النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

[ما وقع من الحوادث سنة 860]
واستهلت سنة ستين وثمانمائة.
فلما كان يوم الاثنين خامس المحرم نزلت المماليك الأجلاب من الأطباق، وقصدوا بيت الوزير فرج بن النحال لينهبوا ما فيه، وكأنه أحسّ بذلك وشال ما كان في بيته،

(16/94)


فلما دخلوا البيت لم يجدوا فيه ما يأخذونه، فمالوا على من هو ساكن بجوار بيت فرج المذكور فنهبوهم بحيث إنهم أخذوا غالب متاع الناس، ولا قوة إلا بالله.
وفي يوم الأربعاء حادى عشرين المحرم ورد الخبر على السلطان بموت الأمير آقبردى الساقى نائب ملطية بها، فرسم السلطان لجانبك الجكمى المعزول عن نيابة ملطية قبل ذلك بنيابة ملطية على عادته أولا، ورسم بأن يستقرّ في نيابة طرسوس عوضا عن جانبك الجكمى آقباى السيفى جار قطلو، وكان آقباى أيضا ولى نيابة طرسوس قبل ذلك.
وفي يوم الأربعاء ثالث عشر صفر من سنة ستين المذكورة أخرق المماليك الأجلاب بعظيم الدولة الصاحب جمال الدين ناظر الجيش والخاص بغير سبب أوجب ذلك، وشقّ ذلك على كل أحد، ولم تنتطح في ذلك شاتان.
وفي يوم السبت ثامن عشر جمادى الأولى من سنة ستين أيضا وصل قاصد السلطان محمد بن مراد بك بن عثمان متملّك بلاد الرّوم، وهو جمال الدين عبد الله القابونى، وطلع إلى السلطان في يوم الثلاثاء وعلى يده كتاب مرسله، يتضمن البشارة بفتح قسطنطينيّة، والكتاب نظم ونثر، وقفت عليه وعلى جوابه من السلطان من إنشاء القاضى معين الدين عبد اللطيف بن العجمى «1» نائب كاتب السّرّ، وأثبتّ الكتاب الوارد والجواب كليهما في تاريخنا «حوادث الدهور في مدى الأيام والشهور» إذ هو محل ضبط هذه الأشياء.
وفي يوم الخميس خامس عشر جمادى الآخرة من السنة أمسك السلطان الأمير زين الدين الأستادار، ووضع في عنقه الجنزير، وحطّه إلى الأرض ليضربه، ثم رفع من على الأرض بغير ضرب، وحبس عند الطواشى فيروز الزّمّام

(16/95)


والخازندار، واستقرّ عوضه في الأستادارية سعد الدين فرج بن النحّال الوزير، واستقرّ علىّ بن الأهناسى البرددار وزيرا عوضا عن فرج المذكور، فلما سمعت المماليك الأجلاب بهذا العزل والولاية نزلوا من وقتهم غارة إلى بيت الأستادار لينهبوه، فمنعهم مماليك زين الدين، وقاتلوهم وأغلقوا الدروب، فلما عجزوا عن نهب بيت زين الدين نهبوا بيوت الناس من عند بيت زين الدين إلى قنطرة أمير حسين «1» ، فأخذوا ما لا يدخل تحت حصر كثرة.
واستمروا في النهب من باكر النّهار إلى قريب العصر، وفعلوا بالمسلمين أفعالا لا تفعلها الكفرة ولا الخوارج مبالغة، وهذا أعظم مما كان وقع منهم من نهب جوار بيت الوزير فرج، فكانت هذه الحادثة من أقبح الحوادث الشنيعة التي لم نسمع بأقبح منها في سالف الأعصار.
ومن ثم دخل في قلوب الناس من المماليك الأجلاب من الرجيف والرّعب أمر لا مزيد عليه، لعلمهم أنه مهما فعلوا جاز لهم، وأن السلطان لا يقوم بناصر من قهر منهم.
ووقعت حادثة عجيبة مضحكة، وهى أنه لما عظم رجيف الناس والعامة من هذه المماليك الأجلاب انفق أن جهاز بنت الناصرى محمد بن الثّلّاج الأمير آخور خرج من بيت أبيها إلى بيت زوجها الأمير جانبك قرا الأشرفى، وحمل ذلك على رءوس الحمّالين والبغال كما هى عادة المصريين، وسارت الحمالون بالمتاع فوقع من على رأس بعضهم قطعة نحاس، فجفل من ذلك فرس بعض الأجناد، فحنق الجندى من فرسه وضربه، ثم ساقه، فلم تشك العامة أن المماليك نزلوا إلى نهب

(16/96)


حوانيت القاهرة، فأغلقت القاهرة في الحال، وماحت الناس، وتعطلت المعايش، وحصل على الرعية من الانزعاج أمر كبير من غير موجب- انتهى.
وفي هذه الأيام كان الفراغ من مدرسة السلطان التي هدمها وبناها بالصحراء، وقرئ بها ختمة شريفة، وحضرت الأعيان من الأمراء وغيرهم ما خلا السلطان.
ثم في يوم الاثنين ثالث شهر رجب من سنة ستين المذكورة أفرج السلطان عن زين الدين [يحيى] «1» الأستادار، ورسم له بأن ينزل إلى بيت الصّاحب جمال الدين ليحمل ما تقرّر عليه إلى الخزانة الشريفة- وهو مبلغ عشرة آلاف دينار- ثم ينفى بعد تغليقه المال إلى حيث يأمر به السلطان، ولما غلّق ما ألزم به من المال، سافر في يوم الاثنين أول شعبان إلى المدينة الشريفة من على طريق الطّور.
ثم سافر قاصد ابن عثمان إلى جهة مرسله في يوم الجمعة خامس شعبان، وتبعه قاصد السلطان إلى ابن عثمان المذكور، وهو السّيفى قانى باى اليوسفى المهمندار.
وفيه ورد الخبر على السلطان بأن السلطان إبراهيم بن قرمان صاحب لارندة «2» وغيرها من بلاد الرّوم طرق معاملة السلطان، واستولى على مدينة طرسوس وأذنة «3» وكولك «4» ، فغضب السلطان من ذلك، وأمر بخروج تجريدة من الدّيار المصريّة لقتال ابن قرمان المذكور، وعيّن جماعة من الأمراء والمماليك يأتى ذكرهم عند سفرهم من القاهرة.

(16/97)


وفي يوم الأربعاء ثالث عشرين شهر رمضان نودى بالقاهرة من قبل السلطان بعدم تعرّض المماليك الأجلاب إلى الناس والباعة والتجار، فكانت هذه المناداة كضرب رباب أو كطنين ذباب، واستمرّوا على ما هم عليه من أخذ أموال الناس والظلم والعنف حتى غلت الأسعار في سائر الأشياء من المأكول والملبوس والغلال والعلوفات، وصاروا يخرجون إلى ظواهر القاهرة، ويأخذون ما يجدون من الشّعير والتّبن والدّريس بأبخس الأثمان إن أعطوا ثمنا، وإن شاءوا أخذوه بلا ثمن، وكلّ من وقع له ذلك معهم لم يعد ثانيا إلى بيع ذلك الصنف إلا أن يكون محتاجا لبيعه، فعزّت لذلك هذه الأصناف بحيث إنها صارت أقل وجودا من أيّام الغلاء، فصار هذا هو الغلاء بعينه، وزيادة على الغلاء عدم الشيء.
ثم شرعوا في نهب حواصل البطيخ الصيفى وغيره، ثم تزايد أمرهم، وشرعوا يفعلون ذلك مع تجار القماش وغيره، فغلت جميع الأسعار مع كثرتها عند أربابها، فضرّ ذلك بحال الناس قاطبة، رئيسها وخسيسها، وهذا أول أمرهم «1» ، وما سيأتى فأهول.
وفي يوم الاثنين تاسع عشر شوال خرج أمير حاج المحمل بالمحمل من بركة الحاج «2» ، وهو الأمير قائم من صفر خجا أحد مقدّمى الألوف، وسار إلى البركة دفعة واحدة، فكان عادة أمراء المحمل النزول بالمحمل إلى الريدانية، فبطل ذلك، وصاروا يتوجهون إلى البركة في مسير واحد، وأمير الرّكب الأوّل عبد العزيز بن محمد الصغير أحد الأجناد.
وفي هذه الأيّام كانت عافية الصاحب جمال الدين ناظر الجيش والخاص من مرض

(16/98)


أشرف فيه على الموت، وطلع إلى القلعة، وخلع السلطان عليه ونزل إلى داره في يوم مشهود لم ير مثله إلا نادرا.
وفي يوم الخميس سابع عشرين ذى القعدة استقرّ الأمير سودون النوروزى السلاح دار أحد أمراء الطبلخانات في نيابة قلعة الجبل بعد موت قانى باى الأعمش النّاصرى، وأنعم السلطان بإقطاع قانى باى المذكور على ولده الصغير المقام الناصرى محمد، والإقطاع إمرة عشرة.
[ما وقع من الحوادث سنة 861]
واستهلت سنة إحدى وستين وثمانمائة يوم الاثنين الموافق لثالث كيهك أحد شهور القبط.
فلما كان يوم السبت سادس المحرم ضرب السلطان والى القاهرة خيربك القصروى، وعزله عن ولاية القاهرة، وحبسه بالبرج على حمل عشرة آلاف دينار، فدام في البرج إلى أن أطلق في يوم عاشره، واستقر عوضه في ولاية القاهرة على بن إسكندر، واستقرّ في نقابة الجيش الأمير ناصر الدين بن أبى الفرج- على عادته أوّلا- عوضا عن على بن إسكندر المذكور «1» .
وفي يوم السبت هذا نودى أيضا على الذّهب بأن يكون صرف الدّينار الذي هو وزن درهم وقيراطين ثلاثمائة درهم نقرة، وكان بلغ صرفه قبل ذلك إلى ثلاثمائة وسبعين نقرة، وأضرّ ذلك بحال الناس زيادة على ما هم فيه من أمر المماليك الأجلاب.
وفي يوم الاثنين خامس عشر المحرم المذكور ورد الخبر على السلطان بموت يشبك «2» حاجب حجّاب طرابلس، فرسم باستقرار شادبك الصارمى «3» عوضه في حجوبية الحجاب، والمتوفى والمولّى كلاهما ولى بالبذل.

(16/99)


وفي يوم الخميس ثالث صفر ثارت المماليك الأجلاب على السلطان، وأفحشوا فى أمره إلى الغاية. وخبر ذلك أن السلطان لما كان في يوم الخميس المذكور وهو جالس بقاعة الدهيشة، وكانت الخدمة بطّالة في هذا اليوم، وذلك قبل أن يصلى السلطان الصبح، وإذا بصياح المماليك، فأرسل السلطان يسأل عن الخبر، فقيل له إن المماليك أمسكوا نوكار الزّردكاش وهددوه بالضرب، وطلبوا منه القرقلات «1» التي وعدهم السلطان بها من الزّردخاناه السلطانية، فحلف لهم أنه يدفع لهم ذلك في أوّل الشّهر، فتركوه ومضوا، فلقوا الشيخ عليا الخراسانى الطويل محتسب القاهرة، وهو داخل إلى السلطان فاستقبلوه بالضّرب المبرح المتلف، وأخذوا عمامته من على رأسه، فرمى بنفسه إلى باب الحريم السلطانى حتى نجا.
وأما السلطان لما فرغ من صلاة الصّبح نزل وقعد على الدّكة بالحوش على العادة، ثم قام بعد فراغ الخدمة وعاد إلى الدّهيشة، وإذا بالصّياح قد قوى ثانيا، فعلم أن ذلك صياح الأجلاب، فأرسل إليهم الأمير يونس الدّوادار، فسألهم يونس المذكور عن سبب هذه الحركة، فقالوا: نريد نقبض جوامكنا، كل واحد سبعة أشرفيّة ذهبا «2» ، وكانت جامكيّة الواحد منهم ألفين قبل تاريخه يأخذها ذهبا وفضة، بسعر الذهب تلك الأيام، فلما غلا سعر الذهب تحيّلوا على زيادة جوامكهم بهذه المندوحة، ثم قالوا:
ونريد أن تكون تفرقة الجامكية في ثلاثة أيام، أى على ثلاث نفقات «3» كما كانت قديما، ونريد أيضا أن يكون عليقنا السلطانى الذي نأخذه من الشّونة مغربلا، ويكون مرتبنا من اللحم سمينا، فعاد الأمير يونس إلى السلطان بهذا الجواب، ولم يتفوّه به إلى السلطان، وتربّص عن ردّ الجواب على السلطان حتى يفرغ السلطان من أكل السّماط، فأبطأ الخبر لذلك عن الأجلاب، فندبوا مرجانا مقدّم المماليك للدخول بتلك المقالة إلى السلطان، فدخل مرجان أيضا ولم يخبر السلطان بشىء حتى فرغ من أكل

(16/100)


السّماط، فعند ذلك عرّفه الأمير يونس بما طلبوه، فقال السلطان: لا سبيل إلى ذلك، وأرسل إليهم مرجانا المقدّم يعرّفهم مقالة السلطان، فعاد مرجان ثانيا إلى السلطان بالكلام الأوّل، وصار يتردّد مرجان بين السّلطان والمماليك الأجلاب نحو سبعة مرار، وهم مصممون على مقالتهم، والسّلطان ممتنع من ذلك.
وامتنع الناس من الدّخول والخروج إلى السلطان خوفا من المماليك لما فعلوه مع العجمى المحتسب، فلما طال الأمر على السّلطان خرج هو إليهم بنفسه، ومعه جماعة من الأمراء والمباشرين، وتوجّه إلى باب القلّة حيث يجلس مقدّم المماليك والخدّام، فوجد المماليك قد اجتمعوا عند رحبة باب طبقة المقدّم، فلما علموا بمجيء السلطان أخذوا في الرجم فجلس السلطان بباب القلّة مقدار نصف درجة، ثم استدرك أمره لمّا رأى شدّة الرّجم، وقصد العود إلى الدّهيشة، ورسم لمن معه من الأمراء أن ينزلوا إلى دورهم، فامتنعوا إلا أن يوصّلوه إلى باب الحريم، فعاد عليهم الأمر فنزلوا من وقتهم، وبقى السلطان فى خواصّه وجماعة المباشرين وولده الكبير المقام الشهابى أحمد.
فلما سار السلطان إلى نحو باب الستارة، ووصل إلى باب الجامع أخذه الرّجم المفرط من كلّ جهة، فأسرع في مشيته والرّجم يأتيه من كل جانب، وسقط الخاصكى الذي كان حامل ترس السلطان من الرّجم، فأخذ التّرس خاصكىّ آخر فضرب الآخر فوقع وقام، وشجّ دوادار ابن السلطان في وجهه وجماعة كثيرة، وسقطت فردة نعل السلطان من رجله فلم يلتفت إليها لأنه محمول من تحت إبطيه مع سرعة مشيهم إلى أن وصل إلى باب الستارة، وجلس على الباب قليلا، فقصدوه أيضا بالرّجم فقام ودخل من باب الحريم وتوجّه إلى الدّهيشة.
واستمرّ وقوف المماليك على ما هم عليه إلى أذان المغرب، فبعد صلاة المغرب نزل الصاحب جمال الدين ناظر الجيش والخاص من باب الحريم إلى القصر، وتوصل منه إلى الإسطبل السلطانى، وخرج من باب السّلسلة، وتوجّه إلى داره، ونزل الأمير بردبك الدّوادار الثانى وصهر السلطان من الميدان ماشيا، فوجد فرسه تحت القلعة،

(16/101)


فركبه وتوجّه إلى داره، وكذلك فعل جانبك المشدّ، وجانبك الخازندار وغيرهما، وبات القوم وهم على وجل، والمماليك يكثرون من الوعيد في يوم السبت؛ فإنهم زعموا أن لا يتحركوا بحركة في يوم الجمعة مراعاة لصلاة الجمعة.
وأصبح السلطان وصلى الجمعة مع الأمراء على العادة، فتكلم بعض الأمراء مع السلطان فى أمرهم بما معناه إنه لا بد لهم من شىء يطيّب خواطرهم به، ووقع الاتفاق بينهم وبين السلطان على زيادة كسوتهم التي يأحذونها في السّنة مرّة واحدة، وكانت قبل ذلك ألفين، فجعلوها يوم ذاك ثلاثة آلاف «1» ، وزادوهم أيضا في الأضحية، فجعلوا لكل واحد ثلاثة من الغنم الضأن، فزيدوا رأسا واحدا على ما كانوا يأخذونه قبل ذلك، ثم رسم لهم أن تكون تفرقة الجامكيّة على ثلاث نفقات «2» فى ثلاثة أيام من أيام المواكب، فرضوا بذلك وخمدت الفتنة، وقد انتفعت جميع المماليك السلطانية بهذه الزيادات؛ فإنها ليست بمختصة بالأجلاب فقط، وإنما هى لجميع مماليك السلطان كائنا من كان، فحمدت المماليك والناس جميعا فعلهم لماجر إليهم من المنفعة.
قلت: هذا هو الاحتمال الذي يؤدى إلى قلة المروءة، فإنه لو أراد لفعل بهم ما شاء، غير أنه كما ورد: «حبّك للمرء يعمى ويصم» انتهى.
وفي هذه الأيام ترادفت الأخبار من الأمير جانم الأشرفى نائب حلب بحركة ابن قرمان، فلهج السلطان بخروج تجريدة لقتاله بعد انفصال فصل الشتاء.
ثم في يوم الاثنين خامس شهر ربيع الأوّل أبطل السلطان الخدمة من القصر، وجلس بالحوش السلطانى، وجمع القضاة والأعيان وناظر دار الضّرب، وسبكت الفضة المضروبة في كل دولة، وقد حرّرنا وزن ضرب كلّ دولة، وما نقص منها في تاريخنا «حوادث الدهور» - انتهى.
وانفضّ الجمع وقد نودى في يومه بشوارع القاهرة بأن أحدا لا يتعامل بالفضّة

(16/102)


المضروبة بدمشق في هذه الدّولة، فشقّ ذلك على الناس قاطبة؛ لكثرة معاملاتهم بهذه الفضة التي داخلها الغشّ، ولهجت العامة في الحال فيما بينهم: «السلطان من عكسه أبطل نصفه» و «إذا كان نصفك إينالى لا تقف على دكانى» وأشياء من هذه المهملات التي لا وزن ولا قافية، وانطلقت الألسن بالوقيعة في السلطان.
هذا والصاحب جمال الدين عظيم الدّولة بلّغ السلطان من الغد أنّ المماليك تريد إثارة فتنة أخرى بسبب ذلك، فخشى السلطان من مساعدة العوامّ لهم، فأبطل ما كان نودى به.
قلت: والمصلحة ما كان فعله السلطان، غير أنك تعلم أن السّواد الأعظم من العامة ليس لهم ذوق ولا خبرة بعواقب الأمور، فإنهم احتاجوا بعد ذلك إلى أن سألوا في إبطال ذلك، فلم يسمح لهم السلطان به إلّا بعد أمور وأشهر حسبما يأتى ذكره، وهو معذور في ذلك.
وفي يوم الخميس خامس عشر شهر ربيع الأوّل المذكور من سنة إحدى وستين عمل السلطان المولد النبوىّ بالحوش من قلعة الجبل على العادة في كل سنة، غير أنه فرّق الشّقق الحرير على القرّاء والمدّاح، كل شقّة طولها خمسة أذرع إلى ثلاثة أذرع ونصف، ولم يفرق على أحد شقة كاملة إلا نادرا.
قلت: كل ذلك من سوء تدبير أرباب وظائفه وحواشيه، وإلا فما هو هذا النزر اليسير حتى يشحّ به مثل هذا الملك الجليل، ونفرض أنه عزم على ذلك فكان يمكنهم الكلام معه في ذلك، فإن عجزوا عن مدافعته كان أحد من أولاده وخواصه يقوم بهذا الأمر عنه من ماله، وليس في ذلك كبير أمر.
وفي يوم الأحد ثامن عشر شهر ربيع الأوّل المذكور وصل إلى القاهرة سنقر الأشرفى الدّوادار المعروف بقرق شبق، وكان توجّه قبل تاريخه إلى البلاد الحلبيّة لكشف أخبار ابن قرمان، وتجهيز العساكر الشّاميّة والحلبية، فوقع له هناك أمور وحوادث ذكرناها في غير هذا المحل، من قتل جماعة من تركمان ابن قرمان وغير ذلك.

(16/103)


وكان سنقر المذكور من مساوىء الدّهر، وعنده طيش وخفة مع ظلم وجبروت، وما سيأتى من أخباره عند عمارته لمراكب الغزاة فأعظم.
ثم في يوم الأحد هذا نودى بالقاهرة من قبل السلطان بأن يكون سعر الدّرهم من الفضّة الشاميّة المقدم ذكرها التي داخلها الغش ثمانية عشر درهما نقرة «1» ، فقامت قيامة العامّة من ذلك خوفا من الخسارة، وأكثروا من الوقيعة بالسلطان وأرباب دولته، ولا سيما في الصاحب جمال الدين ناظر الجيش والخاص، فأنهم نسبوا هذا كله إليه- رحمه الله.
وكان السلطان خلع على ولده المقام الشهابى أحمد باستقراره أمير حاجّ المحمل فلما نزل ابن السلطان وعليه الخلعة من القلعة إلى داره- وهى قصر بكتمر الساقى تجاه الكبش- وبين يديه جميع أعيان الدولة استغاثت إليه العامة بلسان واحد، وقالوا: «نخسر بهذه المناداة ثلث أموالنا» ، وسألوه في إبطال ذلك، فوعدهم بإبطاله، وأرسل إلى والده يسأله في إبطال ما نودى به، فأجابه السلطان، ونودى في الحال مناداة ثانية بإبطال ما نودى به.
قلت: وهذه فعلة العامة الثانية من طلبهم عدم المناداة بإبطال هذه الفضّة المغشوشة خوفا من الخسارة، فاحتاجوا بعد ذلك إلى المناداة، وخسروا أكثر مما كانوا يخسرونه عندما غلت الأسعار بسبب هذه الفضّة، ووصل صرف الدينار إلى أربعمائة درهم كما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفي يوم السبت أول شهر ربيع الآخر نودى في المماليك السلطانية المعينين إلى تجريدة البلاد الشامية لقتال ابن قرمان- قبل تاريخه- بأنّ النفقة فيهم في يوم الخميس الآتى، فلما كان يوم الخميس سادس ربيع الآخر المذكور جلس السلطان بالحوش السلطانى، وشرع في تفرقة النّفقة على المماليك المذكورين، لكل واحد منهم مائة دينار،

(16/104)


وسعر الذهب يوم ذاك أربعمائة الدينار، فوصل لكل واحد منهم- أعنى المماليك المعينين- أربعون ألفا، وهذا شىء لم نسمع بمثله، وأكثر ما فرّق الملوك السالفة في معنى النفقة مائة دينار، وسعر الدينار في ذلك الوقت ما بين مائتين وعشرين درهما الدينار إلى مائتين وثمانين الدينار، لا بهذا السعر الزائد، فشكر كل أحد السّلطان على هذه الفعلة.
وكان عدة من أخذ النفقة من المماليك المذكورين أربعمائة مملوك وثلاثة مماليك، ثم أرسل السلطان بالنفقة إلى الأمراء المجرّدين، فحمل إلى الأمير خشقدم الناصرى المؤيّدى أمير سلاح- وهو مقدّم العسكر يوم ذاك- بأربعة آلاف دينار، ثم أرسل لكل من أمراء الألوف لكل واحد بثلاثة آلاف دينار، وهم: قرقماس الأشرفى رأس نوبة النّوب، وجانبك القرمانى الظاهرى حاجب الحجّاب، ويونس العلائى الناصرى، ثم حمل لكل من أمراء الطبلخانات بخمسمائة دينار، ولكل أمير عشرة مائتى دينار. يأتى ذكر أسماء الجميع عند خروجهم من الديار المصرية إلى جهة ابن قرمان.
ثم في يوم الخميس العشرين من شهر ربيع الآخر المذكور عزل السلطان علىّ ابن إسكندر عن ولاية القاهرة، وأعاد خيربك القصروى لولاية القاهرة كما كان أوّلا.
ثم في يوم الخميس خامس جمادى الأولى برز الأمير خشقدم أمير سلاح ومقدّم العسكر بمن معه من الأمراء والعساكر من القاهرة إلى الرّيدانيّة خارج القاهرة، والأمراء هم:
الأربعة من مقدمى الألوف المقدم ذكرهم.
والطبلخانات: جانبك الناصرى المرتدّ، وخيربك الأشقر «1» المؤيّدى الأمير آخور الثانى، وبردبك البجمقدار الظاهرى رأس نوبة.
ومن أمراء العشرات ستة أمراء وهم: تمرباى من حمزة الناصرى المعروف بططر،

(16/105)


وقانصوه المحمدى الأشرفى، وقلمطاى الإسحاقى الأشرفى رأس نوبة، وقانم طاز الأشرفى «1» رأس نوبة، وجكم النورى المؤيدى «2» رأس نوبة، وجانم المؤيدى المعروف بحرامى شكل «3» .
وقد تقدّم ذكر عدة المماليك السلطانية فيما تقدم.
وأقاموا بالرّيدانيّة إلى ليلة الاثنين تاسعه فاستقلوا فيه بالمسير من الرّيدانيّة إلى جهة البلاد الشاميّة.
ثم في يوم الخميس سادس عشرين جمادى الأولى المذكورة سافر الأمير نوكار الزّردكاش، ومعه عدّة من الرّماة والنّفطيّة وآلات الحصار وهو مريض، ورسم له أن يأخذ من قلعة دمشق ما يحتاج إليه أيضا من أنواع [الآلات وغيرها] «4» للحصار، ويلحق العساكر المتوجهة لقتال ابن قرمان.
ثم في يوم الخميس عاشر جمادى الآخرة استقرّ الأمير أسندمر الجقمقى أحد أمراء العشرات ورأس نوبة أمير المماليك السلطانية المجاورين بمكّة المشرّفة عوضا عن الأمير بيبرس الأشرفى، خال الملك العزيز يوسف، ورسم بمجيء بيبرس المذكور عند توجه أسندمر الجقمقى في موسم الحج.
ثم في يوم الجمعة ثالث شهر رجب من سنة إحدى وستين المذكورة ورد الخبر على السلطان بموت الأمير نوكار الزّردكاش بمدينة غزّة. فأنعم السلطان بإقطاعه- وهو إمرة عشرة- ووظيفة الزّردكاشيّة على سنقر الأشرفى الدوادار المعروف بقرق شبق.
وفي يوم الخميس تاسع رجب المذكور وقعت حادثة غريبة: وهى أن جماعة من

(16/106)


العربان قطّاع الطريق جاءوا من جهة الشرقية حتى وصلوا إلى قرب باب الوزير، ثم عادوا من حيث جاءوا، وصاروا في عودهم يسلبون من وقعوا به من الناس، فعرّوا جماعة كبيرة من بين فقهاء وأعيان وغيرهم، وكان الوقت بعد آذان العصر بدرجات وقت حضور الخوانق «1» .
وفي يوم الأحد ثانى عشره، خلع السلطان على السيد الشريف حسام الدين محمد ابن حريز «2» ، باستقراره قاضى قضاة المالكية بعد موت القاضى ولى الدين السّنباطى «3» .
وفي يوم الثلاثاء رابع عشر رجب المذكور ورد الخبر على السلطان بوصول العساكر المتوجهة لقتال ابن قرمان إلى حلب، وأنهم اجتمعوا في حلب بالأمير قانى باى الحمزاوى نائب الشام هناك؛ لأن قانى باى المذكور كان خرج من دمشق قبل وصول العسكر إليها بثلاثة أيام، فتكلم الناس بأنه ظن أن سفر العساكر ما هو إلا بسبب القبض عليه في الباطن، والتوجّه لابن قرمان في الظاهر.
قلت: وللقائل بهذا القول عذر بين، وهو أن قانى باى المذكور من يوم تسلطن الملك الأشرف إينال هذا- وهو نائب حلب- لم يحضر إلى الديار المصرية ولا داس بساط السلطان، غير أنه يمتثل أوامر السلطان ومراسيمه حيث كان أولا بحلب، ثم بعد انتقاله إلى نيابة دمشق؛ فعلم بذلك كلّ أحد أن قانى باى المذكور

(16/107)


يتخوّف من السلطان ولا يحضر إلى الدّيار المصرية، ومتى طلبه السلطان أظهر العصيان.
وفطن الملك الأشرف إينال لذلك، فلم يطلبه البتة، وصار كل واحد منهما يعلم ما في ضمير الآخر في الباطن ويظهر خلاف ذلك؛ السلطان يخفى ذلك لتسكين الفتنة، وقانى باى لما هو فيه من النعمة بولاية نيابة دمشق، وكلّ منهما يترقب موت الآخر، فمات قانى باى قبل، حسبما يأتى ذكره في الوفيات بعد فراغ الترجمة. وقد خرجنا عن المقصود ولنعد إلى ما نحن بصدده فنقول:
وأخبر المخبر أن العساكر اجتمعوا بالأمير قانى باى الحمزاوى بحلب، وأنه «1» اجتمع رأى الجميع على السير من حلب إلى جهة ابن قرمان في يوم السبت سادس عشرين جمادى الآخرة، فسرّ السلطان بذلك؛ كون الذي أشيع عن قانى باى الحمزاوى من العصيان ليس بصحيح، بل هو قائم بالمهمّ السلطانى أحسن قيام.
وفي يوم الجمعة سابع عشره سافر الأمير جانبك الظاهرى نائب جدّة إلى جهة جدّة على عادته في كل سنة، وسافر معه خلائق من الناس صفة الرّجبيّة.
وفي يوم السبت ثامن عشر رجب المذكور ورد الخبر على السلطان بأنه كان بين حسن الطويل بن على بك بن قرايلك صاحب آمد وبين عساكر جهان شاه بن قرا يوسف صاحب العراقين- عراق العرب وعراق العجم- وقعة هائلة، انكسر فيها عسكر جهان شاه وانتصر حسن المذكور، وأن حسن قتل من أعيان عساكر جهان شاه جماعة، مثل الأمير رستم، وابن طرخان، وعربشاه، وغيرهم، فسرّ السلطان بذلك غاية السرور؛ كون أن حسنا المذكور ينتمى إليه، ويظهر له الصّداقة.
ثم في يوم الاثنين رابع شعبان وصل الخبر من الأمير خشقدم أمير سلاح ومن

(16/108)


رفقته النواب بالبلاد الشامية بأنهم وصلوا إلى بلاد ابن قرمان، وملكوا قلعة دوالى «1» ، ونهبوها وأخربوها، وأنهم جهّزوا الأمير بردبك البجمقدار رأس نوبة ومعه عدّة من المماليك السلطانية والأمراء بالبلاد الشامية إلى جهة من جهات بلاد ابن قرمان، فصدفوا في مسيرهم عسكرا من أصحاب ابن قرمان فواقعوهم وهزموهم، وأنه قتل من المماليك السلطانية أربعة في غير المصاف «2» ، بل من الذين صدفوهم في أثناء الطريق.
وفي يوم السبت أوّل شهر رمضان سافرت الأمراء المعينون إلى الجورن «3» ببرّ التركية، لأجل قطع الأخشاب، وسافروا من بولاق، ومقدّم العسكر الأمير يشبك الفقيه المؤيّدى أحد أمراء الطبلخانات ورأس نوبة، ومعه الأمير أزبك المؤيّدى أحد أمراء العشرات، والأمير نوروز الأعمش الأشرفى، وجماعة أخر من الخاصكية «4» .
ثم في يوم الأحد تاسع شهر رمضان وصل نجّاب من خير بك نائب غزّة يخبر بمجيء سودون القصروى الدّوادار بكتاب مقدّمى العساكر الأمير خشقدم المؤيّدى أمير سلاح وغيره من الأمراء، وحضر سودون القصروى المذكور من الغد، وأخبر السلطان بأن العساكر المتوجهة إلى بلاد ابن قرمان قصدت العود إلى جهة حلب بعد أن أخذوا أربع قلاع من بلاد ابن قرمان، وأخربوا غالب قرى ممالكه، وأحرقوا بلاده وسبوا ونهبوا وأمعنوا في ذلك، حتى أنهم أحرقوا عدّة مدارس وجوامع؛ وذلك من أفعال أوباش العسكر، وأنهم لم يتعرضوا إلى مدينة قونية ولا مدينة قيصريّة لنفود زادهم، ولضجر العسكر من طول مدتهم بتلك البلاد، مع غلو الأسعار في المأكول وغيره من سائر الأشياء، ولولا هذا لا ستولوا على غالب بلاد ابن قرمان، وأن ابن

(16/109)


قرمان لم يقاتل العسكر السلطانى، بل إنه انحاز إلى جهة منيعة من جهاته وتحصّن بها هو وأعيان دولته، وترك ما سوى ذلك من المتاع والمواشى وغيرها مأكلة لمن يأكله، فحصل له بما أخذ له وهن عظيم في مملكته، فدقّت البشائر لهذا الخبر بالقاهرة أيّاما، ورسم السلطان من وقته بعود العسكر المذكور إلى الديار المصرية، وخرج النجّاب بهذا الأمر «1» .
ثم في يوم الأحد سادس عشر شهر رمضان المذكور ركب المقام الشهابى أحمد بن السلطان من داره- قصر بكتمر تجاه الكبش- النّجب كما هى عادة أمراء الحج فى الركوب إلى المسايرة، وخرج من الصّليبة، وشقّ الرّميلة، وبين يديه هجّانة السلطان أمراء العرب، بالأكوار الذهب، والكنابيش الزّركش المغشاة بالأطلس الأصفر، وركب معه جماعة من الأمراء غير من يسافر معه، مثل: الأمير برد بك الدوادار الثانى، وسودون الإينالى المؤيّدى قراقاش ثانى رأس نوبة، وجماعة أخر، ولم يركب معه أحد من أمراء الألوف، ولا أعيان مباشرى الدّولة، حتى ولا كاتب السّرّ القاضى محب الدين ابن الأشقر، وهو ممن يسافر في هذه السّنة إلى الحج.
وسار ابن السلطان في موكبه المذكور من تحت القلعة إلى جهة خليج الزّعفران خارج القاهرة، ووصل هناك قبيل المغرب، وأفطر هناك، ثم عاد بعد صلاة العشاء، وشقّ الرّميلة ثانيا في عوده في زىّ بهيج إلى الغاية.
ثم في يوم الجمعة ثانى عشر شوال وصلت إلى القاهرة رمّة الأمير جانبك القرمانى الظاهرى حاجب الحجّاب، وقد مات بالقرب من منزلة الصالحيّة في عوده من تجريدة ابن قرمان، ثم عقب الخبر بموت جماعة كبيرة أيضا من العسكر المذكور، من مرض فشا فيهم من مدينة الرّملة كالوباء، مات منه خلائق بمرض واحد، ولم يعلم أحد ما سبب هذا العارض.

(16/110)


ثم في يوم السبت ثالث عشره ورد الخبر بموت الأمير جكم النّورى المؤيّدى- المعروف بقلقسيز- أحد أمراء العشرات ورأس نوبة.
ثم في يوم الاثنين خامس عشر شوال المذكور وصلت العساكر المجرّدة لبلاد ابن قرمان على أسوأ حال من الضّعف الذي حصل لهم في أثناء الطريق، وطلع مقدّم العسكر الأمير خشقدم المؤيّدى أمير سلاح، ورفقته من الأمراء المقدّم ذكرهم عند توجههم والمماليك السلطانية إلى القلعة، وقبّل الأرض فأكرمه السلطان وخلع عليه وعلى رفقته، فنزل الأمير خشقدم إلى داره وبين يديه أعيان الدّولة وقد نقص من رفقته اثنان من المقدمين: جانى بك القرمانى المتوفى، ويونس العلائى لضعف بدنه، وقد دخل إلى القاهرة في محفّة.
ثم في يوم الاثنين هذا «1» أنعم السلطان على الأمير بايزيد التمربغاوى أحد أمراء الطبلخانات بإمرة مائة وتقدمة ألف عوضا عن جانبك القرمانى المقدم ذكره «2» ، وأنعم بطبلخانات بايزيد على الأمير برسباى الإينالى المؤيّدى.
ثم في يوم الخميس ثامن عشر شوال المذكور خرج المقام الشهابى أحمد بن السلطان- وهو يومئذ أمير حاج المحمل- بالمحمل من القاهرة إلى بركة الحاجّ دفعة واحدة- وقد صار ذلك عادة- وترك النّزول بالمحل في الرّيدانيّة خارج القاهرة، وسافرت معه أمّه خوند الكبرى زينب بنت البدرى حسن بن خاص بك، وإخوته الجميع الذكور والإناث، والإخوة الجميع ثلاثة: ذكر واحد وهو أصغر منه- يسمى محمدا- مراهق، وأخته الكبرى زوجة الأمير بردبك الدّوادار الثانى، والصغرى وهى زوجة الأمير يونس الدّوادار الكبير، ورحل من البركة في ليلة الاثنين ثانى عشرين شوال بعد أن رحل قبله أسندمر الجقمقى رأس المجاورين، وأمير الركب الأول يشبك الأشقر الأشرفى، وقد استقرّ أمير عشرة قبل تاريخه.

(16/111)


ووصل من الغد في يوم الثلاثاء الأمير جانبك الظاهرى نائب جدّة من جدّة وقبّل الأرض، وحضر معه من الحجاز الأمير زين الدين الأستادار، وكان مقيما بمكة.
وفي يوم الخميس خامس عشرين شوال المذكور أنعم السلطان بإقطاع جكم النّورى المؤيّدى على الأمير جانبك الإسماعيلى المؤيّدى المعروف بكوهية، وعلى الأمير يشبك الظاهرى نصفين بالسويّة، لكل واحد منهما إمرة عشرة.
ثم في يوم الاثنين تاسع عشرينه استقرّ الأمير برسباى البجاسى أحد مقدّمى الألوف حاجب الحجّاب بالديار المصرية بعد وفاة الأمير جانبك القرمانى.
ثم في يوم السبت خامس عشرين ذى القعدة ثارت المماليك الأجلاب بالأطباق من قلعة الجبل، ومنعوا الأمراء ومباشرى الدّولة من النّزول من قلعة الجبل، فكلموهم بسبب ذلك. فقالوا: «نريد أن تكون تفرقة الأضحية لكل واحد منا ثلاثة من الغنم» . أعنى زيادة على ما كانوا يأخذونه قبل ذلك برأس واحد، وكان وقع في تلك المدّة هذا القول، وسكت عنه، فتوقّف السلطان في الزيادة «1» ، ثم أذعن بعد أمور، واستمرّ ذلك إلى يومنا هذا.
وفي يوم الاثنين سابع عشرين ذى القعدة استقرّ القاضى صلاح الدين أمير حاج بن بركوت المكينى «2» فى حسبة القاهرة بعد عزل يار على الخراسانى العجمى الطويل «3» بمال كثير بذله صلاح الدين في ذلك.
وفي أوائل ذى الحجة ورد الخبر على السلطان من جهة مكّة أنه وقع في الحاج عطشة

(16/112)


فيما بين منزلة أكرة»
والوجه «2» ، ومات بالعطش خلائق كثيرة.
وفي يوم الجمعة سادس عشر ذى الحجة- الموافق لثامن هاتور- لبس السلطان القماش الصوف الملوّن المعتدّ لأيام الشتاء، وألبس الأمراء على العادة.
وفي يوم الاثنين تاسع عشر ذى الحجة المذكور وصلت الأمراء المتوجهون إلى بلاد الجون «3» ببرّ التركية، ومقدّمهم الأمير يشبك الفقيه، ورفقته المقدّم ذكرهم عند سفرهم، وخلع السلطان عليهم.
وفي يوم الخميس ثانى عشرينه وصل مبشر الحاج دمرداش الطويل الخاصكى بعد ما قاسى شدائد من العرب قطّاع الطريق، فضايقوه وأخذوا منه عدّة رواحل وغيرها، ثم أخبر دمرداش المذكور بسلامة ابن السلطان ووالدته وإخوته، فدقّت البشائر لذلك ثلاثة أيام بالديار المصرية.
وفي يوم الاثنين سادس عشرين ذى الحجة المذكور أخرج السلطان إقطاع الأمير طوخ من تمراز الناصرى- المعروف بينى بازق «4» - أمير مجلس؛ لمرض تمادى به مدّة طويلة، وأنعم بإقطاع المذكور على الأمير برسباى البجاسى حاجب الحجّاب، وأنعم بإقطاع برسباى البجاسى المذكور على الأمير بيبرس الأشرفى خال الملك العزيز يوسف [بالحجاز] «5» ، وكلاهما تقدمة ألف، غير أن الواحد يزيد عن الآخر في الخراج لا غير، وأنعم بإقطاع بيبرس على ولده الصغير محمد وهو في الحجاز أيضا، وهذا أيضا تقدمة ألف. «6»

(16/113)


ثم في يوم الخميس تاسع عشرينه استقرّ الأمير جرباش المحمدى الأمير آخور الكبير أمير مجلس عوضا عن طوخ المقدم ذكره بحكم مرضه، واستقر عوضه في الأمير آخورية يونس العلائى أحد مقدّمى الألوف.
وفي هذه السنة كان فراغ الرّبع والحمامين الذين بناهم السلطان الملك الأشرف إينال هذا بخط بين القصرين.
وفرغت هذه السنة وقد انحلّ أمر حكّام الدّيار المصريّة أرباب الشرع الشريف والسياسة أيضا؛ لعظم شوكة المماليك الأجلاب، وصار من له حقّ عند كائن من كان من الناس قصد مملوكا من المماليك الأجلاب في تخليص حقّه، فما هو إلا أن أعلم ذلك المملوك بقصده خلّص من غريمه في الحال، فإن هؤلاء المماليك صاروا في أبواب أعيانهم شكل رأس نوبة ونقباء، ولبعضهم دوادار، فيرسل خلف ذلك الرجل المطلوب، ويأمره بإعطاء حق ذلك المدّعى- حقّا كان أو باطلا- بعد أن يهدّده بالضرب والنّكل، فإن أجاب وإلا ضرب في الحال ونكّل به، وعلم بذلك كل أحد، فصار كلّ أحد يستعين بهم فى قضاء حوائجه، وترك الناس الحكّام، فقوى أمر الأجلاب، وضعفت شوكة الحكّام، وتلاشى أمرهم إلى الغاية والنهاية.
وفي هذه السنة كانت زلزلة عظيمة بمدينة أرزنكان «1» ، هدّمت معظمها.
وفي هذه السنة أيضا كان بالشرق فتن كبيرة بين جهان شاه بن قرا يوسف، وبين أولاد باى سنقر بن شاه رخّ بن تيمور لنك، أصحاب ممالك العجم «2»
[ما وقع من الحوادث سنة 862]
ثم استهلت سنة اثنتين وستين وثمانمائة.
ففى يوم الاثنين ثالث محرم من السنة المذكورة أنعم السلطان على قايتباى

(16/114)


المحمودى الظاهرى الدّوادار بإمرة عشرة، وعيّن السلطان الأمير جانبك الإسماعيلى المؤيدى المعروف بكوهية أن يتوجّه إلى حلب، وعلى يده تشريف تغرى يردى بن يونس حاجب حلب بنيابة ملطية، وتشريف جانبك الجكمى نائب ملطية إلى حجوبية حلب، كل منهما عن الآخر، وذلك لكلام وقع بين تغرى بردى هذا وبين الأمير جانم الأشرفى نائب حلب.
ثم في يوم الاثنين رابع عشرين المحرم «1» وصل أمير حاج المحمل بالمحمل إلى القاهرة، وهو المقام الشهابى أحمد بن السلطان، وصحبته والدته وإخوته، وطلع إلى القلعة ومعه أخوه محمد، وبين يديهما وجوه الدّولة، وخلع السلطان عليه وعلى أخيه محمد المذكور، وكانت خلعة المقام الشهابى أطلسين متمرّا، وعلى الأطلسين فوقانى حرير بوجهين بطرز زركش، ثم خلع السلطان على من له عادة بلبس الخلع في عود الحاج إلى الدّيار المصرية.
ثم في يوم الاثنين سادس عشر صفر وصل الأمير أزبك من ططخ الظاهرى الخازندار- كان- من القدس الشريف بطلب من السلطان، وطلع إلى القلعة، وخلع السلطان عليه سلّاريّا «2» من ملابيسه بفرو سنجاب، ووعده بكل خير، ثم رسم له بالمشى فى الخدمة السلطانية بعد أيام.
وفي أوّل شهر ربيع الأوّل من سنة اثنتين وستين المذكورة نودى من قبل السلطان على الذّهب بأن يكون سعر الدينار الذهب بثلاثمائة درهم نقرة، بعد ما كان وصل سعر الدينار لأربعمائة وستين درهما الدينار، وأن يكون سعر الفضة المغشوشة كل درهم بستة عشر درهما، وأن يكون سعر الدرهم من الفضة الطيبة التي رسم السلطان بضربها بدار الضرب بأربعة وعشرين درهم نقرة، وحكم السلطان بذلك، ونفذ حكمه

(16/115)


القضاة، وسرّ الناس بهذا الأمر غاية السرور؛ فإنه كان حصل بتلك الفضّة المغشوشة غاية الضرر في المعاملات وغيرها.
غير أنه ذهب للناس بهذا النقص في سعر الفضة المغشوشة مال كثير، وصار كل أحد يخسر ثلث ما كان معه من المال من هذه الفضة المذكورة، فانحسر «1» كل من كان عنده من هذه الفضة لوقوع النقص في ماله، فرسم السلطان في اليوم المذكور بالمناداة بنقص ثلث ثمن جميع البضائع في المأكول والملبوس كما نقص سعر الدرهم الثلث، وكذلك في نقص الذهب، فهان عند ذلك على الناس ما وقع من خسارة الذهب والفضة بهذه المناداة الثانية التي هى بنقص ثلث أثمان جميع الأشياء، وقال كل واحد في نفسه: «كما نقص من مالى الثلث نقص من ثمن ما كنت أبتاعه الثلث» ، فكأنه لم ينقص له شىء.
ثم في يوم الخميس سابع عشره عمل السلطان المولد النبوى بالحوش من القلعة على العادة في كل سنة.
ثم في يوم الأربعاء ثامن شهر ربيع الآخر أنعم السلطان على الأمير أزبك من ططخ الظاهرى المقدّم ذكره بإمرة عشرة، عوضا عن الأمير جانم الأشرفى البهلوان، بحكم وفاته كما سيأتى ذكر وفاته ووفاة غيره في ذكر الوفيات بعد فراغ الترجمة، على عادة هذا الكتاب.
وفي يوم الاثنين ثالث عشر شهر ربيع الآخر المذكور وجد السلطان نشاطا في نفسه من مرض كان حصل له أياما، وخرج إلى قاعة الدّهيشة، ودقّت البشائر لذلك بقلعة الجبل وغيرها ثلاثة أيام.
ثم في يوم الأحد سادس عشرين ربيع الآخر مات الأمير سودون السلحدار نائب قلعة الجبل، فأنعم السلطان من إقطاعه بنصف قرية كوم أشفين «2» على شريكه الأمير يشبك الفقيه المؤيدى، ليكون من جملة أمراء الطبلخانات، وأنعم بباقى إقطاع سودون

(16/116)


المذكور على الأمير أرغون شاه «1» الأشرفى ليكون من جملة أمراء العشرات، وأنعم بإقطاع أرغون شاه «2» المذكور على شريكه الأمير تنبك الأشرفى ليكون تنبك أيضا أمير عشرة، واستقر كسباى المؤيدى السمين نائب قلعة الجبل «3» عوضا عن سودون المذكور على إمرة عشرة ضعيفة، واستقرّ الأمير جانبك الإسماعيلى المؤيّدى المعروف بكوهية من جملة رؤوس النّوب عوضا عن كسباى المقدّم ذكره، ولبسا الخلع بعد ذلك بأيام.
ثم في سلخ شهر ربيع الآخر المذكور خلع السلطان على الأمير برسباى البجلسى حاجب الحجاب باستقراره أمير حاج المحمل.
وفيه خلع السلطان على الحكماء لعافيته من مرضه، وحضر السلطان موكب «4» القصر مع الأمراء والخاصكية على العادة.
ثم في يوم الاثنين رابع جمادى الأولى استقر [الطواشى] «5» مرجان [الحصنى] «6» مقدّم المماليك السلطانية أمير حاج الرّكب الأول، فحصل بتولية مرجان هذا إمرة الحاج الأول على أهل مكة مالا خير فيه؛ لأنه كان في نفسه وضيعا «7» ، لم تشمله تربية مربّ، لأنه نشأ ببلاد الحصن، وخرج منها على هيئة المكدّين من فقراء العجم، ودار البلاد على تلك الهيئة سنين كثيرة، إلى أن اتصل بخدمة جماعة كثيرة من الأمراء، ثم آل أمره إلى بيت السلطان، وغلط الدهر بولايته النيابة ثم التّقدمة، ثم بولايته إمرة الركب الأول في هذه السنة، فلما سافر أخذ معه جماعة كبيرة من إنياته «8» المماليك الأجلاب، ففعلوا في أهل مكة أفعالا ما تفعلها الخوارج، من الظلم وأخذ أموال الناس له ولأنفسهم، كما سيأتى ذكر ذلك عند عوده من الحج إن شاء الله تعالى.

(16/117)


وفي يوم الخميس سابع جمادى الأولى «1» استقرّ شمس الدين منصور بن الصّفّى ناظر ديوان المفرد.
وفي يوم الثلاثاء ثانى عشر ركب السلطان الملك الأشرف إينال من قلعة الجبل باكر النهار في أمرائه وأرباب دولته، وشق خط الصّليبة بغير قماش الموكب، وتوجّه إلى ساحل بولاق، ودام سيره بساحل بولاق إلى أن وصل إلى مدرسة السعدى إبراهيم ابن الجيعان التي أنشأها على النيل، ورأى ما أنشئ بالجزيرة وساحل بولاق من العمائر والبيوت، ثم عاد إلى جهة القاهرة، ومرّ من الشارع الأعظم إلى أن خرج من باب زويلة، وطلع إلى القلعة «2» .
وأصبح من الغد في يوم الأربعاء أمر بالمناداة بأن أحدا من الناس لا يعمّر عمارة بجزيرة أروى المعروفة بالوسطى، ولا بساحل بولاق؛ لما رأى من ضيق الطريق من كثرة العمائر والأخصاص، وأمر أيضا بهدم أماكن كثيرة فهدمت في اليوم المذكور، واستمر والى القاهرة بعد ذلك مستمرا للهدم أياما كثيرة، وأما الأخصاص والدكاكين التي بالطريق فهدمت عن آخرها، وكلّم السلطان في الكفّ عن ذلك جماعة كثيرة فلم يسمع لأحد، واستمر على ما رسم به من هدم الأماكن المذكورة، قلت: ولا بأس بهذه الفعلة؛ لأن كل أحد له في الساحل حق كحق غيره، فلا يجوز استقلال أحد به دون غيره.
وفي يوم الأحد سابع عشر جمادى الأولى المذكور خاشنت المماليك الأجلاب الصاحب جمال الدين ناظر الجيش والخاص في اللفظ بسبب غلو سعر أثواب البعلبكى، فأجابهم «بأن هذا ليس هو داخل في حكمى ولا من تعلقاتى، بل ذلك راجع إلى محتسب القاهرة» وبلغ السلطان ذلك، فأصبح السلطان أمر بعزل صلاح الدين أمير حاج بن

(16/118)


بركوت المكينى عن حسبة القاهرة، واستقرّ عوضه بالحاج خليل المدعو قانى باى اليوسفى المهمندار، مضافا إلى المهمنداريّة «1» .
ثم في يوم الخميس ثامن عشرينه وصل إلى القاهرة قصّاد الصارمى إبراهيم بن قرمان، صاحب قونية وغيرها، وعلى يدهم كتب ابن قرمان المذكور تتضمن الترقق والاستعطاف، وأنه داخل تحت طاعة السلطان، وأنه إن كان وقع منه ما أوغر خواطر السلطنة، فقد جرى عليه وعلى بلاده من العساكر السلطانية ما فيه كفاية من النهب والسّبى والإحراق وغير ذلك، وأنه يسأل الرّضى عنه، وأشياء غير ذلك مما ذكرناه بالمعنى، فعفا السلطان عنه بعد توقّف كبير.
وفي يوم الجمعة تاسع عشرين جمادى الأولى المذكور سافر الأمير بردبك الدّوادار الثانى صهر السلطان زوج ابنته إلى دمشق، لينظر جامعه الذي أنشأه بها.
ثم في يوم الاثنين عاشر جمادى الآخرة خلع السلطان على «2» أيدكى الأشرفى الخاصكى ليسافر إلى ابن قرمان صحبة قصّاده، لتقرير الصلح بين السلطان وبينه.
وفي يوم الجمعة رابع عشره- الموافق لثالث بشنس أحد شهور القبطلبس السلطان القماش الأبيض البعلبكىّ، المعد لأيام الصيف على العادة في كل سنة.
ثم في يوم الخميس خامس شهر رجب من سنة اثنتين وستين المذكورة شفع الصاحب جمال الدين ناظر الجيش والخاص عند السلطان في الأمير تمربغا أن يفرج عنه من حبس الصّبيبة، فسمح السلطان له بذلك، ورسم له أن يتوجّه من الصّبيبة إلى دمشق، ويقيم بها لعمل مصالحه لأيّام الحج، ويسافر إلى مكة ويقيم بها بطالا، فوقع ذلك.
ثم في يوم الجمعة سادس شهر رجب المذكور كان الحريق العظيم بساحل بولاق

(16/119)


الذي لم نسمع بمثله في سالف الأعصار إلا قليلا، بحيث إنه أتى على غالب أملاك بولاق من ساحل النيل إلى خط البوصة التي هى محل دفن أموات أهل بولاق، وعجزت الأمراء والحكام عن إخماده.
وكان أمر هذا الحريق أنه لما كان صبيحة يوم الجمعة سادس رجب من سنة اثنتين وستين المذكورة هبّت ريح عظيمة مريسىّ «1» ، وعظمت حتى اقتلعت الأشجار وألقت بعض مبان، واستمرت في زيادة ونموّ إلى وقت صلاة الجمعة، فلما كان وقت الزّوال أو بعده بقليل احترق ربع الحاج عبيد البرددار بساحل البحر «2» ، وذهب الرّبع في الحريق عن آخره ومات فيه جماعة من الناس، كلّ ذلك في أقلّ من ساعة رمل، ثم انتقلت النار إلى ربع القاضى زين الدين أبى بكر بن مزهر وغيره، وهبّت الرّياح وانتشرت النيران على الأماكن يمينا وشمالا «3» ، هذا وحاجب الحجّاب «4» وغيره من الأمراء والأعيان وكلّ أحد من الناس في غاية الاجتهاد في تخميد النار بالطفى والهدم، وهى لا تزداد إلا قوّة وانتشارا على الأماكن، إلى أن وصلت النار إلى ربع الصاحب جمال الدين ناظر الجيش والخاص، وإلى الحواصل التي تحته، وأحرقت أعلاه وأسفله، وذهب فيه من بضائع الناس المخزونة فيه ما لا ينحصر كثرة «5» ، وسارت النار إلى الدّور والأماكن من كل جهة.
هذا وقد حضر الحريق جميع أمراء الدولة بمماليكهم وحواشيهم، شيئا بعد شىء،

(16/120)


والأمر لا يزداد إلا شدّة، إلى أن صار الذي حضر من الناس لأجل طفى النار كالمتفرج من عظم النار والعجز عن إخمادها، وصارت النار إذا وقعت بمكان لا تزال به حتى يذهب جميعه، ويضمحل عن آخره، فعند ذلك فطن كل أحد أن النار تسير من دار إلى دار إلى أن تصل إلى القاهرة؛ لعظم ما شاهدوا من هولها، والريح المريسى يتداول هبوبها من أول النهار إلى نصف الليل، ولشدة هبوب الريح صارت رياحا لأنها بقت تارة تهب مريسيّا، وهو الأكثر، وتارة شمالا، وتارة غير ذلك من سائر الجهات، فيئس كل من كان له دار تحت الرّيح، وتحقّق زوالها، وشرع في نقل متاعه وأثاثه، وهو معذور في ذلك، لأننا لم نشاهد في عمرنا مثل هذا الحريق؛ لما اشتمل عليه من الأمور الغريبة، منها سرعة الإحراق، حتى إن الموضع العظيم من الأماكن الهائلة يذهب بالحريق في أسرع وقت، ومنها أن المكان العظيم كان يحترق وبجانبه مكان آخر لم تلحقه شرارة واحدة، وربما احترق الذي كان بالبعد عن تلك الدار المحروقة من شرارها، والتي بالقرب سالمة، ووقع ذلك بعدة أماكن، أعجبها وأغربها مسجد كان بالقرب من ساحل البحر وبه منارة من غرد «1» قصيرة، وكان هذا المسجد في وسط الحريق والشرار يتطاير من أعلاه من الجهات الأربع من أوّل الحريق إلى آخره، لم تتعلق به شرارة واحدة، وفي المسجد المذكور قبر رجل صالح مدفون فيه قديما يعرف بالشيخ محمد المغربى.
واستمر الأمراء والأعيان يشاهدون الحريق، ويطفئون ما قدروا عليه من أطراف المواضع المنفردة، وأمّا الحريق العظيم فلا يستجرئ أحد أن يقربه لعظمه بل يشاهدونه من بعد، واستمروا على ذلك إلى بعد أذان عشاء الآخرة، ثم ذهب كل واحد إلى داره والنار عمّالة إلى نصف الليل، فأخذ أمر الريح في انحطاط.
فلما كان باكر نهار السبت سابع شهر رجب المذكور نزل المقام الشهابى أحمد بن

(16/121)


السلطان من قلعة الجبل، وتوجّه إلى بولاق لأجل الحريق، فوجد جميع أمراء الدّولة هناك كما كانوا في أمسه، فلم يؤثر حضور الجميع في النار شيئا، غير أن الريح كان سكن وأخذت النار حدّها في الإحراق من كل مكان كانت به، فعند ذلك اجتهد كل أحد في إخمادها، وهدم ما تعلق به النار من الأماكن، وأقاموا على ذلك أيّاما كثيرة، والنار موجودة في الأماكن والجدر والحيطان، والناس تأتى لبولاق أفواجا أفواجا للفرجة على هذا الحريق العظيم، حتى صارت تلك الأماكن كبعض المفترجات، وعملت الشعراء والأدباء في هذا الحريق عدّة قصائد وقطع، وقد أنشدنى الشيخ علم الدين الإسعردىّ الحصنى «1» قصيدة من لفظه لنفسه في هذا المعنى أولها: [البسيط]
أتتهم الذاريات ذروا ... وتلوها العاصفات عصفا
أثبتّ هذه القصيدة في تاريخنا «الحوادث» كونه محل ذكر هذه الأشياء، والقصيدة المذكورة نظم عالم لا شاعر، وقد حرّرنا أيضا في تاريخنا «الحوادث» ما ذهب في هذا الحريق من الأماكن تخمينا، فكان عدة ما احترق فيه من الأرباع زيادة على ثلاثين ربعا، كلّ ربع يشتمل على مائة سكن وأكثر، أعنى أعاليه وأسفله، وما به من الحوانيت والمخازن ذكرناها في «الحوادث» بأسمائها، ماخلا الدور والأماكن والأفران والحوانيت وغير ذلك.
وقد اختلف في سبب هذا الحريق على أقوال كثيرة.
منهم من قال: إنها صاعقة نزلت من السماء والخطيب على المنبر.
ومنهم من قال: إنه نزلت من جهة السماء نوع شرارة فاحترق المكان الأول منها.
ومنهم من قال: إن الأرض كأنّ النار تنبع منها.

(16/122)


والأقوال كلّها على أن سبب هذه النار آفة سماوية.
ثم بعد ذلك بأيام أشيع أن الذي كان يفعل ذلك- أعنى يلقى النار في الأماكن- هم جماعة من القرمانيّة ممن أحرق العسكر المصرى أمكنّهم لما توجهوا إلى تجريدة ابن قرمان، وشاع القول في أفواه الناس.
ثم ظهر للناس بعد ذلك أن الذي صار يحرق من الأمكنة بالقاهرة وغيرها بعد حريق بولاق إنما هو من فعل المماليك الجلبان؛ لينهبوا ما في بيوت الناس عندما تحرق، فإنه تداول إحراق البيوت أشهرا- والله أعلم «1» .
وقد افتقر من هذا الحريق خلائق كثيرة، وعلى الله العوض.
وفي يوم الثلاثاء ثالث عشر شهر رجب المذكور وصل الأمير بردبك الدّوادار الثانى من الشّام.
وفيه أيضا نودى بزينة القاهرة لدوران المحمل، ونهى السلطان المماليك الأجلاب عن أن «2» يعمل أحد منهم عفاريت المحمل.
وسببه أنهم فعلوا ذلك في السنة الخالية وأفحشوا في الطلب من الناس، وصاروا يدخلون إلى دور الأمراء والأعيان، ويكلفونهم الكلفة الزائدة، وما كفاهم ذلك حتى صار العفريت منهم إذا مرّ بالشارع على فرسه بتلك الهيئة المزعجة يجبى الدكاكين، وإذا صدف رئيسا من بياض الناس أمسكه وأخذ منه ما شاء غصبا، وإن لم يعطه أخرق به ورماه عن فرسه، حتى صار الرّجل إذا رأى واحدا من هؤلاء أسرع في مشيه بالدخول في زقاق من الأزقة، أو بيت من البيوت، فضرّ ذلك بحال الناس كثيرا، وتركوا فرجة المحمل.

(16/123)


بل صاروا يترقّبون فراغ المحمل، ليستريحوا من هذه الأنواع القبيحة.
فلما جاء أوان المحمل في هذه السّنة دخل على قلوب الناس الرّجيف بسبب ما وقع من المماليك في العام الماضى، فكلّم أعيان الدّولة السلطان في إبطال المحمل، أو نهى الجلبان عن تلك الفعلة القبيحة، فلهذا رسم السلطان في هذه السنة بإبطال عفاريت المحمل بالكليّة.
ثم في يوم الاثنين سادس عشر شهر رجب هذا أدير المحمل على العادة في كل سنة، ولم يقع من الأجلاب شىء مما وقع منهم في السنة الماضية.
ثم تداول الحريق بعد ذلك بخط بولاق والقاهرة، وقوى عند الناس أن الذي يفعل ذلك إنما هو من تركمان ابن قرمان.
ثم وقع الحريق أيضا في شعبان بأماكن كثيرة، وداخل الناس جميعا الرّعب من هذا الأمر.
فلما كان يوم السبت ثانى عشر شعبان نودى بشوارع القاهرة ومصر بتوجّه كل غريب إلى أهله، وكذلك في يوم الأحد، فلم يخرج أحد لعدم التفات السلطان لإخراجهم.
ثم وقع حريق آخر وآخر، فنودى في آخر شعبان بخروج الغرباء بسبب الحريق من الدّيار المصرية، فلم يخرج أحد.
وتداول وقوع الحريق بالقاهرة في غير موضع.
ثم في أول شهر رمضان مرض السلطان مرضا لزم منه الفراش، وأرجف بموته، وطلع إليه أكابر الأمراء، فتكلم معهم في العهد لولده أحمد بالسلطنة من غير تصريح، بل في نوع النكر «1» من ولده، ويقول ما معناه: إن ولده ليس كمن مضى من أولاد الملوك الصغار، وإن هذا رجل كامل يعرف ما يراد منه، وما أشبه هذا المعنى، فصار هو

(16/124)


يتكلم وجميع الأمراء سكوت، لم يشاركه أحد فيما هو فيه إلى أن سكت، وانفضّ المجلس، ثم عوفى بعد ذلك، ودقّت البشائر بقلعة الجبل وغيرها أياما.
ثم في يوم الاثنين سادس شهر رمضان أخرقت المماليك الأجلاب بالأمير قانم التاجر المؤيّدى «1» أحد مقدمى الألوف، وهو نازل من الخدمة بعير قماش الموكب، وضربه بعضهم على رأسه وظهره، جاءوا بجموعهم إلى داره من الغد ليهجموا عليه، فمنعهم مماليكه من الدخول عليه، فوقع القتال بينهم، وجرح من الفريقين جماعة، فأخذ قانم المذكور يتلافى أمرهم بكل ما تصل القدرة إليه، فلم يفد ذلك إلا أنه صار يركب وحده من غير مماليك، ويطلع الخدمة وينزل على تلك الهيئة، واستمرّ على ذلك نحو السنتين «2» .
ثم في هذه الأيام أيضا تداول الحريق بالقاهرة وظواهرها، وضرّ ذلك كثيرا بحال الناس، وقد قوى عندهم أن ذلك من فعل القرمانية والمماليك الأجلاب، يعنون بالقرمانية والأجلاب أن القرمانية إذا فعلوا ذلك مرة ويقع الحريق، فتنهب المماليك الأقمشة وغيرها لما يطلعون الدور المحروقة للطفى، فلما حسن ببال المماليك ذلك صاروا يفعلون ذلك.
قلت: ولا أستبعد أنا ذلك لقلة دينهم وعظم جبروتهم، عليهم من الله ما يستحقونه من العذاب والنكال- انتهى.
ثم استهل شوال، أوّله الجمعة، فوقع فيه خطبتان، وتشاءم الناس بذلك على الملك، فلم يقع إلا الخير والسلامة، وكذبت العادة.
ثم في يوم الجمعة خامس عشره ورد الخبر على السلطان بموت چاك الفرنجى صاحب قبرس، وأنهم ملّكوا عليهم ابنته مع وجود ولد ذكر، لأمر أجاز تقديم البنت

(16/125)


على الصّبى، على مقتضى شريعتهم، ووقع بسبب ذلك أمور وغزوات يأتى ذكرها في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، وقد حررنا ذلك كله في «الحوادث» .
وفي يوم الاثنين ثامن عشره خرج أمير حاج المحمل بالمحمل من القاهرة، وهو الأمير برسباى البجاسى حاجب الحجاب، وأمير الركب الأول [الطواشى] «1» مرجان [الحصنى] «2» مقدّم المماليك السلطانية.
ثم في العشر الأخير من هذا الشهر ورد الخبر من الإسكندرية بموت الخليفة القائم بأمر الله حمزة بها، كما سيأتى ذكره في الوفيات إن شاء الله.
ثم في يوم الخميس سابع عشرين ذى القعدة خلع السلطان على ولده المقام الشهابى أحمد باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية، عوضا عن الأمير الكبير تنبك البردبكى بحكم وفاته، وأنعم السلطان بإقطاع ولده أحمد على ولده الصغير المقام الناصرى محمد، وصار محمد أمير مائة ومقدّم ألف، وأنعم بإقطاع محمد المذكور- وهو إمرة طبلخاناه- على الأمير جانبك الصوفى الناصرى المرتد «3» أحد أمراء الطبلخانات، زيادة على ما بيده؛ ليكون جانبك أيضا أمير مائة ومقدّم ألف.
ثم في يوم الاثنين ثانى عشرين ذى الحجة خلع السلطان على القاضى شرف الدين التتائى «4» الأنصارى باستقراره ناظر الجيوش المنصورة، عوضا عن الصاحب جمال الدين يوسف بن كاتب جكم، بحكم وفاته في يوم الخميس ثامن عشر ذى الحجة.
وخلع السلطان أيضا على الأمير زين الدين عبد الرحمن بن الكويز، باستقراره ناظر الخاص الشريف، عوضا أيضا عن الصاحب جمال الدين يوسف المقدّم ذكره

(16/126)


ثم في يوم السبت سابع عشرين ذى الحجة أيضا استقرّ القاضى زين الدين أبو بكر بن مزهر ناظر جوالى دمشق، وأنه يتوجه إلى دمشق لضبط تعلقات الجمالى ناظر الخاص، ثم بطل ذلك قبل أن يلبس الخلعة.