النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

[ما وقع من الحوادث سنة 863]
ودخلت سنة ثلاث وستين وثمانمائة:
فى أولها كانت الزلزلة المهولة بمدينة الكرك، أخربت أماكن من قلعتها ودورها وأبراجها.
فكان أول المحرم الأربعاء.
فى يوم ثانيه استقر القاضى علاء الدين على بن مفلح «1» قاضى الحنابلة بدمشق وكاتب سرّها، بعد عزل القاضى قطب الدين محمد الخيضرى «2» ، بمال كثير بذله فى الوظيفتين.
ثم في يوم الثلاثاء استقر القاضى تاج الدين عبد الله بن المقسى ناظر الدولة كاتب المماليك السلطانية، بعد عزل سعد الدين بن عبد القادر.
وفي رابع صفر استقرّ على بن إسكندر محتسب القاهرة، بعد عزل بدر الدين ابن البوشى.
وفيه استقرّ إياس البجاسى نائب القدس، بعد عزل البدرى حسن بن أيوب، ثم عزل إياس المذكور في يوم الاثنين ثالث شهر ربيع الأوّل بشاه منصور بن شهرى
ثم في يوم الأربعاء خامس شهر ربيع الأول المذكور ورد الخبر بموت الأمير يشبك من جانبك المؤيدى الصوفى أتابك دمشق بها، فاستقر في أتابكيّة دمشق عوضه الأمير علّان شلق المؤيدى أحد أمراء دمشق، بمال بذله في ذلك نحو العشرة

(16/127)


آلاف دينار، وأنعم بتقدمة علّان المذكور على شادبك السّيفى جلبّان، مضافا إلى دوادارية السلطان بدمشق، وذلك أيضا بالبذل.
ورسم بإقطاع «1» شادبك المذكور للأمير قراجا الظاهرى، وهو بالقدس- بطالا- ليكون بيده وهو طرخان، ثم بطل ذلك.
ثم في يوم الخميس حادى عشر شهر ربيع الآخر رسم السلطان بنقل الأمير جانم الأشرفى نائب حلب من نيابة حلب إلى نيابة دمشق، بعد موت الأمير قانى باى الحمزاوى بحكم وفاته، وحمل إليه التقليد والتشريف الأمير جانبك من أمير الظريف الأشرفى أحد أمراء الطبلخانات وخازندار.
ورسم بانتقال الأمير حاج إينال اليشبكى من نيابة طرابلس إلى نيابة حلب، عوضا عن جانم الأشرفى المذكور، وصار مسفّره الأمير سودون الإينالى المؤيدى قراقاش ثانى رأس نوبة.
ورسم باستقرار الأمير إياس المحمدى الناصرى الطويل نائب حماة في نيابة طرابلس، عوضا عن حاج إينال، ومسفّره الأمير جانى بك الإينالى الأشرفى، المعروف بقلقسيز أحد أمراء العشرات ورأس نوبة.
ورسم باستقرار الأمير جانبك التاجى المؤيدى نائب صفد في نيابة حماة، عوضا عن إياس المحمدى، ومسفّره جانم المؤيّدى المعروف بحرامى شكل، أحد العشرات ورأس نوبة.
ورسم باستقرار خيربك النّوروزىّ نائب غزّة في نيابة صفد، عوضا عن جانبك التاجى، ومسفّره قانم طاز الأشرفى أحد أمراء العشرات ورأس نوبة.
ثم استقرّ- بعد مدّة- الأمير بردبك العبد الرحمانى «2» أحد أمراء الألوف بدمشق في

(16/128)


نيابة غزة عوضا عن خيربك النّوروزى المقدّم ذكره، وصار مسفّره السّيفى خيربك من حديد الأجرود أحد الدّوادارية الخاصّكيّة.
قلت: وجميع ولاية هؤلاء النوّاب المذكورين بالبذل، ماخلا الأمير جانم نائب الشام.
ثم أنعم السلطان بتقدمة بردبك العبد الرحمانى الذي بدمشق على الأمير قراجا الظاهرىّ المقدّم ذكره.
ثم في يوم الخميس عاشر جمادى الأولى استقرّ الأمير بردبك الأشرفى الدّوادار الثانى وصهر السلطان أمير حاج المحمل، واستقر الأمير كسباى الشّشمانى المؤيّدى أحد أمراء العشرات أمير الركب الأول.
واستقر الأمير يرشباى الإينالى المؤيّدى الأمير آخور الثانى كان، وأحد أمراء الطبلخانات الآن أمير المماليك المجاورين بمكة، ورسم لأسندمر الجقمقى بالمجيء من مكة إلى مصر.
ثم في يوم السبت ثانى عشر جمادى الأولى المذكور استقر القاضى محب الدين ابن الشحنة الحلبى الحنفى كاتب السر الشريف بالديار المصرية، بعد عزل القاضى محب الدين بن الأشقر.
ثم في يوم الثلاثاء خامس شهر رجب أمسك السلطان القاضى شرف الدين موسى الأنصارى ناظر الجيش، وسلّمه إلى الطواشى فيروز النوروزى الزمام والخازندار، فدام عنده إلى أن صودر وأخذ منه جمل من الأموال بغير استحقاق، بعد أن عزل عن وظيفة نظر الجيش كما سيأتى ذكره.
ثم ورد الخبر على السلطان من حلب أن الطاعون فشابها وكثر.
ثم في يوم الخميس رابع عشر شهر رجب استقرّ القاضى برهان الدين إبراهيم ابن الدّيرى ناظر الجيوش المنصورة عوضا عن الأنصارى المقدّم ذكره، بمال كثير بذله فى ذلك.

(16/129)


ثم في يوم السبت سادس عشر رجب تعرّض جماعة من المماليك الأجلاب للأمير زين الدين الأستادار، فهرب منهم، فضربوا الوزير وبهدلوه إلى الغاية، ولم ينتطح في ذلك عنزان؛ لقوة شوكة الأجلاب في هذه الأيام، حتى تجاوزت الحدّ، وبطل أمر حكام الدّيار المصرية قاطبة، وصار من كان له حق أو شبه حق لا يشتكى غريمه إلا عند الأجلاب، ففى الحال يخلص حقه من غريمه، إمّا على وجه الحق أو غيره، فخافهم كلّ أحد، لا سيما التّجار والبيعة «1» من كل صنف، وترك غالب الناس معايشهم؛ خوفا على رأس مالهم، فعزّ بسبب ذلك وجود أشياء كثيرة، ووقع الغلاء في جميع الأشياء، لا سيما في الأصناف المتعلقة بالأجناد، مثل الشعير والتبن والدريس، وما أشبه ذلك من أنواع أقمشة الخيل والبغال والمتعلقة بذلك، حتى صار لا يوجد بالكليّة إلا بعد عسر كبير، وصار من له ضيانة من تبن أو دريس أو شعير من الأجناد يسافر من القاهرة وبلاقيه ويمشى معه حتى يصل إلى بيته «2» إن قدر على ذلك «3» ، وإن كان أميرا أرسل إلى ملاقاته بعض مماليكه، وربما أخذوا ممن استضعفوه من الأجناد أو مماليك الأمراء، وزاد هذا الأمر حتى أضرّ بجميع الناس قاطبة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وفي يوم الأحد سابع عشر شهر رجب تعرّض بعض المماليك الأجلاب للقاضى محب الدين بن الشّحنة كاتب السّرّ، وهو طالع إلى الخدمة السلطانية، وضربه من غير أمر يوجب ضربه أو الكلام معه.
وفي يوم الثلاثاء تاسع عشره استقرّ الأمير ناصر الدين بن محمد القسّاسى، المعروف بمخلع، دوادار السلطان بحلب.
وفي يوم الخميس حادى عشرين رجب «4» أيضا استقر البدرى حسن بن أيوب في نيابة القدس بعد عزل [شاه] «5» منصور بن شهرى.

(16/130)


وفيه رسم السلطان بطلب أبى الخير النّحاس من البلاد الشامية على يد ساع.
وفي يوم السّبت أوّل شعبان وقع حريق عظيم ببندر جدّة بالحجاز.
وف يه توفى خيربك المؤيّدى الأشقر الأمير آخور الثانى، وأنعم السلطان بإقطاعه على الأمير بردبك المحمدى الظاهرى المعروف بالهجين الأمير آخور الثالث، وأنعم باقطاع بردبك المذكور على تغرى بردى الأشرفى، وأنعم باقطاع تغرى بردى على قراجا الأشرفى [الطويل «1» ] الأعرج، وتغرى بردى وقراجا كلاهما من مماليك السلطان القديمة أيام إمرته.
ثم في يوم الاثنين ثالث شعبان المذكور استقرّ الأمير يلباى الإينالى المؤيّدى أحد أمراء الطبلخانات أمير آخور ثانيا عوضا عن خيربك الأشقر المقدم ذكره.
وفيه استقر دولات باى الظاهرى نائب رأس نوبة الجمداريّة رأس نوبة الجمدارية عوضا عن قراجا الطويل الأعرج الذي تأمّر.
واستقرّ في نيابة رأس نوبة الجمداريّة شخص يسمى قايتباى الأشرفى، فوثب شخص من الخاصّكيّة الأجلاب يسمى برسباى، وجذب سيفه بالقصر السلطانى، بسبب ولاية هذين لهاتين الوظيفتين، ولكونه لم لا ولى هو «2» إحداهما، ثم وقع منه أمور أضربنا «3» عن ذكرها، خوفا على ناموس ملك مصر.
ثم في يوم السبت ثامن شعبان رسم بإطلاق القاضى شرف الدين الأنصارى من مكانه بقلعة الجبل بعد أن أخذ منه جملة مستكثرة من الذّهب العين وغيره.
ثم في يوم الأحد تاسعة ضرب السلطان مملوكين من مماليكه الأجلاب وحبسهما، لأجل قتلهما نانق الظاهرى، ولم يقتلهما به كما أمر الله تعالى.

(16/131)


ثم في يوم ثانى شهر رمضان وصل أبو الخير النحاس من البلاد الشامية إلى القاهرة وخلع السلطان عليه كامليّة بمقلب سمّور «1» .
وفي يوم الثلاثاء تاسعه قدّم أبو الخير النحاس إلى السلطان اثنين وسبعين فرسا، وثلاثين بغلا.
وفي يوم الجمعة ثانى عشر شهر رمضان المذكور نهبت العبيد والمماليك الأجلاب النسوة اللاتى حضرن صلاة الجمعة بجامع عمرو بن العاص- رضى الله عنه- بمصر القديمة، وأفحشوا في ذلك إلى الغاية، وكل مفعول جائز.
ثم في يوم الاثنين خامس عشر، استقر أبو الخير النّحاس ناظر الذخيرة السلطانية ووكيل بيت المال.
وفي يوم الأحد حادى عشرينه أغلقت المماليك الأجلاب باب القلعة، ومنعوا الأمراء والمباشرين من النزول إلى دورهم بسبب تعويق عليق خيولهم، وفعلوا ذلك أيضا من الغد إلى أن رسم لهم- عوضا عن كل عليقة- مائتا درهم.
ثم في يوم الخميس خامس عشرين شهر رمضان المقدّم ذكره استقر خشقدم السّيفى أرنبغا «2» الذي كان دوادار القانى باى الحمزاوى [نائب الشام] «3» فى حجوبية طرابلس على سبعة آلاف دينار، بعد عزل شادبك الصارمى.
وفي يوم الأحد ثامن عشرينه وصل إلى الدّيار المصرية جاكم الفرنجى ابن جوان «4» صاحب جزيرة قبرس، «5» بطلب من السلطان، ليلى- عوضا عن أبيه- ملك قبرس «6» ، وكان

(16/132)


أهل قبرس ملّكوا عليهم أخته مع وجوده؛ كونه ابن زنا، أو غير ذلك، لأمر لا يجوّز ولايته في ملتهم.
وفي هذا الشهر أخذ الطاعون في انحطاط من مدينة حلب، وانتشر فيما حولها من البلدان والقرى بعد أن مات منها نحو من مائتى ألف إنسان.
ثم في يوم الخميس ثالث شوال ضربت المماليك الأجلاب أبا الخير النحاس، وأخذوا عمامته من على رأسه، فتزايد ما كان به من الضعف، فإنه كان مستضعفا قبل ذلك بمدّة وأخذ أمره يومئذ في انحطاط، ولزم الفراش، إلى أن مات حسبما يأتى ذكره إن شاء الله تعالى.
وفي يوم السبت خامس شوال عمل السلطان الموكب بالحوش السلطانى من قلعة الجبل، وأحضر جاكم بن جوان الفرنجى، وخلع عليه كامليّة، وخلع على اثنين أخر من الفرنج الذين قدموا معه، وأعطاه السلطان فرسا بسرج ذهب، وكنبوش زركش، وركب الفرس المذكور وغيره مدّة إقامته بالديار المصرية، وولّاه نيابة قبرس، ووعده بالقيام معه، وتخليص قبرس له.
ثم في يوم الخميس سابع عشر شوال خرج أمير حاج المحمل بالمحمل، وهو الأمير بردبك الدّوادار الثانى، وأمير الركب الأول الأمير كسباى من ششمان أحد أمراء العشرات.
وفي يوم الخميس أوّل ذي القعدة شرع السلطان في عمارة مراكب برسم الجهاد، وإرسال جاكم صحبتهم إلى قبرس، وجعل المتحدث على عمارة المراكب المذكورة سنقر الأشرفى الزّردكاش، المعروف بقرق شبق، فباشر سنقر المذكور عمل المراكب أقبح مباشرة، من ظلم وعسف، وأخذ الأخشاب بأبخس الأثمان إن وزن ثمنا، وفعل هذا الشقىّ أفعالا لا يفعلها الخوارج، عليه من الله ما يستحق من الخزى والنكال، بحيث

(16/133)


أنه جمع من هذا المال الخبيث جملة كبيرة خرجت منه بالمصادرة والنّهب والحريق، وما ربّك بظلام للعبيد.
ثم في يوم الاثنين خامس ذى القعدة سافر تغرى بردى الطيّارى الخاصكى قاصدا قبرس، ليخبر أهلها أن السلطان يريد ولاية جاكم هذا على قبرس مكان والده، وعزل أخته، ويلومهم على عدم ولاية جاكم هذا وتقديم أخته عليه.
وفي يوم الثلاثاء ثامن ذى الحجة مات الأمير بايزيد التّمربغاوى أحد أمراء الألوف بالديار المصرية، وأنعم السلطان بتقدمته وإقطاعه على الأمير سودون الإينالى المؤيدى [قراقاش] «1» رأس نوبة ثان، بمال بذله سودون في ذلك «2» ، وأنعم بإقطاع سودون المذكور وهو إمرة طبلخاناه على الأمير خشكلدى القوامى الناصرى.
[ما وقع من الحوادث سنة 864]
واستهلت سنة أربع وستين وثمانمائة بيوم الأحد.
وفي يوم الثلاثاء سابع عشر المحرم من السنة المذكورة وصلت الغزاة المتوجهة قبل تاريخه إلى بلاد الجون ببرّ التركيّة لإحضار الأخشاب «3» ، وكان مقدّم هذا العسكر أربعة من الأمراء العشرات، وهم:
قانى باى قراسقل المؤيّدى.
والأمير جانبك الإسماعيلى المؤيدى المعروف بكوهية.
والأمير معلباى طاز المؤيدى.
والأمير بردبك اليشبكى المشطوب «4» .

(16/134)


وفي يوم سابع عشرينه- الموافق لسادس عشر هاتور- لبس السلطان القماش الصوف الملون، وألبس الأمراء على العادة في كل سنة.
وفي هذا الشهر عظم الطاعون بمدينة غزّة، وأباد الموت أهلها «1» .
وفي يوم السبت ثانى عشر صفر خلع السلطان على فارس مملوك الطواشى فيروز الرّكنى باستقراره وزيرا بعد تسحّب على بن الأهناسى، فلم يحسن فارس المذكور المباشرة سوى يوم واحد، وعجز وكاد أن يهلك، وكان لولايته أسباب منها: أنه كان يبرق ويرعد ويوسع في الكلام في نوع المباشرة وغيرها، فحسب السامع أن في السويداء رجالا، واستسمن ورمه فولّاه، فما هو إلا أن أرمى الخلعة على «2» أكتافه [حتى] «3» ظهر عليه العجز الفاضح في الحال، وضاق عليه فضاء الدنيا، وخسر في اليوم المذكور جملا مستكثرة، واستعفى، وترامى على أكابر الدّولة، وكاد أن يهلك لولا أعفى وعزل «4» ، بعد أن ألزم بشىء له جرم على ما قيل، وولى الصاحب شمس الدين منصور الوزر عنه.
قلت: ما أحسن الأشياء في محلها، وحينئذ أعطى القوس لراميه.
وفي يوم الخميس سابع عشر صفر ورد الخبر من الشام بموت الأمير علّان شلق المؤيّدى أتابك دمشق.
وفي يوم ثامن شهر ربيع الأول استقرّ الحاج محمد الأهناسى البرددار وزيرا بعد عزل الصاحب شمس الدين منصور من غير عجز بل لمعنى من المعانى، والحاج محمد هذا هو والد على بن الأهناسى المقدم ذكره في الوزر والأستادارية، وولى الوزر قبل أن

(16/135)


تسبق له رئاسة في نوع من الأنواع؛ لأن كلا الوالد والولد عار عن الكتابة ومعرفة قلم الديونة، ولم يكن لهما صنعة غير الرّسليّة والبردداريّة لا غير، فباشر الحاج محمد هذا الوزر أحد عشر يوما وعزل، وأعيد الصاحب شمس الدين منصور للوزر ثانيا.
وفي يوم الاثنين ثانى عشر شهر ربيع الأول استقر الأمير تغرى بردى الأشرفى أحد أمراء العشرات نائب الكرك، وأنعم بإقطاعه على ابن الأمير بردبك الدّوادار الثانى والمنعم عليه هو ابن بنت السلطان.
ثم في يوم الخميس ثانى عشرينه استقر الأمير تمرباى ططر الناصرى أحد أمراء العشرات أمير حاج المحمل.
ثم في يوم الأحد خامس عشرين شهر ربيع الأول المذكور عمل السلطان المولد النبوى بالحوش السلطانى على العادة في كل سنة، وأحضر السلطان جاكم الفرنجى ابن صاحب قبرس، وأجلسه عند أعيان مباشرى الدّولة، فعظم ذلك على الناس قاطبة.
قلت: ولعلّ السلطان ما أحضره في هذا المجلس إلا ليريه عزّ الإسلام وذلّ الكفر.
ثم في أول شهر ربيع الآخر ظهر الطاعون بمدينة بلبيس وخانقاه سرياقوس من ضواحى القاهرة.
وكان أول الشهر يوم الجمعة الموافق لأول طوبة من شهور القبط. فتخوّف كلّ أحد من مجىء الطاعون إلى القاهرة، هذا مع ما الناس فيه من جهد البلاء من غلوّ الأسعار وظلم المماليك الأجلاب الذي خرج عن الحد، وعدم الأمن، وكثرة المخاوف فى الأزقّة والشوارع، بحيث إن الشخص صار لا يقدر على خروجه من داره بعد أذان عشاء الآخرة، حتى ولا لصلاة الجماعة، ولو كان جار المسجد، وإن أذّن مؤذن العشاء والشخص خارج عن داره هرول في مشيه وأسرع لئلا تغلق عليه الدروب التي عمرتها رؤساء كلّ حارة؛ خوفا على بيوتهم من المناسر والحرامية، لأن والى القاهرة خيربك القصروى حطّ عنه أمور الناس «1» ، وانعكف على ما هو عليه من المفاسد، وسببه

(16/136)


أنه علم أن الذي يتعبث على الناس أو يسرق إنما هو من المماليك الأجلاب أو من أتباعهم، وعلم مع ذلك ميل السلطان إلى الأجلاب، واتفق بعد ذلك كثرة السّراق، وفتح البيوت، وهجم المناسر على الحارات، وكلّمه السلطان- فى ذلك- بكلام خشن، ووبّخه في الملأ، وكاد أن يفتك به، فأوهم الوالى السلطان- بالتلويح في كلامه- أن الذي يفعل ذلك إنما هو من المماليك الأجلاب، وكان الذي لوّحه الوالى إلى السلطان قوله:
«يا مولانا السلطان أنا مالى شغل ولا حكم على من يلبس طاقية- يعنى المماليك- وما حكمى إلا على العوام والحرامية» ، فسكت السلطان، ولم يكلمه بعد ذلك إلا في غير هذا المعنى، فوجد الوالى بذلك مندوحة لسائر أغراضه، وحطّ عنه واستراح، وانحل النظام، وضاعت حقوق الناس، وأخذ كل مفسد يتزيا بزى الجند، ويفعل ما أراده، وصار الوالى هو كبير الحراميّة، ولا قوة إلا بالله.
وفي يوم السبت تاسع شهر ربيع الآخر اختفى الصاحب شمس الدين منصور، وتعطّل- بسبب غيابه- رواتب المماليك السلطانية، فاستغاثوا المماليك الأجلاب، ومنعوا الأمراء يوم الأربعاء من طلوع القلعة، وامتنعوا من طلوع الخدمة يوم الخميس أيضا رابع عشره، وطلع الأمير يونس الدّوادار إلى القلعة بغير قماش الخدمة، فلما وصل إلى باب القلعة احتاطت به المماليك الأجلاب، وسألوه أن يكلم السلطان في أمرهم، فدخل الأمير يونس المذكور إلى السلطان، وذكر له ذلك، ثم ترددت الرّسل بين السلطان وبينهم إلى أن آل الأمر إلى طلب سعد الدين فرج بن النحّال، واستقرّ وزيرا على عادته أولا على شروط، ونزل من وقته، وباشر الوزر، وسكن الأمر، وقد ذكر لى الصاحب شمس الدين: أنه لم يختف إلا بإذن السلطان.
وفي هذه الأيام فشا الطاعون بالقاهرة، وكان عدّة من ورد اسمه الديوان من الأموات فى يوم الثلاثاء تاسع عشر شهر ربيع الآخر المذكور- الموافق لسابع عشر أمشير، وهو يوم تنتقل الشمس إلى برج الحوت- خمسة وثلاثين نفرا، ولها تفصيل، وذلك خارج عن البيمارستان المنصورى والأوقاف والقرافتين والصحراء وبولاق ومصر القديمة.

(16/137)


وأمّا ضواحى القاهرة وإقليم الشرقية والغربية من الوجه البحرى فقد تزايد الطاعون فيها حتى خرج عن الحد، وهو إلى الآن في زيادة.
وكان أمر الطاعون في القرى أنه إذا وقع بقرية يفنى غالب من بها، ثم ينتقل إلى غيرها وربما اجتاز ببعض القرى ولم يدخلها، فسبحانه يفعل في ملكه ما يريد.
وفي يوم الخميس حادى عشرينه ضرب المماليك الأجلاب الأمير زين الدين الأستادار بسبب عليق الخيول ضربا مبرحا، وانقطع بسبب ذلك عن الخدمة أياما كثيرة.
وفي يوم السبت ثالث عشرينه وقع من بعض المماليك الأجلاب إخراق في حق الأمير يونس الدّوادار، والشخص المذكور يسمى قانصوه، وكان ذلك في الملأ من الناس، ونزل الأمير يونس إلى داره وهو في غاية ما يكون من الغضب، فما كفى قانصوه المذكور ما وقع منه في القلعة في حق الأمير يونس، حتى نزل إليه بداره وأساء عليه ثانيا بحضرة مماليكه وحواشيه، فلم يسع الأمير يونس المذكور إلا أن قام من مجلسه وعزل نفسه عن الدّوادارية، ودخل إلى داره من وقته، وأقام بها من يومه.
ثم في الغد لم يقع من السلطان على قانصوه المذكور- بسبب ما وقع منه في حق الأمير يونس- كبير أمر، ولا كلّمه الكلام العرفى، غير أن ابن السلطان الشهابى أحمد أرسل سأل الأمير يونس في الطلوع إلى القلعة وحضور الخدمة.
ثم إنّ بعض الأمراء أخذ قانصوه المذكور وأتى به إلى الأمير يونس حتى قبّل يده، ولا زال ذلك الأمير وغيره بالأمير يونس حتى رضى عنه بعد أن أوسعه سبّا وتوبيخا، وذلك حيث لم يجد يونس له ناصرا ولا معينا.
وأغرب من هذا أنه بلغنى أن قانصوه لما أفحش في أمر الأمير يونس أولا ربما أضاف إليه السلطان في بعض الإساءة، والسلطان يسمع كلامه.
قلت: إن صح هذا فهو مما يهوّن على الأمير يونس ما وقع في حقه من قانصوه.

(16/138)


وفي يوم الاثنين خامس عشرينه عجز الأمير زين الدين الأستادار عن القيام بجامكية المماليك السلطانية، فقام إلى السلطان شخص من الخاصكية الأجلاب يسمى جانبيه المجنون، وقال للسلطان:
«الملوك التي كانت قبلك كانوا ينفقون الجوامك، لأى شىء أنت ما تعطى مثلهم؟» .
فغضب السلطان من كلامه، وطلب العصى ليضربه، فخرج جماعة من الأجلاب من خچداشيته، وجذبوه من بين يدى السلطان، وتوجهوا به إلى الطبقة، ولم يتكلم السلطان بكلمة واحدة.
هذا والطاعون أمره في زيادة، فلما استهلّ جمادى الأولى الموافق لتاسع عشرين أمشير كان فيه التعريف: أعنى عدة من يرد اسمه الديوان من الأموات ستين نفرا، وهذا خلاف الأماكن المقدم ذكرها من البيمارستان والطرحى والقرافتين والصحراء ومصر وبولاق، وأما نواحى أرياف الوجه البحرى ففى زيادة، حتى قيل إنه كان يموت من خانقاه سريا قوس في اليوم ما يزيد على مائتى نفر، ووصل في هذه الأيام عدة من يموت بالمحلة الكبرى- إحدى قرى القاهرة «1» - كل يوم زيادة على مائتين وخمسين إنسانا، وهذا أمر كبير؛ كون أن المحلة وإن كانت مدينة هى قرية من القرى، ومثلها كثير من أعمال الديار المصرية.
غير أن ذلك كان نهاية الطاعون بها وابتداءه بالقاهرة؛ فإن الطاعون كان وقع بالأرياف قبل القاهرة بمدّة، فلما أخذ الطاعون في انحطاط من الأرياف أخذ في الزيادة بالقاهرة ومصر وضواحيها، كما هى عادة الطاعون وانتقاله من بلد إلى أخرى.
وفي يوم الثلاثاء عاشر جمادى الأولى من سنة أربع وستين المذكورة أنعم السلطان

(16/139)


على سودون الأفرم الظاهرى الواصل قبل تاريخه من البلاد الشامية بإمرة عشرة بعد موت الأمير أسندمر الجقمقى.
وفي هذا اليوم أيضا كان عدة من ورد التعريف «1» بهم من الأموات بالقاهرة فقط مائة وعشرة نفر ولها تفصيل- ما بين رجال ونساء وصبيان وموال- وليس لذكر التفصيل هنا محل.
وكان من شأن هذا الطاعون أنه ينقص في اليوم نقصا قليلا عن أمسه، ثم يزيد في الغد كثيرا إلى أن انتهى ونقص وهو على هذه الصفة.
وفي هذه الأيام بلغ عدة من يموت في اليوم بخانقاه سرياقوس أكثر من ثلاثمائة نفر، ويقول المكثر أربعمائة، وبالمحلة ثلاثمائة، وفي مدينة منف في يوم واحد نحوا من مائتين، وقس على هذا في سائر القرى، وهذا نهاية النهاية الآن.
وفي يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الأولى- يوم تنتقل الشمس فيه إلى برج الحمل- كان فيه عدة من ورد اسمه التعريف «2» مائة وسبعين نفرا، وجاء في هذا اليوم عدة من صلى عليه من الأموات بمصلاة باب النصر على حدتها مائة نفر، فكيف يكون التعريف كله مائة وسبعين، وبالقاهرة مصلوات كثيرة نذكرها بعد ذلك في محلها.
وأبلغ من هذا أن الأمير زين الدين الأستادار ندب جماعة من الناس بأجرة معينة إلى ضبط جميع مصلوات القاهرة وظواهرها، وكان ما حرروه ممن صلى عليه في اليوم ستمائة إنسان، فعلى هذا لا عبرة بذكر التعريف المكتتب من ديوان المواريث، غير أن فائدة ذكر التعريف تكون لمعرفة زيادة الوباء ونقصه لا غير، ففى ذكره فائدة ما.
وفي يوم الجمعة عشرين جمادى الأولى كان فيه التعريف مائتين وتسعة نفر.
ثم في يوم السبت حادى عشرينه أنعم السلطان على قانى باى الأشرفى المعروف بأخى قانصوه النّوروزى بإمرة عشرة بعد موت الأمير يشبك الظاهرى.

(16/140)


ثم في يوم الخميس سادس عشرينه استقر الأمير برسباى البجاسى حاجب الحجاب أمير آخور كبيرا بعد موت يونس العلائى بالطاعون، واستقر سودون الإينالى المؤيدى المعروف بقراقاش في حجوبية الحجاب عوضا عن برسباى البجاسى المقدم ذكره.
وفيه أيضا أنعم السلطان بإقطاع يونس العلائى على الأمير جرباش المحمدى أمير مجلس، وأنعم بإقطاع جرباش المذكور على الأمير جانبك الظاهرى نائب بندر جدّة، وصار جانبك من جملة أمراء الألوف بالديار المصرية، وذلك زيادة على ما بيده من التحدث على بندر جدّة، بل على جميع الأقطار الحجازية، والإقطاع الذي استولى عليه الأمير جرباش، والذي خرج عنه كلاهما تقدمة ألف، لكن متحصل خراجهما يتفاوت.
وفي يوم الخميس هذا كان عدة من ورد اسمه الديوان من الأموات نحوا من مائتين وخمسة وثلاثين نفرا، وكان عدة المضبوط بالمصلاة ألفا ومائة وثلاثة وخمسين نفرا، وذلك خارج عما ذكرنا من مصر وبولاق والقرافتين والصحراء والأوقاف وزاوية الخدّام خارج الحسينية.
وفي يوم السبت ثامن عشرين جمادى الأولى المقدم ذكرها أستقرّ الشهابى أحمد بن قليب «1» أستادار السلطان بمدينة طرابلس في حجوبية حجاب طرابلس، زيادة على ما بيده من الأستادارية وغيرها، وكانت ولايته للحجوبية بعد موت خشقدم الأرنبغاوى «2» دوادار قانى باى الحمزاوى:
ثم استهل جمادى الآخرة- أولها يوم الثلاثاء- وقد كثر الوباء بالديار المصرية، وانتشر بها وبظواهرها، هذا مع الغلاء المفرط في الأسعار وظلم المماليك الأجلاب، فصارت الناس بين ثلاثة أمور عظيمة: الطاعون، والغلاء، والظلم، وهذا من النوادر- وقوع الوباء والغلاء معا في وقت واحد- فوقع ذلك وزيد ظلم الأجلاب، ولله الأمر.

(16/141)


وكان التعريف في هذا اليوم ثلاثمائة وستة عشر نفرا، وكان الذي حرروه في السبع عشرة مصلاة ألف إنسان وتسعمائة إنسان وعشرة، وأنكر ذلك غير واحد من الناس استقلالا، بل قال بعضهم وبالغ: بأن عدة من يموت في اليوم بالقاهرة أكثر من ثلاثة آلاف نفر، واعتل بقوله إن الذين ندبوا لضبط المصلوات اشتغل كل منهم بنفسه وبمن عنده وبغلمانه «1» ،
قلت: الصواب بل الأصح مقالة الثانى لما شاهدناه من كثرة الجنائز، وازدحام الناس بكل مصلاة- والله أعلم.
وأما أمر الغلاء ففى هذا الشهر أبيع فيه القمح كل إردب بستمائة درهم، والبطة من الدقيق العلامة بمائة وسبعين درهما، والرطل الخبز بأربعة دراهم، وهو عزيز الوجود بالحوانيت في كثير من الأوقات، والشعير والفول وكلاهما بأربعمائة درهم الإردب، وهما في قلة إلى الغاية والنهاية، والحمل التبن بأربعمائة درهم ولا بدّ له من حارس من الأجناد يحرسه من المماليك الأجلاب، هذا والموت فيهم بالجريف «2» - وصلوات الله على سيدنا عزرائيل- وما سوى ذلك من المأكل فسعره متحسن، لا كسعر الشعير والتبن والقمح والفول؛ كون هذه الأشياء يحتاج إليها الأجلاب، فيأخذونها بأبخس الأثمان، فترك الناس بيع هذه الأصناف إلا المحتاج، فعز وجودها لذلك.
ووقع للأجلاب في هذا الوباء أمور عجيبة؛ فإنهم لما فرغوا من أخذ بضائع الناس ظهر منهم في أيام الوباء أخذ إقطاعات الأجناد، فصاروا إذا رأوا شخصا على حانوت عطار أخذوه، وقالوا له: لعل الضعيف يكون له إقطاع، فإن كان له إقطاع عرفهم به؛ وإن لم يكن للضعيف إقطاع طال أمره معهم إلّا أن يخلصه منهم أحد من الأعيان.
ثم بدا لهم بعد ذلك أن كل من سمعوا له إقطاعا من أولاد الناس أو الأجناد القرانيص أخذوا إقطاعه، فإن كان صحيحا يرتجون مرضه، وإن كان ضعيفا ينتظرون

(16/142)


موته، فعلى هذا الحكم خرج إقطاع غالب الناس- الحى والميت- حتى إنهم فعلوا ذلك بعضهم مع بعض، فصار السلطان والناس في شغل شاغل، لأن الأجلاب صاروا يزدحمون عليه لأخذهم إقطاعات الناس، وعند ما يتفرغ من المماليك الأجلاب يتظلم كل أحد إليه ممن خرج إقطاعه وهو في قيد الحياة، فلم يسعه إلا ردّه عليه، فصار الإقطاع يخرج اليوم ويردّ إلى صاحبه في الغد، فصار يكتب في اليوم الواحد عدة مناشير ما بين إخراج وردّ، واستمر الناس على ذلك من أوّل الفصل إلى آخره.
وأغرب من هذا أن بعض الأجلاب اجتاز في عظم أيّام الوباء بالصحراء، فحازى جنازة امرأة على نعشها طرحة زركش، فاختطفها وساق فرسه فلم يوقف له على أثر.
ووقع لبعض الأجلاب أيضا أنه صدف في بعض الطرقات جنازة وهو سكران، فأمره المدير بالوقوف لتمر الجنازة عليه، فحنق منه، وأراد ضرب المدير، فهرب منه، فضرب الميت على رأسه، وقد شاهد ذلك جماعة كثيرة من الناس.
وفيما حكيناه كفاية عن فعل هؤلاء الظّلمة- ألا لعنة الله على الظالمين.
وفي يوم الثلاثاء مستهل جمادى الآخرة وصل إلى القاهرة تغرى بردى الطيّارى الخاصكى المتوجه في الرّسلية إلى جزيرة قبرس، وصحبته جماعة كثيرة من ملوك الفرنج وأهل قبرس.
والقادمون من الفرنج على قسمين: فرقة تسأل إيقاء ملك قبرس على الملكة المتولية، وفرقة تسأل عزلها وتولية أخيها جاكم الفرنجى الذي قدم إلى القاهرة قبل تاريخه، فلم يبت السلطان الأمر من ولاية ولا عزل في هذا اليوم، وأحال الأمر إلى ما سيأتى ذكره.
وفي يوم الخميس ثالث جمادى الآخرة المذكورة عظم الطاعون بالقاهرة وظواهرها، واختلفت كلمة الحسّاب؛ لاشتغال كل أحد بنفسه وبمن عنده، فمنهم من قال: يموت في اليوم أربعة آلاف إنسان، ومنهم من قال: ثلاثة آلاف وخمسمائة، وقاس

(16/143)


صاحب القول الثانى على عدّة من صلّى عليه في هذا اليوم المذكور بمصلاة باب النصر، وقال: إن كل مائة ميت بمصلاة باب النصر بثلاثمائة وستين ميتا، وجاءت مصلاة المؤمنى في هذا اليوم أربعمائة وسبعة عشر ميتا، وهذا كله تقريبا لا تحريرا على الأوضاع.
ثم في يوم الثلاثاء ثامن جمادى الآخرة عمل السلطان الموكب بالحوش السلطانى لأجل قصّاد الفرنج، وحضرت الفرنج وقبلوا الأرض ونزلوا أيضا على غير طائل.
وفي يوم الجمعة حادى عشره كان فيه التعريف مائتين وثمانين، وجاءت مصلاة باب النصر على حدتها خمسمائة وسبعين.
وفيه ضربت المماليك الأجلاب الوزير سعد الدين فرج بن النحّال ضربا مبرحا؛ لكونه لم يزد راتب لحمهم.
وفي يوم الاثنين رابع عشر جمادى الآخرة كان فيه التعريف نحو ثلاثمائة إنسان، منهم مماليك خمسة وسبعون، منهم خمسة وثلاثون من مماليك الأمراء وغيرهم، ومن بقى سلطانية، وأما الذي ضبط في هذا اليوم ممن صلى عليه من الأموات باثنتى عشرة مصلاة أربعة آلاف إنسان، وفي ذلك نظر؛ لأن مصلاة باب النصر وحدها جاءت في هذا اليوم خمسمائة وسبعين، ومصلاة البياطرة أربعمائة وسبعين، وجامع الأزهر ثلاثمائة وستة وتسعين، فمجموع هذه المصليات الثلاث من جملة سبع عشرة مصلاة أو أكثر ألف وأربعمائة وستة نفر، فعلى هذا كيف يكون جميع من مات في هذا اليوم أربعة آلاف؟! فهذا محال، وهذا خارج عن القرافتين والحسينية والصحراء وبولاق ومصر القديمة، إلا أن غالب من يموت صغار وعبيد وجوار.
غير أن هذا الطاعون كان أمره غريبا، وهو أن الذي يطعن فيه قلّ أن يسلم، حتى قال بعضهم: لعل إن من كل مائة مريض يسلم واحد، فأنكر ذلك غيره وقال: ولا كل ألف- مبالغة.

(16/144)


وفي يوم الأربعاء سادس عشره- الموافق لرابع عشر برمودة- ارتفع الوباء من بولاق، وكان الذي مات بها في اليوم «1» ثلاثة نفر، وقيل سبعة وقيل عشرة.
هذا بعد أن كان يموت في اليوم «2» ثلاثمائة وأربعمائة، ويقول المكثر خمسمائة- فسبحانه وتعالى فاعلا مختارا يفعل في ملكه ما يشاء.
وأخذ الطاعون في هذه الأيّام يخف من ظواهر القاهرة، مثل الحسينيّة وغيرها، وعظم في القاهرة وما حولها من جهة الصّليبة والقلعة وقناطر السّباع، وكان الذي مات من المماليك الأجلاب الإيناليّة في هذا الطاعون- إلى يوم الجمعة تاسع عشر جمادى الآخرة- ستمائة مملوك وثلاثين مملوكا. إلى لعنة الله وسقر، إلى حيث ألقت.
ومما وقع لى من أوائل هذا الفصل قولى على سبيل المجاز: [السريع]
قد جاءنا الفصل على بغتة ... مستجلبا حلّ مجدّ الطلب
من كثرة البغى وظلم بدا ... يخصه الله بمن كان جلب
وفي يوم الاثنين حادى عشرين جمادى الآخرة- الموافق لتاسع عشر برمودة، وهو أول خمسين «3» النصارى- فيه ظهر نقص الطاعون بالقاهرة، وكان ابتداء النقص من يومى الخميس والجمعة.
وفي يوم الاثنين هذا كان عدة من صلى عليه بمصلاة باب النصر ثلاثمائة وخمسين إنسانا، وبجامع الأزهر ستمائة إنسان، وهو أكثر ما وصل إليه العدة بالجامع المذكور، لأن غالب الطاعون الآن هو بالقاهرة، وكان عدّة من صلى عليه بمصلاة البياطرة مائتين وأربعة، وهو بحكم النصف مما كان صلى عليه بها قبل ذلك، وكان عدّة من صلى عليه بمصلاة المؤمنى مائتين وثمانين نفرا، وهو أقل من النصف أولا، ونحن نذكر- إن شاء الله تعالى- عدة هذه المصلوات في يوم الاثنين القابل؛ ليعلم الناظر في هذا الكتاب كيفية انحطاط الطاعون عند زواله من اليوم إلى مثله.

(16/145)


فلما كان يوم الخميس ثامن عشرينه الموعود بذكره كان فيه عدّة من صلى عليه بمصلاة باب النصر مائة وتسعين، وبالجامع الأزهر زيادة على مائة وثلاثين، وبمصلاة البياطرة مائة وأربعة عشر، وبمصلاة المؤمنى مائة وسبعة وثلاثين، ونذكر- إن شاء الله تعالى- فى يوم الاثنين الآتى عدّة ذلك أيضا.
وفي يوم الأربعاء تاسع شهر رجب فيه فشا نقص «1» الطاعون، وانحط سعر الغلال، وظهر الشعير والتين والدريس لموت تلك الجبابرة الأجلاب.
وفيه طعن جامعه «2» ، ثمّ منّ الله تعالى بالعافية بعد أمور، ولله الحمد على المهلة.
وفي يوم الجمعة ثالث شهر رجب المذكور- الموافق لسلخ برمودة- لبس السلطان القماش الأبيض البعلبكى المعتد لبسه لأيام الصيف.
ثم في يوم الاثنين سادسه كان فيه عدّة من صلى عليه من الأموات بمصلاة باب النصر مائة، وقيل تسعين، وبمصلاة البياطرة زيادة على الخمسين، وبمصلاة المؤمنى زيادة على التسعين:
ثم في يوم السبت حادى عشره استقر الأمير أرغون شاه الأشرفى أحد أمراء العشرات ورأس نوبة أستادار الصحبة السلطانية، بعد موت يشبك الأشرفى الأشقر.
ثم في يوم الاثنين ثالث عشر شهر رجب كان فيه عدّة من صلى عليه من الأموات بمصلاة باب النصر نحوا من خمسة وعشرين نفرا، وبمصلاة البياطرة ثلاثة وعشرين، وبالجامع الأزهر خمسة نفر، وبمصلاة المؤمنى نيفا وثلاثين نفرا، هذا والعلة موجودة في الأكابر والأعيان إلى آخر رجب.
ثم في يوم الثلاثاء رابع عشره استقر القاضى تقي الدين بن نصر الله ناظر ديوان المفرد عوضا عن الصاحب شمس الدين منصور [بن الصفى] «3» .

(16/146)


وفيه استقر الشيخ سراج الدين [عمر] «1» العبادى الشافعى ناظر الأحباس بعد موت القاضى زين الدين عبد الرحيم العينىّ:
واستهل شعبان يوم الخميس وقد خفّ الطاعون من الديار المصرية بالكلية، فكان عدّة من مات في هذا الطاعون من المماليك الأجلاب الإينالية فقط ألفا وأربعمائة نفر- فالله يلحق بهم من بقى منهم- وهذا خلاف من مات في هذا الطاعون من المماليك السلطانية الذين هم من سائر الطوائف «2» .
ثم في يوم الثلاثاء سادس شعبان المذكور من سنة أربع وستين وقع في المملكة «3» أمر شنيع؛ وهو أن السلطان جمع أعيان الفرنج القبارسة في الملأ بالحوش السلطانى، وأراد بقاء الملكة صاحبة قبرس على عادتها، وخلع على قصادها أعيان الفرنج، واستقر تغرى بردى الطيّارىّ مسفرها، وعلى يده تقليدها وخلعتها.
وكان الفرنجى جاكم أخوها حاضر الموكب، وقد جلس تحت مقدمى الألوف، فعزّ عليه ولاية أخته وإبقاؤها على ملك الأفقسية من جزيرة قبرس مع وجوده، فقام على قدميه واستغاث، وتكلم بكلام معناه أنه قد جاء إلى مصر، والتجأ إلى السلطان، ودخل تحت كنفه، وله عنده هذه المدّة الطويلة، وأنه أحقّ بالملك من أخته وبكى، فلم يسمع السلطان له وصمم على ولاية أخته، وأمره بالنزول إلى حيث هو سكنه، فما هو إلا أن قام جاكم المذكور وخرج من باب الحوش الأوسط ثم خرج بعده أخصامه حواشى أخته، وعليهم الخلع السلطانية مدّت الأجلاب أيديها إلى أخصام جاكم من الفرنج، وتناولوهم بالضرب

(16/147)


والإخراق، وتمزيق الخلع، واستغاثوا بكلمة واحدة، أنهم لا يريدون إلا تولية جاكم هذا مكان والده، وعظمت الغوعاء، فلم يسع السلطان إلا أن أذعن في الحال بعزل الملكة وتولية جاكم، فتولى جاكم على رغم السلطان بعد أن أمعنوا المماليك الأجلاب في سب الأمير بردبك الدّوادار الثانى، وقالوا له: «أنت إفرنجى «1» وتحامى للفرنج» فاستغاث بردبك المذكور، ورمى وظيفة الدّوادارية، وطلب الإقالة من المشى في الخدمة السلطانية، فلم يسمع له السلطان، وفي الحال خلع على جاكم، ورسم بخروج تجريدة من الأمراء إلى غزو قبرس، تتوجّه مع جاكم المذكور إلى قبرس، حسبما يأتى ذكره إن شاء الله تعالى في وقته.
وفي يوم الاثنين ثانى عشره رسم السلطان باستقرار الأمير قراجا الظاهرى الخازندار حاجب الحجّاب- كان- أتابك عساكر دمشق بعد موت الأمير علّان المؤيّدى بمال وعد به نحو عشرة آلاف دينار.
وفي يوم السبت سابع عشره استقرّ القاضى ولى الدين أحمد ابن القاضى تقي الدين محمد البلقينى «2» قاضى قضاة دمشق الشّافعيّة بعد عزل القاضى جمال الدين يوسف الباعونى «3» .
وفيه استقرّ القاضى زين الدين أبو بكر بن مزهر ناظر الجيوش المنصورة بعد عزل القاضى برهان الدين إبراهيم الدّيرى.
وفي يوم الأحد ثامن عشره عرض السلطان المماليك السلطانية بالحوش، وعيّن منهم جماعة للجهاد: أعنى للسفر صحبة جاكم الفرنجى إلى قبرس، وقد تعيّن من يسافر إلى قبرس من الأمراء قبل ذلك.

(16/148)


وفيه ورد الخبر من مكّة المشرّفة بموت الأمير برشباى الإينالى المؤيدى رأس المماليك المجاورين بها، فأنعم السلطان بإقطاعه في يوم الثلاثاء على دولات باى «1» الأشرفى السّاقى، وعلى خيربك من حديد الأشرفى الدّوادار، نصفين بالسّويّة، لكل منهما إمرة عشرة.
واستهلّ شهر رمضان- أوله الجمعة- فى يوم السبت ثانيه خلع السلطان على الأمير جانبك الظاهرى أحد أمراء مقدمى الألوف بسفره إلى بندر جدّة على عادته في كل سنة، وخرج من الغد متوجها إلى جدّة في غاية التجمل والحرمة.
وفي يوم الثلاثاء خامس شهر رمضان المذكور عيّن السلطان الأمير خشقدم الناصرى المؤيدى أمير سلاح إلى سفر الوجه القبلى؛ لقتال العرب الخارجة عن الطاعة، وعيّن معه مائتى مملوك، وسافروا يوم الثلاثاء ثانى عشره.
وفي هذا الشهر قوى الاهتمام بسفر المجاهدين، وقاست الناس من أعوان سنقر الزّردكاش شدائد يطول الشرح في ذكرها، حتى قال بعض الشعراء الموالة بلّيقا، تعرّض فيه لظلم سنقر الزّردكاش وحواشيه، بقوله:
قبل الغزا جاهد في الناس ... فصار الظلم أنواع وأجناس
من طلب هذا الغزا واحتاج لواس
ووقع بسبب عمارة هذه المراكب مظالم لا تحصى، من قطع أشجار الناس عسفا، وأخذهم ما يحتاجون إليه ظلما، وزاد ظلم سنقر هذا على الناس حتى جاوز الحد، فلا جرم أن الله تعالى عامله بعد ذلك من جنس فعله في الدنيا، بما قاساه من النفى والحبس وأخذ المال، مع الذل والهوان والصغار، وحلّ به كل مصيبة، حتى أحرقت داره بجميع ما فيها، ثم نهب ما فضل من الحريق، وتشتّت في البلاد على أقبح وجه، هذا في الدنيا وأما الأخرى فأمره إلى الله تعالى.

(16/149)


وفي يوم الأحد أول شوال عيّن السلطان الأمير كزل السودونى المعلّم، والأمير برسباى الأشرفى الأمير آخور للتوجّه إلى الإسكندرية وصحبتهما مائة وخمسون مملوكا من المماليك السلطانية، لأخذ ما هناك من المراكب، والتوجّه بها إلى ثغر دمياط من البحر الملح، ليكون سفر جميع المجاهدين من مينة واحدة، وهى مينة دمياط.
ثم في يوم الأربعاء رابع شوال أنفق السلطان في المجاهدين من المماليك السلطانية، للفارس والراجل سواء، لكل واحد مبلغ خمسة عشر دينارا، وأنفق على كل مملوك من المماليك الذين يتوجّهون مع كزل وبرسباى المقدم ذكرهما عشرة دنانير الواحد.
ثم في يوم الاثنين تاسعه نزل السلطان الملك الأشرف إينال في موكب هائل من قلعة الجبل بأمرائه وخاصكيته وأعيان دولته إلى جزيرة أروى المعروفة بالوسطى بساحل النّيل؛ لينظر ما عمّر من المراكب، فسار إلى هناك في موكب عظيم، ونظر المراكب، وخلع على سنقر قرق شبق الزّردكاش المقدّم ذكره، وعلى جماعة أخر ممن باشر عمل المراكب، ثم عاد من حيث جاء من قناطر السباع، فلم يبتهج الناس لنزوله، لعظم ما قاسوه من الظلم في عمل هؤلاء المراكب، من قلة الإنصاف والجور في حقّ العمال من أرباب الصنائع وغيرهم، ولولا أن الأمر منسوب إلى نوع من أنواع الجهاد لذكرنا من فعل سنقر هذا ما هو أقبح من أن نذكره.
ثم في يوم الثلاثاء سابع عشر شوال سافر المجاهدون في بحر النيل إلى ثغر دمياط، ومقدم العساكر يوم ذاك في البر الأمير يونس الأقبائى الدوادار الكبير، وفي البحر الأمير قائم من صفر خجا «1» المؤيدى التاجر أحد مقدمى الألوف بالديار المصرية، ومعهما بقية الأمراء، وهم: الأمير سودون الإينالى المؤيدى المعروف بقراقاش حاجب الحجاب وغيره، وخلع السلطان على هؤلاء الثلاثة المذكورين، وخلع أيضا على جاكم

(16/150)


الفرنجى خلعة نخّ «1» بقاقم، ونزل جميع الغزاة في خدمتهم إلى بحر النيل، وسافر هؤلاء الأمراء الثلاثة إلى دمياط من يومهم، وبقى من عداهم يسافرون أرسالا في كل يوم، إلى يوم الثلاثاء القابل؛ لكثرة عدة العساكر.
وأما مقدار عدد من سافر في هذه الغزوة من الأمراء والجند فعدّة كبيرة.
فأولهم أمراء الألوف الثلاثة المقدم ذكرهم.
ثم من أمراء الطبلخانات ثلاثة أيضا، وهم: الأمير بردبك البجمقدار الظاهرى ثانى رأس نوبة، وجانبك من أمير الخازندار الأشرفى، ويشبك من سلمان شاه الفقيه المؤيّدى رأس نوبة.
ومن أمراء العشرات جماعة، وهم: جكم الأشرفى خال الملك العزيز يوسف، ودقماق اليشبكى، وكسباى الشّشمانى المؤيدى، وطوخ الأبوبكريّ المؤيدى رأس نوبة، وقانم نعجة الأشرفى رأس نوبة، وسنقر قرق شبق الأشرفى الزردكاش المقدم ذكره، وقراجا الأعرج الطويل أحد مماليك السلطان القديمة.
وأما المماليك السلطانية فعدتهم تزيد على خمسمائة نفر تخمينا.
وهذا خلا المطوّعة وغيرهم من الخدم والمراكبية وأنواعهم.
وفي يوم الخميس تاسع عشر شوال خرج أمير حاج المحمل بالمحمل، وهو الأمير تمرباى من حمزة الناصرى المعروف بططر أحد أمراء العشرات، وأمير الركب الأوّل تنم الحسينى الأشرفى رأس نوبة.
وفي يوم الجمعة سابع عشرينه أمسك السلطان زين الدين الأستادار، وجنزره «2» وحبسه بالبحرة من الحوش السلطانى، وندب الصاحب شمس الدين منصور [بن الصفى] «3» لمحاسبته فقامت المماليك الأجلاب على منصور حمية لزين الدين، فراج أمر زين الدين

(16/151)


لذلك، لعلم الناس أن السلطان مسلوب الاختيار مع مماليكه الأجلاب، واستمر زين الدين بالبحرة إلى يوم الأحد، فأخرجه السلطان واستقرّ به أستادارا على عادته، ولبس خلعة الأستادارية من الغد في يوم الاثنين أول ذى القعدة.
ثم في يوم الأربعاء ثالث ذى القعدة وصل الأمير خشقدم أمير سلاح من الوجه القبلى بمن معه من المماليك السلطانية.
وفي يوم الأربعاء سابع عشره قتل ابن غريب البدوى.
وفي يوم الاثنين هرب زين الدين الأستادار واختفى بحيث إنه لم يعرف له مكان، واستقرّ الصاحب شمس الدين في الأستاداريّة عوضه.
[ما وقع من الحوادث سنة 865]
ثم استهلت سنة خمس وستين وثمانمائة
فكان أول المحرم الخميس.
ثم في يوم السبت ثالثه وصل الأمير جانبك الظاهرىّ أحد مقدّمى الألوف من بندر جدّة إلى الديار المصرية، بعد أن حجّ وحضر الموسم بمكة، وبات بتربة الملك الأشرف إينال بالصحراء، وطلع إلى القلعة من الغد في يوم الأحد، وخلع السلطان عليه ونزل إلى داره في موكب عظيم.
وفي يوم الخميس ثانى عشرين المحرّم وصل أمير الرّكب الأوّل الأمير تنم الحسينى الأشرفى، وخلع عليه السلطان، وأصبح في يوم الجمعة وصل أمير حاج المحمل تمر باى ططر بالمحمل، وخلع السلطان عليه أيضا.
وفي يوم الجمعة سلخ المحرم وصل إلى القاهرة جماعة من الغزاة وأخبروا أن العساكر الإسلامية بأجمعها خرجوا من جزيرة قبرس في يوم الجمعة ثالث عشرين المحرم وساروا على ظهر البحر الملح يريدون السواحل الإسلامية، فهبّت عليهم ريح عظيمة شتّتت شملهم وتوجهوا إلى عدّة جهات بغير إرادة، وكانت مركب هؤلاء وصلت إلى ساحل الطينة،

(16/152)


وأخبروا أيضا بموت الأمير سودون قراقاش حاجب الحجاب «1» ، ثم وصل من الغد بردبك عرب الأشرفى «2» الخاصكى، وأخبر بنحو ما أخبر به هؤلاء المماليك، وأعلم السلطان أيضا أن الأمير يونس الدّوادار ترك بجزيرة قبرس جماعة من المماليك السلطانية ومماليك الأمراء قوة لجاكم صاحب قبرس، وجعل مقدمهم جانبك الأبلق الظاهرى الخاصكى، وأن جماعة كبيرة توفوا إلى رحمة الله تعالى من عظم الوخم.
واستهل صفر يوم السبت.
ثم في يوم الأربعاء خامسه استقر الأمير كسباى المؤيدى السمين نائب القلعة في نيابة الإسكندرية بعد الأمير جانبك- نائب بعلبك- النّوروزى، فاستقر خير بك القصروى والى القاهرة نائب القلعة عوضا عن كسباى المذكور، بمال بذله في ذلك.
ثم في يوم الخميس سادس صفر استقرّ على بن إسكندر «3» والى القاهرة، واستقر تنم من نخشباى «4» الظاهرى الخاصكى المعروف برصاص في حسبة القاهرة، عوضا عن على بن إسكندر، وكلاهما ولى بالبذل، وتنم هذا هو أوّل تركى ولى الحسبة «5» بالبذل، ولم نسمع ذلك قبل تاريخه، لا قديما ولا حديثا.
وفي يوم الجمعة سابعه- الموافق لخامس عشرين هاتور- لبس السلطان القماش الصّوف الملوّن، المعتد لبسه لأيام الشتاء، وألبس الأمراء على العادة.
ثم في يوم السبت خامس عشره وصل المجاهدون جميعا إلى ساحل بولاق، وباتوا بالميدان الكبير عند بركة الناصرية، وطلعوا إلى القلعة من الغد في يوم الأحد، وقبلوا

(16/153)


الأرض، وخلع السلطان على الأمير يونس الدّوادار أطلسين متمرّا، وفوقانيا بطرز زركش، كما هى عادة خلعة الأتابكية، فتعجّب الناس من ذلك، وقيّد له فرسا بسرج ذهب، وكنبوش زركش.
ثم خلع على الأمير قانم المؤيدى أحد مقدمى الألوف فوقانيا بطرز زركش.
وكذلك خلع على جميع الباشات «1» من الأمراء.
ونزل الجميع في خدمة الأمير يونس الدّوادار إلى بيته تجاه الكبش «2» ، ثم عاد كل واحد إلى داره.
ثم في يوم الاثنين رابع عشرين صفر أنعم السلطان على الأمير يلباى الإينالى المؤيدى الأمير آخور الثانى بإمرة مائة وتقدمة ألف، بعد موت سودون قراقاش بقبرس، وأنعم بإقطاع يلباى المذكور- وهو إمرة طبلخاناه- على الأمير تمرباى من حمزة المعروف بططر، وأنعم بإقطاع تمرباى ططر على جانبك الأشرفى قلفسيز، فلم يقبله جانبك المذكور، وأنعم به على الأمير قانى بك السيفى يشبك بن أزدمر، وأنعم بإقطاع قانى بك المذكور- وهو إمرة عشرة أيضا- على دولات باى الخاصكى الأشرفى المعروف بدولات باى سكسن، أعنى ثمانين، ولم يكن دولات هذا أهلا لذلك، وإنما هى أرزاق مقسومة إلى البرّ والفاجر.
وفي يوم الخميس سابع عشرين صفر استقر الأمير بيبرس الأشرفى خال الملك العزيز يوسف حاجب الحجاب بالديار المصرية، عوضا عن سودون قراقاش بحكم وفاته بقبرس، واستقر الامير بردبك المحمدى الظاهرى الهجين الأمير آخور الثالث أمير

(16/154)


آخور ثانيا عوضا عن الأمير يلباى المقدم ذكره، واستقر قراجا الطويل الأعرج الأشرفى أمير آخور ثالثا عوضا عن بردبك الهجين.
ثم في يوم الخميس رابع شهر ربيع الأول أستقر الأمير مغلباى طاز الأبوبكرى المؤيدى أمير حاج المحمل، واستقر تنبك البوّاب الأشرفى الخاصكى أمير الرّكب الأوّل.
ثم في يوم الأحد سابع شهر ربيع الأوّل المذكور عمل السلطان المولد النبوى على العادة في كل سنة بالحوش السلطانى.
ثم سافر المقام الشهابى أحمد بن السلطان إلى السّرحة، ومعه أخوه محمد من الغد في يوم الاثنين ثامنه إلى جهة الوجه البحرى شرقا وغربا، وسافر معه جماعة من الأعيان وأمراء العشرات.
ثم في يوم الخميس سادس عشره استقرّ على بن الأهناسى وزيرا بعد استعفاء الصاحب فرج بن النحّال.
ثم في يوم السبت حادى عشرينه حبس السلطان القاضى صلاح الدين أمير حاج المكينى بحبس الرحبة، وسبب ذلك أنه كان استبدل وقفا فشكى عليه بسبب ذلك الوقف، فرسم السلطان بحبسه فحبس إلى آخر النهار، ثم أطلق من يومه بعد أن قرّر عليه بلغ من الذهب.
ثم في يوم السبت رابع عشر شهر ربيع الآخر نودى بزينة القاهرة لقدوم أولاد السلطان من السّرحة، ووصلا في يوم الثلاثاء ثامن عشر ربيع الآخر المذكور، وشقّا القاهرة في موكب هائل، وطلعا إلى القلعة، وخلع عليهما والدهما السلطان الملك الأشرف إينال، ثم نزلا في وجوه الدّولة إلى بيت «1» المقام الشهابى أحمد، وهو الأخ الأكبر، وأتابك العساكر بالديار المصرية.

(16/155)


وفي يوم الاثنين خامس عشرينه استقرّ إينال الأشقر الظاهرى الخاصكى والى القاهرة بعد عزل على بن إسكندر.
واستهل جمادى الأولى يوم الخميس.
فى ثالثه يوم السبت مرض السلطان الملك الأشرف إينال مرض الموت، ولزم الفراش.
فلما كان يوم الاثنين خامسه وصل الأمير بردبك الدّوادار الثانى، والأمير ناصر الدين نقيب الجيش من الطّينة، وكان توجها قبل تاريخه لينظرا مكان البرج الذي يريدون عمارته هناك.
ثم في يوم الاثنين ثانى عشره أرجف بموت السلطان، ولم يصح ذلك، وأصبح الناس في هرج، وماجوا ووقف جماعة من العامة عند باب المدرّج- أحد أبواب القلعة- فنزل إليهم الوالى وبدّد شملهم.
ثمّ نودى في الحال بالأمان والبيع والشراء، وأن أحدا لا يتكلم بما لا يعنيه، فسكن الأمر إلى يوم الأربعاء رابع عشر.
فلما كان ضحوة يوم الأربعاء المذكور طلب الخليفة والقضاة الأربعة إلى القلعة، وطلعت الأمراء والأعيان، واجتمعوا الجميع بالدهيشة، فلم يشك أحد في موت السلطان «1» ، فلم يكن كذلك، بل كان الطلب لسلطنة المقام الشهابى أحمد قبل موته.
فلما تكامل الجمع خلع السلطان نفسه من السلطنة بالمعنى؛ لأنه ما كان إذ ذاك يستطيع الكلام، بل كلمهم بما معناه أن الأمر يكون من بعده لولده، فعلموا من ذلك أنه يريد خلع نفسه وسلطنة ولده، ففعلوا ذلك كما سيأتى ذكره في محله، فى أوّل ترجمة الملك المؤيد أحمد إن شاء الله تعالى.

(16/156)


ومات الأشرف إينال في الغد حسبما نذكره.
وكانت مدة تحكم الملك الأشرف إينال هذا- من يوم تسلطن بعد خلع الملك المنصور عثمان إلى هذا اليوم، وهو يوم خلع نفسه من السلطنة- ثمانى سنين وشهرين وستة أيام.
ومات في يوم الخميس خامس عشر جمادى الأولى بعد خلعه بيوم واحد بين الظهر والعصر، فجهّز من وقته، وغسّل وكفن، وصلى عليه بباب القلة من قلعة الجبل، ودفن من يومه بتربته التي عمّرها بالصحراء، وقد ناهز الثمانين من العمر، وكان چاركسى الجنس، وقد تقدّم الكلام على أصله، وجالبه إلى القاهرة، وكيفية ترقيه إلى أن تسلطن فى أول ترجمته من هذا الكتاب.
وكانت صفته- رحمه الله- أخضر اللون للسمرة أقرب، طوالا، غالب طوله من وسطه ونازل، قصير البشت «1» ، رقيق الوجه نحيف اليد؛ لحيته في حنكه، وهى شعرات بيض، ولهذا كان لا يعرف إلا بإينال الأجرود، وفي كلامه رخو مع خنث كان في لهجته، ولهذا لما لبس السّواد خلعة السلطنة كان فيها غير مقبول الشكل، لكونه أسمر اللون، والخلعة سوداء، فلم تبتهج الناس برؤيته، ولذلك أسباب:
السبب الأول. ما ذكرناه من صفته وسواد الخلعة، والسبب الثانى وهو الأغلب لقرب عهد الناس من شكل الملك المنصور عثمان «2» الشكل الظريف «3» البهى، والفرق واضح لأن المنصور كان سنه دون العشرين سنة من غير لحية، وهو في غاية الحسن والجمال- أحسن الله عونه- والأشرف إينال هذا سنه فوق السبعين، وقد علمت صفته مما ذكرناه، فلا لوم على من لا يعجبه شكل الأشرف إينال ولا عتب، وكان له محاسن ومساوى، والأول أكثر.
فأما محاسنه، فكان ملكا جليلا، عاقلا رئيسا سيوسا، كثير الاحتمال، عديم

(16/157)


الشّر، غير سبّاب ولا فحّاش في حال غضبه ورضاه، وكان عارفا بالأمور والوقائع والحروب، شجاعا مقداما، كثير التجارب للخطوب والقتال، عظيم التروى في أفعاله، ثابتا فى حركاته ومهماته، له معرفة تامة بملوك الأقطار في البلاد الداخلة في حكمه، وفي الخارجة عن حكمه أيضا، عارفا بجهات ممالكه شرقا وغربا، فهما بفنون الفروسية وأنواعها، لا يحبّ تحرك ساكن ولا إثارة فتنة، وعنده تؤدة في كلامه واحتمال زائد، يؤديه ذلك إلى عدم المروءة عند من لا يعرف طباعه، ومن محاسنه أنه منذ سلطنته ما قتل أحدا من الأمراء ولا من الأجناد الأعيان، على قاعدة من تقدمه من الملوك، إلا من وجب عليه القتل بالشرع أو بالسياسة، وأيضا أنه كان قليلا ما يحبس أحدا ولا ينفيه، سوى من حبس في أوائل دولته من أعيان الأمراء كما هى عوائد أوائل الدولة، ثم بعد ذلك لم يتعرض لأحد بسوء، إلا أنه نفى جماعة عندما ركبوا عليه ثانيا في حدود سنة ستين، وخلع الخليفة القائم بأمر الله حمزة بسبب موافقته لهم على قتاله، ثم حبسه بالإسكندرية، وهو معذور في ذلك، ولو كان غيره من الملوك لفعل أضعاف ذلك، بل وقتل منهم جماعة كثيرة، وبالجملة فكانت أيّامه سكونا وهدوءا ورياقة وحضور بال، لولا ما شان سؤدده [من] «1» مماليكه الأجلاب، وفسدت أحوال الديار المصرية بأفعالهم القبيحة، ولولا أن الله تعالى لطف بموته، لكان حصل الخلل بها، وربما خربت وتلاشى أمرها، هذا ما أوردناه من محاسنه، بحسب القوة والباعثة.
وأما مساوئه، فكان بخيلا شحيحا مسيكا، يبخل ويشح حتى على نفسه، وكان عاريا من العلوم والفنون المتعلقة بالفضائل، كان أميّا لا يعرف القراءة والكتابة حتى كان لا يحسن العلامة على المناشير والمراسيم إلا برسم الموقع له بالنقط على المناشير، فيعيد هو على النقط بالقلم.
هذا مع طول مكثه في السعادة والرياسة والولايات الجليلة ثم السلطنة، ومع هذا لم يهتد إلى معرفة الكتابة على المناشير ولا غيرها، فهذا دليل على بلادة ذهنه وجمود

(16/158)


فكره، ولعله كان لا يحسن قراءة الفاتحة ولا غيرها من القرآن العزيز فيما أظن، وكانت صلاته للمكتوبات صلاة عجيبة، نقرات ينقر بها، لا يعبأ الله بها، وكان مع هذه الصلاة العجيبة لا يحب التملق، ولا إطالة الدّعاء بعد الصلاة، بل ربما نهى الداعى عن تطويل الدعاء، ولم يكن بالعفيف عن الفروج، بل ربما اتهمه بعض الناس بحب الوجوه الملاح والصباح من الغلمان- والله تعالى أعلم بحاله- إلا أنه كان يعف عن تعاطى المنكرات المسكرات.
وكان- فى الغالب- أموره وأحكامه مناقضة للشريعة، لا سيما لما أنشئت مماليكه الأجلاب، فإنهم قلبوا أحكام الشريعة ظهرا لبطن، وهو راض لهم بذلك، وكان يمكنه إرداعهم بكل ممكن، ومن قال غير ذلك فهو مردود عليه، وأحد أقوال الردّ عليه قول من يقول: فكيف سطوة السلطنة مع عدم «1» قوته لرد هؤلاء الشرذمة القليلة مع بغض العالم لهم، وضعفهم عن ملاقاة بعض العوام؟! فكيف أنت بهم وقد ندب لهم طائفة من طوائف المماليك؟! ومثل هذا القول فكثير، وأيضا رضاه بما فعله سنقر قرق شبق الزردكاش عند عمارته لمراكب الغزاة، لأن سنقر فعل أفعالا لا يرتضيها من له حظ في الإسلام، وكان يمكنه ردّه عن ذلك بكل طريق، بل كان يخلع عليه في كل قليل، ويشكر أفعاله، فرضاه بفعل مماليكه الأجلاب، وبفعل سنقر هذا وأشباه ذلك هو أعظم ذنوبه، وما ساء منه النّاس وأبغضته الخلائق وتمنوا زوال ملكه إلا لهذا المعنى، ومعنى آخر وهو ليس بالقوى وهو ثقل وطأة ولده وزوجته ومملوكه بردبك الدوادار.
قلت: والأصح عندى هو الذنب الأوّل، وأما هؤلاء فكان ثقلهم على مباشرى الدولة أو على من يسعى عندهم في وظيفة من ولاية أو عزل، أو أمر من الأمور، فعلى هذا كان ضررهم خصوصا لا عموما، وأيضا لا يشمل ضررهم إلا لمن جاء إلى بابهم

(16/159)


أو قصدهم في حاجة دنيويّة، فهو أحق بما يحل به، لأنه هو الساعى في إيذاء نفسه، والمثل يقول: «من قتلته يديه لا بكاء عليه» .
نعم وكان من مساوئه مخافة السبل في أيامه بالقاهرة والأرياف، حتى تجاوز الحدّ، وعمّرت الناس على بيوتهم الدروب لعظم خوفهم من دقّ المناسر وقطّاع الطريق بالأرياف، مع أنه كان قاطعا للمفسدين، غير أن الحمايات كانت كثيرة في أيامه، وهذا أكبر أسباب خراب الدّيار المصرية وقراها، ومن يوم تجددت هذه الحمايات فسدت أحوال الأرياف قبليها وبحريها، وهذا البلاء ما كثر وفشا في الدّولة إلا بعد الدّولة المؤيّديّة شيخ، واستمرت هذه السنة «1» القبيحة إلى يومنا هذا، والعجب أنه ليس لها نفع على السلطان ولا على بلاده، وإنما هى ضرر محض على السلطان والناس قاطبة، والملك لا يلتفت إلى إزالتها، مع أنه لو منع ذلك لم يضر أحد من الناس، وانتفع الناس جميعا بمنعها، وعمرت غالب البلاد، وتساوت الناس، وبالمساواة تعمر جميع الممالك، غير أن الفهم والعقل والتدبير منح إلاهية، فلا يفيد الكلام في ذلك، ولله در القائل:
[الوافر]
. لقد أسمعت لو ناديت حيّا ... ولكن لا حياة لمن تنادى
ونار لو نفخت بها أضاءت ... ولكن أنت تنفخ في الرماد
وقد خرجنا عن المقصود.
ولما كثر فساد المماليك الأجلاب عمل بعض الظرفاء بلّيقا «2» ، ذكر فيه أفعال الأجلاب ومساوئهم، واستطرد إلى إلى أن قال في آخره:
حاشا لله دوام هذى النقمه ... ونحن أفضل برية من أمه
نبينا ما حدّ مثلو

(16/160)


أزاح عنا كيد الكفار ... وقد رمينا بيد الأشرار
فكل حد ماسك ديلو
متى يزيح عنا هذى الدولة ... ويحكم الناس من لوصوله
وترتاح البرية في عدلو
فالله بجاه سيد عدنان ... عوّض لنا منك بإحسان
هذا الجميل إننا أهلو
فو الله العظيم لم تمض عليه سنة بعد ذلك، بل ولا ستة أشهر حتى مرض ومات، فهذا ما ذكرناه من محاسن الملك الأشرف إينال ومساوئه، ونرجو الله تعالى أن يكون ذلك على الإنصاف لا على التحامل.

(16/161)


[ما وقع من الحوادث سنة 857]
السنة الأولى من سلطنة الملك الأشرف إينال على مصر وهى سنة سبع وخمسين وثمانمائة.
على أن الملك المنصور عثمان حكم منها إلى ثامن شهر ربيع الأول.
وفيها- أعنى سنة سبع وخمسين المذكورة- توفّى الشهابى أحمد ابن الأمير فخر الدين عبد الغنى بن عبد الرّزّاق بن أبى الفرج متولى قطيا، فى أوائل المحرم، وهو فى الكهولية.
وتوفّى السلطان الملك الظاهر أبو سعيد جقمق العلائى الظاهرى في ليلة الثلاثاء، ثالث صفر، ودفن من يومه حسبما تقدم ذكره في ترجمته مستوفاة في هذا الكتاب، فلتنظر في محله.
وتوفّى الأمير أسنبغا بن عبد الله الناصرى «1» الطيّارى رأس نوبة النوب في ليلة السبت سادس شهر ربيع الأول، فى أيام الفتنة، وهو في بيت الأمير قوصون، وعليه آلة السلاح، شبه الفجاءة، وكانت مدة مرضه يوما واحدا، وصلّى عليه الأتابك إينال العلائى بدار قوصون المذكورة، وجميع الأمراء وعليهم آلة السلاح، ثم حمل ودفن من يومه في الصحراء، ومات وهو في عشر الثمانين تخمينا، وكان من محاسن الدّنيا كرما وعقلا وشجاعة وتواضعا ومعرفة، كان كامل الأدوات، قلّ أن ترى العيون مثله- رحمه الله تعالى.

(16/162)


وتوفّى الأمير جانبك بن عبد الله اليشبكى والى القاهرة، ثم الزردكاش، فى ليلة الخميس ثامن عشر شهر ربيع الأوّل، وهو في أوائل الكهولية، ودفن من الغد، وكان أصله من مماليك الأمير يشبك الجكمى الأمير آخور، ثم اتصل بعد موته بخدمة السلطان، ثم صار خاصّكيّا في الدولة الأشرفية برسباى، وصحب الصاحب جمال الدين يوسف بن كاتب جكم ناظر الخواص، فروّجه في المملكة، حتى صار ساقيا في الدولة الظاهرية جقمق، ثم تأمر عشرة بعد مدة طويلة، وصار من جملة رءوس النوب، ثم استقر والى القاهرة، ثم أضيف إليه حسبة القاهرة في سنة أربع وخمسين، ثم انفصل من الحسبة، واستمر في الولاية سنين كثيرة، إلى أن نقل إلى وظيفة الزّردكاشيّة في الدولة المنصورية عثمان، بعد انتقال الأمير لاجين الظاهرى إلى شد الشراب خاناه، وتولى عوضه ولاية القاهرة يشبك القرمى الظاهرى، فلم تطل أيّامه زردكاشا، ومات فى أوائل الدولة الأشرفية إينال، حسبما تقدم وفاته؛ وكان مليح الشكل متجملا، «1» حسن المحاضرة «2» - رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير سيف الدين أرنبغا اليونسىّ الناصرى أحد مقدمى الألوف بالدّيار المصريّة في ليلة الجمعة تاسع عشر شهر ربيع الأوّل، وسنّه زيادة على السبعين، وأنعم السلطان بتقدمته على الأمير دولات باى المحمودى الدّوادار بعد مجيئه من السّجن بمدّة، وكان أرنبغا هذا تترىّ الجنس من مماليك الملك الناصر فرج، وهو أخو سونجبغا الناصرى، وأرنبغا هذا هو الأكبر، وتنقلت بأرنبغا هذا الأحوال إلى أن تأمّر في دولة الملك الأشرف برسباى عشرة، وصار من جملة رءوس النّوب، وطالت أيّامه، وحجّ وجاور في مكّة غير مرّة، ثم نقل في الدّولة الظاهريّة جقمق إلى إمرة طبلخاناه، ثم صار في أوائل دولة الأشرف إينال أمير مائة ومقدّم ألف، فلم تطل مدّته، ومات في التاريخ المقدم ذكره، وكان أميرا شجاعا مقداما عارفا

(16/163)


بالحروب وأنواعها، إلا أنه كان مسرفا على نفسه مع قلّة تجمّل في ملبسه ومماليكه وخدمه- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير سيف الدين سمام الحسنى الظاهرى الحاجب الثانى، وأحد العشرات فى ليلة الاثنين سادس شهر ربيع الآخر، ودفن من الغد، وسنه نيّف على السبعين، وكان رجلا ساكنا قليل الخير والشر، لا للسيف ولا للضيف.
وتوفّى الشيخ الإمام المعتقد الواعظ شهاب الدين أحمد ابن الشيخ الإمام العارف بالله محمد وفاء الشاذلى المالكى المعروف بابن أبى الوفاء، فى يوم الأربعاء ثامن شهر ربيع الآخر، ودفن بتربتهم بالقرافة الصغرى، وكان جلس للوعظ والتذكير على عادتهم، وصار على وعظه أنس وقبول من الناس إلى أن مات- رحمه الله تعالى.
وتوفّى قاضى القضاة بدر الدين محمد ابن القاضى ناصر الدّين محمد ابن العلّامة شرف الدين عبد المنعم البغدادى «1» الحنبلى، قاضى الديار المصرية ورئيسها، فى ليلة الخميس سابع جمادى الأولى، ودفن من الغد، وحضر الخليفة القائم بأمر الله حمزة الصلاة عليه بمصلّاة باب النصر، ودفن بالتّربة الصوفية، وكانت جنازته مشهودة، كثر أسف الناس عليه، لحسن سيرته ولعفتة عما يرمى به قضاة السوء، ومات وهو في أوائل الكهولية، وكان له اشتغال ومعرفة تامة بصناعة القضاء والشروط والأحكام، وأما سياسة الناس ومحبته لأصحابه وكرمه وسؤدده فكان إليه المنتهى في ذلك، وكان قامعا لشهود الزور والمناحيس، وبالجملة فكان بوجوده نفع للمسلمين- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير الوزير سيف الدين تغرى بردى القلاوى الظاهرى قتيلا في واقعة كانت بينه وبين سونجبغا الناصرى، وهى واقعة عجيبة، لأنهما تماسكا على الفرسين، فقتل الواحد الآخر، ثم قتل الآخر في الحال، كلاهما مات على فرسه، وذلك في يوم السبت سادس عشر جمادى الأولى، وقد ذكرنا واقعتهما في تاريخنا «حوادث الدهور» مفصلا، فلينظر هناك، وكانت نسبته بالقلاوى إلى ناحية قلا، لما كانت إقطاعا لأستاذه الملك الظاهر جقمق

(16/164)


لما كان أميرا، ولم يكن تغرى بردى هذا مشكور السّيرة في ولايته- عفا الله تعالى عنا وعنه.
وتوفّى الأمير سونجبغا اليونسى الناصرى ببلاد الصعيد في وقعته مع تغرى بردى القلاوى في يوم واحد حسبما تقدم ذكره، وسنه زيادة على الستين، وهو أخو أرنبغا المقدم ذكره، غير أن أرنبغا كان مشهورا بالشجاعة والإقدام، وسونجبغا هذا لا شجاعة ولا كرما.
وتوفّى الشيخ عز الدين محمد الكتبى «1» ، المعروف بالعز التّكرورى، فى يوم الأربعاء سابع عشر بن جمادى الأولى، وكان معدودا من بياض الناس، له حانوت يبيع فيه الكتب بسوق الكتبيين، وكانت له فضيلة بحسب الحال.
وتوفّى الأمير سيف الدين دولات باى المحمودى المؤيدى الدوادار كان، وهو أحد مقدّمى الألوف في يوم السبت أوّل جمادى الآخرة، ودفن بالصحراء خارج القاهرة من يومه، وسنه أزيد عن خمسين سنة، وكان چاركسى الجنس جلبه خواجا محمد إلى الإسكندرية، فاشتراه منه نائبها الأمير آقبردى المنقار، وبلغ الملك المؤيّد شيخا ذلك، فبعث طلبه منه، فأرسله إليه، فأعتقه المؤيد- أن كان آقبردى ما كان أعتقه- وجعله خاصكيا ثم ساقيا في أواخر دولته، فلما تسلطن الملك الأشرف برسباى عزله عن السّقاية، ودام خاصكيا دهرا طويلا، إلى أن صحب الأمير جانم الأشرفى قريب الملك الأشرف برسباى، ثم صاهره فتحرك سعده بصهارة جانم المذكور، ولا زال جانم به إلى أن نفعه بأن توجّه بتقليد نائب صفد وخلعته بعد أن كان خلص له إمرة عشرة من الملك الأشرف، مع بغض الأشرف في دولات باى هذا، فلما أمسك جانم مع من أمسك من أمراء الأشرفية لم ينفعه دولات باى المذكور بكلمة واحدة، هذا إن لم يكن حط عليه فى الباطن، ولا أستبعد أنا ذلك لقرائن دلّت على ذلك.

(16/165)


ولما تسلطن الملك الظاهر جقمق استقر بدولات باى هذا أمير آخور ثانيا، بعد مسك الأمير نخشباى الأشرفى وحبسه. ثم نقل [دولات باى] «1» بعد أيام إلى الدوادارية الثانية، بعد الأمير أسنبغا الطّيّارى، بحكم انتقاله إلى إمرة مائة وتقدمة ألف، كلّ ذلك فى سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة.
فباشر [دولات باى] «2» الدّواداريّة بحرمة وافرة، ونالته السعادة، وأثرى وجمع الأموال الكثيرة، وعمّر الأملاك الهائلة، إلى أن أنعم عليه السلطان بإمرة مائة وتقدمة ألف في صفر سنة ثلاث وخمسين، بعد موت الأمير تمراز القرمشى الظاهرى، فلم تطل أيامه في التقدمة.
وولى [دولات باى] «3» الدّواداريّة الكبرى- بمال بذله، نحو العشرة آلاف دينار- عوضا عن قانى باى الچركسى، بحكم انتقاله إلى الأمير آخورية الكبرى، بعد موت الأمير قراخجا الحسنى.
ولما ولى الدّواداريّة الكبرى خمدت ريحه، وانحطت حرمته، بالنسبة إلى ما كانت عليه أيام دواداريّته الثانية، والسببية واضحة؛ وهى أنه كان أوّلا مطلوبا، والآن صار طالبا.
ثم سافر [دولات باى] «4» أمير حاج المحمل بعد مدّة، وكان وليها مرّة أولى في سنة تسع «5» وأربعين، فهذه المرّة الثانية في سنة ست وخمسين، وعاد في سنة سبع وخمسين، وقد خلع الملك الظاهر جقمق نفسه من الملك وسلطن ولده الملك المنصور عثمان، فأقام فى دولة المنصور دوادارا على حاله، وقد خاف من صفير الصافر، فلم يكن بعد أيام إلا وقبض عليه في يوم الخميس ثانى عشر صفر من السنة المذكورة، وحمل إلى الإسكندرية، فحبس بها شهرا وأياما، وأطلقه الملك الأشرف إينال، وأحضره إلى القاهرة، ثم أنعم عليه بعد مدة بإقطاع الأمير أرنبغا اليونسى، فلم تطل أيّامه إلا نحو الشهر، ومرض ومات في التاريخ المقدّم ذكره.

(16/166)


ولقد قال لى بعض الحذّاق إن سبب موته إنما كانت طربة «1» يوم أمسك، ودامت الطّربة إلى أن قتلته. قلت: وأنا لا أستبعد هذا، لما كان عنده من الجبن والحذر، وعدم الإقدام، على أنه كان مليح الشكل، متجملا في ملبسه ومركبه، وقورا في الدول، إلا أنه لم يشهر بشجاعة ولا كرم في عمره.
وتوفّى الأمير سيف الدين قانصوه بن عبد الله النّوروزى أحد أمراء دمشق بها في أواخر جمادى الأولى، وله من العمر نحو الستين سنة تخمينا، وكان أصله من مماليك الأمير نوروز الحافظىّ نائب الشّام، وصار خاصّكيّا بعد موته في الدولة المؤيّديّة شيخ، ثم تأمّر عشرة بعد موت المؤيّد، ثم صار أمير طبلخاناه في دولة الظاهر ططر، ودام على ذلك سنينا كثيرة إلى أن أخرجه الملك الأشرف برسباى إلى نيابة طرسوس، ثم نقله إلى حجوبية حلب، ثم تقدمة ألف بدمشق، ثم خرج على الملك الظاهر جقمق، ووافق الأمير إينال الجكمى على العصيان، فلما كسر الجكمى اختفى قانصوه مدة، ثم ظهر وتنقّل أيضا في عدة أماكن، وهو في جميع ما يتحرّك فيه مخمول الحركات إلى أن مات، وكان مليح الشكل، وعنده شجاعة ومعرفة برمى النشّاب، إلا أنه كان خاملا، ما أظنه ملك في عمره ألف دينار، ولولا الحياء لقلت ولا سلّاريّا ثانيا، وفي هذا كفاية.
وتوفّى الأمير سيف الدين قشتم بن عبد الله المحمودى الناصرى نائب البحيرة قتيلا في واقعة كانت بينه وبين العربان الخارجة عن الطاعة في أواخر شهر رجب، وقد ناهز الستين من العمر، وكان أميرا جليلا عاقلا حشما وقورا شجاعا مقداما كريما

(16/167)


متواضعا مليح الشكل، وهو ممن جمع بين الشجاعة والكرم والتواضع- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير سيف الدين بيغوت بن عبد الله من صفر خجا المؤيّدى الأعرج نائب صفد بها في أواخر شعبان، وقد جاوز الستين، وكان أصله من مماليك المؤيّد شيخ في أيام إمرته، وصار خاصّكيّا بعد موته، إلى أن نفاه الملك الأشرف برسباى إلى الشام، ثم أنعم عليه بإمرة طبلخاناه بدمشق، ثم ولى نيابة حمص في أوائل دولة الملك الظاهر جقمق مدّة، ثم نقل إلى نيابة صفد دفعة واحدة، بعد الأمير قانى باى الأبوبكرى الناصرى البهلوان، بحكم توجهه إلى نيابة حماة، ثم نقل بيغوت هذا إلى نيابة حماة، ووقع له مع أهل حماة أمور وشكاو آلت إلى تسحّبه من حماة وتوجّهه إلى ديار بكر، بعد أن أمسك ولده إبراهيم بالقاهرة وحبس، ووقع له أيضا بديار بكر أمور ومحن، وأمسك وحبس بقلعة الرّها، ثم أطلق وعاد طائعا إلى السلطان الملك الظاهر جقمق، وقدم القاهرة، ثم عاد إلى دمشق بطالا، إلى أن أنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بها، بعد موت الأمير بردبك العجمى الجكمى، فدام على ذلك إلى أن نقله الظاهر إلى نيابة صفد ثانيا، بعد موت يشبك الحمزاوى، فدام بصفد إلى أن مات- رحمه الله- فى التاريخ المقدّم ذكره، وكان رجلا ديّنا مشهورا بالشجاعة والإقدام، وقورا في الدّول، وتولّى نيابة صفد بعده إياس المحمدى الناصرى الطويل.
وتوفّى الشيخ المعتقد الصالح درويش- وقيل محمد، وقيل غيبى- الرومى، بظاهر خانقاه سرياقوس، فى يوم الاثنين ثالث ذى القعدة، ودفن شرقى الخانقاه المذكورة، وكان أصله من آقصراى «1» ، وكان مليح الشكل، منوّر الشّيبة، لا يدّخر شيئا،

(16/168)


وحجّ غير مرة من غير زاد ولا راحلة، وهو أحد من أدركناه من الفقهاء الصلحاء- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير سيف الدين حطط بن عبد الله الناصرى أتابك طرابلس بها فى أوائل ذى الحجة، وكان ولى نيابة قلعة حلب، ثم نيابة غزّة، كل ذلك بالبذل، فإنه كان لا للسيف ولا للضيف.
وتوفّى الأمير سيف الدين على باى بن طراباى العجمى «1» المؤيّدى أتابك حلب بها في أواخر ذى الحجة، وهو في عشر الستين، وكان أصله من مماليك المؤيّد شيخ، وبقى خاصّكيّا أيام المؤيّد، ودام خاصّكيّا عدّة دول إلى أن أنعم عليه الملك الظاهر جقمق في أوائل دولته بإمرة عشرة، وجعله من جملة رءوس النوب، وصار له كلمة في الدولة، وتوجّه في الرّسليّة من السلطان إلى أصبهان بن قرايوسف صاحب بغداد، ثم بعد عوده إلى القاهرة بمدّة نفاه الملك الظاهر إلى حلب على إمرة مائة وتقدمة ألف، ثم نقل إلى أتابكيّة حلب بعد سودون الأبوبكريّ المؤيّدى لما ولى نيابة حماة، فدام على باى على ذلك إلى أن توفّى، وكان مليح الشكل، فصيح العبارة، عارفا بأنواع الفروسية، كريما جوادا إلا أنه كان مجازفا كذوبا مسرفا على نفسه- عفا الله عنه.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم- أعنى القاعدة- ثمانية أذرع وخمسة أصابع- مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا واثنان وعشرون إصبعا.

(16/169)


[ما وقع من الحوادث سنة 858]
السنة الثانية من سلطنة الملك الأشرف إينال على مصر وهى سنة ثمان وخمسين وثمانمائة
فيها توفّى الأمير سيف الدين يلبغا بن عبد الله الچاركسى، أحد أمراء الطبلخانات- بطّالا- بعد مرض طويل في يوم السبت رابع شهر ربيع الآخر، وكان تركى الجنس أصله من مماليك چاركس القاسمى المصارع، ثم صار بعد موت أستاذه خاصكيّا، ودام على ذلك سنين «1» طويلة لا يلتفت إليه في الدولة، وقد شاخ وصار يخضب لحيته بالسواد، إلى أن تحرّك سعده وسعد خچداشه قانى باى الچاركسى بسلطنة الملك الظاهر جقمق، فإنه كان أخا چاركس أستاذ هؤلاء المخاميل.
فلما تسلطن جقمق أمّر يلبغا هذا إمرة عشرة، وجعله رأس نوبة لولده المقام الناصرى محمد.
ثم ولّاه نيابة دمياط، ثم عزله وجعله أمير طبلخاناه، فدام على ذلك إلى أن أخرج الملك الأشرف إينال إقطاعه- فنعم ما فعل- فاستمرّ بطّالا إلى أن مات كما تقدّم ذكره، وكان من مساوئ الدهر- رحمه الله تعالى.
وتوفّى القاضى ناصر الدين محمد ابن قاضى القضاة فخر الدين أحمد بن عبد الله الشهير بابن المخلّطة «2» ، أحد أعيان فقهاء المالكية ونوّاب الحكم، وناظر البيمارستان المنصورى «3» ، فى يوم الأحد تاسع عشرين شهر ربيع الآخر، وكان

(16/170)


فقيها عالما بمذهبه، عارفا بصناعة القضاء والشروط والأحكام، ناب في الحكم من سنة سبع عشرة وثمانمائة إلى أن مات، وحمدت سيرته- رحمه الله تعالى.
وتوفى المقام الغرسى خليل ابن السلطان الملك الناصر فرج ابن السلطان الملك الظاهر برقوق بن الأمير آنص الچاركسى الأصل، بثغر دمياط في يوم الثلاثاء ثانى عشر جمادى الأولى، ومولده بقلعة الجبل في سنة أربع عشرة وثمانمائة، وأمه أم ولد تسمى «لا أفلح من ظلم» مولّدة، وبقى بقلعة الجبل إلى أن أخرجه الملك المؤيد شيخ مع أخيه محمد ابن الناصر فرج إلى الإسكندرية فحبسا بها إلى أن سألت عمتهما خوند زينب بنت الملك الظاهر برقوق زوجها الملك المؤيد شيخا في إحضارهما من الإسكندرية إلى قلعة الجبل لتختهما فحضرا إلى الديار المصرية، وختنا بقلعة الجبل، ثم أعيدا إلى الإسكندرية، وداما بها بسجنها إلى أن مات أخوه محمد في طاعون سنة ثلاث وثلاثين، فأخرج خليل هذا من السجن، ورسم له بأن يسكن حيث شاء بثغر الإسكندرية، وأن يركب لصلاة الجمعة لا غير، فبقى على ذلك إلى أن رسم له الملك الظاهر جقمق- بعد أن تأهل بكريمتى- أن يركب إلى جهة باب البحر «1» ، ويسير.
ثم أذن له بعد ذلك بالحج، وقدم القاهرة في شوال سنة ست وخمسين، وحج فى موسم السنة المذكورة.
ثم عاد وقد خلع الملك الظاهر نفسه، وتسلطن ولده الملك المنصور عثمان، فرسم له المنصور في يوم دخوله من الحج بالتوجه إلى الإسكندرية، فطلب هو دمياط، فرسم له بها.
وخرج إليها من يومه قبل أن يحل عن أحماله، فلم تطل مدّته بثغر دمياط ومات في التاريخ المذكور، ودفن بدمياط أيّاما، ثم نقل إلى بولاق.

(16/171)


ثم نقل إلى القاهرة، ودفن عند جدّه الملك الظاهر برقوق بالصحراء، وكان فى نفسه أمور توفاه الله قبل أن ينالها، وأنا أعرف بحاله من غيرى، غير أننى لا أشكر ولا أذم، وفي هذا كفاية.
وتوفّى القاضى شمس الدين محمد بن عامر قاضى قضاة المالكية بصفد، فى أوائل جمادى الآخرة، وكان معدودا من فقهاء المالكية، وناب في الحكم بالقاهرة سنين كثيرة، وولى قضاء الإسكندرية غير مرة- رحمه الله تعالى
وتوفّى الشريف معز [بن هجار بن وبير] «1» أمير ألينبع في أواخر جمادى الآخرة وتوفى بعده ابن أخيه مقبل
وتوفّى الأمير جانبك بن عبد الله الزّينى عبد الباسط «2» بالقاهرة في يوم الأربعاء لعشر بقين من شهر رجب، وكان من مماليك الزّينى عبد الباسط «3» بن خليل، وولى الأستادارية فى أيام أستاذه»
حسّا، ومعناه أستاذه، ولولا أنه في الجملة ولى الأستادارية لما ذكرناه في هذا المحل.
وتوفّى قاضى القضاة الحنابلة بحلب، مجد الدين سالم بن سلامة الحنبلى «5» خنقا بقلعة حلب بالشرع في الظاهر، لكونه قتل رجلا بيده ممن اتهم بالزندقة، والفتل من قبل الحكم- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير سليمان بن ناصر الدين بك بن دلغادر نائب ابلستين «6» بها في باكر يوم الأربعاء ثالث شهر رمضان، وتولى أبلستين بعده ابنه ملك أصلان.
وتوفّى الأمير سودون بن عبد الله الجكمى، أحد أمراء العشرات، بطّالا بالقاهرة

(16/172)


فى يوم السبت رابع ذى القعدة، وهو أخو إينال الجكمى نائب الشام، «1» وهو الأصغر، وبسببه تخومل حتى مات، وكان من أعيان الدّولة، وممّن له ذكر وسمعة- رحمه الله تعالى.
وتوفّى قاضى القضاة الحنفية بدمشق قوام الدين محمد الدمشقى المولد والوفاة، الحنفى المذهب، بدمشق في ثامن ذى القعدة، ومولده في ثامن ذى القعدة، ومولده في ثامن ذى القعدة سنة ثمانمائة، وكان فقيها فاضلا ديّنا خيّرا مشكور السيرة، وهو من القضاة الذين ولوا من غير بذل، ومات غير قاض- رحمه الله.
وتوفّى المعلم ناصر الدين محمد الصغير القازانى، المعروف بمحمد الصغير، معلم رمى النشاب، فى ليلة الجمعة ثالث عشرين ذى الحجة، وقد زاد سنه على الثمانين، ومات ولم يخلف بعده مثله في حسن الرمى وتعليمه وعلومه، وهو أحد الأفراد الذين أدركناهم من أرباب الكمالات- رحمه الله تعالى.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم سبعة أذرع وخمسة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا وأحد عشر إصبعا «2»

(16/173)


[ما وقع من الحوادث سنة 859]
السنة الثالثة من سلطنة الملك الأشرف إينال على مصر وهى سنة تسع وخمسين وثمانمائة.
فيها توفى الأمير سيف الدين مغلباى بن عبد الله الشهابى، أحد أمراء العشرات- بطالا بالقاهرة- فى ليلة الخميس عاشر المحرم، وكان أصله من مماليك الشهابى أحمد بن جمال الدين «1» الأستادار، ثم أعتقه الملك الناصر فرج، ثم صار خاصّكيّا في الدولة الأشرفية برسباى، ثم تأمر في دولة الملك الظاهر جقمق، وصار من حزب ولده الملك المنصور في الفتنة مع الأشرف إينال، فأخرج إينال إقطاعه بهذا المقتضى ودام بطّالا إلى أن مات، وكان عاقلا ساكنا لا بأس به- رحمه الله تعالى.
وتوفى الأمير سيف الدين جلبّان بن عبد الله الأمير آخور نائب الشام بها في يوم الثلاثاء سادس عشر صفر، وقد ناهز الثمانين من العمر تخمينا، وفي معتقه وجنسه أقوال كثيرة، أما معتقه فقيل إنه من عتقاء الأمير تنبك الأمير آخور الظاهرى، وقيل سودون طاز، وقيل إينال حطب، وأما جنسه فالمشهور أنه چاركسى الجنس، وقيل غير ذلك، ثم خدم جلبّان المذكور عند الأمير چاركس القاسمى المصارع، ثم عند الوالد «2» ، ثم عند الملك المؤيّد شيخ أيام إمرته، فلما تسلطن المؤيد جعله أمير آخور ثالثا، ثم أنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بالدّيار المصريّة، ثم خرج إلى البلاد الشّاميّة مجرّدا إليها مع من خرج من الأمراء، صحبة الأتابك ألطنبغا القرمشى، وقبض عليه مع من قبض عليه من الأمراء المؤيّدية، وحبس بالبلاد الشّامية إلى أن أطلقه الملك الأشرف برسباى، وجعله أمير مائة ومقدّم ألف بدمشق.

(16/174)


ثم نقله إلى نيابة حماة بعد الأمير جارقطلوا بحكم انتقاله إلى نيابة حلب بعد الأمير تنبك البجاسى المنتقل إلى نيابة الشّام، بعد موت الأمير تنبك ميق العلائى، فى رجب سنة ست وثلاثين وثمانمائة، «1» ودام جلبّان على نيابة حماة سنين كثيرة إلى أن نقله الملك الأشرف برسباى إلى نيابة طرابلس بعد موت الأمير طرباى في شعبان سنة ثمان وثلاثين وثمانمائة «2» وتولّى بعده الأمير قانى باى الحمزاوى.
ثم نقله الملك الظاهر جقمق إلى نيابة حلب بعد عصيان الأمير تغرى برمش التركمانى في سلخ شهر رمضان سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة.
«3» وتولى بعده طرابلس قانى باى الحمزاوى أيضا «4» فلم تطل مدته بحلب، ونقل إلى نيابة دمشق بعد موت الأتابك آقبغا التّمرازى في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين، وتولى بعده حلب الأمير قانى باى الحمزاوى.
فدام في نيابة دمشق عدّة سنين إلى أن مات في التاريخ المذكور، وتولى بعده نيابة دمشق قانى باى الحمزاوى، وكانت مدة نيابته على دمشق خمس عشرة سنة، وهذا شىء لم يقع لغيره من نواب دمشق بعد الأمير تنكز الناصرى.
وفي ترجمته غريبة أخرى، وهى أنه لم ينتقل من نيابة إلى الأخرى في هذه المدة التي تزيد على ثلاثين سنة إلا ويستقر بعده قانى باى الحمزاوى ومع أن قانى باى الحمزاوى لم تطل مدته في الولايات، وحضر إلى الديار المصرية أميرا، وأقام بها سنين، ثم عاد إلى نيابة حلب بعد أن وليها غير واحد بعده، فلما تولّى قانى باى الحمزاوى حلب ثانيا مات جلبّان هذا بعد مدّة، فنقل قانى باى إلى نيابة دمشق بعده على العادة. فهذا اتفاق غريب لعله لم يقع لغيرهما في هذه السنين الطويلة والولايات الكثيرة، وكان جلبّان المذكور من أجلّ الملوك، طالت أيامه في السعادة، وتنقل في ولايات جليلة، إلى أن مات- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الصاحب أمين الدين إبراهيم ابن الرئس مجد الدين عبد الغنى بن الهيصم- بطّالا- فى ليلة الخميس مستهل شهر ربيع الآخر، وقد قارب الستين من العمر، وكان معدودا من

(16/175)


رؤساء الدّيار المصرية، من بيت رئاسة وكتابة، وجدّهم الهيصم ينسب إلى المقوقس صاحب مصر، وقد ولى الصاحب أمين الدين هذا الوزر غير مرة، وحج وتفقّه على مذهب الحنفية، وكان محبا للفقراء وأهل الخير محبة زائدة، وكان مشهورا بالصلاح، وكان يتجنّب النصارى، ولا يتزوج إلا من المسلمات، وبالجملة فإنه نادرة في أبناء جنسه، وله محاسن كثيرة- رحمه الله تعالى.
وتوفى الأمير يشبك بن عبد الله الناصرى أحد أمراء الطّبلخانات ورأس نوبة ثان، فى يوم الأحد ثامن عشر صفر، وقد ناهز السبعين، وكان من مماليك الناصر فرج، وخدم فى أبواب الأمراء بعد موت أستاذه، وانحط قدره إلى أن عاد إلى خدمة السلطان بعد موت الملك المؤيّد شيخ، وصار خاصّكيّا إلى أن تأمر عشرة في أوائل سلطنة الملك الظاهر جقمق، وصار من جملة رءوس النّوب، ودام على ذلك إلى أن نقله الملك المنصور عثمان إلى إمرة طبلخاناه بعد انتقال جانبك القرمانى إلى طبلخاناه الأمير يونس الأقبائى المشد بحكم انتقال يونس إلى تقدمة ألف.
ثم صار في دولة الملك الأشرف إينال ثانى رأس نوبة النّوب، فدام على ذلك إلى أن مات في التاريخ المقدم ذكره، وكان يشبك المذكور من مساوئ الدهر، لا دنيا ولا دينا، ولا ذاتا ولا أدوات- عفا الله عنا وعنه.
وتوفى الأمير سيف الدين خير بك بن عبد الله المؤيدى الأجرود، أحد مقدمى الألوف بالديار المصرية في يوم الاثنين تاسع عشرين شهر ربيع الآخر، وهو فى حدود الستين، وحضر المقام الشهابى أحمد بن السلطان الصلاة عليه بمصلاة المؤمنى، وكان أصله من مماليك الملك المؤيّد شيخ، وترقى بعده حتى صار خاصّكيّا فى دولة الملك الأشرف برسباى.
ثم نفاه الأشرف إلى الشّام، وأنعم عليه بإمرة طبلخاناه، ثم صار أمير مائة ومقدّم ألف بدمشق، ثم صار أتابكا بها، ثم أمسك وحبس إلى أن أطلقه الأشرف إينال، فقدم القاهرة.

(16/176)


ثم صار أمير مائة ومقدّم ألف بها إلى أن مات، واستريح منه، لأنه كان أيضا من مقولة يشبك المقدّم ذكره، بل يزيده سوء الخلق والجنون.
وتوفّى شاعر العصر الشيخ شمس الدين محمد بن حسن بن على بن عثمان الشافعى الفقيه النّواجى «1» ، الشاعر المشهور في يوم الأربعاء سادس عشرين جمادى الأولى، ومولده بالقاهرة في سنة ثمان وثمانين وسبعمائة، وأصله من نواج- قرية بالغربية، من عمل الوجه البحرى من القاهرة- ونشأ بالقاهرة، وقرأ واشتغل إلى أن مهر وبرع فى عدة علوم وفنون، وغلب عليه نظم القريض، حتى قال منه أحسنه، وأنشدنى كثيرا من شعره، ومما أنشدنى من لفظه لنفسه- رحمه الله تعالى قوله:
[الوافر]
طلبت وصاله، فدنا لحربى ... يهزّ من القوام اللّدن رمحا
وسلّ من اللواحظ مشرفيّا ... ليضرب، قلت: لا بالله صفحا
ومما أنشدنى لنفسه أيضا:
[الطويل]
خليلىّ: هذا ربع عزّة، فاسعيا ... إليه وإن سالت به أدمعى طوفان
فجفنى جفا طيب المنام وجفنها ... جفانى، فيالله من شرك الأجفان
وقد استوعبنا من لفظه وشعره قطعة جيدة في ترجمته في تاريخنا «المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى» ، وأيضا في تاريخنا «حوادث الدهور في مدى الأيام والشهور» إذ هما محل الإطناب- انتهى.
وتوفّى الشيخ المعتقد المجذوب محمد المغربى «2» فى صبيحة يوم الجمعة خامس جمادى الآخرة، ودفن من يومه قبل صلاة الجمعة بتربة السلطان الملك الأشرف إينال التي أنشأها

(16/177)


بالصحراء، وكان يجلس داخل باب النصر على باب قاعة البغاددة تحت الساباط، تجاه الرّبع المعروف قديما بدار الجاولى، بالقرب من باب جامع الحاكم، وأقام بالموضع سنين كثيرة، لا يقوم منه صيفا ولا شتاء وهو جالس على مكان عال، وتحته حجارة، وتأتيه الناس بالمأكل والمشرب، ولهم فيه اعتقاد حسن، وكنت أزوره من بعد، خوفا مما كان حوله من النجاسة، وكانت جذبته مطبقة، والغريب أنه وجد له بعد موته فى المكان الذي كان يجلس عليه جملة كبيرة من الذهب والفضة، وهذا من الغريب العجيب، فإنه لم يكن في جذبته شكّ، فكيف يهتدى لجمع المال، وأنا أقول شيئا، وهو أن المغاربة في الغالب يميلون «1» لجمع المال، فلعله كان هو أيضا يميل لجمع المال بالطبع على قاعدة المغاربة، والله أعلم.
وتوفّى القاضى الرئيس صلاح الدين محمد المعروف بابن السابق الحموى الشافعى، كاتب سر حلب ثم دمشق، وبها مات بطّالا بعد مرض طويل في يوم الأحد ثامن عشرين جمادى الآخرة عن أربع وثمانين سنة، ومولده بحماة، وبها نشأ، وتنقل لعدّة وظائف سنية، وكان مشكور السيرة في ولايته مع الدين والتقوى والأدب والحشمة والرياسة- رحمه الله تعالى.
وتوفى القاضى محبّ الدين محمد ابن الشيخ الإمام زين الدين أبى بكر القمنى «2» الشافعى، فى يوم الاثنين رابع عشر شهر رجب- رحمه الله.
وتوفيت خوند شاه زاده بنت الأمير أرخن بك بن محمد بك كرشجى بن عثمان ملك الروم، فلما كبرت تزوجت الملك الأشرف برسباى، ثم تزوجها بعده الملك الظاهر جقمق، ثم تزوجها بعده الأمير برسباى البجاسى، فماتت تحته- رحمها الله تعالى.
وتوفى السيد الشريف زين الدين أبو زهير بركات بن حسن بن عجلان بن رميئة ابن منجد بن أبى نمى محمد بن أبى سعيد حسن بن على بن أبى غرير قتادة بن إدريس ابن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن حسين بن سليمان بن على بن عبد الله بن محمد

(16/178)


ابن موسى بن عبد الله المحض بن موسى بن الحسن بن على بن أبى طالب المكى الحسنى أمير مكّة في بطن مرّ خارج مكة، فى يوم الاثنين تاسع شعبان، وحمل إلى مكة فصلى عليه بالحرم، وطيف به على النعش أسبوعا على عادة أشراف مكة، ودفن بالمعلاة وولى إمرة مكة بعده ابنه الشريف محمد.
وكان مولد بركات بمكة سنة إحدى وثمانمائة، وأمّه أم كامل بنت النصيح من ذوى عمر، وولى إمرة مكة شريكا لأبيه وأخيه أحمد سنة عشر وثمانمائة، ثم استقل بإمرة مكة في سنة تسع وعشرين من قبل الملك الأشرف برسباى «1» ، فدام على إمرة مكة إلى أن عزله الملك الظاهر جقمق بأخيه على بن حسن في سنة خمس وأربعين.
وخرج بركات هذا إلى البر من جهة اليمن، ووقع له أمور ذكرناها في «الحوادث» ، ثم عزل على عن إمرة مكة بأخيه أبى القاسم بن حسن بن عجلان- كل ذلك وبركات مخرج- إلى أن قدم بركات الديار المصرية، وولّاه الملك الظاهر جقمق إمرة مكة على عادته.
وكان لقدومه القاهرة يوم مشهود، وأقام بالقاهرة مدة ثم عاد إلى مكة، فدام بها إلى أن مات في التاريخ المذكور، وكان رجلا عاقلا ساكنا شجاعا مشكور السيرة، أهلا للإمرة- إن لم يكن زيديا على عادة أشراف مكة- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير سيف الدين جانبك بن عبد الله الشمسى المؤيدى أحد أمراء دمشق، فى أواخر ذى القعدة أو أوائل ذى الحجة، وكان أصله من مماليك المؤيد شيخ، اشتراه قبل سلطنته وأعتقه، وصار بعد موت أستاذه من جملة أمراء طرابلس، ثم نقل إلى حجوبية حجاب حلب، ثم عزل، وصار من أمراء الطبلخانات بدمشق إلى أن مات.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم العلامة محب الدين محمد ابن العلامة زادة- واسم زادة أحمد- بن أبى يزيد محمد السيرامى الحنفى المصرى سبط الأقصرائى المعروف بابن مولانا

(16/179)


زادة، إمام السلطان، وشيخ المدرسة الأيتمشية بمكة المشرفة، في يوم الجمعة ثالث ذى الحجة، ومولده بالقاهرة في سنة إحدى وتسعين وسبعمائة- هكذا ذكر لى، وكتب بخطه.
قلت: ونشأ بالقاهرة، وقرأ القرآن الكريم وعدة مختصرات في فنون كثيرة، وتفقه بجماعة من علماء عصره، مثل الشيخ عز الدين بن جماعة وغيره، ذكرنا غالبهم في تاريخنا «الحوادث» وبرع في عدة علوم، وأفتى ودرّس، وتولى الوظائف الدينية، ثم ولى [وظيفة] «1» إمام السلطان الملك الأشرف برسباى، فدام على ذلك مدة سنين وأمّ بعدة ملوك إلى أن رغب هو عن ذلك وتركه، وقعد بداره ملازما الأشغال والاشتغال إلى أن قصد المجاورة في هذه السنة بمكة المشرفة، وكانت منيته بها بمرض البطن- رحمه الله تعالى- وهو ابن أخت العلامة فريد عصره أمين الدين الأقصرائى الحنفى.
وتوفّى الأمير سيف الدين آقبردى بن عبد الله الساقى الظاهرى نائب ملطية بها في يوم الخميس خامس عشرى ذى الحجة، وحمل من ملطية إلى حلب، ودفن بتربته التي عمّرها، ومات وله من العمر نحو ثلاثين سنة، وأصله من مماليك الملك الظاهر جقمق الصّغار، وصار ساقيا في أيّامه، ثم نائب قلعة حلب دفعة واحدة، فدام على ذلك إلى أن نقله الملك الأشرف إينال إلى أتابكيّة حلب في سنة ثمان وخمسين، ثم نقل إلى نيابة ملطية، فمات بها في التاريخ المقدم ذكره، وكان لا بأس به، ولم تطل أيّامه لتشكر أفعاله أو تذمّ- رحمه الله تعالى.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم سبعة أذرع وخمسة أصابع، مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا وأربعة عشر إصبعا.

(16/180)


[ما وقع من الحوادث سنة 860]
السنة الرابعة من سلطنة الملك الأشرف إينال العلائى على مصر وهى سنة ستين وثمانمائة:
فيها توفّى القاضى شهاب الدين أحمد المحلى «1» الشافعى قاضى الإسكندرية بقرية إدكو بالمزاحمتين في ليلة الثلاثاء ثالث عشر جمادى الآخرة، ودفن برشيد، وهو في عشر السبعين، وكان كثير المال قليل العلم- رحمه الله.
وتوفّى القاضى ظهير الدين محمد ابن قاضى القضاة أمين الدين عبد الوهاب ابن قاضى القضاة شمس الدين محمد بن أبى بكر الطرابلسى «2» الحنفى أحد نوّاب الحكم بمصر- معزولا- بعد مرض طويل، فى يوم الجمعة سادس عشرين شعبان، ودفن من الغد، وكان مشكور السيرة في أحكامه، محبا لأصحابه- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير أسنباى بن عبد الله الجمالى الظاهرى الدّوادار الثانى كان، بطّالا بالقدس في شعبان، وسنّه دون الأربعين، وكان الملك الظاهر جقمق اشتراه في أيام سلطنته، وجعله خاصكيا، ثم سلاحدارا، «3» ثم ساقيا «4» ، ثم أمّره عشرة، ثم صار في الدولة المنصورية عثمان دوادارا ثانيا عوضا عن تمربغا الظاهرى، فلم تطل مدته غير أيام، ووقعت الفتنة بين المنصور وبين الأتابك إينال، وهرب أسنباى واختفى، ثم ظهر ورسم له بالتوجّه إلى القدس، فدام بالقدس بطالا إلى أن مات، وهو من مقولة آقبردى المقدّم ذكره- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير قانى باى بن عبد الله الناصرى الأعمش نائب قلعة الجبل بها في ليلة الخميس سابع عشرى ذى القعدة، وعمره زيادة على الستين، وكان أصله من مماليك

(16/181)


الناصر فرج، وصار خاصّكيّا بعد موت المؤيّد شيخ، ثم تأمّر عشرة في دولة الملك الظاهر جقمق، وصار من جملة رءوس النوب، إلى أن ولّاه الملك الأشرف إينال نيابة القلعة بعد توجّه يونس العلائى الناصرى إلى نيابة الإسكندرية في شهر ربيع الأوّل سنة سبع وخمسين، فدام في نيابة القلعة إلى أن مات في التاريخ المذكور، وكان من المهملين المرزوقين.
وتوفّى الأمير سيف الدين جانبك بن عبد الله المحمودى المؤيّدى، أحد أمراء طرابلس بها في أواخر ذى القعدة وقد قارب الستين من العمر، وهو أخو قانى بك «1» المحمودى المؤيّدى، كان من عتقاء الملك المؤيّد شيخ، وصار خاصّكيّا في دولة المظفر أحمد أو في دولة الظاهر ططر، ثم تأمّر عشرة في أوائل دولة الملك الظاهر جقمق، وصار من جملة رءوس النوب، وبقى له كلمة في الدّولة، وزادت حرمته إلى أن كان منها زوال نعمته، وأمسك وحبس بقلعة الجبل، ثم أخرج أميرا بحلب، ثم حبس أيضا بحلب ثانيا مدّة، ثم أطلق وأعطى إمرة طبلخاناه بطرابلس، فدام بطرابلس إلى أن مات، وأحواله وأخلاقه مشهورة لا حاجة لنا في ذكر شىء من ذلك- عفا الله عنا وعنه.
وفي هذه السنة زالت دولة بنى رسول ملوك اليمن من اليمن بعد ما حكموا ممالك اليمن نحوا من مائتين وثلاثين سنة، وقد ذكرنا أسماء جميع ملوك اليمن منهم، من أولهم الملك المنصور أبى الفتح عمر بن على بن رسول إلى آخر من ملك منهم، وهو الملك المسعود، وقد ملك اليمن جميعه الآن شخص من العرب يسمى عبد الوهاب بن طاهر، واستوثق أمره بها.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم سبعة أذرع وستة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا.

(16/182)


[ما وقع من الحوادث سنة 861]
السنة الخامسة من سلطنة الملك الأشرف إينال العلائى على مصر وهى سنة إحدى وستين وثمانمائة:
فيها توفّى الأمير سيف الدين جانم بن عبد الله المؤيّدى أحد أمراء العشرات ورأس نوبة في يوم الخميس رابع المحرم، وقد جاوز السبعين من العمر، وكان أصله من مماليك الملك المؤيّد شيخ قبل سلطنته، وصار رأس نوبة السقاة بعد موت أستاذه المؤيّد، ثم تأمّر عشرة في دولة الملك الأشرف إينال، ثم صار من جملة رءوس النوب، فدام على ذلك إلى أن مات، وكان هينا لينا حشما- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير سيف الدين جرباش بن عبد الله الكريمى الظاهرى أمير سلاح بطالا بداره بسويقة الصاحب داخل القاهرة في ليلة السبت ثالث عشر المحرم، وقد شاخ وكبر سنّه حتى عجز عن الحركة إلا بعسر، ودفن بتربته التي أنشأها بالصحراء، وكان يعرف بقاشق، وكان أصله من مماليك الظاهر برقوق، أعتقه قبل واقعة الناصرى ومنطاش في سلطنته الأولى، هكذا ذكر لى من لفظه.
ثم صار سلاحدارا في دولة الناصر فرج، ثم أمير عشرة ورأس نوبة، ثم صار أمير طبلخاناه في دولة الملك المؤيّد شيخ، ثم أمير مائة ومقدّم ألف، ثم صار في دولة الأشرف برسباى حاجب الحجاب بالديار المصرية، بعد انتقال الأمير جقمق العلائى إلى الأمير آخورية الكبرى، بعد توجه قصروه من تمراز إلى نيابة طرابلس، بعد عزل إينال النّوروزى وقدومه إلى القاهرة أمير مائة ومقدّم ألف، كل ذلك في سنة ست وعشرين وثمانمائة، ثم نقله الأشرف إلى إمرة مجلس في يوم الاثنين خامس عشر شوال سنة تسع وعشرين، عوضا عن الأمير إينال الجكمى، وقد انتقل الجكمى إلى إمرة سلاح بعد انتقال الأتابك يشبك الساقى الأعرج إلى أتابكية العساكر، بعد موت الأتابك قجق، واستقرّ الأمير قرقماس الشّعبانى حاجب الحجاب بعد موت جرباش هذا، ثم ولى جرباش هذا نيابة طرابلس، بعد انتقال قصروه إلى نيابة حلب،

(16/183)


بعد عزل الأمير جارقطلو وقدومه إلى مصر أمير مائة ومقدّم ألف وأمير مجلس عوضا عن جرباش المذكور، فلم تطل مدة جرباش بطرابلس، وعزل عنها بالأمير طراباى الظاهرى، وقدم إلى القاهرة في سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة أمير مجلس على عادته أولا.
وقد انتقل جارقطلو عن إمرة مجلس إلى أتابكية العساكر بالديار المصرية، بعد موت الأتابك يشبك الساقى الأعرج، فلم تطل مدّة جرباش بالقاهرة، وقبض عليه، ونفى إلى ثعر دمياط بطّالا، فدام بالثغر دهرا طويلا إلى أن طلبه الملك الظاهر جقمق في أوائل سلطنته، وجعله أمير مجلس ثالث مرّة، عوضا عن الأمير يشبك السودونى المنتقل إلى إمرة سلاح، بعد انتقال الأمير آقبغا التمرازى إلى أتابكية العساكر بالديار المصرية بعد عصيان قرقماس الشّعبانى والقبض عليه وسجنه بالإسكندرية، وذلك في سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة، فدام على إمرة مجلس إلى سنة ثلاث وخمسين، فنقل إلى إمرة سلاح بعد موت الأمير تمراز القرمشى «1» .
وتولّى بعده إمرة مجلس تنم من عبد الرزّاق المؤيدى المعزول عن نيابة حلب، فلم يزل على ذلك إلى أن أخرج الملك المنصور عثمان إقطاعه إلى الأمير قراجا الخازندار الظاهرى- ووظيفته إمرة سلاح- إلى الأمير تنم المقدم ذكره، فلزم جرباش من يوم ذلك داره إلى أن مات، وكان رحمه الله تعالى وقورا في الدول، طالت أيامه في السعادة، ودام أميرا أكثر من خمسين سنة، بما فيها من العطلة، وكان منهمكا في اللذات التي تهواها النفوس مع عدم شهرته بالشجاعة، وذلك خرج الملوك لطلب الراحة- انتهى.
وتوفّى الأمير سيف الدين يشبك بن عبد الله حاجب حجّاب طرابلس في يوم الأربعاء ثالث المحرم، وكان من مماليك الأمير قانى باى البهلوان، وسعى بعد موت

(16/184)


أستاذه إلى أن ولى حجوبيّة طرابلس بالبذل، فلم تطل أيامه، ومات ولم تكن فيه أهلية لتشكر أفعاله أو تذمّ.
وتوفّى الأمير الطواشى الرومى زين الدين عبد اللطيف المنجكى ثم العثمانى، مقدّم المماليك السلطانية- كان- بطالا، فى ليلة الجمعة رابع عشرين صفر وقد أسنّ، وكان من خدّام الست فاطمة بنت الأمير منجك اليوسفى وعتيقها، ثم اتّصل بخدمة الأتابك ألطنبغا العثمانى، وبه عرف بالعثمانى، ثم صار من جمدارية السلطان الخاص «1» ، إلى أن ولّاه الملك الظاهر جقمق تقدمة المماليك السلطانية بعد القبض على الأمير الطواشى خشقدم اليشبكى «2» ، فدام على ذلك عدّة سنين، وحجّ مرتين أمير الركب الأوّل، ولما عاد من الثانية في سنة اثنتين وخمسين عزله السلطان بنائبه الأمير جوهر النّوروزى الحبشى، فدام بطالا إلى أن مات، وكان ديّنا خيّرا لا بأس به، رحمه الله تعالى.
وتوفّى قاضى القضاة سراج الدين عمر بن موسى الحمصى «3» الشافعى في صفر بطالا، وقد أناف على الثمانين، وكان مولده بحمص وبها نشأ وطلب العلم، وقدم القاهرة وحضر دروس السّراج البلقينى، وناب في الحكم عن ولده قاضى القضاة جلال الدين عبد الرحمن سنين كثيرة، ثم ولى القضاء بالوجه القبلى، ثم نقل إلى قضاء طرابلس، ثم قضاء حلب، ثم قضاء دمشق غير مرّة، ورشّح هو نفسه لقضاء الديار المصرية وكتابة السرّ بها فلم يقع له ذلك، ثم ولى في أواخر عمره تدريس مقام الإمام الشافعى، ثم عزل وأخرج إلى البلاد الشاميّة فمات بها، وكان يستحضر من فروع مذهبه طرفا، وله نظم بحسب الحال، وهو الذي كان نظم صداق كريمتى «4» على قاضى القضاة جلال الدين البلقينى أكثر من ثلاثمائة بيت- رحمه الله تعالى.

(16/185)


وتوفّى قاضى قضاة مكة وعالمها جلال الدين أبو السعادات محمد بن أبى البركات محمد بن أبى السعود محمد بن الحسين بن على بن أبى أحمد بن عطية بن ظهيرة «1» المكى المخزومى الشافعى بمكة، وهو قاض، فى تاسع صفر، ودفن من الغد.
وتولّى قضاء مكة بعده ابنه محب الدين محمد، وكان مولده في سلخ شهر ربيع الأول سنة خمس وتسعين وسبعمائة بمكة، وبها نشأ وتفقه بعلماء عصره، إلى أن برع فى عدة علوم، وشارك في عدة فنون، ونعت بعالم الحجاز، وتولى قضاء مكة غير مرة، وقد ذكرنا مشايخه وعدة وقائعه في تاريخنا «حوادث الدهور» ، وذكرنا أيضا مصنفاته، وكان له نظم جيد، ومما أنشدنى من لفظه لنفسه في القاضى كمال الدين ابن البارزى كاتب السّرّ الشريف بالديار المصرية: [السريع]
أبرزه الله بلا حاجب ... يحجبه عنا ولا حاجز
فكلّ فضل من جميع الورى ... مكتسب من ذلك البارزى
وتوفّى الأمير سيف الدين إينال بن عبد الله الأشرفى «2» الطويل أحد أمراء الخمسات، فى يوم الجمعة ثالث عشر جمادى الأولى- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير سيف الدين نوكار بن عبد الله الناصرى، أحد أمراء العشرات، والزّردكاش، فى أواخر جمادى الآخرة- مجردا إلى بلاد ابن قرمان- بمدينة غزة، وكان من مماليك الناصر فرج وتخومل من بعده، واحتاج إلى أن خدم في أبواب الأمراء، وقاسى خطوب الدهر ألوانا، إلى أن عاد إلى باب السلطان بعد موت الملك المؤيد شيخ وصار خاصكيا، وأقام على ذلك سنين كثيرة إلى أن أنعم عليه الملك الظاهر جقمق بإمرة عشرة بعد سؤال كثير، ثم صار حاجبا ثانيا، فدام على ذلك لا يلتفت إليه في الدول إلى أن ولّاه الملك الأشرف إينال الزردكاشية بعد موت جانبك الوالى، فاستمر على

(16/186)


ذلك إلى أن مات، وكان مهملا يعيش بين الأكابر بالدعابة والمضحكة، وليس فيه أهلية لحرب ولا ضرب، ولا لنوع من الأنواع سوى ما ذكرناه- رحمه الله.
وتوفّى قاضى القضاة ولى الدين محمد السنباطى «1» المالكى قاضى قضاة الديار المصرية فى يوم الجمعة عاشر شهر رجب، ودفن من يومه، وقد زاد سنه على السبعين، وكانت لديه فضيلة مع لين جانب وتدين، ومع هذا لم تشكر سيرته في القضاء؛ لسلامة باطنه، ولحواشيه «2» - رحمه الله تعالى.
وتوفّى شيخ الإسلام، علّامة زمانه كمال الدين محمد ابن الشيخ همام الدين عبد الواحد ابن القاضى حميد الدين «3» عبد الحميد «4» ابن القاضى سعد الدين مسعود الحنفى السيرامى الأصل «5» المصرى المولد والدار والوفاة، العالم المشهور بابن الهمام، فى يوم الجمعة سابع شهر رمضان، ودفن من يومه، وكانت جنازته مشهودة، ومات ولم يخلف بعده مثله فى الجمع بين علمى المنقول والمعقول، والدين والورع والعفة والوقار في سائر الدول، ومولده في سنة ثمان أو تسع وثمانين وسبعمائة بالقاهرة، وبها نشأ، واشتغل على علماء عصره إلى أن برع، وصار أعجوبة زمانه في علوم كثيرة بلا مدافعة، وولى مشيخة المدرسة الأشرفية برسباى من الأشرف قبل سنة ثلاثين وثمانمائة، ثم تركها رغبة منه، ودام ملازما للأشغال، وحج وجاور غير مرة، إلى أن ولّاه الملك الظاهر جقمق مشيخة خانقاه شيخون، واستمر بها مدة طويلة من السنين، ثم تركها أيضا وسافر إلى مكة، وقد قصد المقام بها إلى أن يموت، فلما حصل له ضعف في بدنه عاد إلى مصر

(16/187)


ولزم الفراش إلى أن مات، وقد ذكرنا من مصنفاته وأحواله ما هو أطول من هذا في تاريخنا «المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى» إذ هو محل الإطناب- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير سيف الدين جانبك بن عبد الله القرمانى «1» الظاهرى حاجب الحجاب بالديار المصرية، بعد عوده من تجريدة ابن قرمان بالقرب من منزلة الصالحية، فحمل إلى القاهرة ودفن بالقرافة الصغرى، فى يوم الجمعة ثانى عشر شوال، وقد أناف على الثمانين، وكان من عتقاء الملك الظاهر برقوق؛ ووقع له محن في الدولة الناصرية فرج إلى أن تأمر بعد الملك المؤيد شيخ عشرة، وصار من جملة معلمى أرمح؛ إلى أن نقله الملك الظاهر جقمق إلى إمرة طبلخاناه، وصار بعد ذلك رأس نوبة ثانيا، واستمر على ذلك إلى أن نقله الملك الأشرف إينال إلى إمرة مائة وتقدمه ألف، ثم ولّاه حجوبية الحجاب، ثم تجرّد من جملة من تجرد من الأمراء إلى بلاد ابن قرمان، فمات في عوده حسبما تقدم، وكان ساكنا عاقلا إلا أنه كان لا يتجمل في نفسه ولا في مركبه- رحمه الله تعالى.
وتوفى الأمير سيف الدين جكم بن عبد الله النّورى «2» المؤيدى، أحد أمراء العشرات ورأس نوبة بمدينة غزة، وهو عائد من تجريدة ابن قرمان في يوم الاثنين ثامن شوال، وقد قارب الستين، وكان من مماليك المؤيد شيخ، وتأمر في دولة الأشرف إينال عشرة وصار من جملة رءوس النوب، وكان من المهملين يعيش تحت ظلّ خچداشيته.
وتوفّى القاضى زين الدين أبو العدل قاسم ابن قاضى القضاة جلال الدين عبد الرحمن ابن شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقينى «3» الشافعى في يوم الأحد حادى عشرين شوال، وهو في عشر السبعين، وكان نشأ تحت كنف والده، غير أن اشتغاله كان

(16/188)


بالفقيرى، وناب في الحكم سنين، وتولّى نظر الجوالى، وكان فيه كرم أفقره في أواخر عمره، واحتاج منه إلى تحمل ديون والحاجة للناس، فكان حاله كقول القائل:
كم من فتى أفقره جوده ... وعاش في الناس عيش الذليل
فاشدد عرى مالك واستبقه ... فالبخل خير من سؤال البخيل
وتوفّى الأمير سيف الدين أزبك بن عبد الله الشّشمانى المؤيّدى أحد أمراء الخمسات في يوم السبت رابع عشرين ذى الحجة، وسنه نحو الثمانين، وكان أصله من مماليك الملك المؤيّد شيخ قبل سلطنته، وطالت أيامه في الجندية إلى أن تأمّر خمسة فى دولة الملك الأشرف إينال، ومات بعد سنين، وكان مكفوفا عن الناس إمّا لخيره أو لشره- رحمه الله تعالى.
وتوفّى خشكلدى الزينى عبد الرحمن بن الكويز أحد أمراء الطبلخاناه بدمشق، وكان أصله من مماليك صاحبنا الأمير زين الدين عبد الرحمن بن الكويز، ثم صار من جملة دواداريّة السلطان، ثم سعى في دوادارية السلطان بدمشق حتى وليها بمال بذله في ذلك، فلم تطل مدته، فعزل وقدم القاهرة، وسعى ثانيا إلى أن أعطى إمرة بدمشق، فتوجه إليها ودام بها إلى أن مات، وكانت لديه فضيلة في الفقه على قدر حاله- رحمه الله تعالى.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم سبعة أذرع وثمانية أصابع، مبلغ الزيادة عشرون ذراعا وإصبع واحد.

(16/189)


[ما وقع من الحوادث سنة 862]
السنة السادسة من سلطنة الملك الأشرف إينال العلائى على مصر وهى سنة اثنتين وستين وثمانمائة:
فيها توفّى القاضى شهاب الدين أحمد بن يوسف الشيرجى «1» الشافعى أحد نوّاب الحكم بالدّيار المصرية في يوم الجمعة رابع عشر المحرم، ودفن من يومه بعد صلاة الجمعة، وقد أناف عن الثمانين، وكان حضر دروس السّراج البلقينى، وله إلمام بعلم الفرائض، وناب في الحكم سنين، وأفتى ودرّس، وكان غير محبب إلى أصحابه.
وتوفّى الأمير سيف الدين أزبك بن عبد الله الأشرفى البواب، أحد أمراء العشرات ورأس نوبة، فى يوم الثلاثاء ثامن عشر المحرم، وأصله من مماليك الأشرف برسباى، ثم امتحن بعد موت أستاذه وحبس، ثم أطلق، وقدم القاهرة وتأمّر فى أول دولة الأشرف إينال خمسة، شريكا لأزبك الشّشمانى المقدم ذكر وفاته في السنة الخالية، فلما مات أزبك المذكور أنعم بنصيبه من الإقطاع على شريكه أزبك هذا لتتمّة إقطاعه إمرة عشرة، فعاش أزبك هذا بعد ذلك دون الشهر ومات، فكان حاله كالمثل السائر: «إلى أن يسعد المعثر فرغ عمره» .
وتوفّى القاضى علاء الدين على بن محمد بن آقبرس «2» الشافعى أحد نواب الحكم، فى يوم الأحد خامس عشر صفر بطالا، وهو في عشر السبعين، وكان مولده بالقاهرة، وبها نشأ، وتكسّب بعمل العنبر في حانوت بالعنبريين مدة سنين، ثم اشتغل بالعلم، وناب في الحكم، وصحب الملك الظاهر جقمق قبل سلطنته، فلما تسلطن قرّبه، أو هو قرّب نفسه، وولى نظر الأوقاف، ثم حسبة القاهرة «3» ، ثم نظر الأحباس، وتحرك له بعيض سعد،

(16/190)


إلا أنه تبهدل غير مرّة من السلطان لسوء سيرته، فإنه لما ولى ما ولى ما عفّ ولا كفّ، بل مدّ يدا للأخذ، إلى أن ساءت القالة فيه، وانحط قدره لذلك كثيرا، فلما مات الملك الظاهر امتحن وصودر، وتخومل، ولزم داره إلى أن مات، وكان له نظم أحسنه في الهجو، ومما هجا به عبد الرحمن ابن الدّيرى ناظر القدس [الطويل]
أقول لمن وافى إلى القدس زائرا ... وصلت إلى الأقصى من الفضل والخير
تقرّب إلى مولاك فيه عبادة ... وبع بيع الرهبان وابعد عن الدّيرى
وتوفّى عبد الكريم شيخ مقام الشيخ أحمد البدوى بظاهر القاهرة في صبيحة ثامن عشر صفر، وجد ميتا، وقد اختلفت الأقوال في موتته، فمنهم من قال: تردّى من سطح وهو ثمل، ومنهم من قال: دسّ عليه شيخ العرب حسن بن بغداد من قتله، وهو الأشهر، وأنا أقول: قتله سرّ الشيخ أحمد البدوى لانهماكه على المعاصى وسوء سيرته، فأراح الله الشيخ أحمد البدوى منه ولله الحمد- وتولى عوضه شيخ المقام صبىّ أقاربه دون البلوغ.
وتوفّى الشيخ العارف بالله القدوة المسلك «1» مدين الصوفى المالكى بزاويته بخط المقس «2» بظاهر القاهرة، فى يوم الأربعاء تاسع شهر ربيع الأول بزاويته، وكان له شهرة عظيمة، وللناس فيه اعتقاد ومحبة، لم يتفق لى مجالسته، غير أننى رأيته غير مرّة- رحمه الله ونفعنا ببركته.
وتوفّى الأمير جانم بن عبد الله الأشرفى البهلوان، أحد أمراء العشرات ورأس نوبة في يوم الاثنين سادس شهر ربيع الآخر، ودفن من يومه، وهو في الكهولية، وكان من مماليك الملك الأشرف برسباى وخاصكيته، وتأمر بعد أمور في الدّولة الأشرفية إينال، وكان مليح الشكل مشهورا بالشجاعة والإقدام- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير سيف الدين طوخ بن عبد الله من تمراز الناصرى أمير مجلس بطّالا

(16/191)


بعد مرض طويل، فى ليلة الثلاثاء سابع شهر ربيع الآخر، ودفن من الغد، وكان من مماليك الناصر فرج، وتأمر في أوّل الدولة الأشرفية برسباى عشرة، وصار من جملة رءوس النّوب «1» ، وكان يعرف بينى بازق، أى غليظ الرّقبة، وكان قليل الخير والشرّ مكفوفا عن الناس، ليس له كلمة في الدّولة، وكان السلطان أنعم بإقطاعه قبل موته على الأمير برسباى البجاسى حاجب الحجاب- ووظيفته إمرة مجلس- على الأمير جرباش المحمدى المعروف بكرد الأمير آخور.
وتوفّى القاضى شهاب الدين أحمد الدماصى «2» الحنفى قاضى بولاق، وكان يعرف بقرقماس، فى يوم الخميس سادس عشر شهر ربيع الآخر، ودفن من الغد- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير سيف الدين سودون بن عبد الله النّوروزى المعروف بالسلاحدار، نائب قلعة الجبل بها، فى ليلة الأحد سادس عشرين شهر ربيع الآخر، ودفن من الغد، وله نحو سبعين سنه، وكان من مماليك نوروز الحافظى نائب الشام، وصار بعد موته سلاحدارا في الدولة الأشرفية برسباى، ثم تأمر عشرة في دولة الملك الظاهر جقمق، وصار من جملة رءوس النوب، ثم جعله الملك الأشرف إينال نائب قلعة الجبل بعد موت قانى باى الناصرى الأعمش، فدام في نيابة القلعة إلى أن مات، وكان لا بأس به، لولا إسراف كان فيه على نفسه- عفا الله عنه.
وتوفّى الأستاذ المادح المغنى ناصر الدين محمد المازونى «3» الأصل، المصرى، أحد الأفراد في إنشاد القصيد وعمل السماع، فى ليلة الجمعة ثامن جمادى الأولى، بعد أن ابتلى بمرض الفالج، وبطل نصفه وسكت حسه، وكان من عجائب الدنيا في

(16/192)


فنونه، كان صوته صوتا كاملا أوازاوئما «1» ، مع شجاوة ونداوة وحلاوة، كان رأسا فى إنشاد القصيد على الضروب والحدود، سافر غير مرة إلى الحجاز حاديا في خدمة الأكابر، وكان له تسبيح هائل على المآذن؛ ففى هذه الثلاثة كان إليه المنتهى، وكان يشارك في الموسيقى جيدا، ويعظ في عقود الأنكحة، وليس فيه بالماهر، وفي الجملة إنه لم يخلف بعد مثله، وفي شهرته ما يغنى عن الإطناب في ذكره.
وتوفّى الشرفى موسى ابن الجمالى يوسف بن الصفى الكركى ناظر جيش طرابلس بها، فى ليلة الأحد ثامن شهر رجب «2» ، وخلف مالا كثيرا وعدة أولاد، وكان من مساوئ الدهر دميم الخلق مذموم الخلق.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم العلّامة شرف الدين يحيى [بن صالح بن على بن محمد ابن عقيل] «3» العجيسى المغربى الأصل والمولد والمنشأ، المصرى الدار والوفاة، المالكى، فى يوم الأحد سابع عشرين شعبان، ومولده في سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة، وكان إماما فى النحو والعربية ومعرفة تاريخ الصحابة، وله مشاركة في فنون كثيرة، مع حدة كانت فيه وسوء خلق- رحمه الله.
وتوفّى الخليفة أمير المؤمنين القائم بأمر الله أبو البقاء حمزة ابن المتوكل على الله أبى عبد الله محمد العباسى المصرى «4» بثغر الإسكندرية مخلوعا من الخلافة، فى سابع عشر شوال، وقد مرّ ذكر نسبه في تراجم أسلافه في عدة مواطن من مصنفاتنا، مثل «مورد اللطافة فى ذكر من ولى السلطنة والخلافة» وغيره، وكان القائم بأمر الله هذا ولى الخلافة بعد موت أخيه المستكفى سليمان بغير عهد- اختاره الملك الظاهر جقمق- فدام في الخلافة إلى أن خرج

(16/193)


الأتابك إينال العلائى صاحب الترجمة على الملك المنصور عثمان بن الملك الظاهر جقمق، فقام الخليفة هذا مع إينال على الملك المنصور عثمان أشد قيام، فلما تسلطن إينال عرف له ذلك، ورفع قدره ومحله إلى الغاية، ونال في أيامه من الحرمة والوجاهة ما لا يقاربه أحد الخلفاء من أسلافه، فاتفق بعد ذلك ركوب جماعة من صغار المماليك الظاهرية على الأشرف إينال، وطلبوه فحضر عندهم، ووافاهم أفضل موافاة، فلم ينتج أمرهم، وسكنت الفتنة في الحال، وقد ذكرناها في أصل هذه الترجمة مفصلة، فلما سكن الأمر طلبه السلطان إلى القلعة، ووبخه على فعله وحبسه بالبحرة بقلعة الجبل، وخلعه من الخلافة بأخيه المستنجد يوسف، ثم أرسله إلى سجن الإسكندرية فحبس به مدة ثم أطلق من السجن، ورسم له بأن يسكن حيث شاء من الثغر، فسكن به إلى أن مات- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الحاج خليل المدعو قانى باى اليوسفى المهمندار محتسب القاهرة بها، فى عشرين شوال، وهو مناهز السبعين «1» ، وكان أصله من مماليك قرايوسف بن قرامحمد، صاحب بغداد على ما زعم، ثم قدم القاهرة في دولة الأشرف برسباى، وسأله الأشرف عن أصله وجنسه فقال: أنا من مماليك قرايوسف، جنسى چاركسى، واسمى الأصلى قانى باى، فمشى ما قاله على الأشرف؛ لضعف نقده، وعدم معرفته، وسماه قانى باى اليوسفى، وجعله خاصكيا؛ ثم امتحن بعد موت الأشرف برسباى، وحبس إلى أن عاد إلى رتبته في الدولة الأشرفية إينال، وجعله مهمندارا، ثم محتسبا إلى أن مات.
وتوفّى يار على بن نصر الله العجمى الخراسانى الطويل «2» ، محتسب القاهرة بطالا، بعد مرض طويل، فى سادس عشرين ذى القعدة، ودفن من الغد، وسنه نيف على الثمانين، وكان هو يدّعى أكثر من ذلك، وليس بصحيح، وكان أصله فقيرا مكديا على عادة فقراء العجم، وخدم الأمير سودون من عبد الرحمن نائب الشام لما كان

(16/194)


هاربا من الملك المؤيّد شيخ بالعراق، فلما عاد سودون إلى رتبته بالديار المصرية، وصار دوادارا كبيرا في دولة الأشرف برسباى، قدم عليه يار عليه هذا ماشيا على قدميه من بلاد العجم، فأحسن إليه سودون، ولما عمّر مدرسته بخانقاه سرياقوس جعله شيخا، ودام على ذلك وقد حسنت حاله، وركب فرسا بحسب الحال، إلى أن تسلطن الملك الظاهر جقمق، فتحرك سعده لا لأمر أوجب ذلك بل هى حظوظ وأرزاق، تصل لكل أحد «1» .
ولا زال جقمق يرقّيه حتى ولّاه حسبة القاهرة غير مرّة، ثم نكبه وصادره، وأمر بنفيه؛ لسوء سيرته، ولقبيح سريرته، فإنه لما ولى حسبة القاهرة سار فيها أقبح سيرة، وفتح له أبواب الظلم والأخذ، فما عفّ ولا كفّ، وجدّد في الحسبة مظالم تذكر به، وإثمها وإثم من يعلم بها عليه إلى يوم القيامة، وصار يأخذ من هذه المظالم ويخدم الملوك بها، فانظر إلى حال هذا المسكين «2» الذي ظلم نفسه، وظلم الناس لغيره، فلا قوّة إلا بالله، اللهم اغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عن سواك.
وتوفّى الشيخ المعتقد المجذوب إبراهيم الزيات «3» بحيث هو إقامته بقنطرة قديدار «4» ، ودفن من يومه، وهو اليوم الذي مات فيه الشيخ على المحتسب المقدّم ذكره، وكان للناس فيه اعتقاد، ويقصد للزيارة، وكانت جذبته مطبقة، لا يصحو، ويكثر من أكل الموز- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير الكبير سيف الدين تنبك [بن عبد الله] «5» البردبكى

(16/195)


[الظاهرى] «1» أتابك العساكر بالديار المصرية، فى يوم الاثنين رابع عشرين ذى القعدة، ودفن من الغد، وقد ناهز التسعين من العمر، لأنه كان من مماليك الظاهر برقوق، وتزوج في أيامه، وكان من إنيات الوالد، وترقّى في أوائل دولة الأشرف برسباى إلى أن صار أمير عشرة- أو في أيام دولة الملك المظفر أحمد- ومن جملة رءوس النوب، ثم صار في سنة سبع وعشرين نائب قلعة الجبل بعد تغرى برمش البهسنى «2» التركمانى، بحكم انتقاله إلى إمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية، وأنعم على تنبك بإمرة طبلخاناه عوضا عن تغرى برمش المذكور أيضا، فدام على ذلك مدة طويلة إلى أن نقل إلى إمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية في أواخر الدولة الأشرفية.
ثم ولى نيابة قلعة الجبل ثانيا في أوائل دولة الملك الظاهر جقمق، وهو أمير مائة ومقدم ألف، ثم صار أمير حاج المحمل، ثم ولى حجوبية الحجاب بالديار المصرية، ودام على ذلك سنين كثيرة، وحجّ أمير حاج المحمل غير مرّة، إلى أن أمسكه السلطان الظاهر ونفاه إلى ثغر دمياط، وأنعم بإقطاعه وحجوبيته على الأمير خشقدم الناصرى المؤيّدى، أحد أمراء الألوف بدمشق، فأقام بدمياط مدّة.
ثم طلبه الملك الظاهر إلى الديار المصرية، ورسم له بالمشى في الخدمة السلطانية، فمشى في الخدمة أياما كثيرة من غير إقطاع، إلى أن مات الشهابى أحمد بن على بن إينال أحد مقدمى الألوف بالديار المصرية، فأنعم بإقطاعه على تنبك هذا، ثم صار أمير مجلس في دولة الملك المنصور عثمان بعد انتقال تنم المؤيدى إلى إمرة سلاح، بعد جرباش الكريمى بحكم لزومه بيته لكبر سنه وضعف بدنه، فلم تطل أيامه.
واستقرّ أمير سلاح في ثانى يوم من سلطنة الملك الأشرف إينال، عوضا عن تنم المذكور، بحكم القبض عليه وحبسه بسجن الإسكندرية، فلم يتمّ له ذلك غير يوم واحد وأصبح استقر أتابك العساكر لما كثرت القالة في تولية الشهابى أحمد ابن الملك الأشرف

(16/196)


إينال أتابك العساكر عوضا عن أبيه، فعزله وجعله من جملة أمراء الألوف واستقر تنبك هذا عوضه؛ فدام في الأتابكية مدة طويلة إلى أن مات في التاريخ المذكور، وتولّى المقام الشهابى أحمد عنه الأتابكية ثانيا.
وكان أمر تنبك هذا في ولايته الأتابكية غريبة، وهو أن الذي أخذ عنه ولّى عنه، ولعل هذا لم يقع لأحد أبدا، وكان تنبك المذكور رجلا ديّنا خيرا، هيّنا ليّنا، سليم الفطرة، شحيحا «1» ، لا يتجمل في بركه ولا حواشيه- رحمه الله تعالى.
وتوفّى عظيم الدّولة الصاحب جمال الدين أبو المحاسن يوسف- مدبر المملكة، وصاحب وظيفتى نظر الجيش والخاص معا- ابن الرئيس كريم الدين عبد الكريم ناظر الخاص ابن سعد الدين بركة المعروف بابن كاتب جكم، فى ليلة الخميس- وقت التسبيح- الثامن عشر من ذى الحجة، ودفن من الغد بالصحراء في تربته التي أنشأها، وكانت جنازته مشهودة إلى الغاية، وحضر المقام الشهابى أحمد أتابك العساكر الصلاة عليه بمصلاة باب النصر، وحضر دفنه أيضا، ومات وسنه زيادة على أربعين سنة؛ لأن مولده في سنة تسع عشرة وثمانمائة، هكذا كتب لى بخطه- رحمه الله.
ومات ولم يخلف بعده مثله رئاسة وسؤددا بلا مدافعة، وهو آخر من أدركنا من رؤساء الديار المصرية؛ لأنه كان فردا في معناه، لعظم ما ناله من السعادة والوجاهة ووفور الحرمة، ونفوذ الكلمة والعظمة الزائدة، وكثرة ترداد الناس إليه، وأعيان الدولة وأكابرها إلى بابه، بل الوقوف في خدمته، وهذا شىء لم ينله غيره في الدولة التركية، مع علمى بمنزلة كريم الدين الكبير عند الناصر محمد بن قلاوون، وبما ناله سعد الدين إبراهيم بن غراب في الدولة الناصرية فرج، ثم بعظمة جمال الدين يوسف البيرى الأستادار في دولة الناصر فرج أيضا، ثم بخصوصية عبد الباسط بن خليل الدمشقى في دولة الأشرف برسباى، ومع هذا كله ليس فيهم أحد وصل إلى ما وصل إليه جمال

(16/197)


الدين هذا «1» ، وقد برهنّا عما قلناه في تاريخنا «حوادث الدهور» ، وأيضا في تاريخنا «المنهل الصافى» ، فلينظر هناك، وليس هذا الموطن محل إطناب- رحمه الله تعالى.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم سبعة أذرع وثمانية أصابع، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا.

(16/198)


[ما وقع من الحوادث سنة 863]
السنة السابعة من سلطنة الملك الأشرف على مصر وهى سنة ثلاث وستين وثمانمائة:
فيها توفّى الأمير يشبك بن عبد الله النّوروزى نائب طرابلس- كان- بطالا بالقدس، فى يوم الاثنين تاسع المحرم، وهو في عشر السبعين تخمينا، وهو من عتقاء الأمير نوروز الحافظى.
وتنقّل بعد موت أستاذه في خدم الأمراء، وقاسى خطوب الدهر ألوانا، إلى أن صار في أواخر دولة الأشرف برسباى من صغار أمراء دمشق، ثم تنقل في دولة الملك الظاهر جقمق إلى أن صار حاجب حجاب طرابلس بالبذل، ثم نقل إلى حجوبية دمشق، ثم إلى نيابة طرابلس بعد عزل يشبك الصوفى عنها؛ كل ذلك ببذل المال، فدام على نيابة طرابلس إلى أن أمسكه الملك الأشرف إينال في حدود سنة ستين، وحبسه بقلعة المرقب إلى أن أطلقه في سنة اثنتين وستين وثمانمائة، ورسم له بالتوجه إلى القدس بطالا، فاستمر بالقدس إلى أن مات في التاريخ المقدم ذكره.
وكان وضيعا في الدول، لم تسبق له رئاسة بالدولة المصرية، حتى إنه لم يخدم في باب سلطان أبدا، بل كان يخدم بأبواب الأمراء، إلى كان من أمره ما كان، وكان مع ذلك عنده طيش وخفة وتكبر، ولم أدر لأى معنى من المعانى- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم العامل المحقق الفقيه الصوفى شمس الدين أبو عبد الله محمد ابن عبد الله بن خليل البلاطنسى «1» الشافعى؛ نزيل دمشق بها في ليلة سابع عشرين صفر، ودفن في صبيحة يوم الأربعاء، وكانت جنازته مشهودة، وكثر أسف الناس عليه، ومولده ببلاطنس من أعمال طرابلس، بعد سنة تسعين وسبعمائة، ونشأ بها، وقرأ العربية واشتغل، ثم قدم طرابلس، ولازم الشيخ محمد بن زهرة وبه تفقّه، وأخذ

(16/199)


الأصول عن الشيخ سراج الدين، وقرأ الحديث أيضا بطرابلس على ابن البدر، ثم رحل إلى دمشق قبل سنة عشرين، واشتغل بها على العلماء، ثم عاد إلى طرابلس.
ثم قدم إلى دمشق ثانيا بأهله واستوطنها ولازم علّامة زمانه ووحيد دهره الشيخ علاء الدين محمد البخارى الحنفى، وأخذ عنه فنونا كثيرة، إلى أن برع في الفقه والتصوف، وجلس للإفادة والتدريس والأشغال إلى أن مات، وكان قوّالا بالحق، قائما في أمر الملهوفين، لا تأخذه في الله لومة لائم، وقد استوعبنا من أحواله نبذة كبيرة فى تاريخنا «الحوادث» وغيره- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير سيف الدين يشبك بن عبد الله من جانبك المؤيدى الصوفى أتابك دمشق بها، فى يوم الثلاثاء سابع عشرين صفر وهو اليوم الذي مات فيه البلاطنسى المقدم ذكره، وقد ناهز الستين من العمر، كان من صغار مماليك الملك المؤيّد شيخ، وصار خاصكيا بعد موت أستاذه، وامتحن في دولة الملك الأشرف برسباى بالضرب والعصر والنفى؛ بسبب الأتابك جانبك الصوفى.
ثم عاد بعد سنين إلى رتبته، وصار خاصكيا على عادته إلى أن تأمّر عشرة في دولة الملك الظاهر جقمق، وصار من جملة رءوس النوب، وسافر إلى مكة مقدّم المماليك السلطانية بمكة، ثم عاد إلى القاهرة، ودام بها مدّة، ثم نفى إلى حلب بعد سنة خمسين وثمانمائة، ثم نقله الملك الظاهر جقمق إلى إمرة مائة وتقدمة ألف بحلب، ثم نقله بعد ذلك إلى نيابة حماة ببذل المال، ثم إلى نيابة طرابلس كذلك، بعد انتقال الأمير برسباى الناصرى إلى نيابة حلب في سنة اثنتين وخمسين، فدام على نيابة طرابلس إلى سنة أربع وخمسين، فطلب إلى القاهرة، فلما حضر أمسكه السلطان الملك الظاهر، وأرسله إلى دمياط بطالا، ثم نقل بعد مدّة من دمياط إلى سجن الإسكندرية؛ لأمر بلغ السلطان عنه، فلم تظل مدّته بسجن الإسكندرية وأطلق وأرسل إلى دمياط ثانيا، ثم نقل إلى القدس، ثم طلب إلى الديار المصرية، فأنعم عليه بأتابكية العساكر بدمشق، بعد القبض على الأتابك خيربك المؤيدى الأجرود.

(16/200)


فدام يشبك هذا على أتابكية دمشق إلى أن حجّ أمير حاج المحمل الشامى في سنة اثنتين وستين، وعاد إلى دمشق، ومات بعد أيّام، وكان رجلا طوالا، حسن الشكل، حلو اللسان، بعيد الإحسان، عادلا في الظاهر، ظالما في الباطن، متواضعا لمن كانت حاجته إليه، مترفّعا على من احتاج إليه، كثير الخدع والتّملّق لأصحاب الشّوكة، بألف وجه وألف لسان، مع كثرة أيمان الله والطلاق، وشحّ وبخل.
وتوفّى الشيخ بهاء الدين أحمد بن على التّتائى «1» الأنصارى الشافعى نزيل مكّة بها فى ليلة الثلاثاء سابع عشرين صفر، وحضرت أنا الصلاة عليه بالحرم بعد صلاة الصّبح، ودفن بالمعلاة، وهو أخو القاضى شرف الدين موسى الأنصارى الأكبر.
كان مولده بتتا- قرية بالمنوفية بالوجه البحرى من أعمال القاهرة- فى سنة ثمان وثمانمائة، وكان فيه محاسن ومكارم أخلاق، وخط منسوب، وفضيلة- رحمه الله تعالى. قلت: وكانت وفاة بهاء الدين هذا ويشبك الصوفى والبلاطنسى المقدّم ذكرهما فى ليلة واحدة، وهذا من النوادر- رحمهم الله.
وتتا بتاء مثناة مكسورة وتاء مثناة أيضا مفتوحة، وبعدهما ألف ممدودة.
وتوفّى الأمير سيف الدين قانى باى بن عبد الله الحمزاوى نائب دمشق بها فى يوم الأربعاء ثالث شهر ربيع الآخر، وقد قارب الثمانين، ودفن من الغد في يوم الخميس، وكان أصله من مماليك «2» سودون الحمزاوى الظاهرى الدّوادار، ثم خدم بعد موته عند الوالد هو وجماعة كثيرة من خچداشيته مدّة طويلة، ثم صار في خدمة الملك المؤيّد شيخ المحمودى قبل سلطنته، فلما تسلطن أمّره عشرة، ثم صار أمير طبلخاناه، ثم صار أمير مائة ومقدّم ألف بعد موت الملك المؤيّد شيخ، وتولّى نيابة الغيبة بالدّيار المصريّة للملك المظفر أحمد بن شيخ لما سافر مع الأتابك ططر إلى دمشق، ثم قبض عليه الملك الظاهر ططر لمّا عاد من دمشق وحبسه مدّة، إلى أن أطلقه الملك

(16/201)


برسباى، وجعله أتابك دمشق، ثم طلبه بعد سنين إلى الدّيار المصريّة، وجعله بها أمير مائة ومقدّم ألف.
واستقرّ الأمير تغرى بردى المحمودى بعده أتابك دمشق، فدام قانى باى بالقاهرة إلى أن ولّاه الأشرف نيابة حماة بعد انتقال الأمير جلبّان إلى نيابة طرابلس، بعد موت الأتابك طرباى في سنة سبع وثلاثين، ثم نقل بعد مدّة إلى نيابة طرابلس بعد الأمير جلبّان أيضا، بحكم انتقاله إلى نيابة حلب بعد عصيان تغرى برمش [التركمانى البهسنى] «1» وخروجه عن الطاعة في سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة، فلم تطل مدته بها.
ونقل إلى نيابة حلب بعد انتقال جلبّان أيضا إلى نيابة دمشق بعد موت الأتابك آقبغا التّمرازى في سنة ثلاث وأربعين وثمانمائة، فدام في نيابة حلب إلى سنة ثمان وأربعين وثمانمائة، فطلبه الملك الظاهر جقمق إلى الديار المصرية، وعزله عن نيابة حلب بالأمير قانى باى البهلوان الناصرى، وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية، عوضا عن الأمير شادبك الجكمى المتولى نيابة حماة بعد انتقال قانى باى البهلوان المقدّم ذكره إلى نيابة حلب.
فاستمرّ قانى باى الحمزاوى من أمراء الدّيار المصريّة إلى أن أعاده الملك الظاهر جقمق ثانيا إلى نيابة حلب، بعد عزل الأمير تنم من عبد الرزّاق المؤيّدى وقدومه إلى مصر على إقطاع قانى باى هذا، فدام في نيابته هذه على حلب إلى أن نقله الملك الأشرف إينال إلى نيابة دمشق بعد موت الأمير جلبّان في سنة ستين وثمانمائة.
فاستمرّ على نيابة دمشق إلى أن مات بها، وهو عاص على السلطنة في الباطن، مقيم على الطاعة في الظاهر.
وقد وقع في أمر قانى باى هذا غرائب منها: أنه من يوم خرج من مصر إلى ولاية حلب ثانيا في دولة الملك الظاهر جقمق عصى على السّلطان في الباطن، وعزم على أنّه لا يعود إلى مصر أبدا، فلما مات الظاهر وتسلطن ابنه المنصور عثمان، ثم الأشرف

(16/202)


إينال قوى أمر قانى باى هذا بحلب، وفشا أمره عند كل أحد، فلم يكشف الأشرف إينال ستر التغافل بينه وبين قانى باى المذكور، بل صار كل منهما يتجاهل على الآخر، فذاك يظهر الطاعة وامتثال المراسيم من غير أن يطأ بساط السلطان، أو يحضر إلى القاهرة، وهذا يرضى منه بذلك، ويقول: هذا داخل في طاعتى، ولا يرسل خلفه أبدا، بل يغالطه، حتى لو أراد قانى باى الحضور إلى القاهرة مامكنه إينال؛ لمعرفته منه أن ذلك امتحان، وصار كل منهما يترقب موت الآخر إلى أن مات قانى باى قبل، وولّى الأشرف إينال عوضه في نيابة دمشق الأمير جانم الأشرفى.
ومن الغرائب التي وقعت له أيضا أن قانى باى هذا لم يل ولاية بلد مثل حماة وطرابلس حلب والشام إلا بعد الأمير جلبّان، مع طول مدّة جلبّان في نياباته الشّاميّة أزيد من ثلاثين سنة، فهذا من النوادر الغريبة، كون أن قانى باى يعزل عن نيابة حلب ويصير أميرا بمصر مدّة سنين وبلى حلب بعده غير واحد، ثم يعود إلى نيابة حلب، ويقيم بها إلى أن ينتقل منها إلى نيابة الشام «1» بعد موت جلبّان، كما انتقل قبل ذلك بعده في كل بلد، فهذا هو الاتفاق العجيب.
وتوفّى الأمير شرف الدين عيسى بن عمر الهوارى أمير عرب هوارة ببلاد الصعيد فى ليلة الخميس رابع شهر ربيع الآخر، بعد عوده من الحج، وولى بعده ابنه، ثم عزل بعد أمور، وكان عيسى هذا مليح الشكل، ديّنا خيرا بالنسبة إلى أبناء جنسه، وله مشاركة بحسب الحال، ويتفقه على مذهب الإمام مالك- رضى الله عنه.
وتوفّى الشيخ الإمام الفقيه العالم أبو عبد الله محمد بن سليمان بن داود الجزولى «2» المغربى المالكى نزيل مكة، بها في يوم الأحد ثامن عشر شهر ربيع الآخر، وحضرت الصلاة عليه بحرم مكة، ودفن بالمعلاة، وكان مولده في سنة سبع وثمانمائة بجزولة من بلاد

(16/203)


المغرب، وكان فقيها عالما بفروع مذهبه، عارفا بالنحو، مشاركا في التفسير والحديث، وسمع ببلاده أشياء كثيرة، وحدّث ببعضها في مكة، ودرّس وأفتى، وانتفع أهل مكة بدروسه، وكان كريم النفس بخلاف المغاربة- رحمه الله تعالى.
وتوفّى القاضى محبّ الدين أبو البركات محمد بن عبد الرحيم الهيتمى «1» الشافعى، أحد نوّاب الحكم الشافعية بالديار المصرية، في يوم الثلاثاء ثامن جمادى الأولى، وحضرت الصلاة عليه بحرم مكة، ودفن بالمعلاة، وقد زاد عمره على الستين، وكان فقيها نحويا، مشاركا في فنون كثيرة، كان يحفظ التوضيح لابن هشام في النحو، وكان مستقيم الذهن، جيد الذكاء، ناب في الحكم [بالديار المصرية] «2» أزيد من ثلاثين سنة، ودرّس وخطب، وجاور بمكة غير مرّة إلى أن مات في مجاورته هذه الأخيرة- رحمه الله تعالى.
وتوفّى القاضى ناصر الدين محمد بن النبراوى «3» الحنفى أحد نواب الحكم بالقاهرة، فى يوم الثلاثاء تاسع عشرين جمادى الأولى، وكان عاريا من العلم، عارفا بصناعة القضاء.
وتوفّى القاضى محبّ الدين محمد ابن الإمام شرف الدين عثمان بن سليمان بن رسول ابن أمير يوسف بن خليل بن نوح الكرادى «4» - بفتح الراء المهملة- القرمشى الأصل، الحنفى، المعروف بابن الأشقر، شيخ شيوخ خانقاه سرياقوس، ثم ناظر الجيوش المنصورة بالديار المصرية، ثم كاتب السّر بها، فى يوم الثلاثاء ثانى عشر شهر رجب بالقاهرة بطّالا، ودفن من الغد بتربته بالصحراء خارج القاهرة، وكانت وفاته بعد عزله من كتابة السّر بشهرين، وبعد وفاة ولده إبراهيم بدون الشهر.
وكان مولده بالقاهرة قبل سنة ثمانين، ونشأ بها واشتغل في مبدأ أمره قليلا، ثم

(16/204)


ولى مشيخة خانقاه سرياقوس في سنة أربع عشرة وثمانمائة، ثم بعد سنين كثيرة ولى كتابة السّرّ بمصر في دولة الملك الأشرف برسباى، عوضا عن القاضى كمال الدين بن البارزى، بحكم عزله في رجب سنة تسع وثلاثين، وباشر الوظيفة إلى أن عزل عنها بالقاضى صلاح الدين بن نصر الله في ذى الحجة من سنة أربعين، فلزم داره بطالا، إلى أن ولّاه الملك الظاهر جقمق ناظر الجيوش المنصورة عوضا عن الزينى عبد الباسط بحكم القبض عليه ومصادرته في سنة اثنتين وأربعين، ثم عزل عن وظيفة نظر الجيش غير مرّة، ثم ولى كتابة السر ثانيا بعد وفاة القاضى كمال الدين بن البارزى في سنة ست وخمسين، فباشر الوظيفة إلى أن عزل عنها بالقاضى محب الدين بن الشّحنة، ثم أعيد إليها بعد أشهر، ودام بها مدّة طويلة إلى أن عزل عنها ثانيا بابن الشّحنة في سنة ثلاث وستين وثمانمائة، ومات بعد ذلك بشهرين حسب ما تقدم ذكره، وكان معدودا من رؤساء الديار المصرية، وكان عنده حشمة وأدب وتواضع ومحاضرة حسنة، إلا أنه كان رأسا في البخل- رحمه الله تعالى.
وتوفّى القاضى محب الدين محمد ابن القاضى ناصر الدين محمد الفاقوسى أحد أعيان موقعى الدّست بالديار المصرية، فى ليلة الاثنين خامس عشرين شهر رجب- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير سيف الدين خيربك بن عبد الله المؤيّدى الأشقر الأمير آخور الثانى، فى يوم السبت مستهل شعبان [وقد جاوز السبعين] «1» وكان من مماليك المؤيّد شيخ، صار خاصّكيّا في دولة الملك الظاهر جقمق، ومن جملة الدّوادارية الصّغار، إلى أن أنعم عليه بإمرة عشرة، بعد مسك جانبك المحمودى المؤيّدى، وجعله جقمق من جملة رءوس النوب، وحجّ أمير الركب الأول، ثم نقل إلى الأمير آخوريّة الثانية في أوائل دولة الملك الأشرف إينال، عوضا عن سنقر العائق الظاهرى، فباشر الوظيفة بغير حرمة،

(16/205)


وصار فيها كل شىء إلى أن مات، وتولىّ الأمير يلباى الإينالى المؤيّدى الأمير آخورية الثانية من بعده.
وكان خيربك هذا كثير الفتن بين الطوائف، وليس عنده همّة لإثارة الحرب إلا بالكلام.
وتوفّى الإمام شهاب الدين أحمد الإخميمى أحد أئمة السلطان في يوم السبت تاسع عشرين شعبان «1» - رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير زين الدين قاسم بن جمعة القساسى الحلبى نائب قلعة حلب بها في شهر رمضان، وكان ولى قبل ذلك حجوبية حلب وغيرها، الجميع بالبذل.
وتوفّى القاضى معين الدين عبد اللطيف بن أبى بكر [بن سليمان سبط] «2» ابن العجمى نائب كاتب السر بالديار المصرية، يوم الجمعة رابع شوال وعمره نيف عن خمسين سنة، «3» وكان ولى في الدولة الأشرفية كتابة سر حلب، ثم ولى نيابة كتابة السرّ بمصر بعد وفاة أبيه القاضى شرف الدين إلى أن مات، وكان هو القائم بأعباء ديوان الإنشاء.
لمعرفته بصناعة الإنشاء، ولما فيه من الفضيلة- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير سيف الدين سودون بن عبد الله من سيدى بك الناصرى القرمانى أتابك حلب بطريق الحج في شوال، وكان من مماليك الناصر فرج، وانحط قدره، وخدم في أبواب الأمراء إلى أن صار خاصكيا في دولة الملك الظاهر ططر، ثم صار ساقيا في دولة الملك الظاهر جقمق، ثم تأمّر عشرة، ثم نقل إلى تقدمه ألف بحلب، ثم صار أتابكا في دولة الأشرف إينال، ثم نقل إلى أتابكية طرابلس، ثم أعيد بعد مدة إلى أتابكية حلب إلى

(16/206)


أن مات، وكان مهملا مسرفا على نفسه، وعنده فشار كبير «1» ومجازفات في كلامه- رحمه الله.
وتوفّى الشيخ الإمام الفقيه الواعظ الصوفى شمس الدين محمد الحموى الأصل الحلبى الشافعى المعروف بابن الشماع، فى ذى القعدة بالمدينة الشريفة قاصدا الحج، ودفن بالمدينة يوم دخول الحاج الشامى إليها، وكان حلو اللسان، مليح الشكل، طلق العبارة والمحاضرة، ولكلامه طلاوة ورونق وموقع في النفوس- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير سيف الدين قانى باى المؤيدى المعروف بقراسقل أحد أمراء العشرات بمدينة طرابلس في توجهه من الديار المصرية في البحر إلى الجون «2» صحبة الأمراء المصريين وقد ناهز الستين من العمر أوجاوزها بيسير، وكان من مماليك الملك المؤيد شيخ، ممن صار خاصكيا في دولة الظاهر جقمق وساقيا، ثم تأمّر عشرة إلى أن مات، وكان ساكنا مهملا مع إسراف على نفسه- عفا الله عنا وعنه.
وتوفّى الأمير سيف الدين بايزيد «3» بن عبد الله التمربغاوى أحد مقدمى الألوف بالديار المصرية، فى يوم الثلاثاء ثامن عشر ذى القعدة، ودفن من يومه، وقد ناهز السبعين، وكان من مماليك الأمير تمربغا المشطوب الظاهرى [برقوق] «4» وخدم بعده عند جماعة من الأمراء [وتشتت في البلاد] «5» إلى أن اتصل بخدمة الملك الظاهر ططر قبل سلطنته، فلما تسلطن جعله خاصكيا، ثم ساقيا في أوائل دولة الأشرف برسباى، ودام على ذلك دهرا طويلا، إلى أن أمّره الأشرف [عشرة] «6» فى أواخر دولته، فدام على تلك العشرة أيضا دهرا طويلا إلى أن أنعم عليه الملك الأشرف إينال بإمرة طبلخاناه، ثم نقله إلى تقدمة ألف في حدود سنة ستين؛ للين جانبة لا لمحله الرفيع، ولا لعظم شوكته، فدام على

(16/207)


ذلك سنيّات ومات، وكان رجلا ساكنا عاقلا، لم يشهر في عمره بشجاعة ولا كرم، وكان إذا توجّه في مهم إلى السلطان مع من سافر من الأمراء ووقع الحرب يدعونه في الوطاق ليحرس «1» الخيم، وكذلك جعله الأشرف إينال في يوم الواقعة مع الملك المنصور عثمان يجلس على الباب- رحمه الله تعالى.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم لم يحرر لغيابى بمكة المشرفة، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وأصابع.

(16/208)


[ما وقع من الحوادث سنة 864]
السنة الثامنة من سلطنة الملك الأشرف إينال على مصر وهى سنة أربع وستين وثمانمائة.
فيها توفى الشيخ الإمام المحقق الفقيه العلامة جمال الدين محمد بن أحمد المحلى الشافعى المصرى بالقاهرة في يوم الأحد مستهل المحرم، وسنه نحو السبعين تخمينا، وكان إماما علامة متبحرا في العلوم، كان بارعا في الفقه والأصلين والعربية وعلمى المعانى والبيان، وأفتى ودرس عدة سنين، وانتفعت الطلبة به، وله عدّة مصنفات، ولم يكمل بعضها، ورشح لقضاء الديار المصرية غير مرة، وكان في طباعه حدّة، مع عدم التكلف في ملبسه ومركبه إلى الغاية، بحيث إنه كان إذا رآه من لا يعرفه يظنه من جملة العوام- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير سيف الدين قيز طوغان العلائى الأستادار، ثم نائب ملطية، ثم أتابك حلب، ثم أحد أمراء دمشق- بطالا- بدمشق بالطاعون وقد شاخ، فى العشر الأوسط من محرم، وكان من عتقاء الأمير علّان شلق الظاهرى، وخدم بعده عند الملوك إلى أن اتصل بخدمة السلطان، وصار في دولة المؤيد شيخ رأس نوبة الجمدارية دهرا طويلا، إلى أن تأمر عشرة في دولة الملك الظاهر جقمق، وصار أمير آخور ثالثا، ثم ولى الأستادارية بعد عزل الناصرى محمد بن أبى الفرج، فباشر أشهرا، ثم عزل وأخرج إلى البلاد الشامية، وتنقل فيها إلى ما أشرنا إليه، ثم حجّ [وسافر أمير] «1» حاج المحمل الشامى، فوقع منه بالمدينة الشريفة ما أوغر خاطر السلطان عليه، وأمسك بعد عوده وحبس مدة بقلعة دمشق أو غيرها، ثم أطلق ودام بطالا إلى أن مات.
وكان أميرا جليلا عارفا شجاعا مقداما، وفيه حشمة وأدب ومكارم «2» - رحمه الله تعالى.

(16/209)


وتوفّى الشيخ المقرئ إمام جامع الأزهر في يوم الأحد خامس عشر المحرم، وكان دينا خيرا من بيت قراءة وفضل ودين- رحمه الله تعالى.
وتوفّى زين الدين أبو الخير محمد ابن المعلّم شمس الدين محمد ابن المعلم أحمد، المعروف بالنحّاس، شهرة وصناعة ومكسبا، فى يوم الجمعة العشرين من المحرّم، ودفن من يومه بالصحراء، وقد تقدّم من ذكره في أصل هذا الكتاب ما يغنى عن التعريف به في هذا المحل ثانيا، وسقنا أمره محرّرا من ابتداء أمره إلى آخره باليوم والشهر في تاريخنا «المنهل الصافى» ، ثم في مصنفنا أيضا «حوادث الدهور» ، وذكرنا كيفيته، وكيف كان تقرّبه إلى الملك الظاهر جقمق، وعرّفنا بحاله وتكسّبه في دكان النحاسين، ثم ما وقع له مع أبى العباس الوفائى، ثم ترقّيه وتولّيه الوظائف السنيّة شيئا بعد شىء، ثم انحطاط قدره، ونكبته ومصادرته، وضربه ونفيه بعد حبسه بحبس الرّحبة مدّة طويلة، والإخراق به من العوامّ والمماليك السلطانية، ثم خروجه من الديار المصرية على أقبح وجه، بعد أن ادّعى عليه عند القاضى المالكى بالكفر، وأشيع ضرب رقبته، ووضع الجنزير في رقبته، ثم ما وقع له من الإخراق بمدينة طرسوس في مدّة طويلة، ثم حضوره إلى الدّيار المصرية بغير إذن الملك الظاهر جقمق خفية، ثم طلوعه إلى السلطان، وضرب السلطان له ثانيا بالحوش في الملأ العام ذلك الضرب المبرّح، ثم إخراجه ثانيا من القاهرة على أقبح وجه [منفيا] «1» إلى طرابلس، ثم إقامته بطرابلس إلى أن مات الصاحب جمال الدين يوسف بن كاتب جكم، ثم طلبه الحضور إلى الديّار المصريّة غير مرّة إلى أن حضر، وظن المخمول أن الذي مضى سيعود، وقدّم عدة كبيرة من الخيول، وولّى الذخيرة ووظائف أخرى، فلم يتحرك له سعد ولانتج أمره، بل صار كلما قام أقعده الدهر، وكلما أراد القوة ضعف، وزاد به القهر إلى أن مرض واشتد مرضه، وترادفت رسل السلطان إليه بطلب المال، فعظم ما به من المرض من الخالق ومن

(16/210)


المخلوق، إلى أن مات واستراح وأراح بعد أن قاسى أهوالا في مرضه، وحمل على قفص حمال على رأس رجل للمحاسبة لما ثقل في الضعف، وقد حثّه الطلب، كل ذلك تأديبا من الله عز وجل. لتعلم أن الله على كل شىء قدير.
وكانت صفته رجلا طوالا، أسمر جسيما عامّيا، كانت صفته مشبهة لصناعته وأهلها في الكثافة، إلا أنه كان يكتب المنسوب بحسب الحال، ليس فيه بالماهر، ويحفظ القرآن على طريق قراء الأجواق من مواظبته «1» لليالى جمع الإمام الليث، لا يحفظه على طريق القراء، وبالجملة فإن ابتداء ترقّية كان عجيبا، وانحطاطه كان أعجب- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير سيف الدين علّان بن عبد الله المؤيّدى أتابك دمشق المعروف بعلّان جلّق «2» بدمشق، فى يوم الأربعاء تاسع صفر وقد زاد سنه على السّبعين تخمينا، وكان أصله من مماليك الملك المؤيّد شيخ، وصار في أيّامه من جملة الأمير آخورية الأجناد، ثم صار بعد موت أستاذه من جملة أمراء دمشق، ثم بعد مدّة نقل إلى نيابة ألبيرة، ثم إلى حجوبيّة حلب الكبرى، ثم عزل من حلب بسبب شكوى نائبها قانى باى الحمزاوى عليه، وتوجّه إلى طرابلس بطالا، ثم أنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بدمشق بعد انتقال الأمير خشقدم الناصرى المؤيدى عنها إلى حجوبيّة الحجاب بالدّيار المصريّة، ثم نقل إلى أتابكيّة دمشق بعد موت يشبك الصّوفى المؤيّدى في سنة ثلاث وستين، فلم تطل مدّته ومات، وكان مشهورا بالشجاعة والإقدام- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير سيف الدين طوغان من سقلسيز التركمانى أمير التركمان، فى شهر ربيع الأول، واستقرّ ولده في إمرة التّركمان من بعده «3» .
وتوفّى القاضى سعد الدين إبراهيم ابن فخر الدين عبد الغنى ابن علم الدين شاكر

(16/211)


ابن رشيد الدين خطير الدّمياطى المصرى القبطى المعروف بابن الجيعان «1» ناظر الخزانة الشريفة، فى ليلة الجمعة ثالث عشرين شهر ربيع الأول، وسنه نيف عن خمسين سنة، وكان حشما وقورا، وجيها عند الملوك، وهو بانى الجامع على بحر بولاق بالقرب من منظرة الحجازية- رحمه الله تعالى.
وتوفّى عبد الله التركمانى «2» البهسنى كاشف الشرقيّة بالوجه البحرى من أعمال القاهرة «3» - بطالا- فى يوم الأحد ثالث شهر ربيع الآخر، وقد كبر سنه وشاخ، وكان في أوّل قدومه إلى الديار المصرية يخدم شادّا في قرى القاهرة إلى أن اتصل بخدمة الملك الظاهر جقمق قبل سلطنته، فلما تسلطن ولّاه كشف الشرقية، فلما ولّى ما كفّ عن قبيح ولا عفّ عن حرام إلا فعلهما، فساعت سيرته في ولايته، وحصل للناس منه شدائد، لا سيما أهل بلبيس وفلاحى الشرقية؛ فإنه كان عليهم أشدّ من إبليس، وشكاه غير واحد مرّات عديدة إلى الملك الظاهر، فلم يسمع فيه كلاما، وبالجملة فإنه كان من أوحاش «4» الظّلمة- ألا لعنة الله على الظالمين.
وتوفّى الشيخ أبو الفتح [محمد] «5» الكاتب المجوّد صاحب الخط المنسوب وأحد نواب الحكم الشافعية وإمام الشهابى أحمد ابن الملك الأشرف إينال في يوم الأحد عاشر شهر ربيع الآخر- رحمه الله.
وتوفّى الأمير أسندمر بن عبد الله الجقمقى أحد أمراء العشرات ورأس نوبة بعد عوده من مجاورته بمكة بمرض البطن، فى يوم الثلاثاء تاسع جمادى الأولى وقد ناهز الستين من العمر، وكان رومىّ الجنس، وكان أصله من مماليك جقمق الأرغون شاوى

(16/212)


الدّوادار «1» نائب الشام، وكان أسندمر هذا يجيد الرّمى بالنشاب، وفيه إسراف على نفسه- سامحه الله تعالى بفضله.
وتوفّى سيف الدين خشقدم بن عبد الله الأرنبغاوى «2» حاجب حجّاب طرابلس فى جمادى الأولى، وكان أصله من مماليك أردبغا نائب قلعة صفد، ثم خدم عند قانى باى الحمزاوى وصار في اواخر عمره دوادارا، ثم سعى بعد الحمزاوى في حجوبيّة طرابلس حتى وليها، فلم تطل مدّته، ومات في التاريخ المذكور، وكان من الأوباش الذين لا أعرف لهم حالا.
وتوفى الأمير سيف الدين يشبك بن عبد الله الظاهرى أحد أمراء العشرات بالطاعون في يوم السبت حادى عشرين جمادى الأولى، وأخرج هو وولده معا في جنازة واحدة، وكان أصله من مماليك الملك الظاهر جقمق، اشتراه في سلطنته، وتأمر في أيامه عشرة ثم نكب، ثم تأمر ثانيا في دولة الملك الأشرف عشرة إلى أن مات، وكان لا بأس به- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير سيف الدين يونس بن عبد الله العلائى الناصرى الأمير آخور الكبير بالطاعون في باكر يوم الاثنين ثالث عشرين جمادى الأولى، وقد جاوز السبعين من العمر، ودفن بتربته التي أنشأها بالصحراء، وكان أصله من مماليك الظاهر برقوق الكتابية، ثم ملكه الملك الناصر فرج وأعتقه، ودام من جملة المماليك السلطانية سنين كثيرة لا يلتفت إليه في الدول إلى أن تأمر عشرة في أوائل دولة الملك الظاهر جقمق، مراعاة لخاطر الأمير إينال العلائى الأجرود، أعنى عن الأشرف هذا صاحب التّرجمة؛ لكونه كان خچداشه من تاجر واحد، ودام من جملة أمراء العشرات أياما كثيرة، إلى أن نقله الملك الظاهر إلى نيابة قلعة الجبل بعد عزل «3» تغرى برمش الفقيه وإخراجه إلى القدس في سنة تسع وأربعين.
قلت: وبئس البديل، وهذا من عدم الإنصاف، كيف يكون هذا المهمل العارى

(16/213)


من كل علم وفن موضع ذلك العالم الفاضل الذكى العارف بغالب فنون الفروسية مع ماحواه من العلوم، وقد أذكرتنى هذه الواقعة قول بعض الأدباء الموّالة، حيث قال:
شاباش يا فلك شاباش ... تحط عالى وترفع في الهوا أوباش
وتجعل الحرّ الذكى الوشواش ... يحكم عليه ردىء الأصل يبقى لاش
واستمر يونس هذا في نيابة القلعة إلى أن تسلطن خچداشه الملك الأشرف إينال صاحب الترجمة، وخلع عليه في صبيحة يوم السلطنة بنيابة الإسكندرية، فتوجه إليها وأقام بها مدة، ثم عزل وقدم إلى القاهرة على إمرته، ثم يعد مدة من قدومه، صار أمير مائة ومقدّم ألف بالديار المصرية بعد خروج الأمير جانم الأشرفى إلى نيابة حلب وذلك في أواخر صفر سنة تسع وخمسين، وتوجه لتقليد الأمير قانى باى الحمزاوى نائب حلب بنيابة دمشق بعد موت الأمير جلبّان فقلده وعاد، وقد استغنى يونس بما أعطاه قانى ياى الحمزاوى في حقّ طريقه من الذهب اثنى عشر ألف دينار، ومن القماش والخيول نحو خمسة آلاف دينار، ثم نقل بعد ذلك إلى الأمير آخورية الكبرى بعد انتقال الأمير جرباش المحمدى إلى إمرة مجلس، بعد تعطّل الأمير طوخ من تمراز ولزومه داره من مرض تمادى به، وذلك في أوائل ذى الحجة سنة إحدى وستين وثمانمائة.
وعظم يونس عند خچداشه الملك الأشرف، لكونه كان خچداشه، وأنا أقول:
ما كانت محبته له إلا لجنسية كانت بينهما في الإهمال؛ لأن الجنسية علة الضم، فلم يزل يونس المذكور في وظيفته إلى أن مات في التاريخ المقدم ذكره، قلت: وما عسى أذكر من أمره، والسكوت «1» والإضراب عن الذكر أجمل، وفي التلويح ما يغنى عن التصريح.
وتوفى الأمير زين الدين هلال بن عبد الله الرومى الطواشى الظاهرى الزمام بطالا بالطاعون، فى يوم الأحد تاسع عشرين جمادى الأولى، وقد شاخ وناهز عشر المائة

(16/214)


من العمر، لكونه كان من خدّام الملك الظاهر برقوق ومن أعيان طواشيته، ثم صار شادّ الحوش السلطانى مدّة طويلة، إلى أن بدا له أن يبذل المال في وظيفة الزّماميّة، فوليها بعد موت الأمير جوهر القنقبائى، فباشر الوظيفة بقلّة حرمة، فلم ينتج أمره، وعزل وتخومل إلى أن مات، وهو مجتهد في الزراعة والدولاب لتحصيل المال، فلم ينل من ذلك شيئا، ومات فقيرا- رحمه الله تعالى.
وتوفّى القاضى زين الدين عبد الرحيم ابن قاضى القضاة بدر الدين محمود ابن القاضى شهاب الدين أحمد العينى الحنفى ناظر الأحباس، فى يوم الثلاثاء ثانى عشرين جمادى الآخرة بالطاعون، وهو في الكهولية، وكان من بيت علم ورئاسة.
وتوفيت خوند زينب بنت الأمير جرباش الكريمى المعروف بقاشق، فى يوم السبت سادس عشرين جمادى الآخرة، بالطاعون «1» ، وسنّها فوق الثلاثين، وكان الملك الظاهر جقمق تزوّجها في أوائل سلطنته، فى حدود سنة اثنتين وأربعين أو التي بعدها، ومات عنها فتزوجها القاضى شرف الدين موسى الأنصارى ناظر الجيوش المنصورة، فماتت عنده «2» - رحمها الله تعالى.
وتوفّى الأمير قرم خجا بن عبد الله الظاهرى، أحد أمراء العشرات بطالا في العشر الأول من شهر رجب، وهو في عشر المائة من العمر، كان من مماليك الظاهر برقوق وخاصكيته، وكان فقيها ديّنا خيّرا تركىّ الجنس- رحمه الله تعالى.
وتوفّى السيفى يشبك بن عبد الله الأشرفى الأشقر أستادار الصّحبة وأحد الخاصكية بالطاعون، فى يوم الثلاثاء سابع شهر رجب، ومستراح منه؛ لأنه كان مهملا مسرفا على نفسه، لا يرتجى لدين ولا لدنيا «3» - عفا الله عنه.

(16/215)


وتوفّى الأمير سيف الدين يشبك بن عبد الله الساقى الظاهرى بالطاعون، فى يوم الأحد تاسع عشر شهر رجب بعد أن تأمر بأيام، وكان مشهورا بالشجاعة والإقدام، قلعت عينه في واقعة الملك المنصور عثمان مع الأشرف إينال، وكان من حزب ابن أستاذه الملك المنصور- رحمه الله وعفا عنه.
وتوفّى الأمير سيف الدين يرشباى بن عبد الله الإينالى المؤيدى الأمير آخور الثانى- كان- وأحد أمراء الطبلخانات الآن، وهو مجاور بمكّة المشرفة، فى شهر رجب، وقد ناهز الستين من العمر، وكان من مماليك الملك المؤيّد شيخ، اشتراه بعد سلطنته، وصار خاصكيا بعد موته إلى أن تأمر عشرة في دولة الملك الظاهر جقمق، وصار أمير آخور ثالثا، ثم نقل بعد مدّة إلى الأمير آخوريّة الثانية وإمّرة طبلخاناه بعد موت خچداشه سودون المحمدى المعروف بأتمكجى، فدام على ذلك إلى أن قبض عليه الملك المنصور عثمان مع دولات باى الدّوادار ويلباى الإينالى المؤيّديّين، وحبس يرشباى هذا بسجن الإسكندرية إلى أن أطلقه الملك الأشرف، وأرسله مع خچداشه يلباى إلى دمياط، ثم استقدمهما بعد أيّام يسيرة إلى القاهرة، وأنعم على يرشباى المذكور بإمرة عشرة، ثم بإمرة طبلخاناه بعد انتقال الأمير بايزيد التّمربغاوى إلى تقدمة ألف، ثم سافر إلى مكّة رأسا على المماليك السلطانية بها في سنة ثلاث وستين فمات بمكة- رحمه الله تعالى.
وكان رجلا طوالا مليح الشكل والهيئة، حشما وقورا، مع إسراف على نفسه- عفا الله عنه بمنّه وكرمه.
وتوفّى القاضى كمال الدين أبو الفضل محمد بن ظهيرة المكى المخزومى الشافعى، قاضى جدّة، وهو معزول عنها بعد مرض طويل بالمدينة الشريفة «1» ، وكان من خيار

(16/216)


أقاربه «1» ، ولديه فضيلة ومشاركة حسنة ومحاضرة جيّدة بالشعر وأيام الناس، وكان محبوبا فى قومه وأهل بلده- رحمه الله تعالى- ولقد عزّ علينا فراقه «2» .
وتوفّى الأمير سيف الدين يشبك بن عبد الله المؤيّدى أتابك دمشق بها في شعبان، وقد جاوز الستين، وكان يعرف بيشبك طاز، وكان مشكور السيرة، لا بأس به- رحمه الله.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم الفقيه زين الدين عبد الرحمن بن عنبر الأبوتيجى «3» الشافعى، أحد فقهاء الشافعية في صبيحة يوم الاثنين ثالث عشرين شوال، وقد زاد سنه عن التسعين، وكان عالما، وله اليد الطولى في علمى الفرائض والحساب، وتصدّر للإقراء بجامع الأزهر مدة طويلة، وكان يعجبنى حاله، إلا أنه ما حجّ حجة الإسلام- عفا الله تعالى عنه.
وتوفيت خوند آسية بنت الملك الناصر فرج ابن الملك الظاهر برقوق في أوائل ذى الحجة «4» ، وأمها أم ولد حبشية تسمى ثريّا.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع سواء، مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا.

(16/217)


[ما وقع من الحوادث سنة 865]
ذكر سلطنة الملك المؤيد أبى الفتح أحمد [بن إينال] «1» على مصر هو السلطان السابع والثلاثون من ملوك التّرك وأولادهم بالديار المصرية، والثالث عشر من الجراكسة وأولادهم.
تسلطن في يوم الأربعاء رابع عشر جمادى الأولى من سنة خمس وستين وثمانمائة الموافق لأول برمهات، فلما كان ضحوة النهار المذكور نزل الزينى خشقدم الأحمدى الطواشى الساقى الظاهرى بطلب القضاة الأربعة إلى القلعة، ونزل غيره إلى الخليفة المستنجد بالله يوسف، فبادر كلّ منهم بالطلوع إلى القلعة، حتى تكامل طلوع الجميع، وجلس الكل بقاعة دهليز الدهيشة من قلعة الجبل، وجلس الخليفة والمقام الأتابكى أحمد المذكور في صدر المجلس، وجلس كلّ من القضاة في مراتبهم، ودار الكلام بينهم في سلطنة الملك المؤيد هذا؛ لكون أن والده الملك الأشرف إينال ما كان عهد إليه قبل ذلك بالسلطنة، فتكلم القاضى كاتب السر محب الدين بن الشّحنة في أن تكون ولايته في السلطنة نيابة عن والده مدة حياته، ثم استقلالا بعد وفاته، أو معناه، فلم يحسن ذلك ببال من حضر، وقام الجميع ودخلوا إلى قاعة الدهيشة، وبها الملك الأشرف إينال مستلق على خطة «2» ليسمعوا كلامه بالعهد لولده أحمد هذا، فكلّمه الأمير يونس الدوادار غير مرة في معنى العهد، وهو لا يستطيع الرد، وطال وقوف الجميع عنده وهو لا يتكلّم، فخرجوا إلى ولده المؤيد هذا وهو جالس بدهليز الدهيشة عند الشباك وعرفوه الحال، ثم رجعوا إلى الملك الأشرف ثانيا، وكرروا عليه السؤال، وهو ساكت، إلى أن تكلم بعد حين، وقال باللغة التركية: «أغلم، أغلم» ، يعنى

(16/218)


«إبنى، إبنى» ، فقال من حضر: «هذا إشارة بالعهد لولده» ، فإنه لا يستطيع من الكلام أكثر من هذا، وخرجوا من وقتهم إلى الدهيشة، وانتدب كاتب السّرّ لتحليف الأمراء، فحلف من حضر من الأمراء الأيمان المؤكدة، ولم ينهض أحد منهم أن يورّى في يمينه ولا يدلس، لأنهم أجانب من معرفة ذلك، وأيضا المحلف له فطن وكاتب سرّه رجل عالم، وكان من جملة اليمين: المشى إلى الحاج كذا كذا مرة، والطلاق والعتق وغير ذلك.
فلما انقضى التّحليف وتمّت البيعة قام كل أحد من الأمراء والخاصكية والأعيان وبادر إلى لبس الكلفتاة «1» والتترى الأبيض، كما هى العادة، وأحضرت خلعة السلطنة الخليفتية السوداء، ولفت له عمامة سوداء حرير، وقام المقام الشهابى المذكور ولبس الخلعة والعمامة على الفور، وركب من باب الدهيشة فرس النوبة بسرج ذهب وكنبوش «2» زركش، ومشت الأمراء والأعيان بين يديه من باب الحوش إلى أن اجتاز بباب الدور السلطانية فتلقته الجاووشية «3» والزردكاش ومعه القبة والطير وأبهة السلطنة، فتناول الأمير خشقدم الناصرى المؤيدى أمير سلاح القبة والطير بإذن السلطان وحملها على رأسه وهو ماش، وسار في موكب «4» الملك بعظمة زائدة خارجة عن الحد، وصار جميع الأمراء والقضاة مشاة بين يديه إلا الخليفة المستنجد بالله فإنه ركب فرسا من خيل السلطان، ومشى بها خطوات، ثم نزل عنها لقوتها عليه، ولا زال على تلك الهيئة، حتى نزل على باب القصر السلطانى من قلعة الجبل، ودخل وجلس

(16/219)


على سرير الملك، فلم تر العيون فيما رأت أحسن ولا أجمل منه في الخلعة السوداء، لأنه كان أبيض اللون، والخلعة سوداء، مع حسن سمته، وطول قامته، حتى إنه لعله لم يكن أحد في العسكر يوم ذاك يدانيه في طول القامة.
ولما جلس على تخت الملك قبّلت الأمراء الأرض بين يديه، ودقّت الكئوسات، ونودى في الحال بالدعاء للملك المؤيد أبى الفتح أحمد بشوارع القاهرة.
ثم في الوقت خلع على الخليفة فوقانى حرير بوجهين أبيض وأخضر بطرز زركش، وأنعم عليه بفرس بسرج ذهب، وكنبوش زركش، وأنعم عليه بقرية منبابة بالجيزة.
ثم خلع على الأمير خشقدم أمير سلاح أطلسين متمّرا، وفوقانيا بطرز زركش، بسرج ذهب وكنبوش زركش.
وأقام الملك المؤيّد يومه وليلته بالقصر، وأصبح حضر الخدمة حسبما يأتى ذكره، بعد أن نذكر وقت سلطنته.
وكان الطالع وقت مبايعته ولبسه خلعة السلطنة وجلوسه على سرير الملك السرطان، وصاحب الطالع بالسنبلة- وهو القمر- قطع اثنتين وعشرين درجة وخمسين دقيقة، والرأس بالسرطان أيضا ست عشرة درجة وثلاثين دقيقة راجعا، والمشترى بالقوس صفرا وسبعا وعشرين دقيقة، وزحل بالجدى أيضا ثمانيا وعشرين درجة وستا وأربعين دقيقة، والذنب بالجدى أيضا ست عشرة درجة وثلاثين دقيقة، والزّهرة في الدلو ثلاث درجات وتسع عشرة دقيقة، والليلة بالدلو أيضا ثمانى درج وثمانيا وخمسين دقيقة، وعطارد أيضا بالدلو اثنتين وعشرين درجة وخمسين دقيقة، والشمس في الحوت خمس عشرة درجة وأربعا وخمسين دقيقة، والساعة «1» السادسة، وهى للزّهرة- انتهى.

(16/220)


ولما كان صبيحة نهار الخميس المقدّم ذكره، وهو ثانى يوم من يوم سلطنته، وهو عشر جمادى الأولى، وقد عمل السلطان فيه الخدمة السلطانية، وخلع على جماعة كثيرة من الأمراء بعدة وظائف، فاستقرّ بالأمير خشقدم أمير سلاح أتابك العساكر عوضا عن نفسه، ولكن لم يجد له في ذلك اليوم خلعة الأتابكية، لكونه كان لبسها في أمسه، لما حمل القبة والطير على رأس السلطان، فجددت له أخرى لم يفرغ عملها في هذا اليوم.
ثم أنعم السلطان على الأمير خشقدم المذكور بإقطاع نفسه، وهو إقطاع الأتابكيّة.
ثم خلع على الأمير جرباش المحمدى أمير مجلسه باستقراره في إمرة سلاح عوضا عن الأمير خشقدم بحكم استقراره أتابك العساكر.
واستقر الأمير قرقماس الأشرفى رأس نوبة النّوب أمير مجلس عوضا عن جرباش المقدّم ذكره.
واستقرّ الأمير قانم من صفرخجا المؤيّدى التاجر رأس نوبة النّوب عوضا عن قرفماس المذكور.
وأنعم السلطان بإقطاع الأتابك خشقدم على الأمير بيبرس الأشرفى خال الملك العزيز يوسف حاجب الحجاب، لكون متحصل هذا الإقطاع يزيد عن متحصل الإقطاع الذي كان بيده أولا، وطلب الأمير جانبك من أمير الأشرفى الخازندار إقطاع بيبرس، فتوقّف السلطان فيه، ووقع- بسبب توقّف السلطان في الإنعام على جانبك به- بين جانبك المذكور وبين الأمير يونس الدّوادار الكبير كلام، فأفحش الدّوادار في الرّدّ على جانبك، ودام الإقطاع موقوفا لم ينعم به على أحد، وانفض الموكب، وقام السلطان الملك المؤيد أحمد من القصر، وتوجه إلى الدهيشة، وجلس بالشباك المطل على الحوش، وأمر المنادى فنادى بين يديه بالحوش، بأن النفقة في المماليك السلطانية تكون لكل واحد مائة دينار، وتكون أول التفرقة يوم الثلاثاء عشرين الشهر، فضج الناس له بالدعاء.

(16/221)


ثم قام ودخل إلى عند أبيه وهو في السياق، فمات في اليوم، وهو يوم الخميس المقدم ذكره بين الظهر والعصر، فجهز من وقته، وصلى عليه بباب القلّة من قلعة الجبل، ثم حمل حتى دفن من يومه بتربته التي أنشأها بالصحراء خارج القاهرة- حسبما تقدم ذكر ذلك كله في ترجمته.
ثم أصبح الملك المؤيد يوم الجمعة صلى الجمعة بجامع الناصرى بالقلعة مع الأمراء على العادة، وخلع بعد انقضاء الصلاة على الأمير خشقدم الناصرى المؤيدى خلعة الأتابكية على العادة، واستمر السلطان إلى يوم الأحد ثامن عشره- أعنى جمادى الأولى- فأنفق على الأمراء نفقة السلطنة، فحمل إلى الأمير الكبير أربعة آلاف دينار، تفصيلها: ألف دينار بسبب حمله القبة والطير على رأس السلطان يوم سلطنته، والبقية نفقة السلطنة، وحمل إلى أمير سلاح جرباش وغيره من أمراء الألوف من أصحاب الوظائف لكلّ واحد ألفين وخمسمائة دينار، وإلى غير أرباب الوظائف من مقدمى الألوف لكلّ ألفى «1» دينار فقط، وحمل لكل أمير من أمراء الطبلخانات خمسمائة دينار، ولكل أمير من أمراء العشرات مائتى دينار «2» .
ثم في يوم الاثنين تاسع عشر جمادى الأولى خلع السلطان على الأتابك خشقدم، وعلى قانم رأس نوبة النوب خلع الأنظار المتعلقة بوظائفهما على العادة، وأنعم السلطان على الأمير يشبك البجاسى الأشرفى إينال أحد مقدمى الألوف بحلب بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية، وهو إقطاع بيبرس الذي وقع بين يونس الدوادار وبين جانبك [الظريف] «3» الخازندار بسببه، وأنعم بتقدمة يشبك المذكور التي بحلب على الأمير تمراز [الأشرفى] «4» الدّوادار، [- كان-] «5» وأنعم بإقطاع تمراز، وهو إمرة

(16/222)


طبلخاناه بطرابلس، على الأمير لاچين الظاهرى، ويشبك هذا المنعم عليه بالتقدمة كان أصله من مماليك الأمير تنبك البجاسى نائب الشام، وملكه بعد موت تنبك الأشرف إينال، وهو من جملة الأمراء، وأعتقه ورقّاه حتى صار دواداره، ثم أخذ له من الملك الظاهر جقمق إمرة بصفد، فلما تسلطن رفع قدره إلى أن صار من جملة أمراء الألوف بحلب، واتفق مجيئه إلى مصر لينظر أستاذه، فاتفق في مجيئه ضعف أستاذه ثم موته.
وفيه أيضا خلع السلطان على جماعة من الأمراء والخاصكية لتوجههم بحمل تقاليد نوّاب البلاد الشّاميّة.
فكان الأمير مغلباى الأبوبكرى المؤيّدى المعروف بطاز، أحد أمراء العشرات ورأس نوبة، يتوجّه إلى نائب الشام الأمير جانم الأشرفى.
والأمير بيبرس الأشرفى الأشقر أحد أمراء العشرات ورأس نوبة يتوجّه إلى الأمير حاج إينال اليشبكى نائب حلب.
والسيفى برقوق الناصرى الظاهرى الساقى [يتوجه] «1» إلى إياس المحمدى الناصرى نائب طرابلس.
والسيفى آقبردى الساقى الأشرفى [يتوجه] «2» لجانبك التاجى المؤيّدى نائب حماة.
وتنم الفقيه الأبوبكرى المؤيّدى [يتوجه] «3» لخيربك النّوروزى نائب صفد، ولبردبك العبد الرحمانى نائب غزّة معا.
وخلع على جماعة أخر من الخاصكية بتوجههم إلى جماعة أخر إلى البلاد الشامية، والجميع خاصّكيّة ما عدا مغلباى طاز وبيبرس الأشقر.
ثم في يوم الثلاثاء العشرين من جمادى الأولى المذكورة ابتدأ السلطان بالنفقة في المماليك السلطانية من غير تسوية، فأعلى من أخذ مائة دينار، وأدنى من أخذ ثلاثين دينارا،

(16/223)


وأعطى لكل مملوك من الكتابية عشرة دنانير، «1» فاستمرت النفقة على المماليك السلطانية فى كل يوم سبت وثلاثاء إلى ما يأتى ذكره.
ثم بعد أيام وصل القاهرة كتاب جانبك الأبلق الظاهرى من قبرس أنه هو ومن معه من المماليك السلطانية وغيرهم من الفرنج واقعوا أهل شرينة في عاشر شهر ربيع الآخر، وحصروا قلعتها، وقتلوا من الفرنج بشرينة ثمانية نفر، وأسروا مثلهم، ثم ذكر أيضا أنه واقع ثانيا أهل شرينة، وقتل صاحب الشرطة بقلعتها، وآخر من عظمائها أرمى نفسه إلى البحر فغرق، قلت: «مما خطاياهم أغرقوا فأدخلوا نارا «2» »
ثم ذكر جانبك أيضا: أنه قبض على خمسة منهم، وأن الملكة صاحبة شرينة أخت جاكم صاحب قبرس قد توجّهت من شرينة إلى رودس تستنجد بهم، ثم ذكر أيضا أنه ظفر بعدة مراكب ممن كان قدم من الفرنج نجدة للملكة المذكورة، وأنه أسر منهم خلائق تزيد عدتهم على مائة نفر، وأنه أخذ بالحصار عدّة أبراج من أبراج قلعة باف «3» بعد أن قاسوا منه شدائد، وأنه يستحث السلطان في إرسال عسكر بسرعة قبل مجىء نجدة لهم من الفرنج أهل الماغوصة الجنوية، وإلى أهل شرينة من غير الجنوية- انتهى.
وفي يوم الأربعاء ثامن عشرينه استقر عميرة بن جميل بن يوسف شيخ عربان السخاوة بالغربية «4» بعد موت أبيه.
قلت: والشيء بالشيء يذكر، وقد أذكرنى ولاية عميرة هذا حال أرياف الديار المصرية الآن، فإنه من يوم تسلطن الملك المؤيد أحمد هذا حصل الأمن في جميع الأعمال برّا وبحرا، شرقا

(16/224)


وغربا، من غير أمر يوجب ذلك، ووقع رعب السلطان في قلوب المفسدين حتى صار أحدهم لا يستطيع أن يخرج من داره فكيف يقطع الطريق، فانطلقت الألسن بالدعاء للملك المؤيد هذا، وتبارك كل أحد بقدومه واستيلائه على الأمر، ومالت النفوس إلى محبته ميلا زائدا خارجا عن الحد؛ فإنه أول ما تسلطن قمع مماليك أبيه الأجلاب عن تلك الأفعال التي كانوا يفعلونها أيام أبيه، وهدّدهم بأنواع النكال إن لم يرجعوا، فرجع الغالب منهم عن أشياء كثيرة مما تقدم ذكرها، وعلم الناس من السلطان ذلك، فطمع كل أحد في الأجلاب فانحطّ قدرهم، حتى صار أحدهم لا يستطيع أن يزجر غلامه ولا خدمه، فزاد حبّ الناس للملك المؤيّد لذلك، فكل من أحبه فهو معذور؛ لما قاست الناس منهم أيام أبيه من تلك الأفعال القبيحة، على أن الملك المؤيّد أيضا كان له في أيام والده مساوئ كثيرة من جهة حماياته البلاد والمراكب بساحل النيل، وأشياء أخر غير ذلك، فقاست الناس من حماياته أهوالا، فلما تسلطن ترك ذلك كله كأنه لم يكن، وأقبل على العدل وإرداع المفسدين، فبدّل في أيامه الجور بالعدل، والخوف بالأمن، والراحة بعد التعب- ولله الحمد.
وفيه عزل السلطان الصاحب شمس الدين منصورا عن الأستادارية، وخلع من الغد على مجد الدين أبى الفضل البقرى كامليّة بمقلب سمّور، باستقراره في الأستادارية، عوضا عن الشمسى منصور، ووعد بأنه يلبس خلعة وظيفة الأستادارية في يوم السبت أول جمادى الآخرة، فوقع ذلك «1» .
ثم في يوم الخميس سادس جمادى الآخرة خلع السلطان على الصفوى جوهر النّوروزىّ الطواشى الحبشى بإعادته إلى تقدمة المماليك السلطانية، بعد موت الطواشى مرجان الحصنى الحبشى.
وفي هذه الأيام أشيع «2» بين الناس «3» بركوب المماليك السلطانية على السلطان بعد النفقة،

(16/225)


ولم يعلم أحد من هو القائم بالفتنة، فلم يلتفت السلطان لهذا الكلام.
ثم في يوم الخميس ثالث عشر جمادى الآخرة قرئ تقليد السلطان الملك المؤيد بين يديه بالقصر الأبلق، تولى قراءته القاضى محبّ الدين بن الشّحنة كاتب السّرّ، وهو من إنشائه، وحضر الخليفة المستنجد القراءة والقضاة الأربعة، وغالب أركان الدّولة وأمرائها، فلما تمت القراءة خلع السلطان على الخليفة فوقانى حرير [بوجهين] «1» أخضر وأبيض بطرز زركش، وقيّد له فرسا بسرج ذهب، وكنبوش زركش، ثم خلع على القضاة كوامل بمقالب سمور، وانفضّ الموكب.
وفي يوم السبت خامس عشر وصل إلى القاهرة قاصد الأمير جانم الأشرفى نائب الشام، وعلى يده كتاب مرسله يتضمن أنه حصل له سرور زائد بسلطنة الملك المؤيد، وأنه مستمرّ على طاعته، ممتثل أوامره.
وفيه أيضا ورد الخبر بأن عرب لبيد العصاة نزلوا البحيرة، ونهبوا الأموال، [وشنوا الغارات] «2» ، فعيّن السلطان تجريدة من الأمراء، وأمرهم بالتجهيز والسفر إلى البحيرة.
ثم في يوم الأربعاء رابع شهر رجب وصل الأمير تمراز الإينالى الأشرفى الدوادار- كان- من طرابلس إلى الديار المصرية بغير إذن السلطان، ولم يجتز بمدينة قطيا، ونزل عند الأتابك خشقدم، وأرسل دواداره إلى الملك المؤيد، أعلمه بمجئ تمراز المذكور، فقامت قيامة السلطان لمجيئه على هذه الصورة، وغضب غضبا شديدا، ورسم بإخراجه من القاهرة لوقته، فأخذ تمراز في أسباب الردود والخروج إلى خانقاه سرياقوس، فشفعت الأمراء فيه في عصر يومه بالقصر، فقبل السلطان شفاعتهم على أنه يقيم بالقاهرة ثلاثة أيام لعمل مصالحه، ثم يسافر إلى حيث جاء منه، فعاد تمراز من جهة الخانقاه إلى القاهرة، فترقّب كلّ أحد وقوع فتنة، لأن تمراز هذا شرّ مكانا، ودأبه الفتنة وإثارة الفتن، وهو

(16/226)


من أوخاش «1» بنى آدم، فقام تمراز إلى يوم الجمعة سادسه فطلع إلى القلعة، وقبّل الأرض بين يدى السلطان، وأخذ في الاعتذار الزائد لمجيئه بغير إذن، فقبل السلطان عذره، وخلع عليه كاملية بمقلب سمّور، وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بدمشق، ورسم له أن يقيم بالقاهرة ثلاثة أيام من يومه هذا ويسافر، فنزل إلى داره، والناس على ما هم عليه من أن تمراز هذا لا بد له من إثارة فتنة وتحريك ساكن، هذا والأمراء تكرر الشفاعة فيه ليقيم بالديار المصرية، وخچداشيته الأشرفية في غاية ما يكون من الاجتهاد في ذلك، والسلطان مصمم على سفره، إلى أن سافر حسبما يأتى ذكره.
وفي يوم الجمعة هذا- الموافق لثانى عشرين برمودة- لبس السلطان القماش الأبيض البعلبكى، أعنى كشفا من غير لبس صوف كما هى العادة أيام الصيف «2» .
وفي يوم الثلاثاء عاشر شهر رجب المذكور خلع السلطان الملك المؤيد على تمراز المذكور خلعة السفر، وسافر من يومه إلى دمشق، بعد أن أنعم السلطان عليه بخمسمائة دينار وعدة خيول وبغال، وتوجّه تمراز ولم يتحرك ساكن.
وفي يوم الخميس ثانى عشره استقر القاضى شرف الدين الأنصارى ناظر الجوالى بعد عزل [ناصر الدين] «3» بن أصيل «4» .
وفيه وصل الأمير مغلباى طاز الأبوبكرى المؤيدى بعد أن بشّر الأمير جانم نائب الشام بسلطنة المؤيد وعاد.
وفيه وصل السّيفى شاهين الطواشى الساقى الظاهرى المتوجّه قبل تاريخه لإحضار تركة زوجة الأمير قانى باى الحمزاوى من دمشق، وأحضر شيئا كثيرا جدا من الجواهر واللآلئ والأقمشة وغير ذلك، حتى إنه أبيع في أيام كثيرة.

(16/227)


ثم في يوم الجمعة العشرين من شهر رجب المذكور نزل السلطان الملك المؤيد أحمد من قلعة الجبل إلى جهة العارض «1» خلف القلعة، وعاد بسرعة إلى القلعة، وهذا أول نزوله من يوم تسلطن، قلت: وآخر نزوله؛ فإنه لم ينزل بعدها إلا بعد خلعه إلى الإسكندرية.
وفيه أمطرت السماء بردا، كل واحد مقدار بيضة الحمام، فأتلفت غالب الزرع، وأهلكت كثيرا من ذوات الجناح، وكان معظم هذا المطر بقرى الشرقية من أعمال القاهرة، وببعض بلاد من المنوفية والغربية، وقليلا بإقليم البحيرة.
وفي يوم الخميس سادس عشرينه رسم السلطان بنفى سنطباى قرا الظاهرى إلى البلاد الشامية، وسببه أن سنطباى هذا كان من المنفيين إلى طرابلس في دولة الملك الأشرف إينال، فلما سمع بموت الأشرف قدم القاهرة بغير إذن واختفى بها نحو الشهر عند بعض خچداشيته، ففطن السلطان به فرسم بنفيه، فاجتهدت خچداشيته الظاهريّة في إقامته، فلم تقبل فيه شفاعة، فخرج من يومه، وعظم ذلك على خچداشيته الظاهرية في الباطن، قلت: ولا بأس بما فعله السلطان في إخراج سنطباى المذكور على هذه الهيئة، فإنه أخرج قبله تمراز من الأشرفية، ثم أخرج هذا من الظاهرية، فكأنه ساوى بين الطائفتين، هذا والناس في رجيف من كثرة الإشاعة بوقوع فتنة.
ثم في يوم الاثنين سابع شعبان استقر شادبك الصارمى- أحد أمراء الألوف بدمشق- أتابكا بحلب، على مال بذله في ذلك، نحو العشرة آلاف دينار.
وفيه وصلت رسل السلطان إبراهيم بن قرمان إلى القاهرة بهديّة إلى السلطان، وقبل هديّة مرسلهم، ورحّب بهم.
ثم في يوم الخميس سابع عشر شعبان وصل إلى القاهرة الشرفى يحيى ابن الأمير جانم نائب الشام، وطلع إلى السلطان من الغد، وقبّل الأرض نيابة عن أبيه، وسأل

(16/228)


السلطان في إطلاق الأمير تنم من عبد الرزّاق المؤيدى أمير سلاح- كان- والأمير قانى باى الچاركسى الأمير آخور- كان- من سجن الإسكندرية، فلم يقبل السلطان شفاعته، وسوّف به إلى «1» وقت غير معلوم، وعلم السلطان أن مجىء ابن جانم هذا ليس هو بصدد الشفاعة فقط، وإنما هو لتجسس الأخبار وعمل مصلحة والده مع خچداشيته الأشرفية، وغيرهم من الظاهرية والمؤيدية، وكذا كان، ولم يظهر الملك المؤيد لأحد، وإنما أخذ في حساب جانم نائب الشام في الباطن، والتدبير عليه بكل ما تصل القدرة إليه، ولم يسعه يوم ذلك إلا أن تجاهل عليهم.
وهذا الأمر أحد أسباب حضور جانم إلى الديار المصرية حسبما يأتى ذكره مفصلا- إن شاء الله تعالى- فى ترجمة الملك الظاهر خشقدم، لأن يحيى ولد جانم لما حضر هذه الأيام إلى الديار المصرية اتفق مع أعيان المماليك الظاهرية بعد أن اصطلحوا مع المماليك الأشرفية- على عداوة كانت بينهم قديما وحديثا- ورضوا الظاهرية بسلطنة جانم عليهم، وهم أكره البرية فيه، حيث لم يجدوا بدا من ذلك؛ وما ذاك إلا خوفا من الملك المؤيد هذا، فكان أمرهم في هذا كقول القائل:
[الوافر]
وما من حبّه أحنو عليه ... ولكن بغض قوم آخرين
وسافر الشرفى يحيى بن مصر إلى جهة أبيه في يوم الجمعة خامس عشرين شعبان، بعد أن خلع عليه السلطان، وأنعم عليه بخمسمائة دينار، وقد مهّد لأبيه الأمور بالدّيار المصرية مع الظاهرية، وأما الأشرفية خچداشيته فهم من باب أولى لا يختلف على جانم منهم اثنان، وما كان قصد جانم إلا رضاء الظاهريّة، وقد رضوا.
وسار يحيى وهو يظن أن أمر أبيه قد تم في سلطنة مصر، ولم يفطن إلى تقلبات الدهر، فلما أن وصل يحيى إلى والده حدّثه بما وقع له بمصر مع زيد وعمرو، وكان عند جانم- رحمه الله تعالى- خفّة لما كان أوحى إليه الكذابون من أقوال الفقراء، ورؤية

(16/229)


المنامات، وعبارات المنجمين، فتحقّق المسكين أنه لا بد له من السلطنة، ووافق ذلك صغر سن ولده يحيى، وعدم معرفته بالمكايد والتجارب، وحاله كقول من قال:
[الطويل]
ويا دارها بالخيف إنّ مزارها ... قريب، ولكن دون ذلك أهوال
وقوّى أمر يحيى وخفة جانم اجتماع تمراز الأشرفى الدّوادار المقدم ذكره بجانم في دمشق، وقد صدق هذا الخبر لما في نفسه من الملك المؤيد هذا، ومن أبيه الأشرف إينال لما عزله من الدّوادارية الثانية، وأخرجه من مصر بطالا إلى القدس، ثم وقع له معه ما حكيناه، هذا مع كثرة فتن تمراز، وقلة عقله، وسوء خلقه، وشؤم طلعته، فوافق تمراز يحيى، وتسلطا معا على جانم، ولا زالا به حتى وافقهما في الباطن، وأخذ في أسباب ذلك، فلم يمض إلا القليل، ووقع لجانم ما سنذكره مع عوام «1» دمشق من النهب والفتك به، وإخراجه من دمشق على أقبح وجه، حسبما هو مقول في ترجمة الملك الظاهر خشقدم بعد خلع المؤيّد.
وأما أمر الملك المؤيد هذا فإنه بعد خروج يحيى بن جانم، أخذ يوسع الحيلة والتدبير في أخذ جانم بكل طريق، فلم ير أحسن من أن يرسل بكاتب أعيان دمشق بالقبض على جانم المذكور إن أمكن، وهذا القول لم أذكره يقينا، ولكن على قول من قال عنه ذلك، وليس هو ببعيد لأن أهل دمشق وحكامها ما في قدرتهم القيام على نائب الشام إلا بدسيسة من السلطان، والله أعلم بحقيقة الأمر.
واستمر الملك المؤيّد على ما هو عليه بالديار المصرية، وأمره في انحطاط من عدم تدبيره في أواخر أمره، وأيضا من قلة المساعدة بالقول والفعل، وإلا فتدبيره هو كان فى غاية الحسن في أوائل أمره، غير أنه كان لا يعرف مداخلة الأتراك، ولا رأى تقلب «2» الدّول، ولا حوله من رأى؛ لأنه أبعد الناس عنه قاطبة، وقرّب الأمير بردبك

(16/230)


الدوادار الثانى، لكونه صهره زوج أخته، مملوك أبيه، بل قيل إن تقريبه لبردبك أيضا ما كان على جليته، فعلى هذا ضعف الأمر من كل جهة، ونفرض أنّ أمر بردبك كان على حقيقة، فما عساه كان يفعل، وهو أيضا أجنبىّ عن معرفة ما قلناه؟ فإنه ما ربّى إلا عند أستاذه الأشرف إينال وهو أمير، فلا يعرف أحوال المملكة إلا بعد سلطنة أستاذه أيام الأمن والسعادة- انتهى.
وفي يوم الخميس تاسع شهر رمضان خلع السلطان الملك المؤيد على شرف الدين البقرى باستقراره ناظر الإصطبلات السلطانية، بعد عزل محمود بن الديرى.
وفي يوم الجمعة عاشره أخذ قاع النيل، فجاءت القاعدة- أعنى الماء القديم- ستة أذرع ونصفا.
وفي ليلة الثلاثاء رابع عشر شهر رمضان المذكور خسف جميع جرم القمر، وغاب في الخسف تسعين درجة، وصارت النجوم في السماء كليلة تسع وعشرين الشهر، ولعلّ ذلك يكون نادرا جدا، فإنى لم أر في عمرى مثل هذا الخسف.
هذا وأمر الملك المؤيد آخذ في اضطراب من يوم عيّن تجريدة إلى البحيرة، ولم تخرج التجريدة وخالفه من كتب إليها من المماليك السلطانية، فإنه لما عين التجريدة إلى البحيرة لم يعين من المماليك السلطانية أحدا من مماليك أبيه الأجلاب، فعظم ذلك على من عين من غيرهم، وعلى من لم يعيّن أيضا، لمعرفتهم أنه كلموه في أمر مماليك أبيه واستمالوه لهم؛ فإنه استفتح سلطنته بإبعادهم ومقتهم وإرداعهم، فأحبه كل أحد، فلما فطنوا الآن بميله إليهم، نفرت القلوب منه، وخافوا من أفعال الأجلاب القبيحة التي فعلوها في أيام أبيه أن تعود، فصممت المماليك المعينة إلى البحيرة في عدم الخروج إلا إن عين معهم جماعة من أجلاب أبيه، وساعدهم في ذلك المماليك السلطانية من كل طائفة؛ مخافة من تقريب الأجلاب، فأساء المؤيد التدبير من أنه لم يبت أمرا لا بقوة ولا بلين، بل سكت وسمع قول من أملاه المفسود من قوله: إذا أرسلت مماليك أبيك من يبقى حولك،

(16/231)


وإذا أبعدت مماليك والدك فمن تقرب؟ فكأنه مال لهذا القول الواهى واستحسنه، وهذا نوع مما كنا فيه أولا من أنه ما كان عنده من يرشده إلى الطريق.
ثم كلم الملك المؤيد المماليك أيضا في السفر، فاعتلّوا بطلب الجمال، فأراد تفرقة الجمال، فلم يأخذوها، واستمروا على ذلك، وسكنت «1» حركة السفر بسكات السلطان، وبذلك فشا انحطاط قدره وتلاشى أمره، بعد أن كان له حرمة عظيمة، ورعب في القلوب.
فلقد رأيت في تلك الأيام شخصا من أوباش المماليك الظاهرية يكلم الأمير بردبك الدوادار الثانى بكلام لو كلّمه لمن يكون فيه شهامة لحمل السلطان على شنقه في الحال، وكان ذلك هو الحزم على قول بعض النّهابة: «إما إكديش، أو نشابة للريش» ، وتلافى الأمور إما يكون بها أو عليها، والحزم إنما هو الشد على من عين وسفرهم غصبا، فإن تم ذلك فقدها به كل أحد، وقد قيل «من هاب خاف «2» » أو اللين والتلطف بمن كتب «3» والاعتذار لهم عن عدم كتابته لمماليك أبيه الأجلاب، بقوله: ما منعنى أن أكتب هؤلاء معكم إلا أنهم ليسوا بأهل لمرافقتكم، فحيثما أحببتموا ذلك فأنا أكتب منهم جماعة، ثم يكتب منهم عدة، فإن تم ذلك ومشى فالأمر إليك بعد سفرهم دبّر ما شئت، وإن لم يتم فبادر للفعل الأول بكل ما تصل قدرتك إليه واستعمل قول المتنبى فى قوله من قصيدته المشهورة: [الكامل]
لا يخدعنك من عدوّك دمعه ... وارحم شبابك من عدو ترحم
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم
فلم يقع منه ذلك، ولا ما يشبهه، ولا أشار «4» عليه أحد من أصدقائه بشىء يكون فيه مصلحة لثبات ملكه، بل سكت كل أحد عنه، وصار كالمتفرج، إما لبغض فيه، أو لقلة معرفة بالأمور.

(16/232)


ذكر نكبة الملك المؤيد أحمد ابن الملك الأشرف إينال وخلعه من الملك
لما كان آخر يوم الجمعة سابع عشر شهر رمضان من سنة خمس وستين المذكورة رسم السلطان الملك المؤيد أحمد لنقيب الجيش الأمير ناصر الدين محمد بن أبى الفرج أن يدور على الأمراء مقدمى الألوف، ويعلمهم أن السلطان رسم بطلوعهم من الغد في يوم السبت إلى الحوش السلطانى من قلعة الجبل بغير قماش الموكب، ولم يعلمهم لأى معنى يكون طلوعهم واجتماعهم في هذا اليوم بالقلعة، وهو غير العادة، فدار دوادار نقيب الجيش على الأمراء وأعلمهم بما رسم به السلطان من طلوعهم إلى القلعة، وأخذ الأمراء من هذا الأمر أمر مريج «1» ، وخلا كل واحد بمن يثق به، وعرفه الخبر، وهو لا يشك أن السلطان يريد القبض عليه من الغد، وماجت الناس وكثر الكلام بسبب ذلك، وركبت الأعيان بعضها على بعض، وأما الأمراء فكل منهم تحقق أنه مقبوض عليه من الغد، ووجد لذلك من كان عنده كمين من الملك المؤيّد أو يريد إثارة فتنة فرصة، وحرّض بعضهم بعضا؛ إلى أن ثارت المماليك الظاهريّة في تلك الليلة، وداروا على رفقتهم وإخوانهم وعلى من له غرض في القيام على الملك المؤيّد، وداموا على ذلك ليلتهم كلها.
فلما كان صبح نهار السبت تفرّقوا على أكابر الدّولة والأمراء في بيت الأتابك خشقدم لعمل المصلحة، فداروا على الأمراء، وأمسكوا منهم جماعة كبيرة، وأحضروهم إلى بيت الأتابك خشقدم، على كره من خشقدم، وسارت فرقة في باكر النهار إلى

(16/233)


بيت الأمير بردبك الأشرفى الدّوادار الثانى الملاصق لمدرسة السلطان حسن، وأحضروه إلى بيت الأمير الكبير خشقدم، بعد أن أخرقوا به.
هذا وقد اجتمعت طوائف المماليك، مثل الناصريّة فرج، والمؤيدية شيخ، والأشرفية برسباى، والظاهرية جقمق، والسيفية، الجميع في بيت الأمير الكبير، ولم يطلع إلى القلعة في هذا اليوم أحد من الأمراء والأعيان إلا جماعة يسيرة جدا.
فلما تكامل جمعهم في بيت الأمير الكبير، وأكثر الطوائف يوم ذاك الأشرفية والظاهرية، وكبير الأشرفية الأمير قرقماس أمير مجلس، ولا كلام له، بل الكلام لجانبك القجماسى الأشرفى المشدّ، ولجانبك من «1» أمير الخازندار، والظاهرية كبيرهم جانبك نائب جدّة، أحد مقدمى الألوف، وقد صارت خچداشيته يوم ذاك في طوع يده وتحت أوامره؛ لحسن سياسته وجودة تدبيره، فانضمت كلمة الظاهريّة به، حتى صارت كلمة واحدة، وهم حسّ «2» وهو المعنى، وهذا بخلاف الأشرفية، فإنهم وإن كانوا هم أيضا متفقين فالاختلاف بين أكابرهم موجود بالنسبة إلى هؤلاء، وعدم اكتراثهم بهذا الأمر المهم، ولتطلّعهم على مجىء خچداشهم الأمير جانم نائب الشام، ولو أنّ أمر المؤيد طرقهم على بغتة ما طاوعوا على الرّكوب في مثل هذا اليوم قبل مجىء خچداشهم.
فأخذ الأمير جانبك نائب جدّة المذكور في تأليف الأشرفية على الظاهرية بحسن تدبير، حتى تمّ له ذلك، وصاروا على كلمة واحدة، ثم شرعوا في الكلام بحضرة الأمراء في الاجتماع بسببه، فتكلم بعض من حضر من الأمراء بأن قال: «أيش المقصود بهذا الجمع؟» أو معنى هذا الكلام، فأجاب الجميع بلسان واحد: «نريد خلع الملك المؤيد أحمد من السلطنة، وسلطنة غيره» .

(16/234)


وكان الباعث لهذه الفتنة ما قدّمناه، وأيضا الظاهرية، فإن الملك المؤيد لما تسلطن لم يحرك ساكنا «1» ولم يتغير أحد مما كان عليه، فشقّ ذلك على الظاهريّة، وقال كل منهم في نفسه: كأنّ الملك الأشرف إينال مامات، فإن الغالب كل «2» منهم كان أخذ ما بيده من الإقطاعات، وحبس ونفى في أوّل سلطنة الأشرف إينال، كما هى عادة أوائل الدّول، وبقى منهم جماعة كثيرة بلا رزق ولا إمرة ولم يجدوا عندهم قوة ليخلعوا الملك المؤيد هذا ويسلطنوا غيره وحدهم، فكلموا الأشرفيّة في هذا المعنى غير مرّة، وترققوا لهم، فلم يقبلوا منهم ذلك، لنفرة كانت بين الطائفتين قديما وحديثا، وأيضا فلسان حال الأشرفية يقول عندما سألوهم الظاهريّة: نحن الآن في كفاية من الأرزاق والوظائف، فعلام نحرك ساكنا «3» ، ونخاطر بأنفسنا؟ فعجزوا فيهم الظاهرية وقد ثقل عليهم الملك المؤيد، وكثر خوفهم منه، فإنه أوّل ما تسلطن أبرق وأرعد، فانخزى كل أحد، وحسبوا أنّ في السويداء رجالا، ولهذا قلت فيما تقدّم:
لو فعل ما فعل لمشى له ذلك، لمعرفتى بحال القوم وشجاعتهم.
وكان دخول المؤيد السلطنة بحرمة وافرة، لأن سنّه كان نحو الثلاثين سنة يوم تسلطن، وكان ولى الأتابكية في أيّام أبيه، وأخذ وأعطى، وسافر أمير حاج المحمل، وحجّ قبل ذلك أيضا وسافر البلاد، ومارس الأمور في حياة والده وهذا كله بخلاف من تقدّمه من سلاطين أولاد الملوك، فإن الغالب منهم حدث السّنّ يريد له من يدبّره، فإنه ما يعرف ما يراد منه، فيصير في حكم غيره من الأمراء فتتعلّق الآمال بذلك الأمير، وتتردّد الناس إليه، إلى أن يدبّر في سلطنة نفسه، بخلاف المؤيّد هذا. فإنه ولى السلطنة وهو يقول في نفسه: «إنه يدبر مع مملكة مصر ممالك العجم زيادة على تدبير مصر» .
قلت: وكان كما زعم، فإنه تقدم أنه كان عارفا عاقلا مباشرا، حسن التدبير،

(16/235)


عظيم التنفيذ شهما، وكان هو المتصرف في الأمور أيّام أبيه في غالب الولايات والعزل وأمور المملكة، فلما تسلطن ظنّ كل أحد أن لا سبيل في دخول المكيدة على مثل هذا، لمعرفة الناس بحذقه وفطنته.
وكان مع هذه الأوصاف مليح الشكل، وعنده تؤدة في كلامه، وعقل وسكوت خارج عن الحد، يؤديه ذلك إلى التكبّر، وهذا كان أعظم الأسباب لنفور خواطر الناس عنه، فإنه كان في أيام سلطنته لا يتكلم مع أحد حتى ولا أكابر الأمراء إلا نادرا، ولأمر من الأمور الضروريات، وفعل ذلك مع الكبير والصغير، وما كفى هذا حتى صار يبلغ الأمراء أنّه في خلوته يسامر الأطراف الأوباش الذين يستحى من تسميتهم، فعظم ذلك على الناس، فلو كان عدم الكلام مع الناس قاطبة لهان على من صعب سكاته عليه، من كون الرفيع يكون مبعدا والوضيع مقربا، فهذا أمر عظيم لا تحمله النفوس إلا غصبا، فلما وقع ذلك وجد من عنده حقد فرصة، وأشاع عنه هذا المعنى وأمثاله، وبشّع في العبارة وشنّع، وقال هذا وغيره: إنه لا يلتفت إلى المماليك ويزدريهم، وهو مستعزّ بمماليك أبيه الأجلاب وأصهاره وحواشيه وخچداشية أبيه وبالمال الذي خلّفه أبوه، ومنهم من قال أيضا: إنما هو مستعز «1» بحسن تدبيره، فإنه قد عبّأ «2» لكل سؤال جوابا، ولكل حرب ضربا، وكان مع هذا قد قمع مباشرى الدّولة وأبادهم، وضيّق عليهم، ودقّق في حسابهم كما هو في الخاطر وزيادة، فما أحسن هذا لو كان دام واستمر!! فنفرت قلوب المباشرين أيضا منه، وحقّ لهم ذلك، واستمرت هذه الحرمة من يوم تسلطن إلى مجىء يحيى بن جانم نائب الشام إلى القاهرة، ثم إلى أن عيّن التجريدة إلى البحيرة، فأخذ أمره في إدبار، لعدم مثابرته على سير طريقه الأوّل من سلطنته، فلو جسر لكسر، لكنه هاب فخاب، ولكلّ أجل كتاب- ولنعد إلى ذكر ما كنا بصدده:

(16/236)


فلما تكامل الجمع في بيت الأمير الكبير خشقدم الناصرى المؤيدى، ومتكلم الأشرفية جانبك المشدّ، وجانبك الظريف الخازندار، ومن معهم من خچداشيتهم الأعيان؛ ومتكلم الظاهرية الأمير جانبك نائب جدّة أحد مقدّمى الألوف، وأعيان خچداشيته، مثل: الأمير أزبك من ططخ الظاهرى، والأمير بردبك البجمقدار ثانى رأس نوبة جدّة، وقد وافقه الأشرفيّة، وهم يظنون أن الجمع ما هو إلا لسلطنة الأمير جانم نائب الشام؛ لأنهم كانوا اتفقوا على ذلك حسبما تقدم ذكره، وهو أن الظاهريّة كانوا إذا شرعوا في الكلام مع الأشرفيّة في معنى الركوب، يقولون بشرط أن لا يكون السلطان منا ولا منكم، وإنما يكون من غير الطائفتين، فيقع بذلك الخلف بينهم، ويتفرقون «1» بغير طائل، إلى أن استرابت الظاهريّة من الملك المؤيّد أحمد هذا، وعظم تخوّفهم منه، فوافقوهم على سلطنة جانم لما جاء ولده يحيى كما تقدم ذكره.
ثم وقع هذا الأمر بغتة، وعلم جانبك نائب جدة أن الأمر خرج عن جانم لغيابه، ولا بد من سلطنة غيره لأن الأمر ما فيه مهلة، فلم يبد للأشرفية شيئا من ذلك، وأخذ فيما هو بصدده إلى أن يتمّ الأمر لغير جانم، ثم يفعل له ما بدا له، وكذا وقع حسبما يأتى ذكره في مجىء جانم، وفي سلطنة الملك الظاهر خشقدم.
هذا وقد جلس جميع الأمراء بمقعد الأمير الكبير خشقدم، فعندما تكامل جلوسهم قام الأمير جانبك نائب جدّة إلى مكان بالبيت المذكور، ومعه الأمير جانبك الأشرفى المشدّ، والأمير جانبك الأشرفى الظريف الخازندار، والأمير أزبك من ططخ الظاهرى، والأمير بردبك البجمقدار الظاهرى، وجماعة أخر من أعيان الطائفتين، وتكلموا فيمن يولونه السلطنة، وغرض جانبك نائب جدّة في سلطنة الأتابك خشقدم، لا في سلطنة جانم نائب الشام، غير أنه لا يسعه الآن إظهار ما في ضميره، خوفا من نفرة الأشرفية، وقال لهم ما معناه: «نحن قد كتبنا للأمير جانم بالحضور، وبايعناه بالسّلطنة، وأنتم تعلمون ذلك عن يقين، وقد دهمنا هذا الأمر على حين غفلة،

(16/237)


فما تكون الحيلة في ذلك، ولا بدّ من قتال الملك المؤيّد في يومنا، والسلطان ما يقاتل إلا بسلطان مثله، ومتى تهاونّا في ذلك ذهبت أرواحنا» ، فعلم كلّ أحد ممن حضر أن كلام جانبك نائب جدّة صواب، وطاوعه كلّ من حضر على مقالته هذه، فلما وقع ذلك أجمع رأى الجميع على سلطنة أحد من أعيان الأمراء.
ثم تكلموا فيمن يكون هذا السلطان، فدار الكلام بينهم في هذا المعنى، إلى أن قال بعضهم: «سلطنوا الأمير جرباش المحمدى الناصرى أمير سلاح» ، فلم تحسن هذه المقالة ببال الأمير جانبك، ولم يقدر على منعه تصريحا «1» وقال: «جرباش أهل لذلك بلا مدافعة، غير أنه متى تسلطن لا يمكنكم صرفه من السلطنة بغيره- يعنى بالأمير جانم- تلويحا- لأنه رجل عظيم، ومن الجنس، وصهر خچداشنا بردبك البجمقدار، وصهر خچداشكم خيربك البهلوان الأشرفى وغيره، وقد قارب مجىء الأمير جانم من الشام، والأمر إليكم، ما شئتم إفعلوا» .
فكان هذا كله إبعادا لجرباش المذكور، وأخذا بخواطر الأشرفية، فمال كلّ أحد إلى كلامه، ثم قال جانبك: «الرأى عندى سلطنة الأمير الكبير خشقدم المؤيدى، فإنه من غير الجنس، يعنى كونه رومى الجنس، وأيضا إنه رجل غريب ليس له شوكة، ومتى أردتم خلعه أمكنكم ذلك، وحصل لكم ما تقصدونه من غير تعب» .
فأعجب الجميع هذا الكلام، وهم لا يعلمون مقصوده ولا غرضه؛ فإن جلّ قصد جانبك كان سلطنة خشقدم، فإنه مؤيّدى، وخچداشيّته جماعة يسيرة، وأيضا يستريح من جانم نائب الشام وتحكّم أعدائه الأشرفيه فيه وفي خچداشيته الظاهريّة، ويعلم أيضا أنه متى تمّ سلطنة الأتابك خشقدم، وأقام أياما عسر خلعه، وبعدت السلطنة عن جانم وغيره، فدبّر هذه المكيدة على الأشرفية، فمشت عليهم أولا، إلى أن ملكوا القلعة، وخلع الملك المؤيّد بسرعة فتنبّهوا لها.

(16/238)


وكانت الأشرفية لما سمعوا كلام جانبك، وقالوا: «نعم نرضى بالأمير الكبير» كان في ظنهم أن قتالهم يطول مع الملك المؤيّد أيّاما كثيرة، كما وقع في نوبة المنصور عثمان، ويأتيهم جانم وهم في أشد القتال، فلا يعدلون عنه لخشقدم، فيتمّ لهم ما قصدوه، فاتفقت كل طائفة مع الأخرى «1» فى الظاهر، وباطن كل طائفة لواحد، فساعد الدّهر الظاهريّة، وانهزم الملك المؤيّد في يوم واحد حسبما نذكره الآن.
فلما وقع هذا الكلام جاءت الطائفتان الأشرفيّة والظاهريّة إلى الأمراء وهم جلوس بمقعد الأمير الكبير خشقدم، والجميع جلوس بين يدى خشقدم، فافتتح الأمير جانبك نائب جدّة الكلام وقال:
«نحن- يعنى الظاهرية والأشرفية- نريد رجلا نسلطنه، يكون لا يميّز طائفة على أخرى، بل تكون جميع الطوائف عنده سواء في الأخذ والعطاء، والولاية والعزل، وأن يطلق الأمراء المحبوسين من سائر الطوائف، ويرسم في سلطنته بمجيء المنفيّين من البلاد الشّاميّة وغيرها إلى البلاد المصريّة، ويطلق الملك العزيز يوسف ابن الملك الأشرف برسباى، والملك المنصور عثمان ابن الملك الظاهر جقمق من برجى الإسكندرية، ويسكنا الإسكندرية في أى دار شاءا، ويأذن لهما في الرّكوب إلى الجامع وغيره بثغر الإسكندرية من غير تحفّظ بهما.
وكان كلام الأمير جانبك لجميع الأمراء لم يخص أحدا منهم بكلام دون غيره، فبادر الأتابك خشقدم بالكلام وقال: «نعم» ثم التفت جانبك إلى الجمع، وقال:
«فمن يكون السلطان على هذا الحكم؟» فبدأ سنقر قرق شبق الأشرفى الزّردكاش، وقال ما معناه: «ما نرضى إلا بالأمير جانم نائب الشام، أنتم كتبتم «2» له بالحضور، وأذعنتمو بسلطنته، فكيف تسلطنوا غيره؟ فنهره الأمير خيربك من جديد الأشرفى لنفس كان بينهما قديما، وقال:

(16/239)


«لست بأهل الكلام في مثل هذا المجلس» فعند ذلك قال الأمير قائم التاجر المؤيّدى أحد مقدمى الألوف ما معناه «يا جماعة إن كنتم كاتبتم الأمير جانم نائب الشام فلا تسلطنوا غيره إلى أن يحضر وسلطنوه، فإنه لا يسعكم من الله أن تسلطنوا غيره الآن ثم تخلعوه عند حضور جانم، فهذا شىء لا يكون» فلم يسمعوا كلامه، وسمع في الغوغاء قول قائل لا يعرف:
«سلطنوا الأمير جرباش» :
فامتنع جرباش من ذلك وقال ما معناه: «إن هذا شىء راجع إلى الأمير الكبير» ، وقبّل الأرض من وقته، «1» فقام الأمير جانبك الأشرفى الظريف الخازندار وبادر بأن قال: «السلطان الأمير الكبير» ، وقبّل الأرض «2» ، ثم فعل ذلك جميع من حضر من الأمراء، ونودى بالحال بسلطنته بشوارع القاهرة، ثم شرعوا بعد ذلك في قتال الملك المؤيّد أحمد هذا.
كل ذلك والملك المؤيّد في القلعة في أناس قليلة من مماليكه ومماليك أبيه الأجلاب، ولم يكن عنده من الأمراء أحد غير مملوك والده قراجا الطويل الأعرج، أحد أمراء العشرات، وهو كلا شىء، والأمير آخور الكبير برسباى البجاسى، وليته لا كان عنده «3» ، وخيربك القصروى نائب قلعة الجبل وكان أضرّ عليه من كل أحد حسبما يأتى ذكر فعله، كلّ ذلك والملك المؤيد لا يعلم حقيقة ما العزم فيه، غير أنه يعلم باجتماع المماليك والأمراء في بيت الأمير الكبير خشقدم، وأنهم في أمر مريج، غير أنه لا يعرف نص ما هم فيه، وصار الملك المؤيّد يسأل عن أحوالهم، وينتظر مجىء أحد من مماليك أبيه إليه، فلم يطلع إليه أحد منهم، بل العجب أن غالبهم كان مع القوم عند الأمير الكبير مساعدة على ابن أستاذهم، وليتهم كانوا من المقبولين، وإنما كانوا من المذبذبين

(16/240)


لا غير، على أن الملك الظاهر خشقدم لما تسلطن أبادهم، وشوّش عليهم بالمسك وإخراج أرزاقهم أكثر مما عمله مع الذين كانوا عند المؤيد- فلا شلّت يداه- وبقى الملك المؤيد كلما فحص عن أمر الفتنة لا يأتيه «1» أحد بخبر شاف، بل صارت الأخبار عنده مضطربة، وآراؤه مفلوكة، وهو في عدم حركة، ويظهر عدم الاكتراث بأمر هذا الجمع، إلى أن تزايد الأمر، وخرج عن الحد، وصار اللعب جدّا، فعند ذلك تأهّب من كان عنده من المماليك، وقام الملك المؤيّد من قاعة الدهيشة، ومضى إلى القصر السلطانى المطلّ على الرّميلة «2» ، ثم نزل بمن معه إلى باب السلسلة، وقبل أن يصل إلى الإسطبل جاءه الخبر بأن القوم أخذوا باب السلسلة، وملكوا الإسطبل السلطانى، وأخذوا الأمير برسباى البجاسى الأمير آخور الكبير أسيرا إلى الأمير الكبير خشقدم، وكان أخذ باب السلسلة مكيدة من برسباى المذكور، فلما سمعت الأجلاب أخذ باب السلسلة نزل طائفة منهم وصدموا من بها من عساكر الأتابك خشقدم صدمة هزموهم فيها، واستولوا على باب السلسلة ثانيا، وهو بلا أمير آخور.
وجلس السلطان الملك المؤيد بمقعد الإسطبل المطل على الرّميلة، وكان عدم نزول المؤيّد إلى الإسطبل بسرعة له أسباب، منها: أنه كان مطمئن الخاطر على باب السلسلة؛ لكون الأمير آخور برسباى ليس هو من غرض أحد من الطائفتين، وأيضا كونه صهره زوج بنت أخته من الأمير بردبك الدّوادار الثانى، وقد صار بردبك من الممسوكين عند الأتابك خشقدم، وأيضا أن والده إينال هو الذي رقّاه وخوّله في النعم، فلم يلتفت برسباى لشىء من ذلك، وأنشد قول من قال: [الوافر]
لعمرك والأمور لها دواع ... لقد أبعدت ياعتب الفرارا
ومنها: أنه صار ينتظر من يأتيه من أصحابه وحواشيه وخچداشية «3» أبيه ومماليكه،

(16/241)


فلم يأته أحد منهم، فلما يئس منهم قام من الدّهيشة بعد أن جاءه الخبر بأخذ باب السلسلة واسترجاعها بيد مماليك أبيه الأجلاب، ولما جلس بالمقعد ورأى القوم قد تكاثف جمعهم وكثر عددهم، وهو فيما هو فيه من قلّة العساكر والمقاتلة، لم يكترث بذلك، وأخذ في الدفع عن نفسه بمن عنده، غير أن الكثرة غلبت الشجاعة، وما ثمّ شجاعة ولا دربة بمقاومة الحروب، وصار كذلك خذلانا من الله تعالى، فإنه لم يطلع إليه في هذا اليوم واحد من مماليك أبيه القديمة ولا خچداشيته، وما كان عنده من الأمراء غير قراجا المقدم ذكره، ومن أعيان الخاصكية فارس البكتمرى أحد الدّوادارية الأجناد، ومقبل دواداره قديما قبل سلطنته، وهؤلاء الثلاثة كلا شىء، ولولا ذكر أسماء من كان عنده علم خبر ما ذكرت مثل هؤلاء الأصاغر، وكان عنده مع هؤلاء أجلاب أبيه الذين بالأطباق، وهم عدة كبيرة نحو الألف أو دونها بيسير، أو أكثر منها بقليل، وهم الذين اشتراهم والده الأشرف بعد سلطنته من التجار، وأما الذين اشتراهم من تركة الظاهر جقمق ومن مماليك ولده الملك المنصور عثمان- وعدتهم تزيد على المائتين، وهم أعيان مماليك الأشرف إينال وأصحاب الوظائف والإقطاعات- فقد استمالهم الأمير جانبك نائب جدّة قبل ذلك، وقال لهم: «أنتم ظاهرية وشراء الأشرف لكم غير صحيح» فمالوا إلى كلامه وإحسانه وعطاياه الخارجة عن الحدّ في الكرم، وصاروا من حزب الظاهرية، وركبت الجميع معه في هذا اليوم، وقاتلوا ابن أستاذهم أشدّ قتال، وصاروا هم يوم ذلك أعيان العسكر بالشبيبة والإمكان والكثرة، هذا مع من كان مع الأتابك خشقدم من الناصرية والمؤيديّة والظاهرية والسيفية.
فلما رأى الملك المؤيّد كثرة هذه العساكر وميل مماليك والده معهم تعجّب غاية العجب، وعلم أن ذلك أمر ربّانىّ ليس فيه حيلة، وما هو إلا بذنب سلف من دعوة مظلوم غفلوا عنها لم يغفل الله عنها، أو للمجازاة؛ لأن الجزاء من جنس العمل، وقد ركب أبوه الملك الأشرف إينال على الملك المنصور عثمان بعد أن تخوّل فى نعم الظاهر جقمق، فإنه هو الذي رقّاه وولّاه الأتابكية، فغدر به وخلعه من الملك، وتسلطن مكانه، وحبسه إلى أن مات.

(16/242)


وأغرب من هذا كله أن الملك المؤيد هذا كان له أيام والده جماعة كبيرة من أعيان الظاهريّة والأشرفيّة والسيفية يصحبونه ويمشون في خدمته، ويتوجهون معه في الرّمايات والأسفار، وإحسانه متصل إليهم من الإنعام والمساعدة في الأرزاق والوظائف، فلم يطلع إليه واحد منهم، وأيضا فانضافوا «1» الجميع للأتابك خشقدم ومن معه قبل أن يستفحل أمر خشقدم ويضعف أمر المؤيد، فماذاك إلا عدم موافاة لا غير.
وأعجب من هذا أن أصحاب المؤيد ومماليك أبيه الذين تقدم ذكرهم ممّن انضاف مع الأتابك خشقدم كانوا يوم الواقعة من المقوتين لا من المتأهلين، وذلّ الإبعاد لائح عليهم، وكان يمكنهم «2» تلافى الأمر والطلوع إلى الملك المؤيد ومساعدته، فلم يقع ذلك، فهذا هو السبب لقولى: إن هذا كله مجازاة لفعل والده السّابق، وقد ورد في الإسرائيليات، يقول الرب: «يا داود، أنا الرّب الودود، أعامل الأبناء بما فعل الجدود»
ثم التحم القتال بين الطائفتين مناوشة لا مصاففة، غير أن كلا من الطائفتين مصرّ على قتال الطائفة الأخرى، والملك المؤيد في قلة عظيمة من المقاتلة ممن يعرف مواقع الحرب وليس معه إلا أجلاب، وهذا شىء لم يقع لأحد غيره من السلاطين أولاد السلاطين؛ فإن الناس لم تزل أغراضا، ووقع ذلك للعزيز مع الملك الظاهر جقمق، فكان عند العزيز جماعة كثيرة من الأمراء والأعيان لا تدخل تحت حصر، وكذلك للمنصور عثمان مع الملك الأشرف إينال، وكان عنده خلائق من أعيان الأمراء، مثل الأمير تنم المؤيدى أمير سلاح، ومثل الأمير قانى باى الچاركسى الأمير آخور الكبير، وغيرهما من أعيان أمراء أبيه، ولا زالت الدنيا بالغرض، فقوم مع هذا، وقوم مع هذا، غير أن الملك المؤيد هذا لم يكن عنده أحد البتة، فانقلب الموضوع في شأنه؛ فإنه كان يمكن الذي وقع له يكون للعزيز والمنصور؛ فإنهما كانا حديثى سن، والذي وقع لهما-

(16/243)


أعنى العزيز والمنصور- كان يكون للمؤيّد؛ لأنه كبير سن، وصاحب عقل وتدبير- فسبحان الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
قلت: ولهذا لم تطل وقعة المؤيد هذا، فإنه علم بذلك زوال ملكه، وتركه برسباى البجاسى الأمير آخور، وخيربك القصروى نائب قلعة الجبل، ونزلا إلى الأتابك خشقدم، فإن العادة في الحروب إذا كان كل من الطائفتين يقابل الأخرى في القوة والكثرة يقع القتال بين الطائفتين، وكلّ من الطائفتين يترجّى النّصرة، إلى أن يؤول النصر لإحدى الطائفتين، وتذهب الأخرى، إلّا هذه الوقعة لم يكن عند المؤيّد إلّا من ذكرناه. وأما عساكر الأتابك خشقدم فانتشرت على مفارق الطرق، فوقف الأمير جانبك الظاهرى نائب جدّة بجماعة كثيرة من خچداشيته ومماليكه برأس سويقة منعم، وتلقّى قتال الملك المؤيد بنفسه وبحواشيه المذكورين، وعظم أمر الأمير الكبير خشقدم به حتى تجاوز الحدّ «1» ، واجتهد جانبك المذكور في حرب المؤيد حتى أباده.
وكان الملك المؤيّد أولا يقرّب جانبك هذا في ابتداء سلطنته تقريبا هيّنا مع عدم التفات إليه ولا إلى غيره؛ لأنه كان يقول في نفسه: إن ابتداءه كانتهاء أبيه في العظمة، ولما تسلطن أخذ في الأمر والنهى أولا بغير حساب عواقب، استعزازا بكثرة ماله وبحواشيه ومماليك أبيه، فسار في الناس بعدم استمالة خواطرهم، وسار على ذلك مدّة أيام، وجعل جانبك هذا في أسوة من سلك معهم هذه الفعلة، فاستشارنى جانبك في أن يداخله لعله يرقّع عليه أمره، فإنه ما كان «2» حمولا للذّل، وإنما كان طبعه أن يبذل

(16/244)


المال الجزيل في القدر اليسير في قيام الحرمة، فأشرت عليه بالمداخلة، فداخله، وكنت أنا قبل ذلك داخلته أياما، فإذا به جامد نفور بعيد الاستمالة إلا لمن ألفه، وحدّثته «1» بما رأيته منه قبل أن أشير عليه بصحبته، فقال ما معناه: إنى أنا آخذ الشيء بعزة وتمهل، وهو يدور مع الدهر كيفما دار، ثم اجتمع بى بعد مدّة أيام في يوم الجمعة بعد أن صلّى معه الجمعة، وقلع ما عليه من قماش الموكب، ودخل إليه في الخلوة بقاعة الدهيشة، ثم خرج من عنده وهو غير منشرح الصدر، وقال لى: «القول ما قلته» ، ثم شرعنا فيما نحن في ذكره مجلسا طويلا، وقمنا على غير رضاء من الملك المؤيّد.
ووقع في أثناء ذلك ما ذكرناه من أمر الوقعة والفتنة، ووقوف جانبك ومن معه برأس سويقة منعم، هذا مع ما كان بلغ المؤيد في هذا اليوم وفي أمسه أن القائم بهذا الأمر كله جانبك نائب جدّة، وأنه هو أكبر الأسباب في زوال ملكه، وفي اجتماع الناس على الأتابك خشقدم، ثم رأى في هذا اليوم بعينه من قصر القلعة وقوف جانبك على تلك الهيئة، فعلم أن كل ما قيل عنه في أمسه ويومه صحيح، فأخذ عند ذلك يعتذر وكتب كتابا للأمير جانبك بخطّه يعده فيه بأمور، منها: أنه يجعله إن دخل في طاعته أتابك العساكر بالدّيار المصريّة، وأنه لا يخرج عن أوامره، وأنه يكون هو صاحب عقده وحلّه، ويترقّق له، وبسط الكلام في معنى ما ذكرناه أسطرا كثيرة، وهو يكرّر السؤال فيه، ويحلف له فيما وعده به، ورأيت أنا الكتاب بعينى، وفيه لحن كثير، كأنه كان مامارس العربيّة، ولا له إلمام بالمكاتبات، على أنه كان حاذقا فطنا، غير أن الفضيلة نوع آخر، كما كانت رتبة المقام الناصرى محمد ابن الملك الظاهر جقمق- رحمهما الله تعالى- فلم يرث جانبك لما تضمن هذا الكتاب، ودام على ما هو عليه، ونهر قاصده الحامل لهذا الكتاب، وقال له: «إن عدت إلىّ مرّة أخرى أرسلتك إلى الأمير الكبير» ، واستمر على ما هو عليه من الاجتهاد في القتال، وصار أمر الملك المؤيد في إدبار، وعساكر الأتابك خشقدم في نموّ وزيادة.

(16/245)


هذا والمناوشة بالقتال مستمرّة بين الطائفتين، وقد أفطر في هذا اليوم خلائق من شدة الحر، وتعاطى القتال من الطائفتين؛ وجرح جماعة كثيرة من الفريقين، فلم ينقض النهار حتى آل أمر الملك إلى زوال، وهو مع ذلك ينتظر من يجيء إليه لمساعدته، وهو بين عسى ولعلّ، وكاتب جماعة من أصحابه ممن كان عند الأتابك خشقدم؛ فلم يلتفت إليه أحد لتحقق الناس زوال ملكه.
وبينما الناس في ذلك وإذا بخير بك القصروى نائب قلعة الجبل ترك باب المدرّج، ونزل إلى الأمير الكبير خشقدم، وصار من حزبه، فعلم كلّ أحد أنه قد ذهب أمر الملك المؤيّد، ولو كان فيه بقية ما نزل نائب القلعة منها وانضاف إلى جهة الأمير الكبير، وبقى باب القلعة بغير ضابط، فأرسل الملك المؤيد في الحال بعض أصحابه وجلس مكان خيربك هذا، فلم يشكر أحد خيربك المذكور على فعلته هذه.
كل ذلك وأمر المؤيّد في انحطاط فاحش، وصارت العامة تسمعه المكروه من تحت القلعة: لا سيما لما دخل الليل، فإنه بات بالقصر في قلّة من الناس إلى الغاية؛ لأن غالب من كان عنده تركه ونزل إلى تحت، وكانوا في الأصل جمعا يسيرا، وبات من هو أسفل وقد استفحل أمرهم، وتأهبوا للقتال في غد، وهمتهم قد عظمت من كثرة عددهم، وتكاثف عساكرهم من كل طائفة، حتى من ليس له غرض عند أحد بعينه جاء إلى الأمير الكبير مخافة على رزقه ونفسه؛ لما علم من قوّة شوكة الأمير الكبير وما يؤول أمره إليه.
هذا مع حضور الخليفة والقضاة الأربعة عند الأمير الكبير وجميع أعيان الدولة من المباشرين وأرباب الوظائف وغيرهم، والملك المؤيد في أناس قليلة جدا، ومضت ليلة الأحد المذكور، والملك المؤيد في أقبح حال، هذا وقد عدم ترجّى من كان عنده بالقلعة من نصرته، وتقاعد غالب من كان عنده عن القتال، وهم الأجلاب من مماليك أبيه لا غير.
فلما أصبح نهار الأحد تاسع عشر شهر رمضان من سنة خمس وستين وثمانمائة

(16/246)


ظهر ذلك عليهم، وبردت همتهم، وركضت ريح عزائمهم، وأخذ كل واحد من أصحابه فى مصلحة نفسه، إما بالإذعان للأمير الكبير خشقدم، أو بالتّجهّز للهرب والاختفاء، وظهر ذلك للملك المؤيد عيانا، فأراد أن يسلّم نفسه، ثم أمسك عن ذلك من وقته.
كلّ ذلك وأصحاب الأمير الكبير لا يعلمون بذلك، فقد أصبحوا في أفحل أمر، وأقوى شوكة، وأكثر عدد، وقد تهيئوا في هذا اليوم للقتال ومحاصرة قلعة الجبل، زيادة على ما كانوا عليه في أمسه، وفي نفوسهم أن أمر القتال يطول بينهم أيّاما، وبيناهم في ذلك ورد عليهم خبر الملك المؤيد مفصلا، وحكى لهم انحلال برمه وانفلاك أمره، وما هو فيه من أنه أراد غير مرّة تسليم نفسه، وزاد الحاكى وأمعن لغرض ما، فقوى بذلك قلوب من هو أسفل، وتشجّع كلّ جبان، فطلب المبارزة كلّ مولّ، وتقدّم كل من كان خاف هذا من هؤلاء، فكيف أنت بالشجاع المقدام؟!
فعند ذلك اجتمعوا على القتال، وزحفوا على القلعة بقلب رجل واحد، فقاتلهم عساكر الملك المؤيد قتالا ليس بذاك ساعة هيّنة، فلما رأى الملك المؤيد أن ذلك لا يفيده إلا شدّة وقسوة أمر عساكره ومقاتلته بالكفّ عن القتال، وقام من وقته وطلع القلعة بخواصه، وأمر أصحابه بالانصراف إلى حيث شاءوا.
ثم دخل هو إلى والدته خوند زينب بنت البدرى حسن بن خاص بك، وترك باب السّلسلة لمن يأخذه بالتسليم، وتمزّقت عساكره في الحال كأنها لم تكن، وزال ملكه في أقلّ ما يكون، فسبحان من لا يزول ملكه وبقاؤه الدائم الأبدى.
فلما بلغ الأمير الكبير خشقدم الخبر قام من وقته بمن معه من أصحابه وعساكره، وطلع إلى باب السلسلة، واستولى على الإسطبل السلطانى، وملك قلعة الجبل أيضا في الحال من غير مقاتل ولا مدافع، وأمر الأمير الكبير في الحال بقلع السّلاح وآلة الحرب وسكن الأمر، وخمدت الفتنة كأنها لم تكن، ثم أرسل الأتابك خشقدم في الحال جماعة من أصحابه قبضوا على الملك المؤيد أحمد هذا من الدّور السلطانية، فأمسك من غير ممانعة، وسلم نفسه، وأخرج من الدّور إلى البحرة من الحوش السلطانى، وحبس

(16/247)


هناك بعد أن قيّد واحتفظ به، وأمسك أخوه محمد أيضا، وحبس معه بالبحرة، فخرجت والدتهما خوند زينب المقدّم ذكرها معهما، وأقامت عندهما بالبحرة المذكورة، وقد علمت وعلم كلّ أحد أيضا بأن الذي وقع لهم من زوال ملكهم في أسرع وقت إنما هو بدعوة مظلوم غفلوا عنها، لم يغفل الله عنها، ولله در القائل: [الوافر]
أرى الدّنيا تقول بملء فيها ... حذار حذار توبيخى وفتكى «1»
ولا يغرركم منّى ابتسام ... فقولى مضحك، والفعل مبكى
قلت: «على قدر الصّعود يكون الهبوط، وكما تدين تدان، وما ربّك بظلّام للعبيد، والجزاء من جنس العمل» وكأنّ لسان حال إسكندرية قبل ذلك يقول: «كل ثان لا بدّ له من ثالث» ، فالأوّل ممّن كان فيها من السّلاطين أولاد الملوك: الملك العزيز يوسف ابن الملك الأشرف برسباى، وقد خلعه الملك الظاهر جقمق، وتسلطن مكانه، ثم الملك المنصور عثمان ابن الملك الظاهر جقمق، خلعه الملك الأشرف إينال، وتسلطن عوضه، وهو الثانى، فاحتاجت الإسكندرية إلى ثالث، ليجازى كلّ على فعله، فكان المؤيد هذا، خلعه الملك الظّاهر خشقدم، وتسلطن مكانه، واستولى على جميع حواصل الملك المؤيد وذخائره، فلم يجدوا فيها ما كان في ظنّهم، فطلبوا منه المال، فذكر أنّه أصرف جميع ما كان في خزانة والده في نفقة المماليك السّلطانية لما تسلطن، ولم يبق في الخزانة إلا دون المائة ألف دينار.
ثم تتّبعوا حواصله وحواشيه بعد ذلك، فأخذوا منهم زيادة على مائة ألف دينار، وبعض متاع، وصينى وقماش. واستمرّ الملك المؤيّد محتفظا به بالبحرة إلى ما سنذكره.

(16/248)


وكانت مدّة تحكمه من يوم تسلطن إلى يوم خلع من السلطنة بالملك الظاهر خشقدم أربعة أشهر وستة أيام بغير تحرير، وبتحرير الأوقات والساعات:
وخمسة أيام.
ولما نكب الملك المؤيد وخلع من السلطنة على هذا الوجه كثر أسف الناس عليه إلى الغاية والنهاية، فإنه كان سار في سلطنته سيرة حسنة جميلة، وقمع أهل الفساد وقطّاع الطريق بجميع إقليم مصر، وأمنت السّبل في أيامه أمنا زائدا، واطمأنّت النفوس من تلك المخاوف التي كانت في أيام أبيه، وزالت أفعال الأجلاب بالكليّة مما أردعهم في أوائل سلطنته بالإخراق والوعيد وأبعدهم عنه، ثم سلك الطريق الجميلة فى الرعيّة فعظم حبّ الناس له، وانطلقت الألسن له بالدعاء والابتهال سرّا وعلانية، وسر بسلطنته كلّ أحد من الناس، ومالت القلوب إليه، لولا تكبّر كان فيه وعدم التفات إلى الأكابر، حسبما تقدّم ذكره، وهذا كان أكبر الأسباب لتوغّر خواطر الأمراء منه، وإلا فكان أهلا للسلطنة بلا نزاع، فلو أنّه سار مع الأمراء سيرة والده الأشرف من الملق، وأخذ الخواطر مع إرادة الله تعالى، لدامت أيّامه مقدار المواهب الإلهية، لأنه كان ملكا عارفا سيوسا، فطنا عالى الهمة يقظا، لولا ما شان سؤدده من التكبّر، ومصاحبة الأحداث، ولله در القائل:
[الطويل]
ومن ذا الّذى ترضى سجاياه كلّها؟ ... كفى المرء فخرا أن تعدّ معايبه «1»
ودام الملك المؤيد هذا بالبحرة من الحوش السلطانى بقلعة الجبل إلى يوم الثلاثاء حادى عشرين شهر رمضان فرسم السلطان الملك الظاهر خشقدم بتوجّهه وتوجّه أخيه محمد إلى سجن الإسكندرية، فأنزلا في باكر النهار المذكور، وأخرج الملك المؤيد هذا مقيّدا، وحمل على فرس، ولم يركب خلفه أحد من الأوجاقية «2» - كما هى عادة

(16/249)


من يحمل من أعيان الأمراء إلى سجن الإسكندرية- فنزّهوا مقامه عن ذلك، وأنا أقول: لعل أنه ما قصدوا بذلك إجلاله، فإنه «1» ليس في القوم من هو أهل لهذه المعانى. وإنما الملك المنصور عثمان كان لما أنزل من القلعة إلى الإسكندرية على هذه الهيئة لم يركب خلفه أوچاقى، فظن القوم أن العادة لا يركب خلف السلطان أوچاقى ففعلوا بالمؤيد كذلك، ولقد سمعت هذا المعنى من جماعة من أكابر الجهلة المشهورين بالمعرفة، فلو قيل له: وأى سلطان أنزل من القلعة بعد خلعه من السلطنة إلى الإسكندرية على هذا الوجه، لما كان يسعه أن يقول رأيت ذلك في بلاد الچاركس- انتهى.
وحمل أخوه محمد أيضا على فرس آخر بغير قيد فيما أظن، ونزل أمامه، وبين يديهما مملوك أبيهما قراجا الأشرفى الطويل الأعرج على بغل بقيد، وخلفه أوچاقى- على عادة الأمراء- بسكين، وأنا أقول: عظم قراجا بهذا النزول مع هؤلاء الملوك في مثل هذا اليوم، والذي أراه أنا أنه كان يتوجّه بين يدى هؤلاء ماشيا إلى أن يصل إلى البحر، وإلا فهذا إجلال لقدر هذا الوضيع، وإن كان فيه ما فيه من النكد، ففيه ثوع من رفع مقامه.
وسار الجميع والعساكر محتفظة بهم، وعلى أكثرهم السلاح وآلة الحرب، وجلست الناس بالحوانيت والطّرقات والبيوت لرؤية الملك المؤيد هذا، كما هى عادة العوامّ وغيرهم من المصريين، وتوجهوا بهم من الصليبة إلى أن اجتازوا بالملك المؤيد وأخيه محمد على تلك الهيئة بدار أخته شقيقته زوجة الأمير يونس الدّوادار الكبير، وهو في حياض الموت، لمرض طال به أشهرا تجاه الكبش، فلما وقع بصر زوجة الأمير يونس على أخويها وهما في تلك الحالة العجيبة المهولة صاحت بأعلى صوتها هى ومن حولها من الجوارى والنسوة، فقامت عيطة عظيمة من الصّياح واللّطم والرءوس المكشوفة، فحصل للناس من ذلك أمر عظيم من بكاء وحزن وعبرة «2» على ما أصاب هؤلاء من النّكبة

(16/250)


والهوان بعد الأمن والعزّ الذي لا مزيد عليه، وما أحسن قول من قال في هذا المعنى:
[البسيط]
جاد الزّمان بصفو ثمّ كدّره ... هذا بذاك، ولا عتب على الزمن
ودام سيرهم على هذه الصفة إلى أن وصلوا بهم إلى البحر بخط بولاق بساحل النّيل، فأنزل الملك المؤيد وأخوه ومعهما قراجا المذكور في مركب واحد، وسافروا من وقتهم على الفور إلى الإسكندرية، وقد كثر تأسّف الناس عليهم إلى الغاية، ما خلا المماليك الظاهرية فإنهم فرحوا به لما كان فعل الملك الأشرف إينال بابن أستاذهم الملك المنصور كذلك، فجازوه بما فعلوه الآن مع ابنه الملك المؤيد هذا، قلت: هكذا فعل الدهر، يوم لك ويوم عليك.
ودام الملك المؤيد ومن معه مسافرا في البحر إلى ثغر رشيد، فسافروا على البر إلى أن وصلوا إلى الإسكندرية، فسجنوا بها، واستمر الملك المؤيد مسجونا بقيده إلى أن استهلّت سنة ست وستين فرسم السلطان الملك الظاهر خشقدم بكسر قيده فكسر، وتوجهت والدته خوند زينب إليه وسكنت عنده بالثغر ومعها ابنتها زوجة الأمير يونس بعد موته، ثم مرض ولدها محمد في أثناء السّنة أيّاما كثيرة، ومات بالثغر، ودفن به في ذى الحجة، وقبل موته ماتت ابنته بنت أشهر، ولم يتهم أحد لموته، لأن مرضه كان غير مرض المتهومين، ولما وقع ذلك أرسلت والدته خوند زينب تستأذن السّلطان في حمل رمّة ولدها محمد المذكور من الإسكندرية إلى القاهرة لتدفنه عند أبيه الأشرف إينال، فأذن لها في ذلك، فحملته بعد أشهر، وجاءت به إلى القاهرة في شهر ربيع الأوّل من سنة سبع وستين وثمانمائة، ودفن محمد المذكور على أبيه في فسقية واحدة- رحمهما الله تعالى والمسلمين- ولم تحضر والدته المذكورة مع رمّة ولدها محمد، وإنما قامت عند ولدها الملك المؤيد أحمد بالإسكندرية، لمرض كان حصل للملك المؤيد أبطل بعض أعضائه، ثم عوفى بعد ذلك بمدّة، وحضرت بعد ذلك إلى القاهرة بطلب من السلطان بسبب المال، وصادفت

(16/251)


وفاة الأمير يونس المؤيدى الدوادار الكبير صهره زوج أخته بعد يوم، ثم تزوّجها الأمير كسباى الخشقدمى الدّوادار الثانى، فقبل دخولها ماتت معه.
وكان عمره وقت سلطنته نيفا وثلاثين سنة، فإن مولده وأبوه نائب بغزة.
وكانت مدة سلطنة الملك المؤيّد أحمد على مصر أربعة أشهر وأربعة أيام، مرّت أيامه كالدقائق، لسرعتها وحسن أوقاتها، ودام في الإسكندرية، وقد كمل له بها الآن مدّة عشر سنين سواء.
ولما مات الظاهر خشقدم وتسلطن الملك الظاهر تمربغا الظاهرى، ففى أوّل يوم رسم بإطلاق الملك المؤيّد أحمد من سجن الإسكندرية، ورسم له بأن يسكن في الإسكندرية في أى بيت شاء، وأنه يحضر صلاة الجمعة راكبا، وأرسل إليه خلعة وفرسا بقماش ذهب، فاستمرّ يركب، ولما تسلطن صهره الملك الأشرف قايتماى زاد فى إكرامه، وبقى يسافر، وصاهره على ابنته الأمير يشبك من مهدى الظاهرى الدّوادار الكبير، ودام «1» .
وهذه السنة وهى سنة خمس وستين وثمانمائة هى التي اتفق فيها أن حكم فيها ثلاثة ملوك؛ حكم الملك الأشرف إينال من أوّلها إلى نصف جمادى الأولى، وحكم ولده الملك المؤيّد هذا من نصف جمادى الأولى المذكورة إلى تاسع عشر شهر رمضان فقط، وحكم الملك الظاهر خشقدم من تاسع عشر شهر رمضان فقط إلى آخرها.
وسنذكر وفيات هذه السنة بتمامها في محلها في أول سنين سلطنة الملك الظاهر خشقدم- حسبما اصطلحنا عليه في مصنفنا هذا- إن شاء الله تعالى.

(16/252)


ذكر سلطنة الملك الظاهر خشقدم على مصر
هو السلطان الملك الظاهر أبو سعيد سيف الدين خشقدم بن عبد الله الناصرى المؤيّدى، وهو السلطان الثامن والثلاثون من ملوك التّرك وأولادهم بالديار المصرية، والأوّل من الأروام بعد أن تسلطن من الچراكسة وأولادهم ثلاثة عشر ملكا، أعنى من أول دولة الظاهر برقوق وهو القائم بدولة الچراكسة ابتداء، وأما من سلف من ملوك التّرك الچراكسة والأروام ففيهم اختلاف كثير، لعدم ضبط المؤرخين هذا المعنى، والذي تحرّر منهم من دولة الملك الظاهر برقوق إلى يومنا هذا، فأوّل الچراكسة برقوق، وأول الأروام خشقدم، هذا وبينهما إحدى وثمانون سنة لا تزيد يوما ولا تنقص يوما، لأن كلّا منهما تسلطن في تاسع عشر شهر رمضان، فذاك- أعنى برقوقا- فى سنة أربع وثمانين وسبعمائة، وخشقدم هذا في سنة خمس وستين وثمانمائة، تسلطن يوم خلع الملك المؤيّد أبو الفتح أحمد ابن السلطان الملك الأشرف إينال الأجرود، فى يوم الأحد تاسع عشر شهر رمضان سنة خمس وستين وثمانمائة بعد الزوال، وهو يوم ملك القلعة من الملك المؤيّد أحمد.
فلما كان وقت الزّوال طلب الخليفة المستنجد بالله يوسف والقضاة والأعيان، وقد حضر جميع الأمراء في الإسطبل السلطانى بباب السّلسلة بالحرّاقة «1» ، وبويع بالسلطنة، وكان قد بويع بها من بكرة يوم السبت ثامن عشر شهر رمضان قبل قتال الملك المؤيّد أحمد حسبما تقدّم ذكره في ترجمة الملك المؤيّد أحمد، ولقب بالملك الظاهر، وكنى بأبى سعيد.
ولما تمّ له الأمر لبس خلعة السلطنة السّواد من مبيت الحرّاقة وركب فرس النوبة،

(16/253)


وطلع إلى القصر السلطانى «1» بشعار الملك «2» والأمراء والعساكر مشاة بين يديه، ماخلا الخليفة فإنه راكب معه، وقد حمل القبّة والطير على رأسه الأمير جرباش المحمدى الناصرى المعروف بكرد أمير سلاح، وجلس على تخت الملك، وقبّلت الأمراء والعساكر الأرض بين يديه، ودقّت البشائر في الوقت، فازدحمت الناس لتهنئته وتقبيل يديه إلى أن انتهى كلّ أحد، ونودى في الحال بسلطنته في شوارع القاهرة، وخلع على الخليفة المستنجد بالله يوسف فوقانيا حريرا بوجهين أبيص وأخضر بطرز زركش، وقدّم له فرسا بسرج ذهب وكنبوش زركش، ثم خلع على الأمير جرباش المحمدى أطلسين متمّرا وفوقانيا بوجهين بطرز زركش، وأنعم عليه بفرس بقماش ذهب، وهذه الخلعة لحمله القبّة والطير على رأس السلطان، وخلعة الأتابكيّة تكون بعد ذلك، غير أن جرباش المذكور علم أنه قد صار أتابكا لحمله القبّة والطير على رأس السلطان.
ثم خلع السلطان على الأمير قرقماس الأشرفى أمير مجلس باستقراره أمير سلاح عوضا عن جرباش.
وكانت سلطنة الملك الظاهر خشقدم وجلوسه على تخت الملك وقت الظهر من يوم الأحد المقدم ذكره، «3» وكان الطالع وقت سلطنته وجلوسه على تخت الملك «4» .
واستمرّ جلوس السلطان الملك الظاهر خشقدم بالقصر السلطانى من قلعة الجبل إلى الخميس، وعنده جميع الأمراء على العادة، ثم أصبح السلطان في يوم الاثنين العشرين من شهر رمضان خلع على الأمير جرباش المحمدى خلعة الأتابكية، وهى كخلعته بالأمس.
وفيه رسم السلطان بإطلاق الأميرين من سجن الإسكندرية، الأمير تنم من عبد الرزّاق المؤيدى أمير سلاح كان، والأمير قانى باى الچاركسى الأمير آخور الكبير كان، وتوجههما إلى ثغر دمياط بطّالين.

(16/254)


وفي يوم الثلاثاء حادى عشرينه الثانية من النهار حمل الملك المؤيّد أحمد وأخوه محمد من قلعة الجبل إلى جهة الإسكندرية ليحبسا بها.
قلت: وقبل أن نشرع في ذكر الحوادث نبدأ بالتّعريف بأصل الملك الظاهر خشقدم هذا وسبب ترقّيه إلى السلطنة فنقول:
أصله رومىّ الجنس، جلبه خواجا ناصر الدين إلى الديار المصرية في حدود سنة خمس عشرة وثمانمائة، أو في أوائل سنة ست عشرة، هكذا أملى علىّ من لفظه بعد سلطنته، وسنّه يوم ذلك دون البلوغ، فاشتراه الملك المؤيّد شيخ، وجعله كتابيا سنين كثيرة، ثم أعتقه وجعله من جملة المماليك السلطانية، إلى أن مات الملك المؤيّد فصار خشقدم هذا خاصكيا في دولة ولده الملك المظفر أحمد بن شيخ، بسفارة أغاته الأمير تغرى بردى قريب قصروه، ودام خاصكيا مدة طويلة إلى أن صار ساقيا في أوائل دولة الملك الظاهر جقمق، ثم أمّره الملك الظاهر إمرة عشرة، وجعله من جملة رءوس النوب فى حدود سنة ست وأربعين، فدام على ذلك إلى سنة خمسين، فأنعم عليه الملك الظاهر أيضا بإمرة مائة وتقدمة ألف بدمشق، واستمرّ بدمشق إلى أن تغيّر خاطر الملك الظاهر جقمق على الأمير تنبك البردبكى حاجب الحجاب بسبب عبد قاسم الكاشف الذي نعتوه «1» الناس بالصلاح، ونفاه إلى ثغر دمياط بطّالا، فرسم السلطان الملك الظاهر جقمق بطلب خشقدم هذا من مدينة دمشق، ليكون عوضا عن تنبك المذكور فى حجوبية الحجاب، وعلى إقطاعه أيضا دفعة واحدة، وذلك في صفر سنة أربع وخمسين وثمانمائة، وكان مجىء خشقدم هذا إلى الديار المصرية بسفارة الأمير تمربغا الظاهرى الدّوادار الثانى، وقيل على البذل على يد أبى الخير النحاس، وأنعم السلطان بتقدمة خشقدم هذا التي بدمشق على الأمير علّان جلّق المؤيدى، فاستمرّ خشقدم المذكور على الحجوبية إلى أن تسلطن الملك الظاهر جقمق، فخلع عليه بإمرة سلاح عوضا عن الأمير تنبك البردبكى الذي كان أخذ عنه الحجوبية بعد أن وقع لتنبك المذكور دورات

(16/255)


وتنقلات، فدام على وظيفة إمرة سلاح إلى أن سافر مقدم العساكر السلطانية إلى بلاد ابن قرمان، ثم عاد واستمرّ على حاله إلى أن تسلطن الملك المؤيّد أحمد ابن الأشرف إينال، فخلع عليه باستقراره أتابك العساكر عوضا عن نفسه، وذلك في يوم الجمعة سادس عشر جمادى الأولى سنة خمس وستين، فلم تطل أيّامه، وثار القوم بالملك المؤيّد أحمد وقاتلوه حتى خلعوه حسبما ذكرنا أمر الوقعة في تاريخنا «حوادث الدهور فى مدى الأيام والشهور» .
وتسلطن الملك الظاهر خشقدم هذا، ووقع في سلطنته نادرة غريبة، وهى أن الملك الظاهر برقوقا كان أول ملوك الچراكسة بالديار المصرية- إن كان الملك المظفر بيبرس الجاشنكير غير چاركسى- وكانت سلطنة برقوق في يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمائة، ولقب بالملك الظاهر؛ وكانت سلطنة الملك الظاهر خشقدم هذا في يوم الأحد تاسع عشر شهر رمضان سنة خمس وستين وثمانمائة، فتوافقا في اللقب والشهرة والتاريخ والشهر، وذلك أوّل ملوك الچراكسة، وهذا أول دولة الأروام، فبينهما إحدى وثمانون سنة لا تزيد يوما ولا تنقص يوما، لأن كلا منهما تسلطن بعد أذان الظهر في تاسع عشر شهر رمضان- انتهى.
ثم في يوم الخميس ثالث عشرينه خلع السلطان على الأمير جانبك الظاهرى نائب جدّة باستقراره دوادارا كبيرا بعد موت الأمير يونس.
وخلع على الأمير جانبك من أمير الظريف الخازندار باستقراره دوادارا ثانيا عوضا عن بردبك الأشرفى بحكم القبض عليه، وولى الدّوادارية الثانية على تقدمة ألف ولم يقع ذلك لغيره، واستقرّ قانم طاز الأشرفى خازندارا عوضا عن جانبك من أمير.
وفي يوم الجمعة رابع عشرينه تواترت الأخبار بوصول الأمير جانم الأشرفى نائب الشام إلى منزلة الصالحية، وأشيع هذا الخبر إلى وقت صلاة الجمعة، فتحقق السلطان

(16/256)


الإشاعة، فحصل عليه من هذا الخبر أمر كبير، وعظم مجىء جانم على السلطان إلى الغابة؛ لأن جانم كان رشّح لسلطنة مصر قبل ذلك عند مجىء ولده يحيى بن جانم إلى مصر في دولة الملك المؤيد أحمد، وقد ذكرنا ذلك في وقته.
وخارت طباع الملك الظاهر خشقدم، وما ذلك إلا لعظم جانم في النفوس، وأيضا لكثرة خچداشيته الأشرفية، وزيادة على ذلك من كان كاتبه وأذعن لطاعته من أعيان الظاهرية الجقمقية.
ثم طلب السلطان الأمير جانبك الدّوادار، وكلمه بما سمعه من مجىء جانم، وكان جانبك قد استحال عن جانم، ومال بكليته إلى الملك الظاهر خشقدم، وصار من جهته ظاهرا وباطنا، فهوّن جانبك مجيئه على السلطان، وأخذ في التدبير وقام وخچداشيته بنصرة الملك الظاهر خشقدم، ووقع بسبب مجىء جانم أمور كثيرة وحكايات ذكرناها في تاريخنا «حوادث الدهور» ، ملخصها: أن جانم قام بالخانقاه أياما، وعاد إلى نيابة الشام ثانيا، بعد أن أمدّه السلطان بالأموال والخيول والقماش، حسبما يأتى ذكره يوم سفره.
وفي يوم السبت خامس عشرينه نودى بنفقة المماليك السلطانية، «1» فى يوم السبت الآتى «2» .
وفيه أيضا «3» ، أنعم السلطان على عدة من الأمراء بتقادم ألوف، وهم:
الأمير أزبك من ططخ الظاهرى، وبردبك الظاهرى الرأس نوبة الثانى، وجانبك من قجماس الأشرفى المشد زيادة على إقطاعه الأول ووظيفته.
وأنعم السلطان أيضا على جماعة من الخاصكية، لكل واحد إمرة عشرة باستحقاق وغير استحقاق، كما هى عادة أوائل الدول.

(16/257)


واستقرّ الأمير قايتباى المحمودى الظاهرى أمير طبلخاناه وشاد الشراب خاناه، عوضا عن جانبك الأشرفى.
وأما ما جدّده الملك الظاهر خشقدم من الوظائف مثل الدّوادارية والسقاة والسلحدارية فكثير جدا لا يدخل تحت حصر لعسر تحريره.
واستقرّ الأمير دولات باى النجمى مسفّر الأمير جانم نائب الشام، واستقر تمراز الأشرفى أحد مقدمى الألوف بدمشق في نيابة صفد بعد عزل خيربك النّوروزى عنها وتوجهه إلى دمشق مقدّم ألف، وأنعم السلطان أيضا على تمراز المذكور بمبلغ كبير من المال وغيره.
وفي يوم الاثنين سابع عشرين رمضان استقرّ يشبك البجاسى أحد مقدّمى الألوف بمصر في حجوبية حلب، وأنعم بتقدمته على الأمير جانبك الإينالى الأشرفى المعروف بقلقسيز، انتقل إليها من إمرة عشرة بسفارة الأمير جانبك الدّوادار.
وفي يوم الثلاثاء ثامن عشرينه توجّه القاضى محب الدين بن الشّحنة كاتب السّرّ إلى خانقاه سرياقوس لتحليف جانم نائب الشام المقدّم ذكره.
وسافر جانم في يوم الجمعة ثانى شوال إلى محل كفالته على أقبح وجه، وسافر بعده تمراز الذي استقرّ في نيابة صفد، كل ذلك بتدبير عظيم الدولة جانبك الدوادار، وقد انتهت إليه يوم ذلك رئاسة المماليك الظاهريّة بديار مصر.
وأما الملك الظاهر فإنه لما سافر جانم أخذ في مكافأة العسكر واستجلاب خواطرهم، ووجد عنده حاصلا كبيرا من الإقطاعات، ليس ذلك مما كان في ديوان السلطان، وإنما هو إقطاعات الأجلاب مماليك الأشرف إينال، وأضاف إلى ذلك شيئا كثيرا من الذخيرة السلطانية، ومن أوقاف الملك الأشرف إينال، وأوقاف حواشيه، حتى إنه صار يأخذ البلد العظيمة من ديوان المفرد وغيره وينعم بها على جماعة لكل واحد إمرة عشرة، وتارة ينعم بها على خمسين مملوكا من المماليك السلطانية، وأكثر وأقل، وقاسى الملك الظاهر

(16/258)


من طلب المماليك أمورا عظيمة وأهوالا، ولما قلّ ما عنده من الضياع بالديار المصرية مدّ يده إلى ضياع البلاد الشّامية، ففرّق منها على أمراء مصر وأجنادهم ما شاء الله أن يفرّق.
فلما كان يوم السبت ثالث شوال شرع السلطان في تفرقة نفقة المماليك السلطانية، ففرقت في كل يوم طبقة واحدة- لقلة متحصل الخزانة الشريفة- لكل واحد مائة دينار، ولمن يستخفّون به خمسون دينارا، وبالجملة إنها فرّقت أقبح تفرقة، لعجز ظاهر، وقلة موجود، ومصادرات الناس.
ولما كان يوم الاثنين خامس شوال أنعم السلطان بالخلع على جميع أمراء الألوف، وأنعم على كل واحد بفرس بسرج ذهب وكنبوش زركش، ورسم لهم بالنّزول إلى دورهم، وكان لهم من يوم قدم جانم نائب الشام إلى خانقاه سرياقوس مقيمين بجامع القلعة، وكذلك القضاة، فنزل الجميع إلا الخليفة فإنه دام بقلعة الجبل إلى يوم تاريخه، وأظن ذلك صار عادة ممّن يلى الملك بعده.
وفي هذه الأيام استقرّ خيربك القصروى نائب قلعة الجبل في نيابة غزّة بعد عزل بردبك السيفى سودون من عبد الرحمن، ورسم السلطان أن يفرج عن الملك العزيز يوسف ابن الملك الأشرف برسباى، وعن الملك المنصور عثمان ابن الملك الظاهر جقمق من محبسهما ببرج الإسكندرية، ورسم لهما أن يسكنا بأى مكان اختارا بالثغر المذكور، ورسم أيضا بكسر قيد الملك المؤيّد أحمد ابن الأشرف إينال.
وفي يوم الأربعاء سابعه ماجت مماليك الأمراء، ووقفوا في جمع كبير بالرّميلة، يطلبون نفقات أستاذيهم، لينفق أستاذ كل واحد منهم في مماليكه، وكان السلطان أخّر نفقات الأمراء إلى أن تنتهى نفقة المماليك السلطانية، وكانت العادة تفرقة النفقة على الأمراء قبل المماليك، فلما بلغ السلطان ذلك شرع في إرسال النفقة إلى الأمراء، وقد ذكرنا قدر ما أرسل لكل واحد منهم في تاريخنا «الحوادث» .
ثم في يوم الخميس ثامن شوال استقر الأمير قانم المؤيّدى أمير مجلس عوضا عن قرقماس الأشرفى، بحكم انتقاله إلى إمرة سلاح قبل تاريخه، واستقرّ الأمير بيبرس

(16/259)


خال العزيز رأس نوبة عوضا عن قانم، واستقرّ يلباى الإينالى المؤيّدى حاجب الحجاب عوضا عن بيبرس المذكور، ولبس الأمير جانبك الدوادار خلعة الأنظار المتعلقة بوظيفته، ونزل في موكب هائل.
ثم في يوم الأحد حادى عشره وصل الأمير تمربغا الظاهرى الدّوادار الكبير- كان- من مكة المشرفة بطلب إلى القاهرة، وأظنه كان خرج من مكة قبل أن يأتيه الطلب، وطلع إلى القلعة، وقبّل الأرض، وخلع السلطان عليه كامليّة بمقلب سمّور، ونزل إلى داره التي بناها وجدّدها المعروفة قديما بدار منجك، وكان الأمير جانبك الدّوادار قبل مجىء الأمير تمربغا عظيم المماليك الظاهرية، فلما حضر تمربغا هذا وجلس فوق الأمير جانبك، لكونه كان أغاته بطبقة المستجدة أيام أستاذه، ولعظمته في النفوس وسبقه للرئاسة، صار هو عظيم المماليك الظاهرية، وركضت ريح جانبك قليلا، واستمر على ذلك.
وفي يوم الأربعاء رابع عشره تسحّب الأمير زين الدين عبد الرحمن بن الكويز ناظر الخاص الشريف بعد أن قام «1» بالكلف السلطانية أتمّ قيام، أعنى بذلك عن الخلع التي خلعها السلطان في أول سلطنته، وكانت خارجة عن الحد كثرة، ثم عقيب ذلك خلع عيد الفطر بتمامها وكمالها، وبينهما مسافة يسيرة من الأيام، ولم يظهر العجز في ذلك جميعه يوما واحدا إلى أن طلب منه السلطان من ثمن البهار مائة ألف دينار لأجل النفقة السلطانية، فعجز حينئذ وهرب.
واستقرّ عوضه في نظر الخاص القاضى شرف الدين الأنصارى، وباشر هو أيضا أحسن مباشرة، وقام بالنفقة السلطانية هو والأمير جانبك الدّوادار، وتنم رصاص أتمّ قيام، أعنى أنهم اجتهدوا في تحصيل المال من وجوه كثيرة.
هذا ما وقع للملك الظاهر خشقدم من يوم تسلطن إلى يوم تاريخه محررا.

(16/260)


ومن الآن نشرع في ذكر نوادر الحوادث إلى أن تنتهى ترجمته خوفا من الإطالة والملل فنقول:
ولما كان يوم الاثنين ثالث ذى القعدة استقرّ القاضى نجم الدين يحيى بن حجّى في نظر الجيش بعد أن صرف القاضى زين الدين بن مزهر عنها.
وفي يوم خامس عشر ذى القعدة عيّن السلطان تجريدة إلى قبرس نجدة لمن بها من العساكر الإسلامية، ثم بطل ذلك بعد أيام.
وفي يوم الخميس سابع عشرينه استقرّ الصفوى جوهر التركمانى زماما وخازندارا عوضا عن لؤلؤ الأشرفى الرومى.
وفي يوم الخميس سادس عشرين ذى الحجة أمسك السلطان بالقصر السلطانى بالقلعة جماعة من أمراء الألوف وغيرهم من الأشرفية، وهم: بيبرس خال العزيز رأس نوبة النوب، وجانبك من أمير الظريف الدّوادار الثانى وأحد أمراء الألوف، وجانبك المشد أحد أمراء الألوف أيضا.
وأمسك من أمراء الطبلخانات والعشرات جماعة أيضا، مثل: قانم طاز الخازندار الكبير، ونوروز الإسحاقى، وبرسباى الأمير آخور، وكرتباى، ودولات باى سكسن، وأبرك البچمقدار، وكلّهم عشرات إلا قانم طاز [فإنه] «1» أمير طبلخاناه.
فلما سمعت خچداشيتهم بذلك ثاروا، ووافقهم المماليك الأشرفية الإينالية، وجماعة من الناصرية، وتوجهوا الجميع إلى الأمير الكبير جرباش المحمدى الناصرى، وهو مقيم يوم ذاك بتربة الملك الظاهر برقوق التي بالصحراء، وكان في التربة في مأتم ابنته التي ماقت قبل تاريخه بأيّام، واختفى جرباش المذكور منهم اختفاء ليس بذاك، فظفروا به وأخذوه، ومضوا به إلى بيت قوصون الذي سدّ بابه الآن من الرّميلة تجاه باب السلسلة، ومروا به من باب النصر من شارع القاهرة، وبين يديه جماعة من أمراء الأشرفية وغيرهم، وعليهم آلة الحرب، وقد لقبوه بالملك الناصر على لقب أستاذه الناصر فرج بن برقوق، ولما وصلوا إلى بيت قوصون أجلسوه بمقعد البيت.

(16/261)


وعند ما جلس بالمقعد ظهر على الأشرفية وغيرهم اختلال أمرهم لاختلاف كلمتهم من سوء آرائهم المفلوكة، ولعدم تدبيرهم، فإن الصّواب كان جلوسه بالتربة المذكورة، إلى أن يستفحل أمرهم، وأيضا إنهم لما أوصلوه إلى بيت قوصون ذهب غالبهم ليتجهز للقتال، وبقى جرباش في أناس قليلة.
وأما الملك الظاهر خشقدم فإنه لما بلغ الملك الظاهر والظاهرية أمرهم طلعوا بأجمعهم إلى القلعة، وانضم عليهم أيضا خلائق، لعظم شوكة السلطنة من خچداشية السلطان المؤيدية وغيرهم، وأخذوا السلطان ونزلوا به من القصر إلى مقعد الإسطبل السلطانى أعلى باب السلسلة، وعليهم السلاح، ودقت الكئوسات بالقلعة، وشرعوا في القتال.
وبينما هم في تناوش قتال جرباش، وقد رأى جرباش أن أمره لا ينتج منه شىء، تدارك فرطه، وقام من وقته، وركب وطلع إلى القلعة طائعا إلى السلطان، وقبّل الأرض واعتذر بالإكراه، فقبل السلطان منه عذره «1» ، وفي النفس من ذلك شىء، وانهزمت الأشرفية الكبار.
وهذا ذنب ثان للأشرفية عند السلطان- والذنب الأول قصة خچداشهم جانم والثانى هذا- وانهزم جميع من كان انضم على جرباش المذكور، وتوجّه كلّ منهم إلى حال سبيله، فتجاهل السلطان عليهم، وزعم أنه قبل أعذارهم إلى أن تمّ أمره، فمدّ يده يمسك وينفى، ويكتب إلى التجاريد والسّخر، إلى أن أبادهم.
ثم في يوم الجمعة سابع عشرين ذى الحجة المذكور أخذوا الأمراء الممسوكين، ونزلوا بهم إلى حبس الإسكندرية.
وفي يوم الاثنين سلخ ذى الحجة خلع السلطان على جميع أمراء الألوف، كل واحد كاملية بمقلب سمّور، وأنعم على الأمير تمربغا الظاهرى القادم من مكّة بإمرة مائة وتقدمة

(16/262)


ألف بالديار المصرية، عوضا عن جانبك المشد، بحكم حبسه، وخلع عليه باستقراره رأس نوبة النوب، عوضا عن بيبرس خال العزيز، وأنعم بإقطاع بيبرس على يلباى المؤيّدى الحاجب لكونه أكثر متحصلا من إقطاعه، وأنعم بإقطاع يلباى على خچداشه قانى بك المحمودى المؤيدى، أحد أمراء دمشق الألوف كان.
وفيه أيضا استقرّ الأمير جانبك الإسماعيلى المؤيدى المعروف بكوهيّة دوادارا ثانيا، عوضا عن جانبك الظريف على إمرة عشرة، وكان جانبك الظريف وليها على تقدمة ألف.

(16/263)


[ما وقع من الحوادث سنة 866]
ثم استهلت سنة ست وستين وثمانمائة ففى يوم الأربعاء ثانى المحرم وصل الخبر بأن الأمير إياسا المحمدى الناصرى نائب طرابلس وصل من جزيرة قبرس إلى ثغر دمياط بغير إذن السلطان.
وفيه نفى السلطان خيربك البهلوان، وقانم الصغير الأشرفيين إلى البلاد الشامية، وكلاهما أمير عشرة.
وفي يوم الخميس ثالث المحرم عيّن السلطان مع سليمان بن عمر الهوّارى تجريدة من المماليك السلطانية، وعليهم ثلاثة أمراء أشرفية: جكم خال العزيز، وأيدكى، ومغلباى، فتأمل حال الأشرفية من الآن.
ثم في يوم الاثنين سابع المحرم استقرّ الأمير طوخ الأبوبكرى المؤيدى زردكاشا عوضا عن سنقرقرق شبق الأشرفى بحكم القبض عليه، واستقرّ سودون الظاهرى الأفرم خازندارا كبيرا، عوضا عن قانم طاز، بحكم القبض عليه أيضا، وأنعم السلطان في هذا اليوم على جماعة كثيرة بأمريات وإقطاعات ووظائف باستحقاق وغير استحقاق، كما هى عوائد أوائل الدول.
ثم في ليلة الثلاثاء ثامن المحرم سافر الأمير قانى باى المحمودى الظاهرى المشد إلى ثغر دمياط للقبض على الأمير إياس الناصرى نائب طرابلس وإيداعه السجن، لكونه حضر من قبرس، وترك من بها من عساكر المسلمين.
ثم عين السلطان جماعة من الأشرفية الكبار والأشرفية الصغار إلى سفر قبرس، وأميرهم مغلباى البجاسى أتابك طرابلس، وكان مغلباى حضر مع إياس.
وفي يوم الاثنين رابع عشر المحرم استقرّ قراجا العمرى ثانى رأس نوبة وأمير مائة ومقدم ألف بدمشق على إقطاع هين، وقراجا هذا أيضا ممن كان انضم على جرباش من خچداشيته، واستقرّ تنم الحسينى الأشرفى عوضه رأس نوبة ثانيا.

(16/264)


وفي يوم الخميس سابع عشر المحرم استقرّ برسباى البجاسى الأمير آخور الكبير نائب طرابلس عوضا عن إياس المقبوض عليه، واستقرّ عوضه في الأمير آخورية الكبرى يلباى المؤيدى حاجب الحجاب، واستقرّ في حجوبية الحجاب عوضه الأمير بردبك الظاهرى البچمقدار، وأنعم السلطان بإقطاع برسباى البجاسى على قانى بك المحمودى، وأنعم بإقطاع قانى بك المحمودى على تمرباى ططر الناصرى، وكلاهما تقدمة ألف لكن الزيادة في المتحصل، وفرّق السلطان إقطاع تمرباى ططر على جماعة.
وفي يوم الاثنين حادى عشرين المحرم استقرّ الخواجا علاء الدين على بن الصابونى ناظر الإسطبل السلطانى بعد عزل شرف الدين بن البقرى وأضيف إليه نظر الأوقاف.
وفي يوم الثلاثاء ثانى عشرينه وصل مغلباى طاز أمير حاج المحمل بالمحمل وأمير الركب الأول تنبك الأشرفى «1» .
وفي يوم الخميس ثانى صفر أعيد القاضى زين الدين بن مزهر إلى وظيفة نظر الجيش، بعد عزل القاضى نجم الدين يحيى بن حجى.
وفي يوم الثلاثاء سابع صفر وصل إلى القاهرة رأس نوبة الأمير جانم نائب الشام، ومعه تقدمة إلى السلطان- تسعة مماليك لا غير- من عند مخدومه، واعتذر عن مخدومه أنه ليس له علم بتسحّب الأمير تمراز نائب صفد، وأنه باق على طاعة السلطان، وكان السلطان أرسل قبل تاريخه بمسك تمراز المذكور، فهرب تمراز من صفد، وله قصة حكيناها في «حوادث الدهور» .
ثم في يوم الثلاثاء رابع عشره وصل أيضا الزينى عبد القادر بن جانم نائب الشام، يستعطف خاطر السلطان على أبيه، وكان عبد القادر حديث السن، وقد حضر معه الأمير قراجا الظاهرى أتابك دمشق ليتلطف السلطان في أمر نائب الشام، ولما وصل

(16/265)


قراجا المذكور إلى منزلة الصالحية رسم السلطان بعوده إلى دمشق، ومنعه من الدخول إلى مصر، ورسم لعبد القادر المذكور بالمجىء، فجاء الصبى وردّ قراجا إلى الشام.
وفي هذا اليوم رسم السلطان بإحضار الأمير تنم من عبد الرزاق المؤيدى أمير سلاح- كان- من ثغر دمياط، وقد رشّح لنيابة الشّام عوضا عن جانم المذكور.
ثم في ليلة الخميس سادس عشر صفر المذكور سافر الأمير تنم من نخشايش الظاهرى المعروف برصاص محتسب القاهرة إلى دمشق على النجب والخيل، ومعه جماعة كثيرة من الخاصكية، مقدار ثلاثين نفرا، ليمسك الأمير جانم نائب الشام، قلت: [الطويل]
أيا دارها بالخيف إن مزارها ... قريب، ولكن دون ذلك أهوال «1»
ثم في يوم الأربعاء عشرينه وصل الأمير تنم من ثغر دمياط، وقبّل الأرض وأجلسه السلطان فوق الأمير قرقماس أمير سلاح، وخلع عليه.
ثم في يوم الاثنين سابع عشرينه، خلع عليه بنيابة الشّام، واستقرّ مسفّره الأمير بردبك هجين الظاهرى الأمير آخور الثانى، وخلع السلطان على الأمير قانصوه اليحياوى الظاهرى بتوجهه إلى الأمير جانبك الناصرى المعزول قبل تاريخه عن حجوبيّة دمشق، وعلى يده تقليده وتشريفه بنيابة صفد عوضا عن تمراز الأشرفى.
وفي يوم الأربعاء سادس شهر ربيع الأول وصل إلى القاهرة الأمير أزدمر الإبراهيمى وخچداشه قرقماس، وقد كان مسافرا مع الأمير تنم رصاص المحتسب إلى دمشق، وأخبر أزدمر المذكور أن الأمير جانم نائب الشام خرج منها بمماليكه وحشمه بعد دخول تنم رصاص إلى دمشق ومراسلته، ولم يقدر تنم على مسكه، بل ولا على قتاله، وكان خروج جانم من دمشق قبيل العصر من يوم الأحد

(16/266)


سادس عشرين صفر، ولم يكترث بأحد من الناس، وتوجّه إلى جهة حسن بك ابن قرايلك.
ثم في يوم الجمعة ثانى عشرين ربيع الأول ركب السلطان من قلعة الجبل ببعض أمرائه وخاصته، ونزل إلى بيت الأمير تنم المستقر في نيابة الشّام وسلّم عليه، وهذا أوّل نزوله من قلعة الجبل من يوم تسلطن، ثم نزل السلطان بعد ذلك بقماش الموكب في يوم الاثنين تاسع شهر ربيع الآخر، وسار إلى تربته التي أنشأها بالصحراء بالقرب من قبة النصر، وخلع على البدرى حسن بن الطولونى معلّم السلطان وغيره، ثم توجه إلى مطعم الطير، وجلس به واصطاد أمير شكار بين يديه، ثم ركب وعاد إلى القلعة بعد أن شقّ القاهرة، ودخل في عوده إلى بيت إنيّه الأمير تنبك الأشرفى المعلم.
وفي يوم الثلاثاء رابع عشره استقرّ شرف الدين يحيى بن الصنيعة «1» أحد الكتاب وزيرا بالديار المصرية، بعد عزل على بن الأهناسى.
وفي يوم الاثنين أول جمادى الأولى أنعم السلطان على الأمير بردبك هجين الظاهرى أمير آخورثان بإمرة مائة وتقدمة ألف بعد موت تمرباى ططر، وأنعم بإقطاع بردبك المذكور على مغلباى طاز المؤيدى، وأنعم بإقطاع مغلباى على سودون الأفرم الظاهرى الخازندار، وأنعم بإقطاع سودون الأفرم على سودون البردبكى المؤيّدى الفقيه.
وفي يوم السبت سادس جمادى الأولى وصل تنم رصاص.
ثم في يوم السبت «2» استقر إينال الأشقر الظاهرى والى القاهرة في نيابة ملطية بعد موت قانى باى الجكمى.
وفي يوم الخميس ثامن عشره استقرّ الصارمى إبراهيم بن بيغوت نائب قلعة دمشق بعد موت سودون قندوره التركمانى اليشبكى بحكم انتقاله إلى تقدمة ألف بدمشق.

(16/267)


وفي يوم الاثنين ثانى عشرين جمادى الأولى المذكورة خرج الأمير تنم نائب الشّام إلى محل كفالته.
وفي آخر هذا الشهر وصل قاصد حسن بك بن على بك بن قرايلك [صاحب آمد] «1» وأخبر السلطان أن الأمير جانم نائب الشام جاء إليه واستشفع عند السلطان له.
وفي هذا الشهر ترادفت الأخبار بأن جانم نائب الشام أرسل يدعو تركمان الطاعة «2» إلى موافقته، وأن حسن بك المقدم ذكره دعا لجانم على منابر ديار بكر.
ثم في يوم الأربعاء سابع شهر رجب نودى بشوارع القاهرة بالزينة لدوران المحمل، ونودى أيضا بأن أحدا من المماليك ولا غيرهم لا يحمل سلاحا ولا عصاة في الليل، فدامت الزينة إلى أن انتهى دوران المحمل في يوم الاثنين ثانى عشره، ولم يحدث إلا الخير والسلامة، وكان معلّم الرماحة في هذه السنة الأمير قايتباى المحمودى الظاهرى المشد، والباشات الأربعة أمراء عشرات: برقوق الناصرى، ثم طومان باى الظاهرى، ثم جانبك الأبلق الظاهرى، ثم برسباى قرا الظاهرى.
ثم في يوم الخميس خامس عشره عيّن السلطان تجريدة إلى الوجه القبلى- أربعمائة مملوك من المماليك السلطانية- ومقدم العسكر الأمير جانبك الدّوادار، وصحبته من أمراء الألوف جانبك قلقسيز الأشرفى، ومن أمراء الطبلخات والعشرات نحو عشرين أميرا، وخرجوا بسرعة في ليلة السبت سابع عشر رجب.
وفي يوم الجمعة سادس عشره- الموافق لحادى عشرين برمودة- لبس السلطان القماش الأبيض البعلبكى المعد لبسه لأيام الصيف، وابتدأ في يوم السبت سابع عشره يلعب الكرة على العادة في كل سنة.
وفي يوم الخميس تاسع عشرينه عاد الأمير جانبك الدّوادار بمن كان معه من بلاد

(16/268)


الصعيد إلى الجيزة، وطلع إلى السلطان من الغد بغير طائل ولا حرب، وخلع السلطان عليه.
وفي ليلة الثلاثاء ثامن عشر شعبان سافرت خوند الأحمدية زوجة السلطان في محفة إلى ناحية طندتا «1» بالغربية «2» لزيارة سيدى أحمد البدوى.
وفي يوم الجمعة ثامن عشرينه «3» ، سافرت الغزاة المعينون قبل تاريخه إلى قبرس- انتهى.
وفي يوم الأحد ثامن شهر رمضان ورد الخبر بموت الحاج «4» إينال اليشبكى نائب حلب، فخلع السلطان في يوم الخميس ثانى عشره على الأمير قايتباى شاد الشراب خاناه بتوجهه إلى حماة، وعلى يده تقليد جانبك التاجى المؤيدى نائب حماة وتشريفه بنيابة حلب، عوضا عن الحاج إينال.
واستقرّ مغلباى طاز مسفّر الأمير جانبك النّاصرى نائب صفد باستقراره في نيابة حماة.
واستقرّ في نيابة صفد خيربك القصروى نائب غزّة، وتوجّه بتقليده الأمير تمرباى الظاهرى السلاحدار.
واستقر في نيابة غزّة أتابك حلب شادبك الصّارمى ومسفّره طومان باى الظاهرى.
واستقرّ يشبك البجاسى حاجب حجّاب حلب أتابكا بها عوضا عن شادبك الصّارمى.

(16/269)


واستقرّ تغرى بردى بن يونس نائب قلعة حلب في حجوبية حلب عوضا عن يشبك البجاسى.
واستقرّ كمشبغا السيفى نخشباى أحد المماليك السلطانية بمصر في نيابة قلعة حلب دفعة واحدة، من قبل أن تسبق له رئاسة، مع عدم أهلية أيضا، وكانت ولايته بالمال- ولا قوة إلا بالله.
وفي يوم الأربعاء تاسع شوال خرجت تجريدة إلى البحيرة وعليها ثلاثة أمراء من أمراء الألوف: قرقماس أمير سلاح، ويشبك الفقيه، وبردبك هجين الظاهرى، ومن أمراء الطبلخانات: خشكلدى القوامى الناصرى، وتنم الحسينى الأشرفى ثانى رأس نوبة، ومن أمراء العشرات: قانى باى السيفى يشبك بن أزدمر، وقلمطاى الإسحاقى، وقنبك الصغير الأشرفيان، وسنطباى قرا الظاهرى.
وفيه ورد الخبر بأن جانم نائب الشام كان عدّى الفرات في جمع كثير من المماليك وتركمان حسن بك بن قرايلك، وسار بعساكره حتى وصل إلى تل باشر من أعمال حلب، وتجهّز جانبك نائب حلب لقتاله، ففى الحال عيّن السلطان تجريدة إلى حلب لقتال جانم: أربعمائة مملوك.
ثم أضاف إليهم مائتين، وعليهم أربعة أمراء من مقدمى الألوف، وهم:
جانبك الظاهرى الدّوادار الكبير، ويلباى المؤيدى الأمير آخور الكبير، وأزبك الظاهرى، وجانبك قلقسيز الأشرفى، وثلاثة عشر أميرا من أمراء الطبلخانات والعشرات.
ثم نودى في يوم الثلاثاء خامس عشر شوال بالنفقة فيمن عيّن إلى التجريدة المذكورة.
ثم أصبح من الغد في يوم الأربعاء رسم بإبطال التجريدة، وسبب ذلك ورود الخبر من نائب حلب بعود جانم على أقبح وجه، وأن جماعة كثيرة من مماليكه فارقوه، وقدموا إلى مدينة حلب.

(16/270)


وأمر رجوع جانم أنه كان لما وصل إلى تلّ باشر وقع بينه وبين تركمان حسن بك الذين كانوا معه كلام طويل، ذكرناه في «الحوادث» ، فتركوه وعادوا، فتلاشى أمر جانم لذلك وعاد.
وفي يوم الخميس سابع عشر شوال خرج الأمير بردبك الظاهرى أمير حاج المحمل بالمحمل إلى بركة الحاج دفعة واحدة، وكانت العادة قديما أن ينزل بالرّيدانية، ثم يرحل إلى بركة الحاج، وكان أمير الركب الأول في هذه السنة الناصرى محمد ابن الأتابك جرباش المحمدى.
وفي يوم الاثنين حادى عشرينه استقرّ القاضى محب الدين بن الشّحنة قاضى قضاة الحنفية بالديار المصرية بعد استعفاء شيخ الإسلام سعد الدين سعد بن الدّيرى، لضعف بدنه وكبر سنه، واستقرّ أخوه القاضى برهان الدين إبراهيم بن الدّيرى كاتب السّرّ الشريف عوضا عن قاضى القضاة محب الدين بن الشّحنة المقدم ذكره.
وفي يوم الخميس رابع عشرينه استقرّ القاضى نور الدين بن الإنبابى عين موقعى الدست الشريف في نيابة كتابة السّرّ، بعد عزل لسان الدين حفيد القاضى محب الدين ابن الشّحنة، فحينئذ أعطى القوس لراميه، والقلم لباريه، فإنه حق لهذه الوظيفة وأهل لها.
ثم في رابع ذى القعدة توفيت بنت خوند الأحمدية زوجة السّلطان، وهى بنت أيرك الجكمى، أحد أمراء دمشق، وقد تزوجها الزينى عبد الرحيم ابن قاضى القضاة بدر الدين العينى، فولدت منه الشهابى أحمد بن العينى الآتى ذكره في محله «1» .
وفي يوم الاثنين سادس ذى القعدة عزل السلطان القاضى برهان الدين إبراهيم بن الديرى عن وظيفة كتابة السّر بعد أن باشرها خمسة عشر يوما، وكان سبب عزله أنه

(16/271)


لما ماتت بنت خوند المقدم ذكرها في يوم السبت قال ابن الديرى: ورد في الأخبار المنقولة عن الأفاضل أنه ما خرج من بيت ميّت في يوم السبت إلا وتبعه اثنان من أكابر ذلك البيت «1» ، وشغرت كتابة السّرّ بعده مدّة، وباشر الوظيفة القاضى نور الدين الإنبابى نائب كاتب السّرّ.
وفي يوم الخميس سادس عشره ورد الخبر من البحيرة بأن العساكر واقع عرب لبيد وقتل من عسكر السلطان أميران: تنبك الصغير الأشرفى، وسنطباى قرا الظاهرى، وجماعة من المماليك، وسبب قتلهم أمر ذكرناه في «الحوادث» ، إذ هو محل إطناب فى الواقع، وحاصل الخبر أن الذين قتلوا هؤلاء هم عرب الطاعة في الغوغاء لا عرب لبيد.
ثم في يوم الاثنين عشرين من ذى القعدة خلع السلطان على القاضى زين الدين أبى بكر بن مزهر ناظر الجيش باستقراره في وظيفة كتابة السّرّ مسئولا في ذلك، مرغوبا في ولايته، واستقرّ القاضى تاج الدين عبد الله بن المقسى في وظيفة نظر الجيش عوضا عنه.
وفي يوم الخميس ثانى عشرين ذى الحجة توعّك السلطان في بدنه من إسهال حصل له، ولم ينقطع عن صلاة الجمعة بجامع القلعة الناصرى مع الأمراء على العادة، واستمرّ به الإسهال إلى يوم سادس عشرينه خرج من الدهيشة إلى الحوش، وجلس على الدكة.
وحضرت أكابر الأمراء الخدمة بالحوش المذكور، وعلى وجه السلطان أثر الضعف، كل ذلك وهو ملازم للفراش غير أنه يتجلّد، ويجلس على الفرش بقاعة البيسريّة، والناس تدخل إليه بها للخدمة على العادة.

(16/272)


وفي هذا اليوم حضر إلى القاهرة مبشر الحاج، وهو غير تركى، رجل من العرب وهذا غير العادة، وما ذاك إلا مخافة السبل، وعدم الأمن بالطريق، فأعاب الناس ذلك على أرباب المملكة.
وفي هذه السنة أخذ حسن بك بن على بك بن قرايلك مدينة حصن كيفا «1» ، ثم أخذ قلعتها في ذى القعدة بعد ما حاصرها سبعة أشهر، وانقطع من الحصن ملك الأكراد الأيوبية، بعد ما ملكوها أكثر من مائتى سنة، وذلك بعد قتل صاحبها الملك خلف بيد بعض أقاربه، فاختلف الأكراد فيما بينهم، فوجد حسن بك بذلك فرصة في أخذها، فحاصرها حتى أخذها، وقوى أمر حسن بأخذها، فإنه أخذ بعد ذلك عدة قلاع ومدن من أعمال ديار بكر من تعلقات الحصن وغيره.

(16/273)