النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

[ما وقع من الحوادث سنة 840]
ثم فى أول شهر ربيع الأول من سنة أربعين المذكورة، رسم السلطان بعزل تمراز المؤيدى عن نيابة صفد لسوء سيرته وكثرة ظلمه؛ ونقله إلى نيابة غزة، عوضا عن

(15/80)


الأمير يونس الرّكنى؛ ونقل يونس المذكور إلى نيابة صفد عوضا عن تمراز المذكور، أعنى أن كلا منهما ولى عن الآخر، وحمل إليهما التقليد والتشريف الأمير دولات باى المحمودى الساقى أحد أمراء العشرات ورأس نوبة، بسفارة صهره الأمير جانم الأشرفى الأمير الآخور الكبير.
ثم فى يوم الثلاثاء سادس شهر ربيع الأول المذكور، خلع السلطان على الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ، بعد قدومه من بندر جدّة، باستقراره وزيرا على عادته، وكانت شاغرة من مدة طويلة، ويقوم بمصارفها الزينى عبد الباسط ابن خليل.
ثم أرسل السلطان يطلب الأمراء المجردين إلى الديار المصرية، بعد ما أنعم على الأمير الكبير جقمق بألف دينار، وعلى كل مقدم ألف أيضا [من المجردين] «1» بخمسمائة دينار؛ فقدموا القاهرة فى يوم الاثنين سابع عشر جمادى الأولى من سنة أربعين [المذكورة] «2» ، وطلعوا إلى القلعة وقبلوا الأرض، وخلع السلطان عليهم الخلع السنية، وأركبهم خيولا بقماش ذهب. وتأخر عن الأمراء المذكورين، الأمير خجا سودون، وكانت هذه عادته، إلى أن قدم فى يوم الاثنين ثامن جمادى الآخرة [من سنة أربعين المذكورة] «3» وطلع «4» [30] إلى القلعة وخلع السلطان عليه وأنعم عليه بإمرة طبلخاناة زيادة على ما بيده من تقدمة ألف. ثم خلع السلطان على القاضى كمال الدين ابن البارزى باستقراره قاضى قضاة دمشق، عوضا عن السراج عمرو بن موسى الحمصى، مسئولا فى ذلك مرغوبا فى ولايته.
ثم فى يوم الخميس عاشر شهر رجب من سنة أربعين المذكورة، خلع السلطان على الأمير إينال العلائى الناصرى، المعزول عن نيابة الرها، وهو يوم ذاك من جملة مقدمى الألوف بالديار المصرية، باستقراره فى نيابة صفد عوضا عن الأمير يونس الركنى،

(15/81)


ورسم بتوجه يونس المذكور إلى القدس بطالا. وخلع على الأمير طوخ من تمراز المعروف بينى بازق «1» ، أن يستقر مسفّر الأمير إينال [المذكور. ثم فى رابع عشر شهر رجب المذكور، أنعم بإقطاع الأمير إينال] «2» وتقدمته على الأمير قراجا الأشرفى شادّ الشراب خاناة؛ وأنعم بطبلخانة قراجا على الأمير إينال الأبوبكريّ الأشرفى الخازندار، وخلع عليه باستقراره شاد الشراب خاناة عوضه أيضا؛ وخلع السلطان على الأمير «3» [السيفى] «4» علىّ باى [الساقى] «5» الخاصكى الأشرفى باستقراره خازندارا عوضا عن إينال المذكور.
ثم فى يوم الأحد عاشر [شهر] «6» رمضان عمل السلطان مشورة «7» بالأمراء، لما ورد عليه الخبر بأن ناصر الدين بك «8» بن دلغادر ونزيله جانبك الصوفى زحفا بمن معهما على بلاد ابن قرمان، فاتفق رأى الجميع على سفر السلطان إلى بلاد الشام.
وأخذ الأمراء فى أهبة السفر، ثم انتقض ذلك بعد أيام، وكتب لنواب الشام بالمسير إلى نحو بلاد ابن قرمان نجدة لابن قرمان، فإن القوم أخذوا آق شهر «9» ونازلوا قلاعا أخر.
ثم فى يوم الخميس خامس شوال خلع السلطان على قاضى القضاة علم الدين صالح البلقينى وأعيد إلى قضاء القضاة بالديار المصرية، عوضا عن الحافظ شهاب الدين بن حجر.
ثم فى يوم الثلاثاء أول ذى القعدة، قدم سيف الأمير تمرباى اليوسفى المؤيدى

(15/82)


دوادار السلطان بحلب؛ وفيه أيضا قدم سيف الأمير آقباى اليشبكى الجاموس نائب الإسكندرية، بعد موتهما، فخلع السلطان فى ثالثه على الزينى عبد الرحمن «1» ابن علم الدين داؤد «2» بن الكويز أحد الدوادارية الصغار باستقراره فى نيابة الإسكندرية عوضا عن آقباى اليشبكى بحكم وفاته.
ثم فى يوم الخميس ثانى عشرين ذى الحجة خلع السلطان على الأمير صلاح الدين محمد بن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، باستقراره كاتب السر الشريف بالديار المصرية، بعد عزل القاضى محب الدين بن الأشقر، مضافا لما بيده من حسبة القاهرة ونظر دار الضرب ونظر الأوقاف ومنادمة السلطان؛ ونزل فى موكب جليل وقد لبس العمامة المدورة والفرجية هيئة «3» أرباب الأقلام وترك زى الأجناد، فإنه كان فى «4» مبدأ أمره هلى هيئة الأجناد، وكانت ولايته بغير خاطر عبد الباسط بل على رغم أنفسه «5» .
[ما وقع من الحوادث سنة 841]
ثم فى ليلة الأحد تاسع محرم سنة إحدى وأربعين وثمانمائة، بلّغ الزينى عبد الباسط والوزير كريم الدين والقاضى سعد الدين ناظر الخاص بأن المماليك السلطانية على عزم نهب «6» دورهم فوزعوا ما عندهم واختفوا «7» ، ثم طلعوا إلى الخدمة السلطانية على تخوف، وقد بلغ السلطان ذلك فأخذ يتوعدهم ويدعو عليهم بالطاعون، فلم يلتفت منهم أحد إلى كلامه، ونزل عدة كبيرة منهم فى يوم الأحد سادس عشره إلى دار عبد الباسط وإلى بيت مملوكه جانبك الأستادّار ودار الوزير كريم الدين، ونهبوا ما وجدوا فيها وأفحشوا إلى

(15/83)


الغاية، ولم يعترضوا لأحد فى الطرقات خوفا من العامة «1» .
ثم فى ثانى عشرين المحرم ورد الخبر على السلطان بأن نائب دوركى توجه فى «2» خامس عشر المحرم، فى عدة نواب تلك الجهات وغيرهم «3» فى نحو ألفى فارس، وساروا حتى طرقوا بيوت الأمير ناصر الدين بن دلغادر، وقد نزل هو والأمير جانبك الصوفى بمكان على بعد يومين من مرعش فنهبوا ما هناك وأحرقوا، ففرّ ابن دلغادر وجانبك الصوفى فى نفر قليل، وذلك أن جموعهما كانت مع سليمان بن ناصر الدين

(15/84)


ابن دلغادر على حصار قيصريّة الروم، فسرّ [31] السلطان بذلك وأرسل إلى نائب دوركى بخلعة وشكره. ثم قدم الخبر على السلطان أن الأمير إينال الجكمى نائب الشام خرج من دمشق بعساكرها يريد حلب، وقد سارت جميع نواب الشام ليوافوا نائب حلب ويتوجهوا الجميع مددا لابن قرمان، بعد أن أرسل إينال الجكمى تقدمة هائلة للسلطان. ووصلت التقدمة المذكورة إلى القاهرة فى يوم السبت سابع صفر المذكور، وهى ذهب نقد عشرة آلاف دينار، وخيول مائتا «1» فرس، منها ثلاثة أرؤس بسروج ذهب وكنابيش «2» زركش، وسمّور عشرة أبدان، ووشق عشرة أبدان، وقاقم عشرة أبدان، وسنجاب مائة بدن، وبعلبكى خمسمائة ثوب، وأقواس حلقة مائة قوس، وجمال بخاتى ثلاث قطر «3» ، وجمال عراب ثلاثمائة جمل، وثياب صوف مربع مائة ثوب.
ثم فى يوم السبت خامس شهر ربيع الأول، خلع السلطان على الأمير خليل ابن شاهين الشيخى المعزول عن نيابة الإسكندرية والوزارة قبل تاريخه، باستقراره فى نيابة الكرك، وسار إليها من وقته.
ثم فى يوم السبت تاسع عشر [شهر] «4» ربيع الأول المذكور من سنة إحدى وأربعين المذكورة، خلع السلطان على الصاحب جمال الدين يوسف ابن القاضى كريم الدين عبد الكريم ابن سعد الدين بركة المعروف بابن كاتب جكم، باستقراره ناظر الخاص الشريف بعد موت أخيه القاضى سعد الدين إبراهيم الآتى ذكره فى الوفيات [إن شاء الله تعالى] » .
ثم فى شهر ربيع الآخر كملت عمارة الجامع الذي أنشأه السلطان بخانقاه سرياقوس على الدرب المسلوك، وطوله خمسون ذراعا [فى عرض خمسين ذراعا] «6» ، ورتب فيه

(15/85)


إماما للصلوات الخمس، وخطيبا وقراء يتناوبون «1» القراءة، وأرباب وظائف من المؤذنين والفراشين؛ وجاء الجامع المذكور فى غاية الحسن، إلا أن سقوفه واطئة قليلا.
ثم فى يوم السبت ثالث جمادى الأولى، ركب السلطان من قلعة الجبل إلى الصيد، بعد ما شق القاهرة، وخرج من باب القنطرة؛ وهذه أول ركبة ركبها للصيد فى هذه السنة، وتداول ذلك منه فى هذا الشهر غير مرة.
وفيه قدم الأمير تمراز المؤيّدى نائب غزة والسلطان يتصيد، وعاد السلطان فى خامسه وشق القاهرة حتى خرج من باب زويلة ومضى إلى القلعة، ثم أصبح من الغد أمسك تمراز المؤيدى المذكور وقيّده وأرسله إلى سجن الإسكندرية فسجن بها، وذلك لسوء «2» سيرته ولكمين كان عنده من «3» [الملك] «4» الأشرف، فإن تمراز هذا كان ممن ركب مع الأمير تنبك البجاسى نائب الشام، ثم اختفى وظهر وأنعم عليه السلطان بإقطاع بدمشق، ثم نقله إلى إمرة مائة بعد سفرة آمد لشجاعة ظهرت منه فى قتال القرايلكية، ثم نقله إلى نيابة صفد فلم تحمد سيرته فعزله وولاه نيابة غزة، فشكى منه أيضا ورمى بعظائم فطلبه وأمسكه ثم قتله بعد مدة.
فكان ما عاشه من يوم واقعة البجاسى ليوم تاريخه فائدة.
ولما أن مسك السلطان تمراز استدعى الأمير جرباش الكريمى قاشق من ثغر دمياط ليوليه نيابة غزة، فقدم «5» جرباش وامتنع عن نيابة غزة «6» فرسم له بالعود إلى الثغر بطالا كما كان أولا. ثم فى سابع عشره خلع السلطان على [الأمير] «7»

(15/86)


آق بردى «1» السيفى قجماس أحد أمراء العشرات باستقراره فى نيابة غزة عوضا عن تمراز المذكور، بمال بذله فى ذلك.
وقدم الخبر على السلطان بموت جانبك الصوفى؛ واختلفت الأقاويل فى أمره إلى أن كان يوم السبت سابع عشر جمادى الأولى من سنة إحدى وأربعين المذكورة، قدم «2» مملوك «3» تغرى برمش نائب حلب إلى القاهرة برأس الأمير جانبك الصوفى، فدقت البشائر لذلك وسرّ السلطان غاية السرور بموته ولهجت الناس أن السلطان تم سعده، [وقد قيل] «4» : [المتقارب]
إذا تمّ أمر بدا نقصه ... توقّ زوالا إذا قيل تمّ
[32] فأمر السلطان بالرأس فطيف «5» بها على رمح بشوارع القاهرة، والمشاعلىّ «6» ينادى عليها: «هذا جزاء «7» من يخالف على الملوك ويخرج عن الطاعة!» ، ثم ألقيت فى قناة سراب.
وكان من خبر موت جانبك [الصوفى] «8» المذكور أنه لما كبس عليه وعلى ابن دلغادر نائب دوركى، فى محرم هذه السنة كما تقدم، وانكسر هو وابن دلغادر، فمقته «9» ابن دلغادر وافترقا من يومئذ، فسار ابن دلغادر على وجهه يريد بلاد الروم وقد تشتت شمله، وقصد جانبك الصوفى أولاد قرايلك: محمدا

(15/87)


ومحمودا «1» ، وقدم عليهما فأكرماه وأنزلاه عندهما. فأخذ تغرى برمش نائب حلب يدبّر عليه بكل ما تصل القدرة إليه، ولا زال حتى استمالهما، أعنى «2» محمدا ومحمودا ابنى قرايلك، ووعدهما بجملة مال إن قبضا على جانبك المذكور «3» ، يحمل إليهما خمسة آلاف دينار، فمالا إليه ووعداه أن يقبضا على جانبك المذكور «4» ، فعلم «5» جانبك بالخبر فشاور أصحابه فى ذلك فأشاروا عليه بالفرار إلى جهة من الجهات، فبادر جانبك وخرج من عندهما ومعه عشرون فارسا من أصحابه لينجو بنفسه. وبلغ ذلك القرايلكية فركبوا وأدركوه فقاتلهم فأصابه سهم سقط منه عن فرسه، فأخذوه وسجنوه عندهم وذلك فى يوم الجمعة خامس عشرين شهر ربيع الآخر من هذه السنة، فمات من الغد فقطع رأسه وحمل إلى السلطان، فهذا القول هو المشهور.
وقيل إن جانبك الصوفى مات بالطاعون عند أولاد قرايلك بعد أن أوعدهما تغرى برمش بالمال المقدم ذكره، ولم يقبلا منه ذلك واستمرا على إكرامه. فلما مات جانبك الصوفى بالطاعون أخفيا ذلك وقطعا رأسه وبعثا به «6» إلى تغرى برمش.
قلت: والقول الأول هو المتداول بين الناس. ويأتى بقية ذكر جانبك الصوفى فى الوفيات [من هذا الكتاب] «7» فى محلّه [إن شاء الله تعالى] «8» .
قال المقريزى، بعد أن ساق نحو ما حكيناه بالمعنى، واللفظ مخالف: وحملت إليه الرأس- يعنى عن [الملك] «9» الأشرف- فكاد يطير فرحا وظن أنه قد أمن، فأجرى الله على الألسنة أنه قد انقضت «10» أيامه وزالت دولته فكان كذلك هذا، وقد قابل نعم «11» الله عليه فى كفاية عدوه بأن تزايد عتوه وكثر ظلمه

(15/88)


وساءت «1» سيرته فأخذه الله أخذا وبيلا، وعاجله بنقمته فلم يهنّه- انتهى كلام المقريزى.
قلت: وما عسى الملك الأشرف كان يظلم فى تلك المدة القصيرة؟ فإن خبر جانبك الصوفى ورد عليه فى سابع عشر جمادى الأولى «2» وابتدأ بالسلطان مرض موته من أوائل شعبان، ولزم الفراش من اليوم المذكور، وهو ينصل ثم ينتكس إلى أن مات فى ذى الحجة. غير أن الشيخ تقي الدين المقريزى رحمه الله كان له انخراقات «3» معروفة عنه وهو معذور فى ذلك، فإنه أحد من أدركنا من أرباب الكمالات فى فنه ومؤرخ زمانه، لا يدانيه فى ذلك أحد، مع معرفتى بمن عاصره من مؤرخى العلماء؛ ومع هذا كله كان مبعودا فى الدولة، لا يدنيه السلطان مع حسن محاضرته وحلو منادمته. على أن [الملك] »
الظاهر برقوق كان قرّبه ونادمه وولاه حسبة القاهرة فى أواخر دولته، ومات [الملك] «5» الظاهر فلم يمش حاله على من جاء بعده من الملوك وأبعدوه من غير إحسان؛ فأخذ هو أيضا فى ضبط مساوئهم وقبائحهم، فمن أساء لا يستوحش. على أنه كان ثقة فى نفسه ديّنا خيّرا؛ وقد قيل لبعض الشعراء:
إلى متى تمدح وتهجو؟ فقال: ما دام المحسن يحسن والمسىء يسىء- انتهى.
ثم فى يوم الجمعة ثامن جمادى الآخرة ورد الخبر على السلطان بأن إسكندر بن قرا يوسف، نزل قريبا من مدينة تبريز، فبرز إليه أخوه جهان شاه بن قرا يوسف المقيم بها من قبل شاه رخ بن تيمور لنك، فكانت بينهما وقعة هائلة انهزم فيها إسكندر إلى قلعة ألنجا من عمل تبريز فنازله «6» جهان شاه إلى أن حصره بها أياما، وأن الأمير حمزة بن قرايلك متملّك ماردين وأرزن أخرج أخاه على بك من مدينة آمد وملكها منه، فقلق السلطان من هذين الخبرين وعزم على أن يسافر بنفسه إلى البلاد

(15/89)


الشامية، وكتب [33] بتجهيز الإقامات بالشام، ثم أبطل ذلك بعد أيام.
ورسم فى يوم السبت سابع شهر رجب بخروج تجريدة من الأمراء إلى البلاد الشامية، وعيّن ثمانية نفر من الأمراء مقدمى الألوف: وهم قرقماس أمير سلاح، وأقبغا التّمرازى أمير مجلس، وأركماس الظاهرى الدوادار الكبير، وتمراز القرمشى رأس نوبة النوب، ويشبك السّودونى حاجب الحجاب، وجانم الأشرفى الأمير آخور الكبير، وخجا سودون وقراجا الأشرفى.
ثم فى يوم الاثنين تاسع شهر رجب نودى بأن أحدا «1» من العبيد لا يحمل سلاحا ولا يمشى بعد المغرب، وأن المماليك السلطانية لا يتعرض لأحد من العبيد، وكان سبب هذه المناداة أنه لما أدير المحمل فى يوم الخميس خامس [شهر] «2» رجب المذكور، فلما كان أول ليلة من الزينة نزل جماعة كبيرة من «3» المماليك الأشرفية الذين بالأطباق من قلعة الجبل وأخذوا فى نهب الناس وخطف النساء «4» والصبيان، فاجتمع عدد كبير من العبيد السود وقاتلوا المماليك الأجلاب، فقتل من العبيد خمسة نفر وجرح عدة من المماليك، وخطفت العمائم وأخذت الأمتعة، ثم أخذت المماليك تتتبع العبيد فقتلوا منهم جماعة، وقد كفت «5» العبيد أيديهم عن قتالهم خوفا من السلطنة، واختفى كثير من العبيد وقلّ مشى المماليك فى الليل إلى أن نودى لهم بهذه المناداة، فسكن «6» الشر ومشى كلّ من الطائفتين على حاله الأول؛ ثم رسم السلطان بمنع المماليك من النزول من الأطباق إلى القاهرة إلا لضرورة.
ثم فى عاشر [شهر] «7» رجب أنفق السلطان على الأمراء المجرّدين لكل أمير ألفى دينار أشرفية.

(15/90)


ثم فى يوم الأربعاء ثامن عشره ركب السلطان من قلعة الجبل، ونزل إلى خليج الزّعفران فنزل به وأكل السماط، ثم ركب فى يومه وعاد إلى القلعة، فأصبح من الغد متوعك البدن ساقط الشهوة للغداء، ولزم الفراش، وهذا أوائل مرضه الذي مات منه؛ غير أنه تعافى بعض أيام، ثم مرض ثم تعافى حسبما يأتى ذكره.
وورد الخبر فيه بوقوع الوباء فى بلاد الصعيد؛ واستهلّ شعبان يوم الاثنين والسلطان مريض، فأخرج فيه مالا وفرّقه على الفقراء والمساكين. فلما كان يوم الثلاثاء تاسعه «1» تعافى السلطان وخلع على الأطباء لعافيته، وركب من الغد ونزل من القلعة إلى القرافة وتصدّق على أهل القرافتين، وعاد وهو غير صحيح البدن. ثم فى يوم السبت ثالث عشر شعبان المذكور، نزل السلطان من القلعة إلى خارج القاهرة، وعاد ودخل من باب النصر، ثم نزل بالجامع الحاكمى، وقد قيل له إنّ بالجامع المذكور دعامة قد ملئت ذهبا، ملأها الحاكم بأمر الله لمعنى أنه إذا خرب يعمّر بما فى تلك الدعامة، فلما بلغ [الملك] «2» الأشرف ذلك شرهت نفسه لأخذ المال [المذكور] «3» ، فقيل له إنك تحتاج إلى هدم جميع الدعائم التى بالجامع المذكور حتى تظفر بتلك الدعامة المذكورة، ثم لا بد لك من عمارتها، ويصرف على عمارتها «4» جملة كثيرة لا تدخل تحت حصر، فقال السلطان ما معناه إن الذي نأخذه من الدعامة يصرف على عمارة ما نهدمه، ولا ينوبنا غير تعب السر؛ وركب فرسه وعاد إلى القلعة.
ثم فى يوم الخميس خامس عشرين شعبان [المذكور] «5» برز الأمير قرقماس أمير سلاح، [وقد] «6» صار مقدم العساكر، وصحبته من تقدم ذكره من الأمراء، إلى الريدانية [خارج القاهرة] «7» من غير أن يرافقهم فى هذه التجريدة أحد من المماليك السلطانية، فأقاموا

(15/91)


بالريدانية إلى أن سافروا منها فى يوم السبت سابع عشرين شعبان، وهذه التجريدة آخر تجريدة جرّدها الملك الأشرف من الأمراء، وكتب السلطان إلى الأمير إينال الجكمى نائب الشام وغيره من النواب أن يسافروا صحبة الأمراء المذكورين «1» إلى حلب، ويستدعوا [34] حمزة بك بن قرايلك إلى عندهم، فإن قدم عليهم خلع عليه بنيابة السلطنة فيما يليه من أعمال ديار بكر، وإن لم يقدم عليهم مشوا عليه بأجمعهم وقاتلوه حتى أخذوه، قلت «2» : [الطويل]
أيا دارها بالخيف إنّ مزارها ... قريب ولكن بين ذلك أهوال
ثم قدم الخبر على السلطان بأن محمد بن قرايلك توجّه إلى أخيه حمزة بك المقدم ذكره، باستدعائه، وقد حقد عليه حمزة قتله للأمير جانبك الصوفى. فإن حمزة لما بلغه نزول جانبك الصوفى على أخويه محمد ومحمود وكتب فى الحال إلى أخيه محمد هذا بأن يبعث بالأمير جانبك الصوفى إليه مكرما مبجلا، أراد حمزة يأخذ جانبك إلى عنده ليخوف به الملك الأشرف، فمال محمد إلى ما وعد به تغرى برمش نائب حلب وقتل جانبك الصوفى وبعث برأسه إليه، فأسرّها حمزة فى نفسه وما زال يعد أخاه المذكور ويمنّيه إلى أن قدم عليه، وفى ظن محمد أن أخاه حمزة يولّيه بعض بلاده، فما هو إلا أن صار فى قبضته قتله فى الحال.
قلت: هذا شأن الباغى، الجزاء من جنس عمله، وذلك أنه مثل «3» ما فعل بجانبك الصوفى فعل به- انتهى.
ثم فى يوم الثلاثاء أول شهر رمضان ظهر الطاعون بالقاهرة وظواهرها، وأول «4» ما بدأ فى الأطفال والإماء «5» والعبيد والمماليك، وكان الطاعون أيضا قد عمّ البلاد الشامية بأسرها.

(15/92)


ثم فى يوم الأربعاء ثالث عشرين [شهر] «1» رمضان [المذكور] «2» ختمت قراءة البخارى بين يدى السلطان بقلعة الجبل، وقد حضر قضاة القضاة والعلماء والفقهاء على العادة؛ هذا وقد تخوف السلطان من الوباء فسأل من حضر من الفقهاء عن الذنوب التى ترتكبها الناس، هل يعاقبهم الله بالطاعون؟ فقال له بعض الجماعة: إن الزنا إذا فشا فى الناس ظهر فيهم الطاعون، وأن النساء يتزيّنّ ويمشين فى الطرقات ليلا ونهارا؛ فأشار آخر أن المصلحة منع النساء من المشى فى الأسواق، فنازعه آخر فقال: لا تمنع إلا المتبهرجات، وأما العجائز ومن ليس لها من يقوم بأمرها لا تمنع من تعاطى حاجتها. وتباحثوا فى ذلك بحثا كبيرا، إلى أن مال السلطان إلى منعهن من الخروج إلى الطرقات مطلقا، ظنّا من السلطان أن بمنعهن «3» يرتفع الطاعون. ثم خلع السلطان على من له عادة بلبس الخلعة «4» عند ختم البخارى «5» .
ثم أمرهم باجتماعهم عنده من الغد، فاجتمعوا يوم الخميس واتفقوا على ما مال إليه السلطان، فنودى بالقاهرة ومصر وظواهرهما بمنع جميع النساء بأسرهن من الخروج من بيوتهن، وأن لا تمرّ امرأة فى شارع ولا فى سوق البتة، وتهدّد من خرجت من بيتها بالقتل وأنواع البهدلة، فامتنع جميع النساء من الخروج قاطبة، [فمنعن] «6» فتياتهن وعجائزهن وإماءهن من الخروج إلى الطرقات. وأخذ والى القاهرة والحجّاب فى تتبع الطرقات وضرب من وجدوا من النساء، وتشددوا فى الردع والضرب والتهديد، فامتنعن بأجمعهن؛ فعند ذلك نزل بالأرامل أرباب الصنائع

(15/93)


ومن «1» لا يقوم عليها أحد لقضاء حاجتها ومن تطوف على الأبواب تسأل الناس «2» من الضر والحاجة، بأس شديد.
ثم فى يوم السبت سادس عشرينه أفرج السلطان عن جميع المسجونين حتى أرباب الجرائم، وأغلقت السجون بالقاهرة ومصر، وانتشرت السرّاق والمفسدون فى البلد، وامتنع من له عند شخص حق أنه يطالبه.
قلت: كان حال الملك الأشرف فى هذه الحركة كقول القائل: [الخفيف]
رام نفعا فضرّ من غير قصد ... ومن البرّ ما يكون عقوقا
ثم فى سابع عشرينه عزم السلطان على أن يولى الحسبة لرجل ناهض، فدكر له جماعة فلم يرضهم، ثم قال: «عندى واحد ليس بمسلم «3» ، ولا يخاف الله» ، وأمر فأحضر إليه دولات خجا الظاهرى [برقوق] «4» المعزول [35] عن ولاية القاهرة قبل تاريخه غير مرة، فخلع عليه باستقراره فى حسبة القاهرة عوضا عن القاضى صلاح الدين محمد ابن الصاحب بدر الدين بن نصر الله كاتب السر بحكم عزله، وكان رغبة السلطان فى ولاية دولات خجا هذا بسبب النساء، لما يعلم من شدته وقلة رحمته وجبروته.
وعند ما خلع عليه حرّضه على عدم إخراج النسوة إلى الطرقات؛ هذا بعد أن تكلم جماعة كبيرة من أرباب الدولة مع السلطان بسبب ما حل بالنسوة من الضرر لعدم خروجهن، فأمر السلطان عند ذلك فنودى بخروج الإماء لشراء حوائج مواليهن»
من الأسواق وأن لا تنتقب واحدة منهن بل يكنّ سافرات عن وجوههن، قصد بذلك حتى لا تتنكر إحداهن «6» فى صفة الجوارى وتخرج إلى الأسواق، وأن تخرج العجائز

(15/94)


لقضاء أشغالهن، وأن تخرج النساء إلى الحمامات ولا يقمن بها إلى الليل، وصار دولات خجا يشد على النسوة، وعاقب منهن جماعة كبيرة حتى انكفّ الجميع عن الخروج البتة.
وأهلّ شوال يوم الخميس وقد حلّ بالناس من الأنكاد والضرر ما لا يوصف من «1» تزايد الطاعون، وتعطل كثير من البضائع المبتاعة على النسوة لامتناعهن من المشى فى الطرقات، وأيضا مما نزل بالنسوة من موت أولادهن وأقاربهن، فصارت المرأة يموت ولدها فلا تستطيع أن ترى قبره خوفا من الخروج إلى الطرقات، ويموت أعز أقاربها من غير أن تزوره فى مرضه، فشقّ ذلك عليهن إلى الغاية، هذا مع تزايد الطاعون.
قلت: كل ذلك لعدم أهلية الحكام واستحسان الولاة على الخواطئ، وإلا فالحرة معروفة ولو كانت فى الخمّارة، والفاجرة معروفة ولو كانت فى البيت «2» الحرام، ولا يخفى ذلك على الذوق السليم؛ غير أن هذا كله وأمثاله لولاية المناصب غير أهلها، وأما الحاكم النحرير الحاذق الفطن إذا قام بأمر نهض به وتتبع الماء من مجاريه، وأخذ ما هو بصدده حتى أزاله فى أسرع وقت وأهون حال، ولا يحتاج ذلك إلى بعض ما الناس فيه، وهو ذهاب الصالح بالطالح والبرىء مع «3» المجرم، وتحكم مثل هذا الجاهل فى المسلمين الذي هو من مقولة من [قال] «4» : [الطويل]
ولو شا ربّك لخصّهم بثلاثة ... قرون وأذناب وشقّ حوافر

(15/95)


وما أحسن قول أبى الطيب المتنى فى هذا المعنى: [الطويل]
ووضع النّدى فى موضع السيف بالعلا «1» ... مضرّ كوضع السيف فى موضع النّدى
انتهى.
كل ذلك والسلطان شهوته ضعيفة عن الأكل، ولونه مصفر، وآثار المرض تلوح على وجهه، غير أنه يتجلد [كقول القائل] «2» : [الكامل]
وتجلّدى للشامتين أريهم ... أنّى لريب الدّهر لا أتضعضع
ثم فى هذا اليوم خلع السلطان على الأمير أسنبغا [بن عبد الله الناصرى] «3» الطيّارى «4» باستقراره حاجبا ثانيا، عوضا عن الأمير جانبك [السيفى يلبغا] «5» الناصرى المعروف بالثور، بحكم وفاته بمكة المشرّفة [فى] «6» حادى عشر شعبان.
ثم فى يوم الثلاثاء سادس شوال المذكور، خلع السلطان على قاضى القضاة شهاب الدين بن حجر، وأعيد إلى القضاء بعد عزل القاضى علم الدين صالح البلقينى، بعد أن ألزم أنه يقوم لعلم الدين صالح المذكور بما «7» حمله إلى الخزانة الشريفة، وقد بدا للسلطان أنه لا يولّى بعد ذلك أحدا من القضاة بمال، مما داخله من الوهم بسبب عظم الطاعون وأيضا لمرض تمادى به «8» .
وفيه ركب السلطان من قلعة الجبل ونزل إلى خليج الزعفران وأقام به يومه فى مخيّمه يتنزه، ثم ركب وعاد إلى القلعة فى آخر النهار بعد أن تصدّق على الفقراء بمال

(15/96)


كثير، فتكاثرت الفقراء على متولى الصدقة وجذبوه حتى أرموه عن فرسه، فغضب السلطان من ذلك وطلب سلطان الحرافيش «1» وشيخ الطوائف وألزمهما بمنع الجعيديّة من السؤال فى الطرقات [36] وألزمهم بالتكسّب، وأن من يشحذ منهم قبض عليه وأخرج لعمل الحفير. فامتنعوا من الشحاذة، وخلت الطرقات، ولم يبق من السّؤّال إلا العميان والزّمنى «2» وأرباب العاهات.
قلت: وكان هذا من أكبر المصالح، وعدّ ذلك من حسن نظر الملك الأشرف فى أحوال الرعية، فإن هؤلاء الجعيديّة غالبهم قوىّ سوىّ صاحب صنعة فى يده، فيتركها ويشارك ذوى العاهات الذين «3» لا كسب لهم إلا السؤال ولولا ذلك لماتوا «4» جوعا، وأيضا أن غالبهم يجلس بالشوارع ويتمنىّ، ثم يقسم على الناس بالأنبياء والصلحاء وهو يتضجر من قسوة قلوب الناس ويقول: لى مقدار كيت وكيت باقول فى حب رسول الله أعطونى هذا القدر «5» اليسير فلم يعطنى أحد.
ويجتاز به وهو يقول: «ذلك اليهودى والنصرانى!» ، فيسمعون لمقالته «6» فى هذا المعنى.
وهذا من المنكرات التى [لا] «7» ترتضيها الحكام، وكان من شأنهم أنهم إذا سمعوا هذا القول أخذوا القائل وأوجعوه بالضرب والحبس والمناداة على الفقراء بعدم التقسيم

(15/97)


فى سؤالهم «1» ، والتحجر عليهم بسبب ذلك فلم يلتفت أحد منهم إلى ذلك، حتى ظهر للسلطان «2» بعض ما هم عليه فى هذه المرة فمنعهم، فما كان أحسن هذا لو دام واستمر- انتهى.
كل ذلك والسلطان يتشاغل بركوبه وتنزهه مما به من التوعك وهو لا يظهره.
فلما كان يوم الأربعاء سابع شوال انتكس السلطان ولزم الفراش، كل ذلك ودولات خجا محتسب القاهرة يتتبع النسوة ويردعهن بالعذاب والنكال، حتى أنه ظفر مرة بامرأة وأراد أن يضربها فذهب «3» عقلها من الخوف وتلفت وحملت إلى بيتها مجنونة، وتم بها ذلك أشهرا؛ وامرأة أخرى أرادت أن تخرج خلف جنازة ولدها فمنعت من ذلك فأرمت بنفسها من أعلى الدار فماتت.
ثم فى يوم الجمعة تاسع شوال اتفق حادثة غريبة، وهو أن العامة لهجت بأن الناس يموتون يوم الجمعة بأجمعهم قاطبة وتقوم القيامة، فتخوّف غالب العامة من ذلك. فلما كان وقت الصلاة من يوم الجمعة المذكور حضر الناس إلى الصلاة، وركبت أنا أيضا إلى جامع الأزهر، والناس تزدحم على الحمامات ليموتوا على طهارة كاملة؛ فوصلت إلى الجامع وجلست به، وأذّن المؤذنون، ثم خرج الخطيب على العادة ورقى «4» المنبر، وخطب وأسمع الناس إلى أن فرغ من الخطبة الأولى، وجلس للاستراحة بين الخطبتين فطال جلوسه ساعة كبيرة، فتقلّق «5» الناس إلى أن قام وبدأ فى الخطبة الثانية، وقبل أن يتم كلامه قعد ثانيا واستند إلى جانب المنبر ساعة طويلة كالمغشى عليه، فاضطرب الناس لما سبق من أن [الناس تموت] «6» فى يوم الجمعة بأجمعهم،

(15/98)


وظنوا صدق المقالة وأن الموت أول ما بدأ بالخطيب. وبينما الناس فى ذلك قال رجل:
«الخطيب مات!» ، فارتجّ [الجامع] «1» وضجّ الناس «2» وتباكوا، وقاموا إلى المنبر وكثر الزحام على الخطيب، حتى أفاق وقام على قدميه ونزل عن «3» المنبر ودخل إلى المحراب، وصلّى من غير أن يجهر بالقراءة، وأوجز فى صلاته حتى أتم الركعتين. وقدمت عدة جنائز فصلى عليها «4» الناس، وأمّهم بعضهم. وبينما الناس فى الصلاة على الموتى إذا الغوغاء «5» صاحت بأن الجمعة ما صحّت، والخطيب صلى بعد أن انتقض وضوؤه»
لما غشى عليه؛ وتقدم رجل من الناس وأقام وصلى الظهر أربعا. وبعد فراغ هذا الذي صلى أربعا قام جماعة أخر وأمروا فأذّن المؤذنون بين يدى المنبر، وطلع رجل إلى المنبر وخطب خطبتين على العادة ونزل ليصلى، فمنعوه من التقدم إلى المحراب وأتوا بإمام الخمس فقدّموه حتى صلى بهم جمعة ثانية. فلما انقضت صلاته بالناس قام آخرون وصاحوا بأن هذه الجمعة الثانية لم تصح، وأقاموا الصلاة وصلى بهم رجل آخر الظهر أربع ركعات، فكان فى هذا اليوم بجامع الأزهر إقامة الخطبة مرتين وصلاة الظهر مرتين، فقمت أنا فى الحال وإذا بالناس تطيّر على السلطان بزواله من أجل إقامة خطبتين فى موضع [37] واحد [فى يوم واحد] «7» .
هذا ومرض السلطان فى زيادة ونمو، وكلما ترجّح قليلا خلع على الأطباء ودقّت البشائر، إلى أن عجز عن القيام فى «8» العشر الثانى من شوال، هذا وقد كثر الموت بالمماليك السلطانية ثم بالدور السلطانية؛ «9» ومات عدة من أولاد السلطان والحريم

(15/99)


والجوارى، وخرج الحاجّ فى يوم الاثنين تاسع عشره صحبة أمير الحاج آقبغا من مامش «1» الناصرى المعروف بالتركمانى «2» ، ونزل إلى بركة الحاج، فمات به عدة كبيرة من الحجاج منهم ابن أمير الحاج وابنته فى الغد. وبعده «3» فى يوم الأربعاء حادى عشرينه، ضبط عدة من صلى عليه من الأموات بالمصليات فزادت عدتهم على ألف إنسان.
ثم فى يوم الخميس ثانى عشرينه خلع السلطان على الأطباء لعافيته وفرح الناس، وبينما هم فى ذلك إذ وسّط السلطان طبيبيه فى يوم السبت رابع عشرينه، وهما اللذان «4» خلع عليهما بالأمس. وكان من خبر الأطباء أنه لما خلع السلطان عليهما بالأمس، وأصبح السلطان من الغد فرأى حاله فى إدبار، وكان قد قلق من طول مرضه، فشكا ما به لرئيس الأطباء العفيف الأسلمى فأمر له بشىء يشربه، فشربه السلطان فلم يوافق مزاجه وتقيأه لضعف معدته. وكان خضر الحكيم كثيرا ما يتحشّر «5» عند رؤساء الدولة، حتى صار يداخل السلطان فى أيام مرضه اقتحاما على الرئاسة، واستمر يلاطف السلطان مع العفيف. وأصبح العفيف طلع إلى القلعة، ودخل على عادته، وإذا بالسلطان «6» قد امتلأ عليه غضبا، وقد ظن فى نفسه أن الحكماء مقصرون فى علاجه ومداواته، وأنهم أخطأوا فى التدبير والملاطفة، فحال ما وقع بصره على العفيف سبّه ونهره. وكان فى المجلس القاضى صلاح الدين بن نصر الله كاتب السر، والصفوى جوهر الخازندار وعدة أخر من الأمراء الخاصكية، ثم قال له السلطان:
«إيش هذا الذي أسقيتنى البارحة؟» . فقال العفيف: «هو «7» كيت وكيت يا مولانا

(15/100)


السلطان، واطلب الأطباء واسألهم هل هو موافق أم لا» ، فلم يلتفت السلطان إلى كلامه وطلب عمر بن سيفا والى القاهرة وأمره بتوسيطه، فأخذه وخرج وتماهل فى أمره حتى تأتيه الشفاعة. وبينما العفيف فى ذلك إذ طلع «1» خضر الحكيم وهو مسرع، كون العفيف قد سبقه إلى مجلس السلطان، فكلمه العفيف فى أن السلطان إذا سأله عما وصفه له العفيف فى أمسه لا يعترض عليه، ليسكن بذلك غضب السلطان «2» .
فحال ما دخل خضر «3» المذكور على السلطان أمر بتوسيطه أيضا، فأخذ من بين يدى السلطان أخذا مزعجا وأضيف إلى العفيف، وهو يظن أن ذلك من حنق السلطان، وليس الأمر على حقيقته. وتربّص الوالى فى أمرهما «4» ، فأرسل السلطان من استحثه فى توسيطهما، هذا بعد أن وقف ندماء السلطان إلى الأشرف «5» وقبّلوا له الأرض غير مرة، وقبّلوا يده مرارا عديدة بسببهما والشفاعة فيهما وسألوه أن يعاقبهما «6» [بالضرب] «7» ، فأبى «8» إلا توسيطهما. وأخذ السلطان يستحث الوالى برسول بعد رسول من الخاصكية، والوالى يتنقل بهما «9» من مكان إلى آخر تسويفا، إلى أن أتى بهما «10» إلى الحدرة عند باب الساقية من قلعة الجبل. وبينما عمر «11» فى ذلك أتاه رجل من قبل السلطان، وقال له: «أمرنى السلطان أن أحضر توسيطهما أو تحضر تجيب السلطان بما تختاره من الجواب عن ذلك» ؛ فلم يجد عمر بدّا من أن أخذ العفيف

(15/101)


أولا وحمله، فاستسلم ولم يتحرك حتى وسّط. فلما رأى «1» خضر ذلك طار عقله وصاح وهو يقول: «عمر! الحكيم اتوسّط! «2» عندى للسلطان ثلاثة آلاف دينار ويدعنى أعيش» ، فلم يلتفت الوالى إلى كلامه وأمر به فأخذ، فدافع عن نفسه بكل ما تصل قدرته إليه وخاف خوفا شديدا، فتكاثروا عليه أعوان الوالى حتى حملوه وهو يتمرّغ «3» ، فوسّط توسيطا معذبا لتلوّيه واضطرابه؛ «4» ثم حملا إلى أهليهما. فعند ذلك تحقق الناس عظم ما بالسلطان من المرض وشنعت القالة فيه؛ ومن يومئذ تزايد مرض [38] السلطان وصارت الأطباء متخوفة من معالجته، ولا يصفون «5» له شيئا حتى يكون ذلك بمشورة جماعة من الأطباء، واستعفى أكثرهم، وحمل الرسائل على عدم الطلوع لملاطفته «6» .
واستمر السلطان ومرضه يتزايد، فلما كان يوم الثلاثاء رابع ذى القعدة، جمع السلطان الخليفة والقضاة الأربعة «7» والأمراء وأعيان الدولة، وعهد بالسلطنة إلى ولده المقام الجمالى يوسف، وكتب العهد القاضى شرف الدين أبو بكر نائب كاتب السر، لمرض كاتب السر القاضى صلاح الدين بن نصر الله بالطاعون. وجلس السلطان بالمقعد الذي أنشأه على باب الدّهيشة «8» المطل على الحوش السلطانى، وقد أخرج إليه

(15/102)


محمولا من شدة مرضه وضعف قوته، ووقف بين يديه الأمير خشقدم اليشبكى مقدم المماليك السلطانية بالحوش، ومعه غالب المماليك السلطانية: الجلبان والقرانيص، وجلس بجانب السلطان الخليفة المعتضد بالله أبو الفتح داود، والقضاة والأمير الكبير جقمق العلائى، ومن تأخر عن التجريدة من الأمراء بالديار المصرية.
وقام عبد الباسط، لغيبة كاتب السر صلاح الدين بن نصر الله وشدة مرضه بالطاعون، وابتدأ بالكلام «1» فى عهد السلطان بالملك من بعده لابنه المقام الجمالى يوسف، وقد حضر أيضا يوسف المذكور «2» مع أبيه فى المجلس، فاستحسن الخليفة هذا الرأى وشكر السلطان على فعله لذلك، فقام فى الحال القاضى شرف الدين أبو بكر [سبط] »
ابن العجمى نائب كاتب السر بالعهد إلى بين يدى السلطان. وأشهد السلطان على نفسه، أنه عهد بالملك إلى ولده يوسف من بعده، وأمضى الخليفة العهد، وشهد بذلك القضاة، وجعل الأمير الكبير جقمق العلائى هو القائم بتدبير أمر مملكة المقام الجمالى يوسف، وأشهد السلطان على نفسه بذلك أيضا فى العهد. ثم التفت السلطان إلى جهة الحوش، وكلم الأمير خشقدم مقدم المماليك- وقصد يسمع ذلك القول للمماليك السلطانية الجلبان- بكلام طويل، محصوله يعتب عليهم «4» فيما كانوا يفعلونه فى أيامه وأنه كان تغير عليهم ودعا عليهم، فأرسل الله [تعالى] «5» عليهم الطاعون فى سنتى ثلاث وثلاثين ثم إحدى وأربعين فمات منهم حماعة كبيرة، والآن قد عفا «6» عنهم. ثم أوصاهم بوصايا كثيرة، منها أن يكونوا فى طاعة ولده، وأن لا يغيروا على أحد من الأمراء، وأن لا يختلفوا فيدخل فيهم الأجانب فيهلكوا، وأشياء من ذلك كثيرة سمعتها من لفظه لكن لم أحفظ

(15/103)


أكثرها لطول الكلام.
ثم «1» أخذ يعرّف الجميع «2» : القرانيص والجلبان، أنه يموت وأنه كان عندهم ضيفا وقد أخذ فى الرحيل عنهم؛ وبكى فأبكى الناس وعظم الضجيج من البكاء، ثم أمر لهم بنفقة لجميع المماليك السلطانية قاطبة، لكل واحد ثلاثين دينارا، فقبل الجميع الأرض وضجوا له بالدعاء بعافيته وتأييده؛ كل ذلك وهو يبكى وعقله صحيح وتدبيره جيد. وفى الحال جلس كاتب المماليك واستدعى اسم واحد واحد، وقد صرّت النفقة المذكورة، حتى أخذوا الجميع النفقة، فحسن ذلك ببال جميع الناس، وكانت جملة النفقة مائة وعشرين «3» ألف دينار؛ وانفضّ المجلس، وحمل السلطان وأعيد إلى مكانه.
ثم فى يوم الجمعة سابع ذى القعدة خلع السلطان على الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله باستقراره فى كتابة السر بعد موت [ولده] «4» صلاح الدين محمد بن حسن بن نصر الله بالطاعون، وخلع أيضا فى اليوم المذكور على نور الدين علىّ السّويفى إمام السلطان باستقراره محتسب القاهرة بعد موت دولات خجا بالطاعون، وفرح الناس بموته كثيرا.
وتزايد الطاعون فى هذه الأيام بالديار المصرية وظواهرها حتى بلغ [عدة] «5» من صلى عليه بمصلاة باب «6» النصر فقط فى يوم واحد أربعمائة ميّت، وهى من جملة إحدى عشرة مصلاة بالقاهرة وظواهرها.
وأما الأمراء المجرّدون إلى البلاد الشامية، فإنهم كانوا فى هذا الشهر رحلوا من أبلستين وتوجهوا إلى آق شهر «7» ، حتى نزلوا عليها وحصروها وليس لهم علم بما السلطان فيه.

(15/104)


ثم اشتد مرض السلطان فى يوم الثلاثاء خامس عشرين ذى القعدة واحتجب عن الناس، ومنع الناس قاطبة من الدخول عليه، سوى الأمير إينال الأبوبكريّ [39] الأشرفى شادّ الشراب خاناه، وعلى باى الأشرفى الخازندار، وجوهر اللّالا الزّمام؛ وصار إذا طلع مباشر والدولة إلى الخدمة السلطانية على العادة يعرّفهم هؤلاء بحال السلطان، وليس أحد من أكابر الأمراء يطلع إلى القلعة، لمعرفتهم بما السلطان فيه من شدة المرض، وأيضا لكثرة الكلام فى المملكة. وقد صارت المماليك طوائف، وتركوا التّسيير إلى خارج القاهرة وجعلوا دأبهم التسيير بسوق الخيل تحت القلعة «1» والكلام فى أمر السلطان. وبطلت العلامة «2» ، وتوقف أحوال الناس لاختلاط عقل السلطان من غلبة المرض عليه، وخيفت السبل ونقل الناس «3» أقمشتهم من بيوتهم إلى الحواصل مخافة من وقوع فتنة. وأخذ الطاعون يتناقص فى «4» هذه الأيام وهو أوائل ذى الحجة، ومرض السلطان يتزايد. وكان ابتداء مرض السلطان ضعف الشهوة للأكل، فتولد له من ذلك أمراض كثيرة آخرها نوع من أنواع الملنخوليا، وكثر هذيانه وتخليطه فى الكلام، ولازمه الأرق والسهر مع ضعف قوته.
هذا مع أن المماليك فى هذه الأيام صاروا طائفة وطائفة: فطائفة منهم يريدون أن يكون الأمير الكبير جقمق العلائى هو مدبر المملكة كما أوصاه الملك الأشرف، وهم الظاهرية البرقوقية والناصرية والمؤيّدية والسّيفية؛ وطائفة وهم الأشرفية، يريدون الاستبداد بأمر ابن أستاذهم، كل ذلك من غير مفاوضة فى الكلام. وبلغ الأمير إينال الأبوبكريّ المشدّ ذلك، وكان أعقل المماليك الأشرفية وأمثلهم وأعلمهم، فأخذ فى إصلاح الأمر بين الطائفتين، بأن طيّب «5» المماليك الأشرفية إلى الحلف على طاعة ابن السلطان والأمير الكبير جقمق العلائى، حتى أذعنوا ورضوا. فتولى تحليفهم القاضى شرف الدين نائب كاتب السر

(15/105)


وحلّف الجميع، ثم نزل عبد الباسط إلى الأمير الكبير جقمق وحلّفه على طاعة السلطان، وبعد تحليفه نزل إليه الأمير إينال المشدّ والأمير علىّ باى الخازندار، وقبّل كل منهما بده بمن معهما من أصحابهما، فأكرمهم جقمق ووعدهم بكل خير، وعادوا «1» إلى القلعة وسكن الناس وبطل الكلام بين الطائفتين.
فلما كان يوم الأربعاء عاشر ذى الحجة، وهو يوم عيد النحر، خرج المقام الجمالى يوسف ولىّ العهد الشريف وصلىّ صلاة العيد بجامع القلعة، وصلى معه الأمير الكبير جقمق العلائى وغالب أمراء الدولة، ومشوا فى خدمته بعد انقضاء الصلاة والخطبة، حتى جلس على باب الستارة، وخلع على الأمير الكبير جقمق وعلى من له عادة بلبس الخلع فى يوم عيد النحر، ثم نزلوا إلى دورهم، وقام المقام الجمالى ونحر ضحاياه بالحوش السلطانى. هذا وقد حصل للسلطان نوب كثيرة من الصرع حتى خارت قواه ولم يبق إلا أوقات يقضيها؛ واستمر على ذلك والإرجاف يتواتر بموته فى كل وقت، إلى أن مات قبيل عصر يوم السبت ثالث عشر ذى الحجة [من] «2» سنة إحدى وأربعين وثمانمائة «3» ، وسنّه يوم مات بضع وستون سنة تخمينا؛ فارتجت القلعة لموته ساعة ثم سكنوا. وفى الحال حضر الخليفة والقضاة الأربعة «4» والأمير الكبير جقمق العلائى وسائر أمراء الدولة، وسلطنوا المقام الجمالى يوسف ولقبوه بالملك العزيز يوسف، حسبما يأتى ذكره فى محلّه. ثم أخذ الأمراء فى تجهيز السلطان، فجهز وغسل وكفن بحضرة الأمير إينال الأحمدى الفقيه الظاهرى [برقوق] «5» أحد أمراء العشرات بوصية السلطان له، وهو الذي أخرج عليه كلفة تجهيزه وخرجته من مال كان الأشرف دفعه إليه فى حياته، وأوصاه أن يحضر غسله وتكفينه ودفنه.

(15/106)


ولما انتهى أمر تجهيز [الملك] «1» الأشرف حمل من الدور السلطانية إلى أن صلى عليه بباب القلعة من قلعة الجبل، وتقدم للصلاة عليه قاضى القضاة شهاب الدين أحمد «2» ابن حجر، لكون الخليفة كان [خلع] «3» عليه خلعة «4» أطلسين التى «5» خلعها عليه الملك [40] العزيز. ثم حمل من المصلى على أعناق الخاصكية والأمراء الأصاغر، إلى أن دفن بتربته التى أنشأها بالصحراء خارج القاهرة؛ وحضرت أنا الصلاة عليه ودفنه، وكانت جنازته مشهودة بخلاف جنائز الملوك، ولم يقع فى يوم موته اضطراب ولا حركة ولا فتنة، ونزل إلى قبره قبيل المغرب. وكانت مدة سلطنته بمصر سبع عشرة «6» سنة تنقص أربعة وتسعين يوما، وتسلطن بعده ابنه الملك العزيز يوسف المقدم ذكره بعهد منه إليه.
وخلّف الملك الأشرف من الأولاد «7» العزيز يوسف وابنا «8» آخر رضيعا أو حملا «9» ، وهما فى قيد الحياة إلى يومنا هذا. فأما العزيز فمسجون بثغر الإسكندرية، وأما الآخر فاسمه أحمد عند عمه زوج أمه الأمير قرقماس الأشرفى رأس نوبة، وهو الذي تولى تربيته، ومن أجل المقام الشهابى أحمد هذا كانت الفتنة بين المماليك الأشرفية والمماليك الظاهرية فى الباطن، لما أراد الظاهرية إخراجه إلى الإسكندرية. وأما من مات من أولاد [الملك] «10» الأشرف فكثير، وخلّف من الأموال والتحف والخيول والجمال «11» والسلاح شيئا كثيرا إلى الغاية. [و] 1»
كان سلطانا جليلا سيوسا مدبرا عاقلا شهما متجملا فى مماليكه

(15/107)


وخيوله، وكانت صفته أشقر طوالا «1» نحيفا رشيقا منوّر الشيبة بهىّ الشكل، غير سبّاب ولا فحّاش فى لفظه، حسن الخلق لين الجانب حريصا على إقامة ناموس الملك، يميل إلى الخير، يحب سماع تلاوة القرآن العزيز حتى أنه رتب عدة أجواق تقرأ عنده فى ليالى المواكب «2» بالقصر السلطانى دواما. وكان يكرم أرباب الصلاح ويجل مقامهم، وكان يكثر من الصوم صيفا وشتاء «3» ؛ فإنه كان يصوم فى الغالب يوم الثالث عشر [من الشهر] «4» والرابع عشر والخامس عشر، يديم على ذلك. وكان يصوم أيضا أول يوم فى الشهر وآخر يوم فيه «5» ، مع المواظبة «6» على صيام يومى الاثنين والخميس فى الجمعة، حتى أنه «7» كان يتوجه فى أيام صومه إلى الصيد ويجلس على السماط «8» وهو صائم ويطعم الأمراء والخاصكية بيده، ثم يغسل يديه بعد رفع السّماط كأنه واكل القوم. وكان لا يتعاطى المسكرات ولا يحب من يفعل ذلك من مماليكه وحواشيه. وكان يحب الاستكثار من المماليك حتى أنه زادت عدة مماليكه المشتروات على ألفى مملوك، لولا ما أفناهم طاعون سنة ثلاث وثلاثين ثم طاعون سنة إحدى وأربعين هذا، فمات فيهما من مماليكه خلائق. وكان يميل إلى جنس الجراكة على غيرهم فى الباطن، يظهر ذلك منه فى بعض الأحيان، وكان لا يحب أن يشهر عنه ذلك لئلا تنفر الخواطر منه؛ فإن ذلك مما يعاب به على الملوك. وكانت مماليكه أشبه الناس بمماليك [الملك] «9» الظاهر برقوق فى كثرتهم، وأيضا فى تحصيل فنون الفروسية؛ ولو لم يكن من مماليكه إلا الأمير إينال

(15/108)


الأبوبكريّ الخازندار ثم المشدّ، لكفاه فخرا لما اشتمل عليه من المحاسن؛ ولم يكن فى عصرنا من يدانيه فكيف يشابهه؟ - انتهى.
وإلى الآن مماليكه هم معظم عسكر الإسلام، وكانت أيامه فى غاية الأمن والرخاء من قلة الفتن وسفر التجاريد، هذا مع طول مدته فى السلطنة. وعمّر فى أيامه غالب قرى مصر قبليّها وبحريّها مما كان خرب فى دولة [الملك] «1» الناصر فرج، [ثم] «2» فى دولة [الملك] «3» المؤيّد شيخ لكثرة الفتن فى أيامهما «4» ، وترادف الشرور والأسفار إلى البلاد الشامية وغيرها فى كل سنة. ومع هذا كله كان [الملك] «5» الأشرف منغّص العيش من جهة الأمير جانبك الصوفى من يوم فرّ من سجنه بثغر الإسكندرية فى سابع شعبان سنة ست وعشرين وثمانمائة، إلى أن مات جانبك قبل موته فى سنة أربعين و [ثمانمائة] «6» حسبما تقدم ذكره.
وكان الأشرف يتصدّى [للأحكام] «7» بنفسه، ويقتدى فى غالب أموره بطريق [الملك] «8» المؤيّد شيخ، غير أنه كان يعيب على المؤيد سفه لسانه، إلا [الملك] «9» الأشرف فإنه [41] كان لا يسفه على أحد من مماليكه ولا خدمه جملة كافية، فكان أعظم ما شتم به أحدا أن يقول له: «حمار!» ، وكان ذلك فى الغالب [يكون] «10» مزحا. ولقد داومت «11» خدمته من «12» أوائل سلطنته إلى أن مات، ما سمعته أفحش فى سب واحد بعينه كائن من كان. وفى الجملة كانت محاسنه أكثر من مساوئه، وأما ما ذكره عنه الشيخ تقي الدين المقريزى فى تاريخه من المساوئ، فلا أقول إنه مغرض فى ذلك بل أقول بقول القائل: [الطويل]

(15/109)


ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلّها ... كفى المرء فخرا أن تعدّ معايبه
وكان الأليق الإضراب عن تلك المقالة الشنعة فى حقه من وجوه عديدة، غير أن الشيخ تقي الدين كان ينكر «1» عليه أمورا، منها انقياده إلى مباشرى دولته فى مظالم العباد، ومنها شدة حرصه على المال وشرهه فى جمعه، وأنا أقول فى حق [الملك] «2» الأشرف ما «3» قلته فى حق [الملك] «4» الظاهر برقوق فيما تقدم، فهو بخيل بالنسبة لمن تقدّمه «5» من الملوك، وكريم بالنسبة لمن جاء بعده إلى يومنا هذا؛ وما أظرف قول من قال: [الكامل]
ما إن وصلت إلى زمان آخر ... إلا بكيت على الزمان الأوّل
وأما قول المقريزى: «وانقياده لمباشريه» - يشير بذلك إلى الزينى عبد الباسط- فإنه كان يخاف على ماله منه، فلا يزال يحسّن له القبائح فى وجوه تحصيل المال، ويهوّن عليه فعلها حتى يفعلها الأشرف وينقاد إليه بكليّته، وحسّن له أمورا «6» لو فعلها الأشرف لكان فيها زوال ملكه، ومال الأشرف إلى شىء منها لولا معارضة قاضى القضاة بدر الدين محمود العينى له فيها عندما كان يسامره بقراءة التاريخ، فإنه كان كثيرا ما يقرأ عنده تواريخ الملوك السالفة وأفعالهم الجميلة، ويذكر له ما وقع لهم من الحروب والخطوب والأسفار والمحن، ثم يفسر له ذلك باللغة التركية، وينمقها بلفظه الفصيح، ثم يأخذ فى تحبيبه لفعل الخير والنظر فى مصالح المسلمين، ويرجعه عن كثير من المظالم، حتى لقد «7» تكرر من الأشرف قوله فى الملأ: «لولا القاضى العينى ما حسن إسلامنا، ولا عرفنا كيف نسير فى المملكة» . وكان الأشرف اغتنى بقراءة العينى له فى التاريخ عن مشورة الأمراء فى المهمات، لما تدرب بسماعه للوقائع السالفة

(15/110)


للملوك؛ قلت: وما قاله الأشرف فى حق العينى هو الصحيح، فإن الملك الأشرف كان أميّا صغير السن لما تسلطن، بالنسبة لملوك الترك الذين «1» مستهم الرق، فإنه تسلطن «2» وسنّه يوم ذاك نيف على أربعين سنة، وهو غرّ لم يمارس التجارب، ففقّهه العينى بقراءة التاريخ، وعرّفه بأمور كان يعجز عن تدبيرها قبل ذلك، منها: لما كسرت مراكب الغزاة فى غزوة قبرس، فإن الأشرف كان عزم على تبطيلها فى تلك السنة ويسيّرها فى القابل، حتى كلّمه العينى فى ذلك، وحكى له عدة وقائع صعب أولها وسهل آخرها، فلذلك كان العينى هو أعظم ندمائه «3» وأقرب الناس إليه، على أنه كان لا يداخله فى أمور المملكة البتة، بل كان مجلسه لا ينقضى معه إلا فى قراءة التاريخ، وأيام الناس وما أشبه ذلك؛ ومن يوم ذاك حبّب إلىّ التاريخ وملت إليه واشتغلت به- انتهى.
وقد تقدم الكلام على أصل»
الملك الأشرف وكيف ملّكه [السلطان الملك] «5» الظاهر برقوق، وعلى نسبته بالدّقماقى فى أول ترجمته، فلا حاجة للعيادة هنا ثانيا.
انتهى ترجمة الملك الأشرف برسباى رحمه الله تعالى.

(15/111)


[ما وقع من الحوادث سنة 825]
السنة الأولى من سلطنة الملك الأشرف برسباى [على مصر] «1»
وهى سنة خمس وعشرين وثمانمائة؛ على أن الملك الصالح محمد ابن [الملك] «2» الظاهر ططر، حكم منها إلى ثامن شهر [ربيع] «3» الآخر، ثم حكم [فى] «4» باقيها [الملك] «5» الأشرف هذا.
وفيها- أعنى سنة خمس وعشرين المذكورة- توفى الشيخ الإمام العالم بدر الدين محمود ابن الشيخ الإمام شمس الدين محمد الأقصرائى الحنفى فى ليلة الثلاثاء خامس المحرم، ولم يبلغ الثلاثين من العمر، وكان بارعا ذكيا فاضلا فقيها مشاركا فى عدة فنون، حسن المحاضرة، مقربا من الملوك. وكان [42] يجالس الملك المؤيّد شيخا «6» وينادمه، ثم عظم أمره عند [الملك] «7» الظاهر ططر واختص به [إلى] «8» الغاية، وتردد الناس إلى بابه، ورشح إلى الوظائف السنية «9» ، فعاجلته المنية «10» ومات بعد مدة يسيرة.
وتوفى الشيخ علاء الدين علىّ ابن قاضى القضاة تقي الدين عبد الرحمن الزبيرى الشافعى، فى ليلة الأحد ثالث المحرم وقد أناف على ستين سنة، بعد أن ناب فى الحكم ودرّس بعدة مدارس وبرع فى الحساب والفرائض.
وتوفى الأمير سيف الدين آق خجا بن عبد الله «11» الأحمدى الظاهرى، وهو يلى

(15/112)


الكشف بالوجه القبلى فى العشرين من المحرم. وكان تركى الجنس، أصله من مماليك [الملك] «1» الظاهر برقوق وترقى حتى صار من جملة أمراء الطبلخاناه وحاجبا ثانيا «2» ، وتولى الكشف بالوجه [القبلى] «3» ومات «4» هناك. ولم يكن من المشكورين.
وتوفى الشيخ المحدّث شمس الدين محمد بن أحمد بن معالى الحبتى الحنبلى الدمشقى فى يوم الخميس ثامن عشرين المحرم، وكان يقرأ البخارى عند السلطان، وهو أحد فقهاء الحنابلة
(النجوم الزاهرة ج 15)

(15/113)


وأحد ندماء [الملك] المؤيد شيخ وأصحابه قديما، وولّاه مشيخة المدرسة الخرّوبية «1» بالجيزة.
وتوفى مقرئ زمانه العلامة شمس الدين محمد بن على بن أحمد المعروف بالزراتينى الحنفى، إمام الخمس بالمدرسة الظاهرية برقوق، فى يوم الخميس سادس جمادى الآخرة وقد جاوز سبعين سنة؛ بعد أن كفّ بصره وانتهت إليه الرئاسة فى الإقراء بالديار المصرية ورحل إليه من الأقطار.
وتوفى الأمير بدر الدين حسن بن السيفى سودون الفقيه الظاهرى صهر [الملك] «2» الظاهر ططر وخال ولده الملك الصالح المقدم ذكره، وهو أحد مقدمى الألوف بالديار المصرية، فى يوم الجمعة ثالث عشر صفر بقلعة الجبل فى حياة والده سودون الفقيه. وكان والده سودون الفقيه حمو [الملك] «3» الظاهر [ططر] «4» جنديا لم يتأمّر، وصار ولده حسن هذا أمير مائة ومقدم ألف؛ فلم تطل أيامه فى السعادة فإنه كان أولا بخدمة صهر [5] «5» [الملك الظاهر] «6» ططر؛ فلما تسلطن أنعم عليه بإمرة طبلخاناه دفعة واحدة؛ ثم نقله بعد مدة يسيرة إلى إمرة مائة وتقدمة ألف فعاجلته المنية ومات بعد مرض طويل. قلت- وهو مثل-: «إلى أن يسعد المعترّ «7» فرغ عمره» . وكان حسن المذكور شابا جميلا حسن الشكالة، إلا أنه كان بإحدى عينيه خلل.
وتوفى الشيخ الإمام العالم برهان الدين إبراهيم بن أحمد «8» بن على البيجورىّ الشافعى فى يوم السبت رابع عشر [شهر] «9» رجب وقد أناف على السبعين سنة، ولم يخلف بعده أحفظ منه لفروع فقه مذهبه، مع قلة الاكتراث بالملبس والتقشف وعدم الالتفات إلى الرئاسة.

(15/114)


وتوفى مقدم العشير «1» بالبلاد الشامية، بدر الدين حسن بن أحمد المعروف بابن بشاره فى سابع ذى الحجة؛ وكان له رئاسة ضخمة بالنسبة لأبناء جنسه وثروة ومال كثير.
أمر النيل فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وسبعة أصابع، مبلغ الزيادة عشرون ذراعا ونصف.

(15/115)


[ما وقع من الحوادث سنة 826]
السنة الثانية من سلطنة الملك الأشرف برسباى [على مصر] «1»
وهى سنة ست وعشرين وثمانمائة:
[فيها] «2» توفى قاضى القضاة بالمدينة النبوية، ناصر الدين عبد الرحمن بن محمد بن صالح فى ليلة السبت رابع عشرين صفر، وكان من الفقهاء أعيان أهل المدينة.
وتوفى تاج الدين فضل الله بن الرملى القبطى ناظر الدولة فى يوم حادى عشرين صفر، بعد ما باشر وظيفة نظر الدوله عدة سنين وسئل بالوزارة غير مرة فامتنع واستمر على وظيفته، ومات وقد أناف على الثمانين سنة. قال المقريزى:
وكان من ظلمة الأقباط وفسّاقهم.
وتوفى الأمير ناصر الدين بك محمد بن على بك بن قرمان متملّك بلاد قرمان «3» فى صفر، من حجر أصابه فى حربه مع عساكر خوندكار مراد بك بن عثمان متملك برصّا؛ وكان ابن قرمان هذا أسر فى أيام [الملك] «4» المؤيد شيخ حسبما ذكرناه فى ترجمة [الملك] «5» المؤيد، وحبس بقلعة الجبل، إلى أن أفرج عنه [الملك] «6» الظاهر ططر بعد موت [الملك] «7» المؤيد شيخ «8» حسبما ذكرناه فى ترجمة المؤيد «9» [43] ووجّهه إلى بلاده أميرا عليها؛ وأولاد قرمان هؤلاء هم [من] «10» ذرية السلطان علاء الدين كيقباد السلجوقى، المقدم ذكره فى هذا التاريخ فى محله- انتهى.
وتوفى الأمير علاء الدين قطلوبغا بن عبد الله التّنمىّ أحد أمراء الألوف بالديار

(15/116)


المصرية ثم نائب صفد، بطّالا بدمشق فى ليلة السبت سادس عشر «1» [شهر] «2» ربيع الأول، وأصله من مماليك [الأمير] «3» تنم الحسنى نائب الشام، ورقّاه [الملك] «4» المؤيد، لكون الملك «5» المؤيد كان تزوج ببنت تنم فصار لذلك حواشى تنم كأحد أصحابه.
وتوفى قاضى القضاة مجد الدين سالم المقدسى الحنبلى فى يوم الخميس تاسع عشرين «6» ذى القعدة وقد بلغ الثمانين وتكسّح وتعطّل عدة سنين، وكان معدودا من فقهاء الحنابلة وخيارهم.
وتوفيت خوند زينب بنت [السلطان] «7» الملك الظاهر برقوق وزوجة [الملك] «8» المؤيد شيخ ثم من بعده الأتابك قجق العيساوى «9» ؛ وماتت تحته فى ليلة السبت ثامن عشرين [شهر] «10» ربيع الآخر، وهى آخر من بقى من أولاد [الملك] «11» الظاهر برقوق لصلبه؛ وأمها أم ولد رومية.
وتوفى الأمير سيف الدين تنبك بن عبد الله العلائى الظاهرى المعروف بتنبك ميق نائب الشام بها فى يوم الاثنين ثامن شعبان، وتولى نيابة دمشق من بعد الأمير تنبك البجاسى نائب حلب الآتى ذكره، وكان تنبك ميق أصله من مماليك الملك الظاهر برقوق وترقى بعد موته إلى أن صار أمير مائة ومقدم ألف فى دولة [الملك] «12» المؤيد شيخ، ثم صار رأس نوبة النوب، ثم أمير آخور كبيرا، ثم ولّاه نيابة دمشق بعد مسك آقباى المؤيدى ثم عزله بعد سنين وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية، ولا زال على ذلك حتى خلع عليه [الملك] «13» الظاهر ططر

(15/117)


باستقراره فى نيابة دمشق ثانيا بعد جقمق الأرغون شاوى الدوادار، فأقام على نيابة دمشق إلى أن مات فى التاريخ المذكور، وكان من أكابر المماليك الظاهرية غير أنه لم يشهر بدين ولا شجاعة.
وتوفى الحافظ قاضى القضاة ولى الدين أبو زرعة أحمد بن الحافظ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين [بن عبد الرحمن بن أبى بكر بن إبراهيم] «1» العراقى الشافعى مصروفا عن القضاء، فى يوم الخميس سابع عشرين شعبان، ومولده فى ثالث ذى الحجة سنة اثنتين وستين وسبعمائة، واعتنى به والده الحافظ زين الدين عبد الرحيم وأسمعه الكثير ونشأو برع فى علم الحديث، ثم غلب عليه الفقه فبرع فيه أيضا، وأفتى ودرّس سنين، وتولى نيابة الحكم بالقاهرة، ثم تنزه عن ذلك ولزم داره مدة طويلة، إلى أن طلبه السلطان وخلع عليه باستقراره قاضى قضاة الديار المصرية بعد وفاة شيخ الإسلام قاضى القضاة جلال الدين عبد الرحمن البلقينى فى شوال سنة أربع وعشرين وثمانمائة، فباشر القضاء بعفة وديانة وصيانة إلى أن صرف بقاضى القضاة علم الدين صالح البلقينى فلزم داره إلى أن مات، ولم يخلف بعده مثله فى جمعه بين الفقه والحديث والدين والصلاح، وله مصنفات كثيرة ذكرناها «2» فى ترجمته فى تاريخنا «المنهل الصافى» إذ هو محل الإطناب فى التراجم «3» .
وتوفى الرئيس علم الدين داؤد بن عبد الرحمن بن الكويز «4» الكركى الأصل الملكى كاتب السر الشريف بالديار المصرية، فى يوم الاثنين سلخ شوال ولم يبلغ

(15/118)


الخمسين سنة، ودفن خارج القاهرة، وكان اتصل بخدمة [الملك] «1» المؤيد بالبلاد الشامية وخدم فى ديوانه وعرف به، فلما تسلطن ولاه بعد مدة نظر الجيش بالديار المصرية سنين إلى أن نقل إلى كتابة السر فى أيام [الملك] «2» الظاهر ططر بعد عزل صهره القاضى كمال الدين البارزى بسعيه فى ذلك، فلم يشكر على فعلته، ونقل كمال الدين المذكور إلى وظيفة نظر الجيش عوضا عنه. وقد تقدم ذلك كله فى أصل ترجمة الملك الأشرف مفصلا فلينظر هناك؛ ودام علم الدين هذا فى وظيفة كتابة السرسنين إلى أن مات فى التاريخ المقدم ذكره. وكان عاقلا دينا رئيسا ضخما وجيها فى الدول، غير أنه كان عاريا من كل علم وفن، لا يعرف إلا قلم الدّيونة كما هى عادة الكتبة، وتولّى كتابة السر من بعده جمال الدين يوسف بن الصفى الكركى، فعظمت المصيبة بولاية جمال الدين [44] هذا لهذه الوظيفة الشريفة التى هى الآن أعظم رتب المتعممين، لكونه غاية فى الجهل وعديم المعرفة بهذا الشأن وغيره.
أمر النيل فى هذه السنة: الماء القديم ثمانية أذرع وعشرة أصابع؛ مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وثلاثة وعشرون أصبعا.

(15/119)


[ما وقع من الحوادث سنة 827]
السنة الثالثة من سلطنة الملك الأشرف برسباى [على مصر] «1»
وهى سنة سبع وعشرين وثمانمائة:
[فيها] «2» خرج الأمير تنبك البجاسى عن الطاعة وهو على نيابة دمشق، وقاتله سودون من عبد الرحمن وظفر به وقطع رأسه وبعث به إلى الديار المصرية، وقد تقدم ذكر ذلك كله فى أصل ترجمة [الملك] «3» الأشرف، ويأتى ذكر تنبك البجاسى فى وفيات هذه السنة.
وفيها قبض الملك الأشرف على الأتابك بيبغا المظفرى وحبسه بالإسكندرية، وقد تقدم أيضا.
وفيها مات قتيلا الأمير تنبك بن عبد الله البجاسى نائب الشام، بعد خروجه عن الطاعة فى أول شهر ربيع الأول؛ وهو أحد من ترقى فى الدولة الناصرية [فرج] «4» ثم ولاه [الملك] «5» المؤيد شيخ نيابة حماه، فخرج عن طاعته مع الأمير قانى باى العلائى نائب الشام والأمير إينال الصصلانىّ نائب حلب وغيرهما من النواب، ودام معهما إلى أن انكسرا وقبض عليهما ففرّ تنبك هذا مع من فر من الأمراء إلى قرا يوسف ببلاد الشرق، فقام عنده هو والأمير سودون من عبد الرحمن والأمير طرباى إلى أن قدموا على الأمير ططر بالبلاد الشامية فى دولة [الملك] «6» المظفر أحمد، ثم لما تسلطن ططر ولاه نيابة حماه ثانيا، ثم نقله [الملك] «7» الأشرف إلى نيابة حلب بعد تغرى بردى أخى قصروه، وتولى بعده نيابة حماه [أغاته جار قطلو. والعجيب أن جارقطلو المذكور كان أغاة تنبك البجاسى، وولى بعده نيابة حماه] «8» مرتين:

(15/120)


الأولى فى الدولة المؤيدية والثانية فى دولة ططر، ثم نقل تنبك البجاسى إلى نيابة الشام بعد موت الأمير تنبك ميق فلم تطل مدته بها وخرج عن الطاعة؛ وتولى سودون من عبد الرحمن نيابة الشام عوضه وقاتله حسبما تقدم ذكره حتى ظفر به وقتله، وكان تنبك شابا جميلا شجاعا مقداما، وهو أستاذ [جميع] «1» البجاسيّة أمراء زماننا هذا بمصر والشأم.
وتوفى الإمام العلامة شرف الدين يعقوب بن جلال الدين رسولا بن أحمد ابن يوسف التّبانى «2» الحنفى شيخ شيوخ خانقاه شيخون، فى يوم الأربعاء سادس عشر صفر؛ وكان فقيها بارعا فى العربية والأصول وعلمى المعانى والبيان والعقليات، واختص [بالملك] «3» المؤيد شيخ اختصاصا كبيرا، وتولى نظر الكسوة ووكالة بيت المال ومشيخة خانقاه شيخون، وأفتى ودرّس واشتغل وصنّف عدة سنين، وكان معدودا من علماء الحنفية.
وتوفى الوزير تاج الدين عبد الرزاق بن شمس الدين بن عبد الله المعروف بابن كاتب المناخ فى يوم الجمعة حادى عشرين جمادى الأولى وهو غير وزير، وابنه الصاحب كريم الدين [عبد الكريم] «4» قد ولى الوزر فى حياته؛ وكان جد أبيه باشر دين النصرانية ثم حسن إسلام آبائه، وكان مشكور السيرة فى ولايته للوزارة لكنه استجد فى أيام ولايته مكس الفاكهة «5» ، ثم عزل بعد مدة يسيرة وصار ذلك

(15/121)


فى صحيفته إلى يوم القيامة؛ قلت: هذا هو الشقى الذي ظلم «1» الناس لغيره.
وتوفى الأمير سيف الدين سودون بن عبد الله الظاهرى المعروف بالأشقر، وهو أحد أمراء دمشق، بها فى جمادى الأولى. وكان ولى شاد الشراب خاناة فى الدولة الناصرية، ثم صار فى الدولة المؤيدية رأس نوبة النوب ثم أمير مجلس ثم نكب وانحط قدره وحبس سنين، إلى أن أخرجه الأمير ططر وأنعم عليه بإمرة عشرين بالقاهرة، فدام على ذلك إلى أن أخرجه [الملك] «2» الأشرف [برسباى] «3» إلى الشأم على إمرة مائة وتقدمة ألف، فدام بدمشق إلى أن مات؛ وكان غير مشكور السيرة فى دينه ودنياه.
وتوفى الملك العادل فخر الدين أبو المفاخر سليمان ابن الملك الكامل شهاب الدين غازى ابن الملك العادل مجير الدين محمد ابن الملك الكامل سيف الدين أبى بكر ابن شادى، وقيل: ابن محمد بن تقي الدين عبد الله ابن الملك المعظم غياث الدين توران شاه ابن السلطان الملك الصالح نجم الدين [45] أيوب ابن السلطان الملك الكامل محمد ابن السلطان الملك العادل أبى بكر بن أيوب بن شادى بن مروان الأيوبى صاحب حصن كيفا من ديار بكر، وملك بعده الحصن ابنه الملك الأشرف؛ وكان العادل

(15/122)


أديبا شاعرا عاقلا، وله نظم جيد ذكرناه فى ترجمته فى «المنهل الصافى» «1» .
وتوفى خطيب مكة جمال الدين أبو الفضل ابن قاضى مكة محب الدين أحمد ابن قاضى مكة أبى الفضل محمد النويرى الشافعى المكى فى شهر ربيع الآخر بمكة، وهو والد صاحبنا الخطيب أبى «2» الفضل محمد «3» النويرى، وهم من أعيان فقهاء مكة أبا «4» عن جد.
وتوفيت «5» خوند الكبرى فاطمة زوجة السلطان الملك الأشرف وأمّ ابنه المقام الناصرى محمد فى خامس عشر جمادى الآخرة، وكانت قبل الأشرف تحت الأمير دقماق المحمدى، الذي ينتسب إليه الأشرف بالدّقماقى، وكان والدها من أعيان تجار القرم، وكانت من الخيّرات، ودفنت بقبة المدرسة الأشرفية بخط العنبريين، وكان لها مقام كبير عند زوجها الملك الأشرف.
وتوفى الملك الناصر أحمد ابن الملك الأشرف إسماعيل ابن الملك الأفضل عباس

(15/123)


ابن الملك المجاهد علىّ ابن «1» الملك المؤيد داود «2» بن الملك المظفر يحيى ابن الملك المنصور عمر ابن رسول، التركمانى الأصل اليمنى المولد والمنشأ والوفاة، صاحب بلاد اليمن ومدن ممالكه: زبيد وتعزّ وعدن والمهجم وحرض وجبلة والمنصورة والمحالب والجوّة والدّملوّة وقوارير والشحر وغيرهم (كذا) . وكان موته فى سادس عشر جمادى الآخرة بصاعقة سقطت عليهم بحصن قوارير خارج مدينة زبيد، فارتاع الملك الناصر هذا من ذلك ولزم الفراش أياما إلى أن مات، وأقيم بعده فى ممالك اليمن الملك المنصور عبد الله؛ وكان الناصر هذا من شرار ملوك اليمن.
وتوفى قاضى القضاة وشيخ الشيوخ بالجامع المؤيدى شمس الدين محمد بن عبد الله ابن سعد العبسى الديرى الحنفى المقدسى بالقدس، وقد توجه إليه زائرا فى يوم عرفة؛ ومولده فى سنة أربع وأربعين وسبعمائة بالقدس، وهو والد شيخ الإسلام سعد الدين سعد الديرى، وكان إماما فى الفقه وفروعه، بارعا فى العربية والتفسير والأصول والحديث، وأفتى ودرّس سنين بالقدس؛ ثم طلبه [الملك] «3» المؤيد فى سنة تسع عشرة وثمانمائة، وولاه قاضى قضاة الحنفية بعد موت قاضى القضاة ناصر الدين محمد ابن العديم مسئولا فى ذلك، فباشر القضاء بعفة وديانة وصيانة عدة «4» سنين، إلى أن تركه رغبة، وولى مشيخة الجامع المؤيدى داخل باب زويلة إلى أن مات فى التاريخ المقدم ذكره.
وتوفى الشيخ الصالح الزاهد المسلك أبو بكر بن عمر بن محمد الطرينى الفقيه المالكى، فى يوم عيد النحر «5» بالغربية بمدينة المحلة [من الوجه البحرى من أعمال

(15/124)


القاهرة،] «1» ولم يخلّف بعده مثله فى كثرة العبادة والتقشف وترك الدنيا ولذتها حتى لعلّه مات من قلة «2» الغذاء؛ وكان يقصد للزيارة من البلاد البعيدة، وله كرامات ومصالح، «3» يعرفه كل أحد.
أمر النيل فى هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع وعشرون أصبعا؛ مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة عشر أصبعا.

(15/125)


[ما وقع من الحوادث سنة 828]
السنة الرابعة من سلطنة الملك الأشرف برسباى [على مصر] «1»
وهى سنة ثمان وعشرين وثمانمائة:
[فيها] «2» كانت أول غزوات الملك الأشرف التى «3» سيّرها فى البحر حسبما تقدم ذكره.
وفيها قتل الأمير تغرى بردى [بن عبد الله] «4» المؤيدى المعروف بأخى قصروه نائب حلب- كان- بقلعة حلب، بعد أن حبس بها مدة فى شهر ربيع الأول؛ وأصله من مماليك [الملك] «5» المؤيد شيخ وأحد خاصكيته، ثم أمّره المؤيد عشرة، ولما مات [الملك] «6» المؤيد أنعم عليه الأمير ططر فى دفعة واحدة بإمرة مائة وتقدمة ألف وجعله أمير آخور كبيرا عوضا عن طوغان الأمير آخور، ثم ولاه نيابة حلب فعصى فى أواخر دولة ططر وخرج عن الطاعة، فولى تنبك البجاسى عوضه فى نيابة حلب؛ ومات ططر فتوجه تنبك إليه وقاتله وهزمه [46] وملك حلب، ثم حاصره بقلعة بهسنا حتى أخذه بالأمان وحمله إلى قلعة حلب فحبس بها إلى يوم تاريخه؛ وكان شابا طائشا خفيفا غير مشكور السيرة، [و] «7» اقتحم الرئاسة فنالها فلم يمهله الدهر وأخذ قبل أن تتم سنته.
وتوفى قاضى القضاة علاء الدين أبو الحسن علىّ ابن التاجر بدر الدين أبى الثّناء محمود بن أبى الجود أبى بكر الحموى الحنبلى المعروف بابن مغلى، قاضى قضاة الديار المصرية، فى يوم الخميس العشرين من المحرم وقد قارب السبعين سنة، وأصله من سلمية، وكان آباؤه يعانون المتجر، وولد هو بحماه وطلب العلم وقدم القاهرة شابا فى زى التجار فى سنة إحدى وتسعين، ثم عاد إلى حماه وأكب على طلب العلم،

(15/126)


حتى برع واشتهر بكثرة الحفظ حتى أنه كان يحفظ فى كل مذهب من المذاهب الأربعة كتابا فى الفقه، ويحفظ فى مذهبه كثيرا إلى الغاية، مع مشاركة جيدة فى الحديث والنحو والأصول والتفسير؛ وتولى قضاء حماه فى عنفوان شبيبته ودام بها «1» إلى أن طلبه [الملك] «2» المؤيد وولاه قضاء الديار المصرية، ونزل»
بالقاهرة فى جوارنا بالسبع قاعات «4» وسكن بها إلى أن مات. حدثنى صاحبنا قاضى القضاة جلال الدين أبو السعادات محمد بن ظهيرة قاضى مكة بها، قال: قدمت القاهرة فدخلت إلى ابن مغلى هذا فإذا بالقاضى ولى الدين السّفطى عنده؛ فسلمت وجلست، فأخذ السّفطى يثنى على ابن مغلى ويعرفنى بمقامه فى كثرة العلوم، وكان «5» مما قاله: مولانا قاضى القضاة يحيط علمه بالمذاهب الأربعة؛ فقال ابن مغلى: يا قاضى ولى الدين، أسأت فى التعريف! لم لا قلت بجميع مذاهب السلف؟ قال: فمن يومئذ لم أجتمع به. قلت: كان عنده زهو وإعجاب بنفسه، لغزير فضله وكثرة ماله. وقد وقع له مع العلامة نظام الدين يحيى السيرامى الحنفى بحث «6» بحضرة السلطان الملك المؤيد، فقال له القاضى علاء الدين المذكور «7» : يا شيخ نظام الدين، أسمع مذهبك. وسرد المسألة من حفظه- وهذه كانت عادته، وبذلك كان يقطع العلماء فى الأبحاث- فجاراه الشيخ نظام الدين فى المسألة ولا زال ينقله من شىء إلى شىء حتى دخل به إلى علم المعقول، فارتبك ابن مغلى، واستظهر الشيخ نظام الدين وصاح عليه فى الملأ: مولانا قاضى القضاة

(15/127)


حفظه «1» طاح، هذا مقام التحقيق. فلم يردّ عليه- انتهى.
والذي اشتهر به ابن مغلى كثرة المحفوظ «2» . حكى بعض طلبة العلم، قال: استعار منى ابن مغلى أوراقا نحو عشرة كراريس، فلما أخذها منى احتجت إلى مراجعة شىء منها فى اليوم المذكور، فرجعت إليه وقلت له: أريد أنظر فى الكراريس نظرة ثم خذها ثانيا، فقال: ما بقى لى بها حاجة، قد حفظتها؛ ثم ألقاها إلىّ وسردها من حفظه، فأخذتها وعدت وأنا متعجب من قوة حافظته.
وتوفى الأديب الشاعر زين الدين شعبان بن محمد بن داؤد الآثارى فى سابع جمادى الآخرة، وكان ولى حسبة مصر القديمة فى الدولة الظاهرية برقوق بمال عجز عن أدائه، ففرّ إلى اليمن واتصل بملوكها لفضيلة كانت فيه من كتابة المنسوب ونظم الشعر ومعرفة الأدب فأقام باليمن مدة ثم عاد إلى مكة وحج وقدم القاهرة، ثم رحل إلى الشام ثم عاد إلى مصر فمات بعد قدومه إليها بأيام قليلة. وكان له نظم جيد، من ذلك ما قاله فى مدح قاضى القضاة جلال الدين البلقينى لما عزل عن القضاء بالقاضى شمس الدين الهروىّ، واتفق مع ذلك زينة القاهرة لدوران المحمل، فتغالى فى الزينة شخص يسمى الترجمان، وعلق على باب بيته حمارا بسرّ ياقات على رؤوس الناس، بأحسن هيئة؛ وتردد الناس إلى الفرجة على الحمار المذكور أفواجا، فقال شعبان هذه الأبيات: [الوافر]
أقام الترجمان لسان حال ... عن الدنيا يقول لها «3» جهارا:
زمان فيه قد وضعوا جلالا ... عن العليا وقد رفعوا حمارا
وتوفى الشيخ الإمام الأديب الشاعر العلامة بدر الدين محمد [أبى بكر] «4» بن عمر بن أبى بكر [بن محمد بن سليمان بن جعفر] «5» الدّمامينى المالكى الإسكندرى [47] شاعر

(15/128)


عصره بمدينة كربركا «1» من بلاد الهند، فى شعبان عن «2» نحو سبعين سنة، وكان مولده ومنشأه بثغر الإسكندرية، وبرع فى الأدبيات وقال الشعر الفائق الرائق، وعانى دولبة عمل القماش الحرير بإسكندرية، فتحمل الديون بسبب ذلك، حتى ألجأته الضرورة إلى الفرار «3» ، فذهب إلى الهند، فأقبل عليه ملوكها وحسن حاله بها، وأثرى وكثر ماله، فلم تطل أيامه، حتى مات. ومن شعره: [السريع]
لا ما عذاريك هما أوقعا ... قلب المحبّ الصّب فى الحين
فجد له بالوصل واسمح به ... ففيك قد هام بلامين
وله، سامحه الله «4» : [البسيط]
قلت له والدّجى مولّ ... ونحن بالأنس فى التّلاقى
قد عطس الصبح يا حبيبى ... فلا تشمّته بالفراق «5»
وله أيضا «6» ، غفر الله له «7» : [الرجز]
بدا وقد كان اختفى ... [الرّقيب] «8» من سراقبه
فقلت: هذا قاتلى ... بعينه وحاجبه
[وله] : [الرمل]
(النجوم الزاهرة ج 15)

(15/129)


قم [بنا] «1» تركب طرف ... اللهو سبقا للمدام
واثن يا صاح عنانى ... لكميت ولجام «2»
وتوفى الأمير سيف الدين أبو بكر حاجب حجّاب طرابلس [بها] «3» ، وكان يعرف بدوادار الأمير جكم نائب طرابلس، أظنه تركمانيا، فإنى رأيت كلامه يشبه ذلك، ولا عرفت أصله.
وتوفى الأمير سيف الدين طوغان بن عبد الله الأمير آخور، قتيلا بقلعة المرقب فى ذى الحجة، وكان أصله تركمانيّا مكّاريّا لبغال الأمير طولو الظاهرى نائب صفد، ثم تنقل فى الخدم حتى اتصل بالملك المؤيد شيخ أيام إمرته، وترقى عنده ليقظة كانت فيه، حتى صار أمير آخوره، فلما تسلطن أمّره وولّاه حجوبية دمشق، ثم نيابة صفد، ثم جعله أمير مائة ومقدم ألف بالديار المصرية، وأمير آخور كبيرا بعد الأمير تنبك ميق لما نقل إلى نيابة دمشق بعد مسك آقباى.
ولما ولى الأمير آخورية نالته السعادة وعظم فى الدولة، إلى أن عيّنه المؤيد للسفر صحبة الأتابك ألطنبغا القرمشى إلى البلاد الشامية من جملة من عيّنه من الأمراء. ومات [الملك] «4» المؤيد، فوقع «5» ما حكيناه من اضطراب المملكة الشامية وعصيان جقمق، فانضم «6» طوغان هذا مع جقمق، ولا زال من حزبه إلى أن انكسر وتوجه معه إلى قلعة صرخد. ولما قبض على جقمق، قبض على طوغان هذا معه ونفى إلى القدس، ثم أمسك ثم أطلق، ورسم له أن يكون بطّالا بطرابلس فدام بها

(15/130)


مدة، فبلغ السلطان عنه ما أوجب القبض عليه وحبسه بالمرقب، ثم قتله فى التاريخ المقدم ذكره؛ وكان لا فارس الخيل ولا وجه العرب.
وتوفى الأمير ناصر الدين محمد بن أحمد بن عمر بن يوسف بن عبد الله ابن عبد الرحمن «1» بن إبراهيم بن محمد بن أبى بكر التّنوخى الحموى الشهير بابن العطار، فى ثالث عشر شوال بالخليل عليه السلام، وهو متولّ «2» نظره، ومولده فى سنة أربع وسبعين وسبعمائة بحماه، وبها نشأ، وتولى حجوبيتها، ثم نقل إلى دمشق، وولى دوادارية الأمير قانى باى نائب الشام [بأمره] «3» إلى أن نوّه القاضى ناصر الدين ابن البارزى بذكره، واستقدمه إلى القاهرة لمصاهرة كانت بينهما، فولاه [الملك] «4» المؤيد نيابة الإسكندرية، إلى أن عزله الأمير ططر فى الدولة المظفّريّة، وتعطل فى داره سنين حتى ولاه [الملك] «5» الأشرف نظر القدس والخليل؛ فدام به إلى أن مات؛ وكان فاضلا عاقلا سيوسا حلو المحاضرة، يذاكر بالتاريخ والشعر، وهو والد صاحبنا الشهابى أحمد بن العطار «6» رحمه الله.

(15/131)


وتوفى الشيخ شمس الدين محمد بن أحمد البيرى الشافعى، شيخ خانقاه سعيد السعداء «1» ، فى يوم الجمعة رابع عشرين ذى الحجة [على] «2» نحو الثمانين سنة، وهو أخو جمال الدين يوسف البيرى الأستادّار المقدم ذكره فى [48] الدولة الناصرية فرج.
أمر النيل فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وعشرة أصابع؛ مبلغ الزيادة عشرون ذراعا سواء.

(15/132)


[ما وقع من الحوادث سنة 829]
السنة الخامسة من سلطنة [الملك] «1» الأشرف برسباى [على مصر] «2»
وهى سنة تسع وعشرين وثمانمائة.
فيها كان فتح قبرس وأخذ ملكها أسيرا حسبما تقدم ذكره فى أصل ترجمة الأشرف هذا مفصلا. [وفيها] «3» توفى شيخ الإسلام وأحد الأئمة الأعلام، سراج الدين عمر [ابن علىّ] «4» بن فارس شيخ شيوخ خانقاه شيخون، المعروف بقارئ الهداية «5» فى شهر ربيع الآخر، بعد أن انتهت إليه رئاسة مذهب أبى حنيفة فى زمانه، هذا مع من كان فى عصره من العلماء، كان بارعا مفنّنا فى الفقه وأصوله وفروعه، إماما فى العربية والنحو، وله مشاركة كبيرة فى فنون كثيرة؛ وهو أول من أقرأنى القرآن بعد موت الوالد. ومات وقد صار المعول على فتواه بالديار المصرية، بعد أن تصدى للافتاء والإقراء عدة سنين وانتفع به غالب الطلبة. وكان مقتصرا فى ملبسه ومركبه، يتعاطى حوائجه من الأسواق بنفسه، مع جميل السيرة وعظم المهابة فى النفوس، يهابه حتى السلطان، مع عدم التفاته لأهل الدولة بالكلية، حتى لعلّى لم أنظره دخل لأحد منهم فى عمره، وهو مع ذلك لا يزداد إلا عظمة ومهابة.

(15/133)


ولما ولّاه [الملك] «1» الأشرف مشيخة «2» الشيخونية مسئولا فى ذلك، أراد الشيخ سراج الدين المذكور أن يحضر إلى الخانقاه المذكورة ماشيا، وكان سكنه «3» بالمدرسة الظاهرية ببين القصرين، وامتنع من ركوب الخيل، فأرسل إليه [الملك] «4» الأشرف فرسا وألزمه بركوبها، فلما ركبها أخذ بيده عصاة يسوقها بها، حتى وصل إلى الخانقاه المذكورة فنزل عنها كما ينزل عن الحمار «5» برجليه من ناحية واحدة، هذا كله وعليه من الوقار والأبهة ما لم تنلها أصحاب الشكائم ولا كبار العمائم؛ وهو أحد من أدركنا من الأفراد الذين مشوا على طريق فقهاء السلف رحمه الله [تعالى] .
وتولى «6» بعده [فى] «7» مشيخة الشيخونية قاضى القضاة زين الدين عبد الرحمن التّفهنى «8» الحنفى بعد عزله عن القضاء بقاضى القضاة بدر الدين محمود العينى.
وتوفى الشيخ المعتقد خليفة المغربى نزيل جامع الأزهر فى حادى عشرين المحرم، فجاءة فى الحمام، [بعد ما كان انقطع بالجامع المذكور مكبّا على العبادة نيفا وأربعين سنة، وكان للناس فيه اعتقاد كبير] «9» ويقصد للزيارة والتبرك به. ولما مات خلف مالا له صورة، وكانت جنازته مشهورة.
وتوفى الأمير سيف الدين إينال بن عبد الله النّوروزى أمير سلاح فى أول شهر

(15/134)


ربيع الآخر بالقاهرة، وأصله من مماليك الأمير نوروز الحافظى ودواداره، ثم ولى بعده نيابة غزة ثم حماه ثم طرابلس، إلى أن نقله [الملك] «1» الأشرف إلى إمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية، وخلع عليه باستقراره أمير مجلس، ثم أمير سلاح، فاستمر على ذلك إلى أن مات وفى نفسه أمور، فأخذه الله قبل ذلك. وكان متجملا فى ملبسه ومماليكه ومركبه وسماطه إلى الغاية، وفيه مكارم وحب للعظمة مع ظلم وخلق سيئ وقلة دين وبطش بحواشيه ومماليكه وغلمانه وإظهار جبروت.
وهو صهرى، زوج أختى خوند فاطمة ومات عنها، ولكن الحق يقال على أى وجه كان؛ وفرح الناس بموته كثيرا وأولهم السلطان [الملك الأشرف] «2» برسباى.
وتوفى السيد الشريف حسن بن عجلان بن رميثة، واسم رميثة منجّد ابن أبى نمىّ محمد بن أبى سعد حسن بن أبى غرير قتادة بن إدريس بن مطاعن ابن عبد الكريم بن عيسى بن حسين بن سليمان بن على بن عبد الله بن محمد ابن موسى بن عبد الله بن الحسن المثنّى بن أبى محمد الحسن السبط ابن أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضى الله عنه، فى يوم الخميس سادس عشر جمادى الآخرة بالقاهرة، ودفن بالصحراء بحوش [الملك] «3» الأشرف برسباى وقد أناف على الستين سنة. ومولده بمكة، وولى إمارتها فى دولة [الملك] «4» الظاهر برقوق فى سنة ثمان وتسعين وسبعمائة، ثم ولى سلطنة الحجاز كله: مكة والمدينة والينبوع من قبل الملك الناصر [49] فرج فى شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة وثمانمائة، واستناب عنه بالمدينة الشريفة وخطب له على منبرها. وطالت أيامه فى السعادة، على أنه وقع له أمور وحوادث ومحن، وحمله ذلك على فعل أشياء ليست بمشكورة، من مصادرة التجار، وأخذ الأموال؛ وقد ذكرنا أمر خروجه من مكة وقدومه مع الأمير

(15/135)


تغرى بردى المحمودى إلى القاهرة، فى أصل هذه الترجمة واستقراره فى إمرة «1» مكة على عادته، إلى أن مات بها قبل أن يتوجّه إلى مكة. واستقر «2» بعده فى إمرة مكة ابنه الشريف بركات الآتى ذكره فى محله.
وتوفى العلامة قاضى القضاة شمس الدين محمد بن عطاء الله بن محمد بن محمود بن أحمد ابن فضل الله بن محمد الرّازى الهروى الشافعى بالقدس فى ثامن عشر ذى الحجة، ومولده بهراة سنة سبع وستين وسبعمائة، وكان إماما بارعا فى فنون من العلوم، وكان يقرئ على مذهب أبى حنيفة ومذهب الشافعى، والعربية وعلمى «3» المعانى والبيان، ويذاكر بالأدب والتاريخ، ويستحضر كثيرا من الأحاديث حفظا.
وصحب تيمور لنك مدة طويلة ثم قدم القاهرة، وصحب الوالد، وولى قضاء الشافعية بالديار المصرية مرتين فلم ينتج أمره فيهما لبغض أولاد العرب له، كما هى عادة المباينة بين أولاد العرب والأعاجم، وتعصبوا عليه وأبادوه وجحدوا علومه. وولى كتابة السر [أيضا] «4» بالديار المصرية أشهرا «5» ، ثم عزل ونكب ووقع له أمور فى ولايته للقضاء فى المرة الثانية، إلى أن تولى نظر القدس والخليل، إلى أن مات هناك.
وكان شيخا ضخما طوالا أبيض اللحية مليح الشكل، غير أنه كان فى لسانه مسكة تمنعه عن الطلاقة، وله مصنفات تدل على غزير علمه واتساع نظره وتبحره فى العلوم «6» .
وتوفى قاضى القضاة جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن خالد بن نعيم بن مقدم بن محمد ابن حسن «7» بن غانم بن محمد بن على الطائى البساطى المالكى وهو غير قاض، فى يوم الاثنين العشرين من جمادى الآخرة، عن ثمان وثمانين سنة؛ وكان فقيها مشاركا

(15/136)


فى فنون، وعنده معرفة بالأحكام وسياسة ودربة بالأمور؛ وقد تولى قضاء الديار المصرية سنين كثيرة، وولى حسبة القاهرة أشهرا، ثم صرف ولزم داره إلى أن مات.
وتوفى الأمير الكبير سيف الدين قجق بن عبد الله العيساوى الظاهرى أتابك العساكر بالديار المصرية، فى تاسع شهر رمضان، وهو أحد المماليك الظاهرية وممن أنشأه [الملك] «1» الناصر فرج، وصار أمير مائة ومقدم ألف بالديار المصرية، ثم ولى حجوبية الحجاب فى الدوله المؤيدية [شيخ] «2» ، ثم أمسك وحبس إلى أن أطلقه الأمير ططر وولاه أمير مجلس ثم صار أمير سلاح فى أوائل دولة الملك الصالح، ثم صار أتابك العساكر بالديار المصرية بعد مسك الأتابك بيبغا [بن عبد الله] «3» المظفرى، إلى أن مات فى التاريخ المذكور. وكان قجق أميرا عاقلا عارفا بفنون الفروسية رأسا فى ركوب الخيل ولعب الكرة، مع بخل وشح زائد وحسن شكالة، وكان تركى الجنس رحمه الله تعالى.
وتوفى تاج الدين محمد بن أحمد المعروف بابن المكلّلة وبابن جماعة، فى ثامن شهر ربيع الآخر، وكان ولى حسبة القاهرة بالمال فلم تطل مدته وعزل عنها.
وتوفى القاضى شمس الدين محمد بن عبد الله أحد أعبان موقّعى الدست «4» بالديار

(15/137)


المصرية المعروف بابن كاتب السّمسرة وبابن العمرى، فى يوم الأربعاء العشرين من شعبان، وكان له وجاهة فى الدولة، معدودا من أعيان الديار المصرية رحمه الله [تعالى] «1» :
أمر النيل فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وخمسة أصابع؛ مبلغ الزيادة عشرون ذراعا سواء كالسنة الخالية.

(15/138)


[ما وقع من الحوادث سنة 830]
السنة السادسة من سلطنة الملك الأشرف برسباى «1» على [مصر] «2»
وهى سنة ثلاثين وثمانمائة.
[فيها] «3» توفى الشيخ الإمام المعتقد زاهد وقته وفريد عصره، أحمد بن إبراهيم ابن محمد اليمنى الأصل الرومى البرصاوي «4» المولد والمنشأ، المصرى الدار والوفاة، المعروف بابن عرب الحنفى، فى ليلة الأربعاء ثانى شهر ربيع الأول بخلوته بخانقاه شيخون، فغسّل بها وحمل إلى مصلاة المؤمنى على رؤوس الأصابع، [50] ونزل السلطان [الملك] «5» الأشرف وحضر الصلاة عليه، وأمّ بالناس قاضى القضاة بدر الدين محمود العينى الحنفى، ثم حمل وأعيد إلى الشيخونية فدفن بها؛ وكان له مشهد عظيم إلى الغاية، وأبيع بعده ما كان عليه من الثياب بأثمان غالية للتبرك بها.
قلت: وابن عرب هذا أعظم من أدركناه من العبّاد الزهاد فى الدنيا وعدم الاجتماع بالملوك ومن دونهم، والاقتصار فى المأكل والملبس؛ وكان أولا ينسخ للناس بالأجرة، وهو مكب على طلب العلم والعبادة سنين طويلة، إلى أن استقر من جملة صوفية خانقاه شيخون «6» ، بمبلغ ثلاثين درهما [فى] «7» الشهر «8» ، فتعفّف بذلك عن النسخ، وانقطع عن مجالسة الناس، وسكن بخلوة فى الخانقاه المذكورة وأعرض عن كل أحد، وأخذ فى الاجتهاد فى العبادة، واقتصر على ملبس خشن حقير إلى الغاية، وصار يقنع بيسير القوت ولا ينزل من خلوته إلا ليلا لشراء قوته،

(15/139)


ثم يعود إلى منزله فى كل ثلاثة أيام مرة واحدة بعد عشاء الآخرة. وكان من شأنه إذا حاباه أحد من السّوقة فيما يشتريه من قوته، تركه وما حاباه به. فلما عرف منه ذلك ترك الباعة محاباته ووقفوا عندما يشير إليهم به. وكان فى كل شهر خادم الخانقاه يحمل إليه الثلاثين درهما «1» فلا يأخذها إلا عددا، لأن المعاملة بالفلوس وزنا «2» حدثت بعد انقطاعه عن الناس، وكان لا يعرف إلا المعاددة «3» ، وكان لا يقبل من أحد شيئا البتة.
وكان يغتسل بالماء البارد صيفا وشتاء فى بكرة نهار الجمعة، ويمضى إلى صلاة الجمعة من أول نهار الجمعة، ويأخذ فى الصلاة والقراءة. وكان يطيل قيامه فى الصلاة بمقدار أن يقرأ فى كل ركعة حزبين من غير أن يسمع له قراءة ولا تسبيح، وكان لا يرى نهارا إلا عند ذهابه يوم الجمعة إلى الجامع، وكان يعجز السلطان ومن دونه فى الاجتماع به؛ ويحكى عنه كرامات كثيرة، ذكرنا بعضها فى ترجمته فى المنهل الصافى، رحمه الله تعالى ونفعنا ببركته «4» .

(15/140)


وتوفى الأمير سيف الدين قشتم بن عبد الله المؤيدى الدوادار، الذي كان ولى نيابة الإسكندرية فى دولة [الملك] «1» المظفر أحمد، ثم قبض عليه وأخرج بعد مدة إلى حلب على إمرة بها، واستمر بحلب إلى أن خرج مع نائبها الأمير قصروه لقتال التركمان، فقتل فى المعركة فى المحرم. وكان غير مشكور السيرة، وهو أخو إينال المؤيدى المعروف بأخى قشتم؛ وكلاهما ليس بشىء، من المهملين.
وتوفى الشيخ المحدّث الفاضل شهاب الدين أحمد بن موسى بن نصير المتبولى المالكى «2» فى يوم الأربعاء ثامن شهر «3» ربيع الأول، عن خمس وثمانين سنة. وقد حدّث عن عمر ابن [الحسن بن مزيد المعمر المسند الرحلة زين الدين أبى حفص المراغى الحلبى الشهير بابن] «4» أميله، وست العرب «5» ، وجماعة؛ وناب فى الحكم سنين [رحمه الله تعالى] «6»
وتوفى الشيخ شهاب الدين أحمد بن يوسف بن محمد بن الزعيفرينى «7» الدمشقى الشاعر فى شهر ربيع الأول، وكان ينظم الشعر، ويكتب المنسوب، ويتكلم فى معرفة علم الحرف «8» ، ويتكلم أيضا فى المغيبات، ومال إليه بسبب ذلك جماعة من الأكابر،

(15/141)


وأثرى «1» ، وامتحن فى سنة اثنتى عشرة وثمانمائة، وقطع الملك الناصر لسانه وعقدتين من أصابعه، ورفق به المشاعلى عند قطع لسانه فلم يمنعه ذلك من الكلام.
وكان سبب هذه المحنة أنه نظم لجمال الدين الأستادار ملحمة «2» أو همه أنها ملحمة «3» قديمة، وأنه يملك مصر؛ وبلغ ذلك الملك الناصر [فرج] «4» فأمر به ما ذكرناه.
ولما قطعت أصابعه، صار يكتب بعد موت [الملك] «5» الناصر بشماله، فكتب مرة إلى قاضى القضاة صدر الدين على [بن محمد] «6» بن الآدمى [الدمشقى] «7» الحنفى يقول:
[الطويل]
لقد «8» عشت دهرا فى الكتابة مفردا ... أصوّر منها أحرفا تشبه الدّرّا
وقد عاد خطى اليوم أضعف ما ترى «9» ... وهذا الذي يسّر الله لليسرى
فأجابه قاضى القضاة صدر الدين المذكور: [الطويل]
لئن فقدت يمناك حسن كتابة ... فلا تحتمل همّا ولا تعتقد عسرا

(15/142)


[51] وأبشر ببشر دائم ومسرّة ... فقد يسّر الله العظيم لك اليسرى «1»
وتوفى الأمير الطواشى الرومى شبل الدولة كافور الصّرغتمشى زمام دار السلطان وقد قارب الثمانين سنة من العمر، فى يوم الأحد خامس عشرين شهر «2» ربيع الآخر، وأصله من خدام الأمير صرغتمش الأشرفى، ثم أخذه الأتابك منكلى بغا الشمسى وأعتقه. وترقى إلى أن ولاه الملك الناصر فرج زمام داره، فدام على ذلك إلى أن عزل بعد موت الملك المؤيد بمرجان الخازندار الهندى، ثم أعيد إليها بعد مدة. وهو صاحب «3» التربة العظيمة بالصحراء، وبها خطبة وعمارة «4» هائلة، وله مدرسة أخرى أنشأها بخط حارة الديلم من القاهرة. وتولى بعده الزمامية الأمير الطواشى خشقدم الظاهرى الخازندار.
وتوفى الشيخ الأديب البارع المفنن بدر الدين محمد بن إبراهيم بن محمد المعروف بالبشتكى الظاهرى المذهب، فى يوم الاثنين ثالث عشرين جمادى الآخر، فجاءة «5» فى حوض الحمام. وكان من تلامذة الشيخ جمال الدين بن نباتة فى الأدب، وكان أحد الأفراد فى كثرة النسخ: كان ينسخ فى اليوم خمس كراريس، فإذا تعب اضطجع على جنبه وكتب كما يكتب وهو جالس، فكتب مالا يدخل تحت حصر، وكثيرا ما يوجد ديوان شعر ابن نباتة بخطّه «6» ؛ [ومن شعره] : «7» [الوافر]

(15/143)


وكنت إذا الحوادث دنسّتنى ... فرغت إلى المدامة والنّديم «1»
لأغسل بالكؤوس الهمّ عنى ... لأن الراح «2» صابون الهموم «3»
وكان بينه وبين ابن خطيب داريّا «4» أهاجىّ ومكاتبات، ثم بينه وبين شرف الدين عيسى العالية المعروف بعويس «5» ؛ [وفيه يقول عويس المذكور] «6» : [المتقارب]
[أ] «7» يا معشر الصّحب منّى اسمعوا ... مقالى وكسّ أخت من ينتكى
ألا فالعنوا آكلين الحشيش ... وبولوا على شارب البشتكى
قلت: والبشتكى ضرب من المسكرات مثل التّمر بغاوى والشّشش. [وله أيضا فيه] «8» :
صحبت جندى لوغيّه ... فى السكر وأنواع الشروب «9»
كيف ما أجى ألقاه سكران ... والبشتكى تحتو مكبوب
وتوفى قاضى القضاة نجم الدين عمر بن حجّى بن موسى بن أحمد بن سعد الحسبانّى السّعدى الدمشقى الشافعى، قاضى قضاة دمشق وكاتب السر بالديار المصرية، مذبوحا على فراشه ببستانه بالنّيرب «10» خارج دمشق، فى ليلة الأحد مستهل ذى القعدة، عن ثلاث

(15/144)


وستين سنة، ونسب قتله للزينى عبد الباسط، وللشريف شهاب الدين أحمد كاتب سر دمشق ثم مصر؛ وكان القاضى نجم الدين فقيها بارعا فاضلا كريما حشما وقورا، له مكارم وأفضال وسؤدد «1» ، وهو أحد أعيان أهل دمشق وفقهائهم [رحمه الله تعالى] «2» .
وقد تقدم ذكر محنته «3» عندما ولى كتابة سر مصر فى ترجمة [الملك] «4» الأشرف [هذا] «5» ، فلينظر هناك.
وتوفى الملك المنصور عبد الله ابن الملك الناصر أحمد ابن الملك الأشرف إسماعيل، صاحب اليمن فى جمادى الأولى بها، وأقيم بعده أخوه الملك الأشرف «6» إسماعيل ثم خلع بعد مدة، وأقيم بعده الملك الظاهر هزبر الدين يحيى ابن [الملك] «7» الأشرف إسماعيل فى ثالث شهر رجب؛ وقد تقدم ذكر نسبه فى ترجمة والده من هذا الكتاب فى سنة سبع وعشرين وثمانمائة «8» . وفى أيام هؤلاء الملوك، تلاشى أمر اليمن، وطمع فيها كل أحد.
وتوفى القاضى بدر الدين محمد بن محمد «9» بن محمد [بن إسماعيل بن على البدر أبو عبد الله القرشى] «10» القلقشندى الشافعى أمين الحكم بالقاهرة، فى يوم الاثنين «11» رابع عشرين المحرم؛ وكان مولده أيضا فى أول المحرم من سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وكانت لديه فضيلة وعنده مشاركة.

(15/145)


وتوفى القاضى تقي الدين محمد بن زكى الدين عبد الواحد بن عماد الدين محمد ابن قاضى القضاة علم الدين أحمد الإخنائى المالكى أحد نوّاب الحكم بالقاهرة وهو بمكة، فى ثالث ذى الحجة، عن ثلاث وستين سنة، وكان من بيت فضل وعلم ورئاسة.
[52] أمر النيل فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وخمسة أصابع؛ مبلغ الزيادة عشرون ذراعا سواء.

(15/146)


[ما وقع من الحوادث سنة 831]
السنة السابعة من سلطنة الملك الأشرف برسباى [على مصر] «1»
وهى سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة.
[و] «2» فيها توفى أمير الملأ عدرا بن نعير بن حيّار بن مهنّا مقتولا فى المحرم.
وتوفى الأمير الفقيه سيف الدين بكتمر بن عبد الله السعدى «3» ، أحد أمراء الطبلخانات بالديار المصرية، فى يوم الخميس ثالث عشر [شهر] «4» ربيع الأول، بسكنه بدار أستاذه القاضى سعد الدين إبراهيم بن غراب بخط قنطرة طقزدمر، ولم يخلّف بعده فى أبناء جنسه مثله بل ولا فى غير أبناء جنسه، لما اشتمل عليه من المحاسن: كان فاضلا دينا عاقلا شجاعا بارعا فى فنون الفروسية، انتهت إليه الرئاسة فى حمل المقيّرة «5» ورمى النّشّاب فى زمانه، هذا مع البشاشة والكرم وحسن الشكل والتواضع وحسن المحاضرة وجودة المشاركة فى كل علم وفن، مع الفصاحة فى اللغة التركية والعربية، والدين المتين والعفّة عن المنكرات والفروج؛ ولا أعرف من يدانيه فى محاسنه، فكيف يشابهه! وكان طوالا جسيما ضخما ذا قوة مفرطة، مليح الشكل، واللحية مدورة بادية الشيب، قبض مرة بأكتاف شخص من أعيان الخاصكيّة المشاهير بالقوة، وهزّه وأفلته، ثم قال له: ما بقى

(15/147)


فيك شىء يا فلان، فلم ينطق ذلك الرجل بكلمة وذهب خجلا لكثرة دعاويه، فقلت لبكتمر: هذا الذي أنت فيه من كثرة الإدمان، فقال: منذ «1» بلغت الحلم وأنا متزوج، غير أننى لا أهمل نفسى، فقلت له: هذه منح إلاهيّة. ولما مات أنعم [السلطان] «2» بطبلخانته على الأمير قجقار جغتاى السيفى بكتمر جلّق، ومات بكتمر السعدى هذا وسنه نحو خمسين «3» سنة تخمينا، وكان رومى الجنس رحمه الله تعالى.
وتوفى الأمير سيف الدين جانبك [بن عبد الله] «4» الأشرفى الدوادار الثانى وعظيم دولة أستاذه الأشرف برسباى فى يوم الخميس سابع عشرين [شهر] «5» ربيع الأول، وسنّه نحو خمسة وعشرين «6» سنة تخمينا، ودفن بمدرسته التى أنشأها بخط القربيين خارج باب زويلة على الشارع، ثم نقل منها بعد مدة إلى تربة «7» أستاذه بالصحراء، وحضر السلطان غسله ثم الصلاة عليه؛ وكان أشيع عنه أن نفسه تحدثه بالملك، فعاجلته المنية. وكان أصله من مماليك [الملك] «8» الأشرف برسباى، اشتراه صغيرا فى أيام إمرته وقاسى «9» معه خطوب الدهر أيام حبسه بقلعة المرقب وغيرها، ولما تسلطن [الملك] «10» الأشرف عرف له ذلك مع محبته له، فرقّاه وأنعم عليه بإمرة عشرة وجعله خازندارا، ثم أرسله بتقاليد الأمراء نواب الشأم: تنبك البجاسى وغيره، ثم أنعم عليه بعد حضوره بإمرة طبلخاناة، وخلغ عليه بالدوادارية الثانية عوضا عن [الأمير] «11» قرقماس الشعبانى الناصرى بحكم انتقاله إلى إمرة مائة وتقدمة ألف، فعظم فى الدولة ونالته السعادة، حتى تزايد أمره وخرج عن الحد من كثرة إنعامه وإظهار الجميل والأخذ بالخواطر، حتى ركن إليه غالب أعيان الدولة من الخاصكيّة،

(15/148)


وكثر ترداد «1» الناس إليه، وصار أكابر الدولة مثل عبد الباسط وغيره تتردد أيضا إليه «2» إلى خدمته، [إذا سمح لهم بذلك، وله عليهم الفضل] «3» ؛ وصار أمره فى نمو وزيادة، وقصده الناس من الأقطار لقضاء حوائجهم. وبينما هو «4» فى ذلك وقد اشتغل الناس به وأشير إليه بالأصابع، وقد مرض ولزم الفراش مدة ونزل [السلطان] «5» إلى عيادته مرة، ثم رسم بطلوعه إلى القلعة، فحمل إليها وتولى السلطان تمريضه، فأفاق قليلا وترعرع، فأنزل إلى داره. وكان سكنه بالدار التى فى «6» سوق القبو الحسينى «7» ، وللدار باب من حدرة البقر، وهى الآن سكن الأمير يشبك الفقيه المؤيدى؛ وعند نزوله إليها عاوده المرض، ونزل إليه ثانيا فوجده كما قيل: [السريع]
لم يبق إلا نفس خافت ... ومقلة إنسانها باهت
يرثى له الشّامت ممّا به ... يا ويح من يرثى له «8» الشّامت
[53] وبعد طلوعه مات فى تلك الليلة، فنزل السلطان إلى داره وحضر غسله- كما تقدم- والصلاة عليه.
وكان أميرا شابا حلو الشكالة، للقصر أقرب، أخضر اللون مليح الوجه صغير اللحية مدوّرها، فصيحا ذكيّا حاذقا، متحركا متجمّلا فى مركبه وملبسه وسماطه إلى الغاية، يكتب كتابة ضعيفة ويقرأ، إلا أنه كان عاريا لم يسبق له اشتغال، وما كان دأبه إلا فيما هو فيه من الأمر والنهى وتنفيذ الأمور؛ واتّهم السلطان بموته، والله أعلم بحاله.
وتوفى الشيخ المعتقد الصالح سعيد المغربى نزيل جامع الأزهر، به، فى يوم

(15/149)


الأربعاء تاسع عشر شهر ربيع الأول، بعد أن جاور بجامع الأزهر عدة سنين.
وكان للناس فيه اعتقاد كبير، وله كرامات ويقصد للزيارة والتبرك بدعائه؛ زرته غير مرة، ومات وقد علا «1» سنه وطال مرضه، وترك نحو الألفى دينار ما بين ذهب وفضة وفلوس.
وتوفى الأمير سيف الدين أزدمر [بن عبد الله] «2» من على جان الظاهرى المعروف بأزدمر شايا، فى سادس [شهر] «3» ربيع الآخر، وهو أحد أمراء حلب بعد أن تنقل فى عدة إمريات بالشأم ومصر، وصار أمير مائة ومقدم ألف بديار مصر، ثم أخرج إلى نيابة ملطية، ثم نقل إلى إمرة بحلب إلى أن مات بها. وقد تقدم التعريف بحاله عند إخراجه من مصر فى ترجمة [الملك] «4» الأشرف، ومات وسنّه نيف على خمسين سنة. وكان من سيئات «5» الدهر: لم يشهر «6» بدين ولا كرم ولا شجاعة ولا معرفة ولا عقل، مع كبر وجبروت وظلم وسوء خلق، وكان قصيرا نحيفا أصفر دميما حقيرا فى الأعين، وعدّ إخراجه من مصر [من] «7» محاسن [الملك الأشرف] «8» .
وتوفى الأمير [سيف الدين] «9» كمشبغا [بن عبد الله] «10» الجمالى الظاهرى أحد أمراء الطبلخانات بطّالا، فى يوم الجمعة رابع جمادى الأولى، وقد علا سنه؛ وكان من أكابر المماليك الظاهرية [برقوق] «11» وممن تأمّر فى أيام أستاذه. وكان تركى الجنس عاقلا فقيها ديّنا خيرا عفيفا عن المنكرات والفروج، وطالت أيامه فى الإمرة، وتولى نيابة قلعة الجبل فى الدولة الناصرية [فرج] «12» ، واستمرّ من جملة

(15/150)


أمراء الطبلخانات فى صدر من الدولة الأشرفية [برسباى] «1» إلى أن أخرج [الملك] «2» الأشرف إقطاعه، فلزم داره على أحسن وجه إلى أن مات وهو فى عشر «3» الثمانين.
وتوفى الأمير الكبير سيف الدين يشبك بن عبد الله «4» الساقى الظاهرى الأعرج «5» أتابك العساكر بالديار المصرية، فى يوم السبت ثالث جمادى الآخرة؛ وكان أصله من مماليك الملك الظاهر برقوق ومن أعيان خاصكيّته، وصار ساقيا فى أيام أستاذه الظاهر.
ثم ثار على الملك الناصر فى أيام تلك الفتن، ووقع له أمور وحروب انصاب فى بعضها بجرح أصابه، بطل منه شقته وصار يعرج منه عرجا فاحشا، ثم عوفى، وانتمى للأمير نوروز الحافظى إلى أن ولّاه نيابة قلعة حلب «6» ، إلى أن أمسكه [الملك] «7» المؤيد شيخ وحبسه بعد قتل نوروز؛ ثم نفاه إلى مكة بطّالا سنين عديدة، إلى أن استقدمه [الملك] «8» الظاهر ططر [إلى القاهرة] «9» ، ومات قبل أن ينعم عليه بإمرة؛ فأنعم عليه الملك الأشرف برسباى بإمرة مائة وتقدمة ألف عوضا عن قرمش الأعور دفعة واحدة، ثم صار أمير سلاح، ثم ولى أتابكية العساكر بعد الأمير قجق العيساوى، فاستمر على ذلك إلى أن مات [فى التاريخ المقدم ذكره] «10» .
وكان من رجال الدهر عقلا وحزما ودهاء «11» ومعرفة وتدبيرا، مع مشاركة جيدة فى الفقه والقراءات «12» ، ومعرفة تامة بفنون الفروسية وأنواع الملاعيب، كالرمح

(15/151)


والنّشاب وغيره، وكان يكتب المنسوب ويحفظ القرآن. وكانت نفسه تحدثه بأمور، فإنه كان يكثر من ذكر أخبار تيمور لنك وشدة بأسه لكونه كان أعرج «1» ، وقد صار أمره إلى ما صار، وهو الذي حسّن [للملك] «2» الأشرف الاستيلاء على بندر جدة، والقبض على حسن بن عجلان، ولو عاش لحسّن له أخذ اليمن كله «3» .
وتولى الأتابكية بعده الأمير جارقطلو [54] الظاهرى «4» .
وتوفى بدر الدين حسن كاتب سر دمشق وناظر جيشها، بها، فى يوم الأربعاء لستّ بقين من جمادى الآخرة؛ وكان أصله من سمرة دمشق، وخدم عند الأمير بكتمر جلّق نائب دمشق، ثم ترقّى إلى أن جمع له بين كتابة سر دمشق ونظر جيشها، بسفارة الأمير أزبك المحمدى الدوادار الكبير، كون أزبك كان متزوجا ببنت زوجته.
وتوفى الشيخ الإمام العالم المفنن شمس الدين محمد بن عبد الدائم بن موسى البرماوى الشافعى، أحد فقهاء الشافعية ومدرس المدرسة الصلاحية بالقدس الشريف، فى يوم الخميس ثانى عشرين جمادى الآخرة وقد أناف على ستين سنة، بعد ما أفتى وأشغل عدة سنين.
وتوفى القاضى بدر الدين حسن بن أحمد بن محمد البردينى الشافعى أحد نواب القضاة الشافعية «5» ، فى يوم الاثنين خامس عشرين [شهر] «6» رجب وقد أناف على الثمانين سنة، وكان قاضى سوء لم يشهر بعلم ولا دين.
أمر النيل [فى هذه السنة] «7» : الماء القديم ثلاثة أذرع سواء، مبلغ الزيادة:
عشرون ذراعا سواء.

(15/152)


[ما وقع من الحوادث سنة 832]
السنة الثامنة من سلطنة «1» الملك الأشرف برسباى [على مصر] «2»
وهى سنة اثنين وثلاثين وثمانمائة:
[فيها] «3» توفى الشيخ ناصر الدين محمد بن عبد الوهاب بن محمد البارنبارى «4» الشافعى أحد فقهاء الشافعية، فى ليلة الأحد حادى عشر [شهر] «5» ربيع الأول، وقد أناف على التسعين سنة، وكان بارعا فى الفقه وأصوله والعربية والحساب مشاركا فى عدة فنون، وخطب ودرّس وأفتى وأقرأ عدة سنين بدمياط والقاهرة.
وتوفى القاضى نور الدين على الصفّطى وكيل بيت المال وناظر الكسوة، فى ليلة الثلاثاء سلخ جمادى الآخرة، وكان يباشر الشهادة بديوان العلائى آقبغا التّمرازى أمير مجلس، وعند أستاذه تمراز من قبله.
وتوفى الشريف عجلان بن نعير بن منصور بن جمّاز بن منصور بن جماز بن حمّاد ابن شيحة بن هاشم بن قاسم بن مهنأ بن حسين بن مهنأ بن داود بن قاسم بن عبد الله ابن طاهر بن يحيى بن الحسين بن جعفر بن الحسين بن على بن أبى طالب رضى الله عنه، مقتولا فى ذى الحجة، بعدما ولى إمارة المدينة النبوية غير مرة.
وتوفى الأديب المعتقد نور الدين على بن عبد الله الشهير بابن عامرية، فى يوم

(15/153)


الخميس سادس عشر [شهر] «1» ربيع الآخر بمدينة التحريرية بالغربية من أعمال القاهرة؛ وكان شاعرا أديبا مكثرا، وأكثر شعره فى المدائح النبوية.
وتوفى الواعظ المذكّر شهاب الدين أحمد بن عمر بن عبد الله المعروف بالشابّ التائب بدمشق، فى يوم الجمعة ثانى عشر [شهر] «2» رجب عن نحو سبعين سنة؛ وكانت لديه فضيلة، ورحل إلى البلاد، وصحب المشايخ، ونظم الشعر على قاعدة الصوفية، وحصل له قبول تام من الناس.
وتوفى العبد الصالح شمس الدين محمد بن إبراهيم بن أحمد الصوفى، بعد ما عمى بسنين، فى ليلة الثلاثاء ثالث عشر المحرم، ومولده فى سنة تسع وأربعين.
قال المقريزى: وهو أحد من صحبته من أهل العبادة والنسك، ورأس مدة، واتصل بالملك الظاهر برقوق، وولى نظر البيمارستان المنصورى بالقاهرة، وجال فى الأقطار ورحل إلى بغداد والحجاز واليمن والهند رحمه الله تعالى «3» .
وتوفى الأمير شمس الدين محمد بن سعيد المعروف بسويدان، أحد أئمة السلطان، فى يوم الاثنين سابع صفر؛ وكان أبوه عبدا أسود، سكن القرافة وولد له ابنه هذا، وحفظ القرآن الكريم وقرأ مع الأجواق فأعجب الملك الظاهر برقوق صوته فجعله أحد أئمته، واستمر على ذلك إلى دولة [الملك] «4» الناصر فرج فولاه حسبة القاهرة، ثم عزله بعد مدة فعاد كما كان أولا، يقرأ فى الأجواق عند الناس ويأخذ الأجرة على ذلك، وصار رئيس جوقة واستقرأته «5» أنا كثيرا، وكان أسود اللون طوالا.
وتوفى الشيخ المعتقد [محمد بن عبد الله بن حسن بن الموّاز فى يوم الأحد حادى عشر ربيع الأول] «6» .

(15/154)


[وتوفى] «1» الشيخ شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عبد الله «2» الشّطنوفى الشافعى فى ليلة الاثنين سادس عشرين [شهر] «3» ربيع الأول وقد قارب الثمانين، وبرع فى الفقه والفرائض وغير ذلك ودرّس عدة سنين وانتفع به جماعة كبيرة من الطلبة.
وتوفى القاضى بدر الدين محمد بن محمد بن أحمد بن مزهر الدمشقى النابلسى كاتب السر [55] الشريف بالديار المصرية، بها، فى ليلة الأحد سابع عشرين جمادى الآخرة عن نحو الخمسين سنة؛ وكان من بيت رئاسة، ولى أبوه كتابة سر دمشق، وباشر بدر الدين هذا كتابة الإنشاء بدمشق، واتصل بخدمة الأمير شيخ المحمودى نائب دمشق.
فلما قدم شيخ إلى مصر بعد قتل [الملك] «4» الناصر فرج، قدم ابن مزهر هذا معه مع من قدم من الشاميين، ولما تسلطن شيخ ولّاه نظر الإسطبل السلطانى فدام على ذلك سنين، ثم ناب عن القاضى كمال الدين محمد بن البارزى فى كتابة السر، وقام بأعباء الديوان فى أيام علم الدين داؤد بن الكويز ومن بعده، إلى أن خلع عليه [السلطان الملك] «5» الأشرف برسباى باستقراره كاتب السر [الشريف] «6» بالديار المصرية، فباشر الوظيفة بحرمة وافرة، وأثرى «7» وكثر ماله، إلى أن مات فى التاريخ المذكور.
قال: وخلف مالا كثيرا لطمع كان فيه وشح.
وتوفى الشريف خشرم بن دوغان «8» بن جعفر بن هبة الله بن جمّاز بن منصور بن جمّاز بن شيحة الحسينى، أمير المدينة، مقتولا أيضا فى حرب فى ذى الحجة.
أمر النيل فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وسبعة أصابع، مبلغ الزيادة:
تسعة عشر ذراعا وستة عشر أصبعا.

(15/155)


[ما وقع من الحوادث سنة 833]
السنة التاسعة من سلطنة «1» [الملك] «2» الأشرف برسباى [على مصر] «3» وهى سنة ثلاث وثلاثين [وثمانمائة] : «4» فيها كان الطاعون العظيم الذي لم ندرك بمثله بمصر وقراها، بل وبغالب البلاد الشامية، حسبما ذكرناه فى ترجمة [الملك] «5» الأشرف هذا فى وقته.
وكان هذا الطاعون أعظم من هذه الطواعين كلها وأفظعها، ولم يقع بالقاهرة ومصر بعد الطاعون العام الذي كان سنة تسع وأربعين وسبعمائة «6» نظير هذا الطاعون؛ وخالف هذا الطاعون الطواعين الماضية فى أمور كثيرة، منها أنه وقع فى الشتاء وارتفع فى فصل الربيع، وكانت الطواعين تقع فى فصل الربيع وترتفع فى أوائل الصيف، وأشياء غير ذلك ذكرناها فى محلها «7» .
[وفيها] «8» توفى القاضى شرف الدين أبو الطيب محمد ابن القاضى تاج الدين

(15/156)


عبد الوهاب بن نصر الله الغزّى الأصل، المصرى، فى ليلة الأربعاء سابع عشر ربيع الأول، ودفن بالصحراء، ومات بغير الطاعون «1» ؛ ومولده فى ليلة السبت حادى عشرين ذى القعدة سنة سبع وتسعين وسبعمائة، ونشأ بالقاهرة واشتغل يسيرا وخدم الأمير ططر موقّعا «2» عدة سنين، فلما تسلطن رشحه لنظر الجيش فلم يتم له ذلك، وولى نظر الكسوة، ونظر أوقاف الأشراف، ثم نظر دار الضرب إلى أن مات. وكان شابا كريما وفيه محبة لأهل العلم والفضل «3» والصلاح، إلا أنه كان فيه حدة «4» مزاج وبادرة مع تدين وتحشّم.
وتوفى الأمير سيف الدين أزبك [بن عبد الله] «5» المحمدى الظاهرى برقوق «6» الدوادار الكبير، بالقدس بطّالا، فى يوم الثلاثاء سادس عشر [شهر] «7» ربيع الأول؛ وهو أحد المماليك الظاهرية [برقوق] «8» وترقّى إلى أن صار أمير مائة ومقدم ألف بدمشق، ثم قبض عليه [الملك] «9» المؤيد شيخ بعد واقعة نوروز وحبسه سنين، إلى أن أطلقه فى أواخر دولته، وأنعم عليه بإقطاع هيّن بدمشق أمير عشرة.
فلما أن صار الأمر إلى [الأمير] «10» ططر أنعم عليه بإمرة طبلخاناة بديار مصر، ثم صار أمير مائة ومقدم ألف، ثم رأس نوبة النّوب بعد الأمير قصروه [من تمراز] «11» فى

(15/157)


أوائل الدولة الأشرفية، ثم نقل إلى الدوادارية الكبرى بعد سودون من عبد الرحمن، لما نقل إلى نيابة دمشق بعد عصيان تنبك البجاسى، فدام فى الدوادارية إلى أن أشيع عنه أنه يريد الوثوب على السلطان، ولم يكن لذلك صحة، فأخرجه السلطان إلى القدس بطّالا، ومسفرّه الأمير قراخجا الحسنى رأس نوبة، فدام بالقدس إلى أن مات.
وكان أميرا ضخما عاقلا حشما مهابا دينا عفيفا عن المنكرات والفروج، خليقا للإمارة، وهو أحد من تولى تربيتى رحمه الله [تعالى] «1» ، ولقد كان به تجمّل فى الزمان وأهله.
وتوفى القاضى كريم الدين عبد الكريم بن سعد الدين بركة المعروف بابن كاتب جكم، ناظر الخاصّ [الشريف] «2» فى ليلة الجمعة العشرين من [شهر] «3» ربيع الأول بغير طاعون ودفن بالقرافة، وحضر السلطان الصلاة عليه بمصلاة المؤمنى؛ وتولى ابنه القاضى [56] سعد الدين إبراهيم وظيفة نظر الخاص من بعده، وقد تطاول أعناق بنى نصر الله وغيرهم إلى الوظيفة فلم يلتفت السلطان إلى أحد، وولاها لسعد الدين المذكور.
وكان القاضى كريم الدين المذكور رئيسا حشما متواضعا كريما بشوشا هيّنا ليّنا ساكتا عاقلا، باشر فى ابتداء أمره استيفاء الدولة «4» ، ثم نظر الدولة «5» ، وغيرهما من خدم أعيان الأمراء، آخرهم [الملك] «6» الأشرف برسباى، إلى أن طلبه [السلطان الملك] «7» الأشرف وولاه نظر الخاص [الشريف] «8» بعد عزل الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله عنها، واستقراره أستادارا، فى يوم الاثنين ثانى عشر جمادى الأولى سنة

(15/158)


ثمان وعشرين وثمانمائة، وكان ذلك آخر عهد بنى نصر الله بهذه الوظيفة. واستقر فى نظر الدولة من بعده أمين الدين إبراهيم بن الهيصم.
وباشر القاضى كريم الدين الوظيفة بحرمة وافرة، ونالته السعادة وعظم فى الدولة وأثرى، ومشى حال الخاص فى أيامه، حتى قيل إنه منذ ولى الخاص إلى أن توفى لم يبطل الواصل عنه يوما واحدا، مبالغة فى إقبال سعده وتيامن الناس بولايته، ومات من غير نكبة [رحمه الله تعالى] «1» .
وتوفى الأمير [سيف الدين] «2» كمشبغا بن عبد الله الفيسى المزوّق الظاهرى منفيا بدمشق، فى رابع عشر [شهر] «3» ربيع الآخر وقد ناهز الستين سنة من العمر؛ وأصله من مماليك [الملك] «4» الظاهر برقوق، ورقاه [الملك] «5» الناصر فرج إلى أن جعله أمير آخور كبيرا مدة يسيرة، ثم عزله [الملك] «6» الناصر أيضا، ثم وقع له أمور وانحطّ قدره فى دولة [الملك] «7» الأشرف برسباى، وتولى كشف البر، وساءت «8» سيرته من كثرة ظلمه وقلة دينه مع الإسراف على نفسه؛ وفى الجملة فمستراح منه ومن مساوئه.
وتوفى السيد الشريف على بن عنان بن مغامس بن رميثة، تقدّم أن اسم رميثة منجد بن أبى نمىّ، وقد ذكرنا بقية نسبه فى ترجمة الشريف حسن بن عجلان وغيره، [فلينظر هناك] «9» . وكانت وفاته بقلعة الجبل فى يوم الأحد ثالث جمادى الآخرة بالطاعون، وكانت لديه فضيلة، ويذاكر [ب] «10» الشعر وغيره.
وتوفى الأمير الكبير سيف الدين بيبغا بن عبد الله المظفّرى، وهو أمير مجلس، فى ليلة الأربعاء سادس جمادى الآخرة بالطاعون، وهو أحد أعيان المماليك الظاهرية

(15/159)


[برقوق] «1» وممن ترقى فى الدولة الناصرية [فرج] «2» حتى صار أمير مائة ومقدم ألف بالديار المصرية، وصار من يوم ذاك «3» ينتقل فى الإمرة «4» والحبوس شاما ومصرا وإسكندرية، فكان حاله أشبه بقول القائل: [المتقارب]
[و] «5» يوم سمين ويوم هزيل ... ويوم أمرّ من الحنظله
وليل «6» أبيت جليس الملوك ... وليل «7» أبيت على مزبله
إلى أن خلع عليه الأشرف [برسباى] «8» باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية بعد الأمير طرباى، فأقام على ذلك نحو ثلاث سنين أو دونها، وقبض عليه [الملك] «9» الأشرف وحبسه أيضا بالإسكندرية، وذلك لبادرة كانت فيه، ومخاشنة فى كلامه مع الملوك، مع سلامة الباطن، ولذلك كان كثيرا ما يحبس ثم يفرج عنه.
وقد تقدم التعريف بحاله عندما أمسكه [الملك] «10» الأشرف «11» فى أصل ترجمة الأشرف «12» مستوفاة، فدام بيبغا المذكور فى السجن مدة طويلة، ثم أطلقه السلطان «13» وسيّره إلى دمياط بطّالا، ثم نقله إلى القدس فلم تطل مدته، وطلبه السلطان «14» وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف، وخلع عليه باستقراره أمير مجلس.
ولما ولى إمرة مجلس، صار يقعد على ميسرة السلطان فوق أمير سلاح، مراعاة لما سبق له من الرئاسة من الأتابكية وغيرها، وكون أمير سلاح كان الأمير إينال الجكمى

(15/160)


- أحد السّيفيّة «1» - ينظره فى عينه أنه مملوك بعض خجدا شيّته «2» . وكان بيبغا «3» أميرا جليلا شجاعا مهابا مقداما، مع كرم وسلامة باطن وفحش فى خطابه، [من غير سفه على عادة جنس الأتراك، ومع هذا كله كان فيه دعابة حلوة يحتمل بها فحش خطابه وانحرافه] «4» ، وهو أعظم من رأيناه من الملوك فى أبناء جنسه [رحمه الله] «5» .
وتوفى الأمير سيف الدين بردبك [السيفى] «6» يشبك بن أزدمر المعروف بالأمير آخور، وهو أحد مقدمى الألوف بالديار المصرية فى يوم الأحد «7» عاشر جمادى الآخرة بالطاعون، وهو فى الكهولية، وكان «8» خدم بعد موت أستاذه يشبك ابن أزدمر [57] عند «9» الأمير ططر وصار أمير آخوره، فلما تسلطن ولّاه الأمير آخورية الثانية بإمرة طبلخانة دفعة واحدة، ودام على ذلك سنين إلى أن نقله [الملك] «10» الأشرف إلى إمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية؛ فدام على ذلك إلى أن مات.
وكان شابا أشقر مليح الشكل حلو الوجه معتدل القامة عاقلا حشما ساكتا كريما متواضعا وقورا، قل أن ترى العيون مثله، وهو والد صاحبنا الزينى فرج ابن بردبك أحد الحجاب بالديار المصرية.
(النجوم الزاهرة ج 15)

(15/161)


وتوفى المقام الناصرى محمد ابن السلطان [الملك] «1» الأشرف برسباى [صاحب الترجمة] «2» فى يوم الثلاثاء سادس عشرين جمادى الأولى بالطاعون وقد ناهز الاحتلام، ودفن بمدرسة والده الأشرفية بخط العنبريين من القاهرة، وأمه خوند فاطمة من أولاد تجار القرم «3» ، وكانت قبل [الملك] «4» الأشرف تحت أستاذه الأمير دقماق المحمدى.
وكان المقام الناصرى [المذكور] «5» من أحسن الناس شكلا، تظهر فيه مخايل النجابة والسكون والعقل.
وتوفى المقام الناصرى محمد ابن السلطان الملك الناصر فرج ابن [السلطان الملك الظاهر] «6» برقوق ابن [الأمير] «7» أنص [الجاركسى] «8» بسجن الإسكندرية فى يوم الاثنين حادى عشرين جمادى الآخرة بالطاعون، وله من العمر إحدى وعشرون سنة، وأمه أم ولد مولّدة تسمى عاقولة، ودفن بالإسكندرية ثم نقل منها إلى تربة جده بالصحراء فيما أظن.
وتوفى الشيخ الإمام العالم العلامة، فريد عصره ووحيد دهره، نظام الدين يحيى ابن العلامة سيف الدين يوسف بن محمد بن عيسى السيرامى الحنفى شيخ الشيوخ بالمدرسة الظاهرية البرقوقية، فى جمادى الآخرة «9» بالطاعون، وتولى مشيخة الظاهرية من بعده ولده عضد الدين عبد الرحمن، أخذها عن أبيه، وكان أبوه أخذها عن أبيه أيضا. وكان الشيخ نظام الدين إماما مفننا بارعا فى المعقول والمنقول عارفا بالمنطوق والمفهوم، مشاركا فى فنون كثيرة، وأفتى ودرّس وأشغل سنين عديدة إلى أن مات.
وتوفى السلطان الملك الصالح محمد ابن [السلطان] «10» الملك الظاهر ططر، والسلطان الملك

(15/162)


المظفّر أحمد ابن [السلطان] «1» الملك المؤيد شيخ، والخليفة المستعين بالله العباسى، الثلاثة بالطاعون، كلاهما فى إسكندرية، والصالح بقلعة الجبل، وقد تقدم ذكر ذلك فى ترجمتهم غير أننا ذكرناهم هنا فى «2» جملة من مات بالطاعون، ولهذا لم يحرر يوم وفاتهم لأنه تقدم [- انتهى] «3» .
وتوفى الأمير الطواشى زين الدين مرجان «4» الهندى المسلمى خازندار [الملك] «5» المؤيد شيخ بالطاعون فى سادس جمادى الآخرة، وكان أصله من خدام التاجر ابن مسلم المصرى «6» ، ثم اتصل بخدمة [الملك] «7» المؤيد شيخ «8» أيام إمرته واختص به، فلما تسلطن جعله خازندارا، ثم أمره بالتكلم فى وظيفة نظر الخاص عوضا عن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله فتكلّم عليها أياما. ومات المؤيد، وأعيد ابن نصر الله، ثم ولّاه الأمير ططر زماما بعد «9» أن قبض عليه بدمشق، ثم أطلقه، فدام فى وظيفة الزمامية إلى أن عزله [الملك] «10» الأشرف برسباى ونكبه وصادره «11» فتخومل «12» ولزم داره إلى أن مات. وكان من المهملين أرباب الحظوظ.
وتوفى الأمير زين الدين عبد القادر ابن الأمير فخر الدين عبد الغنى ابن الوزير

(15/163)


تاج الدين عبد الرزّاق بن أبى الفرج، بعد ما عزل عن الأستادارية، فى يوم الأربعاء سابع جمادى الآخرة بالطاعون، ودفن على أبيه بمدرسته ببين السورين «1» خارج القاهرة. وكان شابا جميلا عاقلا ساكنا قليل الشر بالنسبة إلى آبائه وأقاربه، كثير الشر بالنسبة إلى غيرهم. باشر الأستادارية بقلة حرمة وعدم التفات أهل الدولة إليه، وقاسى فى مباشرته خطوب الدهر ألوانا من العجز والقلّ وبيع موجوده وأملاكه، إلى أن أعفى فلم تطل أيامه ومات.
وتوفى السيد الشريف شهاب الدين أحمد «2» بن علاء الدين على بن إبراهيم بن عدنان الحسينى الدمشقى، كاتب السر الشريف بالديار المصرية، فى ليلة الخميس ثامن جمادى الآخرة بالطاعون، ومولده فى شوال سنة أربع وسبعين وسبعمائة بدمشق وبها نشأ، وتولى عدة وظائف بدمشق مثل كتابة السر [58] وقضاء الشافعية ونظر الجيش، ثم طلب إلى مصر وولى كتابة سرها فلم تطل أيامه ومات.
وتولى أخوه الشريف عماد الدين أبو بكر كتابة السر من بعده، فركب إلى القلعة ثم مرض من يومه قبل أن يلبس خلعة كتابة السر، ومات بالطاعون أيضا فى ليلة الجمعة ثالث عشر شهر رجب ولم يبلغ الأربعين سنة، وكان أحسن سيرة من أخيه شهاب الدين صاحب الترجمة.
وتوفى السيد الشريف سرداج بن مقبل بن نخبار «3» بن مقبل بن محمد بن راجح ابن إدريس بن حسن بن قتادة بن إدريس، ومن هنا يعرف نسبه من نسب حسن ابن عجلان؛ مات فى أواخر جمادى الآخرة بالطاعون.
وتوفى الأمير الطواشى افتخار الدين ياقوت بن عبد الله الأرغونى «4» شاوى الحبشى مقدم المماليك السلطانية بالطاعون، فى يوم الاثنين ثانى [شهر] «5» رجب

(15/164)


ودفن بتربته التى أنشأها بالصحراء، وتولى عوضه التقدمة نائبه خشقدم اليشبكى الرومى، وتولى نيابة المقدم الطواشى فيروز الركنى الرومى الجمدار. وأصل ياقوت هذا من خدام الأمير أرغون شاه أمير مجلس الظاهر برقوق، تنقل فى الخدم إلى أن صار مقدم المماليك السلطانية، وكان ديّنا خيّرا جميل الطريقة محمود السيرة، سافر أمير حاجّ المحمل مرتين رحمه الله تعالى.
وتوفى الأمير سيف الدين يشبك بن عبد الله أخو الملك الأشرف برسباى فى رابع [شهر] «1» رجب بالطاعون ودفن بالتربة الأشرفية، بعد أن صار من جملة أمراء الألوف أياما؛ فإن السلطان كان أنعم عليه فى أول قدومه إلى مصر فى حدود سنة ثلاثين وثمانمائة بإمرة طبلخاناة دفعة واحدة، فدام على ذلك إلى أن توفى الأمير بردبك الأمير آخور المقدم ذكره بالطاعون، فأنعم «2» على يشبك هذا بتقدمته فمات هو أيضا بعد أيام، وقد تقدم فى أصل ترجمة [الملك] «3» الأشرف ذكر هذا الطاعون وعظمه، وأنه كان ينتقل على الإقطاع الواحد الخمسة والستة من المماليك فى مدة يسيرة، والكل يموتون «4» بالطاعون [- انتهى] «5» .
وأظن يشبك «6» أنه كان أسنّ من السلطان الأشرف، فإنه لما استقدمه من بلاده مع جملة أقاربه «7» قام له واعتنقه، وعرض عليه الإسلام فأسلم وحسن إسلامه، وكان لا بأس به فى أمثاله مع قصر مدة إقامته بالديار المصرية.
وتوفى الشيخ نصر الله بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل العجمى الحنفى، فى ليلة الجمعة سادس [شهر] «8» رجب وهو فى عشر الثمانين. وكان جميل الهيئة مقربا من خواطر الملوك، ورشح لكتابة السر، وكان يكتب المنسوب ويتكلم فى علم التصوف

(15/165)


على طريق ابن عربى، ويعرف علم الحرف «1» على زعمه، مع مشاركة فى فنون، وصحب الوالد مدة، وهو الذي نوه بذكره وأنعم عليه برزقة «2» هائلة، وهى التى «3» أوقفها نصر الله المذكور على داره التى «4» جعلها بعد موته مدرسة بالقرب من خان الخليلى بالقاهرة.
وتوفى القاضى فخر الدين ماجد- ويدعى أيضا «5» عبد الله بن السّديد أبى الفضائل بن سناء الملك- المعروف بابن المزوّق، فى ليلة الخميس ثانى عشر [شهر] «6» رجب، بعد أن تولى نظر الجيش، ثم كتابة السر بالديار المصرية فى دولة [الملك] «7» الناصر فرج، بسفارة سعد الدين إبراهيم بن غراب، ثم عزل وتولى نظر الإسطبل

(15/166)


السلطانى ثم عزله عنه أيضا، وانحطّ قدره فى الدولة إلى أن نكبه [السلطان] «1» الملك الأشرف وأمسكه وضربه بالمقارع بسبب الأتابك جانبك الصوفى، وقاسى بسببه أهوالا «2» ثم لزم داره على أقبح حالة من الخوف والرجيف إلى أن مات.
وتوفى الشيخ الإمام العالم الفقيه زين الدين أبو بكر بن عمر بن عرفات القمنىّ «3» الشافعى العالم المشهور، فى ليلة الجمعة ثالث عشر [شهر] «4» رجب بالطاعون عن ثمانين سنة؛ وكان من أعيان فقهاء الشافعية وفضلائهم، وله سمعة وصيت وترداد للأكابر، وأفتى ودرّس بعدة مدارس سنين [كثيرة] «5» .
وتوفى الأمير سيف الدين هابيل بن عثمان المدعو قرايلك بن طرعلى التركمانى الأصل بسجنه بقلعة الجبل، فى يوم الجمعة ثالث عشر [شهر] «6» رجب المذكور. وكان قبض على هابيل [59] هذا وهو نائب لأبيه قرايلك بمدينة الرّها فى واقعة بين العساكر المصرية وبينه، حسبما تقدم ذكره كله فى أصل هذه الترجمة. ولما قبض عليه حمل إلى القاهرة فحبسه [الملك] «7» الأشرف بالبرح بقلعة الجبل، إلى أن مات بالطاعون بعد أن سأل أبوه السلطان فى إطلاقه غير مرة.
وتوفى الشيخ الإمام العالم العلامة صدر الدين أحمد ابن القاضى جمال الدين محمود ابن محمد بن عبد الله القيصرى الحنفى المعروف بابن العجمى، شيخ الشيوخ بخانقاه شيخون، فى يوم السبت رابع عشر [شهر] «8» رجب بالطاعون، بعد أن ولى نظر

(15/167)


جيش دمشق وحسبة القاهرة غير مرة، وعدة وظائف دينية، ودرّس بعدة مدارس آخرها استقراره فى مشيخة الشيخونية وتدريسها. وكان إماما بارعا فاضلا فقيها نحويا مفننا فى علوم كثيرة، معدودا من علماء الحنفية، مع الذكاء «1» وحسن التصور وجودة الفهم، رحمه الله تعالى.
وتوفى القاضى جلال الدين محمد ابن القاضى بدر الدين محمد بن مزهر فى يوم الاثنين سادس عشرين [شهر] «2» رجب ولم يبلغ العشرين سنة من العمر، وكان ولى كتابة السر بالديار المصرية [بعد وفاة أبيه أشهرا صورة، والقاضى شرف الدين أبو بكر بن العجمى نائب كاتب السر] «3» هو المتكفل بمهمات ديوان الإنشاء، إلى أن عزله السلطان وخلع عليه بعد مدة بتوقيع المقام الناصرى محمد ابن السلطان، فماتا جميعا فى هذا الطاعون. وكان جلال الدين [المذكور] «4» من أحسن الشباب شكلا «5» .
وتوفى القاضى زين الدين محمد بن شمس الدين محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الملك الدميرى المالكى فى يوم الأربعاء ثالث شعبان، بعدما ولى حسبة القاهرة ونظر البيمارستان المنصورى؛ وكان معدودا من الرؤساء.
وتوفى شمس الدين محمد بن المعلمة السكندرى المالكى فى سابع شعبان، وكان يشارك فى العربية وغيرها؛ وولى حسبة القاهرة فى وقت، وكان مسرفا على نفسه.
وتوفى الأمير مدلج بن علىّ بن نعير بن حيّار بن مهنّا أمير آل فضل مقتولا فى ثانى شوال بظاهر حلب.

(15/168)


وتوفيت خوند هاجر- زوجة [الملك] «1» الظاهر برقوق وبنت الأتابك منكلى بغا الشّمسى- فى رابع [شهر] «2» رجب، وكانت تعرف بخوند الكعكبين، [لسكنها بخط الكعكيين بالقاهرة] «3» وأمها خوند فاطمة بنت [الملك] «4» الأشرف شعبان [بن حسين بن محمد بن قلاوون] «5» وماتت وهى أعظم نساء عصرها رئاسة وعراقة.
وتوفى القاضى تقي الدين يحيى ابن العلامة شمس الدين محمد الكرمانى الشافعى فى يوم الخميس ثانى عشرين جمادى الآخرة، وكان بارعا فى عدة فنون. وقدم من بغداد قبيل سنة ثمان مائة ومعه شرح أبيه على صحيح البخارى، ثم صحب [الملك] «6» المؤيد شيخ أيام تلك الفتن، وسافر «7» معه إلى طرابلس وغيرها وتقلب معه فى سائر تقلباته، ثم قدم معه القاهرة، فلما تسلطن أقره فى نظر البيمارستان [المنصورى] «8» ، وكان ثقيل السمع، ثم عزل ولزم داره حتى مات.
أمر النيل فى هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع وثلاثة أصابع؛ مبلغ الزيادة عشرون ذراعا ونصف ذراع.

(15/169)


[ما وقع من الحوادث سنة 834]
السنة العاشرة من سلطنة الملك الأشرف برسباى [على مصر] «1»
وهى سنة أربع وثلاثين وثمانمائة.
[فيها] «2» توفى الأمير شهاب الدين أحمد الدوادار نائب الإسكندرية المعروف بابن الأقطع، بعد أن قدم القاهرة مريضا فى يوم الأحد تاسع جمادى الآخرة، وكان أبوه أوجاقيّا فى الإسطبل السلطانى، وقيل بل كان أقطع «3» يتكسب بالتّكدّى «4» ، وهو الأقرب. ونشأ ابنه أحمد هذا تبعا عند بعض الأجناد، ثم ترقى حتى خدم جنديا عند جماعة من الأمراء، إلى أن صار دوادارا ثانيا عند الأمير على باى المؤيدى، ثم اتصل بخدمة [الملك] «5» الأشرف وصار عنده دوادارا، فلما تسلطن جعله من جملة الدوادارية الصغار، واختص بالسلطان ونالته السعادة، ثم أمّره عشرة وجعله زرد كاشا «6» كبيرا، ثم نقله إلى نيابة الإسكندرية بعد عزل آقبغا التّمرازى فلم تطل مدته ومات بعد مرض طويل.
ولم أدر لأى معنى كانت خصوصية أحمد هذا وعلىّ بن فحيمة السّلاخورى «7» بالسلطان، [60] مع ما اشتملا عليه من الجهل المفرط وقبح الشكالة ودناوة الأصل. وكان

(15/170)


على السّلاخورى يبدل القاف بالهمزة كما هى عادة أو باش الناس «1» من العامة، وكان أحمد إذا تكلم أيضا يتلغّط بألفاظ العامة السوقة. وقد جالسته بالخدمة السلطانية كثيرا فلم أجد له معرفة بفن من الفنون ولا علم من العلوم، وكان إذا أخذ يتلاطف ويتذاوق يصحّف ويقول:
بتسرد شىّ؟ فأعرّفه- فيما بينى وبينه- بأنه يقول: تسرت، وأوضّح له [أنها] «2» تصحيفة تشرب، فيفهمها بعد جهد كبير. ثم إذا طال الأمر ينساها ويقولها أيضا بالدال، وأظنه «3» دام على ذلك إلى أن مات.
ومع هذا كان فى نفسه أمور، وله دعاوى بالعرفان والتّمعقل، لا سيما إذا تمثل بأمثال العامة السافلة، فيتعجب من ذلك الأتراك، ويثنى على ذوقه ومعرفته وغزير علمه وحسن تأديه فى الخطاب، وأولهم [السلطان الملك] «4» الأشرف برسباى «5» فإنه كان كثيرا ما يقتدى برأيه ويفاتحه فى الكلام، فيكلم أحمد فى أمور المملكة بكلام لا يعرف هو معناه، ويسكت من عداه من أرباب [الدولة و] «6» المعرفة، فأذكر أنا عند ذلك قول أبى العلاء المعرى حيث قال: [الطويل]
فوا عجبا كم يدّعى الفضل ناقص «7» ... ووا أسفا كم يدّعى النّقص فاضل «8»
وتوفى الشيخ الإمام العالم المفنن مجد الدين إسماعيل بن أبى الحسن على بن عبد الله البرماوى الشافعى، فى يوم الأحد خامس عشر [شهر] «9» ربيع الآخر، عن أربع وثمانين سنة. وكان إماما فى الفقه والعربية والأصول وعدة فنون، وتصدى للإقراء والتدريس عدة سنين.

(15/171)


وتوفى الصاحب الوزير تاج الدين عبد الرزاق بن إبراهيم بن الهيصم، فى يوم الخميس العشرين من ذى الحجة، بعد ما ولى الوزارة والأستادارية ونظر ديوان المفرد مرارا عديدة، وهو من بيت كبير فى الكتبة قبل إنهم من ذريّة المقوقس صاحب مصر قبل الإسلام، والله أعلم.
وتوفى الشيخ سراج الدين عمر بن منصور البهادرى الفقيه الطبيب الحنفى فى يوم السبت ثانى عشر شوال، بعد ما برع فى الفقه والنحو وانتهت إليه الرئاسة فى الطب، وناب فى الحكم عن القضاة الحنفية بالقاهرة؛ ومات ولم يخلف بعده مثله فى التقدم فى علم الطب ومتونه.
وتوفى القاضى برهان الدين إبراهيم بن علىّ بن إسماعيل- المعروف بابن الظريف- أمين الحكم بالقاهرة، فى يوم السبت خامس شوال عن نحو ستين سنة؛ وكان معدودا من بياض الناس «1» .
أمر النيل فى هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع وثلاثة أصابع؛ مبلغ الزيادة عشرون ذراعا، وكان الوفاء ثامن عشرين أبيب قبل مسرى بيومين، وهذا من خرق العادة؛ فسبحانه «2» يفعل ما يشاء ويختار «3» .

(15/172)


[ما وقع من الحوادث سنة 835]
السنة الحادية عشر [ة] من سلطنة الملك الأشرف برسباى [على مصر] «1»
وهى سنة خمس وثلاثين وثمانمائة.
[فيها] «2» توفى القاضى شرف الدين عيسى بن محمد بن عيسى الأقفهسى «3» الشافعى، أحد عظماء نواب الحكم بالديار المصرية، فى ليلة الجمعة سادس عشرين جمادى الآخرة.
ومولده فى سنة خمسين «4» وسبعمائة؛ وكان إماما فقيها بارعا فى الفقه وفروعه مشاركا فى عدة فنون، وتولى الحكم عن قاضى «5» القضاة عماد الدين الكركى فى سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة؛ وشكرت سيرته وحمدت طريقته لتحريه فى الأحكام، ولعفته عما «6» يرمى به قضاة السوء «7» ، ولقد شاهدت منه من التثبت فى أحكامه ما لم أشاهده من قضاة «8» زماننا، رحمه الله [تعالى] «9» .
وتوفى السلطان حسين بن علاء الدولة ابن السلطان أحمد بن أويس، قتيلا بيد الكافر أصبهان بن قرا يوسف التركمانى فى ثالث صفر، بعد أن حصره سبعة أشهر، حتى أخذه وقتله، وانقرضت بقتله دولة بنى أويس الأتراك من العراق «10» وصار عراقا «11» العرب والعجم بيد إسكندر بن قرا يوسف وإخوته، وهم كانوا سببا لخراب

(15/173)


تلك الممالك التى كانت كرسى الإسلام ومنبع العلوم، أعنى بنى قرا يوسف.
وتوفى القاضى شهاب الدين أحمد ابن القاضى صلاح الدين صالح بن أحمد بن عمر المعروف [61] بابن السّفّاح الحلبى الشافعى، كاتب سر حلب ثم كاتب سر مصر وبها مات، فى ليلة الأربعاء رابع عشر [شهر] «1» رمضان عن ثلاث وستين سنة، بعد أن باشر فيها كتابة «2» سر حلب سنين عديدة بعد أخيه وأبيه «3» ، وصار لشهاب الدين هذا رئاسة بحلب وتمكّن، فلما ولى كتابة سر مصر ابتلعه المنصب ولم يظهر لمباشرته نتيجة، وانحطّ قدره فى الدولة بحيث أن المصريين صاروا يسخرون منه، لأنه كان يكلم نفسه فى حال ركوبه بين الناس فى الشوارع وفى جلوسه أيضا بين الملأ بكلام كثير، ويغضب بعض الأحيان من نفسه ويشير بالضرب بيده وبلسانه من غير أن يفهم أحد كلامه، وكان يقع ذلك منه حتى فى الصلاة، ومع هذا كان فيه بعيض حدة ونزاقة، مع «4» دين وعفة وصيانة «5» ، مع أنه كانت بضاعته من العلوم مزجاة، وخطه فى غاية القبح، و «6» يظهر من كلامه عدم ممارسته للعلوم «7» .
ووقع بينه وبين قاضى القضاة عز الدين عبد العزيز بن العز البغدادى الحنبلى مفاوضة فى بعض «8» مجالس السلطان لمعنى من المعانى، فكان من جملة كلام ابن السّفّاح «9» هذا، أن قال: ريّع الوقف- وشدّد الياء- فقال عز الدين المذكور: اسكت يا مرماد «10» ، فضحك السلطان ومن حضر، وانتصف عليه الحنبلى. فلما نزلا من القلعة، سألت من عز الدين عن قوله مرماد، فقال: الأتراك كثيرا ما يلعبون

(15/174)


الشطرنج، وقد صار بينهم أن الذي لا يعرف شىء يسمى مرماد، فقصدت الكلام بما اعتادوه وعرّفتهم أنه لا يعرف شىء، وأنه جاهل بما يقول، وتم لى ما قصدته.
ولما مات ابن السّفّاح تولى كتابة السر من بعده الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ، ومع عدم أهلية الصاحب كريم الدين لهذه الوظيفة نتج فيها أمره وهابته الناس، ونفّذ الأمور أحسن من ابن السّفّاح.
وتوفى قاضى القضاة زين الدين عبد الرحمن التّفهنى «1» الحنفى «2» ، وهو غير قاض، فى ليلة الأحد ثامن شوال بعد مرض. ومولده فى سنة أربع وستين وسبعمائة «3» ، ونشأ فقيرا مملقا، واشتغل حتى برع فى الفقه والأصول والعربية وشارك فى فنون، وأفتى ودرّس وناب فى الحكم سنين كثيرة، ثم استقل بوظيفة القضاء، ولم تشكر سيرته فى ولايته لحدة كانت فيه وسوء خلقه، مع القيام فى حظّ «4» نفسه، وقصته مشهورة مع الميمونى لما كفّره التّفهنى هذا وحكم بإراقة دمه فى الملأ بالمدرسة الصالحية.
ولما حكم بإراقة [دم] «5» الميمونى [المذكور] «6» أراد ابن حجر ينفّذ حكمه، فقال «7» ابن حجر: قاضى القضاة منغاظ «8» ، حتى يسكن خلقه. وانفضّ «9» المجلس وتلاشى حكم التّفهنى؛ وعاش الميمونى بعد ذلك دهرا، بعد أن أوسعه الميمونى إساءة «10» فى المجلس، وهو يقول له: اتّق الله يا عبد الرحمن، أو نسيت قبقابك

(15/175)


الزحّاف «1» وعمامتك القطن؟ والتفهنى يصفّر ويكرر حكمه بإراقة دمه.
وكان سبب إبقاء الميمونى فى هذه القضية أنه شهّد بعض الحكماء أنه يعتريه شىء فى عقله فى الأوقات، فأبقى لذلك؛ وكان أيضا للناس فيه اعتقاد، فإنه يكثر التلاوة، ولقراءته «2» موقع فى النفوس، وعلى شيبته «3» نور ووقار؛ وأنا ممن كان يعتقده- انتهى.
وتوفى جينوس بن جاك بن بيدو بن أنطون بن جينوس «4» متملك قبرس وصاحب الواقعة مع المسلمين، وقد تقدم ذكر غزوه والظفر به وقدومه إلى مصر فى أوائل هذا الجزء مفصلا»
، ثم ذكر عوده إلى بلاده وملكه «6» ، وتولى ابنه قبرس من بعده.
وتوفى الصاحب علم الدين يحيى- المعروف بأبى كمّ القبطى- فى ليلة الخميس ثانى عشرين [شهر] «7» رمضان وقد أناف على السبعين سنة، بعد أن ولى الوزارة فى دولة [الملك] «8» الناصر فرج.

(15/176)


وكان قد حسن إسلامه وترك معاشرة النصارى وحج وجاور بمكة، وصار يكثر من زيارة الصالحين الأحياء والأموات، وانسلخ من أبناء جنسه انسلاخا كليا، بحيث أنه كان لا يجتمع بنصرانى إلا عن ضرورة عظيمة. وكان دأبه الأفعال الجميلة، «1» رحمه الله [تعالى] «2» .
أمر النيل فى هذه السنة: الماء القديم لم يظهر، فإنها حولت «3» هذه السنة إلى سنة ست وثلاثين [وثمانمائة] .
(النجوم الزاهرة ج 15)

(15/177)


[ما وقع من الحوادث سنة 836]
السنة الثانية عشرة من سلطنة الملك «1» الأشرف برسباى [على مصر] «2» وهى سنة ست وثلاثين وثمانمائة:
فيها كانت سفرة السلطان الملك الأشرف هذا إلى آمد، وعاد فى أوائل سنة سبع وثلاثين، وقد تقدم ذكر ذلك كله.
وفيها توفى قاضى القضاة شهاب الدين أحمد بن محمد بن محمد الأموى المالكى بدمشق، فى يوم الثلاثاء حادى عشر صفر؛ وكان ولى فى دولة [الملك] «3» المؤيد [شيخ] «4» قضاء المالكية بالديار المصرية، وكان قليل العلم «5» .
وتوفى التاجر نور الدين على بن جلال الدين محمد الطّنبذى «6» ، فى ليلة الجمعة رابع عشر صفر، عن سبعين سنة، وترك مالا كبيرا لم يبارك الله فيه لذريته من بعده، ولم يشهر نور الدين هذا بكرم ولا دين ولا علم.
وتوفى الأمير علاء الدين منكلى بغا الصلاحى الظاهرى المعروف بالعجمى، أحد الحجاب بالديار المصرية، فى ليلة الخميس حادى عشر [شهر] «7» ربيع الأول، بعد مرض طال به سنين؛ وكان أحد الدوادارية الصغار فى أيام أستاذه [الملك] «8» الظاهر برقوق، وتوجه رسولا إلى تيمور «9» لنك فى دولة [الملك] «10» الناصر فرج، ثم ولى حسبة القاهرة فى دولة [الملك] «11» المؤيد شيخ، ثم صار من جملة الحجاب إلى أن مات.

(15/178)


وكان فقيها صاحب محاضرة حلوة ومجالسة حسنة، ويذاكر بالشعر باللغات الثلاث «1» :
العربية والعجمية والتركية، ويكتب الخط المنسوب، ويحضر مجالس الفقراء، ويرقص فى السماع ويميل إلى التصوف، جالسته «2» كثيرا وأسعدت من محاسنه رحمه الله «3» .
وتوفى الأمير تغرى بردى بن عبد الله المحمودى الناصرى، رأس نوبة النوب أولا، ثم أتابك دمشق آخرا، من جرح أصابه فى رجله بسهم من مدينة آمد، مات منه بعد أيام قليلة بآمد، مات منه «4» فى شوال ودفن بآمد، ثم نقل منها فى سحليّة عند رحيل العسكر، وساروا به إلى الرها، فدفن بها لمشقة نالت العساكر من ظهور رائحته.
وكان أصله من مماليك [الملك] «5» الناصر فرج، وممن تأمّر فى دولة أستاذه فيما أظن. ثم انتمى للأمير نوروز الحافظى بعد موت أستاذه، إلى أن أمسكه [الملك] «6» المؤيد شيخ. وحبسه بعد قتل نوروز، فدام فى السجن سنين إلى أن أخرجه المؤيد فى أواخر دولته. فلما آل الأمر إلى الأمير ططر أنعم عليه بإمرة طبلخاناة، ثم نقل إلى تقدمة ألف بعد موت ططر. ثم صار رأس نوبة النوب بعد الأمير أزبك المحمدى بحكم انتقال أزبك إلى الدوادارية الكبرى، بعد ولاية سودون [من] «7» عبد الرحمن لنيابة دمشق، عند ما خرج تنبك البجاسى عن الطاعة. كل ذلك فى سنة ست وعشرين وثمانمائة، ودام المحمودى على ذلك سنين، سافر فيها أمير حاج المحمل، وقدم بالشريف حسن بن عجلان، ثم توجه إلى غزوة قبرس وقدم بملكها أسيرا.

(15/179)


وقد تقدم ذكر ذلك كله فى أول هذا الجزء، ثم بعد عوده من قبرس بمدة يسيرة أمسكه السلطان وحبسه بسجن الإسكندرية، ثم نقله إلى ثغر دمياط بطالا، ثم أنعم عليه بأتابكية دمشق عوضا عن قانى باى الحمزاوى، بحكم انتقال الحمراوى إلى تقدمة ألف بمصر، ثم سافر المحمودى صحبة السلطان إلى آمد، فأصيب بسهم فمات منه حسبما ذكرناه. وكان أميرا جليلا شجاعا مقداما طوالا رشيقا مليح الشكل، كثير التجمل فى ملبسه ومركبه ومماليكه، وهو أول من لبس التخافيف الكبار العالية من الأمراء، وتداول الناس ذلك من بعده حتى خرجوا عن الحد، وصارت التخفيفة الآن تلف شبه الكلفتاه حتى تصير كالطبق الهائل؛ وعندى أنها غير لائقة، وللناس فيما يعشقون مذاهب.
وتوفى الأمير [سيف الدين] «1» سودون بن عبد الله الظاهرى، المعروف سودون ميق، أحد أمراء الألوف بالديار المصرية، من جرح أصابه بآمد، من سهم من مدينتها، لزم منه الفراش أياما «2» ، ومات أيضا فى أواخر شوال.
وكان أصله من مماليك الظاهر برقوق الصغار، وصار خاصكيا، ومن جملة الدوادارية فى دولة [الملك] «3» المؤيد شيخ، ثم ترقى إلى أن صار من جملة أمراء الطبلخانات ورأس نوبة، ثم نقل إلى الأمير آخورية الثانية، كل ذلك فى دولة [الملك] «4» الأشرف برسباى، فدام على ذلك سنين، إلى أن أنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف، فاستمر على ذلك إلى أن مات. وكان متوسط السيرة فى غالب خصاله، لا بأس به، رحمه الله.
وتوفى الأمير سيف الدين جانبك بن عبد الله الحمزاوى، بعد أن ولى نيابة غزة، فمات قبل أن يصلها فى عوده من آمد، فى ذى الحجة. وكان أصله من [63] مماليك الأمير

(15/180)


سودون الحمزاوى الدوادار الكبير فى الدولة الناصرية، ثم تنقل فى الخدم من بعد أستاذه، إلى أن ولى نيابة بعض القلاع بالبلاد الشامية؛ ولما خرج قانى باى نائب الشام «1» وانضم معه غالب نواب البلاد الشامية، كان جانبك هذا ممن انضم عليه وهرب بعد مسك قانى باى مع من هرب من الأمراء إلى قرا يوسف، ثم قدم أيضا معهم على الأمير ططر بدمشق فأنعم عليه ططر بإمرة بدمشق، ثم صار حاجب حجاب طرابلس مدة سنين، ثم نقل إلى إمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية، وسافر صحبة السلطان إلى آمد، وبعد عوده خلع السلطان [عليه] «2» بحلب بنيابة غزة عوضا عن الأمير إينال العلائى الناصرى المنتقل إلى نيابة الرّها، لكونها كانت خرابا ليس بها ما يقوم بكلفته، وقد حكينا ذلك فيما سبق. وكان جانبك هذا ممن اتّهم بأنه يريد الوثوب على السلطان، فلما وصل السلطان إلى حلب أقرّه فى نيابة غزة على كره منه، فهز رأسه وأمسك لحيته بعد لبسه الخلعة «3» ، وبلغ الأشرف ذلك على ما قيل، فقال: حتى يصل إلى غزة، فمات حول بعلبك.
وكان شيخا طوالا مشهورا بالشجاعة، غير أنى لم أعرف منه إلا الإسراف على نفسه والانهماك فى السكر، وأما لفظه وعبارته ففى الغاية من الجهل والإهمال، ومر ركوبه على الفرس كنت [أعرف] «4» أنه لم يمارس أنواع الفروسية كالرمح والبرجاس وغيره، وبالجملة فإنه كان من المهملين، وقد خفف [الله] «5» بموته، عفا الله عنه.
وتوفى الأمير سيف الدين تنبك بن عبد الله، من سيّدى بك الناصرى، أحد أمراء العشرات ورأس نوبة، المعروف بالبهلوان «6» ، من جرح أصابه

(15/181)


بآمد فى شوال أيضا بها، وكان عارفا بفن الصراع من الأقوياء «1» فى ذلك، مع تكبر وشمم وادعاء زائد، وقد حكى لى عنه بعض أصحابه: أنه كان إماما فى فن الصراع، ويجيد لعب الرمح لا غير، وليس عنده من الشجاعة والإقدام بمقدار القيراط من صناعته، وأظنه صادقا فى نقله لأن سحنته [كانت] «2» تدل على ذلك.
وتوفى الملك الأشرف شهاب الدين أحمد ابن الملك العادل سليمان ابن الملك المجاهد غازى ابن المالك الكامل محمد ابن الملك العادل أبى بكر ابن الملك الأوحد عبد الله ابن الملك المعظم توران شاه ابن السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب صاحب مصر [ابن السلطان الملك الكامل محمد صاحب مصر، ابن السلطان الملك العادل أبى بكر صاحب مصر، ابن الأمير نجم الدين أيوب بن شاذى بن مروان] «3» الأيوبى صاحب حصن كيفا، قتيلا بيد أعوان قرايلك، بين آمد والحصن، وقد سار من بلده حصن كيفا، يريد القدوم على السلطان الملك الأشرف برسباى على آمد، فقتل فى طريقه غدرا، فإنه كان خرج من الحصن بغير استعداد لقتال، وإنما تهيأ للسلام على الملك الأشرف، وبينما هو فى طريقه أدركته بعض الصلوات، فنزل وتوضأ وقام فى صلاته، وإذا بالقرايلكية طرقوه هو وعساكره بغتة، وقبل أن يركب أصابه سهم قتل منه، ووجد السلطان الملك الأشرف عليه كثيرا وتأسف لموته. وكان ابتداء ملكه بحصن كيفا، بعد موت أبيه العادل فى سنة سبع وعشرين وثمانمائة، وكان فاضلا أديبا بارعا، وله ديوان شعر، ووقفت على كثير من شعره، وكتبت منه نبذة كبيرة فى ترجمته فى المنهل الصافى «4» .

(15/182)


وتولى بعده سلطنة الحصن ابنه الملك الكامل صلاح الدين خليل.
وتوفى القاضى تاج الدين عبد الوهاب بن أفتكين الدمشقى، كاتب سر دمشق بها، فى ذى القعدة، وتولى كتابة السر من بعده القاضى نجم الدين [يحيى] «1» ابن المدنى ناظر جيش حلب، قلت: لا أعرف من أحوال تاج الدين هذا شيئا، غير أننى علمت بولايته ثم بوفاته.
وتوفى الشيخ شهاب الدين أحمد بن غلام الله بن أحمد بن محمد الكوم ريشى «2» ، فى سادس عشرين [شهر] «3» صفر، وقد أناف على خمسين سنة. وكان أستاذا فى علم الميقات، ويحل التقويم من الزيج، ويشارك فى أحكام النجوم؛ ومات ولم يخلف بعده مثله فى فنونه، رحمه الله.
أمر النيل فى هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع وثلاثة أصابع؛ مبلغ الزيادة عشرون ذراعا وخمسة أصابع.

(15/183)


[ما وقع من الحوادث سنة 837]
السنة الثالثة عشرة من سلطنة الملك «1» الأشرف برسباى [على مصر] «2»
وهى سنة سبع وثلاثين وثمانمائة «3» :
وفيه [64] توفى الأمير سيف الدين مقبل بن عبد الله الحسامى الدوادار، نائب صفد بها، فى يوم الجمعة تاسع عشرين شهر ربيع الأول، وأصله من مماليك شخص يسمى حسام الدين لاجين، من أمراء دمشق أو «4» البلاد الشامية، ثم خدم عند الملك المؤيد شيخ أيام إمرته، فاختص به لغزير «5» محاسنه؛ ولما تسلطن المؤيد، جعله خاصكيّا رأس نوبة الجمداريّة، وحج على تلك الوظيفة، ثم بعد قدومه، أنعم عليه بإمرة عشرة، ثم جعله أمير طبلخاناه ودوادارا ثانيا بعد جقمق الأرغون شاوى «6» ، بحكم انتقال جقمق إلى الدوادارية الكبرى بعد انتقال آقباى المؤيدى إلى نيابة حلب بعد عصيان إينال الصصلانى، ثم بعد سنين نقله إلى الدوادارية الكبرى بعد جقمق أيضا بحكم انتقاله إلى نيابة الشام «7» بعد عزل الأمير تنبك ميق وقدومه إلى القاهرة أمير مائة ومقدم ألف، فدام مقبل على ذلك إلى أن مات الملك المؤيد، وآل الأمر إلى الأمير ططر، وأمسك قجقار القردمى فرّ مقبل المذكور من القاهرة، ومعه السيفى «8» يلخجا من مامش «9» الساقى الناصرى ومماليكه إلى جهة البلاد الشامية،

(15/184)


فعاقهم العربان أرباب الإدراك عن التوصل إلى قطيا، وقاتلوهم «1» بعد أن تكاثروا عليهم.
وكان مقبل من الشجعان، فثبت لهم ولا زال يقاتلهم وهو منهزم منهم إلى الطّينة، «2» فوجدوا بها مركبا فركبوا فيه، وتركوا ما معهم من الخيول والأثقال أخذوها العرب، وساروا فى البحر إلى الشام، واجتمع مقبل مع الأمير جقمق وصار من حزبه، ووقع له أمور ذكرناها فى ترجمة [الملك] «3» المظفر أحمد، إلى أن آل أمره أنه أمسك وحبس، ثم أطلق، وولى حجوبية دمشق.
ثم نقله [الملك] «4» الأشرف إلى نيابة صفد، بعد عصيان نائبها الأمير إينال الظاهرى ططر، فاستمر فى نيابة صفد إلى أن مات. وكان رومى الجنس شجاعا مقداما رأسا فى رمى النشاب، يضرب برميه المثل، وكان أستاذه الملك المؤيد يعجب به، وناهيك بمن كان يعجب [الملك] «5» المؤيد به من المماليك.
وتوفى قاضى القضاة شهاب الدين أحمد بن محمود بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن أبى العز الدمشقى الحنفى، المعروف بابن كشك، بدمشق، فى ليلة الخميس سابع «6» [شهر] «7» ربيع الأول، بعد أن ولى قضاء الحنفية بدمشق سنين كثيرة، وجمع بينها وبين نظر الجيش بدمشق فى بعض الأحيان، وطلب لكتابة سر مصر فأبى وامتنع واستعفى من ذلك حتى أعفى.
وكان من أعيان أهل دمشق فى زمانه، [و] «8» لم يكن فى الشاميين من يدانيه

(15/185)


فى العراقة والرئاسة، وقد رشح بعض «1» أجداده من بنى العز لخطابة جامع تنكز «2» عند ما عمره «3» تنكز «4» ، وهم بيت علم وفضل ورئاسة، ليس بالبلاد الشامية من هو أعرق منهم غير بنى العديم الحلبيين، ثم بعد بنى العز هؤلاء بنو «5» البارزى الحمويون «6» - انتهى.
وتوفى قاضى القضاة جمال الدين محمد بن على بن أبى بكر الشّيبى الشافعى المكى «7» قاضى قضاة مكة وشيخ الحجبة بباب الكعبة، بها، فى ليلة الجمعة ثامن عشرين [شهر] «8» ربيع الأول، عن نحو سبعين سنة، وهو قاض. وكان خيّرا ديّنا مشكور السيرة سمحا متواضعا بارعا فى الأدب، وله مشاركة جيدة فى التاريخ وغيره، لما «9» رآه، فإنه كان رحل إلى اليمن وغيره وجال فى البلاد، رحمه الله.
وتوفى الأمير سيف الدين آقبغا بن عبد الله الجمالى الأستادّار وهو يلى كشف البحيرة، قتيلا بيد العرب فى واقعة كانت بينه وبينهم، فى حادى عشرين [شهر] «10»

(15/186)


ربيع الآخر؛ وكان أصله من مماليك الأمير كمشبغا الجمالى أحد أمراء الطبلخانات المقدم ذكره فى سنة ثلاث وثلاثين، وكان يسافر إلى إقطاعه، ثم تعانى البلص «1» ولا زال يترقى إلى أن ولى الكشف بعدة أقاليم، ثم ولى الأستادّارية مرتين حسبما تقدم ذكره. كل ذلك فى حياة أستاذه كمشبغا الجمالى، ونكب فى ولايته الثانية وامتحن وضرب وصودر، ثم سافر مع [الملك] «2» الأشرف إلى آمد فظهر منه هناك شجاعة وإقدام فى قتال القرايلكية؛ فأنعم عليه السلطان بإقطاع تنبك البهلوان بعد موته، ثم ولاه بعد قدومه [65] إلى مصر كشف [الوجه] «3» القبلى، ثم نقله إلى كشف الوجه البحرى فقتل هناك.
وكان وضيعا من الأوباش، لا يشبه فعله أفعال المماليك فىّ حركاته وسكونه ولا فى قتاله، على أنه كان مشهورا بالشجاعة، وشجاعته كانت مشتركة بجنون وسرعة حركة، وكان أهوج «4» قليل الحشمة، ليس عليه رونق ولا أبّهة؛ وكان إذا تكلم يكرر فى كلامه اسم «دا» غير مرة. بحيث أنه كان يتكلم الكلمة الواحدة ثم يقول اسم «دا» ، وفى الجملة أنه كان من الأوغاد، ولولا أنه ولى الأستادارية ما ذكرته فى هذا الكتاب ولا غيره.
وتوفى الأمير الكبير سيف الدين جارقطلو «5» بن عبد الله الظاهرى أتابك العساكر بالديار المصرية، ثم كافل المملكة الشامية بها، فى ليلة الاثنين تاسع عشر

(15/187)


[شهر] «1» رجب، وهو فى عشر السبعين، وأصله من مماليك [الملك] «2» الظاهر برقوق، ومن إنيات «3» سودون الماردانى، وتأمّر فى الدولة الناصرية، ثم ولى فى الدولة المؤيدية نيابة حماه، ثم نيابة صفد، ثم أعاده الأمير ططر إلى نيابة حماه ثانيا بعد إنيه تنبك البجاسى لما نقل إلى نيابة طرابلس، فدام بحماه إلى أن نقله [الملك] «4» الأشرف إلى نيابة حلب بعد إنيه تنبك البجاسى أيضا، لما نقل تنبك إلى نيابة الشام «5» ، بعد موت تنبك ميق، فدام جارقطلو فى نيابة حلب إلى أن عزله [الملك] «6» الأشرف، واستقدمه إلى القاهرة أمير مائة ومقدم ألف، ثم خلع عليه باستقراره أمير مجلس، ثم نقله إلى الأتابكية بالديار المصرية بعد موت الأمير يشبك الساقى الأعرج، فدام على ذلك سنين إلى أن ولاه [الملك] «7» الأشرف نيابة دمشق بعد عزل سودون من عبد الرحمن عنها، واستقر سودون من عبد الرحمن أتابكا عوضه «8» فاستمر على نيابة دمشق إلى أن مات فى التاريخ المقدم ذكره.
وكان أميرا جليلا مهابا شهما متجملا فى جميع أحواله، وكان قصيرا بطينا أبيض الرأس واللحية، وفيه دعابة وهزل مع إسراف على نفسه، وسيرته «9» مشكورة

(15/188)


فى ولايته؛ قلت: كان ظلمه على نفسه لا على غيره، والله تعالى يسامحه بمنه وكرمه.
وكان له خصوصية زائدة عند [الملك] «1» الأشرف برسباى، بحيث أنى سمعته مرارا يبالغ فى شىء «2» لا يفعله بقوله: لو سألنى جارقطلو فى هذا ما فعلته؛ وكان إذا جلس قاضى القضاة بدر الدين العينى عند السلطان فى ليالى الخدم، وأخذ فى قراءة شىء من التواريخ، يشير إليه السلطان بحيث لا يعلم جارقطلو، فينتقل بما هو فيه إلى شىء من الوعظيات، ويأخذ فى التشديد على شرّاب «3» الخمر وما أشبه ذلك، ويبالغ فى حقهم، والأشرف أيضا يهوّل الأمر ويستغفر، فإذا زاد عن الحد يقول جارقطلو: [يا قاضى] «4» ، ما تذكر إلا شربة الخمر وتبالغ فى حقهم بأنواع العذاب؟
ليش ما تذكر «5» القضاة وأخذهم الرشوة والبراطيل وأموال الأيتام «6» ؟ ... يقول ذلك بحدة وانحراف حلو، فلما يسمع [الملك] «7» الأشرف كلامه يضحك وينبسط هو وجميع أمرائه؛ وكان يقع له أشياء كثيرة من ذلك- انتهى.
«8» وتوفى السيد الشريف رميثة بن محمد بن عجلان مقتولا خارج مكة فى خامس رجب بعد أن ولى إمرة مكة فى بعض الأحيان، فلم تحمد سيرته وعزل «9» .
وتوفى الشيخ الإمام الأديب الشاعر المفنن تقي الدين أبو بكر بن على بن حجّة- بكسر الحاء المهملة- الحموى الحنفى الشاعر المشهور، صاحب القصيدة البديعية «10» وشرحها وغيرها من المصنفات. مات بحماه، فى خامس عشرين شعبان، ومولده

(15/189)


سنة سبع وسبعين وسبعمائة. وكان أحد ندماء الملك «1» المؤيد وشعرائه وأخصائه، وولى إمامة «2» عدة وظائف دينية، وعظم فى الدولة، ثم خرج من مصر بعد موت [الملك] «3» المؤيد إلى مدينة حماه واستوطنها؛ إلى أن مات بها. وكان بارعا فى الأدب «4» ونظم القريض وغيره من ضروب الشعر، مفننا لا يجحد فضله إلا حسود؛ ومن شعره مضمّنا مع حسن التورية: [الرجز]
سرنا وليل شعره منسدل ... وقد غدا بنومنا مضفّرا
فقال صبح ثغره مبتسما ... عند الصباح يحمد القوم السّرى «5»
«6» وله عفا الله عنه «7» : [الخفيف]
فى سويداء مقلة الخبّ نادى «8» ... جفنه وهو يقنص الأسد صيدا
لا تقولوا ما فى السّويدا رجال ... فأنا اليوم من رجال سويدا «9»
قلت: وهذا بعكس ما قاله ابن نباتة والصلاح الصفدى؛ فقول ابن نباتة:
[السريع]
من قال بالمرد فإنى امرؤ «10» ... إلى النسا ميلى ذوات الجمال
ما فى سويدائى إلا النسا «11» ... ما حيلتى؟ ما فى السّويدا رجال!

(15/190)


[وقول الصفدى:
المقلة الكحلاء «1» أجفانها ... ترشق فى وسط فؤادى نبال
وتقطع الطّرق «2» على سلوتى ... حتى حسبنا فى السّويدا رجال] «3»
ومن نظم الشيخ تقي الدين [أيضا] ، قوله: [المنسرح]
أرشفنى ريقه وعانقنى ... وخصره يلتوى من الرّقه
فصرت من خصره وريقته ... أهيم بين الفرات والرّقّة «4»
ومما كتب إليه قاضى القضاة صدر الدين على بن الآدمى الحنفى، مضمّنا لشعر امرئ القيس: [الطويل]
أحنّ إلى تلك السجايا وإن نأت ... حنين أخى ذكرى حبيب ومنزل
وأذكر ليلات بكم قد تصرّمت ... بدار حبيب لا بدارة جلجل «5»
شكوت إلى الصّبر «6» اشتياقى فقال لى: ... ترفّق ولا تهلك أسى وتجمّل «7»
فقلت له:
إنى عليك معوّل ... وهل عند ربع دارس من معوّل؟
فأجابه الشيخ تقي الدين بن حجّة المذكور بقوله:
سرت نسمة منكم إلىّ كأنّها ... بريح الصبّاجاءت «8» بريّا القرنفل «9»

(15/191)


فقلت لليلى مذ بدا صبح طرسها: ... ألا أيّها الليل الطويل ألا أنجل
ورقّت فأشعار امرئ القيس عندها ... كجلمود صخر حطّه السيل من عل
فقلت «1» :
قفا نضحك لرقّتها على «2» ... «قفانبك من ذكرى حبيب ومنزل»
وتوفى ملك الغرب «3» وسلطانها، أبو فارس عبد العزيز [المتوكل] «4» ابن أبى العباس أحمد بن محمد بن أبى بكر بن يحيى «5» بن إبراهيم بن يحيى بن عبد الواحد ابن عمر الهنتاتى الحفصى، فى رابع عشر ذى الحجة، عن ست وسبعين سنة، بعد أن خطب له بقابس وتلمسان وما والاهما من المدن والقرى، إحدى وأربعين سنة وأربعة أشهر وأياما «6» .
وكان خير ملوك زمانه شجاعة ومهابة وكرما وجودا وعدلا وحزما وعزما ودينا، وقام من بعده فى الملك حفيده المنتصر أبو عبد الله محمد ابن الأمير أبى عبد الله محمد بن أبى فارس المذكور.
وتوفى سلطان بنجالة «7» من بلاد الهند، جلال الدين أبو المظفر محمد بن فندو؛

(15/192)


وكان فندو يعرف بكاس. كان أبوه «1» فندو المذكور كافرا، فأسلم جلال الدين هذا، وحسن إسلامه، وبنى الجوامع والمساجد [وعمّر] «2» أيضا ما خرب فى أيام أبيه، من المدن، وأقام شعائر الإسلام، وأرسل بمال إلى مكة، وبهدية إلى مصر، وطلب من الخليفة المعتضد بالله [أبى الفتح داؤد] «3» تقليدا بسلطنة الهند، فبعث إليه الخليفة [الخلعة] «4» والتشريف مع بعض الأشراف، فوصلت الخلعة إليه ولبسها، ودام بعدها إلى أن مات؛ وأقيم بعده ولده المظفّر أحمد شاه، وعمره أربع عشرة «5» سنة.
وتوفى صاحب بغداد شاه محمد بن قرا يوسف بن قرا محمد، فى ذى الحجة مقتولا على حصن من بلاد القان شاه رخ بن تيمور لنك، يقال له شنكان، وأقيم بعده على ملك بغداد أميرزه علىّ [ابن] «6» أخى قرا يوسف. وكان شاه محمد المذكور ردىء [67] العقيدة يميل إلى دين النصرانية- قبّحه الله ولعنه- وأبطل شعائر الإسلام من دار السلام وغيرها بممالكه، وقتل العلماء وقرّب النصارى، ثم أبعدهم، ومال إلى دين المجوس وأخرب البلاد وأباد العباد، أسكنه الله سقر ومن يلوذ به من إخوته وأقاربه ممن هو على اعتقاده ودينه.
وتوفى الشيخ الإمام أبو الحسن على بن حسين بن عروة بن زكنون «7» الحنبلى الزاهد الورع فى ثانى جمادى الآخرة خارج دمشق، وقد أناف على الستين سنة، وكان فقيها عالما، شرح مسند الإمام أحمد، وكان غاية فى الزهد والعبادة والورع والصلاح «8» ، رحمه الله.
أمر النيل فى هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع وثلاثة أصابع؛ مبلغ الزيادة:
سبعة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا.
(النجوم الزاهرة ج 15)

(15/193)


[ما وقع من الحوادث سنة 838]
السنة الرابعة عشرة من سلطنة الملك الأشرف برسباى [على مصر] «1»
وهى سنة ثمان وثلاثين وثمانمائة:
[فيها] «2» توفى سلطان كربرجه «3» من بلاد الهند شهاب الدين أبو المغازى أحمد شاه بن أحمد بن حسن شاه بن بهمن فى شهر [رجب] «4» بعد ما أقام فى ملك كربرجه أربع عشرة «5» سنة. وتسلطن من بعده ابنه ظفر شاه، واسمه أيضا أحمد؛ وكان السلطان شهاب الدين هذا من خير ملوك زمانه «6» وله مآثر بمكة معروفة، رحمه الله تعالى «7» .
وتوفى الأمير الكبير سيف الدين طرباى بن عبد الله الظّاهرى جقمق نائب طرابلس، فى بكرة نهار السبت رابع شهر رجب «8» ، من غير مرض، فجأة،

(15/194)


بعد صلاة الصبح وهو جالس بمصلاه؛ وقد تقدم من ذكره نبذة كبيرة فى ترجمة الملك الصالح محمد بن ططر، بما وقع له مع جانبك الصوفى، ثم مع الملك الأشرف، حتى قبض عليه وحبسه بالإسكندرية مدة طويلة، ثم أخرجه إلى القدس، ثم ولاه نيابة طرابلس، فدام به إلى أن مات.
وكان أميرا ضخما جميلا شهما مقداما ديّنا خيّرا معظّما فى الدول، لم يشهر عنه تعاطى شىء من القاذورات، غير أنه كان يقتحم الرئاسة، وفى أمله أمور، فمات قبلها. وهو أحد أعيان المماليك الظاهرية [برقوق] «1» ورؤوس الفتن فى تلك الأيام، وكان أكبر منزلة من [الملك] «2» الأشرف برسباى قديما وحديثا، وكان بينهما صحبة أكيدة عرفها له الأشرف، وأخرجه من السجن وولاه طرابلس، ولو كان غيره ما فعل معه ذلك، لما سبق بينهما من التشاحن على الملك- انتهى.
وتوفى السلطان أميرزه إبراهيم بن القان معين الدين شاه رخ ابن الطاغية تيمور [لنك] «3» كوركان «4» ، صاحب شيراز، فى شهر رمضان. وكان من أجل ملوك جغتاى «5» وأعظمهم؛ كان يكتب الخط المنسوب إلى الغاية فى الحسن، يقارب فيه ياقوتا المستعصمى «6» ، ووجد عليه أبوه «7» شاه رخ كثيرا، وكذلك أهل شيراز.
ثم فى السنة أيضا «8» ، توفى «9» أخوه «10» باى سنقر بن شاه رخ بن تيمور

(15/195)


صاحب مملكة كرمان، فى العشر الأول من ذى الحجة. وكان باى سنقر ولىّ عهد أبيه «1» شاه رخ فى الملك، وهو أشجع أولاد شاه رخ وأعظمهم إقداما وجبروتا «2» ، وهو والد من بقى الآن من ملوك جغتاى بممالك العجم، وهم: بابور وعلاء الدولة ومحمد، والجميع أولاد باى سنقر هذا، تولى تربيتهم جدتهم كهرشاه خاتون لمحبتها لأبيهم باى سنقر دون جميع أولادها، ولهذا المعنى كان قدّمه شاه رخ على ولده ألوغ بك صاحب سمرقند، كل ذلك لميل زوجته كهرشاه إليه، على أن ألوغ بك أيضا، ولدها بكرّيها، غير أنها ما كانت تقدّم على باى سنقر أحدا من أولادها- انتهى.
وتوفى الشريف زهير بن سليمان بن ريان بن منصور بن جمّاز «3» بن شيحة الحسينى، فى محاربة كانت بينه وبين أمير المدينة النبوية مانع بن على بن عطية بن منصور ابن جمّاز بن شيحة، فى شهر رجب، وقتل معه عدة من بنى حسين. وكان زهير المذكور من أقبح الأشراف سيرة «4» ، كان خارجا عن الطاعة، ويخيف «5» السبيل، ويقطع الطريق ببلاد نجد والعراق وأرض الحجاز فى جمع كبير، فيه نحو الثلاثمائة فارس وعدة رماة بالسهام «6» ، وأعيا الناس أمره، إلى أن أخذه الله وأراح الناس منه.
وتوفى الحطّىّ ملك الحبشة الكافر صاحب أمحرة من بلاد الحبشة «7» ، وممالكه متسعة [68] جدا بعد أن وقع له مع السلطان سعد الدين صاحب جبرت حروب.
أمر النيل فى هذه السنة: الماء القديم «8» خمسة أذرع واثنان وعشرون إصبعا؛ مبلغ الزياده: عشرون ذراعا وثمانية عشر إصبعا.

(15/196)


[ما وقع من الحوادث سنة 839]
السنة الخامسة عشرة من سلطنة الملك «1» الأشرف برسباى [على مصر] «2»
وهى سنة تسع وثلاثين وثمانمائة:
[وفيها] «3» توفى ملك تونس من بلاد إفريقية بالمغرب، السلطان المنتصر بالله أبو عبد الله محمد ابن الأمير أبى عبد الله محمد ابن السلطان أبى فارس عبد العزيز، المقدم ذكره، ابن أحمد الهنتاتى الحفصى «4» ، فى يوم الخميس حادى عشرين صفر «5» بتونس. وكان ملك بعد جده أبى فارس، فلم يتهنّ بالملك لطول مرضه، وكثرت الفتن فى أيامه وعظم سفك الدماء، إلى أن مات. وأقيم فى مملكة تونس من بعده أخوه شقيقه عثمان، فقتل عدة من أقاربه وغيرهم.
وكان من خبر المنتصر أنه ثقل فى مرضه حتى أقعد، وصار إذا سار إلى مكان يركب فى عمّاريّة «6» على بغل، وتردد كثيرا فى أيام مرضه إلى قصره خارج تونس للنزهة به، إلى أن خرج يوما ومعه أخوه أبو عمرو عثمان المقدم ذكره، وهو يوم ذاك صاحب قسطنطينة، وقد قدم عليه [الخبر] «7» وولاه الحكم بين الناس، ومعه أيضا القائد محمد الهلالى، فصار لهما مرجع أمور الدولة بأسرها، وحجبا «8» المنتصر هذا عن كل أحد. فلما صارا معه فى هذه المرة إلى القصر المذكور، تركاه به، وقد أغلقا عليه، يوهمان أنه نائم، ودخلا المدينة. واستولى أبو عمرو عثمان المقدم ذكره على تخت الملك، ودعا الناس إلى طاعته ومبايعته، والهلالىّ قائم بين يديه،

(15/197)


فلما ثبّت دولته، قبض أيضا على الهلالىّ وسجنه وغيّبه عن كل أحد. ثم التفت إلى أقاربه، فقتل عمّ أبيه وجماعة كبيرة من أقاربه، فنفرت عنه قلوب الناس، وخرج عليه الأمير أبو الحسن ابن السلطان أبى فارس عبد العزيز متولى بجاية وحاربه، ووقع له معه أمور يطول شرحها، إلى أن مات أبو عمرو المذكور حسبما يأتى ذكره فى محله؛ وأما المنتصر فإنه قتل بعد خلعه بمدة، وقيل مات من شدة القهر.
[وفيها] «1» توفى قاضى القضاة الشريف ركن الدين عبد الرحمن بن على بن محمد الحنفى الدمشقى، المعروف بدخان «2» ، قاضى قضاة دمشق بها، فى ليلة الأحد سابع المحرم، وقد أناف على ستين سنة؛ وكان فقيها حنفيا ماهرا بارعا فى معرفة فروع مذهبه، وله مشاركة فى عدة فنون، ونشأ بدمشق، وبها تفقّه وناب فى الحكم، ثم استقلّ بالقضاء [بعد موت ابن الكشك] «3» ، وحمدت سيرته، وهو ممن ولى القضاء بغير سعى ولا بذل، ولو لم يكن من «4» محاسنه إلا ذاك لكفاه فخرا، مع عريض جاهه بالشرف.
وتوفى التاج بن سيفا الشّوبكى الدمشقى القازانى الأصل، والى القاهرة، فى ليلة الجمعة حادى عشرين «5» [شهر] «6» ربيع الأول بالقاهرة، وقد أناف على ثمانين سنة، وهو مصرّ على المعاصى والإسراف على نفسه وظلم غيره، والتكلم بالكفريات. وكان من قبائح الدهر، ومن سيئات [الملك] «7» المؤيّد شيخ [المحمودى] «8» ، لما اشتمل عليه من المساوئ؛ وقد ذكر المقريزى عنه أمورا شنعة،

(15/198)


واستوعبنا نحن أيضا أحواله فى ترجمته من تاريخنا «المنهل الصافى «1» [والمستوفى بعد الوافى] » «2» . وكان «3» من جملة ما قاله الشيخ تقي الدين المقريزى [رحمه الله] «4» فى حقه: وكان وجوده عارا على بنى آدم قاطبة؛ قلت: وهو من قبيل من قيل فى حقه: [الكامل]
قوم إذا صفع النعال قذالهم «5» ... قال النعال: بأى ذنب نصفع؟
وتوفى الأمير سيف الدين قصروه بن عبد الله من تمراز الظاهرى، نائب دمشق، فى ليلة الأربعاء ثالث [شهر] «6» ربيع الآخر، وكان أصله من مماليك [الملك] «7» الظاهر برقوق من إنيات جرباش الشيخى من طبقة الرّفرف، وترقى بعد موت أستاذه الظاهر، إلى أن صار من جملة أمراء العشرات، ثم أمسكه [الملك] «8» المؤيد وحبسه مدة، ثم أطلقه فى أواخر دولته، ولما آل التحدث فى المملكة للأمير ططر، أنعم على قصروه المذكور بإمرة مائة وتقدمة ألف، ثم صار رأس نوبة النّوب، ثم أمير آخور كبيرا فى أواخر دولة الملك الصالح محمد بن ططر، ودام على ذلك سنين، إلى أن نقله السلطان [الملك الأشرف] «9» برسباى «10» إلى نيابة طرابلس [69] بعد عزل إينال النّوروزى وقدومه القاهرة على إقطاع قصروه المذكور، واستقر فى الأمير آخورية بعده الأمير جقمق العلائى، فدام قصروه على نيابة طرابلس سنين،

(15/199)


ثم نقل [بعد سنين] «1» إلى نيابة دمشق، بعد موت الأتابك جارقطلو أيضا، فدام فى نيابة دمشق إلى أن مات فى التاريخ المقدم ذكره.
وكان أميرا عاقلا مدبرا سيوسا معظّما فى الدول، وهو أحد من أدركناه من عظماء الملوك ورؤسائهم «2» ، وهو أحد من كان سببا لسلطنة [الملك] «3» الأشرف برسباى، وأعظم من قام معه حتى وثب على الملك، وهو أيضا أستاذ كل من «4» يدعى بالقصروى، لأننا لا نعلم أحدا سمى بهذا الاسم، ونالته السعادة غيره، وتولى بعده نيابة دمشق الأمير إينال الجكمى.
وتوفى الأمير فخر الدين عثمان المدعو قرايلك ابن الحاج قطلبك، ويقال: قطبك ابن طرعلى التركى الأصل التركمانى صاحب ماردين وآمد وأرزن وغيرها «5» من ديار بكر، فى خامس صفر، بعد أن انهزم من إسكندر بن قرا يوسف، وقصد قلعة أرزن فحيل بينه وبينها، فرمى بنفسه فى خندق المدينة لينجو بمهجته فوقع على حجر فشج دماغه «6» ، ثم حمل إلى أرزن فمات بها بعد أيام، وقيل بل غرق فى خندق المدينة، ومات وقد ناهز المائة سنة من العمر فدفن خارج»
مدينة أرزن الروم، فنبش إسكندر عليه وقطع رأسه وبعث بها إلى الملك الأشرف، فطيف بها، ثم علقت أياما.
وكان أصل أبيه من أمراء الدولة الأرتقيّة الأتراك «8» ، ونشأ ابنه عثمان هذا

(15/200)


بتلك البلاد، ووقع له مع ملوك الشرق وقائع، ثم اتصل بخدمة تيمور لنك، وكان جاليشه «1» لما قدم إلى البلاد الشامية فى سنة ثلاث وثمانمائة، وطال عمره ولقى منه أهل ديار بكر وملوكها شدائد، لا سيما ملوك حصن كيفا الأيوبية، فإنهم كانوا معه فى ضنك «2» وبلاء، وتداول حروبه وشروره مع الملوك سنين طويلة، وكان صبّارا على القتال، طويل الروح على محاصرة القلاع والمدن، يباشر الحروب بنفسه.
ومع هذا كله لم يشهر بشجاعة، وكان فى الغالب ينهزم ممن يقاتله، ثم يعود إليه غير مرة حتى يأخذه إما بالمصابرة أو بالغدر والحيلة، وكذا وقع له مع القاضى برهان الدين أحمد صاحب سيواس «3» ، ومع بير عمر «4» حتى قتلهما. ومع هذا «5» ، إنه كان من أشرار «6» الملوك، غير أنه خير من بنى قرا يوسف، لتمسّكه بدين الإسلام، واعتقاده فى الفقراء والعلماء. ولما مات خلّف عدة أولاد [وأولاد الأولاد] «7» ، وهم إلى الآن ملوك ديار بكر، وبينهم فتن «8» وحروب تدوم «9» بينهم إلى أن يفنوا جميعا إن شاء الله تعالى «10» .

(15/201)


وتوفى الشريف مانع بن عطية بن منصور بن جمّاز بن شيحة الحسينى أمير المدينة النبوية؛ وقد خرج للصيد خارج المدينة فى عاشر جمادى الآخرة، وثب عليه الشريف حيدر بن دوغان بن جعفر بن هبة الله بن جماز بن منصور بن شيحة وقتله بدم أخيه خشرم بن دوغان [بن جعفر بن هبة الله بن جماز بن منصور الحسينى] أمير المدينة.
وكان [الشريف] «1» مشكور السيرة، غير أنه كان على مذهب القوم «2» .
وتوفى الشيخ المسلّك زين الدين أبو بكر بن محمد بن علىّ الخافى الهروى العجمى، فى يوم الخميس ثالث شهر رمضان بمدينة هراة «3» ، فى الوباء، وكان أحد أفراد زمانه. و «خاف» «4» : قرية من قرى «5» خراسان بالقرب من مدينة هراة؛ قلت: وفى الشيخ زين الدين نادرة: وهى «6» أنه عجمى واسمه أبو بكر، وهذا من الغرائب، ومن لم يستغرب ذلك يأت «7» بعجمى يكون اسمه أبا بكر أو عمر، سنّيّا كان أو شيعيّا «8» .
وتوفى القاضى بدر الدين محمد بن أحمد بن عبد العزيز، أحد أعيان الفقهاء الشافعية ونواب الحكم، المعروف بابن الأمانة، فى ليلة الثلاثاء ثالث عشر شعبان ومولده فى سنة اثنتين وستين وسبعمائة تخمينا، وكان فقيها بارعا فى الفقه والأصول والعربية، كثير الاستحضار لفروع مذهبه، وأفتى ودرّس سنين، وناب فى الحكم مدة طويلة، وشكرت سيرته، وكان فى لسانه مسكة تمنعه عن سرعة الجواب «9» ، رحمه الله.

(15/202)


وتوفيت «1» خوند جلبان بنت يشبك ططر الجاركسية زوجة [السلطان] «2» الملك الأشرف [برسباى] «3» ، وأمّ ولده [الملك] «4» العزيز يوسف، فى يوم الجمعة ثانى شوال، بعد مرض طويل، ودفنت بتربة السلطان [الملك] «5» الأشرف بالصحراء خارج الباب المحروق «6» . كان [الملك] «7» الأشرف اشتراها فى أوائل سلطنته واستولدها ابنه الملك العزيز يوسف [70] ، فلما ماتت خوند الكبرى أمّ ولده محمد المقدم ذكرها تزوجها السلطان وأسكنها قاعة العواميد، فصارت خوند الكبرى ونالتها السعادة. وكانت جميلة عاقلة حسنة «8» التدبير، ولو عاشت إلى أن ملك ابنها لقامت بتدبير دولته أحسن قيام.
وتوفى أحمد جوكى ابن القان معين الدين شاه رخ بن «9» تيمور لنك، فى شعبان، بعد مرض تمادى به عدة أيام، فعظم مصابه على أبيه شاه رخ «10» ووالدته كهرشاه خاتون، فإنهما فقدا ثلاثة أولاد ملوك فى أقل من سنة، وهم: السلطان إبراهيم صاحب شيراز، وباى سنقر صاحب كرمان المقدم ذكرهما فى السنة الخالية، وأحمد جوكى هذا فى هذه السنة.
وتوفى السلطان ملك بنجالة من بلاد الهند، الملك المظفّر شهاب «11» الدين أحمد شاه ابن السلطان جلال الدين محمد «12» شاه بن فندوكاس، فى شهر ربيع الآخر،

(15/203)


وثب عليه مملوك أبيه كالو، الملقب مصباح خان ثم وزير خان، وقتله واستولى على بنجالة؛ وقد تقدم وفاة «1» أبيه فى سنة سبع «2» وثلاثين وثمانمائة [من هذا الكتاب] «3» .
أمر النيل فى هذه السنة: الماء القديم أحد عشر ذراعا وعشرة أصابع؛ مبلغ الزيادة: عشرون ذراعا ونصف ذراع «4» .

(15/204)


[ما وقع من الحوادث سنة 840]
السنة السادسة عشرة من سلطنة الملك الأشرف برسباى [على مصر] «1» وهى سنة أربعين وثمانمائة:
[فيها] «2» كانت الواقعة بين الأمير خجا سودون أحد أمراء السلطان، وبين الأتابك جانبك الصوفى، وانكسر جانبك، وأمسك قرمش الأعور الظاهرى وكمشبغا أمير عشرة، وقتلا حسبما تقدم ذكرهما فى ترجمة [الملك] «3» الأشرف.
وكان قرمش [المذكور] «4» من أعيان المماليك الظاهرية [برقوق] «5» وترّقى حتى صار أمير مائة ومقدم ألف بالديار المصرية، وانضم على جانبك الصوفى أولا وآخرا، وقبض عليه [الملك] «6» الأشرف وحبسه بالإسكندرية، ثم أطلقه وأرسله إلى الشام أمير مائة ومقدم ألف بها.
فلما عصى البجاسى صار من حزبه، ثم اختفى بعد كسرة البجاسى إلى أن ظهر، لما سمع بظهور جانبك الصوفى وانضم عليه وصار من حزبه، إلى أن واقع خجا سودون وانكسر وقبض عليه.
وأما كمشبغا أمير عشرة فإنه كان أيضا من المماليك الظاهرية [برقوق] «7» ومن جملة أمراء حلب، فلما بلغه خروج جانبك الصوفى سار إليه وقام بنصرته، وقد تقدم ذكر ذلك كله، غير أننا نذكره هنا ثانيا لكون هذا محلّ الكشف عنه والإخبار بأحواله.
وتوفى الشيخ الأديب زين الدين عبد الرحمن بن محمد بن سليمان بن عبد الله المروزىّ الأصل الحموى، المعروف بابن الخرّاط، أحد موقّعى الدّست بالقاهرة وأعيان الشعراء، فى ليلة الاثنين أول المحرم بالقاهرة، عن نحو ستين سنة، ودفن

(15/205)


من الغد. وكان صاحبنا وأنشدنا كثيرا من شعره. [ومن شعره] «1» فى مليح على شفته أثر بياض: [البسيط]
لا والذي صاغ فوق الثّغر خاتمه ... ما ذاك صدع بياض فى عقائقه «2»
وإنما البرق للتّوديع قبّله ... أبقى به لمعة من نور بارقه
وتوفى قاضى القضاة شمس الدين محمد ابن قاضى القضاة شهاب الدين أحمد بن محمود الدمشقى الحنفى، المعروف بابن الكشك، قاضى قضاة دمشق، فى يوم الثلاثاء ثالث «3» عشر [شهر] «4» ربيع الأول بدمشق؛ وقد تقدم ذكر وفاة أبيه فى سنة تسع وثلاثين وثمانمائة من هذا الجزء «5» .
وتوفى قاضى القضاة شهاب الدين أحمد بن محمد بن صلاح الشافعى المصرى، المعروف بابن المحمّرة «6» بالقدس، على مشيخة الصلاحية، فى يوم السبت سادس عشر [شهر] «7» ربيع الآخر، ومولده فى صفر سنة تسع وستين وسبعمائة [بالمقيّر] «8» خارج القاهرة، [وتكسّب بالجلوس فى حانوت الشهود سنين] «9» . وكان فقيها بارعا مفنّنا كثير الاستحضار لفروع مذهبه، وأفتى ودرّس سنين، وناب فى الحكم،

(15/206)


وتولى مشيخة خانقاه سعيد السعداء «1» ، ثم قضاء دمشق، ثم مشيخة الصلاحية بالقدس، إلى أن مات «2» ؛ [وكان ينسب إلى البخل العظيم] «3» .
وتوفى الأمير الوزير سيف الدين أرغون شاه بن عبد الله النّوروزى الأعور أستادّار السلطان بدمشق بها، فى حادى عشرين [شهر] «4» رجب، وقد جاوز الستين سنة «5» تخمينا، بعد ما ولى الوزارة بالديار المصرية، والأستادّارية غير مرة، وكان من الظّلمة الغشم «6» الفسقة؛ كان شيخا طوالا أعور فصيحا باللغة العربية، عارفا بفنون المباشرة وتنويع المظالم.
وتوفى الأمير حمزة بك بن على بك بن دلغادر مقتولا بقلعة الجبل فى ليلة الخميس سابع عشر جمادى الأولى.
وتوفى الأمير سيف الدين بردبك بن عبد الله الإسماعيلى الظاهرى [برقوق] «7» وهو يوم ذاك أحد أمراء العشرات، فى جمادى الأولى بالقاهرة. [71] وكان جعله [الملك] «8» الأشرف أمير طبلخاناة وحاجبا ثانيا، ثم نفاه مدة، ثم أعاده إلى القاهرة وأنعم عليه بإمرة عشرة، وكان لا للسيف ولا للضيف، يأكل ما كان ويضيق المكان.
وتوفى القاضى شمس الدين محمد بن يوسف بن صلاح الدمشقى المعروف بالحلاوىّ،

(15/207)


وكيل بيت المال، فى ليلة الخميس سادس شوال، ومولده فى سنة خمس وستين وسبعمائة بدمشق، وقدم القاهرة، واتصل بسعد الدين بن غراب، ورشحه سعد الدين لكتابة السر، ثم تردد لجماعة من الأكابر بعد سعد الدين وأخيه فخر الدين ابنى غراب، مثل بدر الدين الطوخى الوزير وغيره؛ وكان حلو المحاضرة حسن المذاكرة، مع قصر الباع فى العلوم، وكان كبير اللحية جدا، يضرب بطول لحيته المثل، ولما مات سعد الدين بن غراب وأخوه فخر الدين، ثم توفى الوزير بدر الدين الطوخى أيضا، قال فيه بعض شعراء العصر: [البسيط]
إن الحلاوىّ لم يصحب أخا ثقة ... إلا محا شؤمه منهم «1» محاسنهم
السّعد والفخر والطّوخىّ لازمهم ... فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم
فزاد الحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر [بأن قال:] «2»
وابن الكويز وعن قرب أخوه ثوى ... والبدر، والنجم ربّ اجعله ثامنهم
قلت: يعنى بابن الكويز صلاح الدين بن الكويز، وبأخيه «3» علم الدين، وبالبدر بدر الدين بن محب الدين المشير، وبالنجم القاضى نجم الدين عمر بن حجّى.
وفى طول لحيته يقول «4» صاحبنا الشيخ شمس الدين الدّجوىّ، من أبيات كثيرة، أنشدنى غالبها، أضربت عن ذكرها لفحش ألفاظها، غير أننى أعجبنى منها براعتها: [البسيط]

(15/208)


ظن الحلاوىّ جهلا أن لحيته ... تغنيه فى مجلس الإفتاء والنّظر
وأشعريّتها طولا قد اعتزلت ... بالعرض باحثة فى مذهب القدر
[وتوفى] «1» الأمير قرقماس بن عدرا بن نعير بن حيّار بن مهنّا [فى هذه السنة] «2» .
وتوفى الشيخ شهاب الدين أحمد بن أبى بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان ابن عمر الأبوصيرى «3» الشافعى، أحد مشايخ الحديث، فى ليلة الأحد ثامن عشرين المحرم.
وتوفى صاحب صنعاء اليمن الإمام المنصور نجاح الدين أبو الحسن على ابن الإمام صلاح الدين محمد بن على بن محمد بن على بن منصور بن حجاج بن يوسف الحسينى العلوى الشريف فى سابع صفر، بعد ما أقام فى الإمامة بعد أبيه ستّا وأربعين سنة وثلاثة أشهر وأضاف إلى صنعاء وصعدة عدة من حصون الإسماعيلية، أخذها منهم بعد حروب وحصار. ولما مات قام من بعده ابنه الإمام الناصر صلاح الدين محمد بعهده إليه فمات بعد ثمانية وعشرين يوما، فأجمع الزيدية بعده على رجل منهم يقال له صلاح ابن على بن محمد بن أبى القاسم وبايعوه ولقبوه بالمهدى، وهو من بنى [عمرو] «4» عم الإمام المنصور. قلت: والجميع زيدية بمعزل عن أهل السنة.
أمر النيل [فى هذه السنة] «5» : الماء القديم ستة أذرع وثمانية عشر أصبعا؛ مبلغ الزيادة: تسعة عشر ذراعا وستة أصابع.

(15/209)


[ما وقع من الحوادث سنة 841]
السنة السابعة عشرة من سلطنة الملك الأشرف برسباى [على مصر] «1»
وهى سنة إحدى وأربعين وثمانمائة.
[فيها] «2» كانت وفاة الأشرف المذكور فى ذى الحجة حسبما تقدم ذكره.
[و] «3» فيها كان الطاعون بالديار المصرية وكان «4» مبدؤه من شهر رمضان وارتفع فى ذى القعدة فى آخره، ومات فيه خلائق من الأعيان والرؤساء وغيرهم، لكنه فى الجملة كان أضعف من طاعون سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة «5» .
[وفيها] «6» توفى القاضى سعد الدين إبراهيم ابن القاضى كريم الدين عبد الكريم ابن سعد الدين بركة، ناظر الخاص الشريف [وابن ناظر الخاص] «7» المعروف بابن كاتب جكم، فى يوم الخميس سابع عشر [شهر] «8» ربيع الأول، بعد مرض طويل وسنه دون الثلاثين سنة؛ وحضر السلطان الصلاة عليه بمصلاة المؤمنى «9» [من تحت القلعة] «10» ودفن عند أبيه بالقرافة.
وكان شابا عاقلا سيوسا كريما مدبرا، ولى الخاص صغيّرا «11» بعد وفاة أبيه، فباشر بحرمة ونفذ الأمور وساس الناس وقام بالكلف السلطانية أتم قيام، [72] لا سيما لما سافر [الملك] «12» الأشرف إلى آمد فإنه تكفل عن السلطان بأمور كثيرة تكلف فيها كلفة كبيرة، كل ذلك وسيرته مشكورة، إلا أنه كان منهمكا فى اللذات التى تهواها النفوس، مع ستر وتجمل؛ سامحه الله [تعالى] «13» .

(15/210)


وتولى نظرّ الخاص من بعده أخوه الصاحب جمال الدين يوسف ابن القاضى كريم الدين عبد الكريم، وهو مستمر على وظيفته مضافة لنظر الجيش وتدبير الممالك فى زماننا هذا «1» ، إلى أن مات «2» حسبما يأتى ذكره فى مواطن كثيرة من هذا الكتاب [وغيره إن شاء الله تعالى] «3» .
وتوفى الأمير الكبير سيف الدين جانبك بن عبد الله الصوفى الظاهرى صاحب الوقائع والأهوال والحروب، فى يوم الجمعة خامس عشرين «4» [شهر] «5» ربيع الآخر بديار بكر وقطعت رأسه وحملت إلى مصر وطيف بها على رمح ثم ألقيت فى قناة سراب، وقد تقدم ذكر ذلك كله مفصلا فى مواضع كثيرة وما وقع للناس بسببه بالديار المصرية والبلاد الشرقية، غير أننا نذكر هنا أصله ومنشأه إلى أن مات، على طريق الإيجاز:
كان أصله من مماليك [الملك] «6» الظاهر برقوق الصّغار، وترقّى فى الدولة الناصرية [فرج] «7» إلى أن صار أمير مائة ومقدم ألف، ثم ولاه الملك المؤيد رأس نوبة النّوب، ثم نقله بعد مدة إلى إمرة سلاح، ثم أمسكه وحبسه إلى أن أطلقه الأمير ططر بعد موت المؤيد، وأنعم عليه بإمرة وتقدمة ألف ثم خلع عليه باستقراره أمير «8» سلاح بعد مسك قجقار القردمى، ثم خلع عليه بعد سلطنته باستقراره «9» أتابك العساكر بالديار المصرية، ثم أوصاه الملك الظاهر ططر عند موته بتدبير ملك ولده الملك الصالح محمد.
ومات [الملك] «10» الظاهر ططر، فصار جانبك المذكور «نظام الملك» و «مدبر الممالك» ، فلم يحسن التدبير ولا استمال أحدا من أعيان خجدا شيّته من الأمراء، فنفروا

(15/211)


عنه الجميع ومالوا إلى الأمير طرباى وبرسباى حسبما ذكرنا ذلك كله مفصلا مشبعا «1» ؛ ولا زالوا فى التدبير عليه حتى خذلوه فى يوم عيد النحر، بعد ما لبس آلة الحرب هو والأمير يشبك الجكمى الأمير آخور، وأنزلوه من باب السلسلة بإرادته راكبا وعليه آلة الحرب إلى بيت الأمير بيبغا المظفّرى، فحال دخوله إلى البيت قبض عليه وقيّد وحمل إلى القلعة، ثم إلى ثغر الإسكندرية، [بعد أن كان ملك مصر فى قبضته، وأمسك معه يشبك الجكمى أيضا وحبس بثغر الإسكندرية] «2» ، كل ذلك فى أواخر ذى الحجة من سنة أربع وعشرين.
ودام جانبك فى سجن الإسكندرية مكرما مبجلا، إلى أن حسّن له شيطانه الفرار منه فأوسع الحيلة فى ذلك، حتى فر من سجنه «3» فى سنة سبع وعشرين وثمانمائة، فعند ذلك حلّ به وبالناس بلاء الله المنزل المتداول سنين عديدة، ذهب فيها أرزاق جماعة، وحبس فيها جماعة كثيرة من أعيان الملوك وضرب فيها جماعة من أعيان الناس وأماثلهم بالمقارع، وجماعة كثيرة من الخاصكية أيضا ضربوا بالمقارع [والكسّارات] «4» ، وأما ما قاساه الناس من كبس البيوت ونهب أقمشتهم «5» وما دخل عليهم من الخوف والرجيف فكثير إلى الغاية، ودام ذلك نحو العشر سنين، فهذا ما حل بالناس لأجل هروبه.
وأمّا ما وقع له فأضعاف ذلك، فإنه صار ينتقل من بيت إلى بيت والفحص مستمر عليه فى كل يوم وساعة، حتى ضافت عليه الدنيا بأسرها وأراد أن يسلم نفسه غير مرة، وقاسى أهوالا كثيرة إلى أن خرج من مصر إلى البلاد الشامية وتوصل إلى بلاد الروم حسبما حكيناه، وانضم عليه جماعة من التركمان الأمراء وغيرهم، وقاموا

(15/212)


بأمره أحسن قيام حتى استفحل أمره، فغلب خموله وقلة سعادته تدبيرهم واجتهادهم، إلى أن مات.
وكان شجاعا فارسا مفنّنا مليح الشكل رشيق القد كريما رئيسا، إلا أنه كان قليل السعد مخمول الحركات مخذولا فى حروبه، حبس غير مرة ونفد عمره على أقبح وجه، ما بين حبس وخوف وذل وشتات وغربة، إلى أن مات بعد أن تعب وأتعب وأراح بموته «1» واستراح.
وتوفى الأمير سيف الدين تمراز المؤيدى نائب صفد ثم نائب غزة مخنوقا [73] بسجن الإسكندرية، فى «2» ثالث عشرين جمادى الآخرة، وكان أصله من مماليك [الملك] «3» المؤيد شيخ وخاصكيّته، وكان مقربا عنده ثم تغير عليه لأمر اقتضى ذلك، وضربه وأخرجه إلى الشام على إقطاع هيّن بطرابلس، ثم نقل بعد موت [الملك] «4» المؤيد إلى إمرة بدمشق. فلما كانت وقعة تنبك البجاسى وافقه على العصيان، فلما ظفر [الملك] «5» الأشرف بالبجاسى فر تمراز هذا واختفى مدة، ثم ظفر به وسجن بقلعة دمشق، ثم أطلق وأنعم عليه بإقطاع بها، ثم نقله الأشرف إلى إمرة مائة وتقدمة ألف بدمشق، ثم أقره فى نيابة صفد فلم تشكر سيرته ورمى بعظائم، فعزله السلطان وولاه نيابة غزة عوضا عن يونس الرّكنى. وانتقل يونس إلى نيابة صفد، فلما ولى غز أساء السيرة [أيضا] «6» وظلم وعسف وأفحش فى القتل وغيره، فطلبه السلطان إلى الديار المصرية وأمسكه وحبسه بالإسكندرية ثم قتله خنقا؛ ولا أعرف من أحوال تمراز غير ما ذكرته أنه مذموم السيرة كثير الظلم.
وتوفى الأمير جانبك بن عبد الله السيفى يلبغا الناصرى المعروف بالثور، أحد

(15/213)


أمراء الطبلخاناه والحاجب الثانى، وهو يلى شدّ بندر جدّة بمكة، فى حادى عشر شعبان. وكان أميرا ضخما متجملا فى مركبه وملبسه ومماليكه، وهو الذي أخرب المسطبة التى كانت ببندر جدة التى كان من طلع عليها «1» واستجار بها لم يؤخذ [منها] «2» ، ولو كان ذنبه ما عسى أن يكون، حتى [و] «3» لو قتل نفسا وطلع فوقها لا يؤخذ منها.
وكانت هذه العادة قديما بجدة، فأخرب جانبك [المذكور] «4» المسطبة المذكورة، ووقع بينه وبين عرب تلك البلاد وقعة عظيمة قتل فيها جماعة. وانتصر جانبك المذكور ومشى له ما قصده من هدم المسطبة المذكورة ومحى أثرها إلى يومنا هذا، يرحمه «5» الله [تعالى] «6» على هذه الفعلة، فإنها من أجمل «7» الأفعال وأحسنها دنيا وأخرى، ولم ينتبه لذلك من جاء «8» قبله من الأمراء حتى وفّقه الله تعالى لمحو هذه السنّة القبيحة التى كانت ثلمة فى الإسلام وأهله «9» . قلت: كم ترك الأول للآخر.
وتوفى الشيخ شمس الدين محمد بن خضر بن داؤد بن يعقوب الشهير بالمصرى، الحلبى الأصل الشافعى، أحد موقّعى الدّست بالقدس [الشريف] «10» ، فى يوم الأحد النصف من [شهر] «11» رجب؛ وكان ديّنا خيرا وله رواية عالية بسنن ابن ماجة وحدّث وأسمع سنين.
وتوفى شيخ الإسلام علامة الوجود علاء الدين محمد بن محمد بن محمد بن محمد ابن محمد بن محمد بن محمد «12» البخارى العجمى الحنفى، الإمام العالم الزاهد المشهور،

(15/214)


فى خامس [شهر] «1» رمضان بدمشق. [وسمّاه بعضهم عليّا وهو غلط] «2» ، ومولده فى سنة تسع وسبعين وسبعمائة ببلاد العجم، ونشأ بمدينة بخارى «3» ، وتفقّه بأبيه وعمه علاء الدين عبد الرحمن، وأخذ الأدبيات والعقليات عن العلامة سعد الدين التفتازانى وغيره، ورحل فى شبيبته فى طلب العلم إلى الأقطار، واشتغل «4» على علماء عصره إلى أن برع فى المعقول والمنقول والمفهوم والمنظوم واللغة العربية، [وترقى فى التصوف والتسليك] «5» وصار إمام عصره، وتوجه إلى الهند واستوطنه مدة «6» ، وعظم أمره عند ملوك الهند إلى الغاية، لما شاهدوه من غزير علمه وعظيم زهده وورعه.
ثم قدم إلى مكة المشرفة وأقرأ «7» بها مدة، ثم قدم إلى الديار المصرية واستوطنها سنين كثيرة وتصدّى للإقراء والتدريس، وقرأ عليه غالب علماء عصرنا من كل مذهب وانتفع الجميع بعلمه وجاهه وماله، وعظم أمره بالديار المصرية بحيث أنه منذ قدم القاهرة إلى أن خرج منها لم يتردد إلى واحد من أعيان الدولة حتى ولا السلطان، وتردد إليه جميع أعيان أهل مصر من السلطان إلى من دونه؛ كل ذلك وهو مكب على الأشغال، مع ضعف كان يعتريه ويلازمه فى كثير من الأوقات، وهو لا يبرح عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والقيام فى ذات الله بكل ما تصل قدرته إليه.
ثم بدا له التوجه إلى دمشق فسار إليها، بعد أن سأله السلطان فى الإقامة «8» بمصر [غير مرة] «9» فلم يقبل؛ وتوجه [74] إلى دمشق وسكنها إلى أن مات بها.

(15/215)


ولم يخلف بعده مثله، لأنه كان جمع بين العلم والعمل مع الورع الزائد والزهد والعبادة والتحرى فى مأكله ومشربه من الشبهة وغيرها، وعدم قبوله العطاء من السلطان وغيره، وقوة قيامه فى إزالة البدع ومخاشنته لعظماء الدولة فى الكلام، وعدم اكتراثه بالملوك واستجلاب خواطرهم، وهو مع ذلك لا يزداد إلا مهابة وعظمة فى نفوسهم، بحيث أن السلطان كان إذا دخل عليه لزيارته يصير فى مجلسه كآحاد الأمراء، من حين يجلس عنده إلى أن يقوم عنه، والشيخ علاء الدين يكلمه فى مصالح المسلمين ويعظه بكلام غير منمّق، خارج عن الحد فى الكثرة، والسلطان «1» سامع له مطيع. وكذلك لما سافر السلطان إلى آمد، أول ما دخل إلى دمشق ركب إليه وزاره وسلّم عليه، فهذا شئ لم نره وقع لعالم من علماء عصرنا جملة كافية. وهو أحد من أدركناه من العلماء الزهّاد العبّاد، رحمه الله [تعالى] «2» ونفعنا بعلمه وبركته.
وتوفى الشيخ الإمام العالم «3» العلامة علاء الدين على بن موسى بن إبراهيم الرومى الحنفى فى قدمته الثانية إلى مصر، فى يوم الأحد العشرين من شهر رمضان بالقاهرة، وكان ولى مشيخة المدرسة الأشرفية المستجدة بخط العنبريّين بالقاهرة، ثم تركها وسافر إلى الروم، ثم قدم بعد سنين إلى مصر ثانيا وأقام بها إلى أن مات.
وكان بارعا فى علوم كثيرة محققا بحاثا إماما فى المعقول والمنقول، تخرّج بالشيخين: الشريف الجرجانى والسعد التفتازانى، إلى أن برع وتصدى للإقراء والتدريس مدة طويلة، ووقع له أمور طويلة مع فقهاء الديار المصرية، وتعصبوا عليه، وهو ينتصب عليهم وأبادهم، لأنه كان عارفا بعلم الجدل، كان يلزم أخصامه بأجوبة مسكتة، ولهذا حطّ عليه بعض علماء عصرنا بأن قال: كان يفحش فى اللفظ، ولم ينسبه إلى جهل بل ذكر عنه [العلم] «4» الوافر، والفضل ما شهدت

(15/216)


به الأعداء؛ ولا أعلم فيه ما ينقصه غير أنه كان مستخفا بعلماء مصر، لا ينظر أحدا منهم فى درجة الكمال.
وكان مما يقطع به أخصامه فى المباحث أنه كان حضر عدة مباحث بين الجرجانى والتفتازانى وغيرهما من العلماء، وحفظ ما وقع بينهم من الأجوبة والأسئلة «1» ، وصار يسأل الناس بتلك الأسئلة والقوم ليس «2» فيهم من هو [فى] «3» تلك الطبقة، فكلّ من سأله سؤالا من ذلك وقف وعجز عن الجواب المرضى وقصر، فيتقدم عند ذلك الشيخ علاء الدين ويذكر الجواب فيعجب كل أحد. وبالجملة فإنه كان عالما مفنّنا، رحمه الله [تعالى] «4» .
وتوفى القاضى ناصر الدين محمد بن بدر الدين حسن الفاقوسى الشافعى، أحد أعيان موقّعى الدّست بالديار المصرية، فى ليلة الاثنين تاسع شوال بالطاعون، عن بضع «5» وسبعين سنة؛ وكان حشما وقورا، وله فضل وأفضال، وحدّث سنين، وسمع منه خلائق، وكان معدودا من الرؤساء «6» بالديار المصرية. وكان مولده بالقاهرة فى ليلة الجمعة خامس عشرين صفر سنة ثلاث وستين وسبعمائة، والفاقوسى نسبة إلى قرية بالشرقية من أعمال مصر تسمى منية الفاقوس.
وتوفى الأمير سيف الدين آقبردى بن عبد الله الفجماسى نائب غزة بها، وكان أصله من مماليك الأمير قجماس والد إينال باى، ترقّى بعده إلى أن صار أمير عشرة بمصر ودام على ذلك سنين كثيرة، إلى أن ولى نيابة غزة بالبذل «7» بعد أن قبض تمراز المؤيدى، فلم تطل مدته ومات، وكان تركى الجنس غير مشكور السيرة.
وتوفى دولات خجا الظاهرى، والى القاهرة ثم محتسبها، بالطاعون فى يوم السبت

(15/217)


أول ذى القعدة. وكان أصله تركى الجنس من أوباش مماليك الظاهر برقوق، أعرفه قبل أن يلى الوظائف وهو من جملة حرافيش المماليك السلطانية، ثم ولّاه [الملك] «1» الأشرف الكشف ببعض الأقاليم فأباد المفسدين وقويت حرمته، فمن يومئذ صار ينقله من وظيفة إلى أخرى، حتى ولى القاهرة مرتين وعدة أقاليم، ثم ولّاه حسبة [75] القاهرة.
وقد تقدم من ذكره نبذة كبيرة فى ترجمة [الملك] «2» الأشرف، وفى الجملة أنه كان ظالما فاجرا فاسقا غشوما شيخا جاهلا «3» ضالا «4» خبيثا، عليه من الله ما يستحقه، ولولا أنه شاع ذكره لكثرة ولاياته وأرّخه جماعة من أعيان المؤرخين، ما ذكرته فى هذا الكتاب ونزّهته عن ذكر مثله.
وتوفى الأمير- ثم القاضى- صلاح الدين محمد ابن الصاحب بدر الدين حسن ابن نصر الله الفوّىّ الأصل المصرى، كاتب السر الشريف بالديار المصرية، بالطاعون فى ليلة الأربعاء خامس ذى القعدة. [و] «5» مولده فى [شهر] «6» رمضان سنة تسعين وسبعمائة، ونشأ بالقاهرة تحت كنف والده الصاحب بدر الدين، وتزيّا بزى الجند وولى الحجوبية فى دولة [الملك] «7» الناصر فرج، ثم ولى الأستادّارية فى الدولة المظفّرية ثم عزل، ثم أعيد إليها بعد سنين، ثم عزل بأبيه، وصودر ولزم داره سنين طويلة هو ووالده، إلى أن ولاه [الملك] «8» الأشرف بعد سنة خمس وثلاثين حسبة القاهرة.
وأخذ صلاح الدين بعد ذلك يتقرب بالتحف والهدايا للسلطان ولخواصه، إلى أن اختص به ونادمه، وصار يبيت عنده فى ليالى البطالة بالقلعة، وحج أمير الركب

(15/218)


الأول، وعاد فولّاه كتابة السر على حين غفلة، بعد عزل القاضى محب الدين محمد بن الأشقر، من غير سعى، فى يوم الخميس ثانى عشرين ذى الحجة سنة أربعين وثمانمائة، وترك زىّ الجند ولبس زىّ الفقهاء، وصار يدعى بالقاضى بعد الأمير، فباشر كتابة السر بحرمة وافرة وعظم فى الدولة، فلم تطل أيامه ومات فى حياة والده، واستقر والده عوضه فى كتابة السر.
وكان صلاح الدين حشما متواضعا كريما، يكتب المنسوب، إلا أنه كان من الكذبة الذين «1» يضرب بكذبهم المثل، يحكى عنه من ذلك أشياء كثيرة، ورأيت أنا منه نوعا، غير أن الذي حكى [لى] «2» عنه أغرب، وقد جربت أنا كذبه بأنه لا يضر ولا ينفع، وهو أن غالب كذبه كان على نفسه، فيما وقع له قديما وحديثا، فهذا شىء لا يضر أحدا، ولعل الله أن يسامحه فى ذلك.
وتوفى الشهابى أحمد بن [على] «3» ابن الأمير سيف الدين قرطاى بن عبد الله سبط بكتمر الساقى، بالطاعون فى ليلة الاثنين عاشر ذى القعدة. ومولده فى يوم الأحد ثالث عشرين شعبان سنة ست وثمانين وسبعمائة بالقاهرة، ومات ولم يخلف بعده مثله فى أبناء جنسه، لفضائل جمعت فيه، من حسن كتابة ونظم القريض، وحلو محاضرة وجودة مذاكرة؛ وكان سمينا جدا لا يحمله إلا الجياد من الخيل، رحمه الله تعالى «4» . [ومن شعره] «5» : [المجتث]
حبىّ المعذّر وافى «6» ... [من] «7» بعد هجر بوصل

(15/219)


وقال:
صف لى عذارى ... فقلت: يا حبّ نملى «1»
وله [أيضا] «2» فى مليح يسمى خصيب «3» : [الطويل]
رعى الله أيام الرّبيع وروضها ... بها الورد يزهو مثل خدّ حبيبى
وإنّى وحقّ الحبّ «4» ليس ترحّلى ... سوى لمكان ممرع وخصيب
وتوفى الأمير إسكندر بن قرا يوسف صاحب تبريز مشتتا عن بلاده بقلعة ألنجا «5» ، ذبحه ابنه شاه قوماط «6» فى ذى القعدة خوفا من شره؛ وملك بعده البلاد أخوه جهان شاه بن قرا يوسف. وكان شجاعا مقداما «7» قويا فى الحروب، أباد قرايلك فى مدة عمره، وتقاتل مع شاه رخ بن تيمور لنك غير مرة، وهو ينهزم على أقبح وجه. وكان إسكندر أيضا على قاعدة أولاد قرا يوسف: لا يتدين بدين، إلا أنه كان أحسن حالا من أخويه شاه محمد وأصبهان؛ وقد مرّ من ذكر إسكندر هذا وإخوته جملة كبيرة تعرف منها أحوالهم.
وتوفى نور الدين على بن مفلح وكيل بيت المال، وناظر البيمارستان [المنصورى] «8» فى يوم الجمعة ثانى عشرين ذى القعدة، بالطاعون. وكان معدودا من بياض الناس «9» ، وله ترداد إلى الرؤساء، غير أنه كان عاريا من العلوم.

(15/220)


وتوفى الأمير الكبير سودون من عبد الرحمن نائب [76] الشام ثم أتابك العساكر بالديار المصرية بطّالا بثغر دمياط فى يوم السبت العشرين من ذى الحجة؛ لم يخلف بعده مثله حشمة ورئاسة وعقلا وتدبيرا وشكالة.
وقد مرّ من ذكره فى واقعة الأمير قانى باى نائب الشام فى الدولة المؤيدية أنه كان نائب طرابلس، ووافق قانى باى المذكور، وانهزم بعد قتل قانى باى إلى قرا يوسف بالشرق، وأنه كان ولى نيابة غزة فى الدولة الناصرية فرج، وتقدمة ألف بالقاهرة، وأنه قدم على الأمير ططر بعد موت المؤيد، واستقر بعد سلطنة [الملك] «1» الأشرف دوادارا كبيرا عوضا عن الأشرف المذكور، ثم نقل إلى نيابة دمشق بعد عصيان تنبك البجاسى فدام مدة يسيرة، ثم نقل إلى أتابكية العساكر بالديار المصرية عوضا عن جارقطلو [بحكم انتقال جارقطلو] «2» إلى نيابة دمشق عوضه، ثم مرض وطال مرضه إلى أن أخرج عنه السلطان إقطاعه وعزله عن الأتابكية، ثم سيّره بعد مدة أشهر إلى ثغر دمياط بطّالا فدام به إلى أن مات. وكان أجلّ المماليك الظاهرية [برقوق] «3» ، وهو أحد من أدركناه من ضخماء الملوك وعظمائهم، مع حسن الشكالة والزى البهيج رحمه الله تعالى.
أمر النيل فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وثلاثة وعشرون أصبعا؛ مبلغ الزيادة: عشرون ذراعا وخمسة عشر أصبعا «4» .

(15/221)


ذكر سلطنة الملك العزيز [يوسف] «1» ابن السلطان «2» الملك الأشرف برسباى الدّقمافى «3»
السلطان الملك العزيز جمال الدين أبو المحاسن يوسف ابن السلطان الملك الأشرف [سيف الدين أبى نصر] «4» برسباى الدّقماقى الظاهرى الجاركسى، التاسع من ملوك الجراكسة وأولادهم، والثالث والثلاثون من ملوك الترك وأولادهم بالديار المصرية، تسلطن بعد موت أبيه بعهد منه إليه، فى آخر يوم السبت ثالث عشر ذى الحجة قبل غروب الشمس بنحو ساعة، ولبس خلعة السلطنة من باب الستارة بقلعة الجبل، وقد تكامل حضور الخليفة والفضاة والأمراء وأعيان الدولة، وبايعه الخليفة المعتضد بالله داؤد وفوّض عليه خلعة السلطنة السواد «5» الخليفتى، وركب من باب الستارة وجميع الأمراء مشاة بين يديه، حتى نزل على باب النصر السلطانى من قلعة الجبل، ودخل إليه وجلس على سرير الملك وعمره يومئذ أربع عشرة سنة وسبعة أشهر، وقبّل الأمراء الأرض بين يديه على العادة ونودى بسلطنته بالقاهرة ومصر، ثم أخذ الأمراء فى تجهيز والده فجهز وغسل وكفن وصلى عليه، ودفن بالصحراء حسبما ذكرناه فى ترجمته، ولقبوه بالملك العزيز وتم أمره فى الملك ودقّت الكوسات «6» بالقلعة.
وكان خليفة الوقت يوم سلطنته، المعتضد بالله داؤد العباسى؛ والقضاة: قاضى القضاة شهاب الدين أحمد بن [علىّ] بن حجر الشافعى، وقاضى القضاة بدر الدين محمود العينى الحنفى، وقاضى القضاة شمس الدين محمد البساطى المالكى، وقاضى القضاة محبّ الدين أحمد بن نصر الله البغدادى الحنبلى.

(15/222)


ومن الأمراء أصحاب الوظائف من المقدمين، وغالبهم كان مجردا بالبلاد الشامية، فالذين «1» كانوا بالديار المصرية: الأمير الكبير أتابك العساكر جقمق العلائى، والأمير قراخجا الحسنى، والأمير تنبك من بردبك الظاهرى، والأمير تغرى بردى البكلمشى المعروف بالمؤذى؛ والذين «2» كانوا بالتجريدة بالبلاد الشامية: مقدم العساكر الأمير قرقماس الشعبانى الناصرى أمير سلاح، وآقبغا التّمرازى أمير مجلس، وأركماس الظاهرى الدوادار الكبير، وتمراز القرمشى الظاهرى رأس نوبة النّوب، وجانم الأشرفى الأمير آخور الكبير، ويشبك السّودونى حاجب الحجاب، وخجا سودون السّيفى بلاط الأعرج، وقراجا الأشرفى، لتتمة ثمانية من مقدمى الألوف، فجملة الحاضرين والمسافرين ثلاثة عشر أميرا من المقدمين.
وأما من كان من أصحاب الوظائف من أمراء الطبلخاناه والعشرات: فشادّ الشراب خاناه عظيم المماليك الأشرفية إينال الأبوبكريّ الأشرفى الفقيه العالم، ونائب القلعة تنبك السّيفى نوروز الخضرىّ المعروف بالجقمقى كلا شىء، والحاجب الثانى أسنبغا الناصرى [77] المعروف بالطيّارى، والزّرد كاش تغرى برمش السيفى يشبك بن أزدمر، فهؤلاء وإن كانوا أمراء طبلخاناه وعشرات فمنازلهم منازل مقدمى الألوف، لأن الأعصار الخالية كان لا يلى كلّ وظيفة من هذه الوظائف إلا مقدم ألف، ويظهر ذلك من لبسهم الخلع فى المواسم وغيرها؛ وكان الدوادار الثانى تمر باى السيفى تمربغا المشطوب، ورأس نوبة ثانى طوخ من تمراز الناصرى، والأمير آخور الثانى يخشباى المؤيدى ثم الأشرفى، والخازندار على باى الساقى الأشرفى وهو أمير عشرة، وأستادّار الصحبة مغلباى الجقمقى «3» أمير عشرة، والزمام الطواشى الحبشى جوهر الجلبانى اللالا، والخازندار الطواشى الحبشى جوهر القنقبائى أمير عشرة أيضا، ومقدم المماليك الطواشى الرومى خشقدم اليشبكى أمير طبلخاناه، ونائبه فيروز الرّكنى أمير عشرة.

(15/223)


ومباشرو الدولة كاتب السر الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله الفوّىّ، وناظر الجيش زين الدين عبد الباسط بن خليل الدمشقى، والوزير الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ، وناظر الخاص الشريف الصاحب جمال الدين يوسف ابن كاتب جكم، والأستادّار جانبك مملوك عبد الباسط صورة- ومعناها أستاذه عبد الباسط، ولولا مخافة أن أتّهم بالنسيان لوظيفة الأستادارية ما ذكرناه هنا- ومحتسب القاهرة القاضى الإمام نور الدين على السّويفى أحد أئمة السلطان، ووالى القاهرة عمر الشّوبكى.
و [من] «1» عاصره من ملوك الأقطار وأمراء الحجاز ونواب البلاد الشامية وغيرها: فممالك العجم بيد القان معين الدين شاه رخ بن تيمور لنك، وهو صاحب خراسان وجرجان وخوارزم وما وراء النهر ومازندران وجميع عراق العجم وغالب ممالك الشرق، إلى دلى من بلاد الهند، وإلى حدود أذربيجان التى كرسيّها مدينة تبريز؛ وصاحب تبريز يومذاك إسكندر بن قرا يوسف، وقد تشتّت عنها منهزما من شاه رخ؛ وقتل فى هذه السنة أخوه أصبهان بن قرا يوسف صاحب بغداد وغالب عراق العرب «2» ، وقد خربت تلك الممالك فى أيامه وأيام أخيه شاه محمد؛ وملوك ديار بكر [من وائل] «3» عدة كبيرة، فصاحب ماردين وآمد وأرزن وأرقنين وغيرهم أولاد قرايلك؛ وحصن كيفا بيد الملك الكامل صلاح الدين خليل الأيوبى، وقلعة أكلّ بيد دولات شاه الكردى، والجزيرة بيد عمر البختىّ، وإقليم شماخى بيد السلطان خليل، والروم بيد ثلاثة ملوك، أعظمهم السلطان مراد بك بن محمد بن عثمان صاحب برصّا، وأدرنا بولى «4» ، وغيرها.

(15/224)


وبجانب آخر: إسفنديار «1» بن أبى يزيد، وباقى أطراف الروم مع السلطان إبراهيم بن قرمان، مثل لارنده وقونية وغيرهما؛ وبلاد المغرب: فصاحب تونس وبجاية وبلاد إفريقية أبو عمرو عثمان بن أبى عبد الله محمد ابن مولاى أبى فارس عبد العزيز الحفصى، وبلاد تلمسان والغرب الأوسط: أبو يحيى بن أبى حمّود، [و] «2» بممالك فاس ثلاثة «3» ملوك: أعظمهم صاحب فاس، وهو أبو محمد عبد الحق بن عثمان بن أحمد بن إبراهيم ابن السلطان أبى الحسن المرينى، وملك أندلس أبو عبد الله محمد بن الأيسر ابن الأمير نصر ابن السلطان أبى عبد الله بن نصر المعروف بابن الأحمر صاحب غرناطة.
وصاحب مكة المشرفة زين الدين أبو زهير بركات بن حسن بن عجلان الحسينى «4» ؛ وأمير المدينة الشريف إميان بن مانع بن على الحسينى؛ وأمير الينبوع الشريف عقيل بن زبير بن نخبار. وببلاد «5» اليمن: الظاهر يحيى ابن الملك الأشرف إسماعيل من بنى رسول «6» ، وهو صاحب تعزّ وعدن وزبيد وما والاها «7» ؛ وصاحب صنعاء وبلاد صعدة الإمام صلاح الدين محمد؛ وبلاد الفرنج ستّ عشرة «8» مملكة يطول الشرح فى تسميتها «9» ؛ وببلاد الحبشة: الحطىّ الكافر ومحاربه ملك المسلمين شهاب الدين أحمد بن بدلاى «10» ابن السلطان سعد الدين أبى البركات محمد

(15/225)


ابن أحمد بن على بن ناصر الدين محمد بن دلحوى بن منصور بن عمر بن ولشمع «1» الجبرتى «2» الحنفى.
ونواب البلاد الشامية: نائب [78] دمشق الأتابك إينال الجكمى، ونائب حلب حسين بن أحمد البهسنى المدعو تغرى برمش، ونائب طرابلس جلبان الأمير آخور، [وفى معتقده أقوال كثيرة] «3» ، ونائب حماه قانى باى الحمزاوى، ونائب صفد إينال العلائى الناصرى، أعنى السلطان الملك «4» الأشرف إينال؛ ونائب غزة آقبردى القجماسى، ومات بعد أيام؛ ونائب الكرك خليل بن شاهين؛ ونائب القدس طوغان العثمانى؛ ونائب ملطية حسن بن أحمد أخو نائب حلب؛ وحسن الأكبر- انتهى.
قلت: وفائدة ما ذكرناه هنا من ذكر أصحاب الوظائف من الأمراء وغيرهم، يظهر بتغيير الجميع وولاية غيرهم بعد مدة يسيرة فى أوائل سلطنة [الملك] «5» الظاهر جقمق، لتعلم تقلبات الدهر وأن الله على كل شىء قدير.
وأما ذكر ملوك الأطراف وغيرهم فهو نوع استطراد لا يخلو من فائدة، وليس فيه خروج مما نحن بصدده- انتهى.
*** ولما تم أمر السلطان الملك العزيز ونودى بسلطنته وبالنفقة على المماليك السلطانية فى يوم الاثنين خامس عشر ذى الحجة، لكل مملوك مائة دينار، سكن قلق الناس وسرّوا جميعا بولايته، ولم يقع فى ذلك اليوم هرج ولا فتنة ولا حركة، واطمأنت

(15/226)


الناس، وباتوا على ذلك وأصبحوا فى بيعهم وشرائهم «1» ؛ غير أن المماليك صاروا فرقا «2» مختلفة، والقالة موجودة بينهم فى الباطن.
ولما كان يوم الأحد رابع عشر ذى الحجة، حضر الأمراء والخاصكيّة للخدمة بالقصر على العادة، وأنعم السلطان الملك العزيز على الخليفة أمير المؤمنين المعتضد بالله بجزيرة الصابونى «3» زيادة على ما بيده، وكتب إلى البلاد الشامية ولجميع الممالك بسلطنته.
ثم فى يوم «4» الاثنين ابتدأ السلطان بنفقة المماليك السلطانية بعد أن جلس بالمقعد الملاصق [لقاعة] «5» الدّهيشة المطل على الحوش السلطانى، وبجانبه الأمير الكبير جقمق العلائى وبقية الأمراء. وشرع السلطان فى دفع النفقة إلى المماليك السلطانية، لكل واحد مائة [دينار] «6» ، كبيرهم وصغيرهم وجليلهم وحقيرهم بالسوية، فحسن ذلك ببال الناس وكثر الدعاء للسلطان وعطفت القلوب على محبته. ثم عيّن للتوجه إلى البلاد الشامية للبشارة الأمير إينال الأحمدى الظاهرى الفقيه أحد أمراء العشرات ورأس نوبة، وعلى يده مع البشائر كتب للأمراء المجردين بالبلاد الشامية تتضمن موت [الملك] «7» الأشرف وسلطنة ولده الملك العزيز هذا.
ثم قدم رسول الأمير حمزة بن قرايلك صاحب ماردين وأرزن وصحبته شمس الدين القلمطاوى، ومعهما هدية وكتاب يتضمن دخول حمزة [المذكور] «8» فى طاعة السلطان، وأنه أقام الخطبة وضرب السكة إلى السلطان ببلاده، وأنه صار من

(15/227)


جملة نواب السلطان، وكان الأمراء المجردون «1» كاتبوه فى دخوله فى طاعة السلطان فأجاب؛ وفى جملة الهدية دراهم ودنانير بسكة السلطان [الملك] «2» الأشرف برسباى، فخلع على قاصده وأكرمه.
ثم خلع السلطان فى يوم الثلاثاء سادس عشر ذى الحجة على الأمير طوخ مازى الناصرى- ثانى رأس نوبة- باستقراره فى نيابة غزة بعد موت آقبردى القجماسى.
كل ذلك والسلطان يطيل السكوت فى المواكب السلطانية [و] «3» لا يتكلم فى شئ من الأمور، وصار المتكلم فى الدولة ثلاثة أنفس: الأمير الكبير جقمق العلائى، والأمير إينال الأبوبكرى الأشرفى شادّ الشراب خاناه، والزينى عبد الباسط ناظر الجيش؛ فمشى الحال على ذلك أباما ثلاثة «4» .
فلما كان يوم السبت العشرين من ذى الحجة، وقع بين الأمير إينال الأبوبكرى المذكور وبين جكم الخاصكى- خال [الملك] «5» العزيز- مفاوضة آلت إلى شر؛ وابتدأت الفتنة من يومئذ، وعظّم الأمر بينهما «6» من له غرض فى إثارة الفتن لغرض من الأغراض. وكان سبب الشر إنكار جكم على إينال لتحكمه فى الدولة، وأمره ونهيه، وكونه صار يبيت بالقلعة، فغضب إينال أيضا ونزل إلى داره، ومال إليه جماعة كبيرة من إنياته بطبقة الأشرفية. ثم نزل عبد الباسط إلى داره من الخدمة، فتجمع عليه جماعة كبيرة من المماليك الأشرفية وأحاطوا به وأوسعوه سبّا، وربما أراد بعضهم ضربه والأخراق به، لولا ما خلّصه [79] بعض من كان معه من أمراء المؤيدية بأن تضرع للمماليك المذكورين ووعدهم بعمل المصلحة حتى تفرقوا عنه، وتوجه إلى داره على أقبح وجه.

(15/228)


واستمر من هذا اليوم الكلمة مختلفة وأحوال الناس متوقفة، وصار كل من المماليك الأشرفية يريد أن يكون هو المتكلم فى الدولة، ويقدم إنياته ويجعلهم خاصكيّة.
كل ذلك والأمير الكبير جقمق سامع لهم ومطيع، وصار يدور معهم كيف ما أرادوا، وإينال المشدّ يزداد غضبه ويكثر من القالة، لتحكم جكم فى الباطن، والشر ساكن فى الظاهر، والمملكة مضطربة ليس للناس [فيها] «1» من يرجع إلى كلامه.
فلما كان يوم السبت سابع عشرين ذى الحجة أنعم السلطان الملك العزيز على الأتابك جقمق العلائى بإقطاعه الذي كان «2» بيده فى حياة والده، بعد أن سأل السلطان الأتابك جقمق فى ذلك غير مرة، وأنعم بإقطاع الأتابك جقمق على الأمير تمراز القرمشى رأس نوبة النّوب، وهو أحد الأمراء المجردين إلى البلاد الشامية، وأنعم بإقطاع تمراز المذكور على تمرباى التمربغاوى الدوادار الثانى، والجميع تقادم ألوف لكن التفاوت فى كثرة الخراج وزيادة المغلّ فى السنة.
وأنعم بإقطاع تمرباى المذكور على الأمير علىّ باى الأشرفى الساقى الخازندار، وأنعم بإقطاع طوخ مازى الناصرى- المنتقل إلى نيابة غزة قبل تاريخه- على الأمير يخشباى الأشرفى الأمير آخور الثانى، وأنعم بإقطاع يخشباى المذكور على الأمير يلخجا من مامش الساقى الناصرى رأس نوبة، والجميع أيضا طبلخاناة.
وأنعم بإقطاع يلخجا الساقى على السيفى قانى باى الجاركسى وصار أمير عشرة، بعد أن جهد الأتابك جقمق فى أمره وسعى فى ذلك غاية السعى، وأرسل بسببه إلى عبد الباسط وإلى الأمير إينال المشد غير مرة حتى تم له ذلك. وخلع السلطان على الأمير إينال الأبوبكرى المشد باستقراره دوادارا ثانيا عوضا عن تمر باى؛ كل ذلك والقالة موجودة بين جميع العسكر ظاهرا وباطنا.

(15/229)


ثم أصبح من الغد فى يوم الأحد خلع السلطان على الأمير على باى الخازندار، باستقراره شادّ الشراب خاناه، عوضا عن إينال الأبوبكريّ.
ثم فى يوم الاثنين استقر دمرداش الأشرفى، أحد أصاغر المماليك الأشرفية، والى القاهرة عوضا عن [عمر] «1» الشّوبكى، وانفض الموكب ونزل الأتابك إلى جهة بيته.
فلما كان فى أثناء الطريق اجتمع عليه جماعة كبيرة من المماليك الأشرفية وطلبوا منه أرزاقا، فأوعدهم وخادعهم وتخلص منهم، فتوجهوا إلى الزينى عبد الباسط ناظر الجيش فاختفى منهم، وقد صار فى أقبح حال منذ مات [الملك] «2» الأشرف، من الذلة والهوان ومما داخله [من] «3» الخوف من المماليك الأشرفية من كثرة التهديد والوعيد، وقد احتار فى أمره وهم على الهروب غير مرة.
واستهلت سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة يوم الثلاثاء، وقد ورد الخبر بقدوم عرب لبيد إلى البحيرة، فندب السلطان تغرى بردى البكلمشى المؤذى «4» أحد مقدمى الألوف، فخرج من القاهرة فى يوم الجمعة رابع المحرم وصحبته عدة من المماليك السلطانية «5» . وفى هذا اليوم خلع السلطان على خاله جكم باستقراره خازندارا كبيرا عوضا عن على باى الأشرفى، واستمر على إقطاع جنديته من غير إمرة.
ثم فى يوم الاثنين خامس عشر المحرم نزل الطلب إلى شيخ الشيوخ سعد الدين سعد الديرى، وخلع عليه باستقراره قاضى قضاة الحنفية بالديار المصرية بعد عزل قاضى القضاة بدر الدين محمود العينى، بعد تمنع كبير وشروط منها: أنه لا يقبل رسالة أحد منهم- أعنى أكابر الدولة- وأنه لا يتجوّه عليه فى شىء، وأشياء غير ذلك؛ ونزل إلى داره بالجامع المؤيدى وقد سر الناس بولايته غاية السرور.

(15/230)


وفيه أنعم السلطان على سبعة من الخاصكية، لكل منهم بإمرة عشرة، وهم: قانم من صفر خجا المؤيّدى المعروف بالتاجر أحد الدوادارية، وجكم النّوروزى المجنون، وقانبك الأبوبكريّ الأشرفى الساقى، وجانبك الساقى الأشرفى المعروف بقلق سيز «1» ، وجانم الأشرفى أحد الدوادارية المعروف برأس نوبة سيّدى، وجرباش الأشرفى رأس نوبة [80] الجمدارية المعروف بمشدّ سيّدى، والسابع ما أدرى: أهو جكم خال [الملك] «2» العزيز أو هو آقبردى المظفّرى الظاهرى [برقوق] «3» رأس نوبة الجمدارية؟
وفيه أيضا خلع السلطان على مراد قاصد الأمير حمزة بك بن قرايلك ورسم بسفره وصحبته شمس الدين القلمطاوى أحد موقّعى حلب، وجهز السلطان صحبتهما مبارك شاه البريدى وعلى يده جواب كتاب الأمير حمزة بشكره والثناء عليه، وتشريف له بنيابة السلطنة بممالكه، وفرس بقماش ذهب، وهدية هائلة، ما «4» بين قماش سكندرى وسلاح وغيره، ونسخة يمين، وأجيب الأمراء المجردون أيضا عن كتبهم، ورسم لهم أن يسرعوا فى الحضور إلى الديار المصرية.
وفى هذه الأيام كثر الكلام بين الأمراء والخاصكية بسبب التوجه إلى البلاد الشامية وحمل تقاليد النواب بالاستمرار، إلى [أن كان] «5» يوم السبت تاسع عشر المحرم خلع السلطان على الأمير أزبك «6» السيفى قانى باى «7» أحد أمراء العشرات ورأس نوبة- المعروف بجحا- وعين لتقليد الأمير إينال الجكمى نائب الشأم، باستمراره على عادته، وكان تقدم أن السلطان خلع على الأمير إينال الفقيه بتوجهه إلى نائب حلب، وخلع السلطان على إينال الخاصكى بتوجهه إلى الأمير جلبان نائب طرابلس،

(15/231)


وعلى دولات باى الخاصكى [بالتوجه] «1» إلى قانى باى الحمزاوى نائب حماه، وعلى يشبك الخاصكى بالتوجه إلى إينال العلائى الناصرى نائب صفد، كل ذلك والنواب فى التجريدة صحبة الأمراء المصريين.
[و] «2» فى هذا اليوم حل بالزينى عبد الباسط أمور غير مرضية من بعض المماليك الأشرفية فى وقت الخدمة السلطانية، هذا بعد ما نزل به قبل تاريخه فى هذه الأيام من «3» أنواع من المكاره، ما بين تهديد ولكم وإساءة، احتاج من أجلها إلى بذل الأموال لهم ولمن يحميه منهم ليخلص «4» من شرهم، فلم يتم له ذلك.
ثم فى ثالث عشرين المحرم قدم ركب الحاج إلى القاهرة، وأمير [حاج] «5» المحمل آقبغا من مامش الناصرى المعروف بالتركمانى «6» ، أحد أمراء العشرات ورأس نوبة، بعد أن حل بالحاج من البلاء ما لا مزيد عليه، من أخذهم وأخذ أموالهم ونهيهم، وقد فعلت الأعراب بهم ما فعله التّمريّة «7» فى أهل البلاد الشامية، ومعظم المصيبة كانت بالركب الغزّاوى، فلم يلتفت أحد من أهل الدولة لذلك «8» ، لشغل كل واحد بما يرومه من الوظائف والإقطاعات وغيرها «9» ، ودع الدنيا تخرب ويحصل له مراده.
ثم فى يوم الثلاثاء تاسع عشرين «10» المحرم قدم إلى القاهرة مماليك نواب البلاد

(15/232)


الشامية، وعلى أيديهم مطالعات تتضمن أنهم ملكوا مدينة أرزنكان «1» وأنه خطب بها باسم [السلطان] «2» الملك الأشرف برسباى، ولم يعلموا إذ ذاك بموته.
ثم فى يوم الخميس أول صفر عملت الخدمة السلطانية ونزل كل واحد إلى داره، فلما كان عبد الباسط بالقرب من باب الوزير تجمع عليه عدة من المماليك الأشرفية وتحاوطوه وأوسعوه سبّا ووعيدا، وهمّوا به، وأراد [بعضهم] «3» ضربه، حتى منعه عنه من كان معه من الأمراء، وتخلص منهم وولى هاربا يريد القلعة، حتى دخلها وهم فى أثره؛ فامتنع بها فأقام بالقلعة يومه كلّه وبات بها وهو يطلب الإعفاء من وظيفتى نظر الجيش والأستادارية.
وأصبح السلطان من الغد جلس بالحوش السلطانى على الدّكّة، وطلع الأمير الكبير جقمق نظام الملك واستدعى عبد الباسط إلى حضرة السلطان، والسلطان على عادته من السكات لا يتكلم فى شىء من أمور المملكة، وليس ذلك لصغر سنّه، وإنما هو لأمر يريده الله تعالى. فلما حضر عبد الباسط كلّمه الأمير الكبير فى استمراره على وظيفته، فشكا «4» له ما يحلّ «5» به، فلم يلتفت إلى شكواه وخلع عليه باستمراره، وعلى مملوك جانبك باستمراره على وظيفته الأستادارية، ونزلا إلى دورهما ومعهما جماعة كبيرة.
ثم فى يوم الأحد رابع صفر ورد على السلطان كتاب الأمير إينال الجكمى نائب الشام بوصوله بالعساكر المصرية والشامية من البلاد النمالية إلى حلب، وأن الأمير حسين بن أحمد المدعو تغرى برمش نائب حلب تأخر عنهم لما بلغه موت [الملك] «6»

(15/233)


الأشرف، وأنه أراد أن يكبس على الأمراء المصريين، فبلغهم ذلك فاحترزوا على نفوسهم [81] منه إلى أن دخلوا إلى حلب.
ثم فى يوم السبت عاشر صفر رسم [السلطان] «1» بأن تقتصر الخدمة السلطانية على أربعة أيام فى الجمعة، وأن تكون الخدمة بالقصر فقط عندما يحضر الأتابك جقمق، وأن تبطل خدمة الحوش لغيبة الأتابك منه، وهذا ابتداء أمر الأتابك جقمق وظهوره فى الدولة، لكثرة من انضم عليه من الطوائف من الأمراء وأعيان المماليك السلطانية.
ثم قدم كتاب نائب حلب يتضمن رحيل العساكر من حلب إلى دمشق فى سادس عشرين المحرم، وأنه قدم إلى حلب بعدهم فى ثامن عشرينه، وأنه كان تخوّف من الأمراء المصريين أن يقبضوا عليه فلهذا تخلف عنهم، وأنه فى طاعة السلطان وتحت أوامره، فلم يجب بشىء لشغل أهل الدولة بما هم فيه من تنافر قلوب بعضهم من بعض، وقد وقع أيضا بين المماليك الأشرفية [وبين خجداشهم، وأعظمهم الأمير إينال الأبوبكريّ الدوادار الثانى.
فلما كان يوم الاثنين ثانى عشر تجمع المماليك الأشرفية] «2» بالقلعة يريدون قتل الأمير إينال الأبوبكريّ الدوادار الثانى «3» [المقدم ذكره] «4» ، ففرّ منهم بحماية بعضهم له، ونزل إلى داره، فوقفوا خارج القصر وسألوا الأمير جقمق بأن يكون هو المستبد فى الأمر والنهى والتحكم فى الدولة، وأن ترفع يد إينال وغيره من الحكم فى المملكة، فأجاب إلى ذلك ووعدهم بكل خير، ونزل. وقد اتسع للأتابك جقمق- بهذا الكلام- الميدان، ووجد لدخوله فى المملكة بابا كبيرا، فإنه كان عظم جمعه قبل ذلك لكنه كان تخشّى كثرة المماليك الأشرفية، فلما وقع الآن بينهم المباينة خفّ عنه أمرهم قليلا وقوى أمره؛ كل ذلك ولم يظهر منه الميل للوثوب على [الملك] «5»

(15/234)


العزيز بالكلية، غير أنه يوافق القوم فى الإنكار على فعل المماليك الأشرفية وكثرة شرورهم لا غير.
ولما كان صباح النهار المذكور، وهو يوم الثلاثاء ثالث عشر صفر، وقف جماعة كبيرة «1» من الأشرفية تحت القلعة بغير سلاح ووقع بينهم وبين خجداشيّتهم الذين هم من طبقة الأشرفية من إنيات «2» إينال وإخوته، وقعة هائلة بالدبابيس، ثم انفضوا وعادوا من الغد فى يوم الأربعاء إلى مكانهم بسوق الخيل.
فلما وقع ذلك تحقق المماليك القرانيص وقوع الخلف بين المماليك الأشرفية، فقاموا عند ذلك وتجمعوا عند الأمير الكبير، ومعهم الأمير إينال المذكور بإنياته وخجداشيّته من المماليك الأشرفية وهم جمع كبير أيضا، وتكلموا مع الأمير الكبير بالقيام فى نصرة إينال المذكور، وليس ذلك مرادهم وإنما قصدهم غير ذلك، لكنهم لم يجدوا مندوحة لغرضهم أحسن من هذه الحركة، وأظهروا الميل الكلى إلى نصرة إينال، وصاروا له أصدقاء وهم فى الحقيقة أعدى العدى «3» ، فمال الأتابك جقمق إلى نصرة إينال لكوامن كانت عنده من القوم، وقد صار بهذه القضية فى عسكر هائل وجمع كبير من المماليك الظاهرية [برقوق] «4» وهم خجداشيته، والمماليك الناصرية [فرج] «5» والمماليك المؤيدية شيخ والسّيفية وعالم كبير من المماليك الأشرفية أصحاب إينال.
وبقى العسكر قسمين: قسم مع الأمير الكبير جقمق، وهم من ذكرنا ومعظم الأمراء من مقدمى الألوف، وغالب أمراء الطبلخانات والعشرات، ما خلا جماعة من أمراء الأشرفية؛ وقسم آخر بالقلعة عند السلطان الملك العزيز، وهم أكثر المماليك الأشرفية، وعندهم الخليفة والخزائن والزّردخانة، إلا أنهم جهال بمكايد الأخصام

(15/235)


ووقائع الحروب، لم تمر بهم التجارب ولا مارسوا الوقائع. وأعظم من هذا أنهم لم يقرّبوا أحدا من الأكابر وأرباب المعرفة، فضلّوا وأضلوا وذهبوا وأذهبوا وأضعفوا بسوء تدبيرهم قواهم، وتركوا الملك باختلاف آرائهم «1» لمن عداهم، على ما سيأتى بيان ذلك كله فى محله.
هذا، وكل من الطائفتين يدّعى طاعة الملك العزيز غير أن الخصم «2» هو إينال، وقد التجأ إلى الأمير الكبير جقمق نظام الملك فقبله الأمير الكبير بمن معه، وقام فى الظاهر بنصرة إينال أتم قيام وفى الحقيقة إنما هو قام بنصرة نفسه، وقد ظهر ذلك لكل أحد حتى لإينال غير أنه صار يستبعد ذلك لعظم خديعة جقمق له، وأيضا لأنه أحوجه الدهر أن يكون من حزبه، كما قيل:
وما من حبّه أحنو عليه ... ولكن بغض قوم آخرين
[82] ولما وقع ذلك استفحل أمر الأتابك، وتكاثف جمعه، ومعظم من قام فى هذه القضية معه المماليك المؤيّدية، وقد أظهروا ما كان فى ضمائرهم من الأحقاد القديمة فى الدولة الأشرفية، وأخذوا فى الكلام مع الأتابك وتقوية جنابه على الوثوب بالمماليك الأشرفية الذين بقلعة الجبل، وهو يتثاقل عن ذلك حتى يتحقق من أمرهم ما يثق به، وصار يعتذر لهم بأعذار كثيرة: منها قلة المال والسلاح، وأن الذين «3» بقلعة الجبل أقوياء بالقلعة والمال والسلطان والسلاح. فقالوا: هو ما قلت، غير أن هؤلاء جهلة لا يدرون الوقائع ولا مقاومة الحروب ولا أمر العواقب، ونحن أعرف بذلك منهم، وجمعنا يقاتل معك من غير أن تبذل لهم الأموال.
ولا زالوا به حتى أذعن لهم، بعد أن بلغه عن بعضهم أنه يقول عنه: «الأمير

(15/236)


الكبير دقن المرأة» ، وأشياء غير ذلك، كونه لا يوافقهم على الركوب، وأنهم يقولون:
«إن كان الأمير الكبير ما يوافقنا أقمنا لنا أستاذا غيره» .
ولما وافقهم الأمير الكبير على الركوب، أشاروا عليه بعدم الطلوع إلى الخدمة السلطانية من الغد فى موكب يوم الخميس خامس عشر صفر، فقبل منهم ذلك وأصبح يوم الخميس المذكور وقد كثر جمعه، وتحول من داره التى تجاه الكبش على بركة الفيل، إلى بيت نوروز الحافظى تجاه مصلاة المؤمنى، وقد اجتمع عليه خلائق من المماليك من سائر الطوائف وعليهم السلاح الكامل وآلة الحرب. وقبل أن يركب الأمير الكبير جقمق عند وضع رجله فى الركاب قال: «هذا دقن المرأة بيركب [حتى] «1» نبصر إيش تفعل الرجال الفحوله» فصلحوا بأجمعهم: «نقاتل بين يديك إلى أن نفنى أو ينصرك الله على من يعاديك» .
ثم سار بجموعه حتى وافى البيت المذكور فوقف على باب الدار، وقد اجتمع عليه جمع من المماليك والزّعر «2» والعامة، فوعدهم الأمير الكبير بالنفقة والإحسان إليهم، كل ذلك ولم يقع إلى الآن قتال. فلما تحقق المماليك الأشرفية ركوب الأمير الكبير، ورأوهم من أعلى قلعة الجبل، أخرجوا السلطان من الدور إلى القصر المطل على «3» الرّميلة واجتمعوا عليه بالقصر وغيره، وقد لبسوا السلاح أيضا.
وكان كبراء الأشرفية الذين «4» بالقلعة عند الملك العزيز، من أمراء الأشرفية وغيرهم جماعة: منهم الأمير يخشباى الأشرفى الأمير «5» آخور الثانى، وعلى باى شادّ الشراب

(15/237)


خاناة وتنبك النّوروزى المعروف بالجقمقى نائب قلعة الجبل، وخشكلدى من سيّدى بك الناصرى رأس نوبة، وكزل السّودونى المعلم رأس نوبة، وجكم الخازندار خال [الملك] «1» العزيز، وجماعة أخر ممن تأخر فى أمسه من المماليك الأشرفية، ومعظم الخاصكيّة الأشرفية، أصحاب الوظائف وغيرهم، ما خلا من نزل منهم مع الأمير إينال الأبوبكريّ، واستعدوا لقتال الأمير الكبير ومن معه، وباتوا تلك الليلة، بعد أن تناوشوا فى بعض الأحيان بالرمى بالنشاب، ولم يقع قتال فى مقابله.
وأصبحوا فى «2» يوم الجمعة سادس عشر صفر على ما باتوا عليه، واستمر كل طائفة من الفريقين على تعبيتهم إلى بعد صلاة العصر، فزحف بعض «3» أصحاب الأمير الكبير إلى باب القرافة، وهدموا جانبا من سور ميدان القلعة وغيره، ودخلوا إلى الميدان، فنزل إليهم طائفة من السلطانية ركبانا ومشاة وقاتلوهم مواجهة، حتى هزموهم وأخرجوهم من الميدان، وتراموا بالنشاب ساعة فحال بينهم الليل، وبات كل طائفة منهم على حذر. وتوجهت الأشرفية الذين بالقلعة، وفتحوا [باب] «4» الزردخانة السلطانية، وأخذوا من السلاح الذي بها ما أرادوا، ونصبوا «5» مكاحل النفط على سور القلعة، وأخذوا فى أهبة القتال.
حتى أصبحوا يوم السبت سابع عشر صفر وقد استفحل أمر السلطانية من عصر أمسه، فتجمعت الجقمقيّة وابتدأوا بقتال السلطانية، فوقع بين الطائفتين قتال بالنشاب والنفوط، فهلك من العامة خلائق ممن كان من حزب الأمير جقمق؛ كل ذلك وأمر السلطانية «6» يقوى إلى بعيد «7» الظهر، فلاح «8» عليهم الخذلان من غير أمر

(15/238)


يوجب [83] ذلك، ومشت القضاة «1» بين السلطان والأمير الكبير جقمق غير مرة، فى الصلح والكفّ عن القتال وحقن دماء المسلمين، وإخماد الفتنة.
هذا وقد ترجح جهة الأمير الكبير جقمق، وطمعت عساكره فى السلطانية، فقال الأمير الكبير: أصطلح بشرط أن يرسل السلطان إلىّ بأربعة نفر، وهم: جكم خال [الملك] «2» العزيز الخازندار، وتنم الساقى، وأزبك البواب، ويشبك الفقيه الأشرفى الدوادار؛ فأذعن السلطان ومن عنده لذلك بعد كلام كثير، فنزل «3» الأربعة من القلعة، بعد صلاة العصر من يوم السبت المذكور، مع من كان تردد فى الصلح، وساروا حتى دخلوا بيت الأمير الكبير، فحال وقع بصره عليهم قبض عليهم واحتفظوا بهم.
وركب الأمير الكبير فرسه وساروا معه أعيان أصحابه إلى أن صار فى وسط الرّميلة تجاه باب السلسلة، فنزل عن فرسه بعد أن فرش [له] «4» ثوب سرج جوخ، وقبّل الأرض بين يدى السلطان الملك العزيز لكونه أرسل إليه أخصامه، ثم ركب فى أصحابه وعاد إلى بيته بالكبش ومعه المقبوض عليهم، إلى أن نزل بداره فى موكب جليل إلى الغاية.
وأخذ أمر [الأمير] «5» الكبير [جقمق] «6» من هذا اليوم فى زيادة وقوة، وأمر [الملك] «7» العزيز ومماليك أبيه [الأشرفية] «8» فى نقص ووهن «9» وإدبار.
وأصبح بكرة يوم الأحد ثامن عشر صفر أرسل الأمير الكبير إلى السلطان «10»

(15/239)


فى طلب جماعة أخر من المماليك الأشرفية، فنزل إليه الأمير يخشباى الأمير آخور الثانى، والأمير على باى شادّ الشراب خاناه، وهما من عظماء القوم والمشار إليهما من القلعية الأشرفية، وقبّلا يد الأمير الكبير جقمق، فأكرمهما الأمير الكبير ووعدهما بكل خير، ثم أمر فى الحال بطلب [الأمير] الطواشى خشقدم اليشبكى مقدم المماليك السلطانية فحضر إليه وقبّل يده، فأمره الأمير الكبير أن يتقدم بنزول جميع من فى الأطباق من المماليك الأشرفية وهدّده إن لم يفعل ذلك، فاستبعد الناس وقوع ذلك لكثرة المماليك الأشرفية وشدة بأسهم.
فحالما طلع خشقدم وأمرهم بالنزول أجابه الجميع بالسمع والطاعة، ونزل صبيان طبقة بعد طبقة إلى بيت الأمير الكبير، وقد حضر عنده قضاة القضاة الأربعة «1» وأهل الدولة وأعيانها، وحلّفوا الأمير الكبير على طاعة السلطان، ثم حلّفوا المماليك الأشرفية على طاعة الأمير الكبير، وحكم قاضى القضاة سعد الدين [بن] «2» الديرى الحنفى بسفك دم من خالف هذا اليمين.
وعند انقضاء الحلف، أمر الأمير الكبير بنزول جميع المماليك الأشرفية من أطباقهم بالقلعة إلى إسطبلاتهم، ما خلا المماليك الصغار فاعتذروا عن قلة مساكنهم بالقاهرة، فلم يقبل الأمير الكبير أعذارهم وشدّد عليهم، والناس تظن غير ذلك، فخرجوا. وفى الحال أخذوا فى تحويل متاعهم ونزلوا من الأطباق، بعد أن ظن كل أحد منهم أنه لا بد له من إثارة فتنة وشر كبير تسفك فيه دماء كثيرة قبل نزولهم، فلم يقع شىء من ذلك، ونزلوا من غير قتال ولا إكراه؛ وخلت الطباق منهم فى أسرع وقت خذلانا «3» من الله تعالى، وتركوا السلطان والخزائن والسلاح والقلعة، ونزلوا من غير أمر يوجب النزول، وهم نحو الألف وخمسمائة نفر، هذا خلاف من كان انضم عليهم من الناصرية والمؤيدية والسيفية، ولله در القائل: [السريع]

(15/240)


ما يفعل الأعداء فى حاهل ... ما يفعل الجاهل فى نفسه
وتعجب الناس من نزولهم، حتى الأمير الكبير جقمق، وصار يتحدث بذلك أوقاتا فى سلطنته، فإنه كان أولا تخوف منهم أن يقبضوا عليه عند طلوعه إلى القلعة غير مرة، ولهج الناس بذلك كثيرا وبلغ الأتابك أنهم يريدون أن يقبضوا عليه وعلى عبد الباسط وعلى الصاحب جمال الدين ناظر الخاص، فقال: وإيش يمنعهم من ذلك؟ وانقطع عن الخدمة السلطانية أياما، حتى كلمه أصحابه فى الطلوع وشجعوه وقالوا له: نحن نطلع فى خدمتك ولا يصيبك مكروه حتى تذهب أرواحنا. كل ذلك قبل أن يقع الشرّ بين الأمير إينال وخجداشيته، فهذا كله ذكرناه لتعرف به شدة بأس المماليك الأشرفية وكثرة عددهم.
[84] فلما تكامل نزول [المماليك] «1» الأشرفية من الأطباق إلى حال سبيلهم، وهذا أول مبدأ زوال ملك السلطان الملك العزيز [يوسف] «2» ، ومن يومئذ أخذ الأمير إينال الأبوبكريّ الأشرفىّ فى الندم بما وقع منه من الانفراد عن خجداشيته والانضمام على الأتابك جقمق، حتى إنه صار يبكى فى خلواته ويقول: «ليتنى كنت حبست بثغر الإسكندرية، ودام تحكم ابن أستاذى «3» وخجداشيتى. وما عسى خجداشيتى كانوا يفعلون بى؟» . وندم حيث لا ينفع الندم، وربما بلغ الأمير الكبير عنه «4» ذلك فأخذ يحلف له أنه لا يريد الوثوب على السلطنة، ولا خلع الملك العزيز، وأنه لا يريد إلا أن يكون نظام ملكه ومدبّر ممالكه، وأشياء غير ذلك.
قلت: وأنا أظن أن الأمير إينال ما طال حبسه إلا بهذا المقتضى، والله أعلم.
ثم فى يوم الأحد هذا قدم الأمير تغرى بردى البكلمشى المؤذى أحد مقدمى

(15/241)


الألوف من البحيرة بمن كان صحبته من المماليك السلطانية، وكان الأتابك أرسل يستحثه «1» فى القدوم عليه ليكون من حزبه على قتال الأشرفية؛ فتقاعد عنه إلى أن انتهى أمر الوقعة وحضر، فأخذ الأتابك جقمق يوبخه لعدم حضوره، وهو يعتذر بعدم وصول الخبر إليه ويقبّل يده.
ثم ورد الخبر على السلطان بأن العسكر المجرد من الأمراء وصل إلى دمشق فى خامس صفر.
ثم فى يوم الثلاثاء العشرين من صفر شفع الملك العزيز فى خاله جكم ورفقته، فأفرج عنهم الأتابك جقمق وخلع على كل منهم كاملية مخمل بفرو سمور [و] «2» بمقلب سمور.
ثم فى يوم الخميس ثانى عشرين صفر طلع الأمير الكبير جقمق إلى الخدمة السلطانية ومعه سائر الأمراء وأرباب الدولة، ومنع المماليك الأشرفية من الدخول إلى القصر فى وقت الخدمة، إلا من له نوبة عند السلطان من أصحاب الوظائف، وكان الأتابك جقمق شرط عليهم ذلك عند تحليفهم.
وحضر الأمير الكبير الخدمة، وخلع عليه السلطان تشريفا عظيما «3» باستمراره على حاله، ونزل من وقته إلى باب السلسلة، وسكن الحراقة من الإسطبل السلطانى بعد أن نقل إليها قماشه ورخته «4» فى أمسه؛ وبعد أن أمر الأمير يخشباى الأمير أخور الثانى بالنزول من الإسطبل إلى بيته قبل تاريخه، فنزل يخشباى إلى داره، وكانت دار قطلو بغا الكركى التى «5» تجاه دار منجك اليوسفى بالقرب من الجامع الحسينى، وجلس وأغلق عليه باب الدار، ومنع الناس من التردد إليه، وصار كالمرسم عليه؛ وهذا أيضا من أعجب العجب، كون الشخص يكون على إقطاعه ووظيفته ويصير على هذه المثابة.

(15/242)


وسكن الأمير الكبير بالسلسلة وتصرف فى أمور المملكة من غير مشارك، واستبد بتدبير أحوال السلطنة من ولاية الوظائف والإنعام بالإقطاعات والإمريات على من يريد ويختار، فصار الملك العزيز ليس له من السلطنة إلا مجرد الاسم فقط. فعظم ذلك على المماليك الأشرفية، وأنكروا سكنى الأمير الكبير بباب السلسلة، واتفقوا ووقفوا فى جمع كبير بالرّميلة وأكثروا من الكلام فى ذلك، ثم انفضّوا من غير طائل وفى أملهم أن الأمراء إذا قدموا من سفرهم أنكروا على الأمير الكبير ما فعله وقاموا بنصرة [الملك] «1» العزيز، وانتظروا ذلك.
وأخذ الأتابك جقمق فى تحصين باب السلسلة والقلعة وأشحنهما بالسلاح والرجال، وصارت الأعيان من كل طائفة تبيت عنده بباب السلسلة فى كل ليلة، والأمراء والأعيان تتردد «2» إلى خدمته وتركت الخدمة السلطانية، واحتجّ الأمير الكبير بتركها أنه بلغه أن المماليك الأشرفية اتفقوا على قتله إذا طلع إلى الخدمة السلطانية، وجعل ذلك عذرا له عن عدم حضور الخدمة، وصار هو المخدوم والمشار إليه، وتردد مباشرو الدولة إلى بابه وسائر الناس، وتلاشى أمر السلطان [الملك] «3» العزيز إلى الغاية.
ولهج الناس بسلطنة الأتابك جقمق، وشاع ذلك بين الناس، وصار الأتابك كلما بلغه ذلك أنكره وأسكت القائل بذلك [ولسان حاله ينشد] «4» : [الكامل]
[85]
لا تنطقنّ بحادث فلربما ... نطق اللسان بحادث فيكون
هذا والأتابك جقمق متخوف فى الباطن من الأمراء المجردين، لكونهم جمعا كبيرا «5» وفيهم جماعة من حواشى [الملك] «6» الأشرف ومماليكه، مثل أركماس

(15/243)


الظاهرى الدوادار الكبير، وتمراز القرمشى رأس نوبة النّوب، وجانم الأشرفى الأمير آخور الكبير، وقراجا الأشرفى، وخجا سودون السّيفى بلاط الأعرج، وفيهم أيضا من تحدثه نفسه بالوثوب على الأمر وهو الأمير قرقماس الشعبانى الناصرى أمير سلاح المعروف بأهرام ضاغ «1» ؛ فلهذا صار الأتابك جقمق يقدم رجلا ويؤخر أخرى.
ثم قدم الخبر بخروج الأمراء من مدينة غزة إلى جهة الديار المصرية، وأن خجا سودون البلاطى أحد مقدمى الألوف تأخر عنهم على عادته فى كل سفرة، فندب الأتابك السيفىّ دمرداش الحسنى الظاهرى برقوق الخاصكى بالتوجه إلى غزة، وعلى يده مرسوم شريف بتوجه خجا سودون إلى القدس بطالا، فمضى دمرداش المذكور وفعل ما ندب إليه.
فلما كان يوم الأربعاء خامس شهر ربيع الأول وصل الأمراء إلى الديار المصرية وطلعوا الجميع إلى الأتابك جقمق، ما خلا الأمير يشبك السّودونى حاجب الحجاب فإنه قدم القاهرة فى الليل مريضا فى محفة إلى داره، ولم ينزل الأتابك إلى تلقى الأمراء المذكورين، وكان أرسل إليهم يخوّفهم من المماليك الأشرفية، وذكر لهم أنهم يريدون الركوب عليهم يوم دخولهم، فدخلوا الجميع بأطلابهم، ولما طلعوا إلى جقمق قام لهم واعتنقهم وأكرمهم غاية الإكرام.
وأرسل إلى الملك العزيز أنه يخرج ويجلس بشباك القصر حتى يقبّلوا له الأمراء الأرض من الإسطبل السلطانى ولا يطلع إليه أحد، ففعل [الملك] «2» العزيز ذلك وجلس بشباك القصر حتى أخذ الأتابك جقمق الأمراء وسار بهم من الحراقة يريد الإسطبل السلطانى والجميع مشاة؛ وقد جلس السلطان [الملك] «3» العزيز بشباك القصر فوقف الأمراء تحت شباك القصر وأومأوا برءوسهم كأنهم قبّلوا له «4» الأرض،

(15/244)


وأحضر إليهم التشاريف السلطانية فى الحال فلبسوها، وقبّلوا الأرض ثانيا كالمرة الأولى، وعادوا راجعين فى خدمة [الأمير الكبير] «1» حتى طلعوا معه إلى الحرّاقة، ثم سلموا عليه وعادوا وركبوا خيولهم وتوجهوا إلى دورهم.
وكنت لما لاقيت الأمير أقبغا التّمرازى أمير مجلس سألنى عن أحوال الأتابك جقمق، فقلت له كلاما متحصله أنه ليس بينه وبين السلطنة إلا أن تضرب له السكة ويخطب باسمه، فاستبعد ذلك لقوة بأس المماليك الأشرفية وعظم شوكتهم، فلما نزل من القلعة وعليه الخلعة قلت له قبل أن يصل إلى داره: كيف رأيت جقمق؟ قال: سلطان على رغم الأنف. ومعنى قوله: «على رغم الأنف» لأنه كان بينهما حضوض أنفس قديمة.
ثم أصبحوا يوم الخميس سادس شهر ربيع الأول حضروا الجميع إلى عند الأتابك جقمق بباب السلسلة، وجلس الأتابك فى الصدر وكل «2» من الأمراء على يمينه وشماله، إلا قرقماس أمير سلاح فإنه زاحم الأتابك جقمق فى مجلسه وجلس معه على فراشه، والأمير جقمق يجذبه إلى عنده ويخدعه بأنه لا يفعل شيئا إلا بمشورته، وأنه قوّى أمره بقدومه وأنه شيخ كبير عاجز عن الحركة واقتحام الأهوال، إلا إن كان بقوة قرقماس المذكور، كل ذلك وهما جلوس على المرتبة، فانخدع قرقماس وطابت نفسه بما سمعه من الأتابك جقمق، أنه ربما [إن] «3» تحرك بعد ذلك بحركة تمت له لضعف جقمق عن مقاومته.
هذا وقد برز الطلب لجماعة من الأشرفية وغيرهم، وجميع من هو بالقلعة من الأعيان، فلما حضروا أشار قرقماس لجماعة من الرءوس نوب، وأمراء جندار ممن حضر المجلس أن اقبضوا على هؤلاء.
وأول ما بدأ برفيقه الأمير جانم الأشرفى الأمير آخور الكبير «4» ، ثم أشار

(15/245)


لواحد بعد واحد إلى أن قبضوا على جماعة كبيرة من الأمراء والخاصكيّة، وهم:
الأمير جانم المقدم ذكره، ويخشباى الأمير آخور الثانى، وعلى باى شادّ الشراب خاناه، وتنبك السيفى نوروز الخضرى [المعروف] «1» بالجقمقى نائب قلعة الجبل، وخشقدم الطواشى الرومى اليشبكى مقدم المماليك [86] ، ونائبه الطواشى فيروز الرّكنى الرومى أيضا، وخشكلدى من سيّدى بك الناصرى أحد أمراء العشرات ورأس نوبة، وجكم خال [الملك] «2» العزيز، وجرباش الأشرفى أحد أمراء العشرات المعروف بمشدّ سيّدى، وجانبك قلق سيز «3» الساقى أحد أمراء العشرات؛ ومن الخاصكية: تنم الساقى، وأزبك البواب، ويشبك الفقيه؛ وكل من هؤلاء الثلاثة أحد الأربعة المقدم ذكرهم، وتنبك الفيسى المؤيدى رأس نوبة الجمداريّة، وأرغون شاه الساقى، وبيرم خجا أمير مشوى، ودمرداش الأشرفى والى القاهرة، وبايزير خال الملك العزيز، وقيّدوا الجميع.
وفى الحال خلع على الأمير تمرباى التّمربغاوى أحد مقدمى الألوف باستقراره فى نيابة الإسكندرية عوضا عن الزينى عبد الرحمن بن الكويز بحكم عزله، وأمر بالسفر إلى الإسكندرية من يومه، وخلع على قراجا العمرى الخاصكى الناصرى باستقراره فى ولاية القاهرة عوضا عن دمرداش الأشرفى بحكم القبض عليه.
ثم ندب الأمير الكبير الأمير تنبك البردبكى أحد مقدمى الألوف، والأمير أقطوه الموساوى أحد أمراء العشرات، البرقوقيين، فى عدة من المماليك السلطانية، أن يطلعوا إلى القلعة ويقيموا بها لحفظها. وكان تنبك المذكور ولى نيابة القلعة قبل تاريخه سنين كثيرة فى الدوله الأشرفية، فطلع إلى القلعة وسكن بمكانه أولا على العادة.
ثم انفضّ الموكب وقد تزايد عظمة الأمير الكبير جقمق، وهابته النفوس

(15/246)


بما فعله قرقماس بين يديه من القبض على الأمراء المذكورين، وفهم الناس أنه فعل ذلك خدمة للأمير الكبير، وكان غرض قرقماس غير ذلك، فإنه رام نفع نفسه فنفع غيره، فكان حاله [كقول من قال] «1» :
مع الخواطئ سهم [صائب] «2» ... ربّ رمية من غير رام
ونزل الأمراء إلى دورهم وقد استخف الناس عقل قرقماس وخفّته وطيشه فى سرعة ما فعله، كل ذلك لاقتحامه على [حب] «3» الرئاسة. ونزل قرقماس إلى داره، وفى زعمه أن جميع من هو بخدمة الأمير الكبير ينقلبون «4» عن الأمير الكبير إليه، ويترددون «5» إلى بابه لأنه هو كان الحاكم فى هذا اليوم، ولم يدر أن القلوب نفرت منه لتحققهم ما يظنوه من كبره وجبروته وبطشه، وقد اعتادوا باين الأمير الكبير وبأخذه لخواطرهم فى هذه المدة وتمسكه عن قبض من كان لهم غرض فى قبضه، وقد صاروا له كالمماليك والخدم لطول تردادهم إليه فى باب السلسلة وغيرها، وقد انتهى أمره وحصل لهم ما كان فى أملهم. وأيضا أنهم لما رأرا قرقماس فعل ما فعل لم يشكّوا فى أمره أنه من جملة من يقوم بنصرة الأتابك وأنه كواحد منهم، فلم يطرق أحد منهم بابه ولم يدخل إليه فى ذلك اليوم إلا من يلوذ به من حواشيه ومماليكه.
وسافر تمرباى نائب الإسكندرية من الغد فى يوم الجمعة، وأصبح فى يوم السبت ثامن [شهر] «6» ربيع الأول أنزل من باب السلسلة من تقدم ذكره من الأمراء الخاصكيّة الممسوكين على البغال بالقيود إلى سجن الإسكندرية، وقد اجتمع لرؤيتهم خلائق لا تحصى وهم قسمان: قسم باك عليهم، وقسم شامت لتقاعدهم عن

(15/247)


القتال فى خدمة ابن أستاذهم الملك العزيز [يوسف] «1» ، وأيضا لما كان يقع منهم فى أيام ابن «2» أستاذهم من التكبر والجبروت.
ثم أرسل الأمير الكبير فى اليوم المذكور إلى الأمراء القادمين من التجريدة بمال كبير له صورة، لا سيما ما حمله إلى قرقماس فإنه كان جملة مستكثرة.
ثم فى يوم الأحد تاسع شهر ربيع الأول خلع على الزينى عبد اللطيف [بن عبد الله] «3» الطواشى الرومى المنجكى المعروف بالعثمانى «4» أحد الجمداريّة باستقراره مقدم المماليك السلطانية، وأنعم عليه بإمرة عشرة لا غير وهو إقطاع النيابة الذي كان بيد فيروز الرّكنى نائب مقدم المماليك، وكانت الخلعة عليه بين يدى العزيز [87] بعثه الأمير الكبير إليه وأمره أن يخلع عليه، واستقر فى نيابة المقدم جوهر المنجكى الحبشى أحد خدام الأطباق الضعفاء الحال ولم تسبق له رئاسة قبل ذلك.
ثم فى يوم الاثنين عاشره ركب السلطان الملك العزيز من القلعة ونزل إلى الميدان، ومعه الزينى عبد الباسط ناظر الجيش وجماعة أخرى من خواصه الأصاغر، وركب الأمير الكبير من الحرّافة وفى خدمته جميع الأمراء مشاة ما عدا أركماس الظاهرى الدوادار الكبير وآقبغا التّمرازى أمير مجلس، وساروا الثلاثة على خيولهم من الإسطبل السلطانى حتى نزلوا إلى الميدان وبه السلطان يسير.
فعندما رأوا الأمراء الملك العزيز ترجّلوا عن خيولهم وقبّلوا الأرض، وتقدم الأمير الكبير جقمق وقبّل رجل السلطان فى الركاب، ثم بعده جميع الأمراء فعلوا مثل فعله، ثم تقدم الأمير يشبك السّودونى حاجب الحجاب قبّل الأرض، وخلع عليه خلعة السفر لأنه كان انقطع عن رفقته لتوعك كان به، وطلع فى هذا

(15/248)


اليوم؛ ثم انصرف الجميع عائدين فى خدمة الأمير الكبير إلى أن أوصلوه إلى سلم الحراقة، ووقفوا له هناك حتى سلّم عليهم، وعادوا إلى دورهم.
وكان سبب تأخر قرقماس عن الطلوع فى هذا اليوم والذي قبله، أمور: منها أنه كان فى نفسه الوثوب على الأمر، وفعل ما فعل من مسك الأمراء وغيرهم ليروج أمره بذلك، فلم ينتج أمره وتقهقر وزادت عظمة الأتابك جقمق، فعزّ عليه ذلك فى الباطن، وكان فى ظنه أنه لا بد أن يملك الديار المصرية من يوم توجّه إلى مكة وحكمها.
فلما عرف منه ذلك تقرب إليه جماعة من الذين يوهمون الناس أنهم صلحاء، ولهم اطلاع على المغيبات، وصاروا يبشرونه بسلطنة مصر، وتخبره جماعة أخر [بمنامات] «1» تدل على قصده فينعم عليهم بأشياء كثيرة.
ثم كلما نظر من «2» يدعى معرفة علم النجوم «3» يسأله عما فى خاطره- وقد أشيع عنه حب الرئاسة- فيبشره الرّمّال أو المنجم أيضا بما يسره من قبله وحسب اجتهاده لأخذ دراهمه.
فكان قرقماس ينتظر موت [الملك] «4» الأشرف [يوما بيوم، فاتفق موت الملك الأشرف برسباى] «5» وهو مسافر، وإلى أن يحضر انتظم أمر الأتابك جقمق وتمّ، فلم يلتفت إلى ما رأى من أمر جقمق بما سبق عنده أنه لا بد له من السلطنة، وأخذ يسلك طريقا تصادف ما هو قصده.
فدخل القاهرة مطلّبا «6» ، فلم يلتفت إليه أحد. وطلع إلى الأتابك جقمق وامتنع من طلوع القلعة إلى الملك العزيز حتى قبّل الأرض من الإسطبل خوفا من أن يقبض عليه، يريد بذلك أن ينتبه إليه الناس، فلم ينظر إليه أحد.

(15/249)


ثم أخذ فى مسك الأمراء، حتى يعظم فى النفوس، فلم يقع ذلك. فانقطع بداره عن الطلوع إلى الأتابك مدة أيام وتعلل بأنه بلغه عن الأمير الكبير وحواشيه ما غيّر خاطره، يظهر ذلك لتتسامع بغضبه الناس ويأتوه ليثور بهم، فلم ينضم إليه أحد؛ فاستدرك فارطه واستمر بداره إلى هذا اليوم.
فلما عاد الأتابك من عند الملك العزيز إلى سكنه بالحرّاقة من باب السلسلة، أرسل إلى الأمير قرقماس المذكور الأمير تمراز القرمشى رأس نوبة النّوب، وقراجا الأشرفى أحد مقدمى الألوف، والزينى عبد الباسط ناظر الجيش، يسألوه عن سبب انقطاعه عن [الطلوع] «1» إلى الأمير الكبير فى هذه الأيام، فذكر لهم أنه بلغه عن حواشى الأمير الكبير من المؤيّدية أنهم يتهموه بالركوب وإثارة الفتن وأنه يريد يتسلطن ولم يكن له علم بشىء من ذلك، فما زالوا به حتى ركب معهم.
وطلع إلى الأمير الكبير بالحرّاقة من الإسطبل السلطانى، فقام الأمير الكبير واعتنقه وأخذ بيده ودخلا مع أعيان الحاضرين إلى مبيت الحرّاقة، وجلسا فى خلوة وتعاتبا قليلا، وأخذ الأمير الكبير يقول له «2» إن قرقماس عنده فى مقام روحه، وأنه لم يتصل إلى هذا الموصل إلا بقوته وكونه معه، وأخذ فى مخادعته والأخذ بخاطره، إلى أن تحقق قرقماس أنه لا يأتيه ما يكره من قبل الأتابك، إلى أن يدبر لنفسه ما يوصله [88] إلى غرضه، ثم حلف له الأتابك على هذا المعنى جميعه وبكى واعتنقه، وخرجا من المبيت وقد صفا «3» ما بينهما ظاهرا، والباطن فلا يعلم ما فيه إلا الله تعالى.
وهو أن قرقماس لم يطلع فى هذا اليوم إلى الأتابك إلا بعد أن عجز عما فى خاطره، فاحتاج إلى المداهنة حتى يطول أمره إلى أن يحصل له مراده، ولم يخف ذلك عن

(15/250)


الأتابك جقمق، غير أنه رأى [أنه] «1» لا يتم أمره فيما يروم إلا بموافقة قرقماس له أولا، ثم بعد ذلك يفعل ما بدا له.
وعندما قام قرقماس من مجلس الأتابك ليتوجه إلى داره، قدم له الأتابك فرسا بقماش ذهب من مراكيبه، فركبه قرقماس ونزل إلى داره، ومعه أيضا الأمير تمراز رأس نوبة النّوب، وقراجا، وهما فى خدمته إلى داره، فأركب قرقماس كلّا منهما فرسا بقماش ذهب.
ثم أخذه القلق وأخذ يدبر فى تأليف المماليك الأشرفية عليه، فرأى أنه لا «2» يتم له ذلك بالعطاء ولا بالملق، لكثرتهم، وإنما يتم له ذلك بسلطنة الأتابك جقمق، لينفر عنه من كان من حزبه من المماليك الأشرفية وينضموا عليه؛ وكان هذا حدسا صائبا «3» ، ووقع له ما أراد، غير أنه استعجل لأمر يريده «4» الله.
فأخذ قرقماس من يومذاك يحسّن للأتابك جقمق توليته السلطنة وخلع [الملك] «5» العزيز، ولا زال يلح عليه فى ذلك وهو يلين تارة ويتوقف تارة؛ وكان هذا الأمر فى خاطر الأتابك وأصحابه غير أنه كان يستعظم الأمر ويخاف من نفور قرقماس عنه، إذا فعل ذلك، وأخذ ينتظر فرصة للوثوب بعد حين، فحرّك الله تعالى قرقماس حتى سأله فى ذلك وألحّ عليه لما فى غرضه فى أيسر مدة، لتعلم أن الله على كل شىء قدير.
ومن يومئذ هان الأمر على الأتابك وأخذ فى أسباب السلطنة، وكتب يطلب صهره القاضى كمال الدين مجمد؟؟؟ بن البارزى من دمشق.
ثم أصبح يوم الخميس ثالث عشر [شهر] «6» ربيع الأول عملت الخدمة السلطانية

(15/251)


وحضرها الأمير الكبير جقمق والأمير قرقماس أمير سلاح المذكور، وعامة الأمراء وأرباب الدولة على العادة.
وكانت الخدمة السلطانية قد تركت من مدة أيام، فأجراهم السلطان الملك العزيز على عادته من السّكات وعدم الكلام، وانفض الموكب.
ثم طلع الأمير قرقماس من الغد فى يوم الجمعة وحضر الصلاة مع السلطان بالمقصورة من جامع القلعة، ولم يطلع الأتابك جقمق. ونزل قرقماس ولم يتكلم مع السلطان كلمة واحدة.
ثم فى يوم السبت عملت الخدمة أيضا بالقصر على العادة، وحضر الأمير الكبير.
ثم فى يوم الاثنين عملت الخدمة أيضا.
كلّ ذلك بتدبير قرقماس، وهو أنه لما علم أن الأمير الكبير جقمق تم أمره ولم يبق له منازع يعيقه عن السلطنة، أخذ فى عمل الخدمة حتى يجد نفسا من الملك العزيز أو من أحد من حواشيه، حتى تصير له مندوحة لمطاولة الأتابك على «1» السلطنة، لأنه ندم على ما تفوّه به ولم يجد لنفسه قوة حتى يرجع عن قوله، لقوة شوكة الأتابك وكثرة أعوانه ممن اجتمع عليه من الطوائف، لا سيما الطائفة المؤيّدية فإنهم صاروا عصبا له وغيريّة على قرقماس، لما كان بين قرقماس وبين الأمير دولات المحمودى المؤيدى من العداوة قديما، لسبب السّكات عنه أليق، ودولات هو يومذاك عين المؤيدية ورئيسهم، غير أن جميع طائفة الناصرية كانت مع قرقماس فى الباطن لكونه خجداشهم، ولكن هم أيضا ممن كان انضم على الأتابك وصار لهم به إلمام كبير، فلم يظهروا الميل لقرقماس فى الظاهر مخافة أن لا يتم أمره وينحط قدرهم عند الأتابك؛ فصاروا يلاحظونه

(15/252)


بالقلب والخاطر لا بالفعل والقيام معه، والأتابك جقمق «1» يعرف جميع ذلك، غير أنه يتجاهل عليهم تجاهل العارف، لقضاء حاجته- انتهى.
ولما عملت الخدمة فى هذه الأيام [و] «2» لم يحصل لقرقماس غرضه، عاد إلى رأيه الأول من الكلام فى سلطنة الأتابك جقمق، وألح عليه حتى أجابه [89] صريحا.
وكان فى هذه الأيام كلّها كلما طلع الأمراء إلى الخدمة السلطانية، ينزل الجميع من القصر بعد انقضاء الخدمة إلى الأمير جقمق ويأكلون السماط عنده.
فلما كان آخر خدمة عملت عند [الملك] «3» العزيز يوسف فى يوم الاثنين سابع عشر [شهر] «4» ربيع الأول، نزل قرقماس من عند السلطان مع جملة الأمراء، واجتمع بالأمير الكبير وألح عليه بأنه يتسلطن فى اليوم المذكور، فلم يوافقه جقمق على ذلك وواعده على يوم الأربعاء تاسع عشر [شهر] «5» ربيع الأول.
ووافقه جميع الأمراء على خلع الملك العزيز وسلطنته، إلا آقبغا التّمرازى فإنه أشار عليه أن يؤخر ذلك ويتجرد إلى البلاد الشامية ويمهدها، كما فعل [الملك] «6» الظاهر ططر ثم يتسلطن، مخافة من عصيان النواب بالبلاد الشامية عليه عقيب سلطنته، قبل أن يرسخ قدمه، فردّ قوله قرقماس، وأشار بسلطنته فى يوم الأربعاء، ووافقه على ذلك جماعة المؤيدية؛ فتم الأمر على ما قاله قرقماس.
وكان الحزم ما قاله آقبغا التّمرازى، وبيانه أنه لولا سعد [الملك] «7» الظاهر جقمق حرّك قرقماس للركوب فى غير وقته، لكان قرقماس انتصر عليه لكثرة من كان «8» انضم عليه من المماليك الأشرفية وغيرهم؛ وأيضا لولا استعجال إينال الجكمى فى صدمته العساكر المصرية، لكان تم أمره لعظم ميل الناس إليه.

(15/253)


وأما تغرى برمش نائب حلب فكان مسكه على غير القياس، فإنه كان تركمانيّا ووافقه جماعة كبيرة من التركمان، مع قوته وكثرة ماله، فكان يمكنه أن يتعب [الملك] «1» الظاهر جقمق بتلك البلاد طول عمره، فلهذا أشار آقبغا التّمرازى بسفره قبل سلطنته. وقد حسب البعيد ونظر فى العواقب، فلم يسمع [الملك] «2» الظاهر له وتسلطن، وقاسى بعد ذلك شدائد وأهوالا، أشرف منها غير مرة على زوال ملكه، لولا مساعدة المقادير وخدمة السعد، لما سبق له فى القدم.
ولما كان يوم الأربعاء تاسع عشر [شهر] «3» ربيع الأول من سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة خلع الملك العزيز يوسف من الملك، وتسلطن الأمير الكبير جقمق العلائى، وتلقب بالملك الظاهر، حسبما يأتى ذكره فى أوائل سلطنته. وكانت مدة سلطنة [الملك] «4» العزيز على مصر أربعة «5» وتسعين يوما وزال بخلعه الدولة الأشرفية، وتمزقت مماليك أبيه وتشتتت فى البلاد سنين، وحبس أعيانهم.
ولم يكن [للملك] «6» العزيز فى السلطنة إلا مجرد الاسم فقط، ولم تطل أيامه ولا تحكّم فى الأمور لتشكر أفعاله أو تذم «7» ، وإنما كان آلة فى الملك والمتصرف غيره، لصغر سنه وعدم أهلية مماليك أبيه.
ولما خلع [الملك] «8» العزيز، أدخل إلى الدور السلطانيه واحتفظ به، وسكن بقاعة البربريّة «9» أشهرا، حتى تسحّب منها ونزل إلى القاهرة واختفى أياما كثيرة، حتى ظفر به وحبس بالقلعة أياما قليلة، ثم نقل إلى سجن الإسكندرية، حسبما يأتى ذكر ذلك [كله] «10» مفصلا فى ترجمة [الملك] «11» الظاهر جقمق [إن شاء الله تعالى] «12» .

(15/254)


واستمر الملك العزيز بسجن الإسكندرية على أجمل حال وأحسن طريقة من طلب العلم وفعل الخير إلى يومنا هذا؛ أحسن الله عاقبته [بمحمد وآله] «1» . وهو ثانى سلطان لقب بالملك العزيز من ملوك مصر، والأول: العزيز عثمان بن [السلطان] «2» صلاح الدين [يوسف] «3» بن أيوب، والثانى: العزيز هذا. وهو أيضا ثانى من سمى يوسف، من ملوك مصر، فالأول: [السلطان] «4» صلاح الدين يوسف هذا، [والله تعالى أعظم] «5» .

(15/255)