إنباء الغمر بأبناء العمر
سنة ثمان وعشرين
وثمانمائة
في ثامن المحرم حضر المبشر بالصالحية وذكر أنه تعوق بسبب مقبل، وكان
مقبل قد فر من القاهرة فصار ينزل في طريق الحاج وربما حصل ممن يصحبه
لمن يمر به أذى، وتأخر قدوم الحاج عن العادة يومين فقدم الأول في
الرابع والعشرين والمحمل في الخامس والعشرين، وذكروا أنهم تأخروا بمنى
يوماً من أجل بهار السلطان، وتأخروا في وادي مرو يوماً آخر بسبب حسن بن
عجلان لأنه أشيع أنه يدخل مكة إذا خرج الحاج، فأقام أمير الحاج ومن معه
من الجند يوماً حتى تحققوا عدم صحة ذلك.
وفي الرابع عشر منه حضر يوسف بن قطب الدين الحنفي من حلب وأظهر
الإزدراء بعلماء الحنفية وأنه ليس فيهم مثله فأمر السلطان بحمع فضلاء
الحنفية فحضروا بمجلسه وأحضرت فتاوى كتبت من نسخة واحدة فدفع للشيخ
نظام الدين يحيى شيخ الظاهرية واحدة وللشيخ بدر الدين العينتابي واحدة
وللشيخ سراج الدين قارئ الهداية وهو يومئذ شيخ الشيخونية واحدة ولصدر
الدين ابن العجمي واحدة وللشيخ سعد الدين ابن الديري شيخ المؤيدية وكان
استقر فيها بعد موت أبيه واحدة وللشيخ يوسف واحدة، وأمروا أن يكتبوا
عليها منفردين، فأجابوا إلى ذلك إلا يوسف فقال: أنا لا أكتب إلا
بمنزلي، فسجلوا عليه العجز وكتبوا كلهم غيره، ودفع السلطان لقاضي
الحنفية رين الدين التفهني الفتاوى لينظر من أصاب منهم ممن أخطأ،
وانفصل الأمر على ذلك.
وفي يوم الجمعة سادس عشر المحرم وصل طوخ الذي كان توجه أميراً على
العسكر المجهز إلى مكة في العام الماضي نجدة لقرقماس وعلي بن عنان،
فأخبر أن الركب تأخر خروجهم عن مكة يومين بسبب أن التجار سألوا أمير
الركب أن يتأخر لأجلهم يوماً ففعل، فطلب منه قرقماس أن يتأخر يوما آخر
ففعل، وتوجه من في الركب الأول والثاني مع قرقماس فأوقعوا بابن حسن بن
عجلان، وجرح من الطائفتين جماعة وانهزم ابن حسن.
(3/341)
وفيها سارت الهدية من مصر إلى بلاد العجم
لملكها شاه رخ بن اللنك، وكان أرسل يسأل في أن يؤذن له في كسوة الكعبة
من داخل فكتبت أجوبته.
وفي ربيع الأول جهز السلطان إلى مكة عسكراً. وفيه أرسل الشيخ محمد بن
قديدار ولده إلى صاحب قبرس يسأل أن يطلق من عنده من أسرى المسلمين
ليسعى له في التمكين في زيارة القمامة، فعوق ولده فضج الشيخ من ذلك
وكان من غزو المسلمين قبرس ما سيأتي ذكره، وكمل الغراب الذي أنشأه
السلطان لغزو الفرنج وأنزل البحر وكان يوماً مشهوداً. وفيه وصل رسل
قرايلك من التركمان......
وفي سابع عشر ربيع الآخر قدم نائب الشام فخلع عليه وأعيد إلى إمرته على
عادته، وشفع في طرباي بأن يطلق من سجن الإسكندرية إلى دمياط، فأجيب إلى
ذلك، ووقع في العشر الأخير من أمشير حر شديد حتى نزع الناس الفراء
والجوخ وظنوا أن الشتاء انقضى، فلم يكن إلا خمس ليال حتى عاد البرد أشد
مما كان. وفي هذا الشهر أوقع قرقماس أمير الحجاز بأهل الطائف وذلك
لأنهم قطعوا الميرة عن مكة، فأذعنوا له وحصل بمكة أمن كثير ورخاء زائد.
وفيه توجه الشيخ شمس الدين ابن الجزري إلى بلاد اليمن، فأكرمه ملكها
وسمع عليه الحديث وأنعم عليه بمال وأطلق له كثيراً من تجارته بغير
مكسها، ورجع في البحر كما سافر منه، وعجب الناس من شدة حرصه مع كثرة
ماله وعلو سنه.
(3/342)
وفي سابع عشر ربيع الآخر شكا نائب الشام
إلى السلطان من حسين كاتب السر، ففوض أمر ولايته وعزله له.
وفي جمادى الأولى وقع بدمياط حريق عظيم حتى يقال احترق قدر ثلثها، وهلك
من الدواب والناس والأطفال شئ كثير.
وفي جمادى الأولى كملت مدرسة السلطان التي أنشأها بجوار الحانقاه
السرياقوسية الناصرية، وقرر فيها شيخاً وصوفية، وفي العاشر منه استقر
بدر الدين بن نصر الله في الأستادارية عوضاً عن ولده صلاح الدين بحكم
استعفائه، وبعد يومين استقر كريم الدين عبد الكريم ابن سعد الدين
المعروف بابن كاتب جكم في وظيفة نظر الخاص عوضاً عن ابن نصر الله
المذكور، فحصل لإبن نصر الله بذلك مشقة عظيمة، فباشر الأستادارية
بمفردها إلى ثامن شعبان فأمسك هو وولده، واستقر في الأستادارية زين
الدين عبد القادر بن أبي الفرج، وهو شاب أمرد.
وفي جمادى الآخرة والشمس في برج الثور في خامس بشنس من الأشهر القبطية
أمطرت السماء مطراً غزيراً جداً، ثم في الثامن عشر منه قرب نقل الشمس
إلى الجوزاء، أمطرت أيضاً مطراً غزيراً عقب ريح شديدة هبت ليلاً، وكان
الورد في هذه السنة قليلاً جداً، وفي عاشره قبض على نجم الدين ابن حجى
كاتب السر وعوق في البرج بالقلعة، ثم نفي إلى الشام، ووكل به شرطي معه
في سلسلة من حديد وأهين جداً، وألزم الموكل به أن ينادي عليه في كل بلد
دخله، فإذا وصل إلى دمشق نودي عليه: من كانت له عليه ظلامة فليطلبها!
وأحيط بداره وحمل جميع ما فيها، فلما وصل غزة وافاه كتاب السلطان
بإطلاقه وإكرامه وإيصاله إلى دمشق وإقامته بها بطالاً، وكان السبب في
ذلك أنه باشر كتابة
(3/343)
السر بغير خبرة بإصلاح الوظيفة وسلك مع
المصريين طريقته في حدة الخلق والبادرة الصعبة مع الإقبال على اللهو في
الباطن فيما يقال، ثم إنه كان ألزم بعشرة آلاف دينار فحمل منها خمسة
فطولب بالخمسة الأخرى ولوزم بالمطالبة، فضج من ذلك وكتب للسلطان ورقة
يذكر فيها أنه منذ ولي السلطنة غرم كذا وكذا ألف دينار وفصلها ومن
جملتها للباشرين لفلان كذا ولفلان كذا لمن لا يسمى كذا - ورمز إلى
جانبك الدويدار، فبلغ ذلك من نسب إليهم الأخذ منه، فحنقوا منه وأمالوا
عليه جانبك وهو شاب حاد الخلق قوي النفس كثير الإدلال على مخدومه، فشكا
من كاتب السر للسلطان والتمس منه أن يمكنه منه، فأذن له - فأخرجه على
الصورة المذكورة، ثم قام ناظر الجيش عليه حتى هدأ خلقه، ورجعه عما كان
أمر به من المبالغة في إهانته، ورأى أن المقصود قد حصل بزيادة وربح
الجميل عليه بتخليصه من الشدة المذكورة، والتزم عنه بمال يحمله إذا وصل
إلى دمشق، ففعل ذلك ودخل دمشق ولزم بيته بطالاً، وجفاه أكثر الناس إلى
أن كان في السنة المقبلة منه ما سيأتي ذكره.
ومن الإتفاق العجيب أنه طلب بطرك اليعاقبة فراجعه في شئ خاطبه به
فأغضبه، فأمر بضربه فضرب على رجليه نحو أربعمائة عصى، فاغتاظ القبط
لذلك وبالغوا في التأليب على ابن حجى إلى أن اتفق له ما ذكر، واستقر في
كتابة السر بعده بدر الدين محمد بن بدر الدين محمد ابن أحمد - بن مزهر
الدمشقي، وكان قدم مع المؤيد أحد الموقعين، واستقر في نظر الإصطبل
وتقدم وصار أحد الرؤساء في دولة المؤيد لكن كان لا يرفع رأسه مع وجود
ابن البارزي، فلما مات استقر نائب كاتب السر وكبير الموقعين وصار يصرف
أكثر الأمور في مباشرة كمال الدين ولد البارزي، ثم لما استقر علم الدين
بن الكويز في كتابة السر كان هو القائم بأكثر الأمور وسماه السلطان
خليفة كاتب السر وراج عليه وعرف أخلاقه وتمكن منه إلى أن تقرر في كتابة
السر بعد كائنة ابن حجى في ثامن عشرى جمادى الآخرة، فباشرها أربع سنين
متوالية.
وفي ثاني عشر رجب قرئ تقليده بالمدرسة الأشرفية، فوقع من علاء الدين
الرومي
(3/344)
شيخها إساءة أدب في حق القاضي الحنفي فعزره
بالكلام وأقامه من المجلس، ثم شكا الحنفي لمن حضر من المباشرين فبلغوا
الأمر للسلطان، فأمر بإخراجه من المدرسة فكشف الحنفي رأسه، وأصلح
بينهما ناظر الجيش وصرف رأي السلطان عن عزله بعد أن كان أمر بتقرير
الشيخ سراج الدين قارئ الهداية مكانه، واشترط عليه لزوم الأدب في البحث
- وترك البحث بعده ... -.
وفي الثامن من شهر رجب صرف الهروي عن قضاء الشافعية وتقرر كاتبه، قرأت
بخط قاضي الحنابلة محب الدين: كان يوماً مشهوداً وحصل للناس سروران
عظيمان: أحدهما بولايته لأن محبته معروفة في قلوب الناس، والثاني بعزل
الهروي فإن القلوب كانت اتفقت على بغضه لإساءته في ولايته وارتكابه
الأمور الذميمة. وفي الثامن من رجب توجه القاضي المستقر إلى مصر في
موكب عظيم، ومعه من القضاة ونوابهم والفقهاء من لا يكاد يحصر، وكان
يوماً مشهوداً، انتهى ما نقلته من خطه ورحل الهروي من القاهرة خفية من
شدة مطالبات الناس له، وذلك في التاسع عشر منه.
وفي رجب هيأ الأشرف العسكر الذي ندبه لغزو الفرنج وأميرهم جرباش الحاجب
الكبير وأنفق فيهم، وعين لذلك جماعة من الأمراء - والمماليك السلطانية
-، وسافروا في شهر رمضان، فوصلوا إلى ساحل الماغوصة في سادس عشرى شهر
رمضان، فسمع بهم صاحبها فبذل لهم الطاعة وجهز لهم الأموال ودلهم على
عورات صاحب جزيرة قبرس فأقاموا ثلاثاً، ثم توجهوا إلى جزيرة في البحر
فيها الماء الحلو فتزودوا منها، ووقع لهم بعض الفرنج في البحر فقاتلوهم
إلى أن فر الفرنج ورجع المسلمون إلى أماكنهم ثم التقوا في البر فانكسر
المشركون أيضاً
(3/345)
وغنموا منهم، وكان غالب العسكر مع ذلك
مقيما في المراكب خشية أن يكيدهم الفرنج بأن يملكوا عليهم البحر، ثم
بلغهم أن صاحب قبرس تجهز لهم في جمع كثير، فتوجهوا في المراكب إلى جهة
طرابلس، فرمتهم الريح إلى الطينة مقابل دمياط وكاتبوا السلطان بذلك،
فأذن لهم في دخول دمياط فدخلوها في شوال، ثم أذن لهم في دخول القاهرة
فدخلوها ومعهم عدة من السبى نحو الألف رأس، فتسلم السلطان جميع الغنيمة
وفرق في الجيش مالا من عنده، وشاع الخبر أن صاحب قبرس كاتب نائب الشام
في طلب الصلح، وكان ما سيأتي ذكره.
ذكر غزاة قبرس الأولى
سنة ثمان وعشرين وثمانمائة.
تقدم في حوادث سنة سبع ما وقع من الوقعة بين المسلمين وبين الفرنج في
ساحل اللمسون المتصل بجزيرة قبرس، فلما رجعوا بالغنيمة والأسرى أمر
الأشرف بتجهيز الأغربة والإستكثار منها، فجد في ذلك وأرسل إلى طرابلس
والإسكندرية ودمياط وبيروت، وأمر بتركيز الجند في السواحل حفظا لها من
عادية الفرنج، فاتفق أن جابوش صاحب قبرس جهز غرابا وسلورة وشحنهما
بالرجال والعدد، وأمرهم بتتبع السواحل ونهب ما استطاعوا وإفساد ما
قدروا عليه، فلم يبلغوا من ذلك غرضا لحفظها بالجند، فاتفق أنهم احتاجوا
إلى الماء فانتهوا إلى مكان يقال نهر الكلب، فلما رآهم الحرس كمنوا
لهم، فلما لم يروا أحداً دخلت السلورة النهر وهو ضيق فخرج عليهم الكمين
فأحرقوها وأسروا من فيها ورجع من في الغراب إلى قبرس، ولما تكاملت
العمارة جهز الأشرف الجند، وتوجه صحبتهم من المطوعة عدد كثير، وركب إلى
الساحل فعرض الجميع وسافروا إلى دمياط، وكان جابوش - صاحب قبرس - جهز
أميراً يقال له باله في تسعة أغربة، فوقف على فوهة دمياط يمنع أغربة
المسلمين من الدخول في البحر الملح فوقف هناك، فصادف مجئ العمارة من
الإسكندرية فقصدوهم فانهزموا منهم بغير قتال، وسافر الجميع من فم دمياط
إلى طرابلس فانضم إليهم المراكب المجهزة منها ومن بيروت، واجتمع
(3/346)
فيها من الأمراء والجند والمطوعة ومن
العشير والزعر عدد كثير، ثم راسل كبيرهم وهو جرباش الكريمي جابوش في
الدخول في الطاعة فامتنع، فسافروا إلى جهته فوصلوا إلى الماغوصة، فطلع
الخيالة وأكثر المشاة وضربوا خيامهم بالبر، فحضر رسول صاحب الماغوصة
ومعه ضيافة وقال إنه في الطاعة، فأعطوه أماناً وركبوا في الحال فداسوا
من قدروا عليه وأوسعوهم تخريباً وتحريقاً، وكان ذلك في رمضان، وأوقع
الله الرعب في قلوب الذين كفروا حتى كان الثلاثة من المسلمين يدخلون
الضيعة وفيها ما بين المائة والخمسين فلا يمتنع عليهم أحد، ثم صادفهم
أخو جابوش في ألف فارس وثلاث آلاف رجال غير الكمناء، ثم إنه قذف في
قلبه الرعب فرجع بمن معه، ولما تمت لهم في الماغوصة أربعة أيام وقد
أوسعوها نهباً وأسراً قصدوا الملاحة وأحرقوا ما مروا عليه إلى مكان
يقال له رأس العجوز، فوجدوا هناك أميراً فأسروا من معه وقتلوه، ثم
صادفوا تسعة أغربة وقرقورة مشحونة مقاتلة فلا قاهم المسلمون، فانكسر
للنصارى زورق وفر من فيه إلى البر فأسرهم المسلمون، وكان من تدبير صاحب
قبرس أنه أرسل أخاه في الجبال فأرسل المقاتلة في البحر، فرجع أخوه بغير
قتال وهزم الله أهل البحر، ووصلوا إلى الملاحة وضربوا خيامهم بها،
وشنوا الغارة في الضياع، وقتلوا الذي كان أميراً على الملاحة، ويقال
إنه كان شديداً على أسرى المسلمين، وكان يقال له: عين الغزال، وكان
جابوش أمده بأربعة أحمال زرد خاناة على عجل، فأحاط بها المسلمون ثم
جمعوا الغنائم والأسرى ورجعوا إلى المراكب إلى أن وصلوا إلى اللمسون،
فحاصروا الحصن الذي هناك فأخذوه عنوة وملؤا أيديهم من الغنائم والأسرى
وأحرقوا الحصن، وكان ذلك في يوم الخميس مستهل شوال،
(3/347)
وجهز الأمير جرباش مبشراً بالفتح، ويقال إن
عدة من قتل في مدة نصف شهر من الفرنج خمسة آلاف، ولم يقتل من المسلمين
في هذه الغزاة إلا ثلاثة عشر نفساً، وكان طلوعهم إلى القلعة بالأسرى
والغنائم يوماً مشهوداً وكان في بقية شوال منها.
وفي رجب قدم مقبل الحسني الذي كان أمير الينبع بخديعة من صديقه فحر
الدين التوريزي التاجر، فلم يزل به حتى قدم معه إلى القاهرة بعد أن
توثق له بالأمان، فأمر السلطان بحبسه غير مضيق عليه.
وفي السابع والعشرين من شعبان زلزلت الأرض بمصر والقاهرة قدر درجتين،
وكان أمراً مهولاً إلا أنه لم يقع بها هدم شئ من الأماكن إلا اليسير
فنسأل الله العفو والعافية.
وفي سابع عشرى ذي القعدة نودي على الفلوس بأن يكون كل رطل منها بإثني
عشر درهماً، وكانت قد قلت جداً بحيث صار الشخص يشتري من الدرهم الفضة
رغيفاً فلا يجد الخباز ما يكمل به حقه من الفلوس، وكان السبب في ذلك
أنه اجتمع عند السلطان منها مقدار كثير، فشاع بين الناس أنه ينادي
عليها بزيادة في سعرها، فأمسك أكثر الناس عن إخراجها ممن عنده شئ منها
رجاء الربح، فعزت بسبب ذلك، فلما نودي سكنت نفوسهم وأخرجوها فكثرت في
الأيدي.
وفي أواخر ذي القعدة وصل يشك الجركسي وكان - جلب - من بلاد الجركس
فأخذه الفرنج فأقام عندهم وتعلم ما يصنعه البهلوان، فدخل القاهرة
فأوصلوه إلى السلطان، فأسلم ورتب في طبقة المماليك، ثم أراد أن يرى
السلطان شيئاً من فنه، فنصب حبلاً على رأس مئذنة حسن وطرفه على رأس
الأشرفية فمشى عليه، ورمى بالمكحلة وهو فوقه وأوتر قوس الرجل ورمى به،
ولما فرغ خلع عليه السلطان وأركبه فرساً وأنعم عليه الأمراء بجملة
دراهم.
ولما صرف جمال الدين الكركي من كتابة السر بمصر قرر في نظر الجيش بدمشق
بعد مدة، وذلك في أواخر رمضان، وكان حسين جمع بين وظيفتي كتابة السر
ونظر الجيش بعناية أزبك الدوادار، فصرف من نظر الجيش.
(3/348)
وفي ذي القعدة عزل أزدمردجايه عن الأمرة
وأمر بلزوم منزله، ثم بشره ياقوت المقدم الحبشي - مقدم المماليك -
بالرضا عنه، فخلع عليه كاملية بسمور، وأمر بأن يخرج مع كاشف الصعيد
لقتال العرب.
وفي رمضان ادعى على الشيخ شمس الدين بن الشيخ سراج الدين عمر الميموني،
وكان أبوه من أعيان الطلبة الشافعية عند شيخنا سراج الدين البلقيني
وغيره، وكان نقيب درس الخشابية، ونشأ ولده هذا طالباً للعلم فمات أبوه
وهو صغير، فتعاني طريقة الفقراء وأقام في زاوية ونصب له خادماً فبقي
مدة، ثم ترك وواظب الحج في كل سنة، وكان كثير التلاوة جداً؛ فاتفق أنه
ذكر لبعض الناس أنه رأى زين الدين التفهني في المنام في حالة ذكرها
سيئة جداً، فادعى عليه أنه قال: قد أباح لي سيدي اللواط والخمر والحشيش
والفطر في رمضان - إلى أشياء من هذا الجنس، فأنكر، فشهد عليه جماعة
وثبت ذلك عن ابن الطرابلسي نائب الحنفي، ثم استفتى علماءهم فأفتوه بأن
ذلك زندقة، فاتفق أن الحنفي ذكر ذلك للسلطان واستأذنه في إمضاء الحكم
عليه فأمر بإحضاره، فلما كان يوم الاثنين سادس شوال أحضر إلى القصر وفي
رقبته سلسلة فسلم ثم قال: يا عبد الرحمن اتق الله - يخاطب القاضي
التفهني؛ فغضب وقال: حكمت بزندقتك وسفك دمك؟ وقال للحنبلي: نفذ لي،
فقال: حتى ينفذ الشافعي؟ فامتنع، فسألني السلطان فقلت: وقعت عندي ريبة
تمنع من تنفيذ هذا الحكم، فإني أعرف هذا وقد ذكر لي أن في عقله خللاً
والقاضي سارع بالحكم في حال غضبه وتعصب العين للميموني وأحضر النقل بأن
الزنديق إنما يقتل عندهم إذا كان داعية، وطال البحث في ذلك. وقام
الحنفي ليقتله وأرسل إلى الوالي، فأشار عليه بعض ألزامه بالتأني في
أمره، ثم عقد مجلس حافل بسببه وتغضب أكثر الجند وأكثر المباشرين عليه
تبعاً للتفهني، ولم يبق معه سوى خشقدم الخازندار وللسلطان إليه ميل،
فطال النزاع في أمره فاتفق أن قال في جملة ما خاطب به للتفهني: يا
سيدنا قاضي القضاة؟ أتوب إلى الله من رؤيا المنامات من اليوم، فازداد
حنقه منه، وكايده العيني فتعصب له، ثم اتفق الحال على حبسه،
(3/349)
فلما كان في أول ذي القعدة اجتمع الحنفي
بالسلطان وقرر معه أنه ينفى إلى بعض البلاد الحلبية، ثم أرسل ناظر
الجيش في خامس ذي القعدة إلى التفهني وكاتبه، فأصلح بينهما وأرسل لكل
منهما بغلة.
وفي الثامن من ربيع الأول قرر جمال الدين يوسف السمرقندي في قضاء حلب
عوضاً عن شمس الدين ابن أمين الدولة بحكم عزله، وكان هذا قدم في أواخر
دولة المؤيد فاعتنى به الظاهر ططر وهو أمير، وأعانه على الحج، وقرره في
عدة وظائف بحلب، فتوجه إليها وباشرها إلى أن وقع بينه وبين القاضي
المذكور، فرتب عليه من يشهد عليه بأمر صدر منه، وذلك بالمدرسة السارخية
في سوق النشاب ففر خفية منها، فقدم القاهرة وشكا حاله للسلطان فعزل
القاضي وقرره مكانه، فلما بلغ القاضي ذلك وصل إلى القاهرة، فقام معه
بعض الرؤساء فما أفاد، وأمر بعوده إلى حلب بطالاً.
وفي سابع ذي الحجة ثار جماعة على المحتسب وهو القاضي بدر الدين العيني
بسبب إهمال أمر الباعة وشدة غلاء الخبز مع رخص القمح. ورفعوا للسلطان
فلم يأخذ لهم بيد بل ضرب جماعة منهم وهدد جماعة وحبس نحو العشرة، فعدم
الخبز من الحوانيت وتزاحموا على الأفران، ثم تراجع الحال، وكثر الخبز
مع زيادة السعر في الشعير والقمح والفول - وكان ما سيأتي ذكره في أول
السنة.
وفي الثالث والعشرين من ذي الحجة وصل بالمبشر من الحاج وأخبروا بالرخاء
الكثير في الحجاز، وأنه نودي بمكة أن لا تباع البهار إلا على تجار مصر،
وأن لا يكون البهار إلا بهار واحد، وأخبر بأن الوقفة كانت يوم الاثنين
وكانت بالقاهرة يوم الأحد، فتغيظ السلطان ظناً منه أن ذلك من تقصير في
ترائي الهلال، فعرفه بعض الناس أن ذلك يقع كثيراً بسبب اختلاف المطالع؛
وبلغني أن العيني شنع على القضاة بذلك السبب فلما اجتمعنا عرفت السلطان
أن الذي وقع يقدح في عمل المكيين عند من لا يرى باختلاف المطالع، حتى
لو كان ذلك في رمضان للزم المكيين قضاء يوم، فلما لم يفهم المراد سكن
جأشه،
(3/350)
وفي هذه السنة كانت وقعة الفأر باللجون من
طريق الشام، وكان قد كثرت فراخه حتى شاهد بعض الناس كثيراً منها يخرج
بأولادها الصغار فيتركونها عند البيوت ويأتونها بالقمح في سنبله فيدخله
الأولاد في البيوت، ومن رجع ووجد شيئاً من القمح لم يحول إلى البيت ضرب
ولده الضرب المبرح، وتسلط الفأر على زروع الناس وتضرروا من ذلك ضرراً
كبيراً - قرأت ذلك بخط قاضي الحنابلة محب الدين، ثم عقب ذلك وقع بين
الفئران مقتلة عظيمة، وشاهد الناس منها جملة كثيرة. بعض مقطوع الرأس
ومقطوع الرجل ومقطوع اليد ومنها الموسط، وصار منهم أكوام كثيرة، وفي
شعبان ارتفع سعر الغلى فوصل الفول إلى مائتين والشعير إلى مائة وخمسين،
ثم ازداد السعر في ذي القعدة ووصل الفول إلى ثلاثمائة، وكذلك القمح، ثم
تراجع القمح إلى مائتين وخمسين. وفي آخرها ماتت زوجة السلطان - وكانت
ابنة عمه - بوادي الصفراء، وكانت خاملاً فوضعت وماتت في نفاسها. فبلغ
السلطان فحزن عليها كثيراً.
(3/351)
ذكر من مات في سنة ثمان وعشرين وثمانمائة
من الأعيان أحمد بن أبي بكر بن علي بن عبد الله بن بوافي بن يحيى بن
محمد بن صالح، الأسدي المعشمي الشيخ شهاب الدين الشهير جده بالطواشي،
ولد بعد الستين، وأحضر في الثالثة على ابن جماعة، وأسمع على الفروي
والضياء الهندي، وأجاز له الكمال ابن حبيب ومحمد بن جابر وأبو جعفر
الرعيني وأبو الفضل النويري والزرندي والأميوطي وغيرهم، وكان خيراً
ديناً منقطعاً عن الناس؛ مات يوم الجمعة سابع عشر شعبان بمكة، وصلى
عليه بعد الصلاة، وشيعه جمع كثير منهم أمير مكة علي بن عنان.
أحمد بن عبد الرحيم بن أحمد بن الفصيح، الكوفي الأصل ثم البغدادي ثم
الدمشقي، شهاب الدين، نزيل القاهرة، كان جده من أهل العلم والطلب
للحديث وحدث أبوه بالسنن الكبري للنسائي وتفرد به عن ابن المرابط
بالسماع وكان حنفي المذهب، ونشأ ابنه هذا يتعاني التجارة، ثم عمل نقيب
الحكم الحنفي بدمشق، ثم سكن القاهرة مدة وتردد إلى القاهرة، وكان يحب
الانجماع ولا يباشر إلاناساً مخصوصين، وكان ابن الأدمي يكرمه ويعظمه
لأنه كان يقرب له من جهة النساء، فقرره في النقابة بالخانقاه
(3/352)
البيبرسية في سنة خمس عشرة، فاستمر فيها
إلى أن مات في أول يوم من شعبان وله بضع وسبعون سنة، وكان قليل الكلام
كثير المعرفة بالأمور الدنيوية، وما أتردد أنه سمع على ابن أميلة ومن
قبله لكن لم أقف على ذلك تحقيقاً، وسألته عن ذلك فلم يعترف به، وسألته
أن يجيز لجماعة فامتنع ظناً منه أن ذلك على سبيل السخرية به لسعة
تخيله.
تغري بردى المؤيدي المعروف بابن قصروه نائب حلب، كان مات بها محبوساً
في ربيع الأول.
سليمان بن عبد الرحمن بن داود بن الكويز، أخو كاتب السر علم الدين، ورث
من أخويه صلاح الدين وعلم الدين. أما صلاح الدين فلكونه شقيقه، وأما
علم الدين فلكونه وصيه، فكثر ماله، ووقع بينه وبين ابن أخيه عبد الرحمن
بن علم الدين تنازع في شيء ففسد بذلك من المال عليهما شيء كثير، وكان
سليمان يلقب بدر الدين حسن الصورة جميل الفعال شديد الحياء عاقلاً
وقوراً، باشرا استيفاء الدولة وغير ذلك، وهو أصغر الإخوة؛ ومات في حادي
عشر المحرم.
شعبان بن محمد بن داود، المصري، وكان يقال له: الموصلي، ثم زعم أن اسم
أبيه محمد بن داود ويقال إن داود - كان ممن تشرف بالإسلام فأحب أن يبعد
عنه وصار يكتب الآثارى نسبة إلى الآثار النبوية لكونه أقام بها مدة،
وكان قد تعانى الخط المنسوب، فجاد خطه بملازمته لشيخنا شمس الدين
الزفتاوي، وصار رأس من كتب عليه وأجازه، فصار يكتب للناس، ثم اتفق أنه
شرب البلاذر فحصل له طرف نشاف، واقام مدة عارياً من الثياب والعمامة،
ثم تماثل قليلاً وطلب العلم، ولازم الشيخ بدر الدين الطنبذي والشيخ شمس
الدين الغماري، وتعانى النظم فنظم نظماً
(3/353)
سافلاً أولاً ثم أكثر من ذلك حتى انصقل
قليلاً ونظم نظماً وسطاً، ومن نظمه لما عزل البلقيني بالهروي واتفقت
الزينة للمحمل فعلق شخص يسمى الترجمان على باب داره بالجنميين حماراً
بسرياقات على رؤوس الناس بأحسن هيئة وتردد الناس للفرجة عليه فقال:
أقام الترجمان لسان حال ... عن الدنيا يقول لنا جهارا
زمان فيه قد وضعوا جلالاً ... عن العليا وقد رفعوا حمارا
ثم أقبل على ثلب الأعراض وتمزيقها بالهجو المقذع، ونظم أرجوزة في
العربية وأرجوزة في العروض، وتعلق على توقيع الحكم فقرر به، ثم عمل
نقيب الحكم - بمصر، ثم استقر في الحسبة بمال وعد به، ثم ارتكبه الدين
بسبب ذلك ففر من مصر في سنة إحدى وثمانمائة، ودخل اليمن فمدح ملكها
فاعجبه، وأثابه، ومدح أعيانها وتقرب منهم، ثم انقلب يهجوهم كعادته،
فأمر السلطان الملك الناصر أحمد بن الأشرف إسماعيل بنفيه إلى الهند
فأركب في المراكب الواصلة من تانة واقام بها وأكرم، ثم عاد إلى طبعه
فأخرج منها - وقد استفاد مالاً فأصيب بعضه، ورجع إلى اليمن فلم يقم
بها، وتوجه إلى مكة فأقام بها مدة طويلة، وأظهر بها من القبائح ما لا
يحمل ذكره ونصب نفسه غرضاً للذم، وتزوج جارية من جواري الأشرف يقال لها
خود، فاتخذها ذريعة إلى ما يريده من الذم والمجون وغير ذلك، فصار ينسب
نفسه إلى القيادة والرضا بذلك لتعشقه فيها - إلى غير ذلك، وكان فيه
تناقض فإنه يتماجن إلى أن يصير أضحوكة، ويتعاظم إلى أن يظن أنه في غاية
التصون، وكان شديد الإعجاب بنظمه، لا يظن أن أحداً يقدر على نظيره، مع
أنه ليس بالفائق بل ولا جميعه من المتوسط بل أكثره سفساف كثير الحشو
عري عن المعنى البديع،
(3/354)
ثم قدم القاهرة سنة عشرين وهجا بهاء الدين
ابن البرجي الذي كان يتولى الحسبة قديماً، ثم صادف أن ولي الهروي
القضاء فهجاه ومدح البلقيني وأثابه، ولعله أيضاً هجا البلقيني، ثم توجه
إلى دمشق فقطنها إلى أن قدم القاهرة سنة سبع وعشرين ومدحني بقصيدة
تائية مطولة، ولا أشك أنه هجاني كغيري، ثم رجع إلى دمشق ثم قدم القاهرة
فمات يوم وصوله في سابع عشر شعبان، وخلف تركة جيدة، قيل: بلغت ما قيمته
خمسة آلاف دينار، وكان مقتراً على نفسه. فاستولى على ماله شخص ادعى أنه
أخوه وأعانه على ذلك بعض أهل الدولة، فتقاسما المال، ووقف كتبه
وتصانيفه بالباسطية؛ وعاش بضعاً وستين سنة.
صالحة أو زينب بنت صالح بن رسلان ابن نصير البلقيني، وهي والدة القاضي
علم الدين صالح بن شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين، تزوجها الشيخ وهي
ابنة عمه فأولدها صالحاً وعبد الخالق، ثم قدمت على الشيخ أخته من
بلقينة فذكرت للشيخ أنها أرضعت زوجته هذه، فبحث الشيخ عن ذلك حتى وضح
له، فلما علم صحة قولها اجتنبها. وذلك قبل موته بعشر سنين، ثم لما مات
تزوجت بعده زوجاً بعد زوج من العوام، وكانت موصوفة بالخير؛ وعاشت نحو
الستين وماتت في حادي عشر المحرم.
طوغان أمير آخور، مات مقتولاً بقلعة المرقب في ذي الحجة، وكان قد ولى
عدة وظائف.
(3/355)
عثمان بن محمد فخر الدين الدنديلي الشاهد،
سمع من أبي الحسن العرضي، وأجاز لأولادي، وسمعت عليه جزءاً من حديث ابن
حذلم أنا العرضي أنا الفخر ابن البخاري؛ جاوز الثمانين ومات في 18
شوال.
عثمان بن ... التلاوي المعروف بالطاغي، خازن الكتب بالمدرسة المحمودية،
وقد تقدم ذكر صرفه عنها في حوادث سنة ست وعشرين وكان شديد الضبط لها،
ثم حصل له من تسلط عليه بالخديعة إلى أن وقع التفريط فذهب أكثر نفائس
الكتب، وكان في أول أمره أقرأ القاضي جلال الدين البلقيني القرآن،
وتمشيخ بالمشهد النفيسي ولقي جماعة من الاكابر؛ ومات في 14 المحرم.
علي بن أحمد بن محمد بن سلامة بن عطوف، السلمي المكي نور الدين ابن
سلامة، ولد سنة ست وأربعين بمكة، واشتغل وعني بطلب الحديث ورحل فيه،
فسمع بدمشق من ابن أميلة والصلاح ابن أبي عمر وابن كثير وغيرهم، وبحلب
من ابن حبيب وغيره، وببغداد من عمر بن علي القزويني وعبد الدائم ابن
عبد المحسن بن الخراط وغيرهما،
(3/356)
وبالقاهرة من التقي البغدادي وقرأ عليه
القراآت، أكثر عنه صاحبنا زين الدين رضوان، وحدث بالقاهرة ومكة وصار
مسندها، وكان عارفاً بالقراآت، وأخذ الفقه عن جماعة ولم ينجب، وله نظم،
وكان يباشر شهادة الحرم المكي، ولم يكن يشكر في شهادته مع التأله
والتعبد، وخرج له ابن فهد معجماً، انتزع أكثره من معجم ابن ظهيرة تخريج
الأقفهسي؛ ومات في يوم السبت 24 شوال.
علي بن محمود بن أبي بكر، القاضي علاء الدين، السلماني ثم الحموي،
المعروف بابن المغلي، الحنبلي، ولد سنة 771، وتفقه ببلده ثم بدمشق،
فاخذ عن جماعة منهم زين الدين ابن رجب، وكان يتوقد ذكاء فحفظ جملة من
المختصرات في العلوم، كالمحرر في الحديث لابن عبد الهادي، والفروع في
المذهب لابن الحاجب، والتلخيص للقزويني، والتسهيل لابن مالك؛ وكان يحفظ
كثيراً من الشروح والقصائد الطوال، وينظم الشعر الوسط، ويكرر على
محفوظاته المختصرة، ويستحضر شيئاً كثيراً من الفنون؛ وما أظن أنه كان
في عصره من يدانيه في ذلك وإن كان فيهم من هو أصح ذهنا منه، ولي قضاء
حماة بعد التسعين، ثم ولي قضاء حلب في سنة أربع وثمانمائة، ثم ولي قضاء
الديار المصرية من سنة سبع عشرة إلى أن مات مضافاً إلى قضاء حماة فكان
يستنيب فيها، وكان ذلك بعناية كاتب السر ابن البارزي، ومع طول ملازمته
للاشتغال ومناظرته للأقران والتقدم في العلوم لم يشتغل بالتصنيف، وكنت
أحرضه على ذلك لما فيه من بقاء الذكر فلم يوفق لذلك، وكان شديد البأو
والإعجاب حتى وصفه بعضهم بأنه
(3/357)
يحيط علماً بالمذاهب الأربعة - مع احتمال
ما يقع ممن يناظره من الجفاء، ويكظم غيظه ولا يشفي صدره، ويكرم الطلبة
ويرفدهم بماله وكان واسع الحال جداً، لأنه كان في الأصل تاجراً لم يزل
يتكسب، وكان كثير ... وكان ممن أعان علم الدين صالح البلقيني على ولاية
القضاء وصرف ولي الدين العراقي. لأن العلم كان يتلمذ له والعراقي كان
يتمشيخ عليه فأحب أن يكون رفيقه من يعترف له دون من يتعاظم عليه فأعان
على ذلك بقلبه وقالبه فانعكس الأمر، وندم بعد أن تورط وصار يبالغ في
الذم من العلم، ووقفت على خطه نفساً كتبها في حقه بالغ فيها في الحط
عليه، ثم عوقب بأن أصيب بولده قبل إكمال الحول من عزل العراقي ثم أصيب
بنفسه، وكذا صنع الله بأن الكويز فإنه كان الأصل الكبير في هذه الكائنة
فلم ينتفع بنفسه بعدها إلا قليلاً واستمر موعوكاً ستة أشهر إلى أن مات
عقب موت العراقي بشهر واحد ويجتمع الكل عند الله تعالى؟ وقد ذكرت في
حوادث سنة سبع وعشرين ما اتفق له من العزم على الحج ثم تركه ذلك ووقوعه
من السلم وتوعكه، فلما أهلت السنة انتكس وثار به القولنج الصفراوي
فيقال إنه دس عليه السم فمات منه بعد أن حصل له الصرع قدر شهر، وذلك
يوم الخميس في العشرين من صفره، واستقر في قضاء الحنابلة بعده محب
الدين أحمد بن الشيخ نصر الله التستري ثم البغدادي، وخلع عليه في
الرابع والعشرين من صفر.
فرحة بنني ماتت في يوم الأربعاء تاسع شهر ربيع الآخر وكانت حجت في
العام الماضي مع زوجها الشيخ محب الدين بن الأشقر ورجعت موعوكة إلى أن
ماتت عن ثلاث وعشرين سنة وتسعة أشهر - عوضها الله الجنة.
(3/358)
فضل الله بن نصر الله بن أحمد، التستري
الأصل ثم البغدادي الحنبلي أخو قاضي الحنابلة محب الدين، كان قد خرج من
بلاده مع أبيه وإخوته وطاف هو البلاد ودخل اليمن ثم الهند ثم الحبشة
وأقام بها دهراً طويلاً، ثم رجع إلى مكة فجاور بها قليلاً وصحب بها
الأمير يشبك الساقي الأعرج وكان المؤيد نفاه إلى مكة فجاور بها صحبته،
ثم لما رجع يشبك إلى القاهرة وتأمر حضر فضل الله إلى القاهرة فأكرمه،
واتفق موت الشيخ شمس الدين الحبتي فشغرت عنه مشيخة الخروبية فقرر فيها
فضل الله المذكور بعناية يشبك المذكور بعد أ، كان تقرر فيها غيره،
فاستمر بها إلى أن مات في شهر ربيع الأول وهو ابن ستين سنة أو جاوزها.
(3/359)
محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد الحريري شمس
الدين البيري أخو جمال الدين الأستادار ولد في حدود الخسمين، وتفقه على
أبي البركات الأنصاري، وسمع من أبي عبد الله بن جابر وأبي جعفر
الغرناطي نزيل البيرة بحلب وقرأ عليهما وتفقه، وولي قضاء البيرى مدة ثم
قضاء حلب سنة ست وثمانمائة، ثم تحول إلى القاهرة في دولة أخيه بعد أن
كان عزله حكم لما غلب على حلب فتوجه إلى مكة فجاور بها، ثم قدم أبي
القاهرة فعظم قدره وعين للقضاء، ثم ولي مشيخه البيبرسية بعد الشريف
النسابة، ثم درس بالمدرسة المجاورة للشافعي بعد جلال الدين ابن أبي
البقاء، ثم انتزعتا منه بعد كائنة أخيه، ثم أعيدت إليه البيبرسية في
سنة ست عشرة وصرف عنها بكاتبه في سنة 18، ثم قرر في مشيخة سعيد السعداء
بعد موت البلالي سنة عشرين، وكان قد ولى خطابة ببيت المقدس؛ ومات في
سحر يوم الجمعة 24 ذي الحجة، واستقر بعده في مشيخة الصلاحية شهاب الدين
أحمد بن المحمرة الذي كان بها مخبزياً قبل ذلك، ثم ارتقى منها إلى
ولاية القضاء بدمشق، ثم عاد إلى المشيخة بالقاهرة، ثم نقل منهاإلى
مشيخة الصلاحية ببيت المقدس.
(3/360)
محمد بن أحمد بن محمد بن عبد العزيز اللخمي
النستراوي شمس الدين ابن أخي القاضي كريم الدين ناظر الجيش، ولد سنة
سبعين تقريبا، وباشر الديوان مدة إلى أن ولي عمه نظر الجيش فباشر
قليلاً، ثم ترك ذلك وزهد ولبس الثوف، وسمع معنا على كثير من مشايخنا،
وكان يحب أهل الخير وينفر غاية النفرة ممن يتزوكر، وأقام على قدم
التصوف سبعاً وثلاثين سنة مع صحة العقيدة وجودة المعرفة والصبر على قلة
ذات اليد ومات ليلة الجمعة 12 شعبان.
محمد بن القاضي شهاب الدين أحمد، الدفري المالكي شمس الدين، ولد سنة
بضع وستين، وتفقه على مذهب مالك، وأحب الحديث فسمعه وطاف على الشيوخ
وسمع معنا كثيراً من الممايخ، وكان حسن المذاكرة جيد الاستحضار، درس
بالناصرية الحسينية وغيرها، وكان قليل الحظ؛ مات في العشرين من جمادى
الأولى.
محمد بن إسماعيل بن محمد بن محمد بن هانئ اللخمي المالكي، القاضي ناصر
الدين ابن القاضي سري الدين أبي الوليد قاضي حلب ثم طرابلس، ولد سنة
نيف وأربعين واشتغل قليلاً وناب عن أبيه فعابوا على أبيه ذلك، ثم ولي
قضاء حماة ثم حلب في سنة ست وسبعين، ثم ولي حماة وطرابلس وغيرها
مراراً، ثم ولاه نوروز قضاء دمشق سنة ست عشرة فساءت سيرته جداً، ثم
صرفه المؤيد إلى قضاء طرابلس سنة سبع عشرة فاستمر فيها عدة سنين؛ كتب
عنه القاضي علاء الدين وذكره في تاريخ حلب فقال كتبت عنه بطرابلس لما
وليت قضاءها وكان هو قاضي المالكية بها وكان ظريفاً كريماً مسناً
جواداً حسن الاخلاق، مات في أوائل سنة 828 بطرابلس.
محمد بن أبي بكر بن عمر، المخزومي المالكي المعروف بابن الدماميني بدر
الدين الإسكندراني، ولد سنة ثلاث وستين وسبعمائة، وتفقه بالإسكندرية
وتعاني الآداب ففاق في النظم والنثر والخط ومعرفة الشروط. واستنابه ابن
التنسي في الحكم ودرس بعدة مدارس، ثم قدم معه القاهرة وناب في الحكم
أيضاً وتقدم ومهر واشتهر ذكره، ثم تحول إلى الإسكندرية واستمر بها ينوب
في الحكم ويشغل في العلم ويتكسب من التجارة، ثم حصلت له محنة فقدم
القاهرة وعين للقضاء، وقام معه في ذلك ابن البارزي فلم يقدر فتوجه إلى
الحج ثم دخل اليمن فلم يحصل له إقبال، فدخل الهند فحصل له إقبال كبير
وأقبلوا عليه وأخذوا عنه
(3/361)
وعظموه، وحصل له مال له صورة فاتفق أن بغتة
الأجل فمات هناك في شعبان في هذه السنة عن نحو سبعين سنة، ومن نظمه:
قلت له والدجى مول ... ونحن بالأنس في التلاقي
قد عطس الصبح يا حبيبي ... فلا تشتمه بالفراقي
محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن المحب عبد الله بن أحمد بن محمد،
المقدسي الصالحي شمس الدين، ولد في شوال سنة 755، وأحضره أبوه عند ...
وأسمعه على ابن قيم الضيائية، وأحمد بن الجوخي وعمر ابن أميلة وست
العرب في آخرين، وحدث، وشرع في شرح البخاري وتركه بعده مسودة، وله نظم
ضعيف، وكان يقرأ الصحيحين على العامة، وأجاز لأولادي غير مرة؛ ومات
بطيبة المكرمة في هذه السنة، وكان يذكر عن نفسه أنه رأى مناماً من نحو
عشرين سنة يدل على أنه يموت بالمدينة، وسمعوه منه قبل أن يخرج إلى هذه
السفرة للحج، فاتفقت وفاته بالمدينة في رمضان من هذه السنة، وهو بقية
البيت من آل المحب بالصالحية.
محمد الحموي النحوي المعروف بابن العيار شمس الدين، كان في أول أمره
حائكاً ثم تعاني الاشتغال فمهر في العربية، وأخذ عن ابن جابر وغيره، ثم
سكن دمشق، ورتب له على الجامع تصدير بعناية البارزي، وكان حسن المحاضرة
ولم يكن محموداً
(3/362)
في تعاطي الشهادات؛ مات في ذي القعدة.
(3/363)
سنة تسع وعشرين
وثمانمائة
في حادي عشر المحرم صرف بدر الدين العينتابي من الحسبة واستقر فيها
اينال الششماني وكان أمير عشرة، وسعر القمح يومئذ مائتان وخمسون،
والشعير والفول جميعاً كل إردب بثلاثمائة أزيد من سعر القمح، وعز اللحم
حتى بيع البقرى بتسعة كل رطل، وبيع المطبوخ من الضأنى بعشرين، وكان سعر
الذهب البندقي كل مشخص بمائتين وخمس وعشرين، ثم كثر اللحم بعد ولاية
الششماني، ثم تزايد القمح إلى أربعمائة إلى أن دخل جمادى الأولى فانحل
السعر إلى ثلاثمائة ومائتين في ...
وفي المحرم قدم حسن بن عجلان من مكة بوساطة ناظر الجيش، وقام معه إلى
أن أعيد إلى إمرة مكة، وأمر بإعادة الجيش الذين أقيموا بمكة لحفظها من
حسن، وصرف على بن عنان عن إمرة مكة، وبذل حسن مالاً كثيراً اقترضه من
التجار بالقاهرة، وكتب تقليده وأرسله إلى مكة، وأقام هو لإحضار بقية ما
وعد به.
وفي مستهل صفر أمر السلطان القضاة أن يلزموا العوام بالصلاة، فاجتمعوا
في ثانيه بالصالحية ومعهم المحتسب ونائب الوالي، وكتبوا ورقة لتقرأ على
الناس، وتولى قراءتها بعض نواب الحكم من باب النصر إلى جامع طولون في
الشارع الأعظم.
وفي خامس عشر صفر عقد مجلس بالقضاة وبياض الناس من التجار، وشاور
السلطان القضاة في إبطال المعاملة بالدنانير البندقية المشخصة،
فاستحسنوا ذلك، وضربت الأفلورية أشرفية، ونودي بمنع المعاملة
بالبندقية، فظن الناس أن المعاملة بالدراهم البندقية تبطل فنودي
بإبقائها.
(3/364)
وفي يوم الخميس السابع من ربيع الأول عمل
المولد النبوي وابتدأوا به من بعد الخدمة، ومد السماط بعد صلاة العصر
وفرغ بين العشاءين، وكانت العادة أن يبدأ بعد الظهر ويمد السماط المغرب
ويفرغ عند ثلث الليل.
وفي السادس والعشرين من شهر ربيع الآخر صرف القاضي زين الدين التفهني
عن قضاء الحنفية وقرر في مشيخة الشيخونية عوضاً عن الشيخ سراج الدين
قارئ الهداية بحكم وفاته، وكان السراج لما مات سعى جماعة في المشيخة
فأمر السلطان بجمعهم فاجتمعوا، وتعصب جماعة من أهل الشيخونية للتفهني
فقرره السلطان فيها، ففرح بذلك ظناً منه أنه يضمها إليه مع القضاء،
فلما لبس الخلعة بها أحضر العينتابي فألبس الخلعة بولاية القضاء، فسقط
في يدي التفهني وندم حيث لا ينفعه الندم ونزل الشيخونية كئيباً، ورجع
أكثر الناس مع العينتابي إلى الصالحية ثم إلى منزله.
وفي رابع عشري ربيع الآخر صرف الشيخ علاء الدين الرومي عن مشيخة
الأشرفية، وقرر عوضه الشيخ كمال الدين ابن الهمام، ولم يكن له في ذلك
سعي، وإنما كان تقرر درسه بقبة الصالح فطلب إلى القلعة وألبس الخلعة،
وكان سبب عزل علاء الدين أن شخصاً من الصوفية مات وخلف مالاً جزيلاً
فاحتاط عليه نقل عنه أمور فاحشة، فغضب السلطان وأمر بإخراجه وعزل منها
وتقرير كمال الدين.
وفي ربيع الآخر كتبت الجارة الجودرية في التفتيش على جاني بك الصوفي،
ولسبب فيه أن كتاب نائب الشام ورد وفيه أنه مختفي عند شخص جندي فلم
يوجد، فأمر أهلها بإخلائها وحرقها، فرحلوا وتتبعت آثار جاني بك فلم
يوقف له على أثر.
وفي الثالث عشر من جمادى الآخرة صرف القاضي محب الدين أحمد بن نصر الله
عن قضاء الحنابلة، واستقر عز الدين عبد العزيز ابن علي بن أبي العز
المقدسي الذي كان ولي قضاء الشام ودرس بالمؤيدية، وكان قبل ذلك قديماً
ولي قضاء بيت المقدس، ثم فر
(3/365)
من الشام لكائنة وقعت له مع الباعوني فوصل
إلى بغداد وولي القضاء بها؛ وكان ربما افتخر فقال: وليت قضاء الشام
والعراق ومصر ولم يقع ذلك لأحد من أقراني.
وفي أول يوم من رجب أدير المحمل، ولم تجر العادة بذلك بل كان يدار في
النصف أو قبله أو بعده بقليل.
ذكر غزوة قبرس الكبرى
بلغ الأشرف أن جابوش - ويقال: جينوس - بن جاكم بن بيدو بن أنطون بن
جينوس صاحب قبرس وكان قد ملكها من سنة ثمانمائة فراسل ملوك الفرنج
يستنفزهم على المصريين ويشكو ما جرى على بلاده، فأرسل كل منهم له نجدة،
وأرسل ملك الكتيلان ابن أخيه بمركب وفرسان، وجد جابوش في عمارة المراكب
والقراقر وعزم على قصد الإسكندرية تأسياً بوالده، فإنه هو الذي كان
طرقها في آخر سنة ست وستين ودخلها عنوة في آخر المحرم أوائل صفر سنة
سبع وانتهبها - وأسر منها خلائق والقصة مشهورة؛ فأمر السلطان لما بلغه
ذلك بعمارة الأغربة والحمالات، وجد في ذلك وبذل الأموال، فلما تكاملت
العمارة انحدرت إلى قوة ويقال إنه بلغت عدة العمارة أغربة وحمالات
وزوارق - مائى قطعة وزيادة؛ وندب السلطان ينال الجكمي وتغري بردى
المحمودي وغيرهما من الأمراء الكبار والصغار للغزاة وأن يكون ينال على
من في البحر والآخر على من في البر وأن لا يعارض أحدهما الآخر، وكان
معهم من الأمراء مراد خجا الشعباني - وإياس ويشبك الشاد واينال الأجرود
وسودون اللكاشي وجانم المحمدي وغيرهم؛ وتلاقت المراكب من الإسكندرية مع
المراكب المصرية بثغر رشيد في رجب، فاتفق أن الريح هاجب في بعض
الليالي، فانكسرت أربع حمالات ومات فيها مائة فرس، وتسعة أنفس، وبلغ
السلطان ذلك فتطير جماعة من الأمراء وثبت هو ولم يتطير، وقال له كاتب
السر وهو يومئذ بدر الدين بن هرمز:
(3/366)
يا مولانا السلطان! إن من كان أوله كسر
يكون في آخره جبر؛ ولما بلغ قراقر الإسكندرية ما جرى على الحمالات رجع
أميرهم فأقام بعا تحت العساكر، فلما كان مستهل شعبان هجم عليهم غراب
وقرقوران مملوءة من المقاتلة جهزهم صاحب قبرس ليأخذوا من يجدونه بساحل
الإسكندرية لعلمه بمسير القراقز الخمس إلى جهته بإعلام من بالبلد من
الفرنج له، فدخلوا وهم يظنون أن الخمس قراقب في رشيد، فواجهوهم
فأرشقوهم رمياً بالنشاب إلى أن هزموهم فاتفق أنهم خرجوا مقلعين فوافتهم
أغربة أرسلها إليهم من برشيد من الجند، فلم يزل الجند مجتمعين والمراكب
توافيهم من كل جهة إلى الرابع والعشرين من شعبان، فساروا مقلعين حتى
وصلوا إلى اللمسون فوجدوا الحصن الذي كانوا أحرقوه قد عمر وشحن
بالمقاتلة فأحاطوا به في السابع والعشرين، وصعد يشبك قرقش وهو من
الفرسان المعدودين وقد ولي إمرة الموكب الأول في الحج بعد ذلك في سنة
44، فصعد هو ومن معه على سلم من خشب وتبعهم خلق كثير، فهرب الفرنج
الذين في الحصن بعد أن كانوا أوقدوا قدور الزفت تغلي ناراً ليصبوها على
من يصعد إليهم من المسلمين، فهزمهم الله تعالى وملكوا البرج الأول؛
وأحاط بعض المسلمين بالأسكتية وهي قرية من قبرس خارجة عن حكم جابوش
نظير الماغوصة وهي مع البنادقه، فطلبوا من المسلين الأمان فأمنوهم،
فحملوا إليهم الهدايا والضيافات، فسألوهم عن جابوش فقالوا إنه مستعد في
خمسة آلاف فارس وسبعة آلاف راجل، فراسلوه بأن يدخل تحت الطاعة ليؤمنوه
على نفسه وجنده وبلده وإلا مشوا عليه وخربوا قصره وأسروه وقتلوه، فلما
بلغته الرسالة أخذته حمية الجاهلية فقتل الرسول وأحرقه، فبلغ المسلمين
الخبر في مستهل رمضان فانقسموا قسمين النصف مع المحمودي في البر والنصف
مع الجكمي في البحر، فلم يزل أهل البر سائرين حتى وصلوا موضع الكنيسة
فوجدوها خراباً والبئر الذي بها قد هدم، فحفروا حوله فظهر الماء فشربوا
بعد أن كانوا عطشوا. ثم ساروا في جبال وتلال وهم صوام والحر شديد
فنزلوا للقائلة في ظلال الشجر وإذا بصارخ صرخ: جاءكم العدو! فثاروا
وركبوا وحصلت رجفة عظيمة، وكان جابوش لما قتل الرسول ركب في عساكره بعد
عرضهم، وجهز قراقرة في البحر للإحاطة بمن في البحر من المسلمين،
(3/367)
فلما تراءى الجمعان انحاز إلى بساتين هناك،
وجعل بينه وبين المسلمين نهراً، وتقدم نحو الخمسمائة من المقاتلة فبرز
لهم من المسلمين خمسة تغري بردى وقطلوبغا المؤيدي المصارع وعلان
فبادروا الأبراج فلحق بهم ابن القاق مقدم العشير بالشام ومعه نحو
الثلاثين فتنادوا: يا وجوه العرب ويال جركس! إن أبواب الجنان فتحت، إن
متم كنتم شهداء، وإن عشتم عشتم سعداء بيضوا وجوهكم وأخلصوا الله العمل؛
فحملوا حملة واحدة، فنصرهم الله تعالى؛ وقاتل يومئذ قطلوبغا قتالاً
عظيماً فعثر جواده فقام عنه وقاتل راجلاً إلى أن قتل، فلما رأى جابوش
أمر
عسكره في إدبار وقد استظهر عليهم أهل الإسلام ركن إلى الهرب ثم إن
عسكره خالفوه وحملوا، فصبر لهم المسلمون واشتد الأمر، فاتفق أن جابوش
وقع عن فرسه فنزل أصحابه فأركبوه، فوقع ثانياً فنزلوا وأركبوه، فكبا به
الفرس ثالثاً فدهشوا وذهلوا عنه، وانكسر عسكره وولوا الأدبار، فرآه بعض
الترك فأرشقوهم نبلاً، فلم يزالوا كذلك إلى أن غربت الشمس، وقيل إن
جملة من قتل منهم في ذلك اليوم ستة آلاف؛ ثم رجع المسلمون فنزلوا على
الماء وباتوا على أهبة، فلما أصبحوا توجه يشبك الشاد ومن معه إلى جبل
الصليب فخربه وما حوله من الديارات، وأحضروا الصليب الذي كان به وكانوا
يعظمونه حتى سموه صليب الصلبان، ثم سار المحمودي بالعسكر إلى جهة
الملاحة، وتوجه بعض العسكر إلى من بالمراكب، فأعلموهم بما وقع من
المسلمين، أن صاحب قبرس مقيد، وأن أخاه قتل، وأن ابن أخي صاحب الكتيلان
الذي جاء نجدة له مقيد، ثم وصل العسكر وكان ثاني شهر رمضان. ره في
إدبار وقد استظهر عليهم أهل الإسلام ركن إلى الهرب ثم إن عسكره خالفوه
وحملوا، فصبر لهم المسلمون واشتد الأمر، فاتفق أن جابوش وقع عن فرسه
فنزل أصحابه فأركبوه، فوقع ثانياً فنزلوا وأركبوه، فكبا به الفرس
ثالثاً فدهشوا وذهلوا عنه، وانكسر عسكره وولوا الأدبار، فرآه بعض الترك
فأرشقوهم نبلاً، فلم يزالوا كذلك إلى أن غربت الشمس، وقيل إن جملة من
قتل منهم في ذلك اليوم ستة آلاف؛ ثم رجع المسلمون فنزلوا على الماء
وباتوا على أهبة، فلما أصبحوا توجه يشبك الشاد ومن معه إلى جبل الصليب
فخربه وما حوله من الديارات، وأحضروا الصليب الذي كان به وكانوا
يعظمونه حتى سموه صليب الصلبان، ثم سار المحمودي بالعسكر إلى جهة
الملاحة، وتوجه بعض العسكر إلى من بالمراكب، فأعلموهم بما وقع من
المسلمين، أن صاحب قبرس مقيد، وأن أخاه قتل، وأن ابن أخي صاحب الكتيلان
الذي جاء نجدة له مقيد، ثم وصل العسكر وكان ثاني شهر رمضان.
فلما كان يوم الخميس خامسه ساروا إلى الأفقيسة - وهي كرسي المملكة،
فلما رأى الفرنج الذين في القراقر خلف البحر من الجند حطموا على اكب
المسلين، فأمر الجكمي من بقي معه بمدافعتهم وأرسل إلى المحمودي يعلمه
فأعاد عليه أكثر العسكر وتأخر معه طائفة، فلما رجعوا وجدوهم في وسط
القتال فأعلنوا بالتكبير، فأجابهم من في البحر وبادروا إلى طلوع
المراكب ومشوا على مراكب الفرنج، فاشتد القتال إلى أن دخل الليل فحجز
بينهم، فلما طلع الفجر أبعدت مراكب الفرنج عن المسلمين، فلما هبوا تفطن
(3/368)
الجكمي فلم يجد الريح تساعدهم، فتبعهم إياس
الجلالي فقطع مركباً ووقع القتال بينهم، وكان بالمركب ثلاثمائة مقاتل
غير الأتباع، فرمى عليهم بالسهام الحطابية حتى ما بقي أحد منهم يجسر
يخرج رأسه فطلع المسلمون وملكوها وقتلوا أكثر من بها.
واستمرت بقية المراكب هاربة في البحر حتى غابوا عن الأعين، وكفى الله
المؤمنين القتال بهزيمة من في البحر من الفرنج! وكان سبب ثيابهم في
القتال أنهم لم يعلموا ما اتفق لملكهم من الأسر ولعسكره من الهزيمة،
واستمر المحمودي حتى أخذ المدينة هو ومن معه وذلك في يوم الجمعة خامس
شهر رمضان، فخشى من مع المحمودي على أنفسهم لقلتهم فشجعهم المحمودي، ثم
دخل القصر فوجد به من الأمتعة ما لا يحصى، فأقاموا بها صلاة الجمعة
وأذنوا على صوامع الكنائس، ثم خرجوا يوم السبت ومعهم الغنائم الكثيرة
والأسرى، فلما وصلوا إلى المراكب اجتمعوا وأحصوا عدد الأسرى فكان ثلاثة
آلاف وسبعمائة نفس.
واختلف رأيهم في الإقامة والمطالعة بما وقع من الفتح وانتظار وصول
الرسول بالجواب أو التوجه بالأسرى والغنائم والعود إذا أراد السلطان
مرة أخرى لاستئصال بقية الفرنج والاستيلاء على بقية الغنائم، فغلب
الرأي الثاني، وصحبتهم الغنائم والأسرى ومن جملتهم عظيمهم وهو مقيد،
فلما وصلوا إلى ساحل بولاق أركب صاحب قبرس وولده وابن أخي صاحب
الكتيلان على بغال عرج وأعلامه منكسة أمامه وحملتالغنائم والأسرى على
الجمال والبغال وشقوا المدينة، وكان ذلك يوم الاثنين ثامن شوال، ومعه
الأمراء والجند، ولم يبق بمصر والقاهرة وضواحيها كبير أحد إلا حضر
الفرجة حتى سدوا الأفق، وكان أول الحمالين باب المدرج وآخرهم بولاق،
فلما وصلوا به إلى القلعة كشف رأسه وكب على وجهه حتى قبل الأرض عند
الباب، ثم أحضر بين يدي السلطان فقبل الأرض مراراً وسقط مغشياً عليه،
فلما أفاق ردوه إلى مكان أعد له وكانت صورة دخولهم أنهم ترتبوا من
الميدان الكبير ثم أدخلوهم من باب القنطرة فشقوا القاهرة، واجتمع أهل
البلد حتى لم يتخلف كبير أحد، فكان أمراً مهولاً من كثرة الخلق، وجاز
الأمراء ثم الأسرى ثم الغنائم، ونصبوا تاج الملك وأعلامه منكسة وهو
راكب
(3/369)
على بغلة مقيد، فلما وصل إلى المدرج باس
الأرض ومشى في قيده إلى أن وقف قدام السلطان بالمقعد، وحضر ذلك أمير
مكة ورسل ابن عثمان ورسل ملك تونس ورسل أمير التركمان ورسل ابن نعير
وكثير من قصاد أمراء الشام، فكان اتفاق حضورهم من المستغرب، فلما رأى
السلطان عفر وجهه في التراب بعد أن كشفه، وخلع السلطان على الأمراء، ثم
قرر عليه مائتا ألف دينار، يحمل منها هو بمصر النصف ويرسل النصف إذا
رجع، وألزم بحمل عشرين ألف دينار كل سنة، ثم أفرج عنه بعدان حمل ما قرر
عليه معجلاً، وتوجه فأرسل شيئاً بعد شيء إلى أن أكمل ما أرسله خمسة
وسبعين ألف دينار؛ وقدرت وفاته عقب ذلك، ويقال إنه كان فهماً عاقلاً
ينظم الشعر بلسانه ويعربه بالترجمان بالتركي فأملأ على بعض من معه هذه
الأبيات:
يا مالكاً ملك الورى بجسامه ... انظر إلي برحمة وتعطف
وارحم عزيزاً ذل وامنن بالذي ... اعطاك هذا الملك والنصر الوفي
إن لم تؤمني وترحم غربتي ... فبمن ألوذ ومن سواكم لي يفي
فلما قرئت على السلطان وعرف معناها رق له وقال: عفوت عنه، وتقرر الحال
معه بعد ذلك أن يكون نائباً عن السلطان في قبرس وما معها وأن يقرر عليه
لبيت المال في كل سنة ألفي ثوب صوف ملونة قيمتها قريب من عشرين ألف
دينار وأن يعجل بسبعين ألف دينار خارجاً عن الذي يحتاج إليه للحاشية
فألبس تشريفاً ومركوباً وعذبة، وتوجه المسفر صحبته إلى الإسكندرية،
فطلب جميع التجار من الفرنج المقيمين بها فأقرضوه المبلغ جميعه، فعجل
به قبل أن يصل إلى بلاده، وكان أمير الإسكندرية يومئذ آقبغا التمرازي
فأمر بعرض جميع من بها من الجند فكانت عدتهم ألفين وخمسمائة ملبس،
واجتمع من الرعية ما لا تحصى عدتهم فاصطفوا له سماطين على طريقه، فلما
رأى كثرتهم قال: الله إن كل من في بلاد الفرنج ما يقاوم أهل
(3/370)
الإسكندرية وحدهم! وقد تقدم أن أباه رمى
بطرس هو الذي كان هجم على الإسكندرية في سلطنة الأشرف شعبان بن حسين
فقدر الله تعالى أن ولده جابوش يدخلها في صورة الأسير في سلطنة الأشرف
برسباي - ولله الحمد على جزيل هذه النعمة! وكان رتب له رواتب تقوم
بكفايته وكفاية من يخدمه، وكان من أمره ما سأذكره إن شاء الله تعالى في
السنة الآتية، وفرح المؤمنون بنصر الله تعالى وكان ذلك على غير القياس،
فإن الجند الذين توجهوا إلى قبرس لم يكن لهم عادة بركوب البحر ولا
بالقتال فيه فمن الله على المسلمين بلطفه ونصرهم، ولو كانت الأخرى لطمع
الفرنج في بلاد المسلمين خصوصاً السواحل، وطار خبر هذه الغزاة إلى
الآفاق وعظم بها قدر سلطان مصر ولله الحمد! وأنشد الأديب زين الدين عبد
الرحمن بن محمد ابن الخراط موقع الدست بالقلعة قصيدة فائية أولها:
بشراك يا ملك الملوك الأشرف ... بفتح قبرس بالحسام المشرف
فتح لشهر الصوم تم قتاله ... من أشرف في أشرف في أشرف
أحيا الجهاد وكان قبل على شفا ... من تركه فشفيته حتى شفي
قالت دمى تلك الديار وقد عفا ... إنجيلهم أهلاً بأهل المصحف
وفي طويلة يقول في آخرها:
لم تخلف مثلك فاتكاً ... ملكاً ومثلي شاعراً لم تخلف
فيك التقى والعدل والإحسان في ... كل الرعية والوفا والفضل في
وبيع السبي والغنائم وحمل الثمن إلى الخزانة السلطانية وفرق في الذين
جاهدوا
(3/371)
منه بعضه بعد أن كان السلطان هم أن يقسم
الغنيمة بالفريضة الشرعية ثم انثنى عزمه عن ذلك.
وفي ثالث شعبان ابتدئ بقراءة الحديث بالقلعة وبدأ القارئ يقرأ في صحيح
مسلم، وأمر السلطان بإحضار القضاة المنفصلين فجلسوا عن يسار السلطان،
وجلس كاتبه عن يمينه وبجانبه العينتابي ثم المالكي ثم عبد العزيز
الحنبلي، وجلس المشايخ يمنة ويسرة وهم يزيدون على العشرة، ووقعت فوائد
ومباحث فظهرت مقادير انحطاطاً وارتفاعاً، فلما كان يوم الختم خلع على
القضاة التشاريف على العادة لكنهم كانوا سبعة، وخلع على المشايخ بسعي
العيني فراجى صوف بسنجاب وفرجية وهو بسمور وهي أول سنة خلع فيها على
المشايخ وكانوا نحو عشرة.
وفي النصف من ذي القعدة وصل نجم الدين ابن حجي الذي كان كاتب السر وبقي
في السنة الماضية فلم يزل يسعى ويكاتب يبذل المال إلى أن أجيب وأذن له
بالمجيء إلى القاهرة بعناية من كان السبب في صرفه وهو جانبك الدويدار،
فلما استقر بالقاهرة سعى في قضاء الديار المصرية، فأجيب سؤاله واستدعى
بديوان خطب فحفظ منه خطبة عيد النحر ظناً منه أنه ربما أفضت إليه
الولاية عاجلاً فاحتاج إلى أن يخطب يوم العيد، وأمر بخياطة ملابس
القضاة من فوقانية ونسج عذبة وغير ذلك، ففي غضون ذلك وصل الشريف شهاب
الدين نقيب الأشراف الحسيني الذي كان ولى القضاء عوضا عنه لما أسفر في
كتابة السر ومعه من الهدايا والتحف ما لا يوصف كثرة وذلك في أواخر ذي
الحجة، فأهدى للسلطان وبقية الكبار هدايا خليلة حتى لم يدع من شاء الله
من الرؤساء حتى أهدى له فقلب الله القلوب، وقرر ابن حجى في قضاء الشام
وأمر بأن يرجع الشريف بطالا، فتوجها إلى الشام في السنة المقبلة.
(3/372)
وفيها في ذي القعدة بلغ عجلان بن ثابت بن
هبة الحسني أمير المدينة أن السلطان عزله وولى ابن عمه خشرم بن جماز بن
هبة فقبض على الخدام والقضاة ونهب المدينة، فلما وصل خشرم مع أمير
الحاج الشامي وجد عجلان أخلى المدينة فأقام خشرم وتوجه الركب الشامي
إلى مكة، فعاد عجلان فأمسك خشرم وخرب بيوتاً كثيرة وأحرق بيوتاً وسلم
منه بيوت الرافضة، وكان قد أقام من الرافضة قاضياً اسمه الصيقل وكان
يرسل إليه غالب الأحكام.
وجلى أهل المدينة إلا الرافضة وإلا القاضي الشافعي فإنه كان استنزل
شخصاً من أقارب خشرم يقال له مانع فأجاره. وفيها استقر مقبل الرومي في
نيابة صفد عوضاً عن اينال الخازندار بحكم مخامرته هو وأخوه وكان يومئذ
نائب القلعة فاتفقا فتحيل مقبل عليهما حتى قبض عليهما فقتلا.
وفيها خرجت العساكر إلى هابيل بن قرايلك بمدينة الرها فغلبوا عليها
وانتهبوها، واسروا هابيل وأحضروه إلى القاهرة فسجن بالقلعة حتى مات في
الطاعون، الكائن في سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة.
وفيها جهز السلطان برسبغا إلى ينبع وقرقماس الشعباني إلى مكة، فغلب
برسبغا على صاحب ينبع وجهزه في الحديد إلى السلطان، وأقام قرقماس بمكة
فمهد البلاد وقطع أثر المفسدين.
ذكر من مات
في سنة تسع وعشرين وثمانمائة من الأعيان
أحمد بن محمد بن مكنون، شهاب الدين المنافي القطوي، ولد بها سنة تسع
وسبعين وأبوه إذ ذاك الحاكم بها، ونشأ نشأة حسنة وحفظ الحاوي، واشتغل
في
(3/373)
الفرائض، ولازم الشيخ شمس الدين الغراقي في
ذلك، وكان يستحضر الحاوي وكثيراً من شرحه، واشتغل في الفقه قليلاً، ثم
ولي قضاء قطية بعد أبيه، ثم ولي قضاء غزة بعناية القاضي ناصر الدين ابن
البارزي في أول الدولة المؤيدية، ثم استقر في قضاء في دمياط مع بقاء
قطية معه فاستناب فيها قريبه زين الدين عبد الرحمن واستمر في دمياط في
غاية الإعزاز والإكرام، فلما انفصلت الدولة المؤيدية تسلط عليه أناس
بالشكاوى والتظلم، وكان كثير الاحتمال حسن الأخلاق، وصاهر عندي على
ابنتي رابعة ودخل بها بكرا ابنة خمس عشرة سنة فولدت منه بنتاً ثم مات
عنها، فتزوجها الشيخ محب الدين ابن الأقر فماتت عنده - عوضها الله
الجنةَ! ومات ابن مكنون في شهر رمضان وكثر الأسف عليه.
اينال النوروزي أمير سلاح مات في أول ربيع الآخر بالقاهرة. أبو بكر بن
محمد بن عبد الله الشيخ تقي الدين الحصني ثم الدمشقي الفقيه الشافعي،
ولد سنة 752، وتفقه بالشريشي والزهري وابن الجابي والصرخدي والغزي وابن
غنوم، وأخذ عن الصدر الياسوفي ثم انحرف عن طريقته، وحط على ابن تيمية
وبالغ في ذلك، وتلقى ذلك عنه الطلبة بدمشق، وثارت بسبب ذلك فتن كثيرة،
وكان يميل إلى التقشف، ويبالغ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
وللناس فيه اعتقاد زائد، ولخص المهمات في مجلد، وكتب على التنبيه،
(3/374)
وكانت وفاته في 141 جمادى الآخرة، قال
القاضي تقي الدين الأسدي: كان خفيف الروح منبسطاً، له نوادر، ويخرج إلى
التنزه ويحث الطلبة على ذلك، مع الدين المتين والتحري في أقواله
وأفعاله، وتزوج عدة نساء ثم انقطع وتقشف وانجمع، وكل ذلك قبل القرن، ثم
ازداد بعد الفتنة تقشفه وانجماعه وكثرت مع ذلك أتباعه حتى امتنع من
مكالمة الناس، ويطلق لسانه في القضاة وأصحاب الولايات، وله في الزهد
والتقلل من الدنيا حكايات تضاهي ما نقل عن الأقدمين، وكان يتعصب
للأشاعرة، وأصيب في سمعه وبصره فضعف، وشرع في عمارة رباط داخل الباب
الصغير فساعده الناس بأموالهم وأنفسهم، ثم شرع في عمارة خان للسبيل
ففرغ في مدة قريبة، وكان قد كتب بخطه كثيراً قبل الفتنة، وجمع تواليف
كثيرة في الفقه والزهد.
حسن بن سويد، المصري المالكي القاضي بدر الدين، كان أصله من سوق شنودة
وسلفه من القبط، ويقال إن أباه كان يبيع الفراريج، ذكر لي ذلك بعض ثقات
المصريين عن شيخنا شمس الدين المراغي أنه شاهده، ورزق سويد هذا من
الأولاد جماعة نبغوا وصاروا من أعيان الشهود بمصر منهم شمس الدين
الأكبر وبدر الدين هذا، ولازم الاشتغال في مركز الشافعية بباب العبد
(3/375)
والمتجر الكارمي، ومجلس القاضي فخر الدين
القاياتي، ودروس الشيخ شمس الدين المراغي، ثم حصل مالاً واتجر به إلى
اليمن في سنة ثمانمائة ثم عاود البلاد مراراً واتسعت حاله جداً، وتزوج
بنت الهوريني التي من بنت القاياتي بعد موت زوجها والد الشيخ سيف الدين
الحنفي فاستولى على تركة القاياتي بعد موته وأدخل معه فيها من شاء،
وبنى مدرسة تقابل حمام جندر ومات قبل أن تكمل، وأوصى لها بأربعة آلاف
دينار لتكميلها فصيرها أولاده بعد جامعاً وأبطلوا ما كان صيره هو من
كونها مدرسة، ولم يدرس بها تدريساً، وحصل في ذلك خبط كثير؛ مات في
أوائل صفر.
حسن بن عجلان بن رميثة، الحسني أمير مكة السيد الشريف، وكان قدم صحبة
قرقماس من الحجاز في المحرم، واجتمع بالسلطان، وقرره في إمرة مكة على
عادته وألزم بثلاثين ألف دينار، أحضر منها خمسة آلاف وأقام ليتجهز
فتأخر سفره إلى أن كان في سادس عشر جمادى الآخرة فمات، وكان أول ما ولي
الأمرة بعد قتل أخيه علي بن عجلان في ذي القعدة سنة سبع وتسعين، فكانت
مدة إمرته اثنتين وثلاثين سنة سوى ما تملكها من ولاية غيره، وكان في
هذا الشهر قد تجهز وأخرج أثقاله ظاهر القاهرة، وقدم ولده بركات في
رمضان من مكة فالتزم بما بقي على والده، والتزم كل سنة بأن يحمل عشرة
آلاف دينار، والتزم أن يكون
(3/376)
ما جرت به العادة من مكس جدة يكون له، وما
تجدد من مراكب الهند يكون للسلطان خاصة.
خليفة المغربي الأزهري الشيخ المعتقد، مات في 21 المحرم فجأة في
الحمام، وكان قد انقطع للعبادة بالجامع الأزهر نيفاً وأربعين سنة، ووجد
له شيء كثير.
شمس بن عطاء الله، الهروي القاضي شمس الدين واسمه محمد بن عطاء الله بن
محمد بن محمود بن محمود بن فضل الله بن الرازي الهروي الشافعي، مولده
بهراة سنة 767، كان إماماً بارعاً في فنون من العلوم ويقرئ في المذهبين
الشافعي والحنفي والعربية والمعاني والبيان، ويذاكر بالأدب والتاريخ،
ويستحضر كثيراً من الفنون، وله تصانيف تدل على غزر علمه واتساع نظره
وتبحره في العلوم، وتقدمت أخباره مفصلة في سنة ثماني عشرى، وفي سنة
إحدى وعشرين، وفي سنة سبع وعشرين، وكان قد حج في سنة ثمان وعشرين، ثم
رجع إلى القدس فمات به وهو شيخ الصلاحية في ثامن عشر ذي الحجة، وكان
شيخاً ضخماً طوالاً أبيض اللحية مليح الشكل إلا أن في لسانه مسكة.
علي بن عبد الله بن محمد بن الحسين بن علي بن إسحاق بن سلام ابن عبد
الوهاب
(3/377)
بن الحسن بن سلام الدمشقي علاء الدين أبو
الحسن الشافعي، ولد سنة خمس أو ست وخمسين، وحفظ القرآن والتنبيه
والألفية ومختصر ابن الحاجب، وتفقه على علاء الدين ابن حجي وابن قاضي
شهبة وغيرهما كالشهابين الزهري والحسباني، وارتحل إلى القاهرة فقرأ بها
الأصول على الضياء القرمي والمختصر على الركراكي المكي وكان يطريه حتى
كان يقول: كان يعرفه أكثر من مصنفه، فاشتهر وتميز ومهر، فكان يبحث في
حلقة ابن خطيب يبرود فينتشر البحث بين الطلبة بكثرة تفننه وإشكالاته،
وأصيب في الفتنة الكبرى بما له وفي يده بالحرق، وأسروه فسار معهم إلى
ماردين ثم انفلت منهم، وقرره نجم الدين ابن حجي في الظاهرية البرانية
بعد وفاة أخيه، ونزل له التاج الزهري عن العذراوية بمساعدة ابن حجي،
ودرس بالركنية بعد ابن خطيب عذراء، وكان يحفظ كثيراً من الرافعي
وإشكالات عليه وأسئلة حسنة، ويقرئ في الفقه إقراء حسناً وكذا المختصر،
وله يد في النظم والأدب والنثر، وكان بحثه أقوى من تقريره، وكان
مقتصداً في ملبسه وغيره شريف النفس حسن المحاضرة، وكان ينسب إلى نصرة
مقالة ابن عربي، فإذا حوقق في أمره تبرأ من تلك المقالات ويتحمل لها
تأويلات والله أعلم بغيبه، وكان يطلق لسانه في جماعة من الكبار، واتفق
أنه حج في هذه السنة فلما رد من الحج والزيارة مات في وادي بني سالم في
أواخر ذي الحجة، وحمل إلى المدينة فدفن في البقيع وقد شاخ،
(3/378)
لقيته قديماً بدمشق وسمعت من فوائده، وكان
أخذ الفقه عن الحسباني وابن الزهري والأصول عن الضياء القرمي.
عمر بن علي بن فارس، الشيخ سراج الدين الخياط الطواقي الحنفي المعروف
بقارئ الهداية، وكان في أول أمره خياطاً بالحسينية وتنزل في طلبة
البرقوقية وتمهر في الفقه وغيره، واستقر قارئ الشيخ علاء الدين
السيرامي بها فلقب بقارئ الهداية تمييزاً له عن سراج الدين آخر كان
يقرأ في غيره، وسمع الحديث من ... وتقدم في الفقه إلى أن صار المشار
إليه في مذهب الحنفية، وكثرت تلامذته والأخذ عنه، وولي مشيخة الشيخونية
بأخرة بعد ابن التباني، فلما مات استقر فيها زين الدين التفهني بعد
عزله عن القضاء بالعيني، واستقرت بقية وظائف سراج الدين بيد ولده، وناب
عنه فيها صاحبنا عبد السلام البغدادي، مات في ربيع الآخر بعد أن أنتهت
إليه الرئاسة في مذهبه، وصار المعول على فتياه مع جلالته في أصول الفقه
والعربية والنحو وغيرها، وشارك في فنون كثيرة، وكان مقتصداً في ملبسه
ومركبه، يتعاطى حوائجه من الأسواق بنفسه ولم يؤثر ذلك في جلالته وعظمته
في النفوس ومهابة السلطان ممن دونه له هذا وهو غير ملتفت لأهل الدولة
بالكلية، ولما ولى مشيخة الشيخونية أراد التوجه إليها ماشياً من مسكنه
بالظاهرية، فأرسل إليه الأشرف فرساً وألزمه بركوبها، فلما ركبها أخذ
بيده عصا يسوقها بها حتى وصل إلى الخانقاه، فنزل عنها كما ينزل عن
الحمار برجليه من ناحية واحدة، هذا وهو على ما هو عليه من الوقار
والأبهة التي لم يبلغها أصحاب الشكائم والعمائم.
(3/379)
قجق الظاهري أتابك العساكر بالديار
المصرية، مات في تاسع رمضان.
محمد بن أحمد بن ظهيرة بن أحمد بن عطية بن ظهيرة، المخزومي المكي
الشافعي، ابن عم الشيخ جمال الدين محمد بن عبد الله بن ظهيرة، يلقب
كمال الدين ويكنى أبا الفضل، ولد في شهر ربيع الآخر سنة ست وخمسين،
وسمع من عز الدين ابن جماعة والشيخ خليل المالكي والموفق الحنبلي وابن
عبد المعطي، وناب في الخطابة، وحدث، وأضر بأخرة؛ ومات في صفر.
محمد بن محمد بن أبي القاسم، أبو عبد الله الرخاجي، أحد مشايخ الصوفية
بزبيد، كان قد تقدم عند الأشرف إسماعيل ثم عند ولده الناصر، وكان
يلازمه وينادمه ويحضر معه جميع ما يصنعه من خير وشر من غير تعرض
لإنكار، وكان حسن الوساطة؛ مات في رابع عشر ذي القعدة وله ست وسبعون
سنة.
يوسف بن خالد بن أيوب، القاضي جمال الدين الحسفاوي الشافعي، نشأ
(3/380)
بحلب وقرأ في الفقه على ابن أبي الرضى وقرأ
عليه القراآت، ثم سافر إلى ماردين فأخذ عن زين الدين سربجا وولي قضاء
ملطية مدة، ثم دخل القاهرة ولي قضاء حلب ثم قضاء طرابلس ثم كتابة السر
بصفد، وكان حسن الشكل فائق الخط قوي النظم؛ مات بطرابلس في ثالث عشر
المحرم.
(3/381)
سنة ثلاثين
وثمانمائة
أولها السبت ففي الثامن منه خلع على نجم الدين بن حجي بقضاء الشام عالى
قاعدته وصرف الشريف شهاب الدين فأقام قليلاً، ثم أمر السلطان بسفره إلى
الشام بطالاً، فأول شيء صنعه ابن حجي أنه قرب أبا أسامة الذي كان أثبت
عليه المال الجزيل فيما مضى ظلماً وعدواناً فأحسن إليه، ثم استدعى منه
أن يثبت على الشريف نظير ما أثبت عليه، فأجابه إلى ذلك فبادر وفعل،
وطولع السلطان بذلك فألزم الشريف بما ثبت عليه وعد ذلك من العجائب،
واشتهر أبو أسامة بالأحكام الباطلة، واستعاذ كل مسلم من شره لجرأته على
الأمور الفظيعة، فخشى عاقبة ذلك فتحزل إلى القاهرة فسكنها مدة، ثم أخرج
منها بعد لا بارك الله فيه. وكان صرف الشريف من وظيفة القضاء مما يعد
من الخوارق، فإنه لم يكن بقي أحد من أهل الدولة له مال إلا وتعصب له أن
يستمر، فعاكس السلطان الجميع.
وفي المحرم نودي على أهل الذمة أن يصغروا عمائمهم وأن لا يدخلوا
الحمامات مع المسلمين ومن دخل منهم فليكن في عنقه جلجل أو طوق حديد إلى
أشياء كثيرة اخترعها المحتسب تبعاً لغيره، فضجوا من ذلك ورفعوا أمرهم
إلى السلطان، فأحضر القضاة في ثالث عشر المحرم وسألهم ما يجب عليهم!
فتقر الحال أن لا يدخلوا الحمام إلا بخيط في رقبة ويكون فيه خاتم من
حديد أو رصاص، وأن لا يتعرض لعمائمهم الملونة كبرت أو صغرت، وأن نساءهم
يتميزن من النساء المسلمات بشيء يكون قدر الكف أو أصغر من لون عمائم
رجالهن؛ فصنع ذلك وكتب على أكابرهم والتزموا به.
وفيها صرف خشرم عن إمرة المدينة وأعيد عجلان.
وفي ذي الحجة منع من البيع في داخل المسجد الحرام، ومن نصب الصواوين
داخله، ومن نقل المنبر عند خطبة الجمعة من مكانه بجانب المقام إلى ظهر
الكعبة.
(3/382)
وفي أواخر شعبان تكلمت مع السلطان في أن لا
يطفأ القناديل في رمضان إلا قبيل طلوع الفجر لما يحصل للناس من الإجحاف
ممن ينام ثم يستيقظ عطشان فلا يجد القناديل تقد فيظن أن الأكل والشرب
حرم وليس كذلك، فوافق السلطان على ذلك ثم عقد لذلك مجلس، فاتفق من حضر
على أنه يترتب على ذلك أن يغلط من كان يعرف العادة المستمرة فيبطل
صومه، فتوقف الأمر واستمرت العادة - ولله الأمر.
وفي هذه السنة صرف أبو السعادات محمد بن أبي البركات محمد بن أبي
السعود ابن ظهيرة عن قضاء مكة واستقر الجمال محمد بن علي الشيبي، ولما
حج مع الناس استقر في مباشرة الحكم، وأمر بسد أبواب الحرم كلها إلا
أربعة أبواب، فحصل للناس بذلك مشقة شديدة فكان ما سنذكره.
وفيها وصلت من الهند من صاحب بنجالة هدايا جليلة لجماعة من الناس
خصوصاً الشيخ علاء الدين محمد بن محمد بن محمد البخاري ثم الهندي نزيل
القاهرة، ووصلت أيضاً هدايا من صاحب الهند.
وفي العشر الأخير من شعبان انكشفت رأس بعض المماليك وهو يلعب بالرمح،
فظهر أنه أقرع فضحكوا منه. فسأل السلطان أن يقرره شاد القرعان، فكتب له
مرسوم بذلك، فكان يدور على الناس فمن ظن به أنه أقرع كشف رأسه فإن وجده
أقرع أخذ منه ثلاثة دراهم فضة وثلثاً ثم اضمحل أمره بعد قليل.
وفيها قدم سودون نائب الشام، ثم رجع إلى إمرته بعد عشرة أيام، وصرف
أزدمر شايه عن إمرته بالقاهرة وقرر حاجباً بحلب.
وفيها خرج عرب الشرق من الحجاز على أهل الركب العراقي فانتهبوهم، وكان
من جملتهم ولدان لحسن بن عجلان كانا انتجعا المشرق، فأكرمهما الملوك
اللنكية وغيرهم ورجعا بمال ونهب، وذهبت للتجار العراقيين أموال عظيمة
كثيرة جداً.
(3/383)
وفي أواخر السنة بلغ السلطان أن بعض
التركمان نازل الملطية، فأمر بتجريده ثم بطلت، وجهز قانباي البهلوان
أميراً عليها.
وفي خامس عشري شهر ربيع الآخر مات كافور الزمام، وكان قد عمر وقارب
التسعين، ودفن في تربة بناها بالصحراء.
وفي عاشر جمادى الآخرة قبض على تغري بردى المحمودي، وهو يومئذ راس نوبة
كبير، وكان حينئذ يلعب مع السلطان بالأكرة في الحوش، وذكر أن ذنبه ما
نقل عنه أنه اختلس من الأموال من قبرس وشيع في الحال إلى الإسكندرية
مقيداً.
ومن عجائب ما اتفق له في تلك الحال أن شاهد ديوانه شمس الدين محمد بن
الشامية لحقه قبل أن يصل إلى البحر فقال له وهو يبكي: يا خوندّ هل لك
عندي مال؟ وقصد أن يقول: لا، فشفعه ذلك بعده عند السلطان وغيره، فكان
جوابه له: أنا لا مال لي بل المال للسلطان، فلما سمعها ابن الشامية، دق
صدره، واشتد حزنه وسقط ميتاً من غير ضعف ولا علة.
وفي آخر يوم من ذي القعدة استقر بهاء الدين ابن نجم الدين ابن حجي في
قضاء الشام مكان والده، وبذل في ذلك ثلاثين ألف دينار - وسيأتي ذكر قتل
أبيه في ترجمته.
ذكر من مات
في سنة ثلاثين وثمانمائة من الأعيان
أحمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن عرب أبو العباس المعروف بابن
عرب اليماني الزاهد بالشيخونية، انتقل أبوه من اليمن إلى بلاد الروم
فسكنها وولد
(3/384)
له بها أحمد هذا فنشأ بمدينة برصا، فكان
يقال له: ابن عرب، على عادة الروم والترك في تسمية من لم يكن منهم عرب،
ونشأ أحمد هذا نشأة حسنة، ثم قدم القاهرة وتنزل في القاعدة التي
استجدها أكمل الدين صوفياً، وقرأ على خير الدين سليمان بن عبد الله،
ونسخ بالأجرة واشتغل، ثم انقطع عن الناس فلم يكن يجتمع بأحد، واختار
العزلة مع المواظبة على الجمعة والجماعة، واقتصر على ملبس خشن جداً
وقنع بيسير من القوت، ومهما اطلع على أن أحداً من الباعة عرفه فحاباه
لم يعد إليه، وكان يتنكر ويشتري قوت يومين أو ثلاثة بعد العشاء ويدخل
الجامع من أول النهار يوم الجمعة، ولا يكلم أحداً في حال ذهابه ولا
إيابه، فأقام على هذه الطريق أكثر من ثلاثين سنة ولم يكن في عصره من
داناه في طريقته، وكان يدري القراآت، مات ليلة الأربعاء ثاني شهر ربيع
الأول، ومن عجائب أمره أنه لما مات كان الجمع في جنازته موفوراً، وأكثر
الناس كانوا لا يعلمون بحاله ولا بسيرته فلما تسامعوا بموته هرعوا
إليه، ونزل السلطان من القلعة فصلى عليه بالرميلة، وأعيد إلى الخانقاه
فدفن بها، وتنافس الناس في شراء ثياب بدنه فاشتروها باغلاء الأثمان،
فاتفق أن جملة ما اجتمع من ثمنها حسب فكان قدر ما تناوله من المعلوم من
أول ما نزل بها إلى أن مات لا يزيد ولا ينقص، فعد ذلك من كراماته رحمه
الله.
أحمد بن موسى، شهاب الدين المتبولي المالكي موقع الحكم، حدث عن البياني
وغيره، أخذ عنه جماعة، ومات في يوم الأربعاء 8 ربيع الأول عن خمس
وثمانين سنة.
(3/385)
أحمد بن يحيى بن عبد الله الحموي الرواقي
الصوفي شهاب الدين أبو العباس، ولد سنة 747. وذكر أنه سمع بمكة على
العفيف عبد الله اليافعي في سنة 55، وتلقن الذكر ولبس خرقة التصوف من
الشيخ يوسف بن عبد الله بن عمر بن خضر الكوراني، واسندها له عن الشيخ
نجم الدين الأصفهاني عن نور الدين عبد الصمد عن الشيخ شهاب الدين
السهروردي، وتعاني طريق التصوف، وسكن في الأخير حماة، وتردد إلى طرابلس
وغيرها، وزار القدس سنة سبع وعشرين؛ قال القاضي علاء الدين: كان صالحاً
خيراً ديناً ناسكا؟ ً مسلكاً، يستحضر أشياء حسنة عن الصوفية، اجتمعت به
بطرابلس فأنشدني وساق له عن أبي حيان قصيدة أولها:
لا خير في لذة من دونها حذر ... ولا صفا عيشة في ضمنها كدر
فلا ترم رقعة بين الأنام فقد ... حست منامك الأخبار والسير
والرفع من بعده نصب وفاعله ... عما قليل بحرف الجر ينكسر
وهي نحو العشرين بيتاً، لا يشبه نظم أبي حيان ولا نفسه ولا يتصور لمن
ولد سنة سبع وأربعين أن يسمع من أبي حيان الذي مات قبل ذلك بمدة، ولقد
عجبت من خفاء
(3/386)
ذلك على القاضي علاء الدين ثم خشيت أن يكون
بين الرواقي وأبي حيان واسطة، وقد زعم أنه أنشدها له العلامة جمال
الدين عبد الله بن يوسف بن هشام قال: أنشدنا أبو حيان، ولا يعرف أن ابن
هشام أخذ عن أبي حيان شيئاً بل كان يجتنبه. قال: وكان الرواقي يقيم
بحماة ويأتي طرابلس، ثم بلغني أنه توجه إلى القدس وأقام به ومات ما بين
ثمان وتسع وعشرين.
أحمد بن يوسف، الزعيفريني شهاب الدين الأديب البارع كان ينظم الشعر
ويكتب المنسوب، ويتكلم في معرفة علم الحرف ويخبر عن المغيبات، ولذلك
مال إليه جماعة من الأكابر وأثرى، وامتهن في سنة ثمانمائة واثنتي عشرة
وقطع الناصر لسانه وعقدتين من أصابعه، ورفق به المشاعلي عند قطع لسانه
فلم يمنعه من الكلام، وكان السبب في ذلك أنه نظم لجمال الدين ملحمة
أوهمه أنها قديمة وأنه يملك، وصار بعد موت الناصر يكتب بشماله، وكتب
مرة إلى الصدر ابن الأدمي:
لقد عشت دهراً في الكتابة مفرداً ... أصور منها أحرفاً تشبه الدرا
وقد عاد خطي اليوم أضعف ما ترى ... فهذا الذي قد يسر الله لليسرى
(3/387)
فأجابه:
لئن فقدت يمناك حسن كتابة ... فلا تحتمل هماً ولا تعتقد عسرا
وأبشر ببشر دائم ومسرة ... فقد يسر الله العظيم لك اليسرى
أحمد بن البدر بن محمد بن أويس، المغربي نزيل طرابلس، قرأ بالروايات
على أبي زيد عبد الرحمن بن المعلم سليمان بن إبراهيم التونسي نزيل
طرابلس في سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة فقرأه علي أبي عبد الله محمد بن
محمد بن سلامة الأنصاري، ولبس خرقة التصوف من محمد بن أحمد بن محمد بن
المهندس بحصن الأكراد في السنة المقبلة، وذكر انه لبسها من علي بن محمد
بن محمد بن أبي الفتح عبد المحمود بمدينة بحصن الأكراد سنة 54؛ ومات
ابن البدر المذكور بطرابلس في ذي القعدة، وسمع من بهادر القرمي ومحمد
بن هبة الله بن وهبة وأحمد بن علي بن محمد الأرموي ومحمد بن مظفر
الحسيني وعلي بن اليونانية.
أويس بن شاه ولد لابن شاه زاده ابن أويس صاحب بغداد، قتل في الحرب بينه
وبين محمد شاه بن قرا يوسف، واستولى محمد شاه على بغداد مرة أخرى.
بركوت بن عبد الله المكيني شهاب الدين عتيق سعيد بن عبد الله المكيني
عتيق مكين الدين اليمني، كان حبشياً صافي اللون حسن الخلق كثير الإفضال
محباً في أهل العلم وأهل الخير كثير البر لهم واللطف بهم، لقي حظاً
عظيماً من الدنيا وتنقلت به الأحوال، وبنى بعدن أماكن عديدة، ثم تحول
إلى مكة فسكنها وبنى بها داراً عظيمة، وصاهر إلى بيت المحلي التاجر
فنكح بنته آمنة واستولدها، وكان كثير التزوج والأولاد، ومات له في
حياته أكثر من خمسين ولداً، وما مات حتى تضعضع حاله، وذلك في ذي القعدة
بعدن وله نحو الستين.
عبد الله الملك المنصور بن الناصر أحمد بن الأشرف إسماعيل صاحب اليمن،
مات
(3/388)
في جمادى منها، واستقر بعده الأشرف إسماعيل
بن الناصر احمد.
عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمود بن غازي بن أيوب بن محمود ابن
ختلو، الحلبي فتح الدين ابن الشحنة أخو العلامة محب الدين أبي الوليد،
كان أصغر سناً من أخيه، واشتغل كثيراً في الفقه حنفياً حتى ناب عن أخيه
في الحكم ثم تحول بعد الفتنة العظمى مالكياً، وولي القضاء ثم عزل وخصل
له نكد لاختلاف الدول، ثم عاد في سنة خمس عشرى من قبل نوروز ثم من قبل
المالك المؤيد إلى أن مات، قال القاضي علاء الدين: رافقته في القضاء
وكان صديقي وصاحبي، وعنده مروءة وحشمة، وأنشد له من نظمه وهذا عنوانه:
لا تلوموا الغمام إن صب دمعا ... وتوالت لأجله الأنواء
فالليالي أكثرن فينا الرزايا ... فبكت رحمة علينا السماء
(3/389)
عمر بن حجي بن موسى بن أحمد بن سعد، السعدي
الحسباني الأصل الدمشقي نجم الدين أبو الفتوح بن حجي الشافعي، ولد سنة
767 بدمشق، وقرأ القرآن، ومات والده وهو صغير، وحفظ التنبيه في ثمانية
أشهر، وحفظ كثيراً من المختصرات، وأسمعه أخوه الشيخ شهاب الدين من ابن
أميلة وجماعة، واستجاز له من جماعة، وسمع هو بنفسه من جماعة كثيرة،
وأخذ العلم عن أخيه وابن الشريشي والزهري وغيرهم، ودخل مصر سنة تسع
وثمانين فأخذ عن ابن الملقن، ولازم الشرف والعز ابن جماعة وغيرهم، وأذن
له ابن الملقن، والبدر الزركشي الأنطاكي مدة وتعلم العربية، وكان قليل
الاستحضار إلا أنه جيد الذهن حسن التصرف، وأول ما حج سنة ست وثمانين،
ثم ولي إفتاء دار العدل سنة اثنتين وتسعين، وجرت له كائنة مع الباعوني
فضربه هو والعزي وغيرهما وطوف بهم وسجنوا بالقلعة، وذلك في رمضان سنة
خمس وتسعين، ثم حج سنة تسع وتسعين وجاور، وولي قضاء حماة مرتين، ثم ولي
قضاء الشام في ربيع الآخر سنة تسع وثمانمائة، ثم انفصل بعد شهرين، ثن
أعيد في شوال سنة عشر، ثم صرف مراراً، وهكذا كانت مدة ولايته إحدى عشرة
سنة وأشهر في مدة إحدى وعشرين سنة، وعدد ولاياته سبع مرات، وقدم مصر
سنة
(3/390)
اللنك بعد أن نجا منهم بحيلة غريبة، فناب
في الحكم عن الجلال البلقيني، ثم عاد وولي قضاء طرابلس سنة اثنتي عشرة
قدر شهرين، وحبسه نوروز في شوال سنة خمس عشرى وهم بقتله ثم نجا منه،
وقبض عليه مرة أخرة قبل ذلك فهرب من الموكلين به بحيلة عجيبة، ثم قبض
عليه في جمادى الأولى سنة ست عشرة، ثم تحيل وخلص وقدم القاهرة، ثم رجع
مع المؤيد حتى قتل نوروز، واستقر في القضاء إلى أن قام عليه الحاجب
فنودي عليه وحبس بالقلعة، ثم خلص وقدم مصر ورجع متولياً، ثم في سنة
إحدى وعشرين سجن بالقلعة ثم أطلق، وحج سنة اثنتين وعشرين، فاستناب
الشريف شهاب الدين بن عدنان مع ما كان بينهما من العداوة الشديدة،
والسبب في ذلك أن النواب سطوا عليه واختلفوا فيمن يصلح منهم أن ينوب
عنه في غيبته فعاقبهم بأن أقام عليهم الشريف، فكان ذلك أول طمع الشريف
في الدخول في المنصب ثم قام مع جقمق نائب الشام بعد موت المؤيد وأشار
على نائب القلعة بتسليمها إليه، فلما وصل ططر ومن معه لم يؤاخذ بذلك،
وحج في تلك السنة سنة أربع وعشرين، وهم بالدخول إلى مصر ليلى عوض
البلقيني ثم رجع إلى دمشق، وبلغه ولاية العراقي فقعد، ثم قام عليه نائب
الشام في سنة ست وعشرين وتألب عليه أعداؤه وهموا بقتله، ثم اتفق مرض
النائب فاشتغل بنفسه ومات فجاءته الولاية في رمضان منها، ولم يزل يتقلب
في الأمور إلى أن قرر في كتابة السر بالقاهرة، فلم يمش له فيها حال،
وتغير عليه غالب أصحابه، وعادى من كان يحبه قبل ذلك، فصرف صرفاً شنيعاً
كما تقدم في الحوادث، ثم استأذن في الوصول إلى مصر فأذن له، فقرر في
قضاء الشام في محرم هذه السنة، وحصل له عند عوده تعظيم زائد، وتسلط على
الشريف عدوه وآذاه كثيراً وعمل عليه إلى أن قتل في منزله غيلة وذهب دمه
هدراً،
(3/391)
وكان ذكياً فصيحاً حسن الملتقى والمباسطة
يلقي الدروس بتأن وتؤدة مع ذلك كثير الإحسان للطلبة والواردين عليه
بدمشق إلا أنه انعكس في ذلك في ولايته كتابة السر وصار على ضد ما كان
يعهد منه، وكان كثير التلون سريع الاستحالة، وكان قتله في ليلة الاثنين
ثاني ذي القعدة.
عمر بن طرخان بن شهري، الحاجب الكبير بحلب، مات في حادي عشري شهر رجب.
عمر بن الشيخ شمس الدين محمد بن اللبان، المصري، أخذ القراآت عن والده
وتصدر للاقراء وكان ساكناً سليم الباطن، وكان غالية في الشطرنج؛ مات في
شعبان عن نحو ثمانين سنة.
محمد بن إبراهيم بن محمد الدمشقي الأصل البشتكي، كان أبوه فاضلاً فنزل
بخانقاه بشتاك الناصري فولد له الشيخ بدر الدين هذا بها، وكان جميل
الصورة، فنشأ محباً في العلم، وحفظ القرآن وعدة مختصرات، وتعاني الأدب
فمهر فيه، ولازم ابن أبي حجلة وابن الصائغ، ثم قدم ابن نباتة مصر
فلازمه وكتب عنه ديوان شعره، ثم رافق جلال الدين ابن خطيب داريا ودخل
معه دمشق واجتمع بفضلائها، وأخذ عن البهاء السبكي وغيره بالقاهرة،،
وصحب الشيخ بهاء الدين الكازروني مدة ونسخ له كثيراً، وكان أحد الأفراد
في كثرة النسخ حتى كان ينسخ في اليوم خمسة كراريس، فإذا تعب اضطجع على
جنبه وكتب خمسة أخرى كما يكتب وهو جالس، وكتب ما لا يدخل تحت الحصر
وكتب للكازروني المذكور كثيراً من تصانيف ابن العربي، ثم رجع عن ذلك
بعد موته وصار داعية إلى الحط على
(3/392)
مقالة ابن العربي، وأحب المذهب الظاهري على
طريقة ابن حزم، وامتحن بسبب ذلك بمكة على يد أبي الفضل النويري قاضيها
وكان جاور بها بعد الثمانين، وامتحن أيضاً بالقاهرة على يد البرهان
الإختاني وحبس ثم أطلق، وصحب فخر الدين ابن مكانس، وأقرأ ولده وأدبه،
وتخرج به فمهر في الأدب، وله مطارحات مع أدباء أهل العصر وهاجي جماعة
منهم، وكان هو كثير الإنجماع، يرجع إلى دين متين مع محبته في المجون
والخلاعة، ثم أقلع وتاب ولازم الإنجماع، وكان حسن الأخلاق في أول ما
يصحب ثم لا يلبث أن يتغير، وفي الجملة كان عديم النظير في الذكاء وسرعة
الإدراك إلا أنه تبلد ذهنه بكثرة النسخ، وقد مدح القاضي برهان الدين بن
جماعة بعدة قصائد طنانة، سمعت منه كثيراً من شعره ومن فوائده، وكانت
وفاته فجأة، دخل الحمام فمات في الحوض يوم الاثنين ثالث عشري جمادى
الآخرة، ومن نظمه:
كنت إذا الحوادث دنستين ... فزعت إلى المدامة والنديم
لأغسل بالكؤس الهم عني ... لأن الراح صابون الهموم
قاسم المؤيدي الدوادار، كان ولي الإسكندرية ثم إمرة بحلب، ثم استمر بها
إلى أن قتل في المحرم.
كافور أغتمشي الزمام، مات يوم الأحد خامس عشري ربيع الآخر وقد قارب
الثمانين، وهو صاحب المدرسة التي تجاه حارة الديلم، واستقر بعده في
الزمامية خشقدم الظاهري.
محمد بن المحدث عماد الدين إسماعيل بن محمد بن بردس بن رسلان البعلبكي
الحنبلي الشيخ تاج الدين أبو عبد الله، ولد ليلة التاسع والعشرين من
جمادى الآخرة سنة 45، وسمع من أبيه أسمعه الكثير من ابن الخباز وتفرد
به، وسمع أيضاً من محمد بن يحيى وشقيراء وابن الجوخي وابن أميلة، وأجاز
له العرضي والبياتي وابن نباتة والعلائي وغيرهم، وانتفع به الرحالة،
وكان محباً لنشر العلم وللرواية
(3/393)
طلق الوجه حسن الملتقى كثير البشاشة مع
الدين والعبادة وملازمة الأوراد والصلابة في الدين، وله نظم وتأليق
وصدقة في السر، مات في شوال، وقد أجاز لي غير مرة.
محمد بن خالد بن موسى، الحمصي القاضي شمس الدين المعروف بابن زهرة -
بفتح الزاي - الحمصي الحنبلي، مات في ثالث عشري شهر رجب، وهو أول حنبلي
ولي قضاء حمص، وكان أبوه خالد شافعياً فيقال إن شخصاً رأى النبي صلى
الله عليه وسلم فقال له: إن خالداً ولد له ولد حنبلي! فاتفق أنه كان
ولد له هذا فشغله لما كبر بمذهب الحنبلية، وقرأ على بدر الدين بن اشناب
ببعلبك وعلى الشيخ شرف الدين ابن قاضي الجيل وزين الدين بن رجب بدمشق،
وولي قضاء حمص.
محمد بن عبد الواحد بن العماد محمد بن القاضي علم الدين أحمد بن أبي
بكر، تقي الدين الإخنائي المالكي نائب الحكم، كان من خيار القضاة، مات
في سادس ذي الحجة بمكة وكان جاور بها في هذه السنة.
(3/394)
محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن
محمد بن الإمام أبي حامد محمد بن محمد بن محمد، الغزالي الشافعي محي
الدين أبو حامد الطوسي، قدم
(3/395)
من بلاده إلى حلب في شهر رمضان سنة ثلاثين
وثمانمائة بعد أن كان دخل الشام قديماً، وسمع من زين الدين عمر بن
أميلة مسند الوقت وحدث عنه في هذه المقدمة، وجده الثامن فيما زعم هو
حجة الإسلام أبو حامد الغزالي المشهور - كذا ذكر ذلك عنه الشيخ برهان
الدين سبط ابن العجمي فيما قرأت بخطه والقاضي علاء الدين في ذيل تاريخه
ووصفاه بالعلم والدين، قال في الذيل: رأيت أتباعه وتلامذته يذكرون عنه
علماً كثيراً وزهداً وورعاً، وأخبر عنه بعض الطلبة أنه حج مراراً منها
واحدة ماشياً على قدم التجريد، وكان معظماً في بلاده، قال: وبلغني أنه
رأى ملك الموت فسأله: متى أموت؟ فقال: أنت تموت في العشر، فما درى أي
عشر، فاتفق أنه مات في حلب في العشر الأخير من شهر رمضان سنة ثلاثين،
وكانت جنازته مشهودة، أخد عنه إبراهيم بن علي الزمزمي المكي.
(3/396)
سنة إحدى وثلاثين
وثمانمائة
في ثالث المحرم لبس السلطان الصوف وكان ذلك قبل العادة بمدة والحر
موجود واستمر بعد ذلك أياما ووقع الندى وأمطرت السماء قليلاً، ودخل
كيهك من شهور القبط وهو أول الأربعين عند المصريين ولم يقع البرد بل
كان نظير فصل الربيع واستمر ذلك إلى أن نقلت الشمس إلى الجدي ولم يعهد
ذلك.
وفي الثالث من المحرم قدم الحمل من قبرس وهو خمسون ألف دينار.
وفيها قتل عذراء بن علي بن نعير أمير آل فضل، واستقر بعده أخوه مذحج.
وفي ثاني عشر صفر صرف القاضي الحنبلي عز الدين عبد العزيز ابن علي
المقدسي وأعيد القاضي محب الدين بن نصر الله، وكان عز الدين أحس بأن
يعزل فمكر بأن سأل ناظر الجيش أن يسأل له السلطان في الإعفاء، فبلغ
السلطان ذلك فأعجب به وقال: لولا أنه رجل جيد ما طلب الإعفاء، وأمر أن
يستمر فظن حصول مقصوده بذلك من الاستمرار وصبر على ذلك مدة، وسخط منه
كاتب السر لأمر اقتضاه فاحتال عليه بأن قال للسلطان: هذا الحنبلي شيخ
كبير وقد تكرر سؤاله الإعفاء وأن يقرر له رزق على جهة حل يأكل منها
ويعبد الله ويدعو للسلطان، فأمر السلطان بإجابته لذلك، فخلع على محب
الدين ولم يشعر عز الدين بذلك، فضج ودار على الأمراء فلم ينجع، وقرر له
في الشهر على وقف تنبغا التركماني معلوم النظر، وكان يظن أنه بما تحيل
به يستمر فانعكست حيلته.
(3/397)
وفي صفر أمر بتحكير قصب السكر وأن لا يزرعه
أحد إلا السلطان، ثم بطل ذلك بعد قليل، وفيه أمر بهدم ما كان اليهود
أحدثوه من بناء درب محدث يغلق على كنيستهم وسياج كالسور، حازوا فيه
كثيراً من دور المسلمين التي تهدمت، وكانوا فعلوا ذلك في سنة ثلاث
وعشرين بغير إذن من حاكم، فقام الشريف شهاب الدين النعماني في ذلك،
وكان لما أنكر عليهم لبسوا على قاضي الحنابلة وأخذوا خطه على قصة، وكان
القائم معهم في ذلك نقيب الحنبلي جمال الدين عبد الله الإسكندراني،
فحمل النعماني أعيان الناس على الحنبلي حى أوضح له القصة فحكم بهدم ما
أحدثوه من السياجات والأبواب والخوخ، وسجل على نفسه بذلكم في سنة أربع
وعشرين، فلما كان في هذه السنة رفعوا للقاضي الحنفي العينتابي قصة،
فأذن فيها لبعض النواب ممن كان الشافعي منعه من الحكم وكان من شيعة
الهروي فتوسل للعينتابي بذلك، فأذن له في الحكم وعين عليه هذه القصة،
فكتب محضراً يتضمن أن الذي كانوا جددوه مختص بالكنيسة وليس فيه شيء من
أبنية المسلمين ولا من حقوقهم وإنما تعصبوا عليهم في القصة التي تقدم
ذكرها، فأثبت ذلك وأذن لهم في إعادة ما كان الحنبلي حكم بهدمه، فسارعوا
إلى بنيانه، فقام النعماني وحمل الناس على العبنتابي حتى نفذ حكم
الحنبلي، ثم أخذ النعماني في التشنيع على النائب الذي تعاطى ذلك وهو
عبد الله البرلسي حتى اتصلت القصة بالسلطان، فأذن للشافعي والحنبلي أن
يتوجها بمفردهما ومعهما ناظر الأوقاف إلى المكان المذكور ويشخصوه وينظر
القاضيان فيما حكم به ابن المغلي ثم البرلسي ويفعلا فيه الواجب، فتوجها
يوم الجمعة ثاني عشري صفر، وكان النعماني استكتب شيوخ المصريين في محضر
شهدوا فيه أن الذي أعيد الآن هو عين ما كان ابن المغلي أمر بهدمه، وأذن
العينتابي لليهود في كتابة محضر بأنه غيره وكتب فيه جماعة، فلما تأملت
المحضرين وشاهدت الأمكنة المجددة أغنت المشاهدة عن الخبر فظهر الحق بيد
النعماني، لكن رأيت الغوغاء قد اجتمعوا ومعهم المساحي والمعاول، فلو
أذنت بهدم شيء ما
(3/398)
لهدمت الكنيسة كلها ونهب ما فيها، وكان ذلك
وقت العصر فقلت لهم: لا بدمن كشف كنيسة النصارى حتى ينظر ما أحدثوا
أيضاً وبهدم الجميع، فأعجبهم ذلك وافترقنا على العود في أول النهار، ثم
استوفى الشافعي والحنبلي الشروط في المسألة وحكما بهدم ما أحدث وإبطال
حكم البرلسي، وكان البرلسي قبل ذلك خشي القالة فأشهد على نفسه بأنه رجع
الحكم المذكور، ثم توجه لكاتب السر فأعلمه بذلك واتصل ذلك بالسلطان،
وكنت عند الافتراق أمرت الوالي أن يزيل ما أحدثوه من الأبنية الجديدة
كلها بالليل، ففعل ذلك وانحسمت المادة بعون الله تعالى.
وفي ربيع الأول غلا السعر بسبب هبوب الريح المريسية، فمنعت المراكب من
الوصول من الوجه البحري بالغلال، وعز وجود الخبز بالأسواق أياماً، ثم
فرج الله وانحل السعر في جمادى الأولى، ورخص القمح وغيره.
زفي شهر ربيع الآخر شدد السلطان في أمر الخمر وأمر بإراقة ما يوجد منها
في مظانها في جميع البلاد، وكذلك الحشيش أمر بإحراق ما يوجد منها،
فأهريق من الخمر وأحرق من الحشيش ما لا يحصى كثرة، وأكثر ذلك كان
بدمياط وكان في القاهرة وغيرها من الأعمال على ذلك ضمان وعليه إقطاعات
لأناس، فبطل ذلك ولله الحمد، ثم أعيد قليلاً قليلاً بدسائس أهل الظلم
والمكر حتى عاد كما كان بعد مدة قريبة.
وفيها أبطلت المعاملة بالبنادقة وضربت اشرفية، وحصل بذلك لخيار
المسلمين سرور كثير، وفيه حضر من أكابر أهل دمياط جماعة وشكوا من ابن
الملاح الكاتب النصراني الملكي وأنه يتجاهر باللواط، ويستخدم من يكون
جميل الصورة من أبناء البلد، ويبالغ في إظهار الفاحشة، حتى أنه ربما
قام بحضرة الناس فخلا به الشاب منهم بحيث لا يواريه إلا جدار المخدع أو
شبهه ثم يخرجان معاً على الهيئة الدالة على المراد، وكثر ذلك منه، وأنف
جماعة من الناس ومنعوا أولادهم من الخدمة عنده، وهو يفسدهم بكثرة
العطية ومعاقرة الخمر والغناء، مع ما هو فيه من الجاه العريض حتى كان
والي البلد يقف في خدمته، ومهما قاله لا يرد
(3/399)
ومهما فعله لا يتعقب، ومن نازعه في شيء
أفسد حاله عند ناظر الخاص المتكلم على البلد؛ فرفعوا في أمره قصة تتضمن
هذا وغيره من المفاسد، فعقد له مجلس بحضرة السلطان، فلما ادعى عليه
أنكر، فقامت البينة بشيء من ذلك فبادر وأسلم وحكم بإسلامه ولقب محب
الدين. وشرط عليه الشافعي أنه متى ثبت عليه شيء مما وقع فيه أو وقع في
حق أحد ممن قام عليه في ذلك رتب عليه مقتضاه! وتهدده في ذلك، فأذعن
والتزم وتوجه إلى دمياط وحسنت سيرته بالنسبة لما كان أولاً - والله
أعلم بغيبه.
وفيه منع الفرنج من حمل الخمر من بلادهم ثم بعد مدة عادوا، وفيه جعل
على تجار الشام ثلاثة دنانير ونصف إن حملوا البهار إلى بلادهم زيادة
على المكس المعهود، ثم بعد سنين بطل ذلك والتزموا بعدم الحمل.
وفي الخامس من جمادى الأولى غضب السلطان على فيروز الساقي بسبب أنه
تكلم في القاضي الحنفي العيني ونسبه إلى أمور معضلة من تناول الرشوة
والحكم بالعرض وتعاطي الأسباب المفسقة، فأراد السلطان الاستثبات في ذلك
فأحضر الحنفي، وأراد من فيروز أن يواجهه ويحاققه، فخارت قوى الطواشي
فاعتذر واستغفر، فاشتد غضب السلطان وأمر بأن بنفي بعد أن ضرب بحضرته
ضرباً شديداً، ثم شفع فيه بأن يكون توجهه إلى المدينة الشريفة فأجاب،
وتوجه فأقام بها سنة ثم أذن له في الرجوع.
وفي جمادى الأولى عند نزول الشمس برج الحمل أمطرت السماء يومين
متواليين مطراً غزيراً لم يقع في هذه السنة قبل ذلك، ووقع في أول يوم
من برمودة والشمس في الحمل حر شديد وسموم نظير ما جرت العادة أنه يقع
في تموز.
وفيه لبس السلطان الأبيض قبل العادة بسبعة وثلاثين يوماً لشدة ما وقع
من الحر، ثم لم يلبث البرد أن عاد أشد ما كان واستمر إلى مضي عشرين
يوماً.
(3/400)
وفيه وقع بالشام مرض عام، وكثر موت الخيل
بها وبحماة.
وفي جمادى الأولى خلع الأشرف إسماعيل بن الناصر أحمد صاحب اليمن من
الملك، وكان السبب فيه أن وزيره الشرف إسماعيل بن العفيف عبد الله بن
عبد الرحمن بن عمر العلوي قصر في مرتبات الجند، فطالبوه مراراً فلم
ينصفهم، فرفعوا أمرهم للسلطان، فأحالهم على الوزير، فتألموا وهجموا على
الدار فخرج إليهم شقير أمير جندار، فضربوه بالسيوف حتى برد، وقتلوا
الشاد الكبير، واسمه عندهم مشد المشدين، وهجموا على الأشرف وقبضوا عليه
وعلى علي بن الحسام لاجين، وسجنوا الأشرف وأمه وحظيته، وكان كبيرهم
مملوكاً يقال له برقوق من مماليك الناصر، فاتفق رأيهم أن يخرجوا يحيى
بن ناصر من محبسه يسلطنوه ففعلوا ولقبوه الظاهر، ونهبوا دار السلطان،
واستقرت سلطنة يحيى بن الناصر وحبس الأرف إسماعيل في الموضع الذي كان
فيه يحيى، وهو في حصن ثعبات من بلاد تعز، وصودر الوزيران، وعظم أمر
الشهاب أحمد بن الأمير محمد بن زياد الكاملي، وكان أبوه من أكابر أمراء
الأشرف بن الأفضل ثم صار هو الآن كبير الأمراء، وظهرت من الظاهر يحيى
شجاعة ومعرفة ومهابة.
وفي الثالث من جمادى الآخرة ادعى على شمس الدين محمد بن الشيخ عز الدين
حسن الرازي الحنفي أحد نواب الحكم بأنه وقع في حق النبي صلى الله عليه
وسلم فأنكر، ثم ادعى عليه نقيب الحنفي أنه قال له: أنت يهودي، فأنكر،
فأقام عليه البينة بذلك فعزر، وحكم الحنفي بحقن دمه وسكنت القضية
وفي جمادى الآحرة وصل إلى الشيخ علاء الدين ابن البخاري من صاحب كلبرجا
من بلاد الهند ثلاثة آلاف شاش، ففرق منها ألفاً على الطلبة الملازمين
له، من جملتها مائة
(3/401)
شاش لصدر الدين ابن العجمي ليوفي بها دينه،
ويقال إن صاحب الهند كان قرأ على الشيخ علاء الدين لما كان بالهند،
فراسله فأشار عليه أن يرسل لفقراء الطلبة صدقة فأرسل ذلك، ثم فرق الشيخ
علاء الدين على الطلبة كثيراً من الشاشات، وعمل لهم وليمة في بستان ابن
عنان صرف عليها ستين ديناراً، ووصلت هدية صاحب الهند للسلطان، وهي
مائتاشاش، ومائتا إزار بيرمي، وستون نافجة من المسك الطيب، وأربعة
أسياف محلاة فيها نحو خمسمائة مثقال.
وفيها عزم الشيخ علاء الدين ابن البخاري على الحج واستاذن السلطان
فامتنع، فألح مرة بعد مرة فأرسل إليه كاتب السر بدر الدين بن مزهر، فلم
يزل يرجعه إلى أنقبل يده فأطاع وأقام.
وفي السادس من جمادى الآخرة أخذت الحوانيت التي فيهاالسيوفية والصيارف
ظاهر الصاغة وعلوها وقد أخذ فيه الجوانب، واستبدل النصف والربع بمال
جزيل يعمر به في البرع الباقي لجهة وقفه على الصالحية فعمر عمارة
جديدة، وصارت أجرة الربع أزيد من أجرة الكل بالنسبة لما كان يفضل بعد
الصرف في ترميمه.
وفي أول يوم من رجب عمل الموكب السلطاني وكان حافلاً جداً، والسبب فيه
قدوم رسول من ابن عثمان يستأذن في الحج ومعه هدية جليلة.
وفيه التمس الشيخ علاء الدين محمد بن محمد بن محمد البخاري من السلطان
أن يبطل إدارة المحمل حسماً لمادة الفساد الذي جرت العادة بوقوعه عند
إدارته في الليل والنهار من ارتكاب المنكرات والتجاهر بالمعاصي، فأمر
السلطان بجمع القضاة وكاتب السر وأن يتوجهوا إلى الشيخ علاء الدين
ويتكلموا معه في هذه المسالة، فوقع الكلام فقلت: ينبغي أن ينظر في
السبب في هذه الإدارة فيعمل بما فيه المصلحة منها ويزال ما فيه
المفسدة، وذلك أن الأصل فيه إعلام أهل الآفاق أن الطريق من مصر إلى
الحجاز آمنة، وأن من شاء أن يحج فلا يتأخر لخشية خوف الطريق؛ وذلك لما
كان حدث قبل ذلك من انقطاع الطريق
(3/402)
إلى مكة من جهة مصر كما هي الآن منقطعة
غالباً عن العراق، فالإدارى لعلها لا بأس بها لهذا المعنى وما يترتب
عليها من المفاسد يمكن إزالته بأن يبطل الأمر بزينة الحوانيت، فإنها
السبب في جلوس الناس فيها، وكثرة ما يوقد فيها من الشموع والقناديل،
ويجتمع فيها من أهل الفساد، فإذا ترك هذا وأمر السلطان من تعاطي إدارة
المحمل من غير تقدم إعلام الناس بذلك حصل الجمع بين المصلحتين، وانفصل
المجلس على ذلك؛ ووقع في هذا المجلس ذكر ابن العربي الصوفي، فبالغ
الشيخ علاء الدين في ذمه وتكفيره وتكفيرمن يقول بمقالته، فانتصر له
المالكي وقال: إنما ينكر الناس عليه ظاهر الألفاظ التي يقولها، وإلا
فليس في كلامه ما ينكر إذا حمل لفظه على مراده بضرب من التأويل، فانتشر
الكلام بين الحاضرين في ذلك، وكنت مائلاً في ذلك مع الشيخ علاء الدين،
وأن من أظهر لنا كلاماً يقتضي الكفر لا نقره عليه، وكان من جملة كلام
الشيخ علاء الدين الانكار على من يعتقد لوحدة المطلقة وكان من جملة
كلام المالكي أنتم ما تعرفون الوحدة المطلقة، فاستشاط البخاري غضباً
وأقسم بالله أن السلطان إن لم يعزل المالكي من القضاء ليخرجن من مصر!
والتمس من كاتب السر أن يسأل السلطان في إزالة أشياءمن المظالم
الشنيعة، ومن جملتها أن المسلم يؤخذ منه المكس أكثر ممكا يؤخذ من
النصراني إذا أحضرا بضاعة واحدة، بحيث صار كثير من المسلمين يجعل
بضاعته باسم النصراني ويتقلد له المانه، وأكد عليه في قصة المالكي،
فأعاد كاتب السر على السلطان جميع ما اتفق، فأمر السلطان بإحضار القضاة
عنده، فحضروا فسئلوا عن مجلس علاء الدين، فقصه كاتب السر بحضرتهم، ودار
بين السافعي والمالكي في ذلك بعض كلام، فتبرأ المالكي من مقالة ابن
العربي وكفر من يعتقدها، فصوب الشافعي قوله، وسأل السلطان ماذا يجب على
المالكي، وهل تكفير
(3/403)
الشيخ علاء الدين له مقبول، وهل يستحق
العزل أو التعزير! فقلت: لا يجب عليه شيء بعد اعترافه هذا وهذا القدر
كاف منه، وانفصل المجلس على ذلك؛ وأرسل السلطان يترضى علاء الدين
ويسأله بأن لا يسافر، فأبى وسلم له حاله وقال: يفعل ما أراد، وهم بعزل
القضاة لاختلاف قولهم الأول عند علاء الدين والثاني عنده، فبين له كاتب
السر أن قولهم لم يختلف وأوضح له المراد فرضي، واستمر المالكي بعد أن
كان أراد أن يقرر الشيخ شهاب الدين بن تقي الدميري أحد نوابه مكانه،
وحضر المجلس المذكور، وأحضرت خلعته، فبطل ذلك.
وفي السادس والعشرين من رجب هبت ريح شديدة ملأت الأزقة والبيوت تراباً،
ودام ذلك من أول النهار إلى آخره، وفي بعض الليل.
وفي رمضان توجه سعد الدين إبراهيم بن المرة الكاتب لأجل المكوس من تجار
الهند بحدة فعمر بجدة جامعاً وفرضة وصارت مينا عظيمة، وجهز السلطان
أمير يقال له أرنبغا من أمراء العشراوات، وجهز معه خمسين مملوكاً لدفع
بني حسين والقواد عن التعرض إلى جدة والإعراض عن النهب، وحج بالركب
الأول ينال الششماني راس نوبة وبيده يومئذ حسبة القاهرة فاستناب فيها
دويداره شاهين، فمشى الأمور إلى أن وصل أستاذه، فلم يشكر سيرته لكثرة
نومه وإغفاله أمر اللصوص وفيه قبض على قطج أحد أمراء الألوف وحمل إلى
الإسكندرية، وقبض على جرباش قاشق أمير مجلس ونفي إلى دمياط مطلقاً،
فأقام بها واتجر وتمول، واستقر اينال الأجرود في نيابة غزة، وأعبد
تنبغا المظفري من القدس واستقر في إمرة جرباش قاشق المذكور وذلك في
العشر الأخير من ذي القعدة.
وفي خامس ذي الحجة قبض على أزبك الدويدار، واستقر مكانه اركماس
الظاهري، واستقر تمراز الذي كان نائب غزة في وظيفة اركماس راس النوبة
الكبير،
(3/404)
ووصل في هذه السنة المحمل من العراق بعد أن
انقطع عشر سنين أو اكثر. جهزه في هذه السنة حسين بن علاء الدولة ابن
أحمد بن أويس أمير الحلة ومغيرة بن سقم أمير العرب، ووقف الحاج يومين
للاختلاف في الهلال.
وفي ذي الحجة انحط سعرالقمح بعد أن كان بلغ أربعمائة إلى ثلاثمائة
وخمسين، ثم انحط بعد ذلك أيضاً وفتحت الشؤن السلطانية وغيرها وبيع منها
فحصل الاتساع، وكان السعر بلغ مائتين وعشرين، والتبن مائة وثمانين كل
حمل، ثم أنحط إلى أربعين درهماً كل حمل.
وفي ثامن رمضان استقر قانصوه النوروزي في نيابة طرسوس وكان أمير عشرة،
وأضيف إقطاعه إلى الديوان المفرد، وفي جمادى الآخرة قرر طرباي في نيابة
طرابلس، وكان قد أذن له أن يقيم بالقدس بطالاً، فتحول من ثم إلى طرابلس
واستمر في إمرتها إلى..
وفي شهر ربيع الآخر أفرج عن جنبوس الفرنجي صاحب قبرس على فدي مبلغه
مائة ألف دينار، وأن يطلق عندهم من أسرى المسلمين وجهز إلى الإسكندرية،
وفيه قدم مركبان من فرنج الكتيلان لأخذ الإسكندرية بغتة، فوجدوا أهلها
قد أيقظهم متولي قبرس بهم، فلم يحصل لهم مقصود.
وفيه أمر السلطان بإراقة الخمور فتتبعت من عند كل من يتعاناها من
المسلمين وأهل الذمة، وشدد في ذلك وكتب به إلى البلاد الشامية وغيرها،
وكتب إلى الإسكندرية بإلزام الفرنج بإعادة ما جلبوه من الخمور إلى
بلادهم، واتفق في دمياط أن بعض الفقهاء أراق خمراً فعارضه بعض الخاصكية
وأهانه، فبلغ ذلك السلطان فأمر بضرب ذلك الخاصكي ضرباً
(3/405)
مبرحاً، حتى أن بعض الأمراء وهو اخو
السلطان قام ليشفع فيه، فضربه معه فضربا معاً، ثم أمر بإحراق الحشيش
والمنع من زرعها. وفيها نقض ابن الركاعنة طاعة أبي فارس صاحب تونس،
فسار إليه واجتمع به عبد الواحد بن أبي حمو وهو عمه، ففر ابن الركاعنة،
وأقام أبو فارس عبد الواحد المذكور في ملك تلمسان وفاس ورجع - وكانما
سيأتي ذكره سنة ثلاث وثلاثين.
وفي السابع من رجب استقر كمال الدين ابن البارزي في كتابة السر بدمشق
عوضاً عن حسين السامري بحكم وفاته وكان له منذ عزل من نظر الجيش مقيما؟
ً بالقاهرة سبع سنين، واستقر شهاب الدين ابن نقيب الأشراف بدمشق في نظر
الجيش عوضاً عن حسين أيضاً، وكان جمعهما.
وفي عاشره استقر عز الدين بن عبد السلام بن داود بن عثمان المقدسي في
تدريس الصلاحية بالقدس عوضاً عن الشيخ شمس الدين البرماوي بحكم وفاته،
واتفق في هذه السنة من العجائب أن الفول نزل عليه الصقيع بالصعيد
فافسده وهو أخضر، شرق كثيرمن الأراضي فلم يزرع، وأكلت الدودة مواضع
مزدرعة، فكانت هذه الأمور الثلاثة في العادة ينشأ عنها الغلاء، وانضاف
إلى ذلك نزول النيل بسرعة، فزرعوا في شدة الحر، ثم تسلطت الدودة مع
ذلك، فتحرك السعر قليلاً ثم لم يرتفع لشئ من الغلة رأس، وتمادى الأمر
على ما كان حتى جاء المغل الجديد، ثم غلا السعر في أيام زيادة النيل
فزاد سعر كل إردب مائة درهم، وانحلت الأسعار بعد وفاء النيل، وكان
ببلاد الصعيد الأعلى وباء شديد ومرض حاد ومات بسببه خلائق في رجب
وشعبان، واستمر إلى ... وفي سادس عشر شوال نودي بأبطال المعاملة
بالدراهم البندقية واللنكية، وأخرجت الدنانير الأشرفية، ونودي أن يكون
بمائتين خمسة وعشرون، وأبطلت المعاملة بالأفلورية.
(3/406)
وفي السادس من ذي الحجة قبض على أزبك
الدويدار الكبير، واستقر عوضه أركماس رأس نوبة النوب، واستقر في وظيفته
تمران الذي كان نائب غزة -.
وفيها استقر جوهر القنقباى خازندار ثانيا، ثم بعد قليل استقر عوضا عن
خشقدم خازندار كبيرا، واستقر خشقدم زماما بعد موت الزمام.
وفي سابع عشر ذي الحجة استقر التاج الوالي مهمندارا عوضا عن خرز،
فاجتمعت له عدة وظائف: ولاية القاهرة والحجوبية وشد الدواوين
والمهمندارية، مع استمراره في مجالسة السلطان ومنادمته.
ذكر من مات
في سنة 831 من الأعيان.
إبراهيم بن عبد الله الشامي الملقب خرز، قدم مع المؤيد فولاه
المهمندارية بعد ابن لاقي ومات وقد ولى ولاية القاهرة، ومات في العشر
الأخير من ذي القعدة.
أزدمر شايه أحد الأمراء الكبار المقدمين -، نقل لنيابة ملطية في أول
سنة ثلاثين، ثم رجع إلى حلب أميراً، ومات بها في سادس شهر ربيع الآخر،
وكان من مماليك الظاهر ثم صار من أتباع شيخ، فلما تسلطن أمره.
إياس الحاجب الظاهري، كان أحد الأمراء الأربعين، ثم أخرج إقطاعه وانفصل
من الحجوبية، ومات بطالاً.
بكتمر بن عبد الله، السعدي مملوك سعد الدين بن غراب، تربى صغيراً عنده
وتعلم الكتابة والقراءة، وكان فصيحاً ذكياً، ترقى إلى أن سفره السلطان
إلى صاحب اليمن، ثم علد فتأمر وتقدم، وكان فاضلاً شجاعاً عارفاً
بالأمور، مات في يوم الخميس 13 ربيع الأول.
(3/407)
جانبك الدوادار الأشرفي كان اشتراه وهو
صغير، ثم رقاه كما تقدم في الحوادث، وأمره طبلخاناة في المحرم سنة ست
وعشرين، وأرسل إلى الشام لتقليد النواب فأفاد مالاً عظيماً، وتقرر
أولاً خازندار ثم تقرر دويدار ثانياً بعد سفر قرقماس إلى الحجاز، وصارت
غالب الأمور منوطة به، وليس للدوادار الكبير معه كلام وتمكن من سيده
غاية التمكن، حتى صار ما يعمل برأيه يستمر، وما يعمل بغير رأيه ينقض عن
قرب -، وشرع في عمارة المدرسة التي خارج باب زويلة، وابتدأ به مرضه
بالمغص ثم انتقل إلى القولنج، وواظبه الأطباء بالأدوية والحقن ثم اشتد
به الأمر فعاده أهل الدولة كما هم من الخدمة السلطانية فحجبوا دونه،
فبلغ السلطان فنزل إليه العصر فعاده واغتم له وأمر بنقله إلى القلعة،
وصار يباشر تمريضه بنفسه مع ما شاع بين الناس أنه سقي السم، وعولج بكل
علاج إلى أن تماثل ودخل الحمام ونزل إلى داره، فانتكس أيضاً لأنه ركب
إلى الصيد بالجيزة فرجع موعوكاً، وتمادى به الأمر حتى مات، فنزل
السلطان إلى داره وحضره وركب في جنازته وصلى عليه تحت القلعة، وكان
شاباً حاد الخلق عارفاً بالأمور الدنيوية كثير البر للفقراء شديداً على
من يتعاطى الظلم من أهل الدولة، وهم الأشراف مراراً أن يؤمره تقدمة فلم
يقدر ذلك، وكان هو في نفسه وحاله أكبر من المقدمين، مات في ليلة الخميس
سابع عشرى شهر ربيع الأول عن خمس وعشرين سنة - تقريباً -، وماتت زوجته
بعده بستة أيام، فيقال إنه كان جامعها لما أفاق من مرضه قبل النكسة
فأصابها ما كان به من الداء، ونقل السلطان أولاده عنده وبنى لهم خان
مرور بالقرب من بين القصرين وكان قد استهدم، فأخذه بالربع وعمره عمارة
متقنة بحيث صار الذي يتحصل من ريعه يفي لأهل الربع بالقدر الذي يتحصل
من جميعه.
(3/408)
جانبك بن حسين بن محمد بن قلاون سيف الدين
بن الأمير شرف الدين ابن الناصر بن المنصور، ولد سنة بضع وخمسين، وأمر
طبلخاناة في سلطنة أخيه الأشرف شعبان، ولما زالت دولة آل قلاون استمر
ساكناً بالقلعة مع أهل بيته، وكانت عدتهم إذ ذاك ستماءة نفس، فما زال
الموت يقلل عددهم إلى أن تسلطن الأشرف برسباي، فأمر بهم أن يسكنوا من
القاهرة حيث شاؤا فتحولوا، ولم يكن فيهم يومئذ أقعد نسبا من جانبك بل
كان قبله بقليل ولد الناصر حسن وقد تقدمت وفاته في ... وأناف جانبك على
السبعين.
حسن بن أحمد بن محمد، البرديني بدر الدين، قدم من السيوفة صغيراً ونشأ
بالقاهرة فقيراً، ونزله أبو غالب القبطي الكاتب بمدرسته التي أنشأها
بجوار باب الخوخة، فقرأ على الشيخ شمس الدين الكلائي ولم يتمهر في شئ
من العلوم، بل لما ترعرع تكسب بالشهادة، ثم ولى التوقيع واشتهر به
وكانت لديه معرفة بالأمور الدنيوية فراج على ابن خلدون فنوه به، وكذا
صدر الدين المناوي، ولم ينتقل في غالب عمره عن ذلك ولا عن ركوب الحمار،
حتى كان بأواخر دولة جمال الدين الأستادار فإن فتح الله نوه به، فركب
الفرس وناب في الحكم وطال لسانه، واشتهر بالمروءة والعصبية فهرع الناس
إليه لقضاء حوائجهم وصار عمدة القبط في مهماتهم يقوم بها أتم قيام -
فاشتد ركونهم إليه - وخصوه هم بها فلايثق أحد منهم فيها بغيره، فصارت
له بذلك سمعة، وكان يتجوه على كاتب السر فتح الله بناظر
(3/409)
الجيش ابن نصر الله، وعلى ناظر الجيش بكاتب
السر فتح الله، وعلى سائر الأكابر بهما معاً، فحوائجه مقضية عند
الجميع، ولما باشر نيابة الحكم أظهر العفة ولم يأخذ على الحكم شيئاً،
فأحبه أكثر الناس وفضلوه على غيره من المهرة لهذا المعنى، وحفظت عنه
كلمات منكرة مثل إنكاره أن يكون في الميراث خمس أو سبع لأن الله لم
يذكره في كتابه، وغير ذلك من الخرافات التي كان يسميها المفردات، وحج
بأخره فذكر لي صلاح الدين بن نصر الله عنه أموراً منكرة من التبرم
والإزدراء - فنسأل الله العفو! وكان مع شدة جهله عريض الدعوى غير مبال
بما يقول وبفعل مات في يوم الإثنين خامس عشرى رجب وقد أناف على
الثمانين.
حسين نجم الدين بن عبد الله، السامري الأصل كاتب السر بدمشق، وقد جمع
بينها وبين نظر الجيش بعناية صهره زوج بنت امرأته ازبك الدوادار،
واستقر بعده كمال الدين البارزي في كتابة السر بدمشق وشهاب الدين
الشريف نقيب الأشراف في نظر الجيش، وكان موت حسين المذكور في - يوم
الأربعاء لست بقين من جمادى الآخرة -، وكان عريا عن العلوم جملة والعجب
أنه كان باسمه التدريس بدار الحديث الأشرفية بدمشق! وأول ولايته لكتابة
السر كان في أول سنة إثنتي عشرة، ثم صرف وباشر عند الأمراء، وأول
(3/410)
ولايته نظر الجيش سنة خمس وعشرين في صفر،
ثم أضيفت إليه كتابة السر في جمادى الآخرة منها وصرف عن كتابة السر في
سنة ثمان وعشرين، ثم أعيدت إليه في ربيع الآخر سنة ثلاثين، واستمرتا
معه إلى أن مات.
سعيد بن عبد الله المغربي، المجاور بالجامع الأزهر وأحد من يعتقد
ويزار، وكان عنده مال جم من ذهب وفضة وفلوس يشاهده الناس فلا يجسر أحد
على أخذ شئ منه، وكان عنده ذهب هرجة يخرجه أحيانا ويصففه، وقد شاع بين
الناس أن من اختلس منه شيئا أصيب في بدنه، فلا يقربه أحد، وكان حوله
قفاف ذوات عدد ملأى من الفلوس، وكان يحضر أحياناً ويغيب أحياناً إلى أن
مات - يوم الأربعاء - في تاسع عشر ربيع الآخر بعد مرض طويل، وقد زاره
السلطان مرة، ولما مات حمل المال الذي وجد له لبيت المال، وكانت جنازته
حافلة.
شرف بن أمير، السرائي ثم المارديني الكاتب المجود، تعانى الكتابة إلى
أن أتقن الخط على الطريقتين ابن البواب وياقوت، وتعلم منه أهل تلك
البلاد، وقدم حلب على رأس القرن، ثم حج في سنة تسع وعشرين، وذكر أن
اللنك طلبه من صاحب ماردين، فتغيب هو كراهية من قربه اللنك، ثم نزل حصن
كيفا وسكنها، وعلم الناس بها الكتابة، قربه صاحبها، قرأت ترجمته في
تاريخ القاضي علاء الدين بحلب - أيده الله -.
عبد الغني المعروف بابن الجيعان مستوفي الخاص، كان متمولا عارفاً بأمور
الديوان وبالمتجر، وقد حج في سنة ست وثمانمائة، مات في جمادى الآخرة،
وكان كثير السكون، وفي لسانه لثغة قبيحة، وعمر دارا هائلة بقرب الجامع
أخذ فيها أملاك الناس، فقدر أنها آل نظرها إلى بيت زوجته التي كانت
زوجاً لأزبك - الدوادار - فباعتها بأبخس ثمن وهو ألف دينار في سنة إحدى
وأربعين، وذكر لي كمال الدين كاتب السر في سنة خمس وأربعين أن مصروفها
كان أكثر من عشرة آلاف دينار.
(3/411)
قجقار شقطاي أحد الأمراء الصغار، تقدم في
دولة المؤيد وقرر رأس نوبة ولده إبراهيم وتوجه رسولاً إلى ملك الططر،
وعظم قدره في دولة الأشرف فصار زردكاشا، واستقر بعده فيها أحمد بن
الأسود الذي كان دويدارا صغيراً وكان مشكور السيرة كثير الرفق
بالفلاحين عارفاً بعمارة الأرض.
كمشبغا الجمالي، أحد أمراء الأربعين، كان عاقلاً وقوراً متديناً،
واستنابه الناصر فرج في بعض سفراته إلى الشام، ولما كانت دولة المؤيد
بطل من الإمرة وولى النظر على الخانقاه بسرياقوس وحمدت سيرته، ومات
بحلب بطالاً في سادس ربيع الآخر وجاوز الثمانين.
محمد بن أحمد بن علي، الشيخ شمس الدين الرملي المعروف بالشامي، ولد سنة
744، وسمع من أبي الحسن العرضي وتفرد بالرواية عنه بالسماع، وسمع أيضاً
من القلانسي وغيره، وسمع من موفق الدين القاضي وتفقه عليه، ولازم صهره
ناصر الدين، وناب في الحكم مدة، وكان جلداً قوياً يمشي وقد جاوز
الثمانين من بين القصرين إلى الشيخونية ليحضر وظيفة التصوف والدرس،
ويلازم دروسه في الطلب يمشي على رجليه ويقضي حوائجه وحوائج الناس
بنفسه، ولم يكن ماهراً في العلم ولا متصوناً في الدين ولا متثبتاً في
الحكم، وكان على ذهنه ماجريات طريفة، وتعصب على مجد الدين سالم لما عزل
من الحكم، وقام مع ابن المغلى قياماً عظيماً حتى كان يخدمه في جميع ما
يحتاج إليه حتى في شراء زيت القنديل، يتعاطاه بنفسه، مات في 22 شعبان -
سامحه الله -.
(3/412)
محمد بن أحمد بن موسى بن عبد الله، الشيخ
شمس الدين الكفيري العجلوني الأصل الدمشقي، ولد في العشر الأول من شوال
سنة 757، وحفظ التنبيه، وأخذ من ابن قاضي شهبة وغيره، ولازم الشيخ شمس
الدين الغزي مدة طويلة واشتهر بحفظ الفروع وكتب بخطه الكثير نسخاً
لنفسه ولغيره، وناب في الحكم وولى بعض التداريس، وحج مراراً وجاور،
وولى مرة قضاء الركب، وجمع شرحاً على البخارى في ست مجلدات وكان قد لخص
شرح ابن الملقن وشرح الكرماني ثم جمع بينهما، نقلت ترجمته من ابن قاضي
شهبة ونقلت من خط غيره أنه أجاز له محمد بن أحمد المنبجي ويوسف بن محمد
الصريفي، وأنه سمع على ابن أميلة وابن أبي عمر وابن قواليح وابن المحب
وابن عوض والعماد وابن السراج وابن الفصيح وغيرهم وأنه صنف عين النبيه
في شرح التنبيه واختصر الروض للسهيلي فسماه زهر الروض، وكان لا يعرف
شيئاً من العلوم سوى الفقه، وينظم ولا يعرف العروض، وكان كثير التلون،
مات في 13 المحرم.
محمد بن حسين، شمس الدين التروجي المالكي، اشتغل وتعاني النظم فقال
الشعر الحسن فأكثر، مات تحت الهدم في تاسع عشر صفر عن ستين سنة.
(3/413)
محمد بن عبد الدائم بن عيسى بن فارس،
البرماوي الشيخ شمس الدين، ولد في نصف ذي القعدة سنة 763، وكان اسم
والده فارساً فغيره البرماوي، وتفقه وهو شاب، وسمع من إبراهيم بن إسحاق
الآمدي ومن عبد الرحمن بن علي القارئ وغيرهما، وسمع معنا من جماعة من
المشايخ، ولازم الشيخ بدر الدين الزركشي وتمهر به، وحضر دروس الشيخ
سراج الدين البلقيني وقرأ عليه بعضها وقد سمعت بقراءته على الشيخ مختصر
المزني، وأول ما تخرج بقريبه الشيخ مجد الدين إسماعيل وقد عاش بعده،
وكان حسن الخط كثير المحفوظ قوى الهمة في شغل الطلبة حسن التودد لطيف
الأخلاق ضيق المال كثير الهم بسبب ذلك، ثم اتسع حاله بأخرة، وله
منظومات وتصانيف منها شرح العمدة ومنظومة في أسماء رجالها وشرحها وشرح
البخارى في أربع مجلدات، وكان غالب عمره خاملاً، ثم ولي نيابة الحكم عن
ابن أبي البقاء، وصحب ولده جلال الدين، ثم ناب عن الجلال البلقيني ثم
عن الإخنائي، ثم ترك ذلك وأقبل على الإشتغال، وكان للطلبة به نفع وفي
كل سنة يتم كتاباً من المختصرات فيأتي على آخره ويعمل له وليمة، ثم
استدعاه نجم الدين ابن حجى وكان رافقه في الطلب عند الزركشي فتوجه إلى
دمشق، فقرره في وظائف كثيرة واستنابه في الخطابة والحكم ونوه به، فلما
مات ولده محمد وكان ولداً نجيبا وحفظ عدة مختصرات
(3/414)
أسف عليه وكره الإقامة بدمشق، فزوده ابن
حجى وكتب له إلى معارفه كتباً أطراه فيها إلى الغاية، فتلقاها أولئك
بالقبول واعتقدوا فيه تلك الأوصاف فقاموا معه حد القيام حتى قرروه في
مباشرة وظائف الشيخ ولي الدين العراقي نيابة عن حفيده وكانت عند موته
قررت باسمه، فباشر الجميع بعد إن كان العراقي قد أوصى أن ينوب عن حفيده
في درس الحديث من عينه وكذا في دروس الفقه، وباشر بعض ذلك وقرر الناظر
الشرعي على أوقاف المدرسة الجمالية الشيخ ناصر الدين البارنباري أحد
المهرة في العلوم في نيابة المشيخة والتدريس، وباشر ذلك مدة مع شدة
استحقاقه من أوجه، فلم يلتفت البرماوي لذلك بل لبس للنيابة عن الصغير
تشريفاً وباشر الجميع، ولم يرع حق البارنباري مع ظهور استحقاقه فباشر
البرماوي ذلك من أثناء سنة تسع وعشرين، إلى أن حج في سنة ثمان وعشرين
جاور بمكة سنة تسع وعشرين، فلما حضر أول سنة ثلاثين قرر في تدريس
الصلاحية ببيت المقدس عوضاً عن الهروي في آخر المحرم ثم سافر إلي القدس
في رجب من هذه السنة فباشرها نحو السنة مع ملازمة الضعف له إلى أن مات،
وتفرقت كتبه وتصانيفه شذر مذر - عفا الله تعالى عنه! واستقر في تدريس
الصلاحية بعده عز الدين عبد السلام بن داود بن عثمان المقدسي بعناية
القاضي بدر الدين بن مزهر كاتب السر، وتأخر سفره إلى ذي القعدة، وكان
نزل عن غالب وظائفه بمصر والقاهرة ببذل من المنزول له كتدريس الحديث
بالجمالية وتدريس
(3/415)
الخروبية في الفقه بمصر، استقدمه ابن حجي
إلى دمشق سنة إحدى وعشرين، فأجلسه بالجامع يقرئ ويفتي ثم رجع إلى مصر،
ثم استقدمه سنة ثلاث وعشرين وفاستنابه في الحكم، وولي إفتاء دار العدل
عوضاً عن الشهاب الغزي، ثم ولاه تدريس الرواحية وغيرها عوضاً عن برهان
الدين بن خطيب عذراء، وتدريس الأميننية عوضاً عن عز الدين الحسباني،
وعكفت عليه الطلبة فأقرأفي جمادى ورجب وشعبان الحاوي في سنة والتنبيه
في سنة والمنهاج في سنة.
محمد بن يعقوب، البخانسي شمس الدين الدمشقي، ولي حسبة الشام ثم القاهرة
في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة وولي وزارة دمشق؛ ومات في ثالث المحرم.
محمد بن يوسف بن عبد الرحمن تقي الدين القرشي الدمشقي، ولد سنة نيف
وستين، وتعاني المباشرات إلى أن ولاه نوروز الوزارة بدمشق ثم كتابة
السر، وولي قضاء طرابلس سنة ست عشرة، ثم رجع إلى دمشق وباشر التوقيع،
واستمر ينوب في كتابة السر إلى أن مات، وكان فاضلاً في فنه ساكناً كثير
التلاوة منجمعاً عن الناس؛ ثم مات في جمادى الآخرة.
(3/416)
محمد بن خطيب قارا، الشيخ شمس الدين، كان
متمولاً، ولي قضاء صفد وحماة وغيرهما يتنقل في ذلك، وفي اواخر أمره
تنجز مرسوماً من السلطان بوظائف الكفيري ونيابة الحكم بدمشق، وقدمها
فوجد الوظائف انقسمت بين أهل الشام، فجمع أطرافه وعزم على السعي في
قضاء دمشق، وركب البحر ليحضر بما جمعه إلى القاهرة، فغرق وذهب ماله،
وذلك في رجب منها.
يشبك بن عبد الله الأمير الكبير الساقي الأعرج الظاهري، اشتراه برقوق
وهو شاب، ثم تأمر في اول دولة الناصر، وخرج من القاهرة في كائنة جكم
ونوروز ببركة الجيش، فتنقل في تلك السنين في الفتن إلى أن قتل الناصر
فصار من فريق نوروز فأرسله إلى قلعة حلب ليحفظها، وكان من إخوة ططر وقد
صار من فريق المؤيد، فلم يزل يراسله حتى حضر عند المؤيد، فلما قتل
نوروز أراد المؤيد قتل يشبك، فشفع فيه ططر فاعفاه من القتل، وأمر
بتسفيره إلى مكة بطالاً، فتوجه إليها ودخل اليمن، ثم سعى له إلى أن عاد
إلى القدس فأقام به بطالاً، فلما تمكن ططر من المملكة أمر بإحضاره فوصل
إليه وهو بدمشق، وتوجه معه إلى حلب فاقامه في حفظ قلعتها، ثم لما رجع
وتسلطن أرسل إليه فحضر فأمره، ثم كان من كبار القائمين بدولة الأشرف
وسلطته فرعى له ذلك وأسكنه في القلعة معه، ثم صيره أتابك العساكر بعد
قطج، وكان من خيار الامراء محباً في الحق وفي اهل الخير كثير الديانة
والعبادة كارهاً لكثير من الامور التي تقع على خلاف مقتضى الشرع، وعك
صبيحة موت جانبك فلم يزل يتنقل في المرض إلى أن مات يوم السبت الثالث
من جمادى الآخرة، واستقر في الأتابكية بعده جراقطلي نقلاً من نيابة
حلب، واستقر نور الدين ابن مفلح على نظر المارستان بعد أن كان نور
الدين السفطي قد سعى فيها ليعود إليها، فلم يتم له أمر بعد أن هيئت
خلعته وكذا سعى فيها جماعة، فبطل سعيهم.
(3/417)
سنة اثنتين وثلاثين
وثمانمائة
في أولها نقص النيل عن الغاية التي انتهى إليها ذراعاً وثلثي ذراع فإنه
كان انتهى إلى عشرين ذراعاً، ثم أسرع في النقص حتى منع السقائين من
الملء من الخليج في عاشر الشهر، وصار الماء على ستة عشر ذراعاً وذلك في
رابع عشر بابه، فبادر الناس إلى الزراعة واشتغلوا بها، فلما كان في
النصف منه وذلك في أواخر بابه وقع برق متوالي من الغروب إلى أن مضت من
الليلة هجعة فوقع رعد شديد مزعج فتمادى، ثم أعقبه مر كافواه القرب إلى
أن مضى ثلث الليل الأول، فدلفت السقوف من البيوت الكبار فضلاً عن
الصغار وسقطت أماكن وانزعج الناس انزعاجاً ما عهد مثله في هذه الازمنة
في مثل هذا الوقت، وأصبحت أزقة البلد كالخلجان وكثر الوحل جداً وشراع
الناس في تنظيفها، ولم يعهد مثل ذلك بالقاهرة إلا إذا أمطرت مراراً،
ووصل الخبر بانها أمطرت بالبهنسا برداً في قدر بيضة الدجاجة والحمامة،
وهلك بسبب ذلك من الحيوان شيئ كثير جداً. وفي ربيع الأول شغب الجند على
الأستادار ونهبوا بيته بسبب تأخير النفقة، فاحضر السلطان الأستادار
فضربه بحضرته ثم خلع عليه واستمر، وأنفق من خزانته شهرين، وعمل المولد
السلطاني على العادة في اليوم الخامس عشر، فحضره البلقيني والتفهني
وهما معزولان، وجلس القضاة المسفزون على اليمين وجلسنا على اليسار
والمشايخ دونهم، واتفق أن السلطان كان صائماً، فلما مد السماط جلس على
العادة مع الناس إلى إن فرغوا، فلما دخل وقت المغرب صلوا ثم أحضرت سفرة
لطيفة، فاكل هو ومن كان صائماً من القضاة وغيرهم.
(3/418)
وفي شهر ربيع الآخر التزم نور الدين
الطنبذي كبير التجار بالقاهرة أن يأخذ من السلطان ستين الف دينار ليتجر
له فيها ويقوم للأستادار بالربح، وكانت له به عناية لأنه كان صديقه
وصديق أبيه من قبله فأجيب لذلك، فشرع في تحكير السكر وأن لا يباع إلا
بأمره، ودخل في امور شنيعة وكثر الدعاء عليه، وعورض كثير من أهل الدولة
في ذلك ولم يستمر ذلك إلى آخر السنة.
وفي ربيع الآخر أمر السلطان نواب القضاة أن لا يحبس أحد على أقل من
ألف، وفيه نزل السلطان من القلعة مختفياً إلىالقاهرة فدخل بيت القاضي
ناظر الجيش بغتة، فاندهش الرجل وقدم ما تيسر، ثم صحبه بألفي دينار وخيل
وبغال وتقدمة، وفي هذا الشهر نودي على الفلوس أن يباع الرطل المنقى
منها بثمانية عشر درهماً، ففرح من كان عنده منها حاصل، وحزن من عليه
منها دين، لما يقاسمونه من نواب الحكم في إلزامهم إعطاء ذلك بالوزن
الاول، وفيه بحث كثير وثبت أن ذلك لا يلزم على الإطلاق بل لا بد من
الشروط، واقتضى الحال كتابة مراسيم للشهود أن لا يكتبوا وثيقة في
معاملة ولا صداق ولا غيره إلا بأحد النقدين: الذهب أو الفضة، بسبب شدة
اختلال أحوال الناس واختلاف أحوال الفلوس التي صارت هي النقد عندهم في
عرفهم مع عزة الفلوس وعدمها، كان يكتبون ذلك بالفلوس مع تحققهم أن لا
وجود لها، أن لا حقيقة لذلك الإقرار، ثم إذا نودي عليها بأن يزاد سعرها
يصير من كتبت له يطالب بذلك الوزن فأجحف ذلك بالناس، فحسمت هذه المادة
من هذا التاريخ على يد من وفقه الله لذلك وهو كاتبه، وتمادى الاختلاف
بسبب ما كان كتب اولاً، فلم يزل يضمحل بحمد الله تعالى.
وفي رجب استقر جلال الدين محمد بن بدر الدين محمد بن مزهر في كتابة
السر عوضاً عن أبيه وهو شاب أمرد كثير الخجل والسكون، فباشره معه شرف
الدين
(3/419)
سبط ابن العجمي، وقام معه بأعباء الوظيفة
إلى أن انفصل عن قرب، وكوتب الشريف بن عدنان كاتب السر بدمشق فتباطأ في
الحضور.
وفي يوم الجمعة الثاني من شعبان تأخر اللحم عن المماليك الذين في
الطباق يوم الخميس فأصبحوا يوم الجمعة - فصبح منهم بيت الوزير جمع
فهجموا عليه بيته الذي بحارة زويلة فكسروا أبوابه ونهبوا ما فيه، وكسرت
عدة أواني من الصيني، واستلبوا ثياب النساء والجواري، وأفسدوا رخام
منزله، وهرب الوزير في بيت الجيران، ثم ثارت في سادس شعبان بين جماعة
من المماليك السلطانية وبين الأمير الكبير جارقطلي، فأرادوا أن يهجموا
عليه فاغلقت الأبواب، فأرادوا إحراق الدار فبرز إليهم راكباً، فنكصوا
عنه ودخلوا بين القصرين، فوقعت في العوام هجة فأغلقت أبواب المدينة،
وأمسك من مماليك الأمير الكبير ثلاثة أنفس فضربوا بحضرة السلطان، فبلغ
ذلك الامير الكبير فغضب وسكنت الفتنة، ثم إن السلطان تلطف بالمماليك.
وفي اوائل شعبان هجم ساحل الإسكندرية خمسة مراكب من الفرنج فعبثوا،
فبادر عبد القادر بن أبي الفرج الأستادار وساق معه جماعة من عرب
البحيرة ودخل الإسكندرية، فقويت بهم نفوس أهل الثغر ونكص الفرنج على
أعقابهم بعد أن جرح منهم جماعة، وكفى الله المؤمنين القتال.
وفي ذي القعدة هرب قنصل الفرنج الجنوية ومن معهم الذين كانوا مقيمين
بالإسكندرية، وفي جهتهم لتجار المسلمين أكثر من عشرين ألف دينار، وكانت
إقامتهم بالإسكندرية قد طالت حتى أن اكثرهم إنما ولد بها، وكاوا يخرجون
في كل يوم بعد عشائهم فيتمشون بالساحل عادة لهم بعد الأكل، فلما كثرت
عليهم المظالم التي لم يألفوها رتبوا أمرهم وهربوا في
(3/420)
بعض المراكب ووجدوا في نواحيهم مركبين حضر
من بلادهم فردوهم، فانزعج السلطان والمسلمون لذلك - وكان ما سنذكره.
وفي تاسع ذي القعدة كسر الخليج الناصري، وكان النيل وصل في اول يوم من
ذي القعدة وهو يوم الجمعة إلى خمسة عشر ذراعاً وشيء، ثم وصل في رابعه
إلى تسعة عشر إصبعاً من السادس عشر وتوقف أربعة ايام، فضج الناس
وأقبلوا على شراء القمح وغيره خشية استمرار التوقف، فجمع السلطان
القضاة والفقراء عنده وقرئ عنده القرآن وابتهلوا بالدعاء واصبح، في
اليوم الثامن فركب إلى الآثار فزار ودع وتصدق، فاتفق أنه أوفى في صبيحة
ذلك اليوم، وباشر كسر الخليج محمد ولد السلطان.
وفي نصف ذي الحجة استقر الشريف شهاب الدين احمد بن علي ابن عدنان
الحسني نقيب الأشراف بالشام في كتابة السر بمصر، وألبس خلعة خضراء
بطرحة خضراء، وصرف جلال الدين ابن مزهر وكان قد استقر فيها بعد والده،
ولم يعهد في الدولة التركية أن وظيفة كاتب السر تمتهن هذا الامتهان
بحيث يتولاها شاب صغير وتدور بين ثلاثة في سنة واحدة ولم تكن العادة أن
يتولاها إلا من جرب عقله ومعرفته ثم لا ينفصل عنها إلا بالموت غالباً.
وفي جمادى الآخرة حاصر ابن قرا يلك مدينة خرت بزت فبلغ ذلك السلطان،
فجرد عدة من الامراء والمماليك وأنفق فيهم وارسل إلى المماليك الشامية
بالخروج معهم، فإلى أن وصلوا تصالح قرا يلك والنائب بها وتسلمها قرا
يلك، فوصل العسكر بعد ذلك إلى الرها، فانتهبوها وقتلوا من أهلها مقتلة
عظيمة وافحشوا في ذلك، واسروا ولد قرا يلك وارسلوه إلى القاهرة، واتفق
ورود الخبر بذلك يوم وفاء النيل في تاسع ذي القعدة.
وفي شوال وعك كاتبه ثم عوفي في ذي القعدة، فاستعرض أهل السجون فصولح من
له دين من مال كاتبه، وحصل لجمع كثير من الناس فرح كبير، أما صاحب
الدين فلياسه
(3/421)
من حصول شيء من المسجون، وأما المسجون فلما
كان يقاسيه من شدة الحر وغيره من الضيق - فلله الحمد.
وفيها نازل إسكندر رسل محمد - ابن قرا يوسف السلطانية وقتل متوليها من
جهة شاه رخ ملك الشرق ووقعت بينه وبين إسكندر بن قرا يوسف وقع، فانكسر
إسكندر وانهزم إلى الجزيرة وقد تمزق عسكره.
وفي هذه السنة غزاه شاه رخ ملك الرق ابن قرا يوسف فأوقع به خارج تبريز،
ودخل شاه رخ تبريز فخربها بحيث صارت قاعاً صفصفاً، وجلا أهلها عنها إلى
سمرقند؛ وأعقب رحيله عنها جراد عظيم أفسد الزرع كله، وعاثت الاكراد
بعده فيمن بقي فما أبقوا لهم شيئاً.
وفيها أغار قرا يلك على الرها فنازلها وأخذ قلعة خرت برت، وسلمها
لولده، فتوجهت العساكر إليها فحاصروا الرها وبها هابيل بن قرا يلك
واسمه عثمان، فلم يزالوا حتى أخذوها ونهبوها، وأفحشوا حتى بلغني لما
دخلت حلب أنهم فعلوا فيها شيئاً أشد مما فعل التتر بدمشق من التحريق
والتخريب والفساد بالنساء والصبيان وقتل الانفس بالسيف والتحريق - فلله
الأمر.
وفيها أنقطع جسر زفته فغر البلد وخربت منه عدة دور.
(3/422)
وفي أول هذه السنة تلفت السلطان إلى المتجر
بإغراء الخازندار له، فامر بتجهيز مال إلى جدة ليشتري له وحجر على
الفلفل أن يشتري لغيره، وألزم جميع التجار أن لا يتوجه أحد ببضاعة إلى
الشام ولا غيرها بل إلى القاهرة ولا يباع إلا بالإسكندرية بعد أن يكتفي
السلطان، والزم الفرنج بشراء الفلفل بزيادة خمسين ديناراً عن السعر
الواقع، فاشترى الفرنج شيئاً ورجعوا باكثر بضائعهم وما معهم ن النقد
إلى بلادهم، فلم يحصل للسلطان مقصوده، وحصل على التجار من البلاء مالا
يوصف، وتمادى الامر على ذلك ولا يزداد الأمر في سنة إلا شدة.
وفيه حجر على باعة الثياب البعلبكي والموصلي والبغدادي ثم بطل ذلك.
وفيه حجر على السكر مدة ثم بطل أيضاً.
وفي شهر ربيع الآخر عقد مجلس عند كاتب السر اجتمع فيه القضاة ومشايخ
العلم بسبب أن السلطان اشترى من وكيل بيت المال أرضاً ثم وقفها، وثبت
ذلك عند الشافعي ونفذه الباقون إلا الحنفي فادعى أن الحكم باطل، واستند
إلى أن علم الدين ولد شيخنا البلقيني ذكر له البطلان، ووافقه بعض نواب
الحكم من الشافعية المنفصلين، وكان القائم في امر الشراء المذكور ناظر
الجيش، فامر كاتب السر أن يستفتي علماء الشافعية في ذلك، فأفتوا
بالجواز إلا القمني والعلم، فلما حضروا وقع البحث في ذلك، فرجع القمني
وقال: إذا استوفى الحاكم الشروط صح البيع، وكان قبل ذلك كتب بأن البيع
لا يصح وأطلق، وأما العلم فاعتل بأنه يلزم من ذلك اتحاد الموجب والعابل
وذلك لا يختص كما يتعاطى الجد لحفيده، وأن وكيل بيت المال وكيل السلطان
فإذا اشترى السلطان من وكيله فكأنه اشترى من نفسه، وفاته ما صرح به
جماعة من العلماء بأن وكيل بيت المال وكيل عن الجهة للمسلمين لا عن
خصوص السلطان، وإنما وظيفته ولاية لا نيابة وقد صرح بذلك السبكي وغيره؛
ثم ظفرت بأن ذلك صنع للسلطان صلاح الدين في وقف الصلاحية ببيت المقدس
ونقله السبكي في فتاويه، وقال الأذرعي في شرح المنهاج: اغتر بعض الناس
بتسميته وكيلاً فقال: إنه ينعزل بموت السلطان، هو غلط، ثم أحضر حكم
الدين البلقيني في مثل ذلك وكذلك من قبله أبو البقاء وعز الدين ابن
جماعة، فاصر على دعوى البطلان وأصر الحنفي على الامتناع ن التنفيذ
اعتماداً على قول المذكور مع قصوره في الفهم ونزارة ما عنده من العلم،
ثم حملته العصبية على أن اجتمع بالسلطان وعرفه أن البيع باطل وأن
الشافعية راعوا القاضي الشافعي فوافقوه فيما عمل، فأمرهم بالاجتماع
عنده فحضروا يوم الاثنين ثامن الشهر المذكور، فبدا الشافعي فسأل
الحنفي: لم امتنعت من تنفيذ هذا الحكم؟ فقال: لأن الشافعية قالوا إنه
باطل فوقفته على فتاوي الشافعية فاسند الامر للقمني وللعلم فوقفته على
فتوى القمني الثانية فقال: هذا لا يعتمد عليه لأنه تناقض، فسئل العلم
في المجلس عن مستنده في دعوى البطلان فقال: نص الشافعي في عيون المسائل
أن الوالي في رعيته بمنزلة الوصي في مال اليتيم، فسئل ما وجه الدلالة
من هذا النص لصورة المسألة، فخلط في جوابه وانتقل فأخرج له نص الشافعي
في مختصر المزني بأن المراد بذلك فيما يتعلق برعاية المصلحة للجهتين
فكابر، فرد عليه من حضر وقالوا: إذا كان الكلام مطلقاً وذكر له في موضع
آخر قيد وجب الحمل عليه وعمل بالخاص، ثم استظهر الشافعي بأن للسلطان أن
يقف ما يراه من أراضي بيت المال على من يراه، وأن الوصي ليس له ذلك في
مال اليتيم، فدل على أن النص ليس على عمومه، فاستمر على العناد فبان
للجماعة قصوره وتعصبه. وأما الحنفي فتبين له أن لا حجة للقمني والعم
فأصر على التعصب وقال: لا يجب على التنفيذ وكأنه خشي أن ينفذ في الحال
فيقال إنه غلب فجنح إلى هذا العذر، وانفصل المجلس على ذلك؛ وسئل علماء
الحنفية عن ذلك فقالوا: بل يجب على الحاكم إذا اتصل به حكم غيره وسأله
صاحب الحق التنفيذ أن يفعل، وممن كتب بوجوب ذلك عليه وإثمه إذا لم يفعل
التفهني وابن الديري ونظام الدين السيرامي وصدر الدين ابن العمي وعبد
السلام البغدادي وكمال الدين ابن الهمام بدر الدين القدسي وأمين الدين
الأقصر أي والقاضي المالكي والقاضي الحنبلي، فيما بلغه ذلك استفتى فما
إذا حصلت عند العجمي ريبة في الحكم هل يجب عليه أن ينفذه مع الريبة،
فطافوا بها فلم يكتب عليها أحد، فأشير عليه بأن يرجع وينفذ، فآل الأمر
إلى أن نفذ الحكم بعد ذلك في السادس عشر من الشهر المذكور.
وفي اواخر شهر ربيع الآخر قدم فيروزمن المدينة وخلع عليه بعد أيام وعاد
إلى مكانه، وزاد تمكناً بحيث اقتصر السلطان من القدماء عليه وعلى التاج
الوالي وولي الدين ابن قاسم وأحمد الأحدب الشامي ومراد العجمي - هؤلاء
قدماء الحضرى، ومن طرأ عليهم من غيرهم مقتوه إلىأن يخرجوه.
وفي يوم الاثنين مستهل جمادى الآخرة استقر شهاب الدين أحمد ابن محمد بن
صلاح المعروف بابن المحمرة وبابن السمسار في قضاء الشام عوضاً عن أبي
البقاء ابن حجي، وبقيت بيده مشيخة سعيد السعداء وتدريس الشيخونية وغير
ذلك من جهاته بالقاهرة، فاستناب فيها وسافر في رجب
وكان السلطان طلب العلم البلقيني وفوض إليه قضاء الشام فامتنع وقال:
أنااوثر به وجه السلطان في هذا الشهر مرة علىهذا، فقال له: قد بعث
النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلىاليمن فلم بعتذر بمثل هذاّ فتعجب
من حضر من استحضاره هذه القصة المناسبة، ولم يؤثر ذلك في العلم لشوقه
إلى العود بالقاهرة، فلما استقر ابن المحمرة أرسل له السلطان محقة وأذن
له أن يستنيب في وظائفه بالقاهرة. وفه استقر جمال الدين يوسف ابن الصفي
الكركي في نظر الجيش بدمشق عوضاً عن الشريق شهاب الدين، واستقر شمس
الدين محمد بن علي بن عمر الصفدي في قضاء الحنفية بدمشق عوضاً عن
القاضي شهاب الدين ابن الكشك نقلاً من القضاء بطرابلس، واستقر في قضاء
طرابلس ولد الصفدي المذكور.
وفي ليلة الخميس ثاني عشر جمادى الآخرة هبت ريح بالتراب برقة الأهواء،
فأثارت منه ما ملأ البيوت وكاد الناس يهلكون من الغم وأصبح الجو أصفر.
وفي ليلة النصف خسف القمر ولم يشعر به أكثر الناس.
وفي ثالث شعبان استقر نظام الدين عمر بن القاضي تقي الدين إبراهيم ابن
الشيخ شمس الدين محمد بن مفلح في قضاء الحنابلة بدمشق عوضاً عن القاضي
شهاب الدين ابن الحبال، وكان ابن الحبال قد ضعف بصره حتى قيل إنه عمي
وقوي صمعه وضعفت قوته، فلما استقر نظام الدين وبلغه ذلك تحول إلى بلده
طرابلس، فأقام بها إلى أن مات في السنة المقبلة.
وفي شعبان هجم جماعة من المماليك بيت الوزير فنهبوا، وكانت كائنة
شنيعة؛ وفيه اشتد فساد المماليك الجلب وأفسدوا حتى منع السلطان الناس
عن العمل إلا عن أمره إشفاقاً عليه، وسار الامراء إلى خرت برت فأوقعوا
بمن فيها. وفيه وقع الوباء بدرندا. وفيه قدم نائب الشام سودون من عبد
الرحمن وقدم معه كاتب السر ابن البارزي ثم رجعا على وظيفتيهما، وسار
بعدهم العسكر المجهز إلى البلاد الحلبية وهم: الحاجب الكبير والدويدار
الكبير وغيرهما، ومعهم من الطبلخانات والعشراوات جماعة ومن المماليك
السلطانية أربعمائة نفس، فوصلوا إلى حلب وأقاموا بها لحفظها من
التركمان، ثم وقعت لهم مع التركمان وقعة قتل فيها ولد لقرايلك صاحب تلك
البلاد، وصادف وصول الخبر بذلك يوم وفاء النيل، فحصل للناس بذلك بشران،
وشاع أن قرا يلك مات ثم تبين كذب الإشاعة. وفيها قدم بيرم التركماني
صاحب هيت فاراً من أصبهان من قرا يوسف، فأكرمه السلطان واجرى له راتباً
ثم أقطعه ناحية من الفيوم. وفيها في رجب استقر سودون من عبد الرحمن
أتابك العساكر نقلاً من نيابة الشام، واستقر في نيابة الشام جارقطلي
عوضاً عنه.
ذكر من مات
في سنة 832 من الاعيان
أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن أبي بكر بن عبد الوهاب، المرشدي المكي أخو
محمد وعبد الواحد، ولد سنة ستين وسبعمائة، وسمع من عبد الرحمن بن عل
التغلبي ابن القارئ جرء ابن الطلابة أنا الأبرقوهي، ومن محمد بن أحمد
بن عبد المعطي صحيح ابن حبان أنا الرضي والصفي الطبريان، ومن عبد الله
بن أسعد اليافعي صحيح البخاري، ومن عز الدين ابن جماعة من مناسكه
الكبرى - ومن غيرهم،
(3/423)
وأجاز له الصلاح ابن أبي عمر وابن أميلة
وابن هبل وابن قواليح وأبو البقاء السبكي وآخرون، وحدث؛ ومات بمكة يوم
الخميس رابع ذي القعدة، وقد حدث قبل موته بسنة بشرح السنة لبغوي بإجازة
من بعض شيوخه، ومن قبل موته بشهر بالشمائل بإجازته من الصلاح المذكور.
أحمد بن عمر بن أحمد بن عيسى، الشاب التائب شهاب الدين المصري الشاذلي،
نزيل دمشق، ولد في ذي الحجة سنة سبع وستين، واشتغل بالفقه قليلاً،
وتعاني المواعيد فمهر فيها، وكان يلقي من حفظة عنان، وطاف البلاد في
ذلك فدخل اليمن مرتين ثم العراق مراراً ودخل حصن كيفا وكثيرا من بلاد
الشرق وأقام بدمشق مدة وحج مراراً، وكان فصيحاً ذكياً يحفظ شيئاً
كثيراً، وله رواج زائد عند العوام، وبنى عدة زوايا بالبلاد؛ مات في
رجب.
برسبغا الجلباني، تقدم في أيام الناصر فرج بواسطة عبد اللطيف الطواشي
وكان
(3/424)
يخدمه، واستقر في الدويدارية، وكان فصيحاً
عارفاً لا يظن من عرفه إلا أنه من أولاد الناس، وكان نفي في الدولة
المؤيدية إلى القدس، ثم أعيد في الدولة الأشرفيةوباشر الدوالب
السلطانية بالصعيد؛ مات في شهر رجب.
خشرم بن دوغان بن جعفربن هبة الله بن جماز بن منصور بن جماز مع رفيقه
كما ذكرنا في عجلان.
رابعة بنتي زوج شيخ الشيوخ محب الدين ابن الأشقر ماتت وكان مولدها في
رجب سنة إحدى عشرة، وكانت قد تأهلت بشهاب الدين ابن مكنون قبله، وسمعت
معي في سنة خمس عشرة من الشيخ زين الدين ابن حسين بمكة، وأجاز لها جمع
كثيرمن أهل مصر والشام - عوضها الله الجنة.
سعد الآمدي سعد الدين، نزل بطرابلس وشغل الناس في الحاوي، ولم يكن
مشكوراً في دينه؛ مات في جمادى منها.
عبد المعطي زين الدين الكوم الريشي الحنفي، مات في هذه السنة - وقد
تقدم خبره في حوادث سنة عشر وثمانمائة.
(3/425)
عجلان بن نعير بن منصور بن جماز بن شيحة بن
قاسم، العلوي الحسيني، أمير المدينة، قبض عليه في سنة إحدى وعشرين
وثمانمائة فسجن ببرج في القلعة، ثم أفرج عنه بمنام رآه القاضي عز الدين
عبد العزيز بن علي الحنبلي فقصه على المؤيد، وأمر بالإفراج عنه في ذي
الحجة. وقتل فيها ايضاً قريبه خشرم بن دوغان بن جعفر بن هبة الله ابن
جماز بن منصور.
علي بن حسين بن علي، الحاضري نور الدين، ولد في جمادى الأولىسنة 755،
واشتغل وباشر عدة وظائف سلطانية، وكان كثير التودد طلق الوجه حسن
العشرة، وكان في دولة منطاش قد أهين ونفي، ثم عظم لما عاد الظاهر وتولى
ابن أخيه بيبرس الدويدارية؛ مات في العشرين من شعبان وقد شاخ ورق حاله.
علي بن محمد بن يوسف، التوريزي نور الدين، كان أبوه من كبار التجار
ونشأ هو في كنفه، ثم مات أبوه واشتهر بالتجارة أخواه الجمال محمد
والفخر أبو بكر، وتعاني هذا السفر إلى بلاد الحبشة والتجارة بها فشهر
بذلك، وصارت له عندهم منزلة وصورة كبيرة ووجاهة، وصارت كلمته عندهم
مقبولة لقيامه في خدمتهم بما يرومونه من النفائس التي يحضرها لهم من
القاهرة وغيرها، فلما أكثر من ذلك نقم عليه بعض الناس موالاته للكفار
الحبشة ونسبوه إلى شراء السلاح لهم والخيول، وعثر عليه مرة بشيء من ذلك
في الدولة المؤيدية، فاستتيب وأقسم أنه لا يعود، فلما كان في أثناء
العام الماضي زعم بعض من يتعصب عليه أنه توجه رسولاً من ملك الحبشى
إلىملك الفرنج يستحثه على المسلمين، وهذا عندي لا يقبل لأن معتقد
الطائفتين
(3/426)
مختلف، ويقال إنه دخل بلاد الفرنج بسبب
تحصيل صليب عندهم بلغ أمره ملك الحبشة فاحب أنيراه، ولما شاع ذلك عنه
خشي عى نفسه في مكان بالقرب من الخانقاه الناصرية بسرياقوس، فنم عليه
عبد السلام الجبرتي ووشى به إلى السلطان فامر والي القاهرة فقبض عليه،
فوجد معه امتعة من ملابس الفرنج وشيئاًمن سلاح وناقوسين من ذهب وكتاب
فيه مراسلة من صاحب الحبشة يستدعي منه أشياء يصوغها من صلبان ونواقيس
ويحضه على أن يشتري له مسماراً من المسامير التي سمر بها المسيح
بزعمهم، والكتاب كله بالحبشية فعرب فحبس، ثم عقد له مجلس ففوض السلطان
أمره للمالكي وذلك في حادي عشر جمادى الأولى، فتسلمه المالكي، وسمع
عليه الدعوى فأنكر، فشهد عليه صدر الدين ابن العجمي، والشيخ نصر الله
وآخرون وشهد أكثرهم بالاستفاضة، فأعذر إليه فيمن شهد عليه، فادعى عداوة
بعضهم وأعذر لبعضهم، فحم بقتله بشهادة من أعذر لهم، فضربت عنقه بين
القصرين تاسع عشر الشهر المذكور وهو يعلن بالشهادتين وقراءة القرآن
ويتبرأ من كل دين يخالف دين الإسلام، فتسلمه أهله فغسلوه وصلوا عليه
ودفن، ثم بعد أيام أعاد السلطان لأهله ماكان وجد له بين لأكثر الناس
أنه مظلوم، وذكر لي خادمي فاتن الطواشي الحبشي - وكان على هذا هو الذي
جلبه من بلاد الحبشة - أنه كان ببلاد الحبشة يواظب على الصلاة
والتلاوة، ويؤدب من لم يصل من أتباعه، وعنده فقيه يقرئ أولاده واتباعه
القرآن، وللمسلمين به نفع، وهم به في بلاد الحبشة في إكرام واحترام؛
ولم يمتع منشهد عليه بل لحق به بعد قليل كما سيأتي - والله أعلم بغيبه.
علي بن محمد بن الصفي، علاء الدين بن صدر الدين بن صفي الدين
الأردبيلي، شيخ الصوفية بالعراق، قدم دمشق سنة ثلاثين ومعه أتباع فحج
وجاور، ثم قدم دمشق
(3/427)
ولده ومعه جمع كثير، وذكروا أن له ولوالده
بتلك البلاد اكثر من مائة ألف مريد؛ ومات علاء الدين المذكور بعد رجوعه
من الحج ودخوله بيت المقدس في شهر ربيع الآخر.
علي السفطي نور الدين، كان يتعاني الشهادة عند الامراء، وباشر نظر
المارستان مدة، ثم ولي وكالة بيت المال والكسوة؛ ومات في اواخر جمادى
الآخرة وقد جاوزالخمسين.
محمد بن إبراهيم بن أحمد، الشيخ شمس الدين الصوفي، ناظر المارستان، ولد
سنة تسع وأربعين واشتغل بالعلم، وأحب المذهب الظاهري والانتماء إلى
الحديث، ورافق برهان الدين ابن البرهان لما دخل بغداد، ثم اتصل بالملك
الظاهر برقوق وقام معه لما عاد إلى السلطنة، فرعى له ذلك وولاه نظر
المارستان، ثم خشي منه فاستأذنه في الحج وتوجه فدخل اليمن وجال
فيالبلاد، ثم عاد بعد موت الظاهر بمدة فأقام بالقاهرة منجمعاً، وكان
يرجع إلى دين وتعبد، وعمي مدة إلى أن مات في مسجد بالكافوري في ليلة
الثلاثاء ثالث عشر المحرم منها.
محمد بن إبراهيم بن عبد الله، الشيخ شمس الدين الشطنوفي الشافعي ولد
بعدالخمسين وقدم القاهرة شاباً، واشتغ لميرزق الإسناد العالي بل كان
عنده عن التقى الواسطي ونحوه، واشتغل بالفقه ومهر في العربية، وتصدر
بالجامع الطولوني في القراآت
(3/428)
وفي الحديث بالشيخونية، وانتفع به الطلبة
لاتصابه لشغلهم متبرعاً بالجامع الازهر، وكان كثير التواضع مشكور
السيرة؛ مات في ليلة الاثنين سادس عشري ربيع الأول بعد علة طويلة.
محمد بن أحمد بن علي، الحافظ تقي الدين أبو الطيب الفاسي ثم المكي
المالكي، مفيد البلاد الحجازية وعالمها، ولد سنة خمس وسبعين وسبعمائة
وأجاز له بإفادة الشيخ نجم الدين المرجاني ابن عوض وابن السلار وابن
المحب وجماعة من الدماشقة، وعني بالحديث فسمع بعد التسعين من جماعة
ببلده، ورحل إلى القاهرة والشام مراراً، وولي قضاء بلده للمالكية، وهو
أول مالكي ولي القضاء بها استقلالاً، وصنف أخبار مكة وأخبار ولاتها
وأخبار من احتل بها من أهلها وغيرهم عدة مصنفات طوال وقصار، وذيل على
العبر للذهبي وعلى التقييد لابن نقطة، وعمل الاربعين المتباينة وفهرس
مروياته، وكان لطيف الذات حسن الاخلاق عارفاً بالامور الدينية
والدنيوية، له غور ودهاء وتجربة وحسن عشرة وحلاوة لسان، ويجلب القلوب
بحسن عبارته ولطيف إشارته، رافقين في السماع كثيراً بمصر والشام واليمن
وغيرها، وكنت أوده وأعظمه وأقوم معه في مهماته، ولقد ساءني موته وأسفت
على فقد مثله - فلله الامر! وكان قد أصيب ببصره وله في ذلك اخبرا، ومكن
من قدحه فما أطاق ذلك ولا أفاده؛ ومات في رابع شوال.
محمد بن سعيد، الصالحي، شمس الدين، نسبة للصالح صالح بن الناصر، وكان
سعيد مولى بشير الجمدار وبشير مولى الصالح فنسب شمس الدين لمولى مولاه،
وكان
(3/429)
أحد القراء في الجوق بالنغم، ويلقب سويدان،
وهو آخر الحلبة الأولى من تلامذة الشيخ خليل المشبب وممن قرا مع
الزرزاي وابن الطباخ، وقد حظي في أيام الناصر فرج، وولي حسبة القاهرة
مراراً وقد جاوز السبعين، وكانت بيده مشيخة العلانية وإمامة القصر وغير
ذلك؛ مات في يوم الاثنين صفر.
محمد بن عبد الله بن حسين، المعروف بابن المواز شمس الدين، اشتغل
كثيراً ونزل في بعض المدارس، وكان يؤدب أولاد أبي هريرة ابن النقاش،
الغالب عليه الانجماع؛ ومات فجأة يوم الأحد في ربيع الأول.
محمد بن عبد الله، شمس الدين الزفتاوي الملقب فت فت، كان يكتسب
بالشهادة ثم عمل التوقيع وتقدم في ذلك وأقرأ أولاد بعض الرؤساء وكان
ينوب في الحكم في بعض المراكز، وكان كثير التلاوة، خيراً، سليم الباطن،
أكمل الثمانين.
محمد بن عبد الوهاب بن محمد، الشيخ ناصر الدين البارنباري الشافعي، ولد
قبيل السبعين بيسير، وقد قدم القاهرة فاشتغل ومهر في الفقه والعربية
والحساب والعروض وغير ذلك، وتصدر بالجامع الأزهر احتساباً، وكان من
خيار الناس، ودرس وخطب وأفتى، واقرأ مدة بالقاهرة ودمياط وقد ذكرت ما
جرى له مع شمس الدين البرماوي في السنة الماضية، وأصاب ناصر الدين عقب
ذلك فالج أبطل نصفه، واستمر به موعوكاً إلى أن مات في ليلة الأحد حادي
عشر شهر ربيع الأول وقدناف علىالسبعين.
محمد ويدعى الخضر بن علي بن أحمد بن عبد العزيز بن القاسم، النويري
الشافعي، ولد في ربيع الآخر سنة 762، وتفقه قليلاً، واسمع على العز ابن
جامعة
(3/430)
وابن حبيب وابن عبد المعطي والاميوطي ومن
بعدهم، وأجاز له البهاء ابن خليل والجمال الأسنوي وأبو البقاء السكي
وغيرهم، وناب في الحكم عن قريبه عز الدين بن محب الدين ابن ابي الفضل،
وولي قضاء المدينة مدة يسيرة ولم يصل إليها بل استناب ابن المطري وصرف،
وكان ضخماً جداً؛ مات في رابع عشر ذي الحجة وقد دخل السبعين، وانصلح
بأخرة، وهو والد أبي اليمن خطيب الحرم.
محمد بن بدر الدين محمد بن أحمد بن مزهر، الدمشقي بدر الدين، ولد سنة
786، ونشا في كنف ابيه ثم مات أبوه عنه وهو صغير، فكفله زوج أخته محي
الدين أحمد المدني، وتولى التوقيع عنده لما ولي كتابة السر بدمشق،
فاتصل بالمؤيد وخدمه وقدم.. ثم سلمه إلى نائب القلعة يشبك بن أزدمر
فحبسه عنده وضيق عليه إلى أن وقع الإفراج عنه بعد قتل الناصر، فقدم مع
التجريدة إلى القاهرة، فولي نظر الإصطبل، وباشر توقيع الدست مع
البازري، ثم صار نائب كاتب السر في مباشرة ولده فمن بعده إلى أن استقر
فيها استقلالاً فكانت مدته في ذلك نيابة واستقلالاً نحو تسع سنين، لأنه
باشر ذلك عقب وفاة ناصر الدين ابن البازري في ثامن شوال سمة ثلاث
وعشرين، وباشر في غضونها نظر الجيش نيابة عن ناظر الجيش لما حج في سنة
ست وعشرين، وكان فصيحاً مفوهاً عارفاً بالامور الدنيوية عرياً عن معرفة
الأمور الأخروية، إنماهمه الاعظم تحصيل الدرهم ولو كان فلوساً، حتى حصل
في هذه المدة ما يزيد على مائتي ألف دينار تمزقت بعده، وبقي منها ما
اشتراه من العقار فإنه بقي لذريته، وكان ابتدأ مرضه في اول ربيع الآخر
حصلت له ذبحة في حلقه فصار ينفث الدم قليلاً، ولم ينقطع عن الركوب إلى
الحادي والعشرين من الشهرالمذكور، فحصل له
(3/431)
رعاف كثير حتى أفرط فانقطع بسببه، ولازمه
الاطباء وأكثروا له من الحقن والأدوية إلى أن استفرغوا قوته كلها مع ما
يخرج من أنفه من الدم، ثم تنوعت به الأمراض من القولنج وغيره إلى أن
مات في ليلة الأحد اثنتين وعشرين جمادى الآخرة عن نحو الخمسين، واشيع
بأنه سم وكان هو يلوح بذلك، ولم يغب ذهنه في طول مرضه، وحرص مراراً على
أن يوصي ببر أو صدقة أو خلاص ذمة فلم يقدر له ذلك ومات باحماله لم يحط
عنه منها شيء إلا أن كان اغتيل فإن في ذلك كفارة كبيرة، وكثر الثناء
السيء عليه بعد موته بسوء معاملته وطمعه - والله يسمح له! فلقد كان
يقوم في الحق أحياناً، وله بر وصلة وصدقة لبعض الناس ومحبة في الصالحين
ومروءة وعصبية لاصحابه - رحمه الله تعالى! واستقر بعده في كتابة السر
ولده جلال الدين.. محمد ولقب بلقب أبيه بدر الدين ولم يستمر ذلك، وخلع
على شرف الدين سبط ابن العجمي بنيابة كتابة السر، وتلقى الامور عن جلال
الدين لصغر سنه، ويقال إنه أخذ لأجل ذلك من مال أبيه مائة ألف دينار.
(3/432)
|