النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة
[ما وقع من
الحوادث سنة 842]
[90] ذكر سلطنة الملك الظاهر أبى «1» سعيد «2» جقمق على مصر
السلطان الملك الظاهر سيف الدين أبو سعيد جقمق العلائى الظاهرى
الجركسى، وهو الرابع والثلاثون من ملوك الترك وأولادهم بالديار
المصرية، والعاشر من الجراكسة وأولادهم، تسلطن بعد خلع [الملك] «3»
العزيز يوسف ابن [الملك] «4» الأشرف برسباى، باتفاق الأمراء وأعيان
المملكة على سلطنته.
ولما تم أمره استدعى الخليفة المعتضد بالله داؤد والقضاة الأربعة «5»
والأمير قرقماس أمير سلاح، وسائر الأمراء وجميع أعيان الدولة، إلى
الحرّافة بباب السلسلة من الإسطبل السلطانى، وجلس كل واحد فى مجلسه «6»
فافتتح الأمير قرقماس بالكلام مع الخليفة والقضاة بأن قال: السلطان
صغير والأحوال ضائعة لعدم اجتماع الكلمة فى واحد بعينه، ولا بد من
سلطان ينظر فى مصالح المسلمين وينفرد بالكلمة، ولم يكن يصلح لهذا الأمر
سوى الأمير الكبير جقمق هذا. فقال جقمق: هذا لا يتم إلا برضا الأمراء
والجماعة. فصاح الجميع: نحن راضون بالأمير الكبير. فعند ذلك مد الخليفة
يده وبايعه بالسلطنة؛ ثم بايعه القضاة والأمراء على العادة.
ثم قام من فوره إلى مبيت الحرّاقة، ولبس الخلعة الخليفتية السوداء،
وتقلّد بالسيف وخرج ركب فرسا أعد له بأبهة السلطنة وشعار الملك، وحملت
على رأسه القبة والطير، حملها الأمير قرقماس أمير سلاح، والأمراء مشاة
بين يديه، وسار إلى أن طلع إلى
(15/256)
القصر السلطانى بقلعة الجبل، وجلس على تخت
الملك، وقبّل «1» الأمراء الأرض بين يديه على العادة.
وكان جلوسه على تخت الملك فى يوم الأربعاء التاسع عشر من [شهر] «2»
ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة، على مضىّ سبع عشرة «3» درجة
من النهار المذكور، والطالع برج الميزان بعشر درجات وخمس وعشرين «4»
دقيقة، وكانت «5» الشمس فى السادس والعشرين من السّنبلة، والقمر فى
العاشر من الجوزاء، وزحل فى الثانى والعشرين من الحمل، والمشترى فى
السابع عشر من القوس، والمريخ فى الخامس من الميزان، والزهرة فى الحادى
عشر من الأسد، وعطارد فى الرابع عشر من السنبلة، والرأس فى الثانى من
الميزان.
(15/257)
ذكر أصل [الملك الظاهر جقمق] «1» وقدومه
إلى مصر ونسبته بالعلائى ثم بالظاهرى
فنقول: [كان] جاركسىّ «2» الجنس، وأخذ من بلاده صغيرا فاشتراه خواجا
كزلك، وكزلك بفتح الكاف وسكون الزاى وفتح اللام وكسرها وسكون الكاف
الثانية. وجلبه خواجا كزلك المذكور إلى الديار المصرية فابتاعه منه
الأتابك إينال اليوسفى، وقيل ولده أمير على بن إينال المذكور وهو
الأصح، ورباه عنده، وأرسله مع والدته «3» إلى الحج، ثم عاد جقمق إلى
القاهرة فى خدمة والده أمير على [المذكور، وكانت والدة أمير على] «4»
متزوجة بشخص من الأجناد [من] «5» أمير آخورية السلطان يسمى نغتاى،
ونغتاى بفتح النون والغين المعجمة، وبعدهما تاء مفتوحة وألف وياء
ساكنة.
ولما قدم جقمق إلى القاهرة أقام بها مدة يسيرة، وتعارف مع أخيه جاركس
القاسمى المصارع، وكان جاركس يوم ذاك من أعيان خاصكية أستاذه [الملك]
«6» الظاهر برقوق، فكلم جاركس [الملك] «7» الظاهر برقوقا فى أخذ جقمق
هذا من أستاذه أمير على بن إينال، فطلبه [الملك] «8» الظاهر منه فى
سرحة سرياقوس، وأخذه وأعطاه لأخيه جاركس، إنيا بطبقة الزمام من قلعة
الجبل. وقد اختلفت «9» الأقوال فى أمر عتقه: فمن الناس من قال إن أمير
على كان أعتقه قبل أن يطلبه [الملك] «10» الظاهر منه، فلما طلبه
[الملك] «11» الظاهر سكت أمير على
(15/258)
عن عتقه لتنال جقمق السعادة بأن يكون من
جملة مشتروات [الملك] «1» الظاهر، وكان كذلك. وهذا القول هو الأقوى [و]
«2» المتواتر بين الناس ولما يأتى بيانه.
ومن الناس من قال إنه كان فى الرق وقدّمه أمير على إلى الملك الظاهر
لما طلبه منه، ولو كان حرّا يوم ذاك لاعتذر بعتقه، وهذا أيضا مقبول،
[91] غير أن الذي يقوّى القول الأول يحتج بأن الملك الظاهر [جقمق] «3»
هذا لما كان أمير طبلخاناة وخازندارا فى الدولة المؤيدية [شيخ] «4» ،
أخذ الشهابى أحمد بن أمير على بن إينال اليوسفى وهو صغير، ووقف به إلى
السلطان الملك المؤيد، وسأل السلطان فيه ليكون من جملة المماليك
السلطانية، فسأل المؤيد عن أحمد المذكور فقال جقمق:
ياخوند، هذا ابن أستاذى أمير على، فقال المؤيد: ومن أين يكون هذا ابن
أستاذك؟
[الملك] «5» الظاهر أعتقك بحضرتنا الجميع، وأخرج لك خيلا على العادة.
فقال جقمق:
نعم هو كما قال السلطان، غير أن أمير على كان أعتقنى قبل ذلك، وسكت عن
عتقى لما طلبنى [الملك] «6» الظاهر منه، فغضب الملك المؤيد من ذلك
ووبخه، كونه أنكر عتاقة [الملك] «7» الظاهر له واعترف بعتاقة أمير على؛
ولم ينزل لذلك أحمد المذكور فى جملة المماليك السلطانية، فأخذه جقمق
عنده وتولى تربيته.
قلت: وعندى اعتراض آخر، وهو أنه يمكن أن الملك الظاهر كان هو الذي
أعتقه، وإنما أراد [الملك] «8» الظاهر جقمق بقوله إن أمير على أعتقه،
ليعظم الأمر على الملك المؤيد، لينزل أحمد المذكور فى جملة المماليك
السلطانية، لكثرة حنوه على أحمد المذكور، ولم يدر أن [الملك] «9»
المؤيد يغضبه ذلك، فإنه يقال فى الأمثال: «صاحب الحاجة أعمى لا يريد
إلا قضاءها» .
(15/259)
وكان [الملك] «1» الظاهر جقمق فى طبعه «2»
الرأفة والشفقة على أيتام الأجانب، فكيف الأقارب؟ ولا أستبعد ذلك-
انتهى.
ذكر ما وقع له من ابتداء أمره إلى أن تسلطن
فنقول: واستمر جقمق هذا عند أخيه بطبقة الزّماميّة «3» مدة يسيرة،
وأعتقه [الملك] «4» الظاهر برقوق، وأخرج له خيلا وقماشا على العادة
بمفرده، وهو أن بعض المماليك السلطانية من طبقة الزمام المذكورة توفى،
فقام جاركس فى مساعدة أخيه جقمق هذا حتى أخذ له جامكيّته وخيله. وأعتقه
[الملك] «5» الظاهر، ثم جعله بعد قليل خاصكيّا، كل ذلك بسفارة أخيه
جاركس المذكور. واستمر جقمق خاصكيّا إلى أن مات [الظاهر] «6» برقوق،
وصار ساقيا فى سلطنة [الملك الناصر فرج] «7» ، ثم تأمّر عشرة، إلى أن
خرج أخوه جاركس عن طاعة [الملك] «8» الناصر [فرج] «9» فأمسك السلطان
جقمق هذا، وحبسه بواسطة عصيان أخيه، فدام فى السجن إلى أن شفع فيه
الوالد وجمال الدين يوسف الأستادّار وأطلق من السجن، ثم قتل جاركس
فانكفّ جقمق هذا عن الدولة بتلطف، إلى أن قتل [الملك] «10» الناصر،
وملك شيخ [المحمودى] «11» الديار المصرية، فأنعم عليه بإمرة عشرة، ثم
نقله بعد سلطنته بمدة إلى إمرة طبلخاناه، ثم جعله خازندارا كبيرا بعد
انتقال الأمير يونس الركنى إلى نيابة غزة، ثم نقل إلى إمرة مائة وتقدمة
ألف فى دولة المظفّر أحمد ابن [الملك] «12» المؤيّد شيخ، ثم صار حاجب
الحجّاب بعد الأمير طرباى، فى أواخر الدولة الصالحية محمد أو فى أوائل
الدولة الأشرفية [برسباى] «13» ، ثم نقل إلى الأمير آخورية الكبرى عوضا
عن الأمير قصروه من تمراز، بحكم انتقال قصروه إلى نيابة طرابلس فى
أوائل صفر من سنة ست وعشرين [وثمانمائة] «14» ، وتولى الحجوبية
(15/260)
من بعده الأمير جرباش الكريمى المعروف
بقاشق «1» ، ثم نقل من الأمير آخورية إلى إمرة سلاح بعد إينال الجكمى،
واستقر عوضه فى الأمير آخورية الأمير حسين بن أحمد البهسنى التركمانى
المدعو تغرى برمش، ودام على ذلك سنين إلى أن نقل إلى أتابكية العساكر
بالديار المصرية، عوضا عن إينال الجكمى أيضا بحكم انتقال الجكمى إلى
نيابة حلب، بعد عزل قرقماس الشعبانى وقدومه على إقطاع إينال الجكمى
مقدم ألف بالقاهرة، فاستمر أتابكا إلى أن مات [الملك] «2» الأشرف
[برسباى] «3» فى ذى الحجة سنة إحدى وأربعين [وثمانمائة] «4» ، بعد أن
أوصى جقمق على ولده وجعله مدبّر مملكته، إلى أن صار من أمره ما رقّاه
إلى السلطنة. وقد ذكرنا ذلك كلّه مفصلا، غير أننا أعدناه هنا لينتظم
سياق الكلام مع سياقه- انتهى.
ولنعد «5» الآن إلى ما كنا فيه:
ولما جلس الملك الظاهر جقمق على تخت الملك وتم أمره، خلع على الخليفة
وعلى الأمير [92] قرقماس وقيّد لهما فرسنين بقماش ذهب، ولقب بالملك
الظاهر أبى «6» سعيد جقمق، ثم نودى فى الحال بالقاهرة ومصر بسلطنته
والدعاء له، وأن النفقة لكل مملوك من المماليك السلطانية مائة دينار،
فابتهج الناس بسلطنته. ثم أمر السلطان فقبض على الطواشى صفىّ الدين
جوهر الجلبانى الخبشى لالا الملك العزيز وهو يومئذ زمام الدار السلطانى
«7» ، وخلع على الزّينى فيروز الجاركسى الطواشى الرومى باستقراره زماما
عوضا عن جوهر المذكور.
ثم أصبح فى يوم الخميس العشرين من شهر ربيع الأول المذكور خلع على
الأمير
(15/261)
قرقماس الشعبانى الناصرى- أمير سلاح
المعروف بأهرام ضاغ- باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية عوضا عن
نفسه، وخلع على الأمير آقبغا التّمرازى أمير مجلس باستقراره أمير سلاح
عوضا عن قرقماس المذكور، وخلع على الأمير يشبك السّودونى حاجب الحجاب
باستقراره أمير مجلس عوضا عن آقبغا التمرازى، وكان السلطان خيّر تمراز
القرمشى رأس نوبة النوب فى وظيفة أمير مجلس أو الأمير آخورية الكبرى،
فمال إلى الأمير آخورية الكبرى، فخلع عليه بها عوضا عن الأمير جانم
الأشرفى بحكم حبسه بثغر الإسكندرية، وخلع على أركماس الظاهرى الدوادار
الكبير باستمراره على وظيفة الدوادارية، وعلى الأمير قراخجا الحسنى
الظاهرى باستقراره رأس نوبة النوب عوضا عن تمراز القرمشى، وعلى الأمير
تغرى بردى البكلمشى المؤذى باستقراره حاجب الحجاب عوضا عن يشبك
السّودونى، وعلى الأمير تنبك البردبكى أحد أمراء الألوف باستقراره فى
نيابة قلعة الجبل، ثانى مرة عوضا عن تنبك النّوروزى الجقمقى، وخلع على
الأمير قراجا الأشرفى فوقانيّا «1» وهو آخر من بقى من مقدمى الألوف،
وباقى الإقطاعات شاغرة إلى الآن عن أصحابها، وكتب بحضور الأمير جرباش
الكريمى قاشق من ثغر دمياط، وكان له به سنين كثيرة بطالا، ثم خلع
السلطان على دولات باى المحمودى الساقى المؤيدى- أحد أمراء العشرات
ورأس نوبة- باستقراره أمير آخور ثانيا، عوضا عن يخشباى المقبوض عليه
قبل تاريخه، وعلى الأمير تنم من عبد الرزّاق المؤيدى- أحد أمراء
العشرات ورأس نوبة- باستقراره محتسب القاهرة عوضا عن الإمام نور الدين
السويفى، وعلى قانى باى الجاركسى- الذي تأمّر قبل تاريخه بمدة يسيرة-
باستقراره شادّ الشراب خاناه عوضا عن على باى الأشرفى بحكم القبض عليه،
واستمر على إمرة عشرة؛ وعلى الأمير قانى باى الأبوبكريّ الأشرفى الساقى
باستقراره خازندارا عوضا عن جكم خال العزيز بحكم القبض عليه [أيضا] «2»
.
(15/262)
ثم أنعم السلطان على جماعة كثيرة جدا
باستقرارهم أمراء عشرات يطول الشرح فى ذكرهم، لأنها دولة أقيمت بعد
ذهاب دولة، وتغير جميع من «1» كان من أرباب الوظائف الذين كانوا فى
الدولة الأشرفية من الخاصكية وغيرهم، واستقرّ جماعة كبيرة رؤوس نوب،
منهم من خلع عليه قبل أن يلبس فوقانىّ الإمرة، وهو إلى الآن بحياصة
ذهب، ونالت السعادة جميع المماليك المؤيدية الأصاغر، بحيث أن بعضهم كان
فقيرا يعيش بالتّكدّى فأخذ إقطاعا هائلا واستقر بوابا دفعة واحدة،
وأشياء كثيرة من هذا ذكرناها فى غير هذا المحل.
ثم فى يوم الاثنين رابع عشرين شهر ربيع الأول المذكور، جلس السلطان
الملك الظاهر جقمق بالمقعد المطل على الحوش، تجاه باب الحوش المذكور،
وابتدأ فيه بنفقة المماليك السلطانية لكل واحد مائة دينار، واستمرت
النفقة فيهم فى كل [يوم] «2» موكب، إلى أن انتهى أمرهم فيها.
ثم فى يوم الثلاثاء خامس عشرينه وصل الأمير جرباش قاشق [من ثغر دمياط]
«3» فأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بالقاهرة.
ثم فى يوم الخميس سابع عشرينه عمل السلطان المولد النبوى بالحوش على
العادة، وزاد فيه زيادات حسنة [93] من كثرة الأسمطة والحلاوات؛ وانفض
الجميع بعد صلاة المغرب.
ثم فى يوم السبت تاسع عشرينه تجمع تحت القلعة نحو ألف مملوك من مماليك
الأمراء، يريدون النفقة كما نفق على المماليك السلطانية، فأمر لهم
السلطان بنفقة، فنفقت فيهم؛ ولم يكن لذلك عادة قبل تاريخه.
ثم فى يوم الاثنين ثالث «4» شهر ربيع الآخر قبض السلطان على تاج الدين
(15/263)
عبد الوهاب الأسلمى- المدعو بالخطير- ناظر
الإسطبل السلطانى وعلى ولديه، والثلاثة أشكال عجيبة.
وفيه كانت [مبادئ] «1» وقعة قرقماس مع الملك الظاهر جقمق، وخبره أنه
لما كان يوم الثلاثاء المذكور، ثار جماعة كبيرة من المماليك القرانيص
ممن كان قام مع الملك الظاهر جقمق، على المماليك الأشرفية، وطلبوا
زيادة جوامكهم ورواتب لحمهم، ووقفوا تحت القلعة فأرسل إليهم السلطان
يعدهم بعمل المصلحة، فلم يرضوا بذلك وأصبحوا من الغد فى يوم الأربعاء
رابع شهر ربيع الآخر على مواقفهم. وركب السلطان ولعب الكرة بالحوش
السلطانى مع الأتابك قرقماس الشعبانى وغيره من الأمراء إلى أن انتهى
لعبهم، فأسرّ بعض من تأمّر من المماليك المؤيّدية إلى السلطان، بأن
الأتابك قرقماس يريد الركوب على السلطان، فنهره السلطان واستبعد وقوع
ذلك من قرقماس، لا سيما فى هذا اليوم.
هذا وقد كثر جمع المماليك السلطانية من الأشرفية وغيرهم، ووقفوا تحت
القلعة كما كانوا فى أمسه، ثم [وقفوا] «2» عند باب المدرج أحد أبواب
القلعة، وصاروا كلما نزل أمير من الخدمة السلطانية اجتمعوا به وكلموه
فى عمل مصالحهم، ووقع لهم ذلك مع جماعة كبيرة من الأمراء، إلى أن نزل
الأتابك قرقماس فأحاطوا به وحدثوه فى ذلك وأغلظوا فى حق السلطان،
فوعدهم قرقماس بأنه يتحدث بسببهم مع السلطان، وبشّ لهم وألان معهم فى
الكلام، فطمعوا فيه وأبوا أن يمكنوه من الرجوع إلى السلطان، وكلموه فى
الركوب على السلطان وهم يوافقوه على ذلك، فأخذ يمتنع تمنعا ليس بذاك.
وظهر من كلامه فى القرائن أنه يريد كثرة من يكون معه، وأن ذلك لا يكون
فى هذا اليوم، فلما فهموا منه ذلك تحركت كوامن المماليك الأشرفية من
الملك
(15/264)
الظاهر جقمق، [و] «1» انتهزوا الفرصة
وقصدوا الركوب ووقوع الحرب فى الحال، بجهل وعدم دربة بالوقائع والحروب،
وأخذوه ومضوا وهم فى خدمته إلى بيته، وكان سكنه بملكه بالقرب من
المدابغ خارج باب زويلة. وتلاحق بهم جماعة كثيرة من أعيان المماليك
السلطانية وبعض الأمراء وعليهم السلاح، وراودوه على الركوب فلم يعجبه
ذلك، وقال لهم ما معناه أن له أصحابا «2» وخجداشية كثيرة وجماعة من
أكابر الأمراء لهم معه ميل وغرض، فاصبروا إلى باكر النهار من الغد
لنتشاور معهم فى أمرنا هذا وفيما نفعله، فامتنعوا من ذلك وأظهروا له إن
لم يركب فى هذا اليوم لم يوافقوه بعد ذلك.
وكان جمعهم قد كثر إلى الغاية، ولكن غالبهم المماليك الأشرفية، وكان
الذي قال له ذلك الأمير مغلباى الجقمقى أستادار الصحبة على لسان بعض
أصحابه، وقيل إن قرقماس أراد بهذا الكلام توقفهم حتى يتفرقوا عنه ثم
يصعد هو إلى القلعة ويعلم السلطان بذلك.
وعندى أن الصحيح [أنه] «3» لم يرد بقوله هذا إلا تحكيم أمره حتى يأتوه
من الغد بجموعهم، ويأخذوه غصبا كما فعل القوم بالملك الظاهر جقمق،
ويجتمع عليه حواشيه وأصحابه- وأنا أعرف بحاله من غيرى- فأبوا عليه
وألحوا فى ركوبه فى الوقت، وخوّفوه تفرّق من اجتمع عليه فى هذا اليوم،
وكانوا خلائق كثيرة إلى الغاية. فنظر عند ذلك فى أمره، فلم يجد بدا من
موافقتهم وركوبه معهم فى هذا اليوم لما فى نفسه من الوثوب على السلطنة
[والاستبداد بالأمر] «4» ، وكان فيه طيش وخفة [فى صفة] «5» عقل ورزانة
[94] لا يفهم منه ذلك إلا من له ذوق ومعرفة بنقد الرجال.
وخاف قرقماس إن لم يركب فى هذا اليوم وأراد الركوب بعد ذلك، لا يوافقه
أحد من
(15/265)
هؤلاء، فينحلّ بذلك برمه ويطول عليه الأمر،
لعظم ما كان داخله الحسد للملك الظاهر جقمق، ولله دار القائل: «الحاسد
ظالم فى صفة مظلوم مبتلى غير مرحوم» .
وأحسن من هذا قول القائل، وهو لسان حال الملك الظاهر جقمق: [الطويل]
وكلّ أداريه على حسب حاله ... سوى حاسدى فهى التى لا أنالها
وكيف يدارى المرء حاسد نعمة ... إذا كان لا يرضيه إلا زوالها
فعند ذلك قام ولبس آلة الحرب هو ومماليكه، وركب من وقته قريب الظهر من
يوم الأربعاء رابع شهر ربيع الآخر المذكور، وخرج من بيته بعساكر عظيمة،
ومعه أمراء العشرات: الأمير أزبك السيفى قانى باى نائب الشام المعروف
بأزبك جحا، والأمير جانم الأشرفى [المعروف برأس نوبة سيّدى، وكلاهما
أمير غشرة «1» ، وقد وافقه غيرهما مثل الأمير قراجا] «2» الأشرفى أحد
مقدمى الألوف، والأمير مغلباى الجقمقى أستادار الصحبة، ووعداه أنهما
يوافياه «3» بمماليكهما «4» بالرملة.
وخرج الأمير قرقماس من بيته بجموعه فوافيته خارج باب زويلة من غير
ميعاد، وسرت معه، وصحبته عساكر كثيرة من الأشرفية وغيرهم، وأنا بجانبه.
فتأملت فى أمره فلم يعجبنى حاله، لاضطراب عساكره ولعدم من يرأسهم من
أعيان الأمراء ممن مرّت بهم التجارب، وأيضا لكثرة قلقه فى مسيره وعدم
ثباته فى كلامه، وظهر لى منه أيضا أنه لم يعجبه ما هو فيه من اختلاف
كلمة من هو معه من المماليك السلطانية وآرائهم المفلوكة وكثرة هرجهم،
ثم صار يقول فى مسيره: الله ينصر الحق، فيقول آخر: الله ينصر الملك
العزيز يوسف، ويقول آخر: الله ينصر الأمير قرقماس، ومنهم من قال: الله
ينصر السلطان، ولم أدر أىّ سلطان قصد؛ كل ذلك فى تلك المسافة القريبة
من بيته إلى الرملة.
(15/266)
ثم كشف قرقماس رأسه وصاح: «الله ينصر الحق»
غير مرة، فتعجبت أنا من دعائه، لأىّ حق يريد؟ فلما أن كشف رأسه تفاعل
الناس بخذلانه، وظهر لى منه أيضا أنه كان يتخوف من المماليك الأشرفية،
لما بلغنى بعد ذلك أنه بلغه فى اليوم المذكور أنهم إذا انتصروا على
[الملك] «1» الظاهر جقمق وملكوا القلعة ضربوا رقبة قرقماس، فنفر خاطره
من ذلك. وكأنه بلغه ذلك بعد ركوبه وشروعه فيما هو فيه، فبقى لا يمكنه
إلا الإتمام، لأن الشروع ملزم؛ والمقصود أنه سار إلى أن وصل قريبا من
جامع السلطان حسن، فوافاه الأمير قراجا بطلبه ومماليكه وعليهم السلاح،
والأمير مغلباى الجقمقى، وسارا معه من تحت مدرسة السلطان حسن إلى بيت
قوصون تجاه باب السلسلة.
وكان يسكنه يوم ذاك الأمير أركماس الظاهرى الدوادار الكبير، وقد أغلقه
مماليك أركماس [المذكور] «2» ، فقصد قرقماس [المذكور] «3» عبور البيت
المذكور فوجده مغلقا، ثم دخله بعد أمور، فإذا بأركماس الظاهرى قد خرج
من باب سرّ البيت المذكور، ومضى إلى حال سبيله [محمولا] «4» لعجزه عن
الحركة لوجع كان يعتريه برجليه، وأيضا لم يكن من هذا القبيل.
وملك قرقماس البيت ودخله، وأخذ فيما يفعله مع عساكر السلطان من القتال
وغيره، فلم ينتظم له أمر ولا رتب له طلب من كثرة الغوغاء والهرج، حتى
أن باب السلسلة كان مفتوحا منذ قدم قرقماس إلى الرملة وأخذ بيت أركماس
الظاهرى، والأمير تمراز القرمشى الأمير آخور الكبير لم يلتفت إلى غلقه
ولا تحرك من مجلسه ولا ألبس أحدا من مماليكه السلاح، ومن عظم تراخيه فى
ذلك «5» نسبوه للمالأة مع قرقماس- ولا يبعد ذلك. ومع هذا كله لم يلتفت
أحد من أصحاب قرقماس إلى أخذ باب السلسلة، ولا سار أحد إلى جهته جملة
كافية، لعظم
(15/267)
اضطرابهم وقلة سعدهم. [95] كل ذلك والسلطان
الملك الظاهر إلى الآن بالقلعة فى أناس قليلة من خواصه، وهو لا يصدّق
ما قيل له فى حق قرقماس، إلى أن حضر قرقماس إلى الرملة وملك بيت قوصون،
فعند ذلك ركب من الحوش السلطانى ونزل فى أمرائه الصغار وخاصكيّته إلى
باب السلسلة وجلس بالمقعد المطل على الرميلة، وقد صحب معه فرسا عليه
قماش ذهب يوهم به أنه لأجل قرقماس إذا طلع إليه طائعا، وأن قرقماس أرسل
يقول له أنه يريد أن يفر من المماليك الأشرفية ويطلع إلى القلعة، فأمسك
بهذه الحركة جماعة كبيرة عن التوجه إلى قرقماس من خجداشيته وأصحابه.
وكان هذا الذي فعله [الملك] «1» الظاهر من أكبر المصالح، فإن كان على
حقيقته فقد نفع، وإن كان حيلة من [الملك] «2» الظاهر جقمق فكانت فى
غاية الحسن ومن أجود الحيل.
ولما جلس الملك الظاهر بالمقعد من الإسطبل السلطانى المطل على الرميلة،
نزلت جماعة من خاصكيّته مشاة وعليهم السلاح وناوشوا القرقماسية بالقتال
قليلا. ثم أمر السلطان فنودى: من كان من حزب السلطان فليتوجه إلى بيت
الأمير آقبغا التّمرازى أمير سلاح، وكان سكن آقبغا المذكور بقصر بكتمر
الساقى بالقرب من الكبش تجاه مدرسة سنجر الجاولى «3» ، فلما سمع
الأمراء والمماليك المناداة ذهبوا إلى بيت الأمير آقبغا التمرازى،
فاجتمع عنده خلائق وجماعة كبيرة من الأمراء، فممن اجتمع عنده من مقدمى
الألوف: الأمير قراخجا الحسنى رأس نوبة النوب، وحاجب الحجاب تغرى بردى
البكلمشى المؤذى، ومن الطبلخاناه وغيرهم: الأمير أسنبغا الطّيّارى وعدة
كبيرة.
(15/268)
ثم أرسل آقبغا التمرازى رأس نوبته لكشف خبر
قرقماس ومن وافقه من الأمراء، فتوجه المذكور وعاد إليه بالخبر أنه ليس
معه من الأمراء إلا قراجا وأزبك جحا ومغلباى الجقمقى وجانم الأشرفى،
فقال آقبغا: إذن فلا شىء. وركب فرسه وركب الأمراء معه بمن انضم عليهم
من المماليك السلطانية، وساروا إلى أن وصلوا إلى صليبة أحمد بن طولون
عند الخانقاه الشيخونية، ووقفوا هناك وتشاوروا فى مرورهم إلى باب
السلسلة، وقد ملأت عساكر قرقماس الرميلة «1» ؛ فمن الناس من قال: نتوجه
من على المشهد النّفيسى إلى باب القرافة ثم نطلع إلى القلعة، ومنهم من
قال غير ذلك.
وبينما «2» هم فى ذلك، ورد عليهم الخبر أن الأمير قراجا ومغلباى
الجقمقى خرجا من عسكر قرقماس ولحقا بالسلطان؛ فعند ذلك قوى عزم الأمراء
على الطلوع إلى القلعة من سويقه منعم «3» ، فساروا بمن معهم إلى أن
صاروا بآخر سويقة منعم فحركوا خيولهم يدا واحدة، إلى أن وصلوا إلى
القلعة، بعد أن كبا بآقبغا التمرازى فرسه ثم قام به ولم يفارق السرج.
وطلعوا الجميع إلى القلعة، وقبلوا الأرض بين يدى السلطان، فأكرمهم
السلطان غاية الإكرام وندبهم لقتال قرقماس، فنزلوا من وقتهم بأطلابهم
ومماليكهم، وقد انضم معهم جميع أمراء الألوف وغيرها، وصفّ آقبغا عساكره
والأطلاب الذين معه «4» ، وقبل أن يعبّى عساكر السلطان صدمته
القرقماسية من غير تعبية ولا مصاففة، لأن قرقماس لما وقف تجاه باب
السلسلة لم يقدر على تعبية عساكره لكثرة المماليك وقلة من معه من
الأمراء، ووقف هو بينهم فى الوسط، ولم يكن لمعسكره قلب ولا ميمنة ولا
ميسرة، وذلك لقلة معرفة أصحابه بممارسة الحروب وتعبية العساكر، وكان
ذلك من أكبر الأسباب فى هزيمة قرقماس، فإنه تعب فى موقفه ذلك اليوم
غاية التعب، فصار
(15/269)
تارة يكرّ فى الميمنة [وتارة فى الميسرة]
«1» وتارة يقاتل بنفسه حتى أثخن جراحه، وتارة يعود إلى سنجقه، ولم يقع
ذلك لعساكر السلطان فإن غالبهم كانوا أمراء ألوف وطبلخانات وعشرات،
فأما مقدمو «2» الألوف فوقفت أطلابهم تحت القلعة تجاه قرقماس، كلّ طلب
على حدته، فصاروا كالتعبية.
[96] وبرزت الأمراء والخاصكيّة لقتال قرقماس، طائفة بعد أخرى، هذا مع
معرفتهم بمكايد الحروب وأحوال الوقائع، وآقبغا التمرازى فى اجتهاد يعبى
العساكر السلطانية ميمنة وميسرة وقلبا «3» وجناحين، وكان قصده تعبية
المجنّح فلم يمهله القرقماسية، وبادروه بالقتال والنزال من غير إذن
قرقماس، فتصادم الفريقان غير مرة، والهزيمة فيها على السلطانية، وتداول
ذلك بينهم مرارا كثيرة. واشتد القتال وفشت الجراحات فى الطائفتين، وقتل
الأمير جكم النّوروزى أحد أمراء العشرات بوسط الرملة وهو من حزب
السلطان، كل ذلك ومنادى قرقماس ينادى فى الناس: من يأتى قرقماس من
المماليك السلطانية فله مائتا دينار، ومن يأتيه من الزّعر فله عشرون
دينار، فكثر جمعه من الزّعر والعامة، فأخذ [الملك] «4» الظاهر جقمق
ينثر الذهب على الزّعر فمالوا إليه بأجمعهم، وقال لسان حالهم: «درّة
معجّلة ولا درّة مؤجّلة» .
ثم أمر السلطان بمناد فنادى من أعلى سور القلعة: «من كان فى طاعة
السلطان فليحضر وله الأمان كائن من كان وله كذا وكذا» ، وأوعد بأشياء
كثيرة. كل ذلك والقتال فى أشد ما يكون، ولم يكن غير ساعة جيدة إلا وأخذ
عسكر قرقماس فى تقهقر، وتوجهت الناس إلى السلطان شيئا بعد شىء. وكان
جماعة من أصحابنا من الناصرية وقفوا عند الصّوّة من تحت الطبلخاناه
[السلطانية] «5» حتى يروا ما يكون
(15/270)
من أمر خشداشهم الأتابك قرقماس، وهواهم
وميلهم إليه، فإنه قيل فى الأعصار الخالية: «لا أفلح من هجيت قبيلته» ؛
فلما رأوا أمر قرقماس فى إدبار، وأخذ أصحابه فى التفرق عنه، انحازوا
بأجمعهم إلى جهة باب السلسلة، وأظهر كل واحد منهم أنه كان «1» ممن قاتل
قرقماس. ولم يخف ذلك على [الملك] «2» الظاهر، لكنه لم يسعه يوم ذاك إلا
السكات. وبالله لقد رأيت الأمير آقبغا التركمانى الناصرى وهو يدق
بزخمته على طبله، ويندب الناس لأخذ قرقماس بعد أن أشرف على الهزيمة،
وعبرته قد خنقته حتى إنه لا يستطيع الكلام من ذلك.
ولما كان بين الظهر والعصر أخذ قرقماس فى إدبار، واضمحلت عساكره وذهبت
أصحابه، وجرح هو فى وجهه ويده، وكلّ وتعب، وانفلت عنه جموعه، وصار
الرجل من أصحابه يغير لبسه ثم يطلع فى الحال إلى القلعة حتى ينظره
السلطان، هذا والرمى عليه من أعلى القلعة مترادف بالسهام والنفوط.
وكان أصحاب قرقماس فى أول حضوره إلى الرميلة اقتحموا باب السلطان حسن
فلم يقدروا على فتحه، فأحرقوه ودخلوا المدرسة وصعدوا على سطحها وأرموا
على السلطان وهم أيضا «3» بالنشاب والكفيات، إلى أن أبادوا القلعيين،
ومع هذا كله وأمر قرقماس فى إدبار.
وقبل أن تقع الهزيمة على عساكر قرقماس من الذين ثبتوا معه، فرّهو فى
العاجل فانهزم عند ذلك عسكره بعد أن ثبتوا بعد ذهابه ساعة، ثم انقلبوا
وولوا الأدبار فما أذّن العصر إلا وقد تمت الهزيمة [بعد أن جرح خلائق
من الطائفتين] «4» ، فكان ممن جرح من أعيان السلطانية: الأمير آقبغا
التّمرازى أمير سلاح، والأمير تغرى بردى
(15/271)
المؤذى حاجب الحجاب برمح أخرق شدقه، لزم
منه الفراش مدة طويلة وأشرف على الموت، والأمير أسنبغا الطيارى أيضا من
طعنة رمح أصابه فى ضلعه، وجماعة كثيرة من الخاصكية والمماليك يطول
الشرح فى تسميتهم.
وعند ما انهزمت عساكر قرقماس أخذوا سنجقه وطلعوا به إلى السلطان، وفرّ
قرقماس فلم يعرف أين ذهب؛ فتوهّم السلطان أنه توجّه إلى جهة الشام فندب
الأمير آقبغا التمرازى فى جماعة إلى جهة الخانقاه، فسار إلى أن قارب
المرج والزيّات، فلم يجد فى طريقه أثر أحد من العساكر، فعلم أن قرقماس
اختفى بالقاهرة، فعاد.
وأما الزّعر، فإنهم لما رأوا الهزيمة على القرقماسية [97] أخذوا فى
نهبهم، ثم توجهوا إلى داره فنهبوها وأخذوا جميع ما فيها، وفى الحال
سكنت الفتنة وفتحت الدكاكين، ونودى بالأمان والبيع والشراء. وأخذ أهل
الحرس فى تتبع قرقماس وحواشيه، وندب السلطان أيضا جماعة من خواصه فى
الفحص عن أمره، وما أمسى الليل حتى ذهب أثر الفتنة كأنها لم تكن، وبات
الناس فى أمن وسلام.
وأما السلطان فإنه لما تحقق هزيمة قرقماس، قام من مجلسه بمقعد الإسطبل
وطلع إلى القلعة مؤيدا منصورا كأول يوم تسلطن، فإنه كان فى بحران كبير
من أمر قرقماس وشدة بأسه وعظم شوكته وجلالته فى النفوس. وقد كان
[الملك] «1» الظاهر يتحقق أن قرقماس لا بد له من الركوب عليه، لحبه
للرئاسة وتشغّب «2» رأسه بالسلطنة، ولا يمكنه القبض عليه لاضطراب أمره
كما هى أوائل الدول، فكان السلطان يريد مطاولته من يوم إلى يوم، إلى أن
يتمكن منه بأمر من الأمور، فعجّل الله له أمره بعد شدة هالته عقبها فرج
وأمن.
ولما أصبح يوم الخميس خامس شهر ربيع الآخر، عملت الخدمة السلطانية
بالقصر
(15/272)
السلطانى، وطلع القضاة والأعيان وهنّأوه
«1» بالنصر والظفر، وقد وقف على باب القصر جماعة من أمراء المؤيدية
الرءوس نوب، مثل جانبك المحمودى، وعلى باى العجمى، وأمثالهما «2» ،
ومنعوا المماليك الأشرفية من الدخول إلى الخدمة السلطانية؛ وصار كل
واحد منهم يضرب المملوك من الأشرفية على رأسه وأكتافه بالعصى حتى يمنعه
من الدخول. هذا بعد أن يوسعه سبّا وتوبيخا، وقطع رواتب جماعة كثيرة
منهم.
ثم أمر السلطان القضاة، فجلسوا بجامع القلعة، بسبب قطع سلالم مآذن
المدرسة الحسنية «3» ، فحكم قاضى القضاة شمس الدين محمد بن البساطى
المالكى بقطعها، وألزم الناظر على المدرسة بقطع السلالم المذكورة،
فقطعت فى الحال.
ثم أمر السلطان بالفحص عن قرقماس، ونودى عليه بشوارع القاهرة، وهدّد من
أخفاه، فظفر به من الغد فى يوم الجمعة سادس شهر ربيع الآخر، وكان من
خبره:
أنه لما انهزم سار وحده إلى جهة الرّصد «4» ، وقيل معه واحد من حواشيه،
فأقام به نهاره، ثم عاد من ليلته- وهى ليلة الخميس- إلى جهة الجزيرة،
ثم مضى منه إلى بستانه بالقرب من موردة الجبس «5» وقد ضاقت عليه الدنيا
بأسرها، وكاد يهلك من الجوع [والعطش] «6» ، فلما رأى ما حل به، بعث إلى
الزينى عبد الباسط يعرفه بمكانه، ويأخذ له أمانا من السلطان. فركب عبد
الباسط فى الحال وطلع إلى السلطان
(15/273)
فى بكرة يوم الجمعة المذكور، وعرّفه بأمر
قرقماس، فندب السلطان ولده المقام الناصرى محمدا للنزول إليه، فركب
وسار فى خدمته عبد الباسط حتى أتوا إلى موضع كان فيه قرقماس.
حدّثنى المقام الناصرى محمد المذكور، قال: لما دخلت على قرقماس قام
إلىّ وانحطّ يقبل قدمى فمنعته من ذلك فغلبنى وقبّل قدمى، ثم يدى، ثم
شرع يتخضّع إلىّ ويتضرع، وقد علاه الذل والصغار، ولم أر فى عمرى رجلا
ذلّ كذلته، ولا جزع جزعه، وأخذت أسكّن روعه، وجعلت فى عنقه منديل
الأمان الذي أرسله والدى إليه، فقبل يدى ثانيا ثم أراد الدخول تحت
ذيلى، فلم أمكنه من ذلك إجلالا له، ثم خرجنا من ذلك المجلس وركبنا
وأركبناه فرسا من جنائبى، ومضينا به إلى القلعة، وهو فى طول طريقه يبكى
ويتضرع إلىّ بحيث أنه رقّ عليه قلبى، وكلما مررنا به على أحد من
العامة، شتمه ووبخه، وأسمعه من المكروه مالا مزيد عليه، حتى لو أمكنهم
رجمه لرجموه.
هذا ما حكاه المقام الناصرى، ولما أن وصل قرقماس إلى القلعة، وبلغ
السلطان وصوله جلس على عادته، فحال ما مثل بين يديه خرّ على وجهه يقبل
الأرض، ثم قام ومشى قليلا، ثم خرّ وقبّل الأرض ثانيا، هذا ووجهه صار
«1» كلون الزعفران من الصفار وشدة الخوف، فلما قرب من السلطان أراد أن
يقبل رجله، فمنعوه أرباب الوظائف من ذلك، ثم أخذ يتضرع، فلم يطل
السلطان وقوفه [98] ووعده «2» بخير على هينته.
ثم أمر به، فأخذ وأدخل إلى مكان بالحوش، فقيّد فى الحال، وهو يشكو
الجوع، وذكر أنه من يوم الوقعة ما استطعم بطعام، فأتى له بطعام فأكله،
وقد زال عنه تلك الأبهة والحشمة من عظم ما داخله من الخوف والذل، ولهجت
العامة تقول فى الطرقات:
«الفقر والإفلاس ولا ذلتك يا قرقماس» . قلت: وما أبلغ قول القائل فى
معناه:
[الوافر]
(15/274)
أرى الدنيا تقول بملء فيها ... حذار حذار
توبيخى وفتكى
ولا يغرركم منّى ابتسام ... فقولى مضحك والفعل مبكى
وأبلغ من هذا قول أبى نواس [فى الزهد] «1» : [الطويل]
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشّفت ... له عن عدوّ فى ثياب صديق «2»
ولما أمسك قرقماس المذكور تمّ سرور السلطان، وهدأ «3» سرّه، وأخذ فى
مسك جماعة من أعيان الأشرفية، فأمسك فى يوم واحد أزيد من ستين خاصكيّا
من أعيان المماليك الأشرفية، وحبس الجميع بالبرج من قلعة الجبل.
ثم فى يوم السبت سابع ربيع الآخر، خلع السلطان على الأمير آقبغا
التّمرازى أمير سلاح، باستقراره أتابك العساكر عوضا عن قرقماس المقدم
ذكره، وخلع على يشبك السّودونى أمير مجلس، باستقراره أمير سلاح عوضا عن
آقبغا التّمرازى، وعلى الأمير
(15/275)
جرباش قاشق، باستقراره أمير مجلس عوضا عن
يشبك المذكور. وفى هذا اليوم أيضا أنزل بالأمير «1» قرقماس الشعبانى
المقدم ذكره مقيدا من القلعة على بغل على العادة إلى الإسكندرية، بعد
أن سمع من العامة مكروها كثيرا إلى الغاية، كل ذلك لأنه كان لما ولى
الحجوبية بالديار المصرية، شدّد على الناس وعاقب على المسكرات العقوبات
الخارجة عن الحد، فإنه كان فيه ظلم وجبروت، فلما أن وقع له ما وقع، صار
من كان «2» فى نفسه شىء، انتقم منه فى هذا اليوم، ويوم طلوعه، فنعوذ
بالله من زوال النعم.
ثم فى يوم الاثنين تاسعه، قرئ عهد السلطان الملك الظاهر جقمق، بالقصر
السلطانى من قلعة الجبل، وقد حضر الخليفة أمير المؤمنين أبو الفتح
داؤد، والقضاة الأربعة «3» ، وتولى قراءته كاتب السر الصاحب بدر الدين
حسن بن نصر الله، وكان العهد من إنشاء القاضى شرف الدين الأشقر نائب
كاتب السر. ولما انتهى كاتب السر من قراءة العهد، خلع السلطان على
الخليفة والقضاة، وعلى كاتب السر ونائبه شرف الدين المذكور، وانفض
الموكب.
ثم فى يوم السبت رابع عشر شهر ربيع الآخر، أنعم السلطان على الأمير
قراجا الأشرفى أحد مقدمى الألوف، بإقطاع الأتابك آقبغا التّمرازى، بحكم
انتقال آقبغا على إقطاع الأتابك قرقماس الذي هو برسم من يكون أتابك
العساكر، وكان السلطان زاد قرقماس تقدمة أخرى، زيادة على إقطاع
الأتابكية يترضاه بذلك، فلم ينعم السلطان بالزيادة على آقبغا: بل أنعم
بها على بعض الأمراء، وأنعم السلطان بتقدمة قراجا على الأمير ألطنبغا
المرقبى المؤيدى، الذي كان ولى حجوبية الحجّاب فى الدولة المؤيدية،
وكان له مدة طويلة بطّالا، ثم صار أمير عشرة، وأنعم السلطان بإمرة مائة
وتقدمة ألف على الأمير إينال الأبوبكريّ الأشرفى، عوضا عن قرقماس، وهذه
التقدمة التى كانت مع قرقماس زيادة
(15/276)
على إقطاع الأتابكية المقدم ذكرها، وأنعم
بإقطاع إينال ووظيفته الدوادارية الثانية على الأمير أسنبغا الطيّارى
الحاجب الثانى.
وفيه حضر المقرّ الكمالى محمد بن البارزى من دمشق بطلب، بعد أن تلقاه
جميع أعيان الديار المصرية، وأصبح من الغد فى يوم الثلاثاء سابع عشر
ربيع الآخر المذكور، خلع السلطان عليه باستقراره فى كتابة السر الشريف
بالديار المصرية، عوضا عن الصاحب بدر الدين بن نصر الله بحكم عزله،
وهذه ولاية [99] كمال الدين المذكور لوظيفة كتابة السر ثالث مرة، وهى
أعظم ولاياته، لأنه صار صهر السلطان وكاتب سره.
وفى يوم الثلاثاء هذا، خلع السلطان على الأمير أسنبغا الطيّارى
بالدوادارية الثانية، وخلع على الأمير يلبغا البهائى «1» الظاهرى أحد
أمراء العشرات، باستقراره حاجبا ثانيا، عوضا عن أسنبغا الطيّارى.
ثم فى يوم الخميس تاسع عشره، خلع السلطان على الأمير إينال الأبوبكريّ
الأشرفى باستقراره أمير حاجّ المحمل، وأنعم عليه بعشرة آلاف دينار. هذا
والقبض على المماليك الأشرفية مستمر فى كل يوم، وكل من قبض عليه منهم،
أخرج إقطاعه ووظيفته، وحبس بالبرج من القلعة؛ وقد عيّن السلطان جماعة
منهم للنفى إلى الواحات.
ثم فى يوم الأربعاء خامس عشرينه، أخرج السلطان جماعة كبيرة من المماليك
الأشرفية من برج القلعة، وأمر بنفيهم إلى الواحات؛ فخرجوا من القاهرة
من يومهم، وكانوا عدة كبيرة.
[ثم] «2» فى يوم السبت خامس جمادى الأولى، رسم السلطان بالإفراج عن
الأمير خشقدم الطّواشى اليشبكى مقدم المماليك كان، ونائبه فيروز
الرّكنى من
(15/277)
سجن الإسكندرية، ورسم لها بالتوجه إلى
دمياط على حمل خمسة عشرة ألف دينار.
وفيه ورد كتاب الأمير حسين بن أحمد، المدعو تغرى برمش نائب حلب، على
السلطان، يتضمن: أنه مقيم على طاعة السلطان، وأنه لبس التشريف المجهز
له، وقبّل الأرض؛ فلم يكترث الملك الظاهر بذلك، وكتب ملطّفات إلى أمراء
حلب، بالقبض عليه إن أمكنهم ذلك.
ثم فى ثامن جمادى الأولى، استقر الشريف صخرة بن مقبل بن نخبار، فى إمرة
الينبع، عوضا عن الشريف عقيل بن زبير بن نخبار
ثم فى يوم الخميس عاشره، استقر زين الدين يحيى بن كاتب حلوان الأشقر،
المعروف بقريب ابن أبى الفرج، ناظر الإسطبل السلطانى، على مال بذله فى
ذلك، بعد سعى كبير؛ وخلع السلطان أيضا على محمد الصغير، معلّم
النّشّاب، أحد ندماء السلطان، باستقراره فى نيابة دمياط، بعد عزل
الأمير أسنباى الزّردكاش الظاهرى.
ثم فى يوم الثلاثاء خامس [عشر] «1» جمادى الأولى المذكور، طلب السلطان
الشيخ حسن العجمى، أحد ندماء [الملك] «2» الأشرف برسباى، فلما مثل «3»
بين يديه، تقدم الشيخ حسن المذكور «4» ليقبل يد السلطان فضربه السلطان
بيده على خده [لطشة] «5» كاد أن يسقط منها إلى الأرض، ثم أمر به فعرّى
وضرب بالمقارع ضربا مبرحا، وشهر بالقاهرة، ثم سجن ببعض الحبوس، وذلك
لسوء سيرة حسن المذكور وقلة أدبه مع الأمراء فى أيام [الملك] «6»
الأشرف [برسباى] «7» .
وكان أصل هذا حسن من أوباش الأعاجم المولدة من الجغتاى، واتصل [بالملك]
«8»
(15/278)
الأشرف بعد سلطنته بسنين، ونادمه واختص به،
فنالته السعادة وعمّر له الملك الأشرف زاوية بالصحراء بالقرب من تربة
[الملك] «1» الظاهر برقوق، وأوقف عليها وقفا جيدا، وكان حسن المذكور،
فى أيام أستاذه [الملك] «2» الأشرف، يدخل إلى أكابر الأمراء ويكلفهم
ويأخذ منهم ما أراد من غير تحشّم وعدم اكتراث بهم، فكأنه طرق [الملك]
«3» الظاهر جقمق وفعل معه ذلك، فأسرّها [الملك] «4» الظاهر له إلى
وقتها؛ مع ذنوب أخر، حتى فعل معه ما فعل؛ ثم نفاه إلى قوص، فدام به إلى
أن مات فيما أظن.
ثم جهّز السلطان الأمير سودون المحمدى، وخلع عليه بنظر مكة المشرفة،
وندبه أيضا لقتال عرب بلىّ، وصحبته جماعة من المماليك السلطانية، وعرب
بلىّ هؤلاء [هم] «5» الذين فعلوا بالحجاج ما فعلوه فى موسم السنة
الخالية. وندب بعده أيضا الشهابى أحمد بن إينال اليوسفى، أحد أمراء
العشرات، لإصلاح مناهل الحجاز وتقوية لسودون المحمدى. ثم خلع السلطان
على الأمير أقبغا من مامش التركمانى الناصرى، أحد أمراء العشرات ورأس
نوبة، باستقراره فى نيابة الكرك، بعد عزل الصاحب خليل بن شاهين
الشّيخى، وانتقاله إلى أتابكية صفد.
ثم فى يوم الخميس أول شهر رجب، أنفق السلطان فى المماليك [100]
السلطانية نفقة الكسوة، وكانت عادتهم أن يدفع لكل واحد منهم خمسمائة
درهم من الفلوس، فلما قرب أوان تفرقة الكسوة، وقفوا فى يوم الاثنين
ثامن عشرين جمادى الآخرة وطلبوا أن ينفق فيهم، عن ثمن الكسوة عشرة
دنانير
(15/279)
لكل واحد، فما زالوا به حتى أنفق فيهم ألف
درهم الواحد، ولكل خاصكى ألفا «1» وخمسمائة.
وفيه رسم السلطان، بأن يكون نواب القاضى الشافعى خمسة عشر، وثواب
الحنفى عشرة، ونواب المالكى والحنبلى أربعة أربعة، ووقع ذلك أياما، ثم
عادوا إلى ما كانوا عليه.
(15/280)
ذكر قتل قرقماس
الشعبانى الناصرى
المقدم ذكره
ولما كان يوم الخميس ثامن شهر رجب، جمع السلطان القضاة بالقصر، بعد
الخدمة السلطانية، وادعى القاضى علاء الدين على بن أقبرس، أحد نواب
الحكم الشافعية، عند القاضى المالكى شمس الدين البساطى، على الأمير
قرقماس المذكور، بأنه خرج عن الطاعة وحارب الله ورسوله، وأن بقاءه
بالسجن مفسدة وإثارة فتنة، وأن فى قتله مصلحة؛ وشهد بخروجه عن الطاعة
ومحاربته جماعة من أكابر الأمراء، فحكم البساطى بموجب ذلك، فقيل له: ما
موجبه؟ فقال: القتل، وانفض المجلس. فندب السلطان طوغان السيفىّ آقبردى
المنقار أحد الخاصكيّة لقتله، فسافر طوغان إلى الإسكندرية، ودفع
لنائبها ما على يده من المحضر المكتتب على قرقماس، وحكم القاضى
المالكىّ بقتله، فأخرجه النائب من السجن فقرئ عليه حكم القاضى، وسئل عن
الحكم المذكور، فأعذر.
حدّثنى طوغان المذكور بعد عوده من الإسكندرية، قال: لما وصلت إلى
الإسكندرية، ودفعت إلى الأمير تمربابى التّمربغاوى نائب الإسكندرية، ما
كان على يدى من المراسيم السلطانية وغيرها بقتل قرقماس، فأمر به تمرباى
فأخرج من سجنه بقيده إلى بين يدى النائب، فقام النائب وأجلسه مكانه،
وسأله فى الأعذار، فأعذر، وقد امتلأ المجلس بالناس، وصار النائب يستحى
أن يأمره بالقيام، حتى تكلم بعض من حضر بانفضاض المجلس، وقد حضر
المشاعلىّ والوالى، وأقيم قرقماس، وأخذ لتضرب رقبته، فجزع جزعا عظيما
وشرع يقول لى: يا أخى يا طوغان، تضرب رقبتى فى هذا الملأ؟ وكرر ذلك غير
مرة. فقلت له: يا خوند، أنا عبد
(15/281)
مأمور، والشرع حكم بذلك. فقدّم وأجلس على
ركبتيه، وأخرج المشاعلىّ سيفا من غير قراب، بل كان ملفوفا بحاشية من
حواشى الجوخ التى لا ينتفع بها، فلما رأيت ذلك، قلت للمشاعلىّ: إيش هذا
السيف الوحش؟ قال: لا، بل هو سيف جيد. ثم أخذ المشاعلى السيف المذكور
وضرب به رقبة قرقماس، فقطعت من رقبته مقدار نصف قيراط لا غير، وعند
وقوع الضربة فى رقبة قرقماس صاح صيحة واحدة مات فيها من عظم الوهم، ثم
ضربه المشاعلىّ أخرى ثم ثالثة، وفى الثالثة حزّها حزّا حتى تخلّصت، كلّ
ذلك وقرقماس لا يتكلم ولا يتحرك، سوى الصيحة الأولى، فعلمت بذلك أنه
مات فى الضربة الأولى، من عظم ما داخله من الوهم؛ وكان ذلك فى يوم
الاثنين ثانى عشر [شهر] «1» رجب من سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة. ومات
قرقماس وسنه نيّف على الخمسين سنة تخمينا، ويأتى بقية أحواله عند ذكر
الوفيات «2» من هذا الكتاب [إن شاء الله تعالى] «3» .
ثم فى يوم الاثنين ثانى عشر [شهر] »
رجب، خلع السلطان على الأمير يلبغا البهائى الظاهرى [برقوق] «5» ، أحد
أمراء الطّبلخانات وثانى حاجب، باستقراره فى نيابة الإسكندرية، عوضا عن
الأمير تمرباى التّمربغاوى بحكم عزله، ثم ندب السلطان الأمير يشبك
السّودونى الأمير سلاح، لسفر الصعيد، وعيّن معه عدّة كبيرة من المماليك
الأشرفية [نجدة لمن تقدّم قبله] «6» لقتال عرب الصعيد؛ وخرج فى يوم
الاثنين ثانى شهر رمضان بمن معه من المماليك الأشرفية.
ثم فى يوم الاثنين تاسع شهر رمضان، قدم الأمير الطّواشى خشقدم اليشبكى،
ونائبه فيروز الرّكنى الرومى، من ثغر دمياط، وأمرهما السلطان بالتوجه
إلى المدينة النبوية صحبة ركب الحاجّ ليقيما بها.
(15/282)
ثم فى يوم الأربعاء حادى عشر [شهر] «1»
رمضان المذكور، ورد على السلطان كتاب الأمير قانى باى الحمزاوى، نائب
حماه، يتضمن ورود الأمير بردبك العجمى الجكمى، حاجب الحجاب [101] بحلب،
عليه وصحبته من أمراء حلب، أميران، بعد هزيمتهم من الأمير تغرى برمش
نائب حلب، بعد خروجه عن طاعة السلطان وعصيانه. وكان أشيع خبر عصيانه
إشاعات، فلما ورد هذا الخبر، تحقق كلّ أحد صحة ما أشيع.
(15/283)
ذكر خبر عصيان تغرى
برمش المذكور «1»
وهو أنه كان له من يوم مات [الملك] «2» الأشرف برسباى، أخذ فى أسباب
الخروج، واحترز على نفسه فى عوده صحبة العساكر إلى حلب غاية الاحتراز،
حتى إنه لم يدخل حلب إلا بعد خروج العساكر المصرية منها بعد أيام، ولما
دخل حلب شرع فى تدبير أمره والنظر فى ما يفعله لنفسه، ولم يكن له غرض
فى طلب الملك لمعرفته أن القوم لا يرضونه لذلك، غير أنه يعلم أنهم لا
يدعونه «3» فى نيابة حلب إن أمكنهم ذلك، لكونه كان «4» تركمانيا غير
الجنس. وتحقق هذا، فأخذ فى عمل «5» مصلحة نفسه، واستدعى أمراء التركمان
للقيام معه، فأجابه جماعة كبيرة، وانضم عليه خلائق.
وكان تغرى برمش من رجال الدهر، عارفا بتدبير أموره، جيد التصرف، وعنده
عقل ومكر وحدس صائب، وتدبير جيد، وهمة عالية، على أنه كان لا يعرف
المسألة الواحدة فى دين الله، مع جمودة فى مجالسته وخشونة ألفاظ تظهر
منه كما هى عادة أوباش التركمان، وجميع جهده ومعرفته كانت فى أمور
دنياه لا غير، مع جبن وبخل، إلا فى مستحقّه.
فلما استفحل أمره بمن وافقه من أمراء التركمان فى الباطن، وبكثرة
مماليكه وخدمه، مع ما كان حصّله من الأموال، وبلغه مع ذلك أن الملطّفات
السلطانية وردت على أمراء حلب فى القبض عليه، رأى أنه يظهر ما استكتمه
من الخروج عن الطاعة، ويملك حلب وأعمالها طول عمره، لما دبره أنه إذا
غلب عليها وكثرت
(15/284)
عساكره بها، يحصّنها ويقيم بها، فإن جاءه
«1» عسكر هو قبيله، قاتله، وإن كانت الأخرى، انهزم أمامه بعد تحصين
قامتها، وتوجّه «2» إلى جهة بلاد التركمان، إلى أن يعود عنها من أتاها
من العساكر، ولم يبق بها إلا من استنيب بها، [و] «3» قدمها تغرى برمش
وملكها منه، كما كان يفعله شيخ ونوروز مع الملك الناصر [فرج ابن برقوق]
«4» ، مع أن تغرى برمش هذا، كان أرسخ منهما قدما بتلك البلاد، لكونه
كان تركمانيا، وله أموال جمة، وأكثر دهاء ومكرا، وإن كان شيخ ونوروز
أعظم فى النفوس وأشجع، فليس هذا محلّ شجاعة وعظمة، وإنما هو محل تشويش
وتنكيد. وتأييد ما قلته: أن [الملك] «5» الظاهر جقمق، قلق لعصيان تغرى
برمش [هذا] «6» أكثر من عصيان الأمير إينال الجكمى نائب الشام الآتى
ذكره، وأرسل [الملك] «7» الظاهر خلفى وكلّمنى فى المحضر المكتتب فى حق
تغرى برمش هذا قديما، من قتله لبعض مماليك الوالد، لما كان تغرى برمش
المذكور بخدمة الوالد، على ما سيأتى بيانه فى [ذكر وفيات هذا الكتاب إن
شاء الله تعالى] «8» ، وكلّمنى الملك الظاهر فى أمر تغرى برمش بسبب
المحضر وغيره، فلحظت منه ما ذكرته من تخوفه من طول أمر تغرى برمش
المذكور معه- انتهى.
وكان أول ما بدأ به تغرى برمش أنه أخذ يستميل الأمير حطط نائب قلعة
حلب، فلم يتم له ذلك، فأخذ يدبر على أخذ القلعة بالحيل، فأحسّ حطط
وكلّم أمراء حلب بسببه، وانفقوا على قتاله، وبادروه وركبوا عليه بعد
أمور وقعت يطول شرحها، ورمى عليه حطط من أعلى قلعة حلب؛ وركب الأمير
بردبك العجمى الجكمى حاجب حلب، والأمير قطج من تمراز أتابك حلب، وجماعة
أمراء حلب، وعساكرها، وواقعوه، فصدمهم بمماليكه صدمة بدد شملهم فيها،
وانهزموا
(15/285)
وتشتتوا، فتوجه قطج إلى جهة البيرة «1»
فيما أظن، وتوجه بردبك العجمى ومعه أيضا جماعة إلى حماه، وكانت الواقعة
فى ليلة الجمعة ثامن عشرين شعبان، ودخل بردبك حماه فى آخر يوم السبت
سلخ شعبان؛ هذا ما كان من أمر تغرى برمش، ويأتى بيان أمر هذه الوقعة،
فى كتاب تغرى برمش المذكور [إلى السلطان] «2» فيما بعد.
وأما ما كان من أمر السلطان، فإنه لما بلغه خبر عصيانه، طلب الأمراء
وعمل معهم مشورة بسببه، فوقع الاتفاق بعزله عن نيابة حلب، وتولية غيره،
ثم ينتظر السلطان بعد ذلك ما يرد عليه من الأخبار من البلاد الشامية،
لما كان أشيع بالقاهرة أن الأمير [102] إينال الجكمى هو الذي أشار
لتغرى برمش المذكور بالخروج عن الطاعة، وأنه موافقه فى الباطن، فلذلك
لم يعيّن السلطان أحدا من العساكر المصرية، ولا نواب البلاد الشامية،
لقتال تغرى برمش.
فلما كان يوم الخميس ثانى عشر [شهر] «3» رمضان المذكور، كتب السلطان
بنقل الأمير جلبان أمير آخور نائب طرابلس، إلى نيابة حلب، عوضا عن تغرى
برمش المذكور، وأن يستقر الأمير قانى باى الحمزاوى نائب حماه المقدم
ذكره «4» فى نيابة طرابلس [عوضا عن جلبان، وأن يستقر بردبك العجمى
الجكمى حاجب حجاب حلب، المقدم ذكره] «5» فى نيابة حماه، عوضا عن قانى
باى الحمزاوى.
وتوجّه الأمير على باى العجمى المؤيدى، أحد أمراء العشرات، ورأس نوبة،
(15/286)
بتقليد جلبان وتشريفه بنيابة حلب، وتقليد
بردبك العجمى بنيابة حماه، وبردبك المذكور هو خال على باى المتوجه
وجالبه وبه يعرف بالعجمى، على شهرة خاله المذكور.
وتوجه الأمير جانبك المحمودى المؤيدى، أحد أمراء العشرات ورأس نوبة،
بتقليد الأمير قانى باى الحمزاوى وتشريفه بنيابة طرابلس، وعلى باى
وجانبك هما يوم ذاك عقد المملكة وحلّها. وبقى السلطان فى قلق بسبب
إينال الجكمى نائب الشام، لكونه أشيع أن سودون أخا «1» إينال الجكمى،
منذ قدم من عند إينال إلى القاهرة يستميل الناس إليه، وكان السلطان لما
تسلطن أرسل سودون المذكور إلى جميع نواب البلاد الشامية، وكانت العادة
جرت، أنه يتوجه لكل نائب أمير، يبشره بجلوس السلطان على تخت الملك، كلّ
ذلك مراعاة «2» لخاطر أخيه إينال الجكمى، وكان السلطان أيضا أرسل إلى
إينال المذكور، بخلعة ثانية مع الأمير ناصر الدين محمد بن إبراهيم بن
منجك باستمراره على نيابة دمشق.
فلما كان يوم الاثنين سادس عشر شهر رمضان، ورد الخبر على السلطان من
الأمير طوخ مازى الناصرى نائب غزة: بأن الأمير ناصر الدين محمد بن منجك
المقدم ذكره، لما وصل من عند السلطان بما على يده من الخلعة إلى جسر
يعقوب، بعث إليه إينال الجكمىّ ساعيا يستحثه على سرعة القدوم إلى دمشق،
ثم أردفه بآخر حتى قدم ابن منجك إلى دمشق فى يوم السبت سابع شهر رمضان
المذكور، وخرج إينال إلى لقائه، ولبس التّشريف السلطاّ المجهز إليه على
يد ابن منجك، وقبّل الأرض،
(15/287)
وركب الفرس المحضر معه «1» أيضا، ودخل إلى
دمشق فى موكب جليل، ونزل بدار السعادة، فاطمأن أهل دمشق بذلك، فإنه كان
قد أشيع أيضا بدمشق بعصيان نائبها المذكور.
فلما كان يوم الاثنين تاسعه، ركب الأمير إينال الجكمى الموكب على
العادة، ودخل إلى دار السعادة، وجميع أمراء دمشق وسائر المباشرين بين
يديه، وقد اطمأن كلّ أحد بأن ملك الأمراء مستمرّ على الطاعة، فما هو
إلا أن استقر فى مجلسه أشار بالقبض على أعيان أمراء دمشق، فأغلق الباب
وقبض على جميع الأمراء والمباشرين، وكان القائم فى قبض الأمراء
[الأمير] «2» قانى باى الأبوبكريّ الناصرى أتابك دمشق، وقانصوه
النّوروزى أحد مقدمى دمشق. والمقبوض عليهم أجلّهم: الأمير برسباى
الحاجب وعدة كبيرة أخر يأتى ذكرهم «3» . قال: وإن على باى العجمى
وجانبك المحمودى المتوجهين بتقليد نائب حلب وطرابلس وصلا «4» إلى غزة
وأقاما بها.
فلما سمع السلطان هذا الخبر، اضطرب وتشوّش غاية التّشويش، لأنه كان
عليه أدهى وأمرّ، وجمع الأمراء واستشارهم فى أمر إينال وتغرى برمش
فأشاروا «5» الجميع بسفره، وتذكّر السلطان قول آقبغا التّمرازى لمّا
أشار عليه «6» قبل سلطنته أن يتوجّه إلى البلاد الشامية ثم يتسلطن، فلم
تفده التذكرة الآن، وانفض الموكب على أن السلطان يسافر لقتال
المذكورين.
ثم فى يوم الأربعاء، ورد الخبر على السلطان: أن الأمير قطج أتابك حلب،
وصل أيضا إلى حماة، وأن تغرى برمش أخذ مدينة عين تاب وقلعتها، وأن عدة
(15/288)
من قبض عليه الأمير إينال الجكمى من أمراء
دمشق تسعة عشر أميرا، وأنه قبض أيضا على جمال الدين يوسف بن الصفى
الكركى ناظر جيش دمشق، وعلى القاضى بهاء الدين محمد بن حجى كاتب سر
دمشق، وأن على باى [103] وجانبك المحمودى توجّها من غزة إلى الأمير
إينال الناصرى العلائى نائب صفد.
ثم فى يوم الخميس عشرينه، ورد على السلطان كتاب الأمير تغرى برمش نائب
حلب مؤرخا «1» بثانى شهر رمضان، يتضمن أنه فى اليوم «2» الثالث
والعشرين من شعبان لبس الأمير حطط نائب القلعة ومن معه بالقلعة السلاح،
وقاموا على سور القلعة ونصبوا المكاحل وغيرها، وأمروا من تحت القلعة من
أرباب المعايش وسكان الحوانيت بالنقلة من هناك. وأنه لما رأى ذلك، بعث
يسأل حطط عن سبب هذا فلم يجبه، إلى أن كان ليلة التاسع والعشرين منه
ركب الأمير قطج أتابك العساكر والأمير بردبك الحاجب فى عدة أمراء لا
بسين السلاح ووقفوا تحت القلعة، فبعث إليهم جماعة من عسكره فكانت بين
الفريقين وقعة هائلة انهزم فيها قطج، وأنه باق على طاعة السلطان، وأنه
بعث يسأل حطط ثانيا عن سبب هذه الحركة، فأجاب بأن الأمير بردبك الحاجب
ورد عليه مرسوم السلطان بالركوب عليك وأخذك. وجهزّ تغرى برمش أيضا
محضرا ثانيا على قضاة حلب بمعنى ما ذكره، وأنه باق على طاعة السلطان،
وأنه لم يتعرض إلى القلعة، فلم يعوّل السلطان على كتابه ولا على ما
ذكره لما سبق عنده من خروجه عن الطاعة- انتهى ما تضمنه كتاب تغرى برمش.
ثم ورد على السلطان كتاب الأمير فارس نائب قلعة دمشق، بأن الأمير إينال
الجكمى أمر فنودى بدمشق بالأمان والاطمئنان والدعاء للسلطان الملك
العزيز يوسف، وأن القاضى تقىّ الدين بن قاضى شهبة، قاضى قضاة دمشق، دعا
للملك العزيز على منبر جامع بنى أمية فى يوم الجمعة، وأن الخطبة بقلعة
دمشق بافية باسم السلطان الملك
(15/289)
الظاهر جقمق؛ كل ذلك والسلطان قد اجتمع»
رأيه على إخراج تجريدة إلى البلاد الشامية.
ثم فى يوم السبت حادى عشرين [شهر] «2» رمضان، استقر القاضى بدر الدين
محمد ابن قاضى القضاة ناصر «3» الدين أحمد التّنّسى أحد خلفاء الحكم
المالكية قاضى قضاة الديار المصرية، بعد موت العلامة شمس الدين محمد بن
أحمد البساطى.
ثم أصبح السلطان من الغد فى يوم الأحد ابتدأ بعرض المماليك السلطانية،
وعيّن من الخاصكية ثلاثمائة وعشرين نفرا «4» ، لسفر الشام مع من «5»
يأتى ذكره من أمراء الألوف وغيرهم.
ثم فى يوم الاثنين ثالث عشرينه، خلع السلطان على الأمير الكبير آقبغا
التّمرازى باستقراره فى نيابة دمشق، عوضا عن إينال الجكمى بحكم عصيانه،
على كره منه وتمنّع كبير.
ثم فى يوم الثلاثاء أيضا عرض السلطان الخاصكيّة وعين منهم للسفر
ثلاثمائة وثلاثين خاصكيّا، لتتمة ستمائة وستين خاصكيّا، ثم نقّص منهم
خمسة بعد أيام.
ثم فى يوم الأربعاء خامس عشرينه عيّن السلطان للسفر من أمراء الألوف:
قراخجا الحسنى رأس نوبة النوب، وتمرباى السّيفى تمربغا المشطوب، ومن
أمراء الطبلخانات: [الأمير] «6» طوخ من تمراز الناصرى رأس نوبة ثانى،
وهو مسفّر الأتابك آقبغا التّمرازى؛ ومن أمراء العشرات عشرة، وهم:
أقطوه الموساوى، وقد صار أمير طبلخاناة، وتنم من عبد الرازق المؤيدى
محتسب القاهرة ورأس نوبة،
(15/290)
ثم أعفى بعد ذلك، ويشبك من أزوباى الناصرى
رأس نوبة، وبايزير «1» من صفر خجا الأشرفى رأس نوبة، وآقبردى الأشرفى
أمير آخور ثالث، وقيزطوغان العلائى، وسودون الإينالى المؤيدى المعروف
بقراقاس رأس نوبة، وسودون العجمى النوروزى رأس نوبة، وسودون النوروزى
السلاح دار رأس نوبة، وجانبك النوروزى رأس نوبة، وخشكلدى الناصرى
البهلوان.
ثم ورد الخبر على السلطان من الأمير طوغان العثمانى نائب القدس بأن
إينال الجكمى، أطلق الأمراء الذين قبض عليهم قبل تاريخه، وحلّفهم للملك
العزيز يوسف، وذلك بشفاعة قانى باى الناصرى البهلوان أتابك دمشق، فحزر
أهل المعرفة أن أمر إينال الجكمى لا يتم لتضييعه الحزم فيما فعل من
الإفراج عن الأمراء بعد أن تأكدت الوحشة بينهم، ومع ما كان بينه وبين
الأمير برسباى الحاجب من حضوض «2» الأنفس قديما، ونفرت القلوب بذلك عن
إينال الجكمى، وأول من نفر عنه تغرى برمش نائب حلب، وقال فى نفسه عن
إينال المذكور: هذا فى الحقيقة ليس بخارج عن الطاعة، وإنما قصد
بالإشاعة عنه أنه عاص حتى أقدم عليه ويقبض علىّ تقرّبا لخاطر السلطان،
وهو معذور فى ذلك، فإن مثل هؤلاء [104] ما كان يفرج عنهم بشفاعة ولا
لشفقة عليهم، وقد قصد ما قصد، [ولله در المتنبى فى قوله] «3» :
[الكامل]
لا يخدعنّك من عدوك دمعه ... وارحم شبابك من عدوّ ترحم
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدّم
ومن يومئذ أخذ أمر إينال الجكمى فى الاضمحلال قليلا، واستخف كل أحد
عقله وتعجب من سوء تدبيره، وكاد أخوه سودون العجمى «4» أن يموت قهرا
لما بلغه عن أخيه إينال [ذلك] ، «5» وهو يوم ذاك من جملة أمراء العشرات
بالديار المصرية.
(15/291)
ثم ورد الخبر على السلطان بأن الأمير إينال
العلائى الناصرى نائب صفد خرج منها، وسار حتى نزل بالرّملة فى سابع عشر
[شهر] «1» رمضان، بعد ما أرسل إليه إينال الجكمى يدعوه لموافقته،
وأعلمه أيضا أنه ما قام فى هذا الأمر إلا وقد وافقه نواب المماليك،
وأركان الدولة وعظماء أمراء مصر، فلم يلتفت إينال العلائى لكلامه، ثم
خشى أن يكبس بصفد، فخرج منها بعد أن جعل حريمه بقلعة صفد، وسار حتى نزل
الرملة، فسرّ السلطان بذلك وكتب إليه بالثناء والشكر.
ثم فى يوم الخميس سابع عشرين [شهر] «2» رمضان المذكور أنفق السلطان فى
العسكر المجرد إلى الشأم- وعدتهم ما بين خاصكىّ ومملوك: ستمائة واثنان
وخمسون نفرا- كل واحد ثمانين «3» دينارا.
ثم قدم الخبر بأن الأمير جلبان، المستقر فى نيابة حلب، وصل إلى الرملة
فى يوم الاثنين ثالث عشرين شهر رمضان فارّا من تغرى برمش نائب حلب،
وكان من خبر تغرى برمش نائب حلب أنه لما قوى أمره وبلغه عصيان إينال
الجكمى أيضا، عظم أمره واستدعى التركمان إلى حلب، فقدم عليه منهم جماعة
كبيرة إلى الغاية؛ ثم عمل مكحلة «4» عظيمة من نحاس، ليرمى بها على قلعة
حلب، وأخذ مع هذا كله يستميل جماعة من أهل قلعة حلب فمالوا له فى
الباطن، وواعدوه على «5» تسليم القلعة له، وهو مع ذلك مستمر فى حصار
القلعة المذكورة، والنقب فى جدر «6» القلعة [عمّال] «7» ، والقتال بينه
وبينهم فى كل يوم يزداد، إلى أن بلغ الأمير حطط نائب قلعة حلب، عمن «8»
وافق تغرى برمش المذكور، من أهل القلعة، فقبض على الجميع، وأخذ
(15/292)
بعضهم وجعله فى المنجنيق ورمى به على تغرى
برمش، ثم قتل جماعة منهم وجعل رؤوسهم على سور قلعة حلب، فلم يكترث تغرى
برمش بذلك واستمر على ما هو عليه من حصار القلعة حتى أشرف على أخذها،
فخوّفه بعض أصحابه من وثوب أهل مدينة حلب عليه وأشاروا عليه بأن ينادى
لهم بالأمان، فأمر بذلك.
وكان بلغ أهل حلب أن تغرى برمش يريد يأمر التركمان بنهب حلب، فلما نودى
بالأمان تحققوا ما كان قيل من نهب حلب، وألقى الله فى نفوسهم أن يركبوا
عليه ويقاتلوه قبل أن يأمر بنهبهم. فثارت العامة وأهل حلب بأجمعهم «1»
بقسيّهم وسلاحهم على حين غفلة، وساروا يدا واحدة واحتاطوا بدار السعادة
وبه النائب تغرى برمش؛ وقد تقدم أن تغرى برمش المذكور كان جبانا غير
ثابت فى الحروب، ضعيف القلب عند ملاقاة العدو، وليس فيه [سوى] «2» جودة
التدبير وحسن السياسة بحسب الحال، وبالنسبة لأمثاله من الجهلة فعندما
بلغه وثوب أهل حلب عليه لم يثبت، وذهب فارّا يريد الخروج من المدينة،
وسار حتى خرج «3» من السور، وصار «4» واقفا «5» خارج السور فى نحو
الأربعين فارسا تخمينا، وقد نهبت العامة جميع ما كان له بدار السعادة،
من الخيول والأموال والسلاح وامتدت أيديهم إلى مماليك تغرى برمش
وأتباعه يقتلونهم وينهبونهم.
وكان له المماليك الكثيرة المتجمّلة فى لبسهم وسلاحهم، غير أنهم كانوا
على مذهب أستاذهم فى الجبن والخوف «6» وعدم الثبات فى القتال، ولم يظهر
لأحد منهم نتيجة فى هذا اليوم ولا فى يوم مصاففته للعسكر المصرى، بل
هرب غالبهم وجاء «7» إلى العساكر المصرية قبل وقوع القتال، وتركوا
أستاذهم فى مثل ذلك اليوم مع عظم
(15/293)
إحسانه لهم، وتخوّلهم فى النّعم. وكانت هذه
الوقعة فى يوم الثلاثاء عاشر شهر رمضان، بعد ما كان تغرى برمش حاصر
القلعة ثلاثة عشر يوما وتلاحق عدة من أصحاب تغرى برمش ومماليكه به ولم
يجد له قوة للعود إلى حلب لقتال أهلها، فسار بمن معه يريد طرابلس،
وانضم عليه الأمير طر على بن صقل «1» سيز التركمانى بأصحابه، فلما قارب
طرابلس لم يثبت الأمير [105] جلبان، وانهزم من طرابلس فى العاجل، إلى
نحو الرملة حتى قدمها، وانضم على من كان بالرّملة من النواب وغيرهم.
وكان جلبان أيضا من مقولة تغرى برمش فى القتال، غير أن أمره كان فى ستر
لأمور لا تخفى على أحد، فدقت البشائر لذلك، وسر السلطان بهذا الخبر،
وتعجب الناس من نكبة تغرى برمش المذكور، مع قوة أمره وكثرة جموعه.
ولما وصل جلبان إلى الرّملة واجتمع بالأمير إينال العلائى نائب صفد،
والأمير طوخ مازى نائب غزة، والأمير طوغان العثمانى نائب القدس، اتفقوا
على مكاتبة السلطان، فكتبوا له يستدعونه للسير بنفسه، بعد تجهيز
العساكر بين يديه سريعا، وكان قدم بهذا الخبر صرغتمش السيفى تغرى بردى
أحد مماليك الوالد، وهو يوم ذاك دوادار الأمير جلبان، فخلع عليه
السلطان فى يوم الأحد تاسع عشرينه باستقراره دوادار السلطان بحلب، عوضا
عن سودون النّوروزى بحكم انتقاله إلى حجوبية حلب، بعد بردبك العجمى
المنتقل إلى نيابة حماه.
ثم فى هذا اليوم قدم الأمير جانبك المحمودى المتوجه بتقليد قانى باى
الحمزاوى بنيابة طرابلس، بعد أن وصل إلى الرّملة ولم يتمكن من التوجه
إلى حماه خوفا من إينال الجكمى، فأثار عند قدومه إلى القاهرة سرورا
عظيما «2» ، فإنه زعم أنه ظفر بكتب جماعة من الأمراء وغيرهم إلى العصاة
ببلاد الشام، أوقف عليها السلطان، فتعجب السلطان من ذلك غاية العجب،
فإنه كان من يوم جلس على
(15/294)
تخت الملك ويده ممدودة بالإحسان لكل أحد،
حتى أنه ترقى فى أيامه إلى الوظائف السنية والإقطاعات الهائلة جماعة من
الأوباش لم يكن لهم ذكر بين الناس قبل ذلك، وفيهم من لم أره قبل تاريخه
ولا أعرف شكله جملة كافية، وصار منهم السقاة، ورؤوس نوب الجمداريّة،
وبجمقداريّة، وسلاح دارية، وغير ذلك، وأثرى «1» منهم جماعة ممن كان
غالب معيشته بالشحاذة والتّكدّى، لكثرة ما أغدق عليهم [الملك] «2»
الظاهر جقمق بالعطاء، وصار ينعم عليهم بالأقمشة الفاخرة، حتى أنه وهب
لبعضهم الكوامل المخمل المنقوشة بأطواق السّمّور وبالطرز الزركش
العريضة، وهو مستمر على ما هو عليه ليوم تاريخه؛ فلما وقف على الكتب
قال: هذه مفتعلة، ولم ينتقم على أحد، وأخذ فيما هو فيه من تجهيز
العساكر.
فرار الملك العزيز
ثم أصبح من الغد فى يوم الاثنين سلخه عملت الخدمة بالقصر على العادة،
وبينما هو فى ذلك بلغه من الأمير قراخجا الحسنى رأس نوبة النوب فرار
الملك العزيز يوسف من محبسه بدور قلعة الجبل- أعنى سكنه، فإنه كان سكن
بقاعة البربرية «3» من الحريم السلطانى- فاستبعد السلطان ذلك وندب بعض
خواصه أن يتوجه إلى الأمير فيروز الزمام ويسأله عن صحة هذا الخبر، فمضى
المذكور لفيروز وسأله عن لسان السلطان فأنكر فيروز ذلك، ودخل من وقته
فلم يجد العزيز فى مكانه، ووجد نقبا بقاعة البربرية يتوصل منه إلى
المطبخ السلطانى فعاد القاصد بصحة الخبر على السلطان. فلما تحقق
السلطان ذهاب [الملك] «4» العزيز كادت روحه أن تزهق، وعظم عليه الخبر،
ونسى ما كان فيه من أمر إينال الجكمى وتغرى برمش، وعرّف السلطان
الأمراء
(15/295)
وأكابر الدولة بذلك، فما منهم إلا من ظهر
عليه الخوف والفزع. وماجت المملكة، وكثر الكلام، واختلفت الأقاويل فى
أمر [الملك] »
العزيز وفراره، وفى أين توجّه.
وكان من خبر العزيز- على اختلاف النقول- أن الملك العزيز لما حبس بقاعة
البربرية من الدور السلطانية «2» ، أقرّ [الملك] «3» الظاهر عنده دادته
سرّ النّديم الحبشية ومعها عدة جوار أخر سرارىّ الملك العزيز، ومرضعته
أيضا، ورسم لمرضعته أنها تخرج إلى حيث شاءت، وجعل القائم فى خدمة
[الملك] «4» العزيز لقضاء حوائجه طواشيّا «5»
هنديا من عتقاء أمه خوند جلبان يسمى صندلا «6» ، وسنّه دون العشرين
سنة، فصار صندل المذكور يتقاضى [حوائج العزيز، ويقبض له ما رتّب له من
النفقة من أوقاف أبيه، فاحتوى صندل على جميع أمور الملك العزيز، وعرف
جميع] «7» أحواله.
وكان عند الطواشى يقظة ومعرفة، وبقى كلما بلغه عن الملك العزيز شىء
يبلغه له، فأشيع بالقاهرة أن السلطان يريد يرسل [الملك] «8» العزيز إلى
سجن الإسكندرية، ثم أشيع أنه يريد يكحله؛ فبلّغه صندل المذكور جميع
ذلك، فخاف العزيز خوفا عظيما، ثم بلغه أن بعض علماء العصر أفتى بقتل
العزيز صيانة لدماء المسلمين، من كونه مخلوعا «9» عن الملك وله شوكة،
والملك الظاهر متولّ ولم يكن له شوكة، فإن أبقى على العزيز ربما تثور
شوكته ويقاتل السلطان، [106] فيقع بذلك الفساد وتسفك دماء كثيرة من
المسلمين.
(15/296)
فلما بلغ العزيز ذلك- على ما قيل- حار فى
أمره، فحسّن له صندل المذكور الفرار، فاستبعد العزيز وقوع ذلك، ثم
وافقه. وكان للملك العزيز طباخ «1» يسمى إبراهيم من أيام والده، فداخله
صندل فى الكلام بفرار العزيز، فأجابه إبراهيم المذكور أنه ينهض بذلك،
ويقدر على خروجه من القلعة بحيلة يدبرها. ثم أمر إبراهيم الطباخ صندلا
أن ينقب من داخل القلعة نقبا يصل إلى المطبخ المذكور، وأن إبراهيم ينقب
من خارج المطبخ مقابله، فأمر العزيز جواريه بالنقب من داخل القلعة
مساعدة للطباخ، حتى تهيأ ذلك. وتم هذا، وصندل يتحدث مع جماعة من
المماليك الأشرفية فى مساعدة [الملك] «2» العزيز إذا خرج ونزل من
القلعة، فمال إلى ذلك جماعة: منهم طوغان الزّردكاش، وأزدمر مشدّ
[الملك] «3» العزيز أيام أبيه، فى آخرين من [المماليك] «4» الأشرفية،
وبذلوا لصندل الطاعة فى ذلك، ورغّبوه فى نزول الملك العزيز إليهم،
واستحثوه على ذلك.
وتكلم طوغان الزّردكاش مع جماعة أخر من الأشرفية، فمال الجميع إلى
نزوله إليهم، مع عدم الاتفاق مع أكابر الأشرفية، ولا تشاوروا فى ذلك،
بل صاروا يحرضون [صندلا] «5» على نزوله، ولم يعينوا له «6» مكانا «7»
يجلس فيه إلى «8» أن يفعلوا له ما هو قصدهم، فلم يعرّف صندل العزيز
ذلك، بل صار يمليه بخلاف الواقع، إلى أن انتهى النقب المذكور.
فلما كان وقت الإفطار من ليلة الاثنين سلخ شهر رمضان من سنة اثنتين
وأربعين، والناس فى شغل بالصلاة والفطر، أخرج الطباخ الملك العزيز من
النقب عريانا مكشوف الرأس، فألبسه الطباخ من ثيابه ثوبا مملوءا بسواد
القدور والأوساخ، وحمّله قدرا فيه
(15/297)
طعام، وقيل صحنا فيه منفوع الطباخين من
الطعام، يوهم الطباخ بذلك أنه صبيّه، ثم جعل على يده خافقيّة فيها
طعام، وغيرّ وجه الملك العزيز ويديه بالزفر وسواد القدور.
وخرجا جميعا من غير هرج ولا اضطراب ولا خوف حتى وصلا إلى باب القلعة،
فوافاهم «1» الأمراء والخاصكية وقد خرجوا بعد إفطارهم من عند السلطان،
فلما رأى «2» إبراهيم الطباخ الأمراء والخاصكية خاف أن «3» يفطن به
أحد، لجمال وجهه وحسن سمته ولما عليه من الرّونق، فضربه «4» ضربة بيده
وسبّه، يريد بذلك أنه صبيّه، ويستحثه على سرعة الحركة والمشى، ليردّ
الوهم عنه بذلك، فأسرع الملك العزيز فى المشى وسارا «5» حتى نزلا من
قلعة الجبل، فإذا صندل وطوغان الزّردكاش وأزدمر مشدّ العزيز فى آخرين
واقفين فى انتظاره «6» ، فحال ما رأوه قبّلوا يده وأخذوه إلى دار
بعضهم، فأنكر العزيز ذلك منهم، ونهر صندلا الطّواشى، وقال: ما على هذا
أنزلت؛ وكان فى ظن العزيز أنه ساعة ما ينزل إليهم، يأخذوه ويركبون «7»
به إلى جهة قبة النصر أو غيرها بمجموعهم، ويقاتلون «8» السلطان الملك
الظاهر، حتى يملكوا منه القلعة، على ما كان صندل يقول له مثل ذلك.
وأراد العزيز العود إلى مكانه بالقلعة فلم يمكنه ذلك، وقام طوغان فى
منعه ووعده بقيام جميع خشداشيّته من الأشرفية بنصرته، وأنهم اتفقوا على
ذلك، وأنهم إلى الآن لم يصدّقوا بنزول الملك العزيز، فإذا علموا ذلك
(15/298)
اجتمع «1» الكلّ فى القيام بنصرة الملك
العزيز، فإن «2» لم يفعلوا ذلك أخذه هو وسار به إلى بلاد الصعيد، عند
الأمير يشبك السّودونى أمير سلاح المجرد قبل تاريخه لقتال عرب الصعيد،
وكان صحبة يشبك جماعة كبيرة من المماليك الأشرفية نحو سبعمائة مملوك،
مع ميل يشبك إلى الأشرفية فى الباطن، لكونه كان ممن أنشأه الملك الأشرف
برسباى ورقّاه.
ثم افترقوا، واختفى الملك العزيز ومعه صندل وأزدمر وإبراهيم الطباخ فى
مكان ليلته، ثم تنقّل فى عدة أماكن أخر، وأخذ طوغان فى الكلام مع
خجداشيته الأشرفية فى القيام بنصرة ابن أستاذهم الملك العزيز، فاعتلّوا
بأن غالبهم قد توجه إلى بلاد الصعيد ولم يجيبوا له دعوة، فلما علم منهم
ذلك ركب هجنا وسار إلى بلاد الصعيد لإعلام الأمير يشبك والمماليك
الأشرفية بنزول الملك العزيز إليه، ودخل جماعة كبيرة منهم إلى الأمير
إينال الأبوبكريّ الأشرفى، وكلموه فى القيام بنصرة ابن أستاذه «3» ،
فخاف العواقب ولم يوافقهم، وتسحّب من داره على بغل ثم نزل ماشيا
واختفى.
هذا ما بلغنا من أفواه الناس، فإنى لم أجتمع مع إينال المذكور بعد ذلك؛
هذا والسلطان وحاشيته «4» قد عظم قلقهم، وصار السلطان لا يعلم أين ذهب
[الملك] «5» العزيز، ولم يشك هو وغيره أن [107] الأمير إينال
الأبوبكريّ أخذ العزيز على هجنه المجهزة لسفر الحجاز، فإنه كان ولى
إمرة الحاجّ، وسار إلى الأمير إينال الجكمى. قلت:
ولو فعل إينال ذلك لكان تم له ما قصد، لكثرة هجنه «6» ورواحله وعظم
حواشيه من
(15/299)
خجداشية «1» وغيرهم، وكان ذلك هو الرأى
فحسّن الله له»
غير ذلك، حتى يصل كل موعود إلى ما وعد.
كل ذلك فى يوم سلخ رمضان. فلما كان الليل، وهى ليلة عيد الفطر التى
تسحّب فيها إينال المذكور، تفرّقت المماليك المؤيدية وغيرهم إلى طرقات
القاهرة، ودار منهم طائفة كبيرة حول القلعة وبالقرب من بيت إينال
المذكور، مخافة أن يخرج إينال فى الليل بالملك العزيز، وكثر هرج الناس
فى تلك الليلة وتخوّفوا من وقوع فتنة من الغد.
ومضت تلك الليلة على أبشع وجه من اضطراب الناس وتخوفهم، وأصبح السلطان
صلى صلاة العيد بجامع القلعة وهو على تخوف، وقد وقف جماعة بالسلاح
مصلتا على رأسه حتى قضى صلاته. وخطب قاضى القضاة شهاب الدين بن حجر
وأوجز فى خطبته، كما أسرع فى صلاته، وعندما فرغ من الخطبة، وصل الخبر
للسلطان بأن الأمير إينال تسحب فى الليل، فعظم الخطب. فلما علم «3»
السلطان بتسحّب إينال أمر فنودى بالقاهرة أن لا يتخلف أحد من المماليك
[عن الخدمة، وهدد من تخلف بالقتل، فلما طلعوا قبض على جماعة من
المماليك] «4» الأشرفية، ثم نودى أيضا فى الناس بإصلاح الدروب وغلقهم
أبواب دورهم، وأن لا يخرج أحد من بيته بعد عشاء الآخرة، وصارت أبواب
القاهرة تغلق قبل عادة إغلاقها «5» من الليل، فكانت ليلة هذا العيد
ويومه وثانيه من الأيام النكدة البشعة.
ثم فى يوم الخميس ثالث شوال خلع السلطان على الأمير تنبك البردبكى، أحد
مقدمى الألوف باستقراره أمير حاجّ المحمل، عوضا عن إينال المذكور، بحكم
تسحبه، وخلع على قراجا الناصرى الخاصكى البواب باستقراره والى القاهرة،
(15/300)
بعد عزل علاء الدين على بن الطّبلاوى، وخلع
على الأمير ممجق النّوروزى أحد أمراء العشرات باستقراره فى نيابة قلعة
الجبل عوضا عن تنبك المستقر فى إمرة حاج المحمل، وفيه أيضا أمسك
السلطان جماعة [كبيرة] «1» من المماليك الأشرفية.
ثم فى يوم الجمعة رابع شوال سار عسكر من الخاصكية إلى جهة الغربية تزيد
عدتهم على سبعين فارسا، لمسك الأمير قراجا الأشرفى أحد مقدمى الألوف،
وكان ولى كشف الجسور «2» بالغربية، فسار العسكر المذكور إلى جهة
المحلة، وبلغ قراجا ذلك فخرج إليهم وسلّم نفسه، فأخذ وقيد وحمل إلى
الإسكندرية فسجن بها.
وأما السلطان فإنه أصبح فى يوم [السبت] خامس «3» شوال عزل الأمير
أركماس الظاهرى عن الدوادارية الكبرى، وأخذت خيوله وخيول الأمير قراجا
المقدم ذكره.
(15/301)
ثم فى يوم الاثنين سابع شوال نودى بأن من
وجد أحدا من غرماء السلطان وطلع به فله خمسمائة دينار وإقطاع، ومن غمز
عليه أنه أخفى أحدا منهم حلّ ماله ودمه؛ هذا والمؤيدية قد تجردت للفحص
عن الملك العزيز وعن المماليك الأشرفية فى جميع الأماكن، وقبضوا على
جماعة من غلمانهم حتى دلّوهم على أماكن بعضهم، وصاروا يكبسون الدور
والترب وديارات «1» النصارى والبساتين وضواحى القاهرة ومصر، ويمرون فى
الليل فى الأزقة متنكّرين، فإنهم صاروا [هم] «2» أكثر تخوفا «3» من
السلطان على نفوسهم «4» .
وسبب ذلك أن طائفة المماليك المؤيدية كانوا قاموا مع السلطان الملك
الظاهر فى [أمر] «5» سلطنته أتم قيام، مع من ساعدهم من جميع الطوائف،
غير أنهم كانوا هم أشدّ بأسا فى ذلك؛ فلما تسلطن الملك الظاهر عرف لهم
ذلك ورقاهم وقرّبهم، حتى صاروا هم عقد المملكة وحلّها وتحكموا فى
الدولة، وأخرجوا المماليك الأشرفية من الديار المصرية إلى السجون وإلى
الثغور وإلى البلاد، وأهانوهم بعد عزهم واتضع جانبهم بعد [108] رفعتهم.
فلما وقع لهم ذلك جدّوا فى الإغراء بالملك العزيز وقتله خوف العواقب،
فلم يسمع لهم السلطان، فحسّنوا له أن يكحله فلم يوافق أيضا على ذلك،
فلما ثار الأمير إينال الجكمى نائب الشأم ودعا للملك العزيز، وكان تغرى
برمش نائب حلب أيضا أعظم ميلا «6» للملك العزيز لكونه نشء والده الملك
الأشرف [برسباى] «7» ، تحققت المؤيدية أنهم مقتولون أشر قتلة، إن ملك
العزيز ثانيا وصار لشوكته دولة، فحرّضوا
(15/302)
عند ذلك السلطان على قتله، واستفتوا
العلماء فى ذلك فكتب بعضهم على قدر ما أنهى له فى الفتوى، وامتنع
البعض. ثم اشتهر بالقاهرة أنه إذا فرغ شهر رمضان يفعل بالعزيز ما هو
القصد، وتكلم الناس بذلك. واتفق فرار العزيز، إما لما بلغه هذا الخبر
أو لمعنى آخر، وأكثر قول الناس أنه لم يفر إلا لما خامر قلبه من الخوف،
والله أعلم.
ثم لما بلغ إينال الأشرفى خبر العزيز وتسحبه، واستدعته خجداشيّته
بالقيام فى نصرة ابن أستاذه فلم يوافق، وخاف إن طلع القلعة من الغد
يمسك، اختفى. فلما أصبح النهار وبلغ السلطان والناس فرار العزيز وتسحّب
إينال، لم يشك الناس فى أن إينال أخذ العزيز ومضى إلى إينال الجكمى، ثم
اختلفت الاقوال، فعند ذلك علموا المؤيدية أنهم أشرفوا على الهلاك،
وأنهم ركبوا الأخطار فيما فعلوه فى أمر [الملك] «1» العزيز، فحينئذ
جدوا فى الفحص عن أمره، لبقاء مهجتهم لا لنصرة الملك الظاهر جقمق، وصار
الملك الظاهر يأخذ النار بيد غيره، وهو فيما هو فيه من تجهيز العساكر
لقتال الجكمى وتغرى برمش.
ثم فى يوم الثلاثاء ثامن شوال أنعم السلطان بإقطاع الأمير قراجا
الأشرفى على ولده المقام الناصرى محمد، وصار محمد [المذكور] «2» من
جملة أمراء الألوف، وأجلس تحت الأمير جرباش الكريمى أمير مجلس، وهذا
بخلاف العادة، فإن العادة جرت من دولة [الملك] «3» الظاهر برقوق إلى
يومنا هذا، أن ابن السلطان لا يجلس إلا رأس الميسرة فوق أمير سلاح،
فكلمه الأمراء فى ذلك فلم يرض، وما فعل «4» [الملك] «5» الظاهر هذا
الأمر وأمثاله إلا لعدم ثبات ملكه ولاضطراب دولته، بسبب خروج النواب عن
الطاعة، وأيضا تسحّب العزيز- انتهى.
(15/303)
ثم أنعم السلطان بإقطاع إينال الأشرفى
الأبوبكريّ على الأمير جرباش الكريمى قاشق، وأنعم بإقطاع جرباش على
الأمير شادبك الجكمى المعزول عن نيابة الرّها، وهو يوم ذاك أحد أمراء
الطبلخاناة، وإقطاع جرباش والذي أخذه كلاهما تقدمة ألف، غير أن الخراج
يتفاوت بينهما. وأنعم السلطان بإقطاع أركماس الظاهرى على الأمير أسنبغا
الطيارى الدوادار الثانى، وأنعم بإقطاع شادبك على الأمير جرباش المحمدى
الناصرى المعروف بكرد «1» ، وأنعم بإقطاع الأمير أسنبغا الطيّارى على
الأمير دولات باى المؤيدى الأمير آخور الثانى، وكلاهما طبلخاناة. كل
ذلك والقبض على الأشرفية مستمر، مع الكتابة إلى الأعمال بأخذ الطرقات
عليهم برّا وبحرا، والسلطان يستحث آقبغا التّمرازى نائب الشام على
السفر فى كل قليل.
فلما كان يوم الخميس عاشر شوال برز آقبغا التّمرازى بمن معه من القاهرة
إلى الرّيدانية، بعد أن خلع عليه السلطان خلعة السفر، فلما لبسها وجاء
إلى السلطان ليقبل يده قام له السلطان واعتنقه، فمسك آقبغا يده وقال
له: يا خوند، لا تغير نيّتك، فقال السلطان: لا والله. ثم تأخر بخلعته
ووقف على ميمنة السلطان، لأن السلطان [كان] «2» شرط له أنه لا يخرج عنه
إقطاع الأتابكية ووظيفتها إلى أن ينظر فى أمر الجكمى ما سيكون، فلهذا
المقتضى وقف آقبغا فى منزلة الأتابكية على ميمنة السلطان، وكان حقه
الوقوف على الميسرة كما هى عادة منازل نواب دمشق، مع أن الأمير يشبك
السّودونى أمير سلاح ترشح للأتابكيّة وهو مجرد ببلاد الصعيد، وأخرجت
وظيفة إمرة سلاح عنه فى هذا اليوم، ولكن بغياب يشبك فالأتابكية شاغرة.
ثم خلع السلطان بحضرة آقبغا المذكور على الأمير تمراز [109] القرمشى
(15/304)
الأمير آخور الكبير باستقراره أمير سلاح
عوضا عن يشبك السّودونى، وقد رشح يشبك للأتابكية عوضا عن آقبغا
التّمرازى المذكور، وخلع على الأمير قراخجا الحسنى رأس نوبة النوب
باستقراره أمير آخور كبيرا عوضا عن تمراز القرمشى وهو يوم ذاك مقدم
العساكر؛ وأمر السلطان ولده المقام الناصرى محمدا بسكنى الحرّاقة من
باب السلسلة، إلى أن يعود الأمير قراخجا الحسنى من سفره بالبلاد
الشامية، ونزل تمراز القرمشى من باب السلسلة فى يومه.
وخلع السلطان على الأمير تغرى بردى البكلمشى المعروف بالمؤذى، حاجب
الحجاب، باستقراره دوادارا كبيرا عوضا عن أركماس الظاهرى، واستقر
الأمير تنبك البردبكى أمير حاج المحمل حاجب الحجاب، غير أنه لم يلبس
خلعة الحجوبية فى هذا اليوم؛ ثم خلع السلطان على الأمير تمرباى
التّمربغاوى المعزول عن نيابة الإسكندرية باستقراره رأس نوبة النّوب
عوضا عن قراخجا الحسنى بحكم انتقاله أمير آخور؛ وتمرباى هذا أيضا ممن
عيّن لسفر التجريدة.
ثم خلع السلطان على دولات باى المحمودى [الساقى المؤيدى] «1» الأمير
آخور الثانى باستقراره دوادارا ثانيا عوضا عن أسنبغا الطّيارى؛ وخلع
السلطان على الأمير جرباش المحمدى كرد باستقراره أمير آخور ثانيا بعد
دولات باى المؤيدى، فامتنع جرباش المذكور من قبول ذلك لكونه يلى الأمير
آخورية الثانية عن دولات باى وهو أقل منه رتبة، حتى استعطفه السلطان
وقرّره على رتبته، ونزل آقبغا وقراخجا وتمرباى- الجميع بخلعهم- إلى
مخيمهم بالرّيدانيّة حسبما تقدم ذكره، ثم تبعتهم العساكر المجردة من
المماليك السلطانية وأمراء الطّبلخانات والعشرات وغيرهم.
وفى هذا اليوم قدم الأمير يونس الرّكنى الأعور، أحد مقدمى الألوف
(15/305)
بدمشق، فارّا من إينال الجكمى، فأكرمه
السلطان وأنعم عليه بزيادة جيدة على إقطاعه وتقدمته «1» بدمشق.
وأقام آقبغا التّمرازى بالرّيدانية إلى يوم السبت ثانى عشر شوال، فرحل
منها واستقل بالمسير إلى الشام.
وفى يوم السبت هذا نفى السلطان إمام الملك الأشرف نور الدين عليّا
السويفى إلى دمياط.
ثم فى يوم الاثنين رابع عشر شوال رحل الأمير قراخجا الحسنى الأمير آخور
الكبير، والأمير تمرباى التّمربغاوى رأس نوبة النّوب بمن معهما من
الأمراء والمماليك السلطانية من الرّيدانية إلى جهة الشام.
وفيه ورد الخبر على السلطان بأن إينال الجكمى برز بمخيمه من مدينة دمشق
إلى ظاهرها، فلما كان يوم الخميس ثالث شوال المذكور، عزم هو على الخروج
من المدينة بنفسه إلى مخيمه ليسير بمن معه إلى نحو الديار المصرية،
فبينما هو فى ذلك ركب عليه الأمير قانى باى الأبوبكريّ الناصرى
البهلوان أتابك دمشق، وكان ممن وافق الجكمى على العصيان وحسّن له ذلك
ثم تركه ومال إلى جهة السلطان، وركب معه الأمير برسباى الناصرى حاجب
الحجاب بدمشق وجميع أمراء دمشق وعساكرها، ولم يبق مع إينال من أعيان
أمراء دمشق إلا جماعة يسيرة، مثل الأمير قنصوه النّوروزى أحد مقدمى
الألوف بدمشق، والأمير تنم العلائى المؤيدى الدوادار، أحد أمراء
الطبلخانات بدمشق، والأمير بيرم صوفى [أحد الطبلخاناة بدمشق أيضا] «2»
والأمير مسروق أخو الملك الظاهر ططر، وجماعة أخر يسيرة جدا، أعيانهم من
ذكرناه
فلما بلغ إينال الجكمى ركوب هؤلاء عليه، مال عليهم وقاتلهم، فلم يثبتوا
له وانهزموا أقبح هزيمة، ثم تراجعوا فحمل عليهم فانكسروا وتمزقوا شذر
مذر، وطلع
(15/306)
قانى باى البهلوان إلى قلعة دمشق فى جماعة
كبيرة من الأمراء، وتوجه غيرهم إلى عدة أماكن. وكان سبب مخالفة قانى
باى وغيره لإينال الجكمى بعد موافقتهم له، أن السلطان أرسل ملطّفات إنى
قانى باى المذكور وغيره من أمراء دمشق يستميلهم إليه، ووعدهم بأشياء
كثيرة، فلما سمعوا ذلك مالوا إليه وتركوا ما كان بينهم وبين إينال
الجكمى من العهود والمواثيق، ولم يستعيبوا ذلك لكون [أن] «1» هذا الغدر
صار عادة لمن تقدمهم.
ولما كتب السلطان الملطّفات المذكورة، أرسلها [110] إلى الأمير خشكلدى
السيفى يشبك بن أزدمر، وهو يوم ذاك نائب قلعه صفد، فبعث بها خشكلدى
المذكور على يد نصرانى إلى بهاء الدين محمد بن حجى كاتب سر دمشق،
ففرّقها بهاء الدين على أربابها، فحال ما وقفوا عليها مالوا بأجمعهم
إلا «2» من ذكرناه ممن ثبت مع إينال، وقالوا: نحن وافقناه، فلا «3»
نبرح عنه إلى الممات أو يقضى الله أمرا كان مفعولا. وكان أكثر من وعد
من أمراء دمشق الأمير سودون أخو مامش المؤيدى، والأمير تنم العلائى
المؤيدى من خجداشيهما المؤيدية، فلم يلتفتوا إلى كتبهم واستقبحوا الغدر
والخيانة، فلله درّهما.
وأنا أقول: أما طاعة السلطان فهى واجبة على كل أحد، والعصيان ومخالفة
السلطان لا يجوز ولا يستحسن، لكن أيضا يقبح بالرجل أن يدخل إلى ملك
ويحسّن له العصيان والثّوران، ولا يزال به حتى يقع فى ذلك، بعد أن
يعطيه العهود والمواثيق على موافقته «4» والقيام بنصرته، ثم يتركه بعد
تورطه ودخوله فى ذلك، لأجل النّزر اليسير من حطام الدنيا «5» أو
لتناوله ولاية من الولايات؛ وعندى أن هذا لا يقع
(15/307)
إلا من نذل ساقط [الهمة] «1» والمروءة لا
نخوة له، والأنفس الكريمة تأبى ذلك ولو مستهم الضر، والرجل الفحل «2»
هو الثابت على قوله، والمصرّ «3» على طاعة سلطانه حفظا لدينه ودنياه،
فإن لم يكن ذلك وأطاع شيطانه وركب هواه، فليتمّ على ما قصده من ركوب
الأهوال واقتحام الخطوب وهجوم الحروب، فإما وإما؛ وما أحسن قول عنترة
فى ذلك حيث يقول: [الوافر]
أروم من المعالى منتهاها ... ولا أرضى بمنزلة دنيّه
فإمّا أن أشال على العوالى ... وإمّا أن توسّدنى المنيّه
فلما وصل هذا الخبر إلى السلطان، سرّ بذلك ودقت البشائر بالديار
المصرية.
ثم ورد الخبر على السلطان من بلاد الصعيد أن الأمير يشبك أمير سلاح
انتهى بمن معه من العساكر السلطانية فى طلب عرب هوّارة إلى مدينة إسنا،
فلم يقع بهم، وأنه رجع بالعساكر إلى مدينة هوّ، «4» فقدم عليه بها من
المشايخ الصلحاء جماعة ومعهم طائفة من مشايخ هوارة، راغبين فى [دخول]
«5» الطاعة [للسلطان] «6» وحلفوا على ذلك، وأنه «7» قدم عليهم بعد ذلك
فى يوم الأحد سادس شوال طوغان الأشرفى الزّردكاش، أحد الدوادارية
الصغار، ودعا العسكر إلى طاعة الملك العزيز والقيام بنصرته، وذكر لهم
أنه خرج من محبسه بقلعة الجبل ونزل إلى القاهرة، واجتمع عليه جماعة من
مماليك أبيه، وأنه رآه بعينه ووعده بالوثوب [معه] «8» هو وخجداشيّته
الأشرفية، وأنه أمره أن يختفى «9» فاختفى حتى ينتظم أمره بعود مماليك
أبيه من بلاد الصعيد، ثم حرّضهم
(15/308)
طوغان على ذلك فمال منهم طائفة وتخوفت
طائفة، واضطرب العسكر قليلا إلى أن اجتمع الجميع على طاعة السلطان بعد
أمور صدرت، وحلفوا أنهم مقيمون على الطاعة، فدقت البشائر لذلك، وخلع
على الواصل بهذا الخبر، وأجيب الأمير يشبك بالشكر، وبحمل طوغان المذكور
فى الحديد.
وكان علم السلطان قبل ذلك بتوجّه طوغان المذكور إلى بلا الصعيد، وكتب
إلى الأمير يشبك وإلى حكام الصعيد بحمله فى الحديد، ثم ورد الخبر بعد
ذلك من الأمير يشبك بأنه نازل على مدينة أسيوط «1» ، وأن يونس الخاصّكى
ورد عليه بمرسوم [شريف] «2» يتضمن القبض على طوغان المذكور، وأن
المماليك الأشرفية لم يمكّنوه من ذلك، فكثر قلق السلطان والدولة لورود
هذا الخبر وخشوا وقوع فتنة، ظنا من المماليك الأشرفية أنهم من هذا
القبيل؛ ورسم السلطان فى هذا اليوم بخروج الأمير أركماس- المعزول عن
الدوادارية قبل تاريخه- إلى ثغر دمياط بطّالا.
ثم أخذ السلطان وحواشيه فى الفحص عن الملك العزيز، وكبست عدة أماكن
وقبض على جماعة من المماليك الأشرفية، وتزايد تحريض السلطان فى طلب
العزيز، وقاسى الناس بسبب ذلك شدائد، وكثرت الأراجيف بخروج الأمير يشبك
أمير سلاح ومن معه من المماليك الأشرفية عن طاعة السلطان، وأنهم عادوا
يريدون القاهرة، فمنعت المواكب من التعدية [111] فى النيل بكثير من
الناس المتّهمة بالخروج على السلطان، هذا مع عظم التفتيش على العزيز،
والكبس على البيوت والبساتين والتّرب، وغلقت بعض أبواب القاهرة نهارا،
وأخذ أهل الدولة فى الاستعداد للحرب، هذا مع ما بالبلاد الشامية من
الفتنة العظيمة من خروج نائب الشام ونائب حلب، وصار السلطان فى هذه
الأيام فى أشد ما يكون من القلق والتخوف؛ وتكلم الناس بزوال ملكه.
(15/309)
فلما كان يوم السبت تاسع عشره برز أمير
حاجّ المحمل الأمير تنبك بالمحمل، وبعد خروجه من القاهرة قدم الخبر
بالقبض على طوغان الزّردكاش وحمله فى الحديد؛ ووصل طوغان المذكور فى
آخر النهار المذكور، وكان أشيع الخبر بمسكه قبل ذلك فلم يصدّقه أحد،
استبعادا من تسليم خجداشيّته له مع كثرتهم وشدة بأسهم.
وكان من خبر طوغان أنه لما نزل الملك العزيز من قلعة الجبل واجتمع به
ووعده بالقيام معه، توجه إلى الأمير إينال الأبوبكريّ الأشرفى فلم يحصل
منه على طائل، فمضى هو وجماعة إلى خجداشيّتهم الأشرفية ووعدهم بالوثوب
على الملك الظاهر والقيام بنصرة ابن أستاذهم، فأجاب منهم طائفة كبيرة،
غير أنهم اعتذروا بغياب أعيانهم ببلاد الصعيد فى التجريدة صحبة الأمير
يشبك، وأنهم فى قلة لأن معظمهم بالصعيد، وطلبوا منه أن يرسل يعلم
خجداشيّتهم بذلك، فلم يجد لأحد منهم قوة للتوجه فقام هو بذلك بعد أن
تحقق منهم الوثوب؛ وخرج من القاهرة على الهجن.
وبلغ السلطان خبره، فكتب بالقبض عليه فى الطريق فلم يدركه أحد، وسار
حتى وصل إلى خجداشيته واجتمع بهم حسبما تقدم ذكره، غير أنه أراد قضاء
حاجته، فأملى «1» لخجداشيته أخبارا فى حق العزيز غير صحيحة يريد بذلك
تمييز «2» أمره، فمالوا إلى كلامه فورد عليهم بعد ذلك الأخبار من
المسافرين وغيرهم بهروب إينال واختفاء [الملك] «3» العزيز، على غير ما
قاله لهم طوغان، وأن الفحص على [الملك] «4» العزيز فى كل يوم مستمر،
فعند ذلك اختلفت كلمتهم على القيام بأمر العزيز، وعلموا أن غالب كلام
طوغان غير صحيح.
هذا والأمير يشبك يستميلهم إلى طاعة السلطان، ويخوّفهم عاقبة مخالفة
السلطان، حتى أفضى به وبهم أن جمع عليه الكاشف بالوجه القبلى وعدة
كبيرة من عربان الطاعة
(15/310)
وهمّ بمحاربتهم، فلم يكن لهم طاقة بمحاربته
مع ما تبيّن «1» لهم من فساد أمرهم واختلاف كلام طوغان، فأسلموه بعد أن
كانوا انقلبوا جميعهم للخروج [معه] «2» ، وهو أن طوغان لما جدّ فى
مسيره حتى وصل إليهم، أعلمهم بأن [الملك] «3» العزيز خرج من سجنه ونزل
من القلعة، واجتمع عليه خلائق من الأشرفية وغيرهم، وأنه محاصر [للملك]
«4» الظاهر جقمق بقلعة الجبل، فهيّج هذا الكلام خواطرهم وتحركت
كوامنهم، وأجمعوا على القيام بنصرة ابن أستاذهم، ومال إليهم كل أحد حتى
الأمير يشبك فى الباطن.
وكادت الفتنة تقوم، ويظهر كل أحد الميل [للملك] «5» العزيز، فترادفت
كتب السلطان والقصّاد بغير ما قاله طوغان، فتوقّفوا عما كانوا عزموا
عليه. ولا زال أمر [الملك] «6» العزيز يتضح لهم، حتى أسفرت القضية على
أنه مختف، وأن إينال تسحّب، فعند ذلك رجع كل أحد عما كان فى ضميره
وأظهر طاعة السلطان، وأسلموا طوغان فقيّد وحمل إلى القاهرة.
ولما طلع طوغان إلى القلعة حبس بها وأجرى عليه أنواع العقوبة والعذاب
المتلف، وكسروا غالب أعضائه بالمعاصير، وعوقب مع ثلاثة «7» نفر من
الخاصكية فلم يقرّ أحد منهم على غير ما قاله طوغان، أن العزيز لما نزل
من القلعة ومعه إبراهيم الطباخ، وقف بمكان بالمصنع «8» بالقرب من قلعة
الجبل، واجتمع عدة من المماليك الأشرفية- وسماهم- فكان غالبهم ممن لا
يعرف، فأجمع رأيهم بأن يسيروا إلى الشام
(15/311)
بالعزيز، ثم انصرفوا عن هذا الرأى عجزا؛
وتوجه طوغان ليأتى بالمماليك الأشرفية من بلاد الصعيد، فلما تحقق
السلطان ذلك كفّ عن عقوبة طوغان بعد أن تلف وأخرجه فى يوم الثلاثاء
ثانى عشرين شوال محمولا، لعجزه عن الحركة من شدة العقوبة، ومعه خبر بك
الأشرفى وقد عوقب أيضا، وحملا إلى الرّميلة عند باب الميدان، من تحت
[112] القلعة ووسّط طوغان هناك، وأعيد خير بك من داخل القلعة ثم وسّط
بعد أيام.
وكان أمر طوغان [هذا] من أعجب العجب، فإنه كان فى دولة أستاذه الأشرف
زرد كاشا، فلما مات الأشرف، خالف خجداشيّته وانتمى إلى الملك الظاهر
جقمق قبل سلطنته، مع الأمير إينال الأشرفى، وصار خصيصا عند الملك
الظاهر، وولاه دوادارا وصار مقرّبا عنده، ثم استحال عن السلطان ودبّر
عليه، وأخرج الملك العزيز، وقام فى أمره من غير موافقة أحد من أعيان
خجداشيته ولا مشاورة أحد من أرباب العقول، ولم يكن هو من هذا القبيل من
سائر الوجوه، فكان من فعله وتدبيره ما ساقه إلى حتفه وتدميره، وكان
طوغان المذكور طوالا غير لائق فى طوله، وعنده طيش وخفة، مع جهل وعدم
تثبت فى أموره، ولم يكن من أعيان الأشرفية، ولا ممن يلتفت إليه فى
الدولة- انتهى.
ثم فى يوم الأربعاء ثالث عشرين شوال قبض على سرّ النديم الحبشية دادة
الملك العزيز بعد ما كبس عليها بعدة أماكن، وعوقب بسببها خلائق، فلم
يعترضها السلطان بسوء بل قرّرها على الملك العزيز، فأعلمته أنه مختف
بالقاهرة «1» .
ثم قبض على صندل الطواشى وقرره السلطان أيضا، فقال كما قالت الدادة،
فتحقق السلطان منهما أن [الملك] «2» العزيز وإينال لم يخرجا من
القاهرة، وأن الذي أشيع من خروجهما غير صحيح، وأن الملك العزيز لم
يجتمع مع إينال البتة، وأنه كان هو وصندل هذا وطباخه إبراهيم ومشدّه
أزدمر، من غير زيادة على ذلك، والملك «3» العزيز
(15/312)
ينتقل بهم من مكان إلى مكان، وأن صندلا
فارقه من منذ أربعة أيام، وقد طرده أزدمر المذكور لأمر وقع بينهما،
فلما قصد صندل مفارقتهم دفع له العزيز خمسين دينارا، ففارقهم صندل وصار
يتردد إلى بيوت أصحابه فى زى امرأة، حتى دخل على بعض أصحابه من النسوة
فى الليل فآوته حتى أصبح فدلّ عليه زوجها حتى أمسك وعوقب، حتى أقر على
جميع ما ذكرناه، وأنه الآن لا يعرف مكان العزيز، فسجنه السلطان، وهمّ
بعقوبة الدادة فشفعت «1» فيها خوند مغل بنت البارزى زوجة السلطان،
وتسلمتها «2» من السلطان من غير عقوبة وتمّت عندها.
فخفّ عن السلطان ما كان به قليلا من أمر الملك العزيز، فإنه كان [ظن]
«3» كلّ الظن أن إينال أخذه وتوجه إلى إينال الجكمى بدمشق؛ ثم قبض على
موضعة الملك العزيز وزوجها وعلى جماعة أخر من الرجال والنساء ممن كان
من جوارى الأشرف ومعارفهن، وممن اتّهم بأنه معرفة أزدمر وإبراهيم
الطباخ.
ثم فى يوم الخميس رابع عشرين شوال عزل السلطان الطّواشىّ فيروز
الجاركسىّ عن الزمامية لكونه تهاون فى أمر [الملك] «4» العزيز حتى
تسحّب من الدور السلطانية، وعيّن السلطان عوضه زماما الطواشى جوهرا
القنقبائى الخازندار، مضافا إلى الخازندارية.
وفى ليلة الجمعة ويوم «5» الجمعة كبست المؤيدية على مواضع كثيرة
بالقاهرة وظواهرها، ومضوا إلى دور الصاحب أمين الدين إبراهيم بن الهيصم
وكبسوا عليه وعلى جيرانه فى طلب الأمير إينال الأشرفى والملك العزيز،
فلم يجدوا أحدا وهرب الصاحب أمين الدين، ثم ظهر وخلع عليه بعد ذلك،
واشتد طلب السلطان على [الملك] «6» العزيز، وهدد من أخفاه بأنواع
العذاب والنّكال، فشمل الخوف غالب الناس.
(15/313)
ثم فى يوم السبت سادس عشرين شوال خلع
السلطان على جوهر الخازندار باستقراره زماما عوضا عن فيروز الجاركسى
بحكم عزله مضافا للخازندارية، والفحص على [الملك] «1» العزيز مستمر فى
كل يوم وليلة، وقد دخل الناس من الرعب والخوف ما لا مزيد عليه بسببه،
إلى أن كشف الله هذا البلاء عن الناس، وقبض على الملك العزيز يوسف فى
ليلة الأحد سابع عشرين شوال، واطمأن كل أحد على «2» نفسه وماله بظهور
[الملك] «3» العزيز والقبض عليه.
وكان من خبر [الملك] «4» العزيز أنه لما اشتد الطلب عليه ضاقت عليه
الأرض، وكان له من يوم فرّ من القلعة وهو ينتقل من مكان إلى مكان، لا
[113] سيما لما كثر الفحص عنه تخوّف غاية الخوف، حتى ألجأه ذلك إلى
الانفراد مع أزدمر لا غير، ليخفّ بذلك أمرهما على من أخفاهما، ومع هذا
تغلّبا «5» أين «6» يذهبان «7» ، واحتاج [الملك] «8» العزيز أن أرسل
إلى خاله الأمير بيبرس الأشرفى، أحد أمراء العشرات ورأس نوبة، بأنه
يريد المجىء إليه فى الليل، ويختفى عنده على ما قيل، فواعده بيبرس على
أن يأتيه ليلا.
ثم خاف بيبرس عاقبة أمره، فإنه كان [الملك] «9» الظاهر جقمق اختص به،
وأمّره دون إخوته وأكرمه غاية الإكرام، ورأى بيبرس أنه لا يحسن به أن
يقبض عليه ويطلع به إلى السلطان، فأعلم جاره يلباى الإينالى المؤيدى
أحد أمراء العشرات ورأس نوبة بمجيء [الملك] «10» العزيز إليه فى الليلة
المذكورة، وأعلمه أيضا أنه يمر من موضع كذا وكذا، فخرج يلباى فى الليل
متنكرا، ومعه اثنان من حجداشيّته
(15/314)
المؤيدية، وترصّد للعزيز بخطّ زقاق حلب بعد
عشاء الآخرة، وبينماهم فى ذلك إذ مرّ بهم العزيز ومعه أزدمر مشدّه،
وهما فى هيئة مغربيّين، فوثب يلباى بأزدمر ليقبض عليه فامتنع منه ودفع
عن نفسه فضربه يلباى أدمى وجهه وأعانه عليه رفقته، حتى قبض عليه وعلى
[الملك] «1» العزيز.
وكان على [الملك] «2» العزيز جبة صوف من لبس المغاربة، وطلعوا بهما فى
الحال إلى باب السلسلة ثم إلى السلطان، والملك العزيز حاف بغير نعل فى
رجليه، وقد أخذه بعض المؤيدية بأطواقه يسحبه على ما قيل، فإنى لم أحضر
المجلس تلك الساعة، فلما مثل العزيز بين يدى السلطان أوقف ساعة، ثم أمر
به السلطان فأخذ إلى مكان فى القلعة وسجن به إلى أن أصبح، وطلع الأمراء
وأرباب الدولة إلى الخدمة على العادة، ودقّت البشائر لقبض [الملك] «3»
العزيز، وسرّ السلطان بذلك سرورا عظيما، وخفّ عنه الأمر كثيرا بالنسبة
إلى ما كان فيه.
ثم أخذ السلطان [الملك] «4» العزيز وأدخله «5» إلى زوجته خوند
البارزيّة بقاعة العواميد، وأسلمها العزيز وأمرها أن تجعله فى المخدع
المعسد لمبيت السلطان بالقاعة المذكورة، وأن تتولى أمر أكله وشربه
وحاجاته بنفسها. فأقام العزيز على ذلك مدة إلى أن نقله السلطان فى ليلة
الأربعاء ثامن ذى القعدة إلى مكان بالحوش وضيّق عليه، ومنع من جميع
خدمه، ثم سيّره «6» إلى سجن الإسكندرية، حسبما يأتى ذكره.
وأمر السلطان بأزدمر فسجن بالبرج من قلعة الجبل، مع جماعة من خجداشيّته
الأشرفية. ووجد مع الملك العزيز من الذهب ثمانمائة دينار، أعطى السلطان
منها إلى يلباى خمسمائة دينار، وإلى رفيقيه مائة دينار، ثم فرّق الباقى
من ذلك على من حضر؛
(15/315)
ثم أنعم السلطان على يلباى المذكور بقرية
[سرياقوس] «1» زيادة على ما بيده، وصار من جملة أمراء الطبلخانات. وهدأ
سرّ السلطان من جهة [الملك] «2» العزيز، والتفت إلى أخبار إينال
الجكمى، وتغرى برمش.
ثم فى يوم الثلاثاء تاسع عشرينه، ظهر الأمير إينال الأبوبكريّ الأشرفى
من اختفائه، وكان من خبره أنه من يوم تسحّب [الملك] «3» العزيز خاف
القبض عليه، فاختفى إلى أن ظهر [الملك] «4» العزيز فخفّ عنه ما داخله
من الوهم بسبب الملك العزيز، وقد علم أن السلطان ظهر له أنه لم يجتمع
مع [الملك] «5» العزيز ولا قام بنصرته، وأن اختفاءه «6» كان نوعا من
مهابة السلطان، فلما كان ليلة الثلاثاء المذكورة توجّه إلى الأمير
جرباش الكريمى المعروف بقاشق أمير مجلس، وترامى عليه واستجار به وهو
يظن أن فى السّويداء رجالا «7» ، فأجاره وهو يظن أن السلطان يقبل
شفاعته.
وكان معظم ظهور إينال [المذكور] «8» لما بلغه من «9» اختفائه [عن
السلطان من الثناء عليه وبسط عذره فى اختفائه] «10» وأنه باختفائه سكنت
الفتنة، فغرّه هذا الكلام، وأيضا أنه استند للأمير جرباش أمير مجلس
وخجداش السلطان، فأخذه الأمير جرباش من الغد فى يوم الثلاثاء المذكور
وطلع إلى القلعة. وقد بلغ السلطان
(15/316)
خبر إينال وظهوره ثم طلوعه مع جرباش، فحال
ما وقع بصر السلطان على إينال أمر به فقبض عليه، وقيّد وسجن بمكان
بالقلعة حتى يحمل إلى الإسكندرية؛ هذا والأمير جرباش يكرر تقبيل يد
السلطان ورجله فى أن يشفّعه فيه ويدعه بطّالا ببعض الثغور فلم يلتفت
السلطان إلى شفاعته، ونزل جرباش إلى داره خجلا مفضوحا من حاشيته
وأصحابه، ومن يومئذ انحطّ قدره [114] إلى أن مات. على أنه صاهر السلطان
بعد ذلك وصار حماه «1» ، ومع هذا كله لم يكن له صولة فى الدولة، وأخرج
السلطان إينال من يومه إلى سجن الإسكندرية، وبها أعداؤه من خجداشيّته،
فكان شماتتهم [به] «2» أعظم عليه من حبسه.
وأخذ السلطان بعد ذلك يتشوّف إلى أخبار عسكره المجرّد إلى قتال إينال
الجكمى وغيره، فلما كان يوم الأربعاء ثامن ذى القعدة ورد على السلطان
كتاب الأمير آلابغا حاجب غزة يتضمن قتال عسكر السلطان مع إينال الجكمى
نائب الشام، فى يوم الأربعاء مستهل ذى القعدة، وانهزام إينال الجكمى،
فأخذت الناس فى هذا الخبر وأعطوا، غير أنه دقت البشائر وسرّ السلطان
بذلك.
ثم أصبح من الغد فى يوم الخميس [ورد] «3» الخبر بمسك إينال الجكمى،
فدقت البشائر أيضا، غير أن السلطان فى انتظار كتاب آقبغا التّمرازى،
فورد عليه كتابه فى يوم الجمعة عاشر ذى القعدة، وذكر واقعة العسكر مع
إينال الجكمى، وملخصها «4» أن العساكر السلطانية المتوجهة من الديار
المصرية والمتجمعة بالرّملة من النواب والعساكر، ساروا جميعا من الرملة
أمام الأمير قراخجا الحسنى، ومن معه من الأمراء والمماليك السلطانية،
كالجاليش، لكن بالقرب منهم، حتى نزلوا بمنزلة
(15/317)
الخربة «1» فى يوم الأربعاء مستهل ذى
القعدة وقد قدموا بين أيديهم كشافة على عادة العساكر، فعادت الكشافة
وأخبروا بقرب إينال الجكمى منهم، فركبوا فى الحال بعد أن عبّوا
أطلابهم، وهم ستة نواب: آقبغا التّمرازى نائب الشام، وجلبان الذي استقر
نائب حلب، وإينال العلائى نائب صفد- أعنى الملك الأشرف- وطوخ مازى نائب
غزة، وطوغان العثمانى نائب القدس، وخليل بن شاهين، وقد استقر نائب
ملطية.
وساروا بمن اجتمع عليهم من العشير والعربان جاليشا، حتى وصلوا إلى مضيق
قرب الحرة، وإذا بجاليش إينال الجكمى فيه الأمير قانصوه النّوروزى أحد
مقدمى الألوف بدمشق، ونائب بعلبكّ، وكاشف حوران، ومحمد الأسود بن القاق
شيخ العشير، وير على الدّكرى «2» أمير التركمان، وطر على بن سقل سيز
«3» التركمانى، وكثير من العربان والعشير، والجميع دون الألف فارس،
وصدموا النواب المذكورة فكانت بينهم وقعة كبيرة، انهزم فيها الأطلاب
الستة بعد أن أردفهم إينال الجكمى بنفسه، وركب أقفية القوم، وكان من
الشجعان المشهورة، إلى أن أوصلهم إلى السّنجق السلطانى، وتحته الأمير
قراخجا الحسنى الأمير آخور، والأمير تمرباى رأس نوبة النوب بمن معهما
من الأمراء والعساكر المصرية، والسنجق بيد الأمير سودون العجمى
النّوروزى أحد أمراء العشرات ورأس نوبة؛ وقد تخلت عن إينال أصحابه
ومدوا أيديهم إلى النهب فى أطلاب النواب لما انهزموا أمام العسكر
الشامى.
وبقى إينال فى أناس قليلة، فحطّ بهم على العسكر المصرى، فثبتوا له
وقاتلوه ساعة
(15/318)
وقد تفرقت عنه أصحابه بسبب النهب فلم يجد
مساعدا، فانهزم بعد أن قتل من الفريقين جماعة كبيرة جدا، ولم يقتل من
الأعيان غير الأمير صرغتمش أحد مماليك الوالد، الذي كان دوادار الأمير
جلبان، ثم استقر دوادار السلطان بحلب، وجرح خلق كثير، وقبض فى الوقعة
على الأمير تنم العلائى المؤيدى، وعلى الأمير بيرم صوفى التركمانى،
وعلى الأمير خير بك القوامى ومحمد بن قانصوه النّوروزى وجماعة أخر.
وحال بينهم الليل، فلما أصبح العسكر يوم الخميس ثانى ذى القعدة ورد
الخبر عليهم من دمشق بالقبض على إينال الجكمى من قرية حرستا «1» من عمل
دمشق فدقت البشائر لذلك، وتفرقت أخصاء السلطان للأعيان بالبشارة، وزال
ثلثا «2» ما كان بالسلطان من أمر [الملك] «3» العزيز وإينال، وبقى تغرى
برمش.
وكان من خبر مسك إينال الجكمى أنه لما انكسر من العسكر المصرى، ساق فى
نفر يسير إلى أن وصل حرستا وقد تلفت خيوله لبعد المسافة، ونزل بها وقد
جهده التعب والجوع، واختفى بها فى مزرعة، وأرسل بعض خدمه ليأتيه بطعام،
ففطن به رجل وعرّف شيخ البلد، فأرسل شيخ البلد إلى نائب قلعة دمشق
بالخبر، فخرج من دمشق فى طلبه جانبك دوادار [115] برسباى حاجب حجاب
دمشق، ومعه جماعة أخر؛ وطرقوه بالقرية على حين غفلة، فقام ودفع عن نفسه
بكل ما تصل قدرته إليه، فتكاثروا عليه وطعنه بعضهم فى جنبه، ورماه آخر
أصاب وجهه، ثم مسكوه وجىء به إلى دمشق على فرسه، وقد وقف الفرس من
العىّ فلم يصل إلى قلعة دمشق إلا بعد العصر، والناس فى جموع كثيرة
لرؤيته ما بين باك وحزين، وسجن بقلعة دمشق مقيّدا، وأصبح دخل آقبغا
التّمرازى إلى دمشق فى باكر نهار الجمعه ثالث ذى
(15/319)
القعدة، ومعه العساكر بسلاحهم ونزل بدار
السعادة؛ ولم يبتهج أهل دمشق بقدومه لعظم ميلهم لإينال الجكمى، وإن كان
آقبغا المذكور صهرى فالواقع ما ذكرناه.
ومع هذا وقع يوم دخوله إلى دمشق حادثة غريبة، وهى أن بلبان شيخ كرك نوح
«1» ، واسمه محمد وولده محمد أيضا، قدما إلى دمشق بجموعهما من العشير
نصرة لعساكر السلطان، وبلبان المذكور فلاح الأمير برسباى الحاجب،
كأكابر المدرّكين «2» ، فلم يصل بلبان المذكور حتى انقضت الوقعة، فتأسف
على ذلك لما كان بينه وبين إينال الجكمى من المباينة مراعاة لأستاذه
برسباى المذكور، فعاد إلى دمشق فى خدمة آقبغا التّمرازى، إلى أن دخل
التّمرازى إلى دار السعادة وذهب كل أمير إلى حال سبيله.
فعاد بلبان المذكور فيمن عاد، حتى كان عند المصلى والعامه قد ملأت
الطرقات وهم فى كآبة لفقد إينال الجكمى ولما وقع له، فصاح شخص من
العامة بواحد من العشير من أعوان بلبان يقول: «أبا بكر! أبا بكر!» ،
وتبعه غيره يكررون ذلك مرارا عديدة يريدون نكاية بلبان، فإنهم يرمون
بالرّفض «3» . فلما كثر ذلك من
(15/320)
العامة، ضرب بعض العشير واحدا من العامة،
فعند ذلك تجمعوا عليه وأرموه عن فرسه ليقتلوه، فاجتمع أصحابه ليخلصوه
من العامة، وقبل أن يخلصوه بادره العامة وذبحوه، وتناولوا الحجارة
يرمون بها بلبان وأعوانه، وكانوا فى كثرة نحو الخمسمائة نفر وأكثر،
فتوغل بلبان بين أصحابه ولم يقدر أن يفوز بنفسه، فتكاثروا عليه وألقوه
إلى الأرض عن فرسه وذبحوه، ثم أخذوا ابنه محمدا أيضا وذبحوه، ووضعوا
أيديهم فى أصحاب بلبان إلى أن أسرفوا فى القتل، ولم يكن لذلك سبب ولا
دسيسة من أحد ولا أمر من السلطان، فوقع هذا الأمر ولم يقدر أحد على
القيام بأخذ ثأره لاضطراب المملكة، وراحت على من راحت إلى يومنا هذا.
قلت: لا جرم، إنما وقع له ببركة الشيخين، فقوصص بذلك فى الدنيا، وله فى
الأخرى أعظم قصاص، نكالا من الله على رفضه، وقبح «1» سريرته.
ثم فى يوم الأحد ثانى عشر ذى القعدة، كتب بقتل إينال الجكمى بسجنه
بقلعة دمشق، بعد تقريره على أمواله وذخائره، وبقتل جماعة من أصحابه ممن
قبض عليه فى الوقعة، وفى هذه الأيام رسم السلطان بعقوبة جكم خال
[الملك] «2» العزيز بسجنه بالإسكندرية، حتى يعترف بمتحصل [الملك] «3»
العزيز فى أيام أبيه، من إقطاعه
(15/321)
وحماياته «1» ومستأجراته، فأجابهم عن ذلك
كله؛ وكان السلطان استولى على جميع ما للعزيز عند جدته لأمه من المال
والقماش والفصوص، وكان شيئا كثيرا. وأمر السلطان أيضا بعقوبة يخشباى
الأمير آخور الثانى، بسجن الإسكندرية أيضا، بعد أن أراد السلطان قتله
بحكم الشرع، من كونه سبّ شريفا ببلاد الصعيد فى أيام أستاذه الملك
الأشرف؛ فبادر يخشباى حتى حكم قاض شافعى بحقن دمه، ووقع بسبب ذلك أمور،
وعقد مجالس «2» بالقضاة والفقهاء، ذكر ذلك كلّه فى الحوادث «3» ، ولما
وقع اليأس من قتله، رسم بعقوبته حتى يعترف بما له من الأموال، فعوقب
أشدّ عقوبة بحيث أنه لم يبق إلا موته.
ثم قدم الخبر على السلطان، بأن العساكر توجهت من دمشق، فى حادى عشر ذى
القعدة إلى حلب، بعد أن عاد طوغان نائب القدس، إلى القدس، وتأخر آقبغا
التّمرازى نائب الشام [به] «4» ، وكان الذي توجّه من النواب إلى حلب
صحبة العساكر المصرية، جلبان نائب حلب وقانى باى الحمزاوى نائب طرابلس،
وهو إلى الآن بحماة، غير أنه تهيأ للاجتماع بالعساكر [116] المصرية
وعنده أيضا الأمير بردبك العجمى، الذي استقر فى نيابة حماة، وقد قدّمه
إلى حلب؛ وسار من النواب أيضا، الأمير إينال العلائى الناصرى نائب صفد،
والأمير طوخ مازى نائب غزة.
(15/322)
وقدم الخبر أيضا أنه قبض بدمشق على يرعلى
الدّكرى وشنق، وأن تغرى برمش نائب حلب كان نزل على حلب وصحبته الأمير
طرعلى بن سقل سيز، والأمير على باى بار بن إينال بجمائعهما من
التركمان، والأمير غادر بن نعير بعربه من آل مهنّا، والأمير فرج
وإبراهيم ولدا «1» صوجى، والأمير محمود ابن الدّكرى أيضا بجمائعهم من
التركمان، وعدة الجميع نحو ثلاثة آلاف فارس، وأن تغرى برمش خيمّ
بالجوهرى وبعث بعدة كبيرة إلى خارج باب المقام، فخرج إليه الأمير بردبك
العجمى، الذي ولى نيابة حماة، وقد قدم حلب من أيام، ومعه جماعة من
أمراء حلب ومن تركمان الطاعة، ومن العامة.
فكانت بينهم وقعة هائلة، قتل فيها وجرح جماعة كثيرة من الفريقين، وعاد
كل منهما إلى مكانه، ثم التقى الجمعان ثانيا فى يوم الجمعة خامس عشرين
شوال على باب النّيرب «2» واقتتلوا يوما وليلة قتالا شديدا، قتل فيه
عدة كبيرة من الناس، وجرح نائب حماة، وطائفة من أمراء حلب، ثم رجع كل
فريق إلى موضعه، ورحل تغرى برمش من موضعه فى يوم الأحد سابع عشرينه،
ونزل بالميدان، والحرب مستمر، والعامة تبذل جهدها فى قتاله، إلى أن كان
يوم الخميس ثانى ذى القعدة أحضر تغرى برمش آلات الحصار من مكاحل النّفط
والسلالم والجنويّات «3» إلى باب الفرج، ونصب صيوانه تجاه سور حلب،
وجدّ فى قتال الحلبيين.
هذا وأهل حلب يد واحدة على قتاله طول النهار مع ليلة الجمعة بطولها،
وأهل حلب يتضرعون ويدعون الله تعالى، فلما أصبح نهار الجمعة، رحل تغرى
برمش عن مكانه، وعاد إلى الميدان، بعد أن كانت القضاة وشيوخ العلم
والصلاح، وقفوا بالمصاحف والرّبعات
(15/323)
على رؤوسهم، وهم ينادون من فوق الأسوار:
«الغزاة معاشر الناس فى العدو، فإنه من قتل منكم كان فى الجنة، ومن قتل
من العدو صار إلى النار» ، فى كلام كثير يحرضون بذلك العامة على
القتال، ويقوون عزائمهم على الثبات، إلى أن رحل تغرى برمش بمن معه من
الميدان إلى الجهة الشمالية، فى يوم الأحد خامس ذى القعدة، بعد ما رعت
مواشيهم زروع الناس وبساتينهم وكرومهم، وقطعوها ونهبوا القرى التى حول
المدينة، وأخربوا غالب العمارات التى كانت خارج سور حلب، وقطعوا القناة
التى تدخل إلى مدينة حلب من ثلاثة أماكن، وكان أشدّ الناس فى قتال تغرى
برمش، أهل بانقوسا «1» ، هذا بعد أن ظفر تغرى برمش بجماعة من الحلبيين
فى بعض قتاله، فقطع أيدى الجميع، وبالغ فى الإضرار بالناس، وأنا أقول:
لو كان لتغرى برمش على أهل حلب دولة، لفعل فيهم أعظم من فعل تيمور لنك،
لقلة دينه وجبروته ولحنقه «2» من أهل حلب، وأنا أعرف بحاله من غيرى
لكونه طالت أيامه فى خدمة الوالد سنين، ثم قتل أغاته «3» من مماليك
الوالد، وفر كما سنحكيه فى وفاته من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
ولما بلغ هذا الخبر الملك الظاهر، قلق قلقا عظيما لما وقع لرعيته من
أهل حلب، فلم يكن إلا أياما قليلة [و] «4» قدم الخبر فى يوم السبت خامس
عشرين ذى القعدة، بكسرة تغرى برمش المذكور، فدقت البشائر لذلك، وعظم
سرور السلطان، غير أنه تشوّش لعدم مسكه وخاف عاقبة أمره. وكان من خبره
أن العسكر المصرى بمن معه من العسكر الشامى، لما ساروا من دمشق إلى جهة
حلب، وافاهم الأمير قانى باى الحمزاوى وغيره وصاروا جمعا واحدا، فلقيهم
تغرى برمش المذكور بجموعه، التى كانت معه قريبا من حماة، فى يوم الجمعة
سابع عشر ذى القعدة، وقد صفّ عساكره من التركمان وغيرهم،
(15/324)
حتى ملأوا الفضاء، فحال ما وقع [بصر] «1»
عسكره على العساكر السلطانية، أخذوا فى الانهزام من غير مصاففة، بل بعض
تناوش من صغار الطائفتين، وولوا الأدبار.
ومدت العساكر السلطانية أيديها إلى عساكر تغرى برمش، فغنموا منهم «2»
غنائم لا تحصى كثرة، منها نحو المائتى ألف رأس [117] من الغنم، سوى ما
تمزق، ونهب جميع وطاق تغرى برمش وماله «3» ، وانهزم هو فى جماعة يسيرة
من خواصه إلى جهة التركمان الصّوجيّة «4» ، على ما نذكره من «5» قصته
«6» فى ذى الحجة من هذه السنة.
ثم فى يوم الاثنين سابع «7» عشرين ذى القعدة، قدم النّجلب برأس الأمير
إينال الجكمى، وكان قتله بقلعة دمشق فى ليلة الاثنين عشرين ذى القعدة،
فشهرت الرأس على رمح، ونودى عليه: «هذا جزاء من حارب الله ورسوله» ، ثم
علقت على باب زويلة، وقتل معه الأمير تنم العلائى المؤيدى، وكان تنم
المذكور أدوبا حشما وقورا، وأما إينال الجكمى فيأتى التعريف بحاله فى
الوفيات على العادة.
وفى هذه الأيام، حكم بقتل الأمير يخشباى الأشرفى الأمير آخور الثانى،
وقد تقدم أنه ادّعى عليه أنه سبّ شريفا، ولعن والديه، وأن بعض نواب
الشافعى حكم بحقن دمه، وسكن الحال مدة أشهر، ثم طلب السلطان من القاضى
المالكى قتله؛ فاحتج بحكم الشافعى بحقن دمه، فعورض بأن المطلوب الآن من
الدعوى عليه غير المحكوم فيه بحقن الدم، فصمم المالكى بأنهما قضية
واحدة، ووافقه غير واحد من المالكية؛ ووقع أمور حكاها غير واحد من
المؤرخين، إلى أن قتل يخشباى المذكور حسبما يأتى ذكره.
(15/325)
ثم ورد على السلطان فى يوم الأحد ثالث ذى
الحجة، مطالعة الأمير جلبان نائب حلب، وقرينها مطالعات بقية الأمراء
والنواب، تتضمن أن تغرى برمش، لما انهزم على حماة، مضى نحو الجبل
الأقرع وقد فارقه الغادر بن نعير، فقبض عليه أحمد وقاسم ولدا صوجى،
وقبض معه على دواداره كمشبغا، وخازنداره يونس، وعلى الأمير طرعلى بن
سقل سيز والأمير صارم الدين إبراهيم بن الهذبانى نائب قلعة صهيون،
وكتبوا بذلك إلى نائب حلب، فورد الخبر بذلك على العسكر، وهم على خان
طومان، فى يوم الاثنين العشرين من ذى القعدة.
فجهز الأمير جلبان عند ذلك الأمير بردبك العجمى نائب حماة، والأمير
إينال العلائى نائب صفد، والأمير طوخ مازى نائب غزة، والأمير قطج أتابك
حلب، والأمير سودون النّوروزى حاجب حجاب حلب، لإحضار المذكورين، ورحل
جلبان بمن بقى معه [يريد حلب، فدخلها فى يوم الثلاثاء حادى عشرين ذى
القعدة المذكورة، وسار بردبك العجمى نائب حماة بمن معه] «1» إلى أن
تسلّم تغرى برمش ومن ذكرنا ممن قبض عليه من أصحابه وأتوا بهم، فسمّر طر
على بن سقل سيز تسمير سلامة، وسمّر الهذبانى ورفقته تسمير عطب، وساروا
بهم، وتغرى برمش راكب على فرس بقيد حديد، حتى دخلوا به مدينة حلب، وهو
ينادى عليهم فى يوم الخميس ثالث عشرينه، وقد اجتمع من أعدائه الحلبيين
خلائق لا يعلم عدتها إلا الله، وهم من التّخليق بالزعفران والتهانئ، فى
أمر كبير، وصاروا يسمعون تغرى برمش المذكور، من المكروه والسّب والتوبخ
وإظهار الشماتة به أمورا كثيرة، حتى أوقفوهم تحت قلعة حلب، ووسّط
الهذبانى ورفيقه، وتسلّم تغرى برمش وطرعلى الأمير حطط نائب قلعة حلب.
فانظر إلى هذا القصاص، وهو أن تغرى برمش لم يكن له فى الدنيا عدو أعظم
من بردبك العجمى وحطط، ثم عامة حلب، وقد تمكّن الثلاثة منه، فأما بردبك
فإنه
(15/326)
تسلّمه وتحكم فيه [من وقت أخذه من أولاد
صوجى إلى أن أوصله إلى قلعة حلب، وأما حطط فإنه تحكم فيه] «1» من وقت
تسلمه من بردبك العجمى إلى أن قتل بين يديه؛ وأما عامة أهل حلب فإنهم
بلغوا منه مرادهم من إسماعه المكروه والشماتة به، والتفرج عليه يوم
قتله، فنعوذ بالله من زوال النعم وشماتة الأعداء.
وأما السلطان الملك الظاهر، فإنه لما بلغه القبض على تغرى برمش، كاد أن
يطير فرحا، وعلم أنه الآن بقى فى السلطنة بغير نكد ولا تشويش، ودقت
البشائر لذلك ثلاثة أيام، وكتب بقتل تغرى برمش بعد عقوبته ليقرّ على
أمواله، فعوقب، فأقرّ على شىء من ماله، نحو الخمسين ألف دينار، ثم أنزل
ونودى عليه إلى تحت قلعة حلب، وضربت عنقه، وقتل معه أيضا طر على بن سقل
سيز، وصفا «2» الوقت للملك الظاهر، وخلاله الجو من غير منازع؛ والتفت
الآن إلى من له عنده رأس قديمة يكافئه عليها من خير وشر.
فأول ما بدأ به فى يوم الخميس ثامن عشرين ذى الحجة، أن قبض على زين
الدين عبد الباسط بن خليل الدمشقى ناظر الجيش [118] وعلى مملوكه جانبك
الأستادار، وعلى عدة كبيرة من حواشيه، وأحيط بدور الجميع، وكتب بإيقاع
الحوطة «3» على جميع ماله بالشام والحجاز والإسكندرية، فزال بمسكه غمة
كبيرة عن الناس، فإنه كان غير محبب للناس حتى ولا إلى أصحابه، لبادرة
كانت فيه، وسوء خلق وبطن مع سفه وبذاءة «4» لسان.
ثم فى يوم السبت سلخ ذى الحجة من سنة اثنتين وأربعين، خلع السلطان على
القاضى محب الدين بن الأشقر باستقراره فى وظيفة نظر الجيش، عوضا عن عبد
الباسط، وخلع على الناصرى محمد بن عبد الرازق بن أبى الفرج، نقيب
الجيش، باستقراره
(15/327)
أستادارا عوضا عن جانبك الزينى عبد الباسط.
وابن الأشقر المذكور وابن أبى الفرج، كل منهما كان من أعظم»
أصحاب عبد الباسط. قلت: عود وانعطاف على ما ذكرناه، أنه كان يكرهه حتى
أعزّ أصحابه، ولولا ذاك ما وليا عنه هؤلاء وظائفه فى حياته، وإن كانا
«2» تمنّعا عند الولاية، فهذا باب تجمل ليس على حقيقته، ولا يخفى ذلك
على من له ذوق سليم، فإننا لا نعرف أحدا ولى وظيفة غصبا كائنا «3» من
كان.
وفى يوم السبت [المذكور] «4» قدم رأس تغرى برمش، فطيف بها، ثم علقت على
باب زويلة أياما.
وفرغت هذه السنة، أعنى سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة، بعد أن كان فيها
حوادث كثيرة، وعدة وقائع حسبما ذكرناه.
[ما وقع من الحوادث سنة 843]
واستهلت سنة ثلاث وأربعين وثمانمائة «5» والسلطان مصمم على أنه لا يقنع
منه بأقل من ألف ألف دينار، ويهدده بالعقوبة، ويعدّد له ذنوبه، حتى قال
فى بعض مجالسه بحضرتى: والله أشنكله بشنكال، مثلما كانت تعمل الجغتية
«6» ، هذا أخرب مملكة مصر، كان إذا كلمه [أحد من] «7» أعيان الأمراء
صفرّ له بفمه فى وجهه؛ وأشياء كثيرة من ذلك.
ثم فى يوم الاثنين ثانى محرم سنة ثلاث وأربعين، خلع السلطان على القاضى
ولى الدين محمد السّفطى مفتى دار العدل، وأحد ندماء «8» السلطان
وخواصه، باستقراره فى نظر الكسوة مضافا لما بيده من وكالة بيت المال،
فإن شرط الواقف أن يكون وكيل
(15/328)
بيت المال ناظر الكسوة، عوضا عن عبد
الباسط، قلت: وولىّ الدين أيضا كان من أصحابه.
ثم خلع السلطان على فتح الدين محمد بن المحرقى، باستقراره ناظر
الجوالى، عوضا عن عبد الباسط؛ وكان فتح الدين المذكور من حواشى [الملك]
«1» الظاهر أيضا.
ثم فى يوم الأربعاء حادى عشر المحرم أفرج عن جانبك الزينى عبد الباسط،
بعد أن حوسب فى بيت تغرى بردى المؤذى الدوادار الكبير، وقد شطّب عليه
بمبلغ ألف ألف درهم «2» وثلاثمائة ألف درهم، وجبت عليه للديوان، وذلك
سوى العشرة آلاف دينار، التى ألزم «3» بها.
[ثم] «4» فى سلخ المحرم، قدم الأمير يشبك السّودونى أمير سلاح من بلاد
الصعيد بمن معه من المماليك الأشرفية وغيرهم، فخلع السلطان عليه
باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية، عوضا عن آقبغا التّمرازى
بحكم انتقاله إلى نيابة دمشق، وكان يشبك أنعم عليه بالإقطاع والوظيفة
من يوم ذاك، غير أنه كان غائبا ببلاد الصعيد هذه المدة الطويلة، فلما
حضر خلع عليه بالأتابكية.
ثم فى يوم الاثنين أول صفر، قدم الأمير قانى باى الأبوبكريّ الناصرى
المعروف بالبهلوان، أتابك دمشق، إلى القاهرة، وخلع السلطان عليه
باستقراره فى نيابة صفد، عوضا عن الأمير إينال العلائى الناصرى بحكم
عزل إينال المذكور، واستقراره من جملة مقدمى الألوف بديار مصر، ورسم
باستقرار الأمير إينال الششمانى الناصرى أحد مقدمى الألوف بدمشق، فى
الأتابكية، عوضا عن قانى باى البهلوان.
ثم فى يوم السبت سادس صفر، قدم إلى القاهرة الأمراء المجردون إلى الشام
يمن
(15/329)
معهم من المماليك السلطانية، فخلع السلطان
على الأمير قرا خجا الحسنى الأمير آخور، وعلى الأمير تمرباى
التّمربغاوى رأس نوبة النوب، وعلى جميع من بقى من رفقتهما من أمراء
الطبلخانات والعشرات؛ وسكن قراخجا بباب السلسلة.
وفى هذه الأيام غضب السلطان على عبد الباسط ونقله فى يوم الخميس حادى
عشر صفر، من المقعد الذي على باب الهجرة، المطل على الحوش من قلعة
الجبل، إلى البرج عند باب القلعة، وكان سبب ذلك أنه من يوم حبسه
السلطان لم يهنه بضرب ولا عقوبة، والناس تتردد إليه، وهو مطالبه بألف
ألف دينار، وقد تكلم [119] بينه وبين السلطان المقرّ «1» الكمالى محمد
بن البارزى صهر السلطان، وكاتب سره، وراجع السلطان فى أمره مرارا
عديدة، وعبد الباسط يورد للسلطان من أثمان ما يباع له، حتى وقف طلب
السلطان بعد عناية ابن البارزى به، على أربعمائة ألف دينار، وأبى
السلطان أن يضع عنه منها شيئا، وعبد الباسط يريد أن يحطّ عنه من ذلك
شيئا آخر، وترامى على ابن البارزى المذكور واعترف بالتقصير فى حقه فى
الدولة الأشرفية، فلم يحوجه ابن البارزى لذلك، بل شمّر ساعدا طويلا
لمساعدته، حتى صار أمره إلى هنا بغير عقوبة ولا إهانة «2» .
فلما كان يوم الخميس المذكور، تكلم مع السلطان ابن البارزى وجماعة
كبيرة من أعيان الدولة، فى أمر عبد الباسط، وسألوه «3» الحطيطة من
الأربعمائة ألف دينار،
(15/330)
فغضب السلطان من ذلك، وأمر به فأخرج إلى
البرج على حالة غير مرضية، ومضى من المقعد ماشيا إلى البرج المذكور،
وسجنوه به، ورسم السلطان له أن يدفع للمرسّمين «1» عليه، لمّا كان
بالمقعد، وهم ثمانية من الخاصّكية، مبلغ ألفى دينار ومائتى دينار،
ودفعها لهم. وبينما هو فى ذلك، دخل عليه الوالى وأمره أن يقلع جميع ما
عليه من الثياب، فإنه نقل للسلطان أن معه الاسم الأعظم أو أنه يسحر
السلطان، فإنه [كان] «2» كلما أراد عقوبته صرفه الله عنه، فخلع جميع ما
كان عليه من الثياب والعمامة، ومضى بها الوالى وبما فى أصابع يديه من
الخواتم، فوجد فى عمامته قطعة أديم، ذكر أنها من نعل النبي صلى الله
عليه وسلم، ثم وجدت فى عمامته أوراق فيها أدعية ونحوها، وأخذ المقرّ
الكمالى فى القيام معه، حتى كان من أمره ما سنذكره.
ثم فى يوم السبت ثالث عشر صفر، قدم الأمير إينال العلائى الناصرى
المعزول عن نيابة صفد، وقد استقر من جملة مقدمى الألوف بالديار
المصرية، وقدم معه الأمير طوغان العثمانى نائب الندس، والأمير طوخ
الأبوبكريّ المؤيدى أتابك غزة، وقد صار من جملة مقدمى الألوف بدمشق،
على إقطاع مغلباى الجقمقى بعد القبض عليه، وخلع السلطان على الجميع
وأركبوا خيولا بقماش ذهب.
ثم فى رابع عشر صفر، رسم السلطان بإحضار الأمراء المسجونين وغيرهم بثغر
الإسكندرية، إلى مدينة بلبيس، ليحملوا إلى الحبوس بالبلاد الشامية.
وندب الأمير أسنبغا الطّيّارى أحد أمراء الألوف بالديار المصرية،
لإحضارهم، وهم: الأمير جانم أخو الأشرف الأمير آخور، وإينال الأبوبكريّ
الأشرفى، وعلى باى شادّ الشراب خاناة الأشرفى، وأزبك السيفى قانى باى
رأس نوبة المعروف بجحا، وجكم الخازندار خال العزيز، وجرباش، وجانبك قلق
سيز، ومن الخاصّكية: تنم الساقى، وبيبرس الساقى، ويشبك الدوادار، وأزبك
البواب، وبايزير خال العزيز، وجميع هؤلاء
(15/331)
أشرفية؛ وتنبك الإينالى المؤيدى الفيسى،
وبيرم خجا الناصرى أمير مشوى، وجماعة أخر لم يحضرنى الآن أسماؤهم، ولم
يبق بسجن الإسكندرية سوى الأمير قراجا الأشرفى، أحد مقدمى الألوف كان
«1» ؛ وخرج الأمير أسنبغا من يومه.
وفى هذا اليوم سافر الأمير قانى باى البهلوان نائب صفد إلى محل كفالته
بها، بعدما أنعم السلطان عليه بمال جزيل، وسافر الطّيّارى «2» إلى
الإسكندرية، وأخذ المذكورين وعاد بهم إلى بلبيس فى ثانى عشرين صفر،
والجميع بالحديد، غير أن الأمير أسنبغا تلطّف بهم وأحسن فى خطابهم
ومسيرهم إلى الغاية، بخلاف من تولى تسفيرهم من بلبيس إلى محل سجنهم؛
فأفرج السلطان منهم عن بيرم خجا أمير مشوى، ونفى إلى طرابلس، وأخرج
السلطان من البرج بقلعة الجبل، اثنين أضافهما إلى هؤلاء، ورسم أن يتوجه
منهم «3» سبعة نفر إلى قلعة صفد، ليسجنوا بها، وهم إينال الأشرفى أحد
مقدمى الألوف، وعلى باى المشدّ الأشرفى، وأزبك جحا، وجرباش مشدّ سيّدى،
وتنبك الفيسى، وحزمان وقانى باى اليوسفى، ومسفّر هؤلاء الأمير سمام
الحسنى الناصرى أحد أمراء العشرات، وأن يتوجّه ثلاثة منهم إلى قلعة
الصّبيبة «4» ليسجنوا بها، وهم الأمير جانم أمير آخور وبايزير خال
العزيز [120] ويشبك [بشق، ومسفّرهم، هم ومن يمضى إلى حبس المرقب الآتى
ذكرهم: إينال أخو قشتم المؤيدى أحد أمراء العشرات، والمتوجهون إلى حبس
المرقب خمسة وهم: جانبك قلق سيز، وتنم الساقى، وجكم خال
(15/332)
العزيز] «1» ويشبك الفقيه، وأزبك البواب،
والجميع أشرفية، وساروا بهم فى حالة غير مرضية.
[ثم] «2» فى سابع عشرين صفر، قدم الأمير طوخ مازى نائب غزة، فخلع
السلطان عليه باستمراره وأكرمه.
وفى تاسع عشرينه، نقل زين الدين عبد الباسط من محبسه بالبرج إلى موضع
يشرف على باب القلعة، بسفارة ابن البارزى وأخته خوند زوجة السلطان،
ووعده السلطان بخير، بعد ما كان وعده بالعقوبة.
ثم فى يوم الاثنين سادس شهر ربيع الأول، خلع السلطان على الأمير طوخ
مازى نائب غزة خلعة السفر، وتوجه من يومه عائدا إلى محل كفالته.
ثم فى ليلة السبت حادى عشره، أخرج الملك العزيز يوسف من محبسه بالقلعة،
وأركب فرسا، ومعه جماعة كبيرة ومضوا به، حتى أنزل فى الحرّاقة «3» ،
وساروا به حتى حبس بثغر الإسكندرية إلى يومنا هذا، ومسفّره جانبك
القرمانى أحد أمراء العشرات، ورسم أن يصرف له من مال أوقاف العزيز ألف
دينار. وحمل مع الملك العزيز ثلاث جوار لخدمته، ورتب له فى كل يوم ألف
درهم، من أوقاف أبيه، وكان لخروجه يوم مهول «4» من بكاء جوارى أبيه
وأمه، وتجمعن بعد خروجه بالصحراء فى تربة أمه خوند جلبان، وعملن عزاء
كيوم مات الأشرف وبكين وأبكين.
ثم فى حادى عشر شهر ربيع الأول [المذكور] «5» استقرّ شمس الدين
(15/333)
أبو المنصور «1» نصر الله المعروف بالوزّة،
ناظر الإسطبل السلطانى، بعد عزل زين الدين يحيى الأشقر قريب ابن أبى
الفرج.
قلت: وأى فخر أو سابق رئاسة لمن يعزل بهذا الوزّة عن وظيفته!
ثم فى يوم الأحد تاسع عشر [شهر] «2» ربيع الأول، سارت تجريدة فى النيل
تريد ثغر رشيد، وقد ورد الخبر بأن أربعة شوان «3» للفرنج قاربت رشيد،
وأخذت منها أبقارا وغيرها، فأخرج السلطان لذلك [الأمير] «4» أسنبغا
الطيارى، والأمير شادبك الجكمى، وهما من أمراء الألوف بالديار المصرية،
وحمل السلطان لكل منهما خمسمائة «5» دينار، وعند ما نزلا إلى المركب فى
بحر النيل، احترقت مركب الطيّارى من مدفع نفط رموا به، فعاد عليهم
ناره، وأحرق شيئا مما كان معهم، وأصاب بعضهم، فألقى الطيارى نفسه فى
البحر، حتى نجا من النار، ثم طلع وركب السفينة وسار «6» .
[و] «7» فى أواخر شهر ربيع الأول [هذا] «8» رسم السلطان بتوجه زين
الدين عبد الباسط [إلى] «9» الحجاز بأهله وعياله، وسافر فى يوم
الثلاثاء ثانى عشر [شهر] «10» ربيع الآخر، بعد أن خلع السلطان عليه فى
يوم سفره، وعلى معتقه جانبك الأستادار، ونزل من القلعة إلى مخيّمه
بالريدانية، بعد أن حمل إلى الخزانة السلطانية مائتى ألف دينار وخمسين
ألف دينار ذهبا عينا سوى ما أخذ له من الخيول والجمال، وسوى تحف جليلة
قدّمها للسلطان وغيره؛ ثم رحل «11» عبد الباسط من الرّيدانية يريد
(15/334)
الحجاز، فى خامس عشره، ونزل ببركة الحاجّ
«1» ، وأقام بها أيضا إلى ليلة ثامن عشره.
ثم فى خامس عشرين شهر ربيع الآخر «2» قدم الأمير تمراز المؤيدى أحد
حجاب دمشق، بسيف الأمير آقبغا التّمرازى، وقد مات فجاءة فى يوم السبت
سادس عشره، فرسم السلطان للأمير جلبان نائب حلب باستقراره فى نيابة
دمشق، وأن ينتقل الأمير قانى باى الحمزاوى نائب طرابلس إلى نيابة حلب،
وأن ينتقل الأمير برسباى الناصرى حاجب حجاب دمشق إلى نيابة طرابلس،
ويستقر عوضه فى حجوبية دمشق سودون النّوروزى حاجب حجاب حلب؛ وينتقل
حاجب حماة الأمير سودون المؤيدى إلى حجوبية [حجاب] «3» حلب، وأن يستقر
الأمير جمال الدين يوسف بن قلدر «4» نائب خرت برت «5» فى نيابة ملطية
بعد عزل الأمير خليل بن شاهين الشيخى عنها، ويستقر خليل أحد أمراء
الألوف بدمشق، عوضا عن الأمير ألطنبغا الشريفى، ويستقر الشريفى أتابك
حلب، عوضا عن قطج من تمراز، وأن يحضر قطج المذكور إلى القاهرة [121]
إلى أن ينحلّ له إقطاع «6» ؛ وجهزت تقاليد الجميع
(15/335)
ومناشيرهم «1» فى سابع عشرينه؛ ورسم للأمير
دولات باى المحمودى الساقى المؤيدى الدوادار الثانى أن يكون مسفّر
جلبان نائب الشام، وأن يكون الأمير أرنبغا اليونسى الناصرى مسفّرقانى
باى الحمزاوى، نائب حلب، وأن يكون سودون المحمودى المؤيدى المعروف
بأتمكجى «2» ، مسفّر برسباى، نائب طرابلس؛ وخلع على الجميع فى يوم تاسع
عشرين شهر ربيع الآخر.
ثم فى يوم السبت خامس عشر جمادى الأولى، استقر الأمير مازى الظاهرى
[برقوق] «3» أحد أمراء دمشق، فى نيابة الكرك عوضا عن آقبغا التركمانى
الناصرى، بحكم مسك آقبغا المذكور وحبسه بسجن الكرك.
وفى عشرينه خلع السلطان على الأمير أسنبغا الطّيارى أحد مقدمى الألوف،
باستقراره فى نيابة الإسكندرية، عوضا عن يلبغا البهائى الظاهرى [برقوق]
«4» بحكم وفاته، زيادة على ما بيده من تقدمة ألف بمصر، وطلب السلطان
الأمير قراجا الأشرفى من سجن الإسكندرية، فحضر فى يوم الاثنين ثانى
جمادى الآخرة، فخلع عليه السلطان باستقراره أتابك حلب، وبطل أمر
الشريفى، واستمر على إقطاعه بدمشق.
ثم فى يوم الخميس ثانى عشر جمادى الآخرة، عمل السلطان الموكب بالقصر
وأحضر
(15/336)
رسول القان معين الدين شاه رخ بن تيمور
لنك، فحضر الرسول وناول الكتاب الذي على يده، وإذا فيه: أنه بلغه موت
[الملك] «1» الأشرف وجلوس السلطان على تخت الملك، فأراد أن يتحقق علم
ذلك؛ فأرسل هذا الكتاب؛ فخلع السلطان عليه وأكرمه وأنزله بمكانه الذي
كان أنزل فيه، فإنه كان وصل فى أول «2» يوم من جمادى الأولى، ورسم
السلطان بكتابة جوابه.
ثم فى يوم الاثنين رابع شهر رجب، أدير المحمل على العادة، وزاد السلطان
فى عدة الصبيان الذين يلعبون بالرمح، الصغار، عدة كبيرة، ولم يقع فى
أيام المحمل بحمد الله ما ينكر من الشناعات التى كانت تقع من المماليك
الأشرفية.
وفى هذا اليوم أيضا، خلع السلطان على الأمير طوخ الأبوبكريّ المؤيدى
أحد أمراء الألوف بدمشق، وكان قبل أتابك غزة، باستقراره فى نيابة غزة،
بعد موت الأمير طوخ مازى الناصرى، فولى طوخ عوضا عن طوخ، وأنعم بتقدمة
طوخ بدمشق، على الأمير تمراز المؤيدى الحاجب الثانى بدمشق.
ثم فى يوم السبت حادى عشر شعبان، استقر القاضى بهاء الدين محمد بن حجى
فى نظر جيش دمشق، عوضا عن سراج الدين عمر بن السّفّاح، ورسم لابن
السفاح بنظر جيش حلب.
ثم فى يوم الثلاثاء ثامن عشر شوال، خرج أمير حاجّ المحمل الأمير شادبك
الجكمى، أحد مقدمى الألوف، بالمحمل، وأمير حاج الركب الأول سمام الحسنى
الناصرى، أحد أمراء العشرات.
ثم فى يوم الثلاثاء خامس عشرين شوال، قدم الأمير ناصر الدين بك، واسمه
محمد بن دلغادر نائب أبا ستين، إلى الديار المصرية، بعد ما تلقاه
المطبخ السلطانى، وجهزت له الإقامات فى طول طريقه؛ ثم سارت عدة من
أعيان الدولة إلى لقائه، ومعهم
(15/337)
الخيول والخلع له ولأعيان من معه من أولاده
وأصحابه، فلما دخل إلى القاهرة وطلع إلى القلعة، ومثل بين يدى السلطان
وقبّل الأرض، خلع عليه السلطان خلعة باستمراره على نيابة أبلستين على
عادته، وأنزل فى بيت بالقرب من القلعة؛ وبالغ السلطان فى الاحتفال
بأمره والاعتناء به، وشمله بالإنعامات «1» الكثيرة. وكان ناصر الدين بك
المذكور، له سنين كثيرة لم يدخل تحت طاعة سلطان، وإن دخل فلم يطأ
بساطه، فلما سمع بسلطنة الملك الظاهر هذا، وبحسن سيرته، قدم، وأقدم معه
ابنته التى كانت تحت جانبك الصوفى، وعدة من نسائه، فعقد السلطان عقده
على ابنته المذكورة التى كانت تحت جانبك الصوفى، ولها من جانبك المذكور
بنت «2» ، لها من العمر نحو ثلاث سنين، بعد أن حمل إليها المهر ألف
دينار، وعدة كثيرة من الشقق الحرير وغيرها.
وفى هذا الشهر، أراد السلطان أن تكون تصرفاته فى أمر جدّة، على مقتضى
«3» فتاوى أهل العلم، لعلمه أن شاه رخ بن تيمور، كان يعيب على [الملك]
«4» الأشرف برسباى، لأخذه بجدّة من التجار عشور «5» أموالهم [122] وأن
ذلك من المكس المحرم؛ فكتب بعض الفقهاء سؤالا على غرض السلطان، يتضمن:
أن التجار المذكورين كانوا يردون إلى بندر عدن [من بلاد اليمن] «6»
فيظلمون بأخذ أكثر أموالهم، وأنهم رغبوا فى القدوم إلى بندر جدّة
ليحتموا «7» بالسلطان؛ وسألوا أن يدفعوا عشر أموالهم، فهل يجوز أخذ ذلك
منهم؟ فإن السلطان يحتاج إلى صرف مال كثير فى عسكر يبعثه إلى مكة فى كل
سنة، فكتب قضاة القضاة الأربعة «8» ، بجواز أخذه وصرفه،
(15/338)
فى المصالح «1» . فأنكر الشيخ تقىّ الدين
على القضاة فى كتابتهم على الفتاوى المذكورة، وانطلق لسانه بما شاء
الله أن يقوله فى حقهم- انتهى.
ثم فى يوم الخميس ثامن عشر ذى القعدة، قدم الأمير إينال الششمانى
الناصرى، أتابك دمشق، والأمير ألطنبغا الشريفى الناصرى أحد مقدمى
الألوف بدمشق، وطلعا [إلى] «2» القلعة، وخلع السلطان عليهما وأكرمهما.
وفيها «3» أيضا، خلع السلطان على الأمير ناصر الدين بك بن دلغادر خلعة
السفر، وسافر يوم الاثنين تاسع عشرين ذى القعدة، بعد أن بلغت النفقة
عليه من الإنعامات ثلاثين ألف دينار.
ثم فى يوم الأربعاء سابع ذى الحجة، نودى بمنع المعاملة بالدراهم
الأشرفية من الفضة،
(15/339)
وأن تكون المعاملة بالدراهم الظاهرية
الجقمقيّة، وهدد من خالف ذلك، فاضطرب الناس لتوقف أحوالهم. فنودى فى
آخر النهار بأن الفضة الأشرفية تدفع للصيارف بسعرها، وهو كل درهم
بعشرين درهما من الفلوس، وأن تكون الدراهم الظاهرية كل درهم بأربعة
وعشرين درهما، وجعلت عددا لا وزنا «1» . فمنها ما هو نصف درهم عنه،
اثنا «2» عشر درهما، ومنها ما هو ربع درهم، فيصرف بستة دراهم، على أن
كل دينار من الأشرفية، بمائتين خمسة وثمانين «3» درهما.
ثم فى يوم الثلاثاء، خلع السلطان على غرس الدين خليل بن أحمد بن على
السخاوى، أحد حواشى السلطان أيام أمرته، باستقراره فى نظر القدس
والخليل. والسخاوى هذا أصله من عوام القدس السوقة، وقدم القاهرة، وخدم
بعض التجار، وترقى، وركب الحمار، ثم ركب بعد مدة طويلة بغلة «4» بنصف
رحل «5» على عادة العوام، ورأيته أنا على تلك الهيئة، ثم انتهى إلى
خدمة السلطان، وهو يوم ذاك أحد مقدمى الألوف، واختص به، حتى تحدث فى
إقطاعه، ودام فى خدمته إلى أن تسلطن وعظم أمره عند من هو دونه، إلى أن
ولى فى هذا اليوم نظر القدس والخليل.
[ما وقع من الحوادث سنة 844]
ثم فى يوم الخميس ثامن المحرم من سنة أربع وأربعين، خلع السلطان على
الأمير قيزطوغان العلائى، أحد أمراء العشرات وأمير آخور ثانى،
باستقراره أستادارا، عوضا عن [محمد] «6» بن أبى «7» الفرج، بحكم عزله
والقبض عليه وحبسه بالقلعة إلى يوم الأحد حادى عشره، فتسلمه «8» الوزير
كريم الدين ابن كاتب المناخ.
(15/340)
[ثم] «1» فى يوم السبت رابع عشرين المحرم،
خلع السلطان على زين الدين يحيى الأشقر قريب ابن أبى الفرج، باستقراره
فى نظر ديوان المفرد «2» عوضا عن عبد العظيم ابن صدقة، بحكم مسكه، ونقل
ابن أبى الفرج من تسليم الوزير، وسلّم هو وعبد العظيم للأمير قيز طوغان
الأستادار، فأغرى «3» زين الدين، قيز طوغان، بابن أبى الفرج وعبد
العظيم، حتى أخذ ابن أبى الفرج وعاقبه وأفحش فى عقوبته فى الملأ من
الناس، من غير احتشام ولا تجمّل، بل طرحه على الأرض وضربه ضربا مبرحا،
ووقع له معه أمور، إلى أن أطلق وأعيد إلى نقابة الجيش بعد أن نفى، ثم
أعيد؛ ومن يومئذ ظهر اسم زين الدين وعرف فى الدولة، وكان هذا مبدأ
ترقيه حسبما يأتى ذكره إن شاء الله تعالى «4» .
وفى هذه الأيام وقع الاهتمام بتجهيز تجريدة [فى البحر] «5» لغز
والفرنج، وكتب السلطان عدة من المماليك السلطانية، وعليهم الأمير تغرى
برمش الزّردكاش،
(15/341)
والسيفى يونس الأمير آخور، وسافروا «1» من
ساحل بولاق فى يوم الاثنين تاسع شهر ربيع الأول، وكان جملة ما انحدر من
ساحل بولاق، خمسة عشر غرابا فيها المماليك السلطانية والمطوّعة. وسبب
هذه التجريدة كثرة عيث الفرنج «2» [فى البحر] «3» ، وأخذها مراكب
التجار، وهذه أول بعثه بعثها الملك الظاهر من الغزاة.
ثم فى يوم السبت سادس عشرين شهر ربيع الآخر، قدم [123] إلى القاهرة رسل
القان معين الدين شاه رخ بن تيمور لنك، ملك الشرق، وقد زينت القاهرة
لقدومهم، وخرج المقام الناصرى محمد بن السلطان إلى لقائهم، واجتمع
الناس لرؤيتهم، فكان لدخولهم «4» يوم مشهود «5» لم يعهد بمثله، لقدوم
رسل فى الدول المتقدمة؛ وأنزلوا بدار أعدت لهم، إلى يوم الاثنين ثامن
عشرينه، فتوجهوا «6» من الدار المذكورة «7» إلى القلعة، بعد أن شقوا
القاهرة، وهى مزينة بأحسن زينة، والشموع «8» وغيرها تشعل، وقد اجتمع
عالم عظيم لرؤيتهم، وأوقفت العساكر من تحت القلعة إلى باب القصر، فى
وقت الخدمة من باكر النهار المذكور. فلما مثل الرسل بين يدى السلطان،
قرئ كتاب شاه رخ، فكان يتضمن السلام والتهنئة بجلوس السلطان على تخت
الملك، ثم قدمت هديته وهى: مائة فص فيروز «9» ، وإحدى وثمانون قطعة من
حرير، وعدة
(15/342)
ثياب وفرو ومسك وثلاثون بختيّا «1» من
الجمال وغير ذلك، مما يبلغ «2» قيمته خمسة آلاف دينار. وأعيد الرسل إلى
منازلهم، وأجرى عليهم الرواتب الهائلة فى كل يوم، ثم قلعت الزينة فى
يوم الثلاثاء سلخه، وكان الناس تفننوا فى زينة القاهرة، ونصبوا بها
القلاع، وفى ظنهم أنها تتمادى أياما، فانقضى أمرها بسرعة.
ثم فى يوم الجمعة عاشر جمادى الأولى «3» ، ورد الخبر على السلطان بنصرة
الغزاة المجردين إلى قتال الفرنج.
ثم فى يوم الاثنين عشرين جمادى الأولى، خلع السلطان على القاضى بدر
الدين أبى المحاسن محمد بن ناصر الدين محمد بن الشيخ شرف الدين عبد
المنعم البغدادى، أحد نواب الحكم الحنابلة، باستقراره قاضى قضاة
الحنابلة بالديار المصرية، بعد موت شيخ الإسلام محب الدين أحمد بن نصر
الله البغدادى.
ثم فى يوم الثلاثاء حادى عشرين جمادى الأولى المذكور، قدم الغزاة، وكان
من خبرهم: أنهم انحدروا فى النيل إلى دمياط، ثم ركبوا منه البحر،
وساروا إلى جزيرة قبرس، فقام لهم متملكها، «4» بالإقامات، وساروا إلى
العلايا، فأمدّهم صاحبها بغرابين، فيهما المقاتلة، ومضوا إلى رودس، وقد
استعد «5» أهلها لقتالهم، فكانت بينهم محاربة طول يومهم، لم ينتصف
المسلمون فيها، وقتل منهم اثنا «6» عشر من المماليك، وجرح كثير، وقتل
من الفرنج أيضا جماعة كثيرة، فلما خلص المسلمون من قتالهم بعد جهد،
مروا بقرية من قرى رودس فقتلوا وأسروا ونهبوا ما فيها، وعادوا إلى
دمياط وأعلموا السلطان بأنه لم يكن لهم طاقة بأهل رودس.
(15/343)
ثم فى يوم الثلاثاء ثامن عشرين جمادى
الأولى المذكور، خلع على خواجا كلال رسول شاه رخ خلعة السفر، وقد اعتنى
بها عناية لم يتقدم بمثلها لرسول فى زماننا هذا، وهى حرير مخمّل
بوجهين: أحمر وأخضر، وطرز زركش، فيه خمسمائة مثقال من ذهب، وأركب فرسا
بسرج ذهب، وكنبوش زركش، فى كل منهما خمسمائة دينار، وجهزت صحبته هدية
ما بين ثياب حرير سكندرى، وسرج وكنبوش ذهب، وسيوف مسقّطة بذهب، وغير
ذلك مما تبلغ قيمته سبعة آلاف دينار؛ هذا بعد أن بلغت النفقة من
السلطان على الرسول المذكور ورفقته، نحو خمسة عشر ألف دينار، سوى
الهدية المذكورة.
ثم فى يوم السبت ثانى جمادى الآخرة، وقع بين القاضى حميد الدين الحنفى،
وبين شهاب الدين أحمد بن إسماعيل بن عثمان الكورانى الشافعى، مخاصمة،
وآل أمرهما إلى الوقوف بين يدى السلطان، فغضب السلطان لحميد الدين وضرب
الشهاب الكورانى وأهانه، ورسم بنفيه إلى دمشق، ثم إلى البلاد
المشرقيّة، فخرج على أقبح وجه. وكان هذا الكورانى قدم القاهرة قبيل سنة
أربعين وثمانمائة، فى فاقة عظيمة من الفقر والإفلاس، واتصل بباب المقرّ
الكمالى ابن البارزى فوالاه بالإحسان على عادة ترفقه بأهل العلم، ونوّه
بذكره، حتى عرفه الناس، وتردد إلى الأكابر، وصار له وظائف ومرتبات، فلم
يحفظ لسانه لطيش كان فيه، حتى وقع له ما حكيناه.
ثم فى يوم الخميس رابع عشر جمادى الآخرة، قدم الأمير جلبان نائب الشأم،
إلى القاهرة، ونزل السلطان إلى لقائه [124] بمطعم الطّير «1» خارج
القاهرة، وهو أول ركبة ركبها، بعد سلطنته بالموكب، وخلع السلطان على
جلبان المذكور خلعة الاستمرار، وعاد السلطان إلى القلعة وهو فى خدمته.
ثم فى يوم الاثنين [عاشر] «2» شهر رجب، أنعم السلطان بإقطاع الأمير
ألطنبغا
(15/344)
المرقبى المؤيدى، وتقدمته على الأمير طوخ
من تمراز الناصرى الرأس نوبة الثانى، بعد موته؛ وأنعم بإقطاع طوخ وهو
إمرة أربعين، على قانى باى الجاركسى شادّ الشراب خاناة.
ثم «1» فى يوم الاثنين أول شعبان، أضيف نظر دار الضرب، للمقر الجمالى
ناظر الخواص الشريف، كما كانت العادة القديمة، وذلك بعد موت جوهر
القنقبائى الزّمام والخازندار.
ثم فى يوم السبت سادسه، خلع السلطان على الطّواشى هلال الرومى الظاهرى
برقوق، شادّ الحوش السلطانى، باستقراره زماما، عوضا عن جوهر المقدم
ذكره، على مال كثير بذله فى ذلك.
ثم فى يوم الأحد سابعه خلع على الزينى عبد الرحمن بن علم الدين داؤد بن
الكويز، باستقراره أستادار الذخيرة، وخلع على الطواشى الحبشى جوهر
التّمرازى الجمدار، باستقراره خازندارا، كلاهما عوضا عن جوهر المذكور.
ثم فى يوم السبت عشرين شعبان، ركب السلطان من قلعة الجبل بغير قماش
الموكب، لكن بجميع أمرائه وخاصّكيته ونزل فى أبهة عظيمة، وسار إلى خليج
الزّعفران خارج القاهرة، ونزل هناك بمخيّمه، ومدت له أسمطة جليلة
وأنواع كثيرة من الحلوى، والفواكه، ثم ركب بعد صلاة الظهر، وعاد إلى
القلعة؛ بعد أن دخل من باب النصر، وشق القاهرة، وابتهج الناس به كثيرا.
وهذه أول مرة شق فيها القاهرة بعد سلطنته، وكان هذا الموكب جميعه بغير
قماش الموكب؛ ولم يكن ذلك فى «2» سالف الأعصار، وأول من فعل ذلك وترخّص
فى النزول من القلعة بغير كلفتاه ولا قماش، الملك الناصر فرج، ثم اقتدى
به [الملك] «3» المؤيد شيخ، ثم من جاء بعدهما.
(15/345)
وفى هذا الشهر، تكلم زين الدين يحيى الأشقر
ناظر الديوان المفرد، مع الأمير قيزطوغان العلائى الأستادار، بأنه يكلم
السلطان فى إخراج جميع الرّزق الإحباسية والجيشية التى بالجيزة «1»
وضواحى القاهرة، وحسّن له ذلك، حتى تكلم قيزطوغان المذكور فى ذلك مع
السلطان وألح عليه، ومال السلطان لإخراج جميع الرّزق المذكورة، إلى أن
كلمه فى ذلك جماعة من الأعيان ورجّعوه عن هذه الفعلة القبيحة، فاستقر
الحال على أنه يجبى من الرزق المذكورة، فى كل سنة عن كل فدان، مائة
درهم من الفلوس، فجبيت، واستمرت إلى يومنا هذا فى صحيفة زين الدين
المذكور، لأنه «2» [هو] «3» الدالّ عليها، والدال على الخير كفاعله
وكذلك الشّر.
ثم فى يوم الثلاثاء أول شهر رمضان، ورد الخبر على السلطان بالقبض على
الأمير قنصوه النّوروزى، وكان له من يوم وقعة الجكمى فى اختفاء، فرسم
بسجنه بقلعة دمشق، وقانصوه هذا من أعيان الأمراء المشهورين بالشجاعة
وحسن الرمى بالنّشّاب، غير أنه من كبار المخاميل الفلاسة المديونين.
ثم فى يوم السبت ثانى عشر [شهر] «4» رمضان، خلع السلطان على القاضى
معين الدين عبد اللطيف ابن القاضى شرف الدين أبى بكر، سبط العجمى،
باستقراره فى نيابة «5» كتابة السر بعد وفاة أبيه.
ثم فى يوم الاثنين تاسع عشر شوال، برز أمير حاجّ المحمل الأمير تمرباى
رأس نوبة النوب، بالمحمل، وأمير الركب الأول سودون الإينالى المؤيدى،
المعروف بقراقاس، أمير عشرة. وحج فى هذه السنة ثلاثة من أمراء الألوف:
تمرباى المقدم ذكره، والأمير تمراز القرمشى أمير سلاح، والأمير ظوخ من
تمراز الناصرى،
(15/346)
وسبعة أمراء أخر، ما بين عشرات وطبلخانات.
وتوجه تمراز أمير سلاح بالجميع ركبا وحده قبل الركب الأول، كما سافر فى
السنة الماضية الأمير جرباش الكريمى قاشق أمير مجلس، وصحبته ابنته زوجة
السلطان الملك الظاهر.
ثم فى يوم السبت سابع ذى القعدة، قدم إلى القاهرة الأمير قانى باى
الحمزاوى نائب حلب باستدعاء [125] ، فركب السلطان إلى ملاقاته بمطعم
الطير، وخلع عليه باستمراره على كفالته.
وفى أواخر «1» هذا الشهر، طرد السلطان أيتمش الخضرىّ الظاهرى، أحد
الأمراء البطّالة من مجلسه، ومنعه من الاجتماع به، وهذه ثانى مرة أهانه
السلطان وطرده؛ وأما ما وقع لأيتمش المذكور قبل ذلك فى دولة الأشرف
برسباى من البهدلة والنفى، فكثير، وهو مع ذلك لا ينقطع عن الترداد
للأمراء وأرباب الدولة بوجه أقوى من الحجر.
وفى هذه السنة، أعنى «2» سنة أربع وأربعين وثمانمائة، جدّد بالقاهرة
وظواهرها عدة جوامع، منها جامع الصالح طلائع بن رزيك «3» خارج باب
زويلة، قام بتجديده
(15/347)
رجل من الباعة يقال له عبد الوهاب العينى،
ومنها مشهد السيدة رقية، قريبا من المشهد النّفيسى، جدده الشريف بدر
الدين حسين بن أبى بكر الحسينى، نقيب الأشراف، وجدد أيضا جامع
الفاكهيين «1» بالقاهرة، وجامع الفخر بخط سويقة الموفق بالقرب من
بولاق، وجدد أيضا جامع الصارم أيضا، بالقرب من بولاق، وأنشأ أيضا جوهر
المنجكى نائب مقدم المماليك، جامعا بالرّميلة، تجاه مصلاة المؤمنى «2»
، وعمارته بالفقيرى بحسب الحال، وأنشأ تغرى بردى المؤذى البكلمشى
الدّوادار، جامعا بخط الصّليبة على الشارع الأعظم.
قلت: الناس على دين مليكهم، وهو أنه لما كانت الملوك السالفة تهوى
النزه والطرب، عمرت فى أيامهم بولاق وبركة الرّطلى «3» وغيرهما من
الأماكن، وقدم إلى القاهرة كل أستاذ صاحب آلة من المطربين وأمثالهم من
المغانى والملاهى، إلى أن تسلطن [الملك] «4» الظاهر جقمق، وسار فى
سلطنته على قدم هائل من العبادة والعفة عن المنكرات والفروج، وأخذ فى
مقت من يتعاطى المسكرات، من أمرائه وأرباب دولته، فعند ذلك تاب أكثرهم،
وتصولح وتزهّد «5» ، وصار كل أحد منهم يتقرب إلى خاطره بنوع من أنواع
المعروف، فمنهم من صار يكثر من الحج، ومنهم من تاب وأقلع عما كان فيه،
ومنهم من بنى المساجد والجوامع، ولم يبق فى دولته ممن استمر على ما كان
(15/348)
عليه، إلا جماعة يسيرة؛ ومع هذا كان أحدهم إذا فعل شيئا من ذلك، فعله
سرّا مع تخوف ورعب زائد، يرجفه فى تلك الحالة صفير الصافر وخفق الرياح،
فلله دره من ملك، فى عفته وعبادته وكرمه. |