ثم أصبح من الغد مات سنقر دوادار الوالد الثانى، وكان من أكابر
الخاصّكيّة من الدّولة المؤيّدية، هذا خلاف من مات منهم من الجمداريّة
ومن مماليك الأمراء، وأما من مات من عندنا من المماليك والعبيد
والجوارى والخدم فلا يدخل تحت حصر، ومات من أخوتى وأولادهم سبعة أنفس
ما بين ذكور وإناث، وأعظمهم أخى إسماعيل؛ فإنه مات وسنه نحو العشرين
سنة، وكان من محاسن الدّهر.
قال المقريزى: ثم تزايدت عدّة الأموات عما كانت فأحصى فى يوم الاثنين
رابع جمادى الآخرة من أخرج عن أبواب القاهرة فبلغت عدّتهم ألفا ومائتى
ميّت سوى من خرج عن القاهرة من أهل الحكور والحسينيّة وبولاق والصّليبة
ومدينة مصر والقرافتين والصحراء، وهم أكثر من ذلك، ولم يورد بديوان
المواريث بالقاهرة سوى ثلاثمائة وتسعين، وذلك أن أناسا عملوا التوابيت
للسّبيل، فصار أكثر الناس يحملون موتاهم عليها ولا يوردون الديوان
أسماءهم.
قال: وفى هذه الأيام ارتفعت أسعار الثّياب التى يكفّن بها الأموات،
وارتفع سعر سائر ما يحتاج إليه المرضى كالسّكّر وبزر الرّجلة والكمّثرى
على أن القليل من المرضى هو الذي يعالج بالأدوية، بل بعضهم يموت موتا
سريعا فى ساعة وأقلّ منها، وعظم الوباء فى المماليك السلطانية سكان
الطباق بالقلعة الذين كثر فسادهم وشرّهم وعظم عتوّهم وضرهم، بحيث إنه
كان يصبح منهم أربعمائة وخمسون مملوكا مرضى فيموت [منهم] «1» فى اليوم
زيادة على الخمسين مملوكا- انتهى كلام المقريزى.
قلت: والذي رأيته أنا أنه مات بعض «2» أعيان الأمراء مقدّمى الألوف،
فلم يقدروا
(14/340)
له على تابوت حتى أخذ له تابوت من السّبيل،
وأما الأخ [رحمه الله] «1» فإنه لما توفّى إلى رحمة الله تعالى وجدنا
له تابوتا، غير أنه لا عدّة فيه، فلما وضع الأخ فيه طرح عليه سلّارى
سمّور من قماشه، على أن الغاسل أخذ من عليه قماشا يساوى عشرين ألف «2»
درهم، ومع هذا لم ينهض أهل الحانوت بكسوة تابوته.
وبلغ عدّة من صلى عليه من الأموات بمصلّى باب النصر فى يوم الأحد عاشر
جمادى الآخرة خمسمائة وخمسة، وقد أقام هناك جماعة كبيرة بأدوية وأقلام
لضبط ذلك، وبطل الصلاة بالصلاة وإنما صار الناس يصلون على أمواتهم صفّا
واحدا من باب المصلّى إلى تجاه باب دار الحاجب، فكان يصلّى على
الأربعين والخمسين معا دفعة واحدة، ومات لشخص بخدمتنا يسمّى شمس الدين
الذّهبى ولد فخرجنا معه إلى المصلّى، وكان سنّ الميّت دون سبع سنين،
فلما أن وضعناه للصّلاة عليه بين الأموات جىء «3» بعدّة كبيرة أخرى إلى
أن تجاوز عددهم الحدّ، ثم صلّى على الجميع، وتقدمنا لأخذ الميّت
المذكور «4» فوجدنا غيرنا أخذه وترك لنا غيره فى مقدار عمره، فأخذه
أهله ولم يفطنوا به، ففهمت أنا ذلك، وعرّفت جماعة أخر ولم نعلم أباه
بذلك، وقلنا لعلّ الذي أخذه يواريه أحسن مواراة، وليس للكلام فى ذلك
فائدة غير زيادة فى الحزن، فلما دفن الصّبىّ وأخذ أهل الحانوت التّابوت
صاحوا وقالوا: ليس هذا تابوتنا هذا عتيق وقماشه أيضا خلق، فأشرت إليهم
بالسّكات وهدّدهم بعض المماليك بالضّرب، فأخذوه ومضوا، فكانت هذه
الواقعة من الغرائب المهولة، كل ذلك والطاعون فى زيادة ونموّ حتى أيقن
كلّ أحد أنه هالك لا محالة، وكنا نخرج من صلاة الجمعة إلى بيتنا وقد
وقف جماعة من الأصحاب والخدم فنتعادد إلى الجمعة الثانية فينقص منا
عدّة كبيرة ما بين ميّت ومريض، واستسلم كلّ أحد للموت وطابت نفسه لذلك،
وقد أوصى وتاب وأناب ورجع عن أشياء كثيرة، وصار غالب الشّباب فى يد
(14/341)
كلّ واحد منهم سبحة وليس له دأب إلا التوجه
للمصلّاة للصلاة على الأموات وأداء الخمس والبكاء [والتوجّه إلى الله
تعالى] «1» والتخشّع، وماتت عندنا وصيفة مولدة بعد أن مرضت من ضحى
النهار إلى أن ماتت قبل المغرب، فأصبحنا وقد عجز الخدم عن تحصيل تابوت
لها، فتولت تغسيلها أمّها وجماعة من العجائز وكفّنوها فى أفخر ثيابها
على أحسن وجه، غير أننا لم نلق لها نعشا، وقد ألزمنى التوجه للصلاة على
الأمير الكبير بيبغا المظفّرىّ، وعلى الشهابى أحمد بن الأمير تمراز
النائب، فوقفت على الباب والميتة محمولة على أيدى بعض الخدم إلى أن
اجتازت بنا جنازة امرأة، فأنزلت التابوت غصبا ووضعتها عند الميتة
«واشتالتا» على أعناق الرجال، وسارت أمّها وبعض الخدم معها إلى أن
قاربت التّربة فأخذوها من التابوت ودفنوها.
ثم بلغ فى جمادى الآخرة [المذكورة] «2» عدّة من صلّى عليه بمصلاة باب
النصر فقط فى يوم واحد زيادة على ثمانمائة ميّت.
ثم فى اليوم المذكور بلغ عدّة من خرج من الأموات من سائر أبواب القاهرة
اثنى عشر ألفا وثلاثمائة ميّت محرّرة من الكتبة الحسبة بأمر شخص من
أكابر الدّولة وقيل بأمر السلطان، ثم بلغ عدّة من صلّى عليه بمصلّاة
باب النصر من الأموات فى العشر الأوسط من جمادى الآخرة المذكورة ألفا
ونيفا وثلاثين إنسانا، ويقارب ذلك مصلاة المؤمنى بالرّميلة، فيكون على
هذا الحساب مات فى هذا اليوم نحو خمسة عشر ألف إنسان.
قال المقريزى: واتفق فى هذا الوباء غرائب، منها: أنه كان بالقرافة
الكبرى والقرافة الصّغرى من السودان نحو ثلاثة آلاف إنسان ما بين رجل
وامرأة وصغير وكبير ففنوا بالطاعون حتى لم يبق منهم إلا القليل، ففرّوا
إلى أعلى الجبل وباتوا ليلتهم سهّارا لا يأخذهم نوم لشدّة ما نزل بهم
من فقد أهليهم، وظلوا يومهم من الغد بالجبل،
(14/342)
فلما كانت الليلة الثانية مات منهم ثلاثون
إنسانا وأصبحوا فإلى أن يأخذوا فى دفنهم مات منهم ثمانية عشر.
قال: واتفق أن إقطاعا بالحلقة تنقّل فى أيام قليلة إلى تسعة نفر، وكل
منهم يموت، ومن كثرة الشغل بالمرضى والأموات تعطّلت الأسواق من البيع
والشراء، وتزايد ازدحام النّاس فى طلب الأكفان والنعوش، فحملت الأموات
على الألواح، وعلى الأقفاص، وعلى الأيدى، وعجز الناس عن دفن أمواتهم،
فصاروا يبيتون بها فى المقابر والحفارون طول ليلتهم يحفرون، وعملوا
حفائر كبيرة بلغ فى الحفرة منها عدّة أموات، وأكلت الكلاب كثيرا من
أطراف الأموات، وصار الناس ليلهم كلّه يسعون فى طلب الغسال والحمّالين
والأكفان، وترى النعوش فى الشوارع كأنها قطارات جمال لكثرتها، متواصلة
بعضها فى إثر بعض- انتهى كلام المقريزى.
ثم فى يوم الجمعة خامس عشر جمادى الآخرة المذكورة جمع الشريف شهاب
الدين «1» أحمد كاتب السّرّ بالديار المصرية بأمر السلطان أربعين
شريفا، اسم كل شريف منهم محمد، وفرّق فيهم من ماله خمسة آلاف درهم،
وأجلسهم بالجامع الأزهر فقرءوا ما تيسّر من القرآن الكريم بعد صلاة
الجمعة، ثم قاموا هم والناس على أرجلهم ودعوا الله تعالى- وقد غص
الجامع بالناس- فلم يزالوا يدعون الله حتى دخل وقت العصر فصعد الأربعون
شريفا إلى سطح الجامع وأذّنوا جميعا، ثم نزلوا وصلّوا مع الناس صلاة
العصر وانفضّوا، وكان هذا بإشارة بعض الأعاجم، وأنه عمل ذلك ببلاد
الشرق فى وباء حدث عندهم فارتفع عقيب ذلك.
ولما أصبح الناس فى يوم السبت أخذ الوباء يتناقص فى كلّ يوم بالتدريج
حتى انقطع، غير أنه لما نقلت الشمس إلى برج الحمل فى يوم ثامن عشر
جمادى الآخرة المذكورة ودخل فصل الرّبيع، وأخذ الطاعون يتناقص، غير أنه
فشا الموت من يومئذ فى أعيان النّاس وأكابرهم ومن له شهرة، بعد ما كان
أوّلا فى الأطفال
(14/343)
والموالى والغرباء والخدم، وفشا أيضا ببلاد
الصعيد، وبغالب الدّواب والطّير، وبدأ التطويل فى الأمراض، ومشت
الأطباء والجرائحية للمرضى.
والعجب أن الشريف كاتب السّرّ الذي جمع الأشراف بجامع الأزهر مات بعد
ذلك باثنى عشر يوما، وولى أخوه كتابة السرّ عوضه وقبل أن يلبس الخلعة
مات أيضا.
وأما من مات فى هذا الوباء من الأعيان فجماعة كبيرة يأتى ذكر بعضهم فى
وفيات هذه السنة من هذا الكتاب.
ثم فى يوم الاثنين تاسع شهر رجب خلع السلطان على الأمير الطّواشى زين
الدين خشقدم الرّومى اليشبكىّ نائب مقدّم المماليك باستقراره مقدّم
المماليك السلطانية بعد موت الأمير فخر الدين ياقوت الأرغون شاوى
الحبشى، وخلع السلطان على الطواشى فيروز الركنى الرّومى باستقراره فى
نيابة مقدّم المماليك عوضا عن خشقدم المذكور.
ثم فى سادس عشر شهر رجب المذكور قدم الأمير تغرى بردى المحمودىّ من ثغر
دمياط- وكان قد نقل إليه من سجن الإسكندرية قبل تاريخه بمدّة- فرسم
السلطان أن يتوجه من قليوب إلى دمشق ليكون أتابكا بها عوضا عن الأمير
قانى باى الحمزاوى بحكم حضور قانى باى المذكور إلى القاهرة ليكون بها
من جملة مقدّمى الألوف.
ثم فى ثالث عشرينه خلع السلطان على الشيخ بدر الدين حسن بن القدسىّ
الحنفى باستقراره فى مشيخة الشّيوخ بالشّيخونيّة بعد موت القاضى صدر
الدين أحمد ابن العجمى.
ثم ورد الخبر على السلطان بحركة «1» قرايلك على البلاد الحلبيّة، وأن
شاه رخ
(14/344)
ابن تيمور لنك قد شتّى بقراباغ»
، فأخذ السلطان فى تجهيز عسكر للسّفر، هذا وقد أشيع بالقاهرة بأن
الأمير جانى بك الصّوفى مات بالطّاعون ودفن ولم يعرف به أحد فلم تطب
نفس السّلطان لهذا الخبر، واستمرّ على ما هو عليه من الفلق بسببه.
ثم فى يوم الأربعاء ثالث شعبان «2» منع السلطان نوّاب القضاة من الحكم،
ورسم أن يقتصر القاضى الشافعىّ على أربعة نوّاب، والحنفى على ثلاثة،
والمالكى والحنبلى كل منهما على اثنين، قلت: نعمة طائلة، خمسة عشر
قاضيا بمصر بل ونصف هذا فيه كفاية.
ثم فى يوم الاثنين ثامن شعبان أدير «3» محمل الحاجّ على العادة فى كلّ
سنة، ولم يعهد دورانه فى شعبان قبل ذلك، غير أن الضّرورة بموت المماليك
الرّمّاحة اقتضت تأخير ذلك، وكان الجمع فيه من الناس دون العادة لكثرة
وجد الناس على موتاهم.
ثم فى يوم السبت ثامن عشر شهر رمضان قدم شهاب الدين أحمد بن صالح بن
السّفاح كاتب سرّ حلب باستدعاء ليستقرّ فى كتابة السّرّ بالديار
المصرية، ويستقرّ عوضه فى كتابة سرّ حلب ابنه زين الدين عمر، على أن
يحمل شهاب الدين المذكور عشرة آلاف دينار، وكانت كتابة السّرّ شغرت من
يوم مات الشريف شهاب الدين أحمد الدّمشقى، وباشر أخوه عماد الدين أبو
بكر أياما قليلة ومات أيضا بالطاعون، فباشر القاضى شرف الدين أبو بكر
الأشقر «4» نائب كاتب السّرّ إلى يوم تاريخه بعد أن سعى فى كتابة
السّرّ جماعة كبيرة بالقاهرة، فاختار السلطان ابن السفّاح هذا، وبعث
بطلبه، وخلع عليه فى عشرينه باستقراره فى كتابة السّرّ، فباشر الوظيفة
بقلّة حرمة وعدم أبّهة مع حدّة مزاج وخفّة وجهل بصناعة الإنشاء، على
أنه باشر كتابة السّرّ بحلب
(14/345)
سنين قبل ذلك، ومع هذا كله لم ينتج أمره
لعدم فضيلته، فإنه كان يظهر من قراءته للقصص ألفاظ عامّيّة، وبالجملة
فإنه كان غير أهل لهذه الوظيفة- انتهى.
ثم فى يوم السبت رابع عشرين شوّال «1» قدم المماليك السلطانية من
تجريدة الرّها إلى القاهرة، وكانوا من يوم ذاك بمدينة حلب، وتخلفت
الأمراء بها.
ثم فى يوم الاثنين ثالث ذى القعدة خلع السلطان على الصاحب كريم الدين
عبد الكريم بن كاتب المناخ باستقراره أستادارا مضافا إلى الوزر عوضا عن
آقبغا الجمالى بحكم عجز آقبغا عن القيام بالكلف السلطانية.
ثم فى سادس ذى القعدة أمسك السلطان آقبغا المذكور وأهين وعوقب على
المال، فحمل جملة، ثم أفرج عنه واستقرّ كاشفا للجسور بعد أيام.
وفى يوم الثلاثاء ثامن عشر ذى القعدة أيضا- ويوافقه خامس عشر مسرى- أو
فى النيل ستّة عشر ذراعا فركب السلطان الملك الأشرف من قلعة الجبل ونزل
حتى خلّق المقياس وعاد فتح خليج السّدّ «2» على العادة ولم يركب لذلك
منذ تسلطن إلا فى هذه السنة.
ثم فى ليلة السبت «3» خامس عشر ذى القعدة ظهر للحاج المصرى وهم سائرون
من جهة البحر المالح كوكب يرتفع ويعظم ثم تفرع «4» منه شرر كبار ثم
اجتمع، فلما أصبحوا اشتدّ عليهم الحرّ فهلك من مشاة الحاج ثم من
الركبان عالم كبير، وهلك أيضا من جمالهم وحميرهم عدّة كبيرة، كل ذلك من
شدة الحرّ والعطش، وهلك أيضا فى بعض أودية الينبع جميع ما كان فيه من
الإبل والغنم.
ثم فى يوم الثلاثاء ثامن ذى الحجة ركب السلطان من قلعة الجبل ونزل إلى
بيت
(14/346)
[ابن] «1» البارزىّ المطلّ على النيل بساحل
بولاق، وسار بين يديه غرابان فى النيل حربية، فلعبا كما لو حاربا
الفرنج، ثم ركب السلطان من وقته سريعا وسار إلى القلعة.
ثم فى عاشر ذى الحجة توجّه زين الدين عبد الباسط ناظر الجيش إلى زيارة
القدس الشريف، وعاد فى يوم تاسع عشرينه، ثم ورد الخبر على «2» السلطان
فى هذا الشهر بتوجه الأمير قصروه نائب حلب منها والأمراء المجرّدون معه
لمحاربة قرقماس بن حسين بن نعير، فلقوا جمائعه تجاه قلعة جعبر «3» ،
فانهزم قرقماس عن بيوته، فأخذ العسكر فى نهب ماله، فردّ عليهم العرب
وهزموهم وقتلوا كثيرا من العساكر، وممّن قتل الأمير قشتم المؤيّدى
أتابك حلب وغيره، وعاد العسكر إلى حلب بأسوإ حال، فعظم ذلك على الملك
الأشرف إلى الغاية.
قال المقريزى: وكان فى هذه السنة «4» حوادث شنيعة وحروب وفتن؛ فكان
بأرض مصر بحريّها وقبليّها وبالقاهرة ومصر وظواهرها وباء [عظيم] «5»
مات فيه على أقلّ ما قيل مائة ألف إنسان، والمجازف يقول هذه المائة ألف
من القاهرة ومصر فقط سوى من مات بالوجه القبلى والبحرى، وهم مثل ذلك.
قلت: وليس فى قول القائل إن هذه المائة ألف من القاهرة ومصر فقط مجازفة
أبدا، فإن الوباء أقام أزيد من ثلاثة أشهر ابتداء وانتهاء وانحطاطا،
وأقل من مات فيه دون العشرين كل يوم «6» ، وأزيد من مات فيه نحو خمسة
عشر ألف إنسان، وبهذا المقتضى ما ثمّ مجازفة، ومتحصل ذلك يكون بالقياس
أزيد مما قيل- انتهى.
(14/347)
قال- أعنى المقريزى: وغرق ببحر القلزم مركب
فيه حجّاج وتجار تزيد عدتهم على ثمانمائه إنسان لم ينج منهم سوى ثلاثة
رجال وهلك باقيهم، وهلك فى ذى القعدة أيضا بطريق مكّة فيما بين الأزلم
«1» والينبع بالحرّ والعطش ثلاثة آلاف إنسان، ويقول المكثر خمسة آلاف،
وغرق فى نيل مصر فى مدّة يسيرة اثنتا عشرة سفينة، تلف فيها من البضائع
والغلال ما قيمته مال عظيم، وكان بغزة والرّملة والقدس وصفد ودمشق وحمص
وحماة وحلب وأعمالها وباء [عظيم] «2» ، هلك فيه خلائق لا يحصى عددهم
إلا الله تعالى، وكان ببلاد المشرق بلاء عظيم، وهو أنّ شاه رخّ بن
تيمور ملك الشّرق قدم إلى تبريز فى عسكر يقول المجازف عدّتهم سبعمائة
ألف، قلت: يغفر الله لقائل هذا اللفظ، فإنه تجاوز حد المجازفة فى قوله-
انتهى.
قال: فأقام شاه رخّ على خوبى «3» نحو شهرين، وقد فرّ منه إسكندر «4» بن
قرا يوسف، فقدم عليه الأمير عثمان بن طر على المدعو قرايلك التركمانى
صاحب آمد فى ألف فارس، فبعثه على عسكر لمحاربة إسكندر، وسار فى أثره،
وقد جمع إسكندر جمعا يقول المجازف إنهم سبعون ألفا، فاقتتل الفريقان
خارج تبريز فقتل بينهما آلاف من الناس، وانهزم إسكندر، وهم فى أثره
يقتلون [ويأسرون] «5» وينهبون، فأقام إسكندر ببلاد الكرج ثم بقلعة
سلماس وحصرته العساكر مدّة، فنجا وجمع نحو الأربعة آلاف، فبعث إليه شاه
رخّ عسكرا أوقعوا به وقتلوا من معه، فنجا بنفسه جريحا.
وفى مدة هذه الحروب ثار أصبهان بن قرا يوسف ونزل على الموصل ونهب تلك
(14/348)
الأعمال وقتل وأفسد فسادا كبيرا، وكانت
بعراق العرب والعجم نهوب ومقاتل، بحيث إن شاه محمد بن قرا يوسف متملك
بغداد من عجزه لا يتجاسر على أن يتجاوز سور بغداد، وخلا أحد جانبى
بغداد من السكان، وزال عن بغداد اسم التمدّن، ورحل منها حتى الحيّاك،
وجفّ أكثر النّخل من أعمالها، ومع هذا كلّه وضع شاه رخّ على أهل تبريز
مالا، ذهبت فى جبايانه نعمهم، وكثر الإرجاف بقدومه إلى الشّام، فأوقع
الله فى عسكره البلاء والوباء حتى عاد إلى جهة بلاده، وعاد قرايلك إلى
ماردين فنهبها، ثم عاد ونهب ملطية وما حولها.
وكان [أيضا] «1» ببلاد الحبشة «2» بلاء لا يمكن وصفه، وذلك أنا أدركنا
ملكها داود بن سيف أرعد، ويقال له الحطّى ملك أمحرة، وهم نصارى
يعقوبيّة، فلما مات فى سنة اثنتى عشرة وثمانمائة قام من بعده ابنه تدرس
بن داود، فلم تطل مدّته ومات، فملك بعده أخوه أبرم، ويقال إسحاق بن
داود وفخم أمره؛ وذلك أن بعض مماليك الأمير بزلار نائب الشام ترقّى فى
الخدم وعرف بألطنبغا مغرق حتى باشر ولاية قوص من بلاد الصّعيد، ففرّ
إلى الحبشة واتّصل بالحطّى هذا، وعلّم أتباعه لعب الرّمح ورمى النّشّاب
وغير ذلك من أدوات الحرب، ثم لحق بالحطّى أيضا بعض المماليك الچراكسة،
وكان زرد كاشا فعمل له زردخاناه ملوكيّة، وتوجّه إليه مع ذلك رجل من
كتّاب مصر الأقباط النّصارى يقال له فخر الدولة، فرتّب له ملكه، وجبى
له الأموال وجنّد له الجنود، حتى كثر ترفّهه بحيث أخبرنى من شاهده وقد
ركب فى موكب جليل وبيده صليب من ياقوت أحمر قد قبض عليه، ووضع يده على
فخذه، فشرهت نفسه إلى أخذ ممالك الإسلام لكثرة ما وصف له هؤلاء من
حسنها، فبعث بالتّبريزىّ التاجر ليدعو الفرنج للقيام معه، وأوقع بمن فى
مملكته من المسلمين، فقتل منهم وأسر وسبى عالما عظيما، وكان ممن أسر
منصور ومحمد ولدا سعد الذين محمد بن أحمد بن على
(14/349)
ابن ولصمع «1» الجبرتى ملك المسلمين
بالحبشة، فعاجله الله بنقمته وهلك فى ذى القعدة، وأقيم ابنه اندراس بن
إسحاق، فهلك أيضا لأربعة أشهر، فأقيم بعده عمّه حزبناى «2» ابن داود بن
سيف أرعد، فهلك فى شهر رمضان سنة أربع وثلاثين، فكانت على أمحرة أربعة
ملوك فى أقلّ من سنة- انتهى كلام المقريزى برمته.
وقد خرجنا عن المقصود، على أنه فيما ذكرنا فوائد يحتمل التطويل بسببها-
انتهى.
[ما وقع من الحوادث سنة 834]
ثم إن السلطان أخذ فى تجهيز عسكر «3» إلى البلاد الحلبيّة إلى أن انتهى
أمرهم، فلمّا كان يوم الاثنين سابع عشرين محرم سنة أربع وثلاثين
وثمانمائة برز الأمراء المجرّدون من القاهرة إلى الرّيدانيّة خارج
القاهرة، وهم الأمير الكبير جارقطلو أتابك العساكر، والأمير إينال
الجكمىّ أمير سلاح، والأمير آقبغا التّمرازى أمير مجلس، والأمير تمراز
القرمشىّ رأس نوبة النّوب والأمير [قرا] «4» مراد خجا الشّعبانى
الظاهرىّ برقوق أمير جاندار، وعدّة من أمراء الطبلخانات والعشرات،
وخمسمائة مملوك من المماليك السّلطانية، وكان سبب تجرّدهم ورود الخبر
على السلطان بنزول قرايلك فى أوّل هذا الشهر على معاملة ملطية، وأنه
نهبها وأحرقها، وحصر ملطية، فخرج إليه الأمير قصروه نائب حلب، وقد
أردفه الأمير سودون من عبد الرحمن نائب الشام بعساكر الشام، فأردفهم
السلطان [أيضا] «5» بالعسكر المذكور، فلمّا أن رحلوا من الرّيدانيّة
ورد الخبر ثانيا من قبل نوّاب البلاد الشامية بعود قرايلك إلى بلاده،
وأن المصلحة تقتضى عدم خروج العسكر من مصر فى هذه السّنة، فرسم السلطان
بعودهم من خانقاه سرياقوس فى يوم الجمعة أوّل صفر، فرجعوا من وقتهم،
واستعيدت منهم
(14/350)
النفقة السلطانية التى أنفقت فيهم عند
سفرهم، فاحتاجوا إلى ردّ ما اشتروه من الأمتعة بعد ما استعملوها،
والأزواد على من ابتاعوها منهم غصبا، ثم احتاجوا إلى استعادة ما أنفقوه
على غلمانهم وخدمهم، وقد تصرفت الغلمان فيها، واشتروا منها احتياجهم،
ودفعوا منها إلى أهليهم ما ينفقونه فى غيبتهم، فكلّ واحد من هؤلاء
استعيد منه ما تصرّف فيه، فنزل من أجل هذا بالناس ضرر عظيم، وكثرت
القالة فى السلطان ونفرت القلوب منه، وتحدّث الناس بذلك أياما وسنين،
ولعله صار مثلا يضرب به إلى يوم القيامة.
ثم فى يوم الاثنين حادى عشر صفر المذكور ركب السلطان من قلعة الجبل فى
موكب جليل ملوكى احتفل له ولبس قماش الموكب الكلفتاه والفوقانى الصّوف
الذي بوجهين أحمر وأخضر، كما كان يلبس الملك الظاهر برقوق وغيره من
الملوك، وجرّ الجنائب بين يديه والجاويشيّة تصيح أمامه، وسار وحوله
الطبردارية «1» وعلى رأسه السّنجق السلطانى حتى عبر من باب زويلة فشق
القاهرة وخرج من باب الشّعريّة يريد الصّيد بالدير «2» والمنزلة «3»
فتوجّه إلى الصيد فبات هناك ليلة الثلاثاء وأصبح اصطاد الكراكى، وعاد
إلى مخيّمه وأكل السّماط، ثم ركب وعاد فى آخر يوم الثلاثاء إلى القلعة
بعد ما شقّ القاهرة فى عوده أيضا على تلك الهيئة، وهذا أوّل ركوبه إلى
الصيّد منذ تسلطن.
ثم فى خامس عشرينه ركب للصيد ثانيا وعاد من الغد، وتكرّر ركوبه لذلك
غير مرّة، وأنا ملازمه فى جميع ركوبه للصيّد وغيره
(14/351)
وفى هذا الشهر توقّف الناس والتجار فى أخذ
الذهب من كثرة الإشاعة بأنه ينادى عليه، فنودى «1» فى يوم السبت سلخ
صفر المقدم ذكره أن يكون سعر الدينار الأشرفىّ بمائتين وخمسة وثلاثين،
والدينار الإفرنتى بمائتين وثلاثين، وهدّد من زاد على ذلك بأنه يسبك فى
يده، فعاد الضرر على الناس فى الخسارة لانحطاط سعر الدينار خمسين
درهما؛ فإنه كان يتعامل به الناس بمائتين وخمسة وثمانين.
ثم فى يوم الثلاثاء رابع شهر ربيع الأوّل رسم السلطان بجمع الصيّارف
والتجار [فجمعوا] «2» وأشهد عليهم أن لا يتعاملوا بالدراهم القرمانيّة
«3» ولا الدراهم اللّنكيّة «4» ولا القبرسيّة، وأن هذه الثلاثة أنواع
تباع بسوق الصاغة على حساب وزن كل درهم منها بستة عشر درهما من الفلوس
حتى يدخل بها إلى دار الضّرب وتضرب دراهم أشرفيّة خالصة من الغشّ،
ونودى بذلك، وأن تكون المعاملة بالدراهم الأشرفيّة والدراهم البندقيّة
«5» والمؤيّدية «6» ، فإن هذه الثلاثة فضّة خالصة ليس فيها نحاس بخلاف
الدراهم التى منع من معاملتها، فإن عشرتها إذا سبكت تجىء ستة لما فيها
من النحاس، ثم نودى بعد ذلك بأن يكون سعر الأشرفى بمائتين وثمانين
والإفرنتى بمائتين وسبعين، واستمرّ ذلك جميعه لا يقدر أحد على مخالفة
شىء منه.
قلت: وهذا بخلاف ما نحن فيه الآن؛ فإن لنا نحو ستة أشهر والناس فيه
بحسب اختيارهم فى المعاملة بعد أن نودى على الذّهب والفضة بعدة أسعار
غير مرّة، فلم يلتفت أحد للمناداة، وأخذوا فيما هم فيه من المعاملة
بالدراهم التى لا يحل المعاملة بها لما فيها من
(14/352)
الغشّ والنحاس، وقد استوعبنا ذلك كلّه
مفصّلا باليوم فى تاريخنا «حوادث الدهور فى مدى الأيام والشهور «1» »
إذ هو ضابط لهذا الشأن مشحون بما يقع فى الزمان من ولاية وعزل وغريبة
وعجيبة.
ثم تكرّر ركوب السلطان فى شهر ربيع الأوّل هذا للصيد غير مرّة بعدّة
نواح، كل ذلك والخواطر مشغولة بأمر جانى بك الصّوفى والفحص عنه مستمر،
والناس بسبب ذلك فى جهد وبلاء، فما هو إلا أن يكون الرجل له عدوّ وأراد
هلاكه أشاع بأن جانى بك الصوفى مختف عنده فعند ذلك حلّ به بلاء الله
المنزل من كبس داره، ونهب قماشه، وهتك حريمه، وسجنه فى أيدى العواتية،
ثم بعد ذلك يصير حاله إلى [أحد] «2» أمرين: إما أن يضرب ويقرّر
بالعقوبه، وإما أن تبرّأ ساحته ويطلق بعد أن يقاسى من الأهوال ما
سيذكره إلى أن يموت، ولقد رأيت من هذا النوع أعاجيب، منها: إن بعض
أصحابنا الخاصّكيّة ضرب بعض السقايين على ظهره ضربة واحدة، فرمى
السقّاء المذكور قربته وترك حمله وصاح: هذا الوقت أعرّف السلطان بمن هو
مختف عندك، ومشى مسرعا خطوات إلى جهة القلعة، فذهب خلفه حواشى الخاصّكى
المذكور ليرجعوه فلم يلتفت، فنزل إليه الخاصّكى بنفسه حافيا وتبعه إلى
الشارع الأعظم حتى لحقه وقد أعاقه الناس له، فأخذ الخاصّكى يتلطّف به
ويترضّاه ويبوس صدره غير مرّة ويترقّق له وقد علاه اصفرار ورعدة،
والناس تسخر من حاله لكونه ما يعرف باللغة العربية إلا كلمات هينة،
فصار مع عدم معرفته يريد ملاطفة السّقّاء المذكور فيتكلّم بكلام إذا
سمعه الشخص لا يكاد يتمالك نفسه، وسخر الناس وأهل حارته بكلامه أشهرا
وسنين، فلما انتهى أمره وبلغنى ما وقع له كلّمته فيما فعله ولمته فى
ذلك، فقال: خل عنك هذا الكلام، والله إن إينال السلحدار وأخاه يشبك
(14/353)
الصّوفى ضربا بالمقارع وعصرا أياما ولم
يصرّح أحد فى حقهما بما أراد هذا السّقاء أن يقوله عنى، واستمر
الخاصّكىّ فى قلبه حزارة من السّقّاء المذكور إلى أن تأمّر عشرة فى
أوّل دولة الملك الظاهر جقمق فطلب السّقّاء المذكور فوجده قد مات فى
شعبان من السنة الحالية، فهذا ما كان من أمره، ومثل هذا فكثير.
ثم [فى] «1» أواخر شهر ربيع الأوّل «2» المذكور لهج السلطان بسفره إلى
البلاد الشّامية لمحاربة قرايلك.
واستهلّ شهر ربيع الآخر- أوّله الأحد- والسلطان والأمراء فى الاهتمام
بحركة السفر.
ثم فى يوم الخميس رابع عشرين جمادى الأولى خلع السلطان على قاضى القضاة
شهاب الدين أحمد بن حجر، وأعيد إلى قضاء الشافعيّة بالديار المصرية بعد
عزل قاضى القضاة علم الدين صالح البلقينىّ.
ثم فى جمادى الآخرة خلع السلطان على الأمير جانى بك السّيفى يلبغا
الناصرى نائب رأس نوبة النّوب «3» المعروف بجانبك الثّور، باستقراره فى
نيابة الإسكندرية بعد موت أحمد بن الأقطع.
ثم فى يوم الاثنين حادى عشرين شوّال خرج محمل الحاج إلى الرّيدانيّة
خارج القاهرة صحبة الأمير قراسنقر الظاهرىّ، وحجّت فى هذه السنة زوجة
السلطان الملك الأشرف وأمّ ولده الملك العزيز يوسف خوند جلبّان
الچاركسية بتجمّل كبير إلى الغاية، وفى خدمتها الزّينى خشقدم الظاهرىّ
الزّمّام وهو أمير الرّكب الأوّل، والزينى عبد الباسط ناظر الجيش.
(14/354)
قال المقريزى: وحججت أنا فى هذه السنة رجبيّة، وقد استجدّ بعيون القصب
«1» من طريق الحجاز بئر احتفرت، فعظم النّفع بها، وذلك أنى أدركت بعيون
القصب [أنه كان] «2» يخرج من بين الجبلين ماء يسيح على الأرض فينبت فيه
من القصب الفارسى وغيره شىء كثير، ويرتفع فى الماء حتى يتجاوز قامة
الرّجل فى عرض كبير، فإذا نزل الحاج عيون القصب أقاموا يومهم على هذا
الماء يغتسلون منه ويبتردون به، ثم انقطع هذا الماء وجفّت تلك الأعشاب،
فصار الحاج إذا نزل هناك احتفر حفائر يخرج منها ماء ردىء إذا بات ليلة
واحدة فى القرب نتن، فأغاث الله العباد بهذا البئر، وخرج ماؤها عذبا،
وكان قبل ذلك بشهرين قد حفر الأمير شاهين الطّويل بئرين بموضع يقال له
زعم «3» وقيقاب، وذلك أن الخاج كان إذا ورد الوجه «4» تارة يجد فيه
الماء وتارة لا يجد فيه، فلما هلك الناس من العطش فى السنة الماضية بعث
السلطان بشاهين هذا- كما تقدّم ذكره- فحفر البئرين بناحية زعم حتى لا
يحتاج الحاج إلى ورود الوجه، فتروّى الحاج منهما وعمّ الانتفاع بهما،
وبطل سلوك الحاج على طريق الوجه من هذه السنة- انتهى كلام المقريزى.
قلت: وفرغت سنة أربع وثلاثين ولم يسافر السلطان ولا أحد من أمرائه إلى
البلاد الشّامية. |