إنباء الغمر بأبناء العمر

سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة
في المحرم استقر الوزير كريم الدين ابن كاتب المناخات في نظر الديوان المفرد مضافاً للوزارة، وفيه أمطرت في حمص ضفادع خضراء امتلأ منها الأزقة والأسطحة ووصل الخبر بذلك.
وفيه شغب الجند المماليك فزيد في أرزاقهم كل واحد أربعمائة فسكنوا.
وفيها رجع إسكندر بن قرا يوسف إلى تبرير فملكها بعد رحيل شاه رخ، ووقع لها الغلاء المفرط حتى أكلوا الكلاب.
وفي شوال أغار على قرقماس بنحسين بن نعير على ابن عمه مدلج ابن علي بن نعير، فانهزم قرقماس ودخل مدلج ومن معه بيوت قرقماس فنهبوها، فكر عليهم قرقماس بمن معه فقتل مدلج، وذلك في ذي القعدة وعمره نحو العشرين سنة، فقدم سليمان بن عذراء إلى القاهرة فأمره الأشرف على العرب عوضاً عن عمه مدلج فوصل إلى حلب في سادس ذي القعدة، وورد على يده مثال للأمراء المجردين أن يتوجهوا مع نائب حلب ليقبضوا على قرقماس، فبلغ ذلك قرقماس فأرسل يطلب الأمان، فورد المثال السلطاني بطرده عن البلاد، فتوجهوا الجميع من حلب يوم الجمعة سابع ذي القعدة وقرقماس يومئذ محاصر مدينة جعبر، فأسرعوا السير فادركوه وهو على المهد تجاه جعبر على شاطئ الفرات، فلما رآهم ركب وانهزم فركبوا في إثره وتشاغل بعض العرب الذين معهم والعسكر بالنهب، واستمر العسكر ف إثر قرقماس فأبعد عنهم وقد تعبت خيولهم وغلمانهم، فكر فيهم قرقماس ومن معه فقتلوا الدشاري

(3/433)


وكان على الساقة وأخذوا غالب الخيول التي وقفت والتي وجدوها، وقتل من العسكر جماعة في تلك الوقعة ونهبت بعض خيامهم وأثقالهم ورجعوا إلى العرب في إثرهم يتخطفونهم، ولما تحقق قرقماس رجوعهم خشي عاقبتهم فتوجه إلى جهة الشرف، فدخل الامراء إلى حلب سابع عشر ذي القعدة وقد نهب من أثقالهم وخيولهم وسلاحهم شيء كثير جداً.
وفيها ورد كتاب شاه رخ ملك الشرق يستدعي من الأرف هدايا منها كتاب في العلم منها فتح الباري بشرح البخاري لابن حجر فجهزت له ثلاث مجلدات من أوائل الكتاب، ثم عاد طلبه في سنة تسع وثلاثين فلم يتفق تتمة الكتاب.
وفيها نقض عبد الواحد بن أبي حمو بيعة أبي فارس صاحب تونس، فجهز أبو فارس إليه ابن أخيه ابن الركاعنة، فظفر بعبد الواحد عمه فقتله واستقر في مملكة تلمسان في ذي القعدة منها.
وفيها مات أزبك الدويدار وكان قد نفي إلى القدس بطالاً في شهر بيع الأول منها بعد ضعف طويل.
وفي مستهل جمادى الأولى سافرالناس إلى مكة ليجاوروا بها صحبة سعد الدين ابن المراة وكان استقر ناظراً على مكس البهار الوارد عليه في جدة.
وفيها أوقع قرا يلك بملطية وماردين، وساق بعد ذلك إلى البلاد الحلبية حتى وصل عينتاب يعيث وينهب.
وفيها هلك صاحب الحبشة إسحاق بن داود بن سيف أرغد الحبشي الأمخري في ذي القعدة، وأقيم بعده ولده أندراس بن إسحاق فملك أربعة أشهر، وأقيم عمه خرنباي بن داود فتملك سبعة أشهر ثم هلك، فأقيم سلمون ين إسحاق بن داود المذكور فهلك سريعاً، فأقيم

(3/434)


بعده صبي صغير إلى أن هلك في الطاعون الذي كان عندهم سنة تسع وثلاثين - فذكرت ذلك هنا تحصيلاً للفائدة، وكانت ولاية إسحاق إحدى وعشرين سنة منذ مات أبوه.
وفي زمانه حصرت دولته بعد أن كانت همجاء، وكان أبوه يركب وهو عريان كزي بقية الحبشة فصار هذا يركب في الملابس الفاخرة وشعار الملك، والسبب فيه أن قبطياً كابتاً كان يقال له فخر الدولة فر من حادث حدث له فدخل بلاد الحبشة بكتاب البترك، فحظي عند إسحاق ورتب له أمور المملكة وجبي الأموال، وصادف دخول أمير من الجراكسة يقال له الطنبغا معزق وكان يعرف أنواع العمل بالسلاح والفروسية فعلم جماعة منهم رمي النشاب والطعن بالرمح والضرب بالسيف، وكانوا لا يعرفون القتال إلا بالحراب، وعمل له زردخاناة ملأها بجميع آلات السلاح مما كان يجله له التجار الذين يترددون إلى بلاده خصوصاً على التوريزي الذي ذكرنا قتله قبل ذلك وقد ذكرت خبره فيما مضى.
وفي المحرم جهز أو فارس عسكراً في البحر إلى جزيرة صقلية فنازلوا أولاً مازر فأخذوها عنوة وحصروا مألقة فانهزم من جملة الجند العلوج واخذ، فانهزم بهزيمته جماعة واستشهد بعض الأعيان، ثم تراجعوا وقبضوا على العلج وبعثوه إلى أبي فارس فأمدهم بجيش.
وفيها كان الغلاء الشديد بحلب ودمشق والطاعون بدمشق وحمص.
وفي يوم الخميس سادس عشري صفر صرف كاتبه والعيني عن وظيفة الحكم، واستقر فيها التفهني والبلقيني، واستقر صدر الدين ابن العجمي في مشيخة الشيخونية عوض التفهني، وشرط على الشافعي عشرة نواب، وللحنفي ثمانية، وللمالكي ستة، وللحنبلي أربعة؛ ولا يولى أحد من غير مذهبه.

(3/435)


وفيها حجر المحتسب اينال الششماني على جلاب القمح من البيع وشغل الطحانين جميعهم بشراء القمح من شؤن السلطان، واستمر على ذلك مدة فكثرت الغلال من الجلابة فانحط السعر كثيراً - ولله الحمد.
وفي الرابع من ربيع الآخر يوم الأربعاء صرف اينال الششماني من الحسبة وأعيد العني إليها.
وفي التاسع منه أمر بإحضار نائب الإسكندرية الامير آقبغا التمرازي، وقرر في نيابتها شهاب الدين أحمد الدوادار المعروف بالاسود ابن الأقطع.
وفي خامس عشريه استقر آقبغا الجمالي عوضاً عن عبد القادر بن أبي الفرج في وظيفة الأستادارية، لكونه كان التزم بحمل مائة ألف دينار بعد التكفية، ثم لما تمادى الحال عجز فآل أمره إلى الإهانة كما سياتي ذكره، وسلم عبد القادر وألزمه لآقبغا، ثم أفرج عنهم على مال.
وفي رجب مات ياقوت، ويلقب فخر الدين الحبشي مقدم المماليك، واستقر عوضه نائبه فيها خشقدم الرومي اليشبكي - وكان من مماليك يشك واشتهر في أيام المؤيد وترقى وعرف بالحرية.
وفي رجب أيضاً قدم تغري بردى المحمودي من دمياط، فامر أن يتوجه إلى دمشق أميراً كبيراً.
وفي ذي القعدة أضيفت وظيفة الأستادارية الكبرى للوزير فباشرهما معاً. وقبض على آقبغا الجمالي وعوقب، ثم افرج عنه وولي كشف الجسور في أواخر السنة.
وفي ثامن عشرة ركب السلطان إلى مصر، ثم ركب النيل إلى المقياس وخلقه، وفتح الخليج الناصري بحضرته، وهي اول سنة فعل فيها ذلك بنفسه.
وفي ذي القعدة ظهر للحاج من جهة البحر كوكب يرتفع ويعظم ويرتفع منه شرر كبار، فلما أصبحوا اشتد عليهم الحر فهلك من المشاة عالم كثير، وتلف من جمالهم وحميرهم

(3/436)


كثير - واشتهر أمر الطاعون في الوجه البحري فيقال مات بالمحلة خمسة آلاف نفس وبالبحرارية تسعة آلاف، ومات في الإسكندرية في كل يوم مائة وخمسون إلى غير ذلك، وعد هذا من النوادر لأنه وقع في قوة الشتاء وكان قبل ذلك قد فشا في برصا وغيرها من بلاد الروم حتى بلغ عدد من يموت في اليوم زيادة على الألف على ما قيل، فلما استهل ربيع الآخر كان عدة من يموت بالقاهرة اثنتي عشرة نفساً، وفي آخره قاربوا الخمسين.
وفي أول يوم من جمادى الأولى بلغوا مائة، فنودي في الناس بصيام ثلاثة ايام وبالتوبة وبالخروج إلى الصحراء في اليوم الرابع، وخرج الشريف كاتب السر والقاضي الشافعي وجمع كثير من بياض الناس وعوامهم، فضجوا وبكوا ودعوا وانصرفوا قبل الظهر، فكثر فيهم الموت أضعاف ما كان وبلغ في اليوم ثلاثمائة بالقاهرة خاصة سوى من لا يرد الديوان؛ ووجد بالنيل والبرك شيء كثير من الاسماك والتماسيح موتى طافية، وكذا وجد في البرية عدة من الظباء والذئاب.
ومما وقع فيه من النوادر أن مركباً ركب فيها أربعون نفساً قصدوا الصعيد، فما وصلت إلى الميمون حتى مات الجميع؛ وان ثمانية عشر صياداً اجتمعوا في مكان، فمات منهم في يوم واحد أربعة عشر فجهزهم الأربعة، فمات منهم وهم مشاة ثلاثى، فلما وصل الآخر بهم إلى المقبرة مات؛ وبلغ في سلخ جمادى الأولى إلى ألف وثمانمائة.
وفي رابع جمادى الأولى بلغت عدة الموتى بالقاهرة خاصة في اليوم ألف نفس ومائتي نفس، ووقع الموت في مماليك السلطان حتى زاد في اليوم على خمسين نفساًمنهم، وانتهى عدد من صلى عليه في اليوم خمسمائة وخمسين نفساً، وضبط جميع المصليات في يوم فبلغت ألفي نفس ومائتين وستاً وأربعين نفساً،

(3/437)


ووقع الموت في السودان بالقرافة إلى أن مات منهم ماتحو ثلاثة آلاف، وعز وجود حمالي الموتى وغساليهم ومن يحفر القبور حتى عملوا حفائر كباراً كانوا يلقون فيها الأموات، وسرق كثير من الأكفان، ونبشت الكلاب كثيراً فأكلتهم من أطراف الأموات، ووصل في الكثرة حتى شاهدت النعوش من مصلى المؤمني إلى باب القرافة كأنها الرخم البيض تحوم على القتلى، وأما الشوارع فكانت فيها كالقطارات يتلو بعضها بعضاً.
وفي جمادى الأولى وعك يوسف ولد السلطان فتصدق عنه بوزنه فضة.
وفي نصف جمادى الآخرة جمع الشريف كاتب السر أربعين شريفاً اسم كل منهم محمد وفرق فيهم مالاً، فقرأ بعد صلاة الجمعة بالجامع الازهر ما تيسر من القرآن، فلما أن قرب العصر قاموا فدعوا وضجوا. وكثر الناس معهم في ذلك إلى أن صعد الأربعون إلى السطح فأذنوا العصر جميعاً وانفضوا، وكان بعض العجم قال للشريف إن هذا يدفع الطاعون، ففعل ذلك فما ازداد الطاعون إلا كثرة حت دخل رجب، فلما دخل رجل تناقص؛ قرأت بخط قاضي الحنابلة محب الدين أن شخصاً يقال له على الحريري كان له أربعة مراكب فيها مائة نفر وعشرون نفراً ماتوا كلهم بالطاعون إلا واحداً، ولما اشتد الامر بالطاعون أمر السلطان باستفتاء العلماء عن نازلة الطاعون هل يشرع الاجتماع للدعاء برفعه أو يشرع القنوت له في الصلوات؟ وما الذي وقع للعلماء في الزمن الماضي؟ فكتبوا الأجوبة وتشعبت آراؤهم وتحصل منها على انه يشرع الدعاء والتضرع والتوبة، وتقدم قبل ذلك التوبة، والخروج من المظالم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وانهم لا يستحضرون عن أحد من السلف أنهم اجتمعوا لذلك إلا أن الاجتماع أرجى للإجابة؛ وأجاب الشافعي بجواز القنوت، لأنها نازلة وقد صرح الشافعية بمشروعية القنوت في النوازل، وأجاب الحنفي والمالكي بالمنع، واجاب الحنبلي بأن عندهم روايتين ومن جوزه خصه بالإمام الاعظم في غير يوم الجمعة؛ ثم طلب القضاة والعلماء إلى حضرة السلطان

(3/438)


فقرئت الفتاوى وفسرها له محب الدين ابن الأقصراني فأجاب: أنا أتابع الصحابة والسلف الصالح ولا أخرج بل كل أحد يبتهل إلى الله تعالى في سره! ثم سالهم عن المراد بالمظالم التي كتبوا في الفتاوى أنهم يخرجون منها، فذكروا اشياء مجملة فقال: مهما تجدد بعد الظاهر برقوق أنا أزيله! فقال له الشافعي: قد نجدد في هذه السنة ثلاث مظالم: التشديد على التجار الكارمية في بيع البهار للسلطان وإلا منعوا من التجارة فيه، والتشديد على الباعة في طرح النطرون والتحكير على القصب أن لا يزرع إلا في بلاد السلطان، فلم يتحصل من الجواب عن ذلك كبير امر، وأمر السلطان القضاة والامراء بأن يامروا الناس بالتوبة والإقلاع عن المعاصي والإكثار من الطاعات ونحو ذلك، ونودي بالقاهرة بمنع النساء من الخروج إلى الترب، وتوعد المكاري بالشنق والمرأة بالتغريق وانصرفوا على ذلك؛ ففي الحال دخل إليه بعض خدمه فأخبره أن ابنه الكبير محمداً طعن، وذكر القاضي زين الدين التفهني أنه رأى في النوم حسام الدين درغان الخادم بالشيخونية وكان من جملة من مات في هذه السنة بالطاعون فسأله عن حاله فقال: الجنة مفتحة للمسلمين، سمعت ذلك منه، وكان حسام الدين رجلاً جيداً كثير النفع للطلبة بالشيخونية منذ اقام بها وباشر الخدمة بها مباشرة حسنة.
وفيها في جمادى الآخرة أمر السلطان القضاة والحجاب وغيرهم أن لا يحبسوا أحداً على دين! فاستمر ذلك إلى شوال منها، وحكى أبو بكر ابن نقيب الأشراف - وكان باشر بعد موت أخيه شهاب الدين أمور كتابة السر من قبل أن يلبس الخلعة - أن السلطان ورد عليه كتاب فلم يجد من يناوله إياه حتى استدعى مملوك من بعض الطباق.
وفي ثامن عشر شعبان بلغ السلطان أن كمال الدين بن الهمام عزل نفسه من مشيخة المدرسة الاشرفية فسئل عن السبب في ذلك، فأخبر أن وظيفة شغرت عن صوفي فعين فيها

(3/439)


شخصاً وعارضه جوهر اللألأ فنزل غيره فغضب وقام بعد أن حضر التصوف وقت العصر فقال: اشهدوا على أني عزلت نفسي من هذه الوظيفة وخلعتها كما خلعت طيلساني هذا! ونزع طيلسانه ورمى به وتحول في الحال إلى بيت له في باب القرافة، فلم يعرج السلطان عليه، وقرر أمين الدين يحيى بن الأقصرائي في المشيخة، ونعم الرجلان هما! فنزل أمين الدين لابن أخيه محب الدين ابن مولانا زاده عن المشيخة بمدرسة جاني بك.
وفيها سقط العيني عن بغلته فانكسرت رجله، فأقام عدة أشهر منقطعاً واستقر محب الدين المذكور يقرأ عند السلطان السير والقصص التي كان يقرأها العيني.
وفي ثامن عشر شعبان شكى برد بك الحاجب فطلبه، فادعى عليه الشاكي أنه ضرب بغير ذنب، فقال: طلبته فامتنع، فأرسله إلى الحنفي فحكم بعزله عن وظيفته فعزل اياماً، ثم أوصى خصمه فصفح عنه فتكلموا له مع السلطان فأعاده.
وفي تاسع رمضان قرر السلطان في مدرسته بقية المذاهب ولم يكن نزل بها أولاً إلا الحنفي.
وفي ثامن عشر رمضان استقر القاضي شهاب الدين ابن السفاح في كتابة السر وكانت شعرت بموت جلال الدين ابن مزهر، وتكلم فيها شرف الدين ابن الأشقر نيابة إلى أن دخل ابن السفاح، واستقر ولده عمر في وظائفه بحلب.
وفي رمضان وصل كتاب شاه رخ صحبة شريف اسمه هاشم بغير ختم أوله: ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، ثم خاطب السلطان فيه بالأمر وأرعد وأبرق وتهدد، فكتب إليه جوابه من جنس كتابه.

(3/440)


وفي ذي الحجة وصل شاه رخ إلى تبريز في عساكر هائلة وتاخرت إدارة المحمل إلى ثامن شعبان بسبب شغل المماليك الرماحة بأنفسهم وبمن ماتت من رفقتهم وأداروه على العادة المعهودة.
وفي شعبان اشتغل بدر الدين بن الأمانة بتدريس الفقه بالشيخونية وجمال الدين ابن المحبر بمشيخة الصلاحية، وكان ابن المحمرة استنابهما في وظيفتيه المذكورتين لما توجه قاضياً بالشام وسعيا إلى أن استقلا، ثم لما عزل هو وعاد استعادهما، ثم لما سارإلى مشيخة الصلاحية بالقدس لم يعد إلى استنابتهما.

ذكر من مات
في سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة
من الأعيان إبراهيم بن ناصر الدين بن الحسام، الصقري صارم الدين، نشأ طالباً للعلم فتأدب وتعلم الحساب والكتابة والأدب والخط البارع، وقد ولى الحسبة بالقاهرة في أوخر ايام المؤيد؛ ومات في ثامن عشر جمادى الآخرة مطعوناً.
إبراهيم بن أحمد بن وفاه، الشاذلي أبو المكارم، ولد سنة 88 ومات في هذه السنة مطعوناً.
إبراهيم بن المؤيد شيخ واخوه الملك المظفر أحمد ماتا صغيرين بالإسكندرية.
أحمد ولد ناظر الجيش عبد الباسط شهاب الدين - مات في مستهل شعبان، وكان قد بلغ ونبغ وناب عن والده في كتابة العلامة فطعن، وكانت جنازته حافلة.
أحمد بن علي بن إبراهيم بن عدنان، الشريف شهاب الدين الحسيني الدمشقي،

(3/441)


ولد سنة 744 ونشأ بدمشق ومع والده نقابة الأشراف وكان فيه جرأة وإقدام، ثم ترقى بعد موت أبيه فولى نقابة الأشراف، ثم ولي كتابة السر في سلطنة المؤيد، ثم ولي القضاء بدمشق في سلطنة الأشرف، ثم ولي كتابة السر في ذي الحجة سنة اثنتين وباشرها إلى أن مات بالطاعون في جمادى الآخرة.
أحمد بن علي بن عبد الله بن علي بن حاتم بن محمد بن يوسف، البعلي الأصل الحنبلي القاضي شهاب الدين ابن الحبال الطرابلسي، ولد سنة تسع وأربعين، وتفقه وسمع الحديث، ثم كان مع الذين قاموا في السعي في إزالة دولة الظاهر وأخ معهم وضرب، واشتهر بعد اللنك بطرابلس وعظم شأنه، ثم ولي القضاء بها وصار أمر البلد إليه، وكان يقوم على الطلبة ويرد عنهم، ويتعصب لعقيدة الحنابلة، ثم نوه به ابن الكويز فنقله إلى قضاء دمشق في أول دولة ططر فدخلها في جمادى الأولى سنة أربع وعشرين، فاستمر إلى أن صرف في سنة اثنتين وثلاثين في شعبان بسبب ما اعتراه من ضعف البصر والارتعاش وثقل السمع، وكانت الأمور بسبب ذلك تخرج كثيرة الفساد، وكان مع ما أصابه كثير العبادة ويلازم صلاة الجماعة، وكان منصفاً لأهل العلم قليل البضاعة في الفقه؛ ورحل إلى طرابلس فمات بها في شهر ربيع الأول بعد قدومه بيوم.
أحمد بن محمود بن محمد بن عبد الله، القيسري صدر الدين المعروف بابن العجمي، ولد سنة 777، واعتنى به أبوه

(3/442)


في صغره، وصلى بالناس التراويح بالقرآن أول ما فتحت الظاهرية في سنة 88 وهو ابن إحدى عشرة سنة لم يكملها، وأقرأه الفقه والعربية والمعاني والبيان. وأحضر له المؤدبون والمعلمون وترعرع وبرع، وباشر التوقيع في ديوان الإنشاء، ثم ولى الحسبة مراراً ونظر الجوالي وغير ذلك، وتنقلت به الاحوال كما مضى في الحوادث؛ مات في الطاعون في الرابع عشر من شهر رجب.
أزبك الدوادار مات بالقدس بطالاً يوم الثلاثاء - في سادس عشر ربيع الأول.
إسحاق بن إبراهيم بن أحمد بن محمد، التدمري تاج الدين خطيب الخليل، ذكر أنه أخذ عن قاضي حلب شمس الدين محمد بن أحمد بن المهاجر وعن شيوخنا العراقي وابن الملقن وغيرهما، وأجاز له ابن الملقن في الفقه؛ ومات ليلة العيد من شهر رمضان.
إسحاق بن داود صاحب الحبشة مات في هذه السنة، وقد قدمت نبأه في ترجمة أبيه سنة 812.
أبو بكر بن علي بن إبراهيم بن عدنان، الشريف الماضي أخوه أحمد قريباً، ولد سنة تسعين تقريباً، ونشأ بزي الجندية، ثم بعد ذلك تزيا بزي المباشرين، وكان الغالب عليه الديانة والخير والعفة، وانطلقت الألسن بالثناء عليه، وعين بعد أخيه لكتابة السر وباشر بغير تولية، فعوجل بالطاعون أيضاً ومات في رجب ولم يبق بعد أخيه سوى ستة عشر يوماً.
ابو بكر بن عمر بن عرفات بن عوض بن أبي السعادات بن أبي الظاهر محمد بن أبي بكر بن احمد بن موسى بن عبد المنعم بن علي بن عبد الرحمن بن سالم بن عبد العزيز بن أحمد بن علي بن ضياء الدين عبد الرحمن بن أبي المعالي سالم بن الأمير المجاهد عز العرب وهب بن مالك الناقل من أرض الحجاز بن عبد الرحمن بن مالك بن زيد بن ثابت الأنصاري الخزرجي الشيخ زين الدين القمني - هكذا رأيت نسبه بخطه وأملاه على بعض الموقعين، ولا شك أنه مركب ومفتري، وكذا لا يشك من له أدنى معرفة بالأخبار

(3/443)


أنه كذب، وليس لزيد بن ثابت ولد يسمى مالكاً، وتلقيبه عبد الرحمن بن سالم ضياء الدين من أسمج الكذب، فإن ذلك العصر لم يكن التلقيب فيه - بالإضافة للدين، وكان مولده على ما كتب بخطه سنة ثمان وخمسين، وذكر لي بلفظه أنه حضر درس الشيخ جمال الدين وهو بالغ وعرض عليه التنبيه، فيحتمل أن يكون بلغ وهو ابن ثلاث عشرة سنة أو ذهل حين كتب مولده، وقدم القاهرة في حدود السبعين، واول شيء رأيته من سماعه في جمادى سنة أربع وسبعين من الشيخ بهاء الدين بن خليل ثم في رمضان سنة ثمان وسبعين، سمع في البخارى على التقي عبد الرحمن بن أحمد البغدادي، وسمع أيضاً من عبد الله بن الناجي وعبد الله بن مغلطاي وصلاح الدين البلقيني، ثم من تقي الدين بن حاتم وابن الخشاب وعزيز الدين المليجي، ونشأ يتيماً فقيراً بجامع الأزهر، ثم اتصل بعلاء الدين بن قشتمر فنبه قليلاً، ثم تنقلت به الاحوال إلى أن صحب قلطماي الدويدار في سطلنة الظاهر فصار له ذكر، واتفق تسحب الشيخ شمس الدين ابن الجزري إلى بلاد الروم فشغرت عنه الصلاحية فوثب عليها، وكان رحل إلى الشام قبل التسعين فسمع ابن المحب وابن الذهبي وابن العز والبرهان بن جماعة وهو يومئذ قاضي الشام ومحمد بن أحمد بن عبد الرحمن المنبجي الأسمري والكمال بن النحاس وابن خطيب يبرود وابن الرشيد وناصر الدين محمد بن عمر بن عوض بصالحية دمشق، وسمع من متقدمي شيوخنا كالشامي والغزي والصردي والمطرز وابن صديق وابن أبي المجد ثم الحلاوي والسويداوي ومن الحافظين والأبناسي واللقيني والهيثمي شمس الدين وابي بكر بن حسين المراغي - وخرج له ابن الشرائحي مشيخة عن أربعة وأربعين شيخاً وحدث بها مرتين وكان يتبجح بها لكنه لا يعرف عالياً من نازل، وكان عريض الدعوى كثير المجازفة - سامحه الله! مات في رجب مطعوناً.
برد بك السيفي أحد مقدمي الألوف بمصر، مات في يوم الاحد عاشر جمادى الأخرى

(3/444)


بالطاعون وهو والد فرج.
بيبغا المظفري التركي كان من مماليك الظاهر، وتأمر في دولة الناصر وعمل الأتابكية وقد سجن مراراً ونكب -، وكان قوي النفس؛ مات ليلة الأربعاء - سادس جمادى الآخرة.
حسن العلقمي بدر الدين ناظر الأوقاف مات بالقاهرة، وكان حسن العشرة والأخلاق بساماً، جاوز الستين.
زين خاتون بنتي وهي بكر أولادي ولدت في رجب سنة اثنتين وثمانمائة، وتعلمت الكتابة والقراءة، واسمعتها من الشيخ زين الدين العراقي والشيخ نور الدين الهيثمي، وأجاز لها كثير من المسندين من أهل دمشق؛ وماتت وهي حامل بالطاعون فجمعت لها شهادتان.
سرداح بن مقبل بن نخبار بن مقبل بن محمد بن راجح بن إدريس بن حسين بن أبي عزيز، الحسني؛ الينبعي ولي أبوه إمرة الينبع مدة ثم قبض عليه وحبس بالإسكندرية في سنة خمس وعشرين إلى أن مات بها وكحل ولده، فيقال إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فمسح عينيه فأبصر واتهم السلطان من كحله - فالله أعلم.
العباس بن المتوكل بن المعتضد أمير المؤمنين المستعين أبو الفضل ولد في سنة 20000 واستقر في الخلافة بعهد من أبيه في شهر رجب سنة ثمان وثمانمائة، فلما انهزم الناصر فرج وحوصر بدمشق بويع للمستعين بالسلطنة مضافة للخلافة فتصرف بالولاية

(3/445)


والعزل، وفي الحقيقة إنما كان له العلامة والخطبة وضربت السكة في الذهب والفضة باسمه، فلما توجه العسكر إلى مصر كان الأمراء كلهم في خدمته على هيئة السلطنة ولكن الحل والعقد للأمير شيخ ثم سكن الإصطبل وصار الجميع إذا فرغت الخدمة من القصر نزلوا في خدمته إلى الإصطبل، فأعيدت الخدمة عنده ووقع الإبرام والنقض ثم يتوجه دويداره إلى السلطان فيعلم على المناشير والتواقيع، فلم يزل على ذلك إلى أن تسلطن المؤيد فلم يوافق العباس على ذلك فصرح المؤيد بعزله من الخلافة وقرر فيها اخاه داود ولقب المعتضد، فلما خرج المؤيد إلى نوروز ارسله إلى الإسكندرية فاعتقل بها، فلم يزل بها إلى أن تكلم ططر في المملكة، فأرسل في إطلاقه وأذن له في المجئ إلى القاهرة، فاختار الاستمرار في سكنى الإسكندرية لأنه استطابها، وحصل له مال كثير من التجارة، فاستمر إلى أن مات بالطاعون شهيداً، وخلف ولده يحيى.
عبد اللهبن محب الدين خليل بن فرج بن سعيد جمالد الدين، القدسي الأصل الدمشقي البرماوي، ولد في حدود الستين، وقرأ على ابن الشريشي وابن الجابي وغيرهما، ودخل مصر فحمل عن جماعة، وجاور بمكة مدة طويلة، ثم قدم الشام فاقام على طريقة حسنة وعمل المواعيد واشتهر، وكان شديد الحط على الحنابلة وجرت له معهم وقائع؛ ومات في ربيع الآخر.
عبد البر بن القاضي جلال الدين محمد بن قاضي القضاة بدر الدين محمد ابن البقاء كان شاباً جميل الصورة طيب النغمة، وكان قد أذن له في نيابة الحكم في

(3/446)


اواخر السنة الماضية، ثم سافر إلى الشام ورجع فمات في سابع عشر شهر رجب ولم يكمل الثلاثين.
عبد الغني بن جلال الدين عبد الواحد بن إبراهيم المرشدي ثم المكي نسيم الدين، اشتغل كثيراً ومهر وهو صغير، وأحب الحديث فسمع الكثير وحفظ وذاكر، ودخل اليمن فسمع من الشيخ مجد الدين، وكتب عني الكثير؛ ومات مطعوناً بالقاهرة.
عبد القادر بن عبد الغني بن أبي الفرج، المكي، ولي الاستادارية كأبيه، ومات في يوم الأربعاء سابع عشري - جمادى الآخرة.
عبد الكريم، كريم الدين ابن سعد الدين بركة، القبطي المعروف بابن كاتب جكم، كان أبوه يخدم الوزير علم الدين بن كاتب سيدي ثم تعلق بخدمة الأمراء فخدم عند الأمير حكم فشهر به، واستقر بعده ولده سعد الدين - إبراهيم وصاهر تاج الدين ابن الهيصم قبل أن يلي الأستادارية، واستقر مستوفي الدولة في مباشرة ابن نصر الله، ثم ولي نظر الدولة وباشر ديوان السلطان قبل أن يتسلطن، ثم سعى في نظر الخاص لما ولي ابن نصر الله الاستادارية، فباشر بسكون وحشمة ونزاهة، وأكثر من زيارة الصالحين ومن الفقراء، والزم ولديه إبراهيم ويوسف الذي ولوا الخاص بعده واحداً بعد واحد بالاشتغال بالعلم وأحضر لهم من يعلمهم العربية والكتابة، وكانت وفاته سادس عشر شهر - ربيع الاول قبل وقوع الطاعون، واستقر ولده إبراهيم فاستمر - في وظيفته وهو امرد، ولم يظن أحد أنه يستمر لصغر سنه لكنه استعان أولاً بجده لامه ثم استقل بالأمور بعد وفاته وقد تدرب، وكان يتكلم بالتركي ويحسن المعاشرة مع لثغة في لسانه، وخلفه أخوه جمال الدين يوسف وفاق أخاه وإياه.
علي بن تاج الدين عبد الوهاب بن القاضي ولي الدين، العراقي تقي الدين.

(3/447)


علي بن عنان بن مغامس بن رميثة بن أبي نمي، الحسني المكي الشريف مات بالقاهرة في ثالث جمادى الآخرة مطعوناً، وقد ولي إمرة مكة مرة ودخل الغرب بعد أن عزل عنها فأكرمه أبو فارس، وكان حسن المحاضرة ويذاكر بالشعر وغيره ومات بالقاهرة.
علي الأسيوطي الشيخ ويقال له أبو الخلق، وكان ممن يعتقد ويذكر عنه مكاشفات كثيرة.
عمر القاضي سراج الدين، النويري الشافعي، قاضي الشافعية بطرابلس، مات في جمادى الآخرة.
قاسم بن الامير كمشبغا الحموي، وكان أحد الحجاب الصغار.
كشبغا الفيسي الكاشف المزوق الظاهري، كان جريئاً على سفك الدماء، مات منفياً بدمشق في 14 ربيع الآخر وقد ناهز الثمانين.
ماجد بن أبي الفضائل بن سناء الملك فخر الدين ابن المزوق، كان من أولاد الكتبة، وخدم عند سعد الدين ابن غراب، فولي بعنايته نظر الجيش وكتابة السر واحدة بعد أخرى، ثم ولي نظر الإصطبل، ثم تعطل في الدولة المؤيدية وما بعدها إلى أن مات في ليلة الخميس 12 رجب.
محمد بن أحمد بن سليمان، الاذرعي الحنفي شمس الدين، أخذ عن ابن الرضي والبدر المقدسي في مذهب الحنفية، ثم بعد اللنك انتقل إلى مذهب الشافعي وولي قضاء بعلبك وغيرها، ثم عاد حنفياً وناب في الحكم ودرس وأفتى، وكان يقرأ البخاري جيداً، ويكتب على الفتوى كتابة حسنة وخطه مليح، وتوجه إلى مصر في آخر عمره فعند وصوله طعن فمات غريباً شهيداً في جمادى الآخرة.

(3/448)


محمد تاج الدين بن العماد إسماعيل، البطرني المغربي الأصل نزيل دمشق، كان في خدمة القاضي علم الدين القفصي وعمل نقيبه، ثم بعد موته ولي قضاء طرابلس، ثم رجع وناب عن القاضي المالكي، وكان عفيفاً في مباشرته، ويستحضر طرفاً من الفقه؛ مات بالطاعون في صفر.
محمد بن الملك الأشرف برسباي، وكان قد عين للسلطنة بعد أبيه مات في يوم الثلاثاء 26 جمادى الأولى مطعوناً وقد ناهز الاحتلام، ودفن بالمدرسة

(3/449)


الأشرفية.
محمد بن ططر السلطان الصالح بن الطاهر، خلع في خامس عشر ربيع الأول سنة خمس وعشرين، وأقام عند السلطان الملك الأشرف مكرماً إلى أن طعن، ومات في سابع عشري جمادى الآخرة هذه السنة.
محمد بن الناصر فرح بن الظاهر برقوق، مات بسجن الإسكندرية في يوم الاثنين حادي عشري جمادى الىخرة مطعوناً عن 21 سنة، ودفن بها ثم نقل إلى مصر.
محمد بن عبد الحق بن إسماعيل بن أحمد الانصاري السبتي صاحبنا، كتب إلي وشرح البردة، وله يد في النظم والنثر والتصوف، وكان حسن الطريقة.
محمد بن عبد الواحد بن أبي بكر بن إبراهيم بن محمد، السنقاري شرف الدين نزيل هون ولد في المحرم، سنة 773، وتفقه قليلاً، وأخذ عن المشايخ، وكان أبوه موسراً فمات في الثمانين، ونشا هو يتعاني التجارة والزراعة ويتردد إلى القاهرة، وتقلبت به الأمور، وكان فاضلاً مشاركاً متديناً، وكان يقول: ما عشقت قط ولا طربت قط، مات في الطاعون في جمادى الآخرة، وكان يحكي عن ناصر الدين محمد بن محمد بن عطاء الله قاضي هو أنه كان بجانب داره نخلة جربها بضعاً وثلاثين سنة، فإن قل حملها توقف النيل، وأن كثر زاد، وأنها سقطت في سنة ست وثمانمائة فقصر النيل تلك السنة ووقع الغلاء المفرط.
محمد بن عبد الوهاب بن نصر الله، شرف الدين أبو الطيب بن تاج الدين، ولد في ذي القعدة سنة سبع وتسعين، ونشأ في حجر السعادة وتعلم الكتابة واشتغل بالعلم، وكتب في الإنشاء، وعظم في دولة الظاهر ططر، وولاه نظر الكسوة ودار الضرب ونظر الأشراف وغير ذلك؛ ومات في سابع عشري ربيع الىخر بمرض السل.
محمد بن عمر بن عبد العزيز، بن أمين الدولة قاضي الحنفية بحلب شمس الدين؛ مات يوم الخميس 12 شعبان.
محمد جلال الدين بن بدر الدين محمد بن بدر الدين محمد بن مزهر، ولد سنة 14 وحفظ القرآن واشتغل قليلاً، فلما مات أبوه في سنة اثنتين وثلاثين قرر مكانه في كتابة السر فباشرها، والاعتماد في ذلك على شرف الدين الموقع وكان قد تقرر في نيابة كتابة السر وانفصل بدر الدين المذكور،

(3/450)


وكان لقب في أيام مباشرته في كتابة السر بلقب أبيه بدر الدين، ومات بالطاعون - يوم الإثنين سنة ست وعشرى رجب -.
محمد زين الدين بن القاضي شمس الدين محمد بن محمد بن أحمد ابن عبد الملك، الدميري المالكي، كان حسن الصورة، له قبول تام عند الناس لكثرة حشمته، وقد ولي الحسبة مراراً، وبيده التحدث في المارستان نيابة عن الأمير الكبير على قاعدة أبيه، ولم أظنه جاوز الخمسين ومات في 3 شعبان.
محمد الإسكندراني شمس الدين العروف بابن المعلمة، ولي حسبة القاهرة مدة، وكان مالكياً فاضلاً مشاركاً في العربية وغيرها، مات في شعبان.
مدلج بن علي بن نعير واسمه محمد بن حيار أمير آل فضل وكان ولي إمرة العرب بعد أخيه وعذراء ودخل في الطاعة، ثم وقع بينه وبين ابن عمه قرقماس قاتل أخيه عذراء الوقعة المقدم ذكرها في الحوادث، وقتل مدلج في 2 ذي القعدة منها بظاهر حلب.
مرجان الهندي مملوك شهاب الدين بن مسلم، أخذه المؤيد قبل أن يلي السلطنة قهراً من أستاذه، فنجب عنده وترقت منزلته جداً إلى أن اتضعت في أيام ططر فمن بعده، وصودر إلى أن مات في سادس عشرى جمادى الآخرة.
ناصر بن محمد البسطامي الشيخ ناصر، من تلامذة الشيخ عبد الله البسطامي، ثم قدم القاهرة وقطنها، مات بها في الطاعون.
نصر الله بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل، الأنصاري الشيخ جلال الدين الروياني العجمي الحنفي، ولد سنة ست وستين، وتجرد وبرع في علم الحكمة والتصوف،

(3/451)


وشارك في الفنون، وكتب الخط الفائق، وقدم القاهرة مجرداً، واتصل بأمراء الدولة وراج عليهم لما ينسب إليه من معرفة علم الحرف وعمل الأوفاق، وسكن المدرسة المنصورية، وكان مفضالاً مطعاماً محباً للغرباء فهرعوا إليه ولازموه، وقام بأمرهم وصيرهم سوقه التي ينفق منها وينفق بها، واستخلص بسبب ذلك من أموال الأمراء وغيرهم ما أراد حتى كان كثير من الأمراء يفرد له من إقطاعه أرضاً يصيرها رزقة ثم يسعى هو حتى يشتريها ويحبسها، وكان فصيحاً مفوهاً حسن التأني عارفاً بالأمور الدنيوية عرياً عن معرفة الفقه، له اقتدار على التوصل لما يطلب، كثير العصبية والمروءة، حسن السياسة والمداراة، عظيم الأدب، جميل العشرة، وله عدة تصانيف في علم الحرف والتصوف، منها غنية الطالب فيما اشتمل عليه الوهم من المطالب، وإعلام الشهود بحقائق الوجود، ومات في ليلة الجمعة سادس شهر رجب بالطاعون.
- ياقوت الأرغون شاوي الحبشي مقدم المماليك، مات مطعوناً في يوم الإثنين ثالث رجب، ودفن بمدرسته التي أنشأها بالصحراء - هابيل بن قرا يلك، مات مسجوناً بالقلعة مطعوناً.
هاجر خوند بنت منكلى بغا زوج برقوق، ماتت في رابع رجب، وأمها خوند فاطمة بنت الأشرف شعبان بن حسين بن قلاوون -.
يحيى نظام الدين بن الشيخ سيف الدين بن محمد بن عيسى السيرامي،

(3/452)


ولد سنة..... وكان حسن التدريس والتقرير، جيد الفهم، قليل التكلف، قوي الفهم، متواضعاً مع صيانة، قليل الشر كثير الإنصاف، ولم يكن في أبناء جنسه مثله، وكان قد اختص بالمؤيد وسامره، وكان يبيت عنده كثيراً من الليالي ويثق به ويعقله، ولما وقع الطاعون استكان وخضع وخشع، ولازم الصلاة، على الأموات بالمصلى إلى أن قدر الله أنه مات بالطاعون في أواخره.
يحيى بن الإمام شمس الدين محمد بن يوسف بن علي، الشيخ تقي الدين الكرماني الشافعي، ولي نظر المارستان وكان ثقيل السمع، وكان قد ضعف وطال رمده، ثم مات مطعوناً في يوم الخميس ثاني عشرى جمادى الآخرة.
يشبك أخوالسلطان الأشرف وكان أسن منه لكن السلطان أسرع إليه الشيب دونه، طعن فاقام أياماً يسيرة، ويقال إنه مات ساجداً، وكان شديد العجمة وتعلم اللسان التركي، ولم يفقه بالعربي إلا القليل، وكان فيه عصبية لمن يلتجئ إليه ومكارم أخلاق.
يعقوب بن إدريس بن عبد الله بن يعقوب، الشهير بقرا يعقوب الرومي النكدي الحنفي، نسبة إلى نكدة من بلاد ابن قرمان، ولد سنة تسع وثمانين، واشتغل في بلاده،

(3/453)


ومهر في الأصول والعربية والمعاني وكتب على المصابيح شرحاً وعلى الهداية حواشي، ودخل البلاد الشامية، وحج سنة تسع عشرة ثم رجع وأقام بلارندة يدرس ويفتي، ثم قدم القاهرة بعد موت المؤيد فاجتمع بمدير المملكة ططر، فأكرمه إكراماً زائداً ووصله بمال جزيل، فاقتنى كتباً كثيرة ورجع إلى بلاده فاقام بلارندة إلى أن مات في شهر ربيع الأول.
يوسف بن إبراهيم بن عبد الله بن داود بن أبي الفضل بن أبي المنجب ابن أبي الفتيان، الداودي الطبيب جمال الدين، مات في أول شهر رجب وله زيادة على التسعين.

(3/454)


سنة أربع وثلاثين وثمانمائة
استهلت وقد غلا سعر الذهب إلى أن بلغ مائتين وخمسة وسبعين، وانتهت فيه زيادة النيل إلى تسعة عشر ذراعاً وعشرين إصبعاً، وخرج الأمراء المجردون في آخره ثم أمر بعودهم فعادوا ن خانقاه سرياقوس، وفيه رخص الفول جداً حتى صار بدرهمين ونصف فضة وزنا كل إردب والشعير كل إردب بثلاثة، والقمح بستة ونصف، وهذا غاية الرخص إلا ما تقدم في دولة المؤيد، فإن القمح نزل فيه إلى ستة دراهم بندقية، وفيه خرج السلطان إلى الصيد بالهيئة الكاملة فشق المدينة وخرج من باب الشعرية ثم عاد من يومه.
وفيها حصل للحاج عطش عند رجوعهم بمنزلة الوجه فمات منهم ناس كثير، قيل: قدر ثلاثة آلاف، كلهم من الركب الأول، ومات من الجمال والدواب شيء كثير جداً، وذهب لمن مات من الاموال ما لا يحصى.
وفيها حجر السلطان على المباعة أن لا يتبايعوا إلا بالدراهم الأشرفية التي جعل لكل درهم منها بعشرين من الفلوس، وانتفع الناس بها بالميزان، وشدد في الذهب أن لا يزاد في سعره، فإذا قل ازداد، ولم يزل الأمر يتمادى على ذلك إلى أن بلغ كل دينار أشرفي مائتين وخمسة وثماتين درهماً من الفلوس. واستقر الأمر على ذلك إلى آخر الدولة الأشرفية.
وفيها استبد ابن الركاعنة صاحب فاس وتلمسان بالمملكة، فسار إليه أبو فارس صاحب تونس بنفسه وظفر به، وقرر في المملكة أحمد بن أبي حمو، وذلك في رجب سنة أربع وثلاثين.
وفي ربيع الآخر جهز السلطان الفعلة وأهل المعرفة بالبناء لإصلاح الآبار وأماكن المياه التي في طريق الحجاز.

(3/455)


وفيها حفرت بعيون القصب بئر عظيمة فعظم النفع بها، وكانت عيون القصب تجري من واد عظيم ينبت فيه القصب الفارسي ويجري الماء بين تلك الغابات، وكان للحاج به رفق بحيث يبيتون فيه ليلة، ثم عمرت تلك العيون وصاروا يقتنعون بالحفائر، وكان الماء الذي يخرج منها يفسد في ليلته، فأشار ناظر الجيش لما حج بحفر بئر هناك فخرج ماؤها عذباً، وحفروا قبل ذلك بئرين بزعيم وقبقاب، فاستغنى الناس بهما عن ورود الوجه، والوجه مكان فيه بئران لا يحصل الماء فيهما إلا بالمطر، فإذا لم يقع المطر ووردهما الحاج لم يجدوا فيهما إلا النزر اليسير، وفي الغالب يقع لهم العطش والهلاك فاستغنوا بالبئرين عن الوجه.
وفيها استقر تاج الدين عبد الوهاب ابن الخطير في نظر الديوان المفرد بعد موت تاج الدين ابن الهيصم، وهو من بيت كبير في القبط، وكان اسمه جرجس ولقبه الشيخ التاج، فأسلم على يد السلطان الأشرف قبل أن يتسلطن، وذلك في الأيام المؤيدية، وخدم في ديوان الخاص، ثم ولاه الأشرف نظر الإصطبل بحكم شغوره عن بدر الدين بن مزهر لما ولى كتابة السر وأستادرية ولد السلطان، فشكرت سيرته وأمانته وحسن سياسته وكثرة بره.
وفي ثاني عشر جمادى الأولى سار سعد الدين القبطي المعروف بابن المرأة إلى مكة بسبب المكس المتعلق بالتجار الواصلين إلى جدة، وخرج معه نحو ألف نفس للمجاورة فلما كانوا فيها بين الوجه وأكرى وجدوا عدة موتى ممن مات بالعطش في العام الماضي، فلما نزلوا رابغ خرج عليهم الشريف زهير بن سليمان بن زبان بن منصور بن جماز بن شيحة الحسيني ومن معه وكانوا نحو مائة فارس وأرادوا نهبه فصالحوهم على مال بعد أن وقعت بينهم مناوشة وقتل بينهم قلائل من الطائفتين، ودخلوا مكة في ثامن عشرى جمادى الآخرة عرب زبيد، فصالحوهم على مائة دينار بذلها ابن المرأة من ماله -.

(3/456)


وفي ثاني عشر رمضان نودي بمنع المعاملة بالفضة اللنكية وبأن الذهب الأشرفي - الدينار - بمائتين وخمسين.
وفي سادس عشرى جمادى الأولى أعيد كاتبه إلى وظيفة القضاء الشافعية وهي المرة الثانية.
وفيها مات شهاب الدين أحمد الأسود الدويدار نائب الإسكندرية المعروف بابن الأقطع فاستقر جانبك الناصري رأس نوبة إبراهيم بن المؤيد الشهير بالتور نائبا بالإسكندرية وكان من مماليك يلبغا الناصري.
وفي ذي القعدة جرى بين شخص في خدمة كاتب السر ابن السفاح يقال له ابن الناظر الصفدي وبين مملوك لابن السفاح مشاجرة فاغتاله فقتله بسكين، فاطلع عليه بعض الخدم فنم عليه، فانزعج كاتب السر لذلك وحرص على أنه يعرف السبب، فقيل إنه كان بسبب صبي تعايرا عليه، وقيل إن ابن الناظر ذكر لقاتله أنه يعرف السحر وأنه قتل شخصاً بسحره وأن العلماء أفتوه بقتل من يقتل بسحره فما أفادته هذه الدعوى، وبلغ السلطان الخبر فاستدعاه فلما سأله واعترف أمر بقتله، فحرص كاتب السر على أن يؤخر قتله إلى أن يحضر أولياء المقتول، فامتنع السلطان وأمر بتوسيطه، وحصل لكاتب السر من ذلك مشقة شديدة لقصة مملوكه وكان يميل إليه ولفقد صديقه وكان يأتمنه على كثير من أحواله - فلله الأمر.
وفي ذي الحجة استقر التاج الوالي الشويكي في نظر الأوقاف الجكمية، وقرر له من مال الأوقاف في الشهر ثلاثة آلاف، ولم يباشر شيئاً بل قنع بالمعلوم المذكور.
وفي يوم الإثنين من ذي القعدة الموافق لثامن عشرى أبيب أوفى النيل وكسر الخليج وزاد بعد ذلك، فكان في أول يوم من مسرى سبعة عشر ذراعاً وأصابع من الثامن عشر، ولا يحفظ ذلك اتفق فيما مضى قط، وأعجب منه أنه زاد ثاني يوم الوفاء نصف ذراع ولم يحفظ فيما مضى مثل ذلك إلا في سنة ست عشرة فإن الملك المؤيد صاحب حماة ذكر في تاريخه بنظير ذلك في هذا العصر أن النيل أوفى تاسع عشرى أبيب وقال إنه غريب.
وفي شعبان كانت الزلزلة، بغر ناطة وخسف بعدة أماكن وعدة مواضع وانهدم بعض

(3/457)


القلعة، ودامت الأرض تهتز أياماً، وسقط من جدار الجامع الأعظم، وخاف أهل البلد كلهم فخرجوا إلى الصحراء.
وفيها غزاهم الفرنج فكادوا يقبضون عليهم قبض اليد، فأدركهم الله بالفرج، فخرج الشيخ يحيى بن عمر عثمان بن عبد الحق شيخ الغزاة في ألفين من الجند، وسار نصف الليل حتى بعد عن عسكر الفرنج، وقرر مع أهل البلد أن يخرجوا إلى الفرنج فإذا حملوا عليهم انهزموا أمامهم، ففعلوا وطمع الفرنج في أهل البلد - وإذا بالشيخ يحيى قد دهمهم بمن معه من خلفهم - فأطلق النيران في معسكرهم، فجاءهم الصريخ فرجعوا، فركب المسلمون أقفيتهم أسراً وقتلا، فقيل بلغ عدة القتلى زيادة على ثلاثين ألفاً والأسرى إثني عشر ألفاً.
وفي الرابع والعشرين من المحرم عقد مجلس بين أمير آخور جقمق العلائي الذي ولي السلطنة بعد ذلك وبين القاضي زين الدين التفهني وكان يومئذ مدرس الخنفية بمدرسة قانباي، فقرئ محضر يتضمن أن قانباي فوض النظر للتفهني والزمام ثم عزلهما، وأحضر جقمق جماعة يشهدون بذلك، فأسر السلطان لناظر الجيش كلاماً فغاب والشهود معه ثم عاد فقال: اتفقت شهادتهم، ثم أمر السلطان بعقد مجلس بالصالحية وادعى وكيل جقمق على وكيل التفهني أن التفهني حكم في المدرسة المذكورة بغير طريق شرعي، فأجاب وكيل التفهني بأن جقمق ليس ناظراً إلى أن يثبت ذلك، فوصل كتاب الوقف بالشافعي فوجد فيه أن النظر بعده لم يكون أمير آخور يوم ذلك، فقال الوكيل: هذا يقتضي التقييد بذلك الوقت وليس فيه تعميم، فقال الشاهدان على الواقف: نحن نشهد على الواقف أنه جعل النظر بعده لمن يكون أمير آخور، فوقع البحث في ذلك، فادعى وكيل الحنفي أنه له دافعاً، فأمهل ثلاثة أيام، فحكم الحنبلي في غضون ذلك بمقتضى ما شهد به الشاهدان وأن ذلك مقبول ولا يقدح في شهادتهما وإنما هو تفسير لما أبهم؛ وانفصل الأمر على ذلك.
وفي سابع عشر المحرم وصل الأمراء الذين كانوا مجردين بحلب، وأمر السلطان بإخراج بعض العسكر إلى البلاد الحلبية لدفع قرايلك عن ملطية وكان نائبها قانباي البهلوان أرسل لطلب المدد،

(3/458)


فلما تجهز الأمراء وصل الخبر بالإستغناء عن ذلك فأمر برجوعهم فرجعوا بعد أن رحلوا مرحلة واحدة، وقيل كان السبب أن نائب الشام أرسل يذكر للسلطان أنه لا حاجة إلى إرسال أحد من مماليك السلطان، فتخيل منه وأراد إختبار حاله فأرسل له كتاباً صحبة ساعي يستدعى حضوره إلى القاهرة، فوصله الكتاب وهو راكب فخرج في الحال إلى ظاهر دمشق واستدعى آلة السفر وتوجه فوصل في سادس جمادى الآخرة، فأكرمه السلطان وخلع عليه بالإستمرار، وعمل له السلطان ضيافة بخليج الزعفران، وسافر في ثالث عشر الشهر الذي جاء فيه.
وفي هذه السنة قرئ البخارى على العادة، فكثر من يحضر من آحاد الطلبة الذين يقصدون الظهور ومنعوا فشغبوا، وصار لغطهم يزيد وسوء أدبهم يفحش فهددوا فلم يرتدعوا، فأمر السلطان في المجلس الثاني أن تكون القراءة في القصر التحتاني، وصار إذا جاء يجلس في الشباك الذي يطل من القصر الفوقاني على القصر التحتاني، وحصل بذلك للقضاة ولأعيان المشايخ اتضاع منزلة، وعظم اللغط بالنسبة لما كان يحضره السلطان، وصار السلطان بعد ذلك يتشاغل بكتابة العلامة فيجتمع عنده من يتعلق بها ويصير بالتبعية له في أعلى منزلة بالنسبة لمن هو في الحقيقة فوقهم؛ ولما رأى ابن البلقيني أنه ما بقي يظهر له مقصود انقطع عن الحضور، واستمر إلى سنة أربعين، فسعى في العود كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وفيها توجه قرقماس الشعباني وهو يومئذ الحاجب الكبير إلى الصعيد، فلاقاه موسى بن عمر شيخ عرب هوارة وقدم له تقدمة، فلما رجع بلغ موسى أن ابن عمه عمران استقر مكانه وعزله، فخاف موسى ودخل البرية بمن أطاعه، وتوجه الوزير إلى قرقماس ليتعاونا على رجوع موسى فعجزا عنه. ثم لم يزل الوزير يراسل موسى ويتلطف به حتى عاد، وأحضره إلى السلطان فخلع عليه ثم أمسكه بعد أيام ثم حبسه، فبلغ ذلك عربه فأفسدوا في البلاد وأحرقوا الغلال، ووصل عبد الدائم شيخ الفقراء ومعه طائفة من الفقراء في شوال، فهرع الناس للسلام عليه والتبرك به، وكان قد أذن لموسى بن عمر في التوجه

(3/459)


إلى السلطان وضمن له السلامة، فلما سمع بحبسه جاء للشفاعة فيه، فأرسل لهم السلطان القاضي بدر الدين العيني فأحضرهم عنده وتأدب معهم وكانوا ثلاثة: عبد الدائم، وشجاع، والعريان، وأتباعهم، وقبل السلطان شفاعتهم وأذن لهم في تسليم ابن عمر بعد أن يحلفه كاتب السر عند العيني، ففعل ذلك ورجعوا.
وفي جمادى الأولى شاع عن أهل التقويم أنهم اتفقوا أن الشمس تكسف في ثامن عشري هذا الشهر بعد الزوال، فتأهب السلطان وغيره لذلك وترقبها إلى أن غربت، ولم يتغير منها شيء البتة.
وفي يوم الخميس ثاني عشر شهر رجب تزوج سيدي محمد ولد الأمير جقمق بنت أحمد بن أرغون شاه، وعمل له أبوه وليمة عظيمة وقدم له السلطان ومن دونه تقادم سنية.
وفي شوال أرسل السلطان ثلاثمائة مملوك إلى جزيرة قبرس بمطالبة صاحبها بما استقر عليه من المال في كل سنة، وأوصاهم أن يرسوا على بعض الجزائر ويراسلوه، فإن أجاب بالامتثال رجعوا وصحبتهم ما يوصله لهم، وإن امتنع اعتصموا ببعض الجزائر وراسلوا السلطان، فعادوا بعد بضعة وعشرين يوماً وصحبتهم أثواب صوف بقيمة ثلاثة آلاف دينار.
وفيها حجب خوند جلبان زوج السلطان، وكانت أمته فأعتقها وتزوجها وصيرها أكبر الخوندات، وجهزها في هذه السنة تجهيزاً عظيماً، وأرسل صحبتها جوهر اللالا وناظر الجيش ونصب في الودك المتعلق بها على شاطئ النيل وكان امراً مهولاً، وسافروا بالمحمل من أجلها في 7 شوال ورحلوا به من البركة يوم الحادي والعشرين منه قبل العادة بثلاثة أيام.
وفي 12 ذي القعدة أوفى النيل ستة عشر ذراعاً، ونودي عليه بزيادة نصف ذراع بعد الستة عشر، وذلك في تاسع عشري أبيب، وقد تقدم في سنة خمس وعشرين انه أوفى في تاسع عشري أبيب أيضاً ولكن بزيادة اصبعين على الستة عشر فقط، وأوفى قبل ذلك في سنة ست عشرة آخر يوم من أبيب وهي من النوادر، وافسد تعجيل الزيادة من الزروع التي بالجزائر شيئاً كثيراً كالبطيخ والسمسم.

(3/460)


وفيها قدم الامير ناصر الدين محمد بن إبراهيم بن منجك في ذي القعدة، فأخبر أن نائب الشام اقام أياماً محتجباً، فأنكر عليه وسباي الحاجب الكبير فأجابه بالشتم والضرب والإهانة وخرج النائب إلى ظاهر البلد فأقام هناك، فوقع الراي على رجوع ابن منجك بخلعة استمرار للنائب وأخرى للحاجب وأن يصلح بينهما، فبادر وصحبته سودون ميق وهو يومئذ أمير آخور ثاني فاصلحا بينهما واستمر الحال، واشتهر فيها وقوع زلزلة بالأندلس هدم بها من الأمكنة شيء كثير.
وفيها نودي على الذهب بأن كل أشرفي بمائتين خمسة وثلاثين ومن خالف ذلك شنق في يده فاستمر على ذلك.
وفها قدم غادر بن نعير على السلطان مفارقاً لاخيه قرقماس، فأكرمه وأمره عوضاً عن أخيه، فلما رجع عصى وآذى بعض الناس، فأرسل السلطان إلى نائب حلب ونائب حماة أن يركبوا عليه، فبلغه ذلك فهرب وأحاطوا بما وجدوه من ماله.
وفيها أرسل شاه رخ قرايلك في طلب إسكندر بن قرا يوسف فواقعه، فانهزم اسكندر وفر إلى بلاد الكرج فنزل بقلعة سلماس، وبعث إليه شاه رخ عسكراً فقاتلوه إلى أن انهزم ونجا بنفسه جريحاً، فاتفق أنه وقع الغلاء ثم الوباء في عسكر شاه رخ فكر راجعاً إلى بلاده.
وفي العشرين من ذي الحجة مات فارس الذي كان رأس المماليك المقيمين بمكة لكف أذى وكان غيره قد توجه عوضه مع الحاج ورجع هو مبشراً فمات في الطريق، وتاخر قدوم المبشرين بسبب ذلك يومين عن العادة، فقدموا في ثامن عشري ذي الحجة وأخبروا بالرخاء لكن كان الماء قليلاً.

ذكر من مات
في سنة أربع وثلاثين وثمانمائة من الأعيان
إبراهيم بن علي بن إسماعيل بن إبراهيم برهان الدين البلقيني الأصل المعروف بابن الظريف بالظاء المعجمة وتشديد التحتانية، ولي نيابة الحكم بالحسنية في ولاية البلقيني، ثم أضيفت إليه نيابة الحكم بالقاهرة ومصر وباشر مباشرة حسنة، وكان حسن العشرة والمعاملة كثير الإسراف على نفسه - سامحه الله! مات في يوم السبت ثاني عشر - شوال بعد مرض طويل.

(3/461)


أحمد الدوادار نائب الإسكندرية المعروف بابن الأبتع، مات يوم الأحد تاسع جمادى الآخرة بالقاهرة.
إسماعيل بن أبي الحسن بن علي بن محمد، البرماوي الشافعي ولد في حدود الخمسين، ودخل القاهرة قديماً وأخذ عن المشايخ وسمع، ومهر في الفقه والفنون، وتصدى للتدريس، وخطب بالجامع العمري بمصر؛ مات في يوم الأحد الخامس عشر - نصف ربيع الآخر.
إسماعيل الرومي الطبيب الصوفي المقيم بالخانقاه البيبرسية، كان يقرئ العربية والتصوف والحكمة، وامتحن بمقالة ابن العربي ونهى مراراً عن إقرائها، ولم يكن محمود السيرة ولا العلاج، وكان من صوفية البيبرسية؛ مات في تاسع شوال.
حمزة بن يعقوب، الحريري الدمشقي؛ مات في صفر.
شاهين الرومي المزي عتيق تقي الدين أبي بكر المزي، وكان عارفاً بالتجارة، على طريقة سيده في محبة أهل الخير، ووصاه على أولاده فرباهم، ثم مات بالقولنج وهم صغار فأحيط بموجوده، فيسر الله تعالى القيام في أمرهم مع السلطان إلى أن أسعدته، فصار الذي لهم في ذمو شاهين، وظهر لشاهين أخ شقيق، فلما أثبت نسبه قبض ما بقي من تركة أخيه بعد مصالحة ناظر الخاص؛ وكان موته في ثالث عشري ذي القعدة.
عبد الله بن محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج، المقدسي ثم الصالحي الشيخ شرف الدين ابن القاضي شمس الدين أخو القاضي تقي الدين، ولد في ربيع الأول سنة خمسين ومات أبوه وهو صغير، فحفظ المقنع ومختصر ابن الحاجب، وأخذ عن بعض مشايخ أخيه وسمع الحديث، وأجاز له عز الدين ابن جماعة وجمال الدين ابن هشام النحوي وغيرهما، وسمع من جده لأمه جمال الدين المرداوي وشرف الدين بن قاضي الجبل وغيرهما، وافتى ودرس واشتغل وناظر وناب في الفضاء دهراً طويلاً وصار كثير المحفوظ جداً، وأما استحضار فروع الفقه فكان فيه عجباً مع استحضار كثير من العلوم، وكان ينسب إلى المجازفة في النقل أحياناً وعليه مآخذ دينية، وانتهت إليه رئاسة الحنابلة في زمانه، وعين للقضاء غير مرة فلم يتفق ذلك، وولي ابن اخيه في حياته وقدم عليه؛ مات في ليلة الجمعة ثاني ذي القعدة، أرخه مؤرخ الشام وأرخه قاضي الحنابلة في خامس عشر شوال.
عبد الرحمن وجيه الدين بن الجمال، المصري، ولد بزبيد سنة وتفقه، وتزوج بنت عمه النجم المرجاني، وقطن مكة وأشغل الناس بها في الفقه واشتهر بمعرفته؛ ومات في 17 رجب.
عبد الرزاق بن سعد الدين تاج الدين إبراهيم ابن الهيصم، كتب في الديوان المفرد ثم ولي الاستادارية بعد جمال الدين، ثم ولي الوزارة في الدولة المؤيدية ونكب مراراً؛ ومات في يوم الخميس العشرين من ذي الحجة.

(3/462)


عمر بن منصور، الشيخ سراج الدين البهادري الحنفي، ولد سنة بضع وستين، واشتغل بالفقه والعربية والطب والمعاني وغير ذلك حتى مهر واشتهر ودرس وناب في الحكم، وصار يشار إليه في فضلاء الحنفية وفي الأطباء ولم يكن محمود العلاج؛ مات في العشر الثاني من شوال.

(3/463)


محمد ناصر الدين ابن أرغون، المارداني القبيباتي، ولد سنة خمسين وسبعمائة، ونشأ في خدمة الأمراء من عهد آقتمر عبد الغني النائب وهلم جراً، وولي الجيزة والحجوبية والأستادراية عند غير واحد، وكان عارفاً بالأمور، وصحب الناس وعرف أخلاق أهل الدولة وعاشرهم ومازجهم، ثم أقبل على الاشتغال بالفقه حتى صار يستحضر كثيراً من المسائل الفقهية، ويقرأ عنده في الروضة وغيرها، ويكثر من مسايلة من يلقاه من العلماء، وسمعت منه فوائد ولطائف، وكان من جملة من ينتمي إلى أصهارنا بقرابة من النساء؛ مات في رمضان.
محمد بن الأشراف برسباي محمد بن الحسن بن محمد، الشيخ شمس الدين الحسني ابن أخي الشيخ تقي الدين الحصني، اشتغل على عمه ولازم طريقته في العبادة والتجرد، ودرس بالشامية وقام في عمارة البادرائية؛ ومات في شهر ربيع الأول، وكان شديد التعصب على الحنابلة.
محمد بن حمزة بن محمد بن محمد، الرومي العلامة شمس الدين الحنفي المعروف بابن الفنري - بفتح الفاء والنون مخففاً، ولد في سنة 751 في صفر، وأخذ ببلاده عن العلامة علاء الدين المعروف بالأسود شارح المغني وعن الكمال محمد بن محمد المعري والجمال محمد بن محمد بن محمد الأقصرائي وغيرهم ولازم الاشتغال، ورحل

(3/464)


إلى الديار المصرية سنة ثمان وسبعين وله عشرون سنة، فأخذ عن الشيخ أكمل الدين وغيره، ثم رجع إلى الروم فولي قضاء برصا مدة؛ ثم تحول إلى قونية فأقام بها، فلما وقع الحرب بين ابن قرمان وابن عثمان وانكسر ابن قرمان أخذ ابن عثمان الشيخ شمس الدين المذكور إلى برها ففوض إليه قضاء مملكته وارتفع قدره عنده فوصل عنده المحل الأعلى وعذق به الأمور كلها وصار في معنى الوزير واشتهر ذكره وشاع فضله، وكان حسن السمت كثير الفضل والإفضال غير أنه يعاب بنحلة بن العربي وبأنه يقرىء الفصوص ويقرره، ولما قدم القاهرة لم يتظاهر بشيء من ذلك، وحج سنة اثنتين وعشرين، فلما رجع طلبه المؤيد فدخل القاهرة واجتمع بفضلائها، ولم يظهر عنه شيء مما كان رمي به من المقالة المذكورة، وكان بعض من اعتنى به أوصاه أن لا يتكلم في شيء من ذلك، فاجتمع به فضلاء العصر وذاكروه وباحثوه وشهدوا له بالفضيلة، ثم رجع إلى القدس فزاره، ثم رجع إلى بلاده وكان قد اثرى إلى الغاية حتى يقال إن عنده من النقد خاصة مائة وخمسين ألف دينار، وكان عارفاً بالقراآت والعربية والمعاني، كثير المشاركة في الفنون، ثم حج سنة ثلاث وثلاثين على طريق أنطاكية ورجع فمات ببلاده في شهر رجب وكان قد أصابه رمد وأشرف على العمى بل يقال إنه عمي ثم رد الله عليه بصره فحج هذه الحجة الأخيرة شكر الله على ذلك، وله تصنيف في أصول الفقه جمع فيه المنار والبزدوي وغيرهما، وأقام في عمله ثلاثين سنة، وأقرأ العضد نحو العشرين مرة، كتب لي بخطه بالإجازة لما قدم القاهرة.
محمد تقي الدين بن الشيخ نور الدين علي بن أحمد بن الأمين، المصري ولد سنة ستين، وتفقه قليلاً، وتكسب بالشهادة مدة طويلة، وكان يحفظ شيئاً كثيراً من الآداب والنوادر، واشتهر بمعرفة الملح والزوائد المصرية وثلب الأعراض خصوصاً

(3/465)


الأكابر، فكان بعض الأكابر يقربه لذلك، ولم يكن متصوناً في نفسه ولا في دينه - والله يسامحه! مات في شوال.
محمد بن الناصر فرج - محمد بن محمد بن محمد بن محمد الحافظ - الإمام المقرئ شمس الدين ابن الجزري، ولد ليلة السبت الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة 751 بدمشق، وتفقه بها، ولهج بطلب الحديث والقراآت، وبرز في القراآت، وعمر مدرسة للقراء سماها دار القرآن وأقرأ الناس، وعين لقضاء الشام مرة، وكتب توقيعه عماد الدين بن كثير ثم عرض عارض فلم يتم ذلك.
وقدم القاهرة مراراً، وكان مثرياً وشكلاً حسناً وفصيحاً بليغاً، وكان باشر عند قطلبك استادار ايتمشن فاتفق أنه نقم عليه شيئاً فتهدده، ففر منه فنزل البحر إلى بلاد الروم في سنة ثمان وتسعين، فاتصل بابي يزيد ابن عثمان فعظمه، وأخذ أهل البلاد عنه علم القراآت وأكثروا عنه، ثم كان فيمن حضر الوقعة مع ابن عثمان واللنكية، فلما أسر ابن عثمان اتصل ابن الجزري باللنك فعظمه وفوض له قضاء شيراز فباشره مدة طويلة، وكان كثير الإحسان لأهل الحجاز، وأخذ عنه أهل تلك البلاد في القراآت وسمعوا عليه الحديث، ثم اتفق أنه حج سنة اثنتين وعشرين فنهب ففاته الحج وأقام بينبع ثم بالمدينة ثم دخل مكة، فجاور إلى أن حج ورجع إلى العراق، وكان كاتب المؤيد يأذن له في دخول القاهرة، فمات المؤيد في تلك السنة فرجع، ثم عاد في سنة ست وعشرين وحج ودخل القاهرة سنة 127 فعظمه الملك الأشرف وأكرمه وحج في آخرها وأقام قليلاً، ودخل اليمن تاجراً فاسمع الحديث

(3/466)


عند صاحبها ووصله ورجع ببضاعة كثيرة، فقدم القاهرة في سنة سبع وأقام بها مدة إلى أن سافر على طريق الشام ثم على طريق البصرة إلى أن وصل إلى شيراز، وقد انتهت إليه رئاسة علم القراآت في الممالك، وكان قديماً صنف الحصن الحصين في الأدعية ولهج به أهل اليمن واستكثروا منه، وسمعوه علي قبل أن يدخل هو إليهم ثم دخل إليهم فأسمعهم، وحدث بالقاهرة بمسند احمد ومسند الشافعي وبغير ذلك، وسمع بدمشق وبمصر من ابن أميلة وابن الشيرجي ومحمود بن خليفة وعماد الدين بن كثير وابن أبي عمر وإبراهيم بن أحمد بن فلاح والكمال بن حبيب وعبد الرحمن بن أحمد البغدادي وغيرهم وبالإسكندرية من عبد الله الدماميني وابن موسى وببعلبك من أحمد بن عبد الكريم؛ وطلب بنفسه وكتب الطباق وعني بالنظم، وكانت عنايته بالقراآت أكثر، وذيل طبقات القراء للذهبي وأجاد فيه، ونظم قصيدة في قراءة الثلاثة، وجمع النشر في القراآت العشر جوده، وذكر أن ابن الخباز أجاز له واتهم في ذلك، وقرأت بخط القاضي علاء الدين بن خطيب الناصرية انه سمع الحافظ أبا إسحاق إبراهيم سبط ابن العجمي يقول: لما دخلت دمشق قال لي الحافظ صدر الدين الياسوفي: لا تسمع مع ابن الجزري شيئاً؛ قلت: وقد سمعت بعض العلماء يتهمه بالمجازفة في القول، وأما الحديث فما أظن ذلك به إلا إنه كان إذا رأى للعصريين شيئاً أغار عليه ونسبه لنفسه، وهذا أمر قد أكثر المتأخرون منه ولم ينفرد به؛ وكانت وفاته في أوائل سنة ثلاث وثلاثين، وكان يلقب في بلاده الإمام الأعظم،

(3/467)


ولم يكن محمود السيرة في القضاء، واوقفني فتأملتها فوجدته خرجها بأسانيده من جزء الأنصاري وغيره وأخذ كلام شيخنا العراقي في أربعينه العشاريات بنصه، فكأنه استخرج عليها مستخرجاً بعضه بالسماع وأكثره بالإجازة، ومنه ما خرجه شيخنا من جزء ابن عرفة فإنه رواه عن ابن الخباز بالقراءة فأخرجه ابن الجزري عن ابن الخباز بالإجازة.
محمد جمال الدين ابن الشيخ بدر الدين يوسف بن الحسن بن محمود، الحلواني، قدم القاهرة سنة 34 فأكرم. ثم طلبه صاحب الحصن بن الاشرف فجهزه إليه، فمات بمصر في هذه السنة، وكان فاضلاً في عدة علوم، وما اظنه أكمل أربعين سنة.
محمد بن الشيخ بدر الدين، الحمصي المعروف بابن العصياتي، اشتغل كثيراً، وكان في أول أمره جامد الذهن ثم اتفق أنه سقط من مكان فانشق رأسه نصفين ثم عولج فالتأم فصار حفظة ومهر في العلوم العقلية وغيرها، وكان يرجع إلى دين وينكر المنكر ويوصف بحدة ونقص عقل؛ مات في صفر -.
محمد بن ناصر الدين الشيخي، تولى الوزارة للناصر، ثم عزل في سنة أربع وثمانمائة، وصودر بسبب انه ظهر عنده من يعمل الزغل ويخرجه على الناس، فقبض عليه وعوقب إلى أن مات في ذي القعدة. واستقر بعده في الوزارة سعد الله بن عطايا.
محمود بن أحمد بن محمد، الفيومي الأصل نور الدين الحموي ابن خطيب الدهشة، ولد سنة خمسين وسبعمائة، وسمع من جماعة وتفقه ببلده على علمائها في ذلك العصر ودخل الشام ومصر طالب علم، ثم ولي قضاء حماة في أول دولة المماليك المؤيد وباشر مباشرة حسنة بعفة ونزاهة وصرف بزين الدين ابن الخزري في أوائل سنة ست

(3/468)


وعشرين، واختصر القوت للأذرعي وسماه لباب القوت، وله تكملة شرح المنهاج للسبكي، وشرح الكافية الشافية في العربية، وله منظومة في الخط وشرحها، وهذب المطالع لابن قرقور في قدر ضعفه وانتهت إليه رئاسة المذهب بحماة مع الدين والتواضع المفرط والعفة، والانكباب على المطالعة والاشتغال والتصنيف، وكان مشاركاً في الأدب وغيره وحسن الخط؛ مات في يوم الخميس تاسع عشر شوال بحماة، وكانت جنازته مشهودة، ومن نظمه:
وصل حبيبي خبر ... لانه قد رفعه
ينصب قلبي غرضاً ... إذ صار مفعولاً معه
وبينه وبين الشيخ بدر الدين ابن قاضي أذرعات مكاتبات منظومة

(3/469)


سنة خمس وثلاثين وثمانمائة
وفي تاسع عشر المحرم وصل الأمير طرباي نائب طرابلس فسلم على السلطان وخلع عليه، فأقام خمسة أيام ورجع إلى بلده.
وفي شهر رمضان منها استقر دولات خجا الظاهري في ولاية القاهرة عوضاً عن التاج، واستقر التاج في بقية - وظائفه، وكان هذا ظالماً غاشماً، ولي كشف الوجه القبلي فتعدى الحد في العقوبة حتى كان يأمر بأن ينفخ في دبر من يريد عقوبته حتى تندر عيناه وينفلق دماغه، ثم ولي كشف الوجه البحري، ثم استقر في الولاية فجمع كل من في سجن الوالي من أولى الجرائم فأطلقهم، وحلف جهد يمينه أنه متى ظفر بأحد منهم وسطه وفعل ذلك ببعضهم فكفوا، وركب في الليل وطاف وأكثر من ذلك، وألزم الباعة بكنس الشوارع ورشها ووقيد القناديل في حوانيتهم كل ليلة، ومنع النساء من الخروج إلى الترب أيام الجمع، فاستمر على ذلك قدر شهرين ثم أعيد التاج.
وفي الخامس من صفر انتشر بمصر جراد كثير في الآفاق ولكن لم يحدث منه شر، ووردت الأخبار بأنه وقع فيما بين بغداد وتبريز فلم يدع خضراء وكثر فساده، وعم الغلاء حتى حدث منه الشدائد وأعقبه الوباء المفرط، وفيه أعيد آقبغا الجمالي لكشف الوجه القبلي، وفي ربيع الآخر نزل بعض المماليك من الطباق لنهب بيت الوزير وكان استعد لهم

(3/470)


فلم يظفروا به ولا بشيء منه، فلما أصبح استعفى من الأستادارية، فقرر السلطان فيها الصاحب بدر الدين بن نصر الله في ثالث عشري ربيع الآخر، فباشرها شهرين ثم انفصل وأعيد آقبغا الجمالي في جمادى الآخرة، وسبب ذلك أنه كان حصل من الصعيد بالظلم والعسف مالاً كثيراً فرافعه بعض الناس فسعى في الحضور فأجيب، فسعى في الأستادارية على أن يزن عشرة آلاف دينار ويلتزم بالتكفية فأجيب، ثم حوقق على جهات احتاط عليها فزيد على الذي وعد به خمسة آلاف دينار فالتزم بها.
وفيها أجريت العيون حتى دخلت مكة فامتلأت برك باب المعلي ومرت على سوق الليل إلى الصفا فعم النفع بها، وكان القائم على ذلك سراج الدين ابن شمس الدين بن المراق كبير التجار بدمشق، وصرف على ذلك من مال نفسه شيئاً كثيراً، وفي السابع والعشرين من جمادى الآخرة صرف القاضي زين الدين التفهني من قضاء الحنفية وأعيد العيني، وكانت علة التفهني طالت لأنها ابتدأت به من ذي الحجة، فأقام مدة وعوفي ثم انتكس واستمر، وتداولته الأمراض إلى أن أشيع موته، واستقر في قضاء الحنفية بدر الدين العينتابي، وبلغ التفهني ذلك فشق عليه وركب في اليوم الثاني إلى القرافة حتى شاهده الناس ليتحقق أن العينتابي يقول عليه أنه بلغ الموت لكن لم يفد ذلك فلما دخل شوال مات، وكان مولده سنة بضع وستين. فإن القاضي شمس الدين البساطي ذكر أنه يعرفه من سنة ثمانين وهو بالغ، وكان في غضون مرضه نزل لولده شمس الدين محمد - عن تدريس الصرغتمشية، فشق ذلك على العينتابي وقام فيه وقعد، فصده ناظر الجيش عنه، وأمضى السلطان النزول، فلما مات التفهني صودر ولده على خمسمائة دينار، وكان

(3/471)


التفهني سمع الحديث من النجم ابن الكشك وغيره واشتغل على جماعة من المشايخ، وأول من نوه به كاتب السر الكلستاني، وكان أصله من تفهنة إحدى القرى الغربية وأبوه طحان، ومات وهو صغير فرباه أخوه شمس الدين محمد، فلما ترعرع دخل القاهرة ونزل في كتاب السبيل بالصرغتمشية، ثم صار عريفاً بالمكتب، ثم نزل في الطلبة ثم نزل في طلبة الشيخونية، فلما نوه به الكلستاني ناب في القضاء وحمدت سيرته، ولازم الاشتغال وحسن خطه، وكتب على الفتاوى فأجاد، وكان حسن الأخلاق كثير الاحتمال شديد السطوة، إذا غضب لا يطاق وإذا رضي لا يكاد يوجد له نظير - رحمه الله تعالى.
وفي شعبان صرف القاضي شهاب الدين بن المحمرة عن قضاء الشام واستقر كمال الدين البارزي وخلع عليه يوم الجمعة ثاني شعبان مع استمراره في كتابة سر الشام، فلما بلغ الشام توجه إلى بيت المقدس فصام شهر رمضان هناك وقدم بعد شوال إلى القاهرة، وكان لما سار إلى الشام استناب بدر الدين ابن الأمانة في تدريس الشيخونية وجمال الدين ابن المجبر في مشيخة الصلاحية، فلما تمادت إقامته هناك استنجز مرسوم السلطان بالاستقلال، فلما عاد إلى القاهرة استعاد الوظيفتين منهما بإذن السلطان ولم يلتفت إلى شرط الواقف أن من غاب عن وظيفته أزيد من مدة مجاورة الحاج أخرج منها، وهذا بخلاف شرط سعيد السعداء فإن شرط واقفها أن من غاب عن وظيفته يعود إليها إذا عاد ولو طالت غيبته، فحجة ابن الأمانة قائمة وحجة ابن المجبر داحضة.
وفيها وصل من زنوك الصين عدة ومعهم من التحف ما لا يوصف فبيع بمكة،

(3/472)


وفيها أسر حمزة بن قرايلك صاحب آمد، ساره ناصر الدين أمير ماردين وسجنه، لأن أباه كان يغير على معاملة مادرين ويكثر الفساد، فسار قرايلك حتى نازل ماردين وحاصرها مدة إلى أن ملكه، وهرب ناصر الدين أميرها وخلص حمزة بن قرا يلك، واستمرت ماردين في يد قرايلك.
وفي رجب قدم نائب الشام أيضاً مطلوباً فوصل في حادي عشري رجب وخلع عليه في ثاني عشري رجب، واستقر أتابك العساكر عوضاً عن جار قطلي وخلع على جار قطلي بنيابة الشام عوضه، وتوجه في أول شعبان منها.
وفيها صمم السلطان على السفر إلى البلاد الشمالية بسبب قرا يلك وتجهز غالب الناس ولم يبق إلا السفر، فقدم قاصد قرا يلك وصحبته مفاتيح قلعة ماردين وكان قد غلب عليها وقتل صاحبها، ففتر العزم في هذه السنة.
وفيها أراد السلطان عمل دار العدل كما كانت في أيام الظاهر برقوق، فبادروا إلى ترميمها وإصلاح ما تشعث منها، وجلس يوماً ثم ترك. وفيها حج ركب المغاربة وركب التكرور ومعهم بعض ملوكهم. وفيها اشتد تحجير السلطان على التجار وألزمهم بعدم بيع بضائعهم إلا بإذنه، ثم جمعهم في رمضان وسألهم أن يبيعوا عليه جميع ما عندهم من الفلفل بسعر خمسين الحمل، فشق عليهم ولم يجدوا بداً من المطاوعة وكانوا قد باعوه عليهم من قبل السلطان قبل ذلك بسعر ثمانين، فذكر له بعضهم ذلك فلم يلتفت إليه، ثم كتب مراسيم وأرسلت الشام والحجاز والإسكندرية أن لا يبيع أحد البهار ولا يشتريه إلا السلطان،

(3/473)


وفي ذي القعدة عقد مجلس حضره القضاة الأربعة وقرقماس الحاجب الكبير بإذن السلطان بسبب ما حكم به نائب الحنفي من هدم دار ابن النقاش. وكان السبب في ذلك أن علم الدين البلقيني كان سأل ناظر الجيش أن يتنزع له من كاتبه نظر جامع طولون ونظر الناصرية ليسكت عن طلب العود للقضاء والسعي فيه، فرضي كاتبه بذلك وفوض له ذلك وأخذ به توقيعاً سلطانياً، فمن حمقه أنه هنأ السلطان بعيد الفطر فسأله عن أمر النظرين فشكر السلطان فقال له: ينبغي أن يشكر القاضي الذي أعطاك، فقال: أنا ما أعطاني إلا السلطان، وهذا غاية في الحمق والجهل، فإن الواقف شرط النظر للقاضي الشافعي فلو ولاه السلطان لغيره لم تصح ولايته، فلما بلغني ذلك صرحت بعزله، فما بالي بذلك واستمر يتحدث فيهما افتياتاً من غير مبالاة، فلا استمر على التحدث في جامع طولون استخرج من أوراق أخيه محضراً كان كتبه على ابن النقاش يتضمن أن أمين الدين الطرابلسي حيث كان قاضي الحنفية حكم عليه بسد السراب الذي فتحه في جدار الجامع ليستطرق منه إلى الدخول وان البيت الذي بناه من جملة حريم الجامع فيكون له حكم المسجد، وسأل القاضي بدر الدين العينتابي أن يأذن لأحذ نوابه أن يحكم بذلك، فأسند ذلك للقاضي ناصر الدين الشنشي، فحكم وعرض ذلك على السلطان، فاستعظم الناس هدم البيت المذكور بعد مضي أربعين سنة أو أكثر، وشاهد ذلك أكابر العلماء والأئمة، فأمر السلطان بعقد مجلس، فلما اجتمعوا ادعى مدعي على ولد ابن النقاش بأن البيت في أيديهم يجب هدمه، لأنه عمر في حريم الجامع فله حكم المسجد، وأنه يجب عليهم أجرة المثل عن المدة الماضية في تركة أبيهم إلى أن مات ثم في المدة التي منذ مات يجب من ريعه، فأجاب بأن أباه استأذن القاضي جلال الدين البلقيني في استئجار المذكورة فأذن لنائبه القاضي ولي الدين العراقي في النظر في ذلك فاستوفى الشروط وأذن لبعض العدول في إجارته فأجره بأجرة معينة - مدة معينة ليبني في ذلك الزمان ما أراد واتصل ذلك بالعراقي وحكم به، وذلك مصير منهم إلى أن الأرض المذكورة ليست مسجداً؛ فاتصل ثبوت ذلك بالقاضي المالكي في المجلس لكونها شهادة على الخط ثم اتصل بالشافعي، فحكم بابقاء البناء المذكور وعدم التعرض لهدمه، وكان ابن النقاش قد سد الإستطراق المذكور فحاول العلم

(3/474)


أن يهدم ما سده ثم يبني، فلم يوافقه أحد، وانفصل المجلس على ذلك وقصر حكم نائب الحكم بأن الساحة المذكورة الدائرة حول الجامع من حريم الجامع وأن لها حكم الجامع على ما بناه فيه مما لم يتقدم به حكم أحد من الحكام، وحصل للعلم والحنفي من ذلك حنق زائد، فأما العلم فبذل جهده في السعي ليعود إلى القضاء فتعذر عليه ذلك، وأما الحنفي فصار يمتنع من حضور المجالس مع الشافعي ولله الحمد.
وأدير المحمل في هذه السنة في ثالث رجب، وفي هذه السنة منع الناس من السفر في وسط السنة إلى الحجاز صحبة ابن المرأة خشية عليهم من نهب العرب، وكان كسر الخليج في الخامس من مسرى، وانتهت الزيادة في هذه السنة إلى أحد وعشرين إصبعاً من ثمانية عشر ذراعاً في آخر مسرى، ووصل المبشر يوم الجمعة خامس عشرى ذي الحجة، فقطع المسافة في أربعة عشر يوماً، وهذا أسرع ما سمع في ذلك.
وفي سابع عشر شعبان وهو الثالث والعشرون من برموده أرعدت السماء وأمطرت مطراً غزيراً، في هذه السنة تقطع غالب الجسور التي عملت للنيل، فشرق بسبب ذلك كثير من الأراضي، وفي أول رمضان تراءى الناس الهلال فخفى عليهم، فشهد به إثنان بعد العشاء فثبت، فلما أصبح السلطان استغرب ذلك لكونه تراءى هو ومن معه ومكانهم بالقلعة مرتفع جداً وكانت السماء صاحية، فاستدعى بالشهود فحضروا عنده، فامتحنهم بأن فرق بينهم وبأن

(3/475)


ألزمهم أن يشيروا إلى الجهة التي رأوا الهلال فيها في أول ليلة، ففعلوا فلم يخطئوا فمضى الأمر، واتفق في هذه السنة أنهم لم يروا الهلال ليلة الترائي، ثم ثبت في اليوم الثاني من ذي الحجة، فتوافق العيدان في المعنى المذكور، وفيه أكثر السلطان من الركوب إلى الصيد والتنزه حتى ركب في يوم واحد إلى بيت ناظر الجيش ثم إلى بيت ناظر الخاص فحملا له تقادم جليلة، وفيه استقر الوزير كريم الدين ابن كاتب المناخات في كتابة السر مضافاً للوزارة في ثالث شوال عوضاً عن ابن السفاح، وكان السلطان أرسل إلى شهاب الدين ابن الكشك قاضي الحنفية بدمشق بأن يحضر ويستقر في كتابة السر، فأرسل بالإعتذار وبذل مالاً على الكف عنه، فأجيب واستقر كريم الدين، فباشر قليلاً ثم صرف بعد قليل لما حضر ابن البارزي، وفي ذي القعدة استقر القاضي عز الدين عبد العزيز بن علي البغدادي في قضاء الحنابلة بدمشق وفي أواخر جمادى الأولى صرف العينابي من الحسبة، واستقر صلاح الدين بن بدر الدين بن نصر الله.
وفي شوال قتل نصراني وقع في حق داود عليه السلام فحبس مدة ليسلم فأصر فقتل.
وفي هذه السنة ثارت فتنة عظيمة بين الحنابلة والأشاعرة بدمشق، وتعصب الشيخ

(3/476)


علاء الدين البخارى نزيل دمشق على الحنابلة وبالغ في الحط على ابن تيمية وصرح بتفكيره، فتعصب جماعة من الدماشقة لابن تيمية، وصنف صاحبنا الحافظ شمس الدين ابن ناصر الدين جزءاً في فضل ابن تيمية وسرد أسماء من أثنى عليه من أهل عصره فمن بعدهم على حروف المعجم مبيناً لكلامهم وأرسله إلى القاهرة، فكتب له عليه غالب المصريين بالتصويت، وخالفوا علاء الدين البخارى في إطلاقه القول بتفكيره وتفكير من أطلق عليه أنه شيخ الإسلام، وخرج مرسوم السلطان على أن كل أحد لا يعترض على مذهب غيره ومن أظهر شيئاً مجمعا عليه سمع منه، وسكن الأمر؛ واستقر جارقطلي في نيابة الشام في ثامن عشرى رجب، وفيه ألزم أهل سوق الخيل أن لا يبيعوا لمعم فرساً ولا لجندي من أولاد الناس، ثم بطل ذلك عن قرب، وفيه وقع الفناء في الخيول، فأخذت الناس من الربيع ثم شفع فيهم فأعيد أكثرها، وتوجه عدة من الأمراء إلى بلاد الريف لأخذ الخيول من أيدي الفلاحين.
وفي ثالث ربيع الآخر أمر السلطان بإخراج من في السجون على الديون والمصالحة عنهم، وفي أولها اهتم السلطان بأمر الأسعار وأمر بإخراج البذر من حواصله للأراضي البائرة، فكثر الزرع وفرح الناس بذلك وتراجع السعر

(3/477)


وفيها مات جينوس بن ثاني الفرنجي متولي قبرس الذي كان أسر، ووصل الخبر بذلك في ذي القعدة، واستقر ولده مكانه فبذل الطاعة لصاحب مصر والتزم بما كان أبوه التزم به وأرسل مع رسل السلطان إليه بذلك أربعة وعشرين ألف دينار وكان السلطان الأشرف جهز إلى جوان ابن جينوس الفرنجي متولي قبرص رسولاً، فقابله بالإكرام وقبل الأرض قائماً أمام الكتاب وأجاب بالطاعة وأنه نائب عن السلطان، وجهز المال الذي كان تأخر على والده وجهز سبعمائة ثوب صوف ملونة، وسألوا السلطان أن يكون عندهم نائب من جهته، فأرسل إليهم أميراً ومعه أربعون مملوكاً.
وفيها اشتهر خراب الشرق من بغداد إلى تبريز، وكثر الغلاء حتى بيع الرطل اللحم بنصف دينار، وأكلوا الكلاب والميتات، ثم فشا الوباء في العراق والجزيرة وديار بكر. وفيها أمر القضاة بإحضار جميع نوابهم إلى السلطان ليعرفهم، ففعلوا ذلك في أول ذي القعدة، ثم أمروا بتأخير النواب، فسألهم السلطان عن النواب فوقع الكلام إلى أن قال السلطان: يستقر للشافعي خمسة عشر وللحنفي عشرة وللمالكي سبعة وللحنبلي خمسة، فامتثلوا ذلك ثم قال: لا يستنب أحد من غير مذهبه بالقاهرة وأما الضواحي فيستنيب الشافعي عز الدين الحنبلي في قضاء الشام عوضاً عن نظام الدين ابن مفلح.

(3/481)


ذكر من مات
في سنة خمس وثلاثين وثمانمائة من الأعيان.
أحمد بن إسماعيل، الأشيطي الشيخ شهاب الدين، تفقه قليلاً، ولزم قريبه الشيخ صدر الدين الأبشيطي، وأدب جماعة من أولاد الأكابر، ولهج بالسيرة النبوية فكتب منها كثيراً إلى أن شرع في جمع كتاب حافل في ذلك، وكتب منه نحواً من ثلاثين سفراً يحتوي على سيرة ابن إسحاق وما وضع عليهما من كلام السهيلي وغيره وعلى ما احتوت عليه المغازي للواقدي، وضم إلى ذلك ما في السيرة للعماد بن كثير وغير ذلك، وعنى بضبط الألفاظ الواقعة فيها؛ ومات في سلخ شوال وقد جاوز السبعين.
أحمد بن صالح بن محمد بن محمد بن أبي السفاح، شهاب الدين ابن السفاح كاتب السر بحلب ثم بالديار المصرية، ولد سنة 72، وسمع من الكمال ابن حبيب وجماعة من الحلبيين، وحفظ القرآن. وتعانى الكتابة في التوقيع إلى أن مهر فيه، وولي نظر الجيش بحلب، فباشر التوقيع عند يشبك بعد أخيه ناصر الدين، ثم ولي كتابة السر بصفد ثم بحلب مرتين، ثم قدم القاهرة واستقر في توقيع السلطان قبل سلطنته، فلما تسلطن استقر به كاتب السر ابن الكوين في كتابة السر ببلده بحلب إرادة للراحة منه، فتوجه إليها بعد أن كان يباشر توقيع الدست مدة، فلما كان من وفاة الشريف شهاب الدين كاتب السر ما كان وتبعه أخوه أو بكر شغرت وظيفة كاتب السر وذكر لها جماعة، فاقتضى رأي السلطان تقرير هذا فأرسل إليه، فقدم في شهر رمضان سنة ثلاث

(3/482)


من حلب، واستقر في أواخره، واستمر فيها إلى أن وعك في شهر رمضان هذه السنة فلم يلبث سوى خمسة أيام ومات. وكان قليل الشر غير مهاب ضعيف التصرف قليل العلم جداً، وكان السلطان يمقته في طول ولايته مع استمرار خدمته له ببدنه وماله، ويقول إنه أزعجه بشئ هدده به فضعف قلبه من الرعب ومات منها؛ قال القاضي علاء الدين: هو أخي من الرضاعة وكان صديقي وفيه حشمة ومروءة وعصبية وقيام في حاجة من يقصده؛ ومات في ليلة الأربعاء 14 رمضان عن ثلاث وستين، وعينت بعده للقاضي شهاب الدين ابن الكشك قاضي الحنفية بدمشق فعاد جوابه بالإستعفاء فعيب عليه، والتزم بمال يحمله بسبب الإعفاء، وعين القاضي كمال الدين البارزي، فإلى أن يحضر استقر الوزير كريم الدين مضافاً إلى الوزارة، واستقر في الأستادارية آقبغا الجمالي إلى أن قدم جمال الدين.
أحمد بن تقي الدين عبد الرحمن بن العلامة جمال الدين بن هشام، المصري النحوي شهاب الدين، اشتغل كثيراً بمصر، وأخذ عن الشيخ عز الدين ابن جماعة وغيره. وفاق في العربية وغيرها، وكان يجيد لعب الشطرنج، وانصلح بأخرة، وسكن دمشق فمات بها في رابع جمادى الآخرة.
أحمد بن عثمان بن محمد بن عبد الله، الحنفي ابن الكلواتاني الشيخ شهاب الدين، ولد في شهر رمضان سنة ست وستين وسبعمائة، وأجاز له قديماً القاضي عز الدين ابن جماعة،

(3/483)


وأحب الحديث بعناية صديق أبيه شمس الدين ابن الوفاء فسمع وهو مترعرع منه الكثير، ثم طاف على الشيوخ في سنة تسع وتسعين وسبعمائة وهلم جرا إلى أن مات، ما فتر ولا ونى ولكنه لم ينجب ولم ينتقل عن الحد الذي ابتدأ فيه في الفهم والمعرفة والحفظ والقراءة درجة بل كان شديد الحرص على الاشتغال في الحديث والفقه والعربية والقراآت، وأعلى من عنده بالسماع ناصر الدين محمد بن علي الحراوي صاحب الدمياطي، وسمع من أصحاب ابن الصواف وابن القيم ثم من أصحاب أصحاب النجيب ثم من أصحاب أصحاب الفخر ثم من أصحاب ست الوزراء وابن الشحنة والواني والدبوسي والحنفي ثم من بعدهم حتى قرأ على أقرانه ومن سمع بعده، وخرج لنفسه شيئاً لم يكمله، وشرع في اختصار تهذيب الكمال فكتب منه شيئاً وتركه، ونسخ بخطه من تصانيف شيوخنا ثم من تصانيف أقرانه كالقاضي ولي الدين وكاتبه وغيرهما شيئاً كثيراً، وخطه ردئ وفهمه بطئ ولحنه فاشي لكنه كان ديناً خيراً كثير العبادة، على وجهه وضاءة الحديث، وكان في أكثر عمره متقللاً من الدنيا حتى كان يتكسب بالشهادة، ثم قرر في قراءة الحديث في القلعة بأخرة بعد الشيخ سراج الدين قارئ الهداية، ومات في 14 جمادى الآخرة.
جينوس بن جاكم بن بيدو بن أنطون بن جينوس متملك قبرس وصاحب الواقعة مع المسلمين، هلك واستقر ابنه في قبرس بعده.
حسين بن علاء الدولة بن أحمد بن أويس، آخر ملوك العراق من ذرية أويس، وكان اللنك أسره وأخاه حسناً، وحملهما إلى سمرقند ثم أطلقا، فساحا في الأرض فقيرين مجردين، فأما حسن فاتصل بالناصر فرج وصار في خدمته ومات عنده قديماً. وأما حسين فتنقل في البلاد إلى أن دخل العراق فوجد شاه محمد بن شاه ولد بن أحمد بن أويس وكان أبوه صاحب البصرة فمات فملك ولده شاه محمد، فصادفه حسين قد حضره الموت فعهد إليه بالمملكة فاستولى على البصرة وواسط وغيرهما ثم حاربه أصبهان شاه

(3/484)


بن قرا يوسف، فانتمى حسين إلى شاه رخ بن اللنك، فتقوى بالانتماء إليه وملك الموصل واربل وتكريت وكانت مع قرا يوسف، فقوي اصبهان شاه واستنقذ البلاد وكان يخرب كل بلد ويحرقه - إلى أن حاصر حسيناً بالحلة منذ سبعة أشهر، ثم ظفر به بعد أن أعطاه الامان فقتله خنقاً في ثالث صفر هذه السنة.
خالد بن قاسم بن محمد، العاجلي ثم الحلبي زين الدين، ولد في رمضان سنة 753، ولازم القاضي شرف الدين بن فياض وولده أحمد، واخذ عن شمس الدين ابن اليانونية، وأحب مقالة ابن تيمية، وكان من رؤوس القائمين مع أحمد بن البرهان على الظاهر، وهو آخر من مات منهم، وتنزل بالآثار النبوية، وكان قد غلب عليه حب المطالب فمات فلم يظفر بطائل، ونزله المؤيد بمدرسته في الحنابلة؛ ومات في ثالث ذي الحجة.
عبد الله بن نور الدين محمد بن قطب الدين عبد الله بن حسن بن يوسف بن عبد الحميد بن أبي الغيث، البهنسي قطب الدين، ويقال له أيضاً جمال الدين، ولد في رجب سنة 755، واشتغل وسمع الحديث وقال الشعر وكان موسراً لكنه كان كثير التقتير على نفسه جداً وأصيب في عقله بأخرة وأكمل الثمانين؛ مات في شهر رمضان. قرأت بخط الشيخ تقي الدين المقريزي: أنشدني جمال الدين البهنسي لنفسه:
إذا الخل قد فاجاك بالهجر فاسطبر ... وسامح له واغفر بنصح وداره
فإن عاد فاقتله ولا تذكر اسمه ... فحول طريق القصد عن باب داره

(3/485)


عبد الرحمن بن علي بن عبد الرحمن بن علي بن هاشم، التفهني القاضي زين الدين الحنفي، ولد سنة بضع وستين، وسأل اخاه شمس الدين أحد من ينوب في الحكم عن النائب بها عن مولده فذكر أنه ولد سنة 43 وأنه أسن من القاضي زين الدين بعشرين سنة، ولست أرتاب في مجازفته في كل ذلك، ومات أبوه وهو صغير فانتقل إلى القاهرة وهو شاب، وتنزل في مكتب اليتامى بمدرسة صرغتمش، ثم ترقى إلى أن صار عريفاً وتنزل في الطلبة هناك، ولازم الاشتغال ودار على الشيوخ فمهر في الفقه والعربية وجاد خطه وشهر اسمه وخالط الأتراك وصحب بدر الدين محمود الكلستاني كاتب السر فاشتهر ذكره، وناب في الحكم عن الطرابلسي ثم عن ابن العديم كمال الدين ونوه به كمال الدين عند الأكابر، وكان قد تقرر في طلب الشيخونية كمال الدين مشيختها فصار من أفاضلهم، وولي تدريس الصرغتمشية بعناية ابن العديم بعد أن تنازع فيها هو والشيخ شرف الدين التباني، وحصرها التباني ثم انتزعها منه، وتزوج فاطمة بنت شهاب الدين المحلي كبير التجار بمصر ثم انتزعها منه، وسعى في قضاء الحنفية بعد موت ناصر الدين ابن العديم، وراج أمره ثم لم يتم ذلك وولي شمس الدين بن الديري، ثم لما قرر المؤيد الديري في مشيخة المؤيدية فوض إليه قضاء الحنفية في ذي القعدة سنة اثنتين وعشرين فباشره مباشرة حسنة، وكان حسن العشرة، كثير العصبية لأصحابه، عارفاً بأمور الدنيا عارفاً بمخالطتهم، على أنه يقع منه في بعض الأمور لجاج شديد يعاب به ولا يستطيع أن يتركه، وصرف عن القضاء في سنة تسع وعشرين وبالعيني، ثم أعيد في سنة ثلاث وثلاثين، ثم صرف قبل موته في جمادى الآخرة؛ ومات تاسع شوال، وقد انتهت إليه رياسة أهل

(3/486)


مذهبه، ويقال إن أم ولده دست عليه سماً، لأن زوجته لما ماتت ظنت أم ولده أنها تنفرد به، فتزوج امرأة وأخرج الأمة فحصلت لها غيرة، والعلم عند الله تعالى - والله يسامحه.
عمر بن أبي بكر بن عيسى بن عبد الحميد، المغربي الأصل البصروي زين الدين، قدم دمشق فاشتغل بالفقه والعربية والقراآت وفاق في النحو، وشغل الناس وهو بزي أهل البر، وكان قانعاً باليسير حسن العقيدة، موصوفاً بالخير والدين، سليم الباطن، فارغاً من الرياسة؛ مات في 4 جمادى الآخرة.
عيسى بن محمد بن عيسى، الأقفهسي شرف الدين أحد نواب الحكم، تفقه وعرف كثيراً من الفروع وكان يستحضرها، وناب في الحكم مدة طويلة؛ ومات في جمادى الآخرة، ولم يكن مشكوراً، وأظنه جاوز الثمانين وكان يذكر أنه حضر درس الشيخ جمال الدين الأسنوي ثم لازم شيخنا البلقيني وقرأ عليه في تاج الأصول، ورأيت خطه له بذلك، وفيه أنه أذن له في التدريس، وفيه إلحاق الفتوى بخط شرف الدين نفسه الذي لا يخفي فوق قشط، وكانت إجازة الشيخ له في سنة 75، فعاش بعدها ستين سنة، وكان يذكر أنه ناب في الحكم في بعض البلاد عن البرهان ابن جماعة - سامحه الله تعالى.
محمد بن سعد الدين، جمال الدين، ملك الحبشة المسلمين، قتل في جمادى الآخرة، وكانت ولايته بعد فقد أخيه منصور في سنة ثمان وعشرين، وكان شجاعاً بطلاً مديماً لجهاد وكان عنده أمير يقال له حرب جوس، كان نصرانياً فأسلم فحسن إسلامه، وكان لا يطاق في القتال، فهزم الحبشة الكفار مراراً وأنكأ فيهم، وغزاهم جمال الدين مرة ومعه حرب جوس فغنم غنائم عظيمة حتى بيع الرأس الرقيق بربطة ورق،

(3/487)


وانهزم منهم مرة الحطي صاحب الحبشة، ولم يزل جمال الدين على طريقته في الجهاد حتى ثار عليه بنو عمه فقتلوه في هذه السنة، وكان من خير الملوك ديناً ومعرفةً وقوةً وديانةً، وكان يصحب الفقهاء والصلحاء، وينشر العدل في أعماله حتى في ولده وأهله، ومن جملة سعده هلالك الحطي إسحاق بن داود بن سيف أرغد في أيامه في سنة ثلاث وثلاثين، وأقيم بعده اندراس، واسلم على يد جمال الدين خلائق من الحبشة، واستقر بعده في مملكة المسلمين أخوه شهاب الدين أحمد ويلقب بدلاي، فأول ما صنع جد حتى وجد قاتل أخيه فاقتص منه.
محمد أبو عبد الله بن صاحب المغرب أبي فارس عبد العزيز، مات وكان ولي عهد أبيه، وأسف عليه أبوه أسفاً كثيراً، وكان موصوفاً بالشهامة ومكارم الأخلاق، لا يعرف له صبوة إلا في الصيد، وكان أبوه قد تخلى له عن الملك غير مرة فيمتنع ويبالغ في الامتناع، فقدرت وفاته بطرابلس المغرب بزاويته التي أنشأها هناك، وكثر الأسف عليه، ويقال إنه كان مغرماً بالجواري، وكان أبوه يعرف ذلك فكان يقول له: إياك والنساء ويكرر ذلك في المجلس حتى يخجله ولا يرتدع، وكان حدث له ورم في ركيتيه، فكان أبوه يخشى عليه من كثرة الجماع. فقدر أن وفاته كانت بسبب ذلك فيما يقال.
محمد بن ناصر الدين محمد بن محمد، الحافظ تاج الدين الكركي ابن الغرابيلي سبط العماد الكركي، ولد سنة ست وتسعين بالقاهرة حيث كان جده لامه ونقله أبوه إلى الكرك حيث عمل إمرتها، ثم تحول به إلى القدس سنة سبع عشرة، فاشتغل وحفظ عدة مختصرات كالكافية لابن الحاجب والمختصر الأصلي والإلمام والألفية في الحديث، ولازم الشيخ عمر البلخي فبحث عليه في العضد والمعاني والمنطق، وتخرج أيضاً بنظام الدين قاضي العسكر

(3/488)


وبابن الديري الكبير، ومهر في الفنون إلا الشعر، ثم أقبل على الحديث بكليته فسمع الكثير وعرف العالي والنازل، وقيد الوفيات وغيرها من الفنون، وشرع في شرح على الإلمام، وذكر لي بعض اصحابه أنه أقبل على الحديث من سنة خمس وعشرين، فأقبل لي النظر في التواريخ والعلل، وسمع الكثير ببلده، ورحل إلى دمشق ورحل إلى القاهرة فلازمني إلى أن حرر نسخته من المشتبه غاية التحرير، واغتبط به الطلبة لدماثة خلقه وحسن وجهه وفعله، وقدرت وفاته في جمادى الآخرة بعد أن هم بالحج صحبة ابن المرأة فلم يتهيأ له ذلك، ووعك إلى إن مات وكان من الكملة فصاحة لسان وجرأة ومعرفة وقياماً مع أصحابه ومروءة وتودداً وشرف نفس وقناعة باليسير وإظهاراً للغني مع قلة الشيء، وقد عرض عليه كثير من الوظائف الجليلة فامتنع واكتفى بما كان يحصل له من شيء كان لأبيه، وكان الأكابر يتمنون رؤيته والاجتماع به لما يبلغهم من جميل أوصافه، فيمتنع إلا أن يكون الكبير من أهل العلم - رحمه الله تعالى.
يحيى بن عبد الله، القبطي علم الدين أبوكم، باشر نظر الأسواق ثم ولي الوزارة في دولة الناصر فرج، ثم خمل وحج وجاور بمكة مرة - إلى أن مات في 22 رمضان بالقاهرة وقد جاوز السبعين، وكان إسلامه حسناً.

(3/489)


سنة ست وثلاثين وثمانمائة
في المحرم حولت السنة الخراجية على العادة، وكان أول السنة الخراجية ثاني يوم المحرم، وكان أوله يوم الجمعة فأول السنة الخراجية يوم السبت، وكان الذهب الأشرفي حينئذ بمائتين وسبعين، وانتهت زيادة النيل إلى خمسة أصابع بعد العشري، وفي السادس والعشرين منه غضب السلطان على آقبغا الجمالي الأستادار وضربه بحضرته عدة مقارع ونحو ثلاثمائة عصا على ما قيل، وأنزل على حمار إلى بيت والي الشرطة وأعيدت الاستادراية إلى الوزير، وانفصل من ولاية كتابة السر، وكوتب جمال الدين محمد بن ناصر الدين محمد البازري وكان قد استقر قاضي الشافعية ليلى كتابة السر، فوصل في أول الجمعة تاسع عشر ربيع الأول، ولم يلبث حتى حمل المال الذي قرر عليه بسبب ذلك، وخلع عليه في يوم السبت العشرين منه، وقرئ تقليده في يوم الخميس ثامن جمادى الأولى، فلم يقم إلا قليلاً حتى تحرك السلطان للسفر إلى الشام فخرج معه، واستقر في قضاء دمشق صهره بهاء الدين ابن حجي، وعرضت كتابة السر على شهاب الدين ابن الكشك، فاعتذر بضعف بصره، فقرر فيها تاج الدين عبد الوهاب بن أفتكين وكان أحد الموقعين بها ويتوكل عن كاتب سر مصر ابن مزهر، وكان الشتاء في هذه السنة معتدلاً بحيث لم يقع به برد شديد سوى أسبوع، وبقيته يشبه مزاجه فصل الربيع في الاعتدال، وفي هذا الشهر أظهر السلطان الجد في التوجه إلى بلاد الشمال، وأعلم الناس بذلك فتجهزوا، وفي حادي عشر جمادى الآخرة أنفق على العسكر ثم أنفق في - المماليك السلطانية والأمراء في سلخ جمادى الآخرة - وهم ألف وسبعمائة.

(3/490)


وفي ربيع الأول استقر محيي الدين يحيى بن حسن بن عبد الواسع الحيحاني المالكي في قضاء دمشق عوضاً عن الشهاب الأموي بحكم وفاته، وفي ثاني عشر شهر رجب أدير المحمل المكي بغير زينة ولا سوق الرماحة ولا رمي النفط ولم يصل المحمل إلى مصر على العادة بل رجعوا به من الصليبية.
وفيها حج صاحب التكرور في جمع كثير، فلما رجع من الحج سار إلى الطور ليركب البحر، فمات ودفن بالطور.
وفي رجب كائنة القاضي سراج الدين الحمصي بطرابلس مع الشيخ شمس الدين ابن زهرة شيخ الشافعية بطرابلس، وذلك أنه بلغه ما وقع بين علاء الدين البخاري والحنابلة في أمر الشيخ تقي الدين ابن تيمية وأن البخاري أفتى بأن ابن تيمية كافر وأن من سماه شيخ الإسلام يكفر، فاستفتى عليه بعض من يميل لابن تيمية من المصريين فاتفقوا على تخطئته في ذلك وكتبوا خطوطهم، فبلغ ذلك الحمصي فنظم قصيدة تزيد على مائة بيت بوفاق المصريين، وفيها أن من كفر ابن تيمية هو الذي يكفر، فبلغ ذلك ابن زهرة فقام عليه فقال: كفر القاضي، فقام أهل طرابلس على القاضي وأكثرهم يحب ابن زهرة ويتعصب له، ففر الحمصي إلى بعلبك وكاتب أهل الدولة، فأرسلوه له مرسوماً بالكف عنه واستمراره على حاله، فسكن الأمر.
وفي صفر استقر في نيابة البحيرة حسن بك بن سالم الدكري أحد أمراء التركمان، وخلع عليه وأمر له بمائة قرقل ومائة قوس ومائة تركاش وثلاثين فرساً،

(3/491)


وفي أواخره ضربت رقبة نصراني كان أسلم خوفاً من الوالي لأنه ظفر به مع امرأة مسلمة ثم بدا له بعد ثلاثة أيام فارتد، فقتل فأحرقت جثته، وفي سابع عشر جمادى الآخرة أعيد دولات خجا إلى ولاية القاهرة.

ذكر السفرة الشمالية
في يوم الجمعة تاسع عشر شهر رجب
وهو أول يوم نزلت فيه الشمس الحمل رحل السلطان من الريدانية قبل صلاة الجمعة بقدر نصف ساعة، فصلينا الجمعة بالقاهرة وسرنا فبتنا مع العسكر بالعكرشة، ورحل سحراً فوصل بلبيس قبل الظهر، ورحل طلوع الفجر فنزل الحطارة بعد الظهر، ورحل نصف الليل فوصل الصالحية بعد طلوع الشمس يوم الاثنين، ثم رحل منها في ثالثة الثلاثاء إلى الغرابي فنزلها بعد العشاء بكثير فقطع أربعة برد: بتر الوالي ثم العقولة ثم بتر حبوة ثم الغرابي، ورحل يوم الأربعاء وقت الزوال فوصل قطيا بعد العصر والأثقال بعد المغرب، وأقام إلى أن رحل منها بكرة الجمعة فوصل السوادة بعد العشاء، وهي ثلاث برد -: معن ثم المطيلب ثم السوادة، ثم رحل

(3/492)


قبل طلوع الشمس فوصل إلى العريش بعد العشاء وهي ثلاثة برد الورادة ثم برد ويل فبات بالعريش ليلة الأحد ورحل في الثالثة إلى الحروبة ثم الزعقة قبل المغرب، ثم رحل بعد نصف الليل أول يوم من شعبان فاجتاز على رفخ ثم خان يونس ثم نزل خارج غزة، ثم دخلها وقت العصر سلخ رجب فدخلها - في موكب عظيم فبات خارجها إلى جهة الشام، وسلمنا على السلطان يوم الثلاثاء وهنأناه بالسلامة وبالشهر، وكان ثبت عندهم يوم الاثنين، وحصل من الجند في زرع الناس فساد كبير، وأقام بها ليلة الخميس فرحل فوصل إلى المجدل بعد طلوع الشمس، ونزل بموضع يقال له السكرية، ووقع في تلك الليلة برد شديد عند السحر أشد من الشتاء المعتاد بعد إن كان في النهار شديداً إلى الغاية، ورحل بعد المغرب على طريق العوجاء ولم يدخل الرملة واجتاز بسازور، ورحل قبل طلوع الشمس يوم السبت إلى قاقون وهي منزلة نزهة لكثرة الخضرة والنضارة فنزل بعد العصر، ورحل إلى اللجون ونزل - قبل الفجر، وهي منزلة وعرة إلى الغاية فنزل بعد الظهر، ورحل يوم الاثنين أول النهار فنزل ببيسان وهي طريق وعرة بعد المغرب، ورحل قبل الفجر إلى جسر أم جامع - وحصل لهم فيه وحلة عظيمة عند القنطرتين وهناك النهر من بحيرة طبرية، فوصل إلى الكرك آخر النهار ليلة العاشر،

(3/493)


وطلع العقبة وهي كثيرة الوعر مع الخضرة في أرضها فنزل بالخربة الظهر، وبات ليلة الحادي عشر فوصل نائب الشام والقضاة أول النهار وسلموا، وسار ليلة الجمعة سحراً إلى العدوانية فنزل الظهر، وفي الطريق قنطرة حصل عندها ازدحام شديد، ورحل ليلة السبت إلى شقحب بعد الظهر والطريق إليها شديد الوعر جداً، وفيه مخاضات وهي أرض فيحاء خضرة، ووصل ليلة الرابع عشر قبل الفجر إلى قبة يلبغا ورم على خان ذي النون والكسوة فبات ليلة النصف واصبح فعمل الموكب ودخل دمشق من أول النهار إلى أن وصل الخيام ببرزة، وهبت في آخر النهار ريح شديدة، وفي صبيحة يوم الثلاثاء سادس عشرة هنينا السلطان بالسلامة، وعقدت مجلس الإملاء بدمشق فاستملي القاضي نور الدين بن سالم، وحضر الحافظ شمس الدين ابن ناصر الدين والقاضي شهاب الدين ابن الكشك وجمع وافر.
وفي السابع عشر عقد مجلس بسبب وقف حكم فيه نائب الحنفي، فاعترضه الشيخ علاء الدين البخاري وأفتى بنقض حكمه، فاتفق الجماعة على استمرار الحكم ونفذوه بحضرة الدويدار الكبير، وامتنع ابن حجي من التنفيذ حتى يأذن له الشيخ علاء الدين، فلم يلتفتوا إليه، وصلينا الجمعة بالقابون، ورحل طلوع الفجر العشرين منه فنزل بمرج عذراء، ورحل بعد صالة الفجر وفي الطريق مخاضات ووعر ونزل القطيفة ووصل النبك في صبيحة الثاني والعشرين،

(3/494)


ورحل وقت الظهر إلى مكان عيون القصب، واجتاز في هذه الرحلة بقارا وحسيان وكانت شديدة المشقة، ووصل هناك نائب طرابلس ونائب حماة، ورحل قبل الفجر رابع عشري شعبان إلى حمص فنزل بظاهرها يوم الخميس، ورحل منها صبح الجمعة وزار خالد بن الوليد وأمر لمن فيه بمائة دينار وكان الزحام على جسر الرستن شديداً ونزل الرستن في أرض وعرة ورحل سحرا ودخل حماة بعد طلوع الشمس يوم السبت، ورحل بعد صلاة الفجر يوم الاثنين فنزل العيون نصف الليل ورحل قبل الزوال فنزل تل السلطان وأمطرت السماء على الناس مطراً شديداً ولاقوا شدة حتى نزلوا نصف الليل تل السلطان فبات ليلة الخميس، وهنئ السلطان بالشهر ووصل قضاة حلب فسلموا وذكروا أنهم لم يروا هلال رمضان ليلة الثلاثاء ثم تبين أنه ثبت عندهم ورحل يوم الخميس ثم نزل قنسرين ليلة الجمعة، ثم رحل فنزل عين مباركة بعد الظهر يوم الجمعة، ثم دخل صبيحة السبت خامس شهر رمضان في موكب هائل إلى حلب، فنزل الشافعي عند القاضي الشافعي، والحنفي في منزل وحده، والمالكي والحنبلي جميعاً في مدرسة، وكانت الإقامة بحلب خمسة عشر يوماً وفي أثنائها استقر محي الدين ابن الشحنة في قضاء الحنفية بحلب، وكانت الوظيفة شاغرة منذ تحول بأكثر إلى القاهرة، وحضر إلى السلطان أكابر أمراء التركمان مثل ابن رمضان وابن قراجا وابن دلغار ومن أمراء العرب،

(3/495)


وفي الثامن من شهر رمضان أغار.. وفي السادس عشر من شهر رمضان تقدم إلى جهة الفرات نائب طرابلس ونائب صفد ونائب حماة ونائب غزة، وجاء الخبر بان الجسر عمر وأتقن وأن قرقماس البدوي العاصي أرسل جماعة ليحرقوه فأمسك منهم أكثر من عشرين نفساً وسافر بعدهم نائب حلب في تاسع عشر شهر رمضان، ورحل السلطان وجميع العسكر في ليلة الحادي والعشرين من رمضان، وأذن للقاضيين المالكي والحنبلي في الإقامة بحلب، وسافر صحبته الشافعي، وكان الحنفي استأذنه أن يزور أهله بعينتاب فأذن له، فلما رحل السلطان من حلب أرسل إليه مرسوماً أن يلاقيه بالبيرة، وفي رابع عشري رمضان أغار قرقماس البدوي على ابن الأقرع البدوي فقتله واستاق من ماله نحو مائتي بعير، وخرج نائب الغيبة بحلب في طلبه فلم يظفر به، وفي يوم الجمعة اجتاز السلطان الجسر المعد على الفرات واجتاز العسكر بعده أولاً فأولاً فلم يتكاملوا إلى بقية يوم الأحد لكثرتهم، فلما كان يوم الأحد وقت الظهر أذن السلطان للقاضيين الشافعي والحنفي في الرجوع، فلما سلم عليه الشافعي خيره بين الإقامة وبالبيرة أو بحلب، فاختار التوجه صحبة الحنفي إلى عينتاب ليأكل ضيافته ببلده، ثم توجه إلى حلب، فأذن في ذلك واصحبه أميرا صحبته خمسة من الرماة، وتوجها صحبة الأمير

(3/496)


فدخلا عينتاب قبل العيد بثلاثة ايام ثم صلينا العيد، وتوجهت إلى جهة حلب، وتخلف العيني ببلده أياماً ثم وصل إلى حلب في حادي عشر شوال، وفي الثامن والعشرين من شوال كسفت الشمس بعد العصر واستمرت إلى وقت الغروب فانجلت بعد أن صليت بالجماعة بالجامع الكبير صلاة الكسوف على الصورة المشروعة في السنة النبيوية فما سلمت إلا وقد انجلت، وغربت الشمس فصلينا المغرب بالجامع وانصرفنا بغير خطبة، وكنت بعد السلام من الصلاة أرسلت بعض الشهود ليصعد المنارة ليشاهد الشمس هل تم انجلاءها! فصعد وعاد بأنها انجلت انجلاء تاماً، وذكر أنه صادف في طلوعه رجلاً يفجر بشاب في سلم المنارة، وتعجبت من جرأته في مثل تلك الحالة؛ أما العسكر فاستمر السلطان حتى وصل الرها فعبروها فوجدها خالية، واستمر إلى آمد فنازلها أول يوم وقتل من الفريقين جماعة وتبين أن بها ولد قرايلك وجماعة من العسكر وهي في غاية الحصانة، فلم يقدر عليها فنصب عليها منجنيقاً أقام في عمله مدة، وتبين أن قرا يلك مقيم بجبل بالقرب من آمد، فتوجه إليه بعض العسكر وأوقع به ساقة العسكر فانهزم مكبدة، ثم عطف عليهم
لما عرف بعدهم من الجريدة فأوقع بهم فانهزموا وراموا من أمير الجريدة أن يتبعه فخشوا من كيده فتركوه، وبلغ السلطان ذلك فغضب منه، ويقال إن نائب الشام كان غضب من تقدم اينال الجكمي عليه فقصر في طلب قرا يلك مع قدرته عليه لشهامته وفروسيته، وكل شيء له أجل محدود لا يتعداه، وصاروا في شدة في زمن حصار آمد من كثرة الحر والذباب ووخم الأرض من الجيف المقتولة، وعزت الأقوات فوضعوا أيديهم في الزروع التي في ضواحي البلد فأفسدوها، ونقلوا ما بها من الشؤن فتوسعوا به، واتخذوا أرحية ليطحن لهم غلمانهم فيقتاتوا بذلك، ودام الأمر خمسة وثلاثين يوماً إلى أن ملوا ولم يظفروا بشيء فتراسلوا في الصلح، فاستقر الأمر على أن يخطب للسلطان ببلاده، وأن لا يتعرض لأحد من جهة السلطان ولا من معاملات بلاده، ولا يمكن أحداً من جهته يقطع طريق التجار ولا القوافل وأن يسلم أكثرها فأجاب إلى ذلك وانتظم الأمر، وتوجه القاضي شرف الدين سبط ابن العجمي كبير موقعي الدست لتحليفه فحلفه ورجع، وتوجه السلطان بالعساكر إلى الرها فدخلها في تاسع عشر ذي القعدة، وقرر بها نائباً اينال الأجرود الذي كان نائباً بغزة، وجعل عنده مائتي مملوك ليحفظها، وأعطاه تقدمة قانباي البهلوان بحلب، وأعطى قانباي تقدمة تغرى بردى المحمودي بدمشق وقدم إلى حلب، فتلقيناه بالباب وبزاعة في اليوم الأحد رابع عشري ذي القعدة، ودخل حلب في ليلة الاثنين بغير موكب، وأقام بالمخيم أيضاً، واستهل به شهر ذي الحجة، ثم خرج منها يوم السبت السابع منه، فدخل دمشق يوم الخميس التاسع عشر منه ونزل بقلعتها، ونزل الجند ينهبون الناس وحصل الضرر بهم ولكن لم يفحش، ثم رحل منها يوم السبت الثاني والعشرين منه، وفي مستهل ذي الحجة أرسل قرقماس بن نعير ولده إلى السلطان بهدية سنية، ومن جملتها فرس كان اشتراه بألف دينار، ورد على السلطان فرساً سرقه منه تركمانيان فظفر به معهما فجهزهما مع الفرس، فأعجب السلطان ذلك وخلع على ولده وأمر بشنق التركمانيين؛ وذكر الشيخ شهاب الدين أبو بكر بن محمد بن شادي الحصني أين يعقوب بن قرايلك أمير خرت برت على معتقد النسيمي المقتول بحلب، وأنه يرى تحريم معاملة خادم الحرمين وأرسل ينكر على أبيه، وكذا أنكر عليه أخوه علي بك أمير كماخي، وأن قرا يلك راسل اينال الأجرود يتهدده، فأراد قتل رسوله ثم شفع فيه وضربه ورده رداً عنيفاً؛ فبلغ ذلك قرا يلك فندب عسكره إلى القتال فامتنعوا، وأنه بلغه أن السلطان أراد العود إلى آمد فأمر بإحراق جميع المراعي التي حولها وكان قرايلك خرج من آمد إلى أرمس وترك بآمد ولده، فلما زحف العسكر على آمد قتل مراد بك بن قرا يلك بسهم، ونزل محمود بن قرا يلك في عسكر على جبل مشرف على العسكر فصار يتحدى من خرج، فندب السلطان سرية فأحضروا عشرين رجلاً منهم فوسطوا تجاه القلعة. لما عرف بعدهم من الجريدة فأوقع بهم فانهزموا وراموا من أمير الجريدة أن يتبعه فخشوا من كيده فتركوه، وبلغ السلطان ذلك فغضب منه، ويقال إن نائب الشام كان غضب من تقدم اينال الجكمي عليه فقصر في طلب قرا يلك مع قدرته عليه لشهامته وفروسيته، وكل شيء له أجل محدود لا يتعداه، وصاروا في شدة في زمن حصار آمد من كثرة الحر والذباب ووخم الأرض من الجيف المقتولة، وعزت الأقوات فوضعوا أيديهم في الزروع التي في ضواحي البلد فأفسدوها، ونقلوا ما بها من

(3/497)


الشؤن فتوسعوا به، واتخذوا أرحية ليطحن لهم غلمانهم فيقتاتوا بذلك، ودام الأمر خمسة وثلاثين يوماً إلى أن ملوا ولم يظفروا بشيء فتراسلوا في الصلح، فاستقر الأمر على أن يخطب للسلطان ببلاده، وأن لا يتعرض لأحد من جهة السلطان ولا من معاملات بلاده، ولا يمكن أحداً من جهته يقطع طريق التجار ولا القوافل وأن يسلم أكثرها فأجاب إلى ذلك وانتظم الأمر، وتوجه القاضي شرف الدين سبط ابن العجمي كبير موقعي الدست لتحليفه فحلفه ورجع، وتوجه السلطان بالعساكر إلى الرها فدخلها في تاسع عشر ذي القعدة، وقرر بها نائباً اينال الأجرود الذي كان نائباً بغزة، وجعل عنده مائتي مملوك ليحفظها، وأعطاه تقدمة قانباي البهلوان بحلب، وأعطى قانباي تقدمة تغرى بردى المحمودي بدمشق وقدم إلى حلب، فتلقيناه بالباب وبزاعة في اليوم الأحد رابع عشري ذي القعدة، ودخل حلب في ليلة الاثنين بغير موكب، وأقام بالمخيم أيضاً، واستهل به شهر ذي الحجة، ثم خرج منها يوم السبت السابع منه، فدخل دمشق يوم الخميس التاسع عشر منه ونزل بقلعتها، ونزل الجند ينهبون الناس وحصل الضرر بهم ولكن لم يفحش، ثم رحل منها يوم السبت الثاني والعشرين منه، وفي مستهل ذي الحجة أرسل قرقماس بن نعير ولده إلى السلطان بهدية سنية، ومن جملتها فرس كان اشتراه بألف دينار، ورد على السلطان فرساً سرقه منه تركمانيان فظفر به معهما فجهزهما مع الفرس، فأعجب السلطان ذلك وخلع على ولده وأمر بشنق التركمانيين؛ وذكر الشيخ شهاب الدين أبو بكر بن محمد بن شادي الحصني أين يعقوب بن قرايلك أمير خرت برت على معتقد النسيمي المقتول بحلب، وأنه يرى تحريم معاملة

(3/498)


خادم الحرمين وأرسل ينكر على أبيه، وكذا أنكر عليه أخوه علي بك أمير كماخي، وأن قرا يلك راسل اينال الأجرود يتهدده، فأراد قتل رسوله ثم شفع فيه وضربه ورده رداً عنيفاً؛ فبلغ ذلك قرا يلك فندب عسكره إلى القتال فامتنعوا، وأنه بلغه أن السلطان أراد العود إلى آمد فأمر بإحراق جميع المراعي التي حولها وكان قرايلك خرج من آمد إلى أرمس وترك بآمد ولده، فلما زحف العسكر على آمد قتل مراد بك بن قرا يلك بسهم، ونزل محمود بن قرا يلك في عسكر على جبل مشرف على العسكر فصار يتحدى من خرج، فندب السلطان سرية فأحضروا عشرين رجلاً منهم فوسطوا تجاه القلعة.
وفيها حاصر إسكندر بن قرا يوسف قلعة ساهي وكان صاحبها من نوابه، فلما رجع إسكندر من محاربته مع شاه رخ أرسل إليه النائب ولده ليهنئه بالسلامة، وكان شاباً جميلاً فحبسه عنده يرتكب منه الفاحشة فيما قيل، ثم أرسله لأبيه، فلما أخبر أباه بما جرى له عصى على إسكندر فتوجه إليه وحاصره فلم يظفر منه بشيء، وكان للإسكندر في تلك القلعة عدة من النساء فخشي عليهن من أيدي أعاديه لحصانتها، فنفذ الأمير إلى النسوة المذكورات فقسمهن بينه بين ولده الذي أفحش فيه الإسكندر وبين ابن عمه وجعلوهن بمنزلة السراري لهم، فبلغ ذلك الإسكندر فزاد في حنقه.
وفي ذي الحجة توقف النيل عن العادة ونقص منه عدة أصابع قبل الوفاء واستمر ذلك ستة أيام، فضج الناس وغلا السعر قليلاً، ثم وقعت الزيادة وأوفى وكان ما سنذكره في السنة المقبلة إن شاء الله تعالى.
وفي هذه السنة قبض ايدكي بن أبي يزيد بن عثمان صاحب الروم على أخيه أرصر بك فأكحله وسجنه مدة طويلة، فاتفق أنه مات في هذه السنة وكان له مملوك يخدمه في السجن اسمه طوغان فدس له جارية في صورة مملوك فأقامت عنده للوطىء حتى اشتملت

(3/499)


منه على حمل فولدت منه ذكراً سماه سليمان وبنتاً فلما مات أخذهما طوغان وأمهما وهرب بهم من السجن إلى حلب فلاقى السلطان لما عاد من آمد وشكا له حاله، فأكرمه وجهز الأخوين إلى القاهرة ورتب له راتباً وأسكنهما القلعة إلى أن جرى لهما ما سيأتي ذكره في سنة أربعين.

ذكر الحوادث
في غيبة السلطان الأشرف بالقاهرة
قرأت بخط الشريف صلاح الدين الاسيوطي في أوائل شعبان: دخل سائل إلى السوق الحاجب يسال فقال له تاجر: يفتح الله! فتناول من يد التاجر أوراق حساب خطفاً وخرج هارباً، فاتبعه التاجر ليأخذ منه الحساب - فخطف من جزار سكينة وضرب بها التاجر فمات في الحال وأظهر الفقير التجانن فحمل إلى المارستان، وذهب دم التاجر هدراً.
وفي رمضان تخاصم أقيماوي ولحام على نصف فضة فخنق أحدهما الآخر فوقع مغشياً عليه فمات بعد يومين، وتخاصم اثنان من المسحرين فضرب أحدهما الآخر فسقط ميتاً، وطلق عجمي زوجته ثم ندم فتبعها في زقاق فضربها بسكين فماتت، وتزوج بعض مشاهير البزازين بنت أمير فعشقت عليه عبداً أسود فأدخلته في زي امرأة وقالت لزوجها إنها بنت أمير كبير، فعمل لها ضيافة وجلست يومها مع ذلك العبد والزوج لا يجسر على دخول البيت إكراماً لها، فلما دخل الليل سألته أن يبيت في طبقة وحده وتبيت هي مع حوند إكراماً لها، فقبل ذلك ونامت هي مع محبوبها فسكرا فسولت لها نفسها أن اتفقت معه أن يقتل زوجها فهجم عليه بسكين فضربه فخابت الضربة، فاستغاث فأمسك العبد وضرب فأقر فأمضى فيه الحكم. وأما الزوجة فحلفت لزوجها أنها هي وبنت الأمير باتتا تلك الليلة وما علمتا بقصة ذلك العبد أصلاً، فصدقها واستمر معها.
وفها احترق بيت البرهان المحلي التاجر الذي على شاطئ النيل بمصر، وكان أعجوبة الدهر في إتقان اليناء وكثرة الرخام والزخرفة والمنافع الكثيرة من القاعات والأروقة،

(3/500)


فاحترق جميعه وسلمت المدرسة التي بجواره وهي من إنشاء المحلي أيضاً، وكان يقال إن مصروف بيت المحلي المذكور خمسون ألف مثقال ذهباً، وذلك في شعبان، ووقع الجريق في مصر والقاهرة في عدة أماكن لكنها لا يقارب هذا، وكان سعر القمح بكل دينار أشرفي إردب ونصف مصري يكون ثمنها من الفضة بالوزن ستة دراهم الإردب، ومن الفضة الكاملة دون العشرة وهذا في نهاية الرخص، وحج بالناس أينال الششماني والحاج قليل جداً فساروا ركباً واحداً، وفي غيبة السلطان وقع في عدة أماكن الحريق، منها بيت المحلي كما تقدم، واحترقت غلال كثيرة في الجرون بناحية شيبين القصر.
وفي رابع عشر ذي القعدة خسف القمر، في ليلة الثالث عشر من جمادى الأولى خسف القمر كله قدر ثلاث ساعات، وفي الثامن عشر جمادى الآخرة أسفر اسنبغا الطياري إلى جدة لتحصيل المكوس الهندية، وأرسل معه سعد الدين ابن المرأة كاتباً على عادته واسنبغا شاداً عليه، وسافر معه جماعة لقصد المجاورة من تجار وغيرهم.
وفيها قدم مقبل الرومي نائب صفد وقدم هدية هائلة وخلع عليه خلعة استمرار، وتوجه إلى بلاده في جمادى الأولى، وكانت له إلى الآن في نيابة صفد نحو عشر سنين.
وفي شهر رمضان منها ذكر لي رفيقنا الفاضل إبراهيم بن حسن ابن عمر البقاعي أنه رأى ي النوم قبل إن ندخل إلى حلب أن السلطان مات وأنه صار يتعجب من كونه مات على فراشه واستيقظ ثم لم يظهر لنا تعبير ذلك المنام والعلم عند الله تعالى.

(3/501)


وفيها انتزع أصبهان ابن قرا يوسف بغداد من مراد بن محمد فبعث أربعين رجلاً في زي القلندرية وقرر معهم أن يقتلوا البوابين ويفتحوا له الباب في يوم معين ففعلوا ففر محمد، ثم استولى أصبهان على بغداد فسار فيها أفحش سيرة - ولله الأمر.

ذكر من مات
في سنة ست وثلاثين وثمانمائة من الأعيان
إبراهيم بن حجاج، الأبناسي برهان الدين، اشتغل كثيراً وسكن زاوية سميه الشيخ برهان الدين الأبناسي، وانتفع الطلبة له؛ ومات بعد ضعف طويل في سابع عشري ربيع الآخر.
أحمد الملك الأشرف بن العادل سليمان ابن المجاهد غازي بن الكمال محمد

(3/502)


بن العادل أبي بكر بن الأوحد عبد الله بن المعظم توران شاه بن الصالح نجم الدين أيوب صاحب مصر ابن الكامل محمد صاحب مصر ابن العادل أبي بكر صاحب مصر ابن الأمير نجم الدين أيوب بن شادي بن مروان - الأيوبي صاحب حصن كيفا وكان خرج في عسكره لملاقاة السلطان على حصار آمد فاتفق انه نزل لصلاة الصبح فوقع به فريق من التركمان فأوقعوا به على غرة فقتل، ووصل بقية أصحابه وولده إلى السلطان، فقرر ولده في مملكة أبيه، وكان فاضلاً ديناً، له شعر حسن، وقفت على ديوانه وهو يشتمل على نوائح في أبيه وغزل وزهديات، وغير ذلك، وكان جواداً محباً في العلماء - رحمه الله تعالى! واستقر في مملكته ولده الملك الصالح خليل وهو على طريقة والده في محبة العلماء خصوصاً الشافعية، وله نظم أيضاً، وقدم أخوه شرف الدين يحيى بتقدمة أخيه على السلطان بآمد، فخلع عليه وكتب عهد أخيه ولقب بالملك الكامل، وسار في بلاده سيرة حسنة ونشر العدل، واستوزر القاضي زين الدين عبد الرحمن بن عبد الله بن المجير وهو قاضي شافعي عالم حسن السيرة، ووقع من قرا يلك تعرض للإفساد ببعض بلاده فأرسل إليه يهدده، فخضع له وصالحه على أن كلاً منهما لا يتعرض لبلاد الآخر - واستمر الصلح بينهما.
أحمد بن عبد الله بن محمد بن محمد، الأموي القاضي شهاب الدين المالكي، نشأ بدمشق وتعاطى الشهادة وكتب جيداً وخدم البرهان التادلي ثم ولي قضاء طرابلس، ثم ولي قضاء دمشق سنة خمس وثمانمائة نحو ثلاثة اشهر، ثم أعيد سنة ست وثمانمائة فامتنع النائب من إمضاء ولايته، ثم ولي من قبل شيخ سنة اثنتي عشرة وانفصل بعد أربعة اشهر وهرب مع شيخ إلى بلاد الروم وقاسى شدة، ثم لما تسلطن شيخ ولاه القضاء بالديار المصرية وذلك في شهر ربيع الآخر سنة ست عشرة، فباشر دون السنة بأيام، وكان شيخ يكرهه ويسميه الساحر ولكن كان بعض أهل الدولة يراعيه، ثم استقر في قضاء الشام سنة إحدى وعشرين ونحو أربعة أشهر ثم أعيد في جمادى الآخرة سنة أربع وعشرين

(3/503)


واستمر إلى أن مات بسبب أن الأشرف كان يعتقده، لأنه بشره وهو في السجن بأنه سيلي السلطنة فلما تسلطن اتفق أنه كان حينئذ قاضياً فاستمر به ولم يسمع فيه كلام أحد مع شهرته بسوء سيرته والجهل الزائد، وكان متجاهراً بأخذ الرشوة، وحصل مالاً طائلاً تمزق بعده؛ مات ليلة الثلاثاء حادي عشر صفر.
أحمد بن غلام الله بن أحمد بن محمد، الميقاتي شهاب الدين الكوم الريشي اشتغل في فن النجوم وعرف كثيراً من الأحكام وصار يحل الزيج ويكتب التقاويم واشتهر بذلك؛ مات في صفر وقد أناف على الخمسين.
أبو بكر زين الدين الأنبابي الشافعي، أحد نواب الحكم، وكان كثير الاشتغال، أخذ عن الشيخ علاء الدين الأقفهسي وابن العماد والبلقيني وغيرهم وكان خيراً؛ مات في شعبان.
تاني بك الناصري أحد أمراء العشرات، رأس نوبة، ويعرف بالبهلوان؛ مات في شوال.
جاني بك الحمزاوي، ولي نيابة غزة، قتل بها في ذي الحجة -.
تغرى بردى المحمودي، تنقل في الخدم إلى أن ولي تقدمة ألف وقرر راس نوبة كبيراً، ثم صرف وحبس بعد أن كان رأس الذين غزوا الفرنج بقبرس، ثم أفرج عنه وقرر أميراً بدمشق؛ ومات في قتال قرا يلك في ذي القعدة.

(3/504)


سودون ميق الظاهري، أحد أمراء الألوف بمصر؛ مات في آخر شوال.
حسن بن شرف الدين أبي بكر بن أحمد، الشيخ بدر الدين القدسي الحنفي وهو يومئذ شيخ الشيخونية، قرر فيها لما أعيد التفهني في رجب سنة 33 إلى القضاء وكان أولاً ينوب عنه، واشتغل قديماً من سنة ثمانين وهلم جراً بالقدس ثم بدمشق ثم بالقاهرة، وكان فاضلاً في العربية وغيرها؛ مات ثالث ربيع الآخر وكان ذلك يوم الخميس - وقد قارب السبعين، واستقر بعده في تدريس جامع المارداني الشيخ سعد الدين ابن الديري فلبس بعض الناس على السلطان أنه نزل له، وكان السلطان أمر بترك النزولات وعدم إمضائها، فغضب وأمر بتقرير محب الدين بن الشيخ زاده فيها، فتالم الناس لسعد الدين، واعتذر محب الدين بأنه لم يكن له في ذلك سعي ولا يقدر على مخالفة السلطان خشية على نفسه، واستقر في مشيخة الشيخونية عوضاً عن القدسي الشيخ باكير الملطي نقلاً من قضاء حلب، وتأخر حضوره إلى رجب، وباشر، وهو أبو بكر بن إسحاق الحنفي وأصله من ملطية وسكن حلب مدة، وهو كثير السكوت، قليل البضاعة، حسن الهيئة.

(3/505)


عبد الرحمن بن محمد، القزويني المعروف بالحلالي - بمهملة ولام وثقيلة - الشيخ زين الدين من أهل جزيرة ابن عمر، وهو ابن أخت العالم نظام الدين عالم بغداد، ولد سنة بضع وسبعين، وأخذ عن أبيه وغيره، وبرع في الفقه والقراآت والتفسير، وحج، وقدم حلب لطلب زيارة القدس فزار، ثم رجع إلى حلب وهو في سن الكهولة وظهرت فضائله، ودخل القاهرة في سنة 34 وأخذوا عنه ثم رجع؛ فلما وصل إلى بلده مات بعد أربعة اشهر، وذلك في سنة ست وثلاثين ظناً - قاله القاضي علاء الدين قال: واجتمعت به فرأيته عالماً بالفقه والمعاني والبيان والعربية، وله صيت كبير في بلاده وكان عالمها، قرأت بخط عبد الرحمن بن محمد الحلالي الشافعي القزويني أنه يروى البخاري عن قاضي المدينة عن الحجار ولم يسمه، وأنا أظنه شيخنا زين الدين ابن حسين، فإنه كان يروي عن الحجار بالإجازة وهو آخر من حدث عنه بها فيما أعلم وأنه يرويه عن المحدث شمس الدين ابن كثير بسماعه له على الحجار، وكتب خطه في أواخر سنة 831.
عبد الوهاب بن أفتكين الذي ولي كتابة السر في العام الماضي بدمشق، مات في آخر السنة، وقرر السلطان عوضه في كتابه السر بدمشق نجم الدين ابن المدني نقلاً من نظر

(3/506)


الجيش بالشام إليها، وأرسل توقيعه بذلك في أواخر ذي الحجة، فوصل في آخر المحرم وباشر ونعم الرجل هو.
عثمان الأمير فخر الدين بن الأمير ناصر الدين محمد الطحان الحاجب بحلب، كان مات في خامس عشر المحرم خارج حلب - وأحضر إليها في سابع عشرة ودفن فيه. علي بن عمر الكثيري انتزع ظفار من عبد الله بن محمد بن عمر ابن أبي بكر بن عبد الوهاب بن علي بن نزار انطفاري، واستمر فيها إلى هذه الغاية.
علي بن محمد بن نور الدين بن جلال الدين، الطنبذي، انتهت إليه رياسة التجار بالديار المصرية، وكان كثير الحج، كثير الإسراف على نفس، حسن المعاملة، وشاهدته يقرض المحتاج بغير ربح مراراً، وكان له بر الجماعة ومروءة في الجملة على ما فيه؛ مات في ليلة الجمعة 14 صفر وقد جاوز السبعين.
علي بن يوسف بن عمر بن أنور، صاحب مقدشوه في عصرنا، ويلقب المؤيد بن المظفر بن المنصور.
محمد بن جوهر، المدير في الجيش؛ مات بحلب في رمضان.
محمد بن عبد الرحيم بن أحمد، المنهاجي المعروف بسبط ابن - اللبان الشيخ شمس الدين الشافعي، ولد بعد السبعين، واشتغل قديماً، وأخذ عن مشايخ العصر كالعز بن جماعة وشمس الدين بن القطان، وقرأ على ابن القطان صحيح البخاري بحضوري، وقرأ على ترجمة البخاري يوم الختم، وتعاني نظم الشعر فتمهر فيه، وله

(3/507)


عدة قصائد ومقاطيع، ومهر في الفقه والأصول، وعمل المواعيد وشغل الناس، ولزم بأخرة جامع عمرو بن العاص يقرأ فيه الحديث والمواعيد ويشغل الناس، وكان حسن الإدراك واسع المعرفة بالفنون، حج هذه السنة من البحر فسلم، ودخل مكة في شهر رجب فجاور إلى زمن إقامة الحج فحج وقضى نسكه ورمى جمرة العقبة ثم رجع فمات بمنى قبل أن يطوف طواف الإفاضة، سمعت من نظمه، وطارحني مراراً، وكتب عني كثيراً.
محمد بن عبد الحق بن إسماعيل، السبتي أبو عبد الله، ولد سنة 783، وأخذ عن الحاج أبي القاسم بن أبي حجة ببلده، ووصل إلى غرناطة فقرأ بالأدب، وقدم القاهرة سنة 32 فحج، وحضر عندي في الإملاء فزار وأوقفني على شرح البردة له، وله آداب وفضائل؛ مات في صفر.
محمد بن علي بن موسى، الشيخ شمس الدين الدمشقي المعروف بابن قديدار. ولد سنة 152 تقريباً، لأنه قال: كتب في فتنة تنبغا روس رضيعاً، وقرأ القرآن في صغره، وحفظ المنهاج والعمدة والألفية، وتلا بالسبع على جماعة منهم ابن اللبان، وصحب الشيخ أبا بكر الموصلي والشيخ قطب الدين، وأقبل على العبادة، واشتهر من بعد سنة تسعين حتى أن اللنك لما طرق الشام أرسل من حماه وحمى من معه، وكان شيخ المؤيد يعظمه، وأرسله في سنة ثمان وثمانمائة رسولاً عنه إلى الناصر، فاجتمعنا به بالقاهرة ومصر وسمعنا من فوائده، وكان سهل العريكة، لين الجانب، متواضعاً جداً، محباً في العلماء والمحدثين، وكان قدم رفيقاً له في ذلك الشيخ شهاب الدين بن حجى فنزلا بمدرسة البلقيني ثم بمدرسة المحلى على

(3/508)


شاطئ النيل ثم رجعا، وبنى شيخ له زاوية، وكان يتردد إلى بيروت للمرابطة، وله بها زاوية فيها سلاح كثير، وكلمته نافذة عند الفرنج، ويكتب إليهم بسبب المسلمين فيقبلون ما يكتب به، وحصل له في آخر عمره ضعف في بدنه وثقل سمعه؛ ومات ليلة عيد الفطر ودفن صبيحتها، وكانت جنازته مشهودة، وصلينا عليه بحلب صلاة الغائب.
منكلى بغا الحاجب وهو من مماليك الظاهر، اشتغل كثيراً، وكتب الخط الحسن، وولي حسبة القاهرة في دولة المؤيد، وأرسله الناصر فرج إلى اللنك، وكان يذاكر بشئ من الفقه؛ مات - في ليلة الخميس - في حادى عشر ربيع الأول.
يوسف جمال الدين بن صاروجا بن عبد الله، المعروف بالحجازي، تنقلت به الأحوال في الخدم، وعمل أستادارا، وتقدم في أواخر دولة الناصر عند الدويدار طوغان، وكان زوج ابنته ويدعوه: أبي، وكثر ذلك حتى صار يقال له: أبو طوغان، وكان عارفاً بالأمور.
خوند والدة عبد العزيز بن برقوق.

(3/509)


سنة سبع وثلاثين وثمانمائة
أولها الثلاثاء بلا نزاع، فإن الهلال غاب ليلة الثلاثاء قبل العشاء بنحو نصف ساعة، وفي الحساب أولها الإثنين، وفي أول يوم منها أوفى النيل، ثم كسر الخليج في يوم الأربعاء الثاني منه، واستمرت الزيادة إلى يوم وصول العسكر، واستهلت ونحن بالطريق إلى غزة، ورحل السلطان منها يوم الخميس يوم عاشوراء، وساق على الطريق التي توجه فيها، وأرسل إلى القدس خمسة آلاف دينار صدقة، وكان الوصول إلى بلبيس يوم الجمعة ثامن عشرة، ومات ما بين غزة وبلبيس من الجمال والبغال والحمير والخيول مالا يحصى كثرة بحيث صارت الأرض منتنة الرائحة مع شدة الحر، ووصل إلى خانقاه سرياقوس ليلة السبت، فأصبح فدخل القاهرة في موكب عظيم جداً، وشق القاهرة وأمامه الخليفة والقضاة والأمراء. وزينت له المدينة. وبعد يومين وصل الحاج وأخبروا بالرخاء والأمن وأنه مات منهم في طريق المدينة خلق كثير من شدة الحر، وأمطرت السماء مطراً غزيراً، فنقص النيل نقصاً فاحشاً وكان انتهى إلى سبع عشر إصبعاً من ثمانية عشر ذراعاً، فبادروا إلى كسر سد الأميرية فظهر النقص فيه، وانكشف كثير من الأراضي، واستشعر الناس الغلاء فبادروا إلى خزن الغلال - والله المستعان.
ثم تراجعت الزيادة إلى أن نودي بإصبع من ثمانية عشر، ثم عاد النقص وأظنه لكسر الصليبي، فنودي في يوم الأحد عاشر صفر الموافق لثالث عشر توت بإصبع لتكملة ستة عشر إصبعاً

(3/510)


من سبعة عشر ذراعاً، وبلغ سعر القمح مائة وثمانين بعد أن كان بتسعين، والفول بمائة وعشرة، والشعير كذلك، وامتدت الأيدي إلى تحصيل الغلال إما للمؤنة وإما للتجارة فاشتد الخطب - ولله الأمر! ومع ذلك فلطف الله بأهل مصر لطفاً عظيماً كما سيأتي بيانه بحيث أن جميع من خزن القمح ندم على ذلك لعدم إرتفاع سعره في طول المدة، وفيها أرسل يوسف بن محمد بن يوسف ابن محمد بن يوسف بن محمد بن الأحمر إلى أبي عبد الله محمد بن نصر بن أبي عبد الله بن الأحمر المعروف بالأيسر عسكراً حاصره وهو بالمرية، وكان من شأنه أنه ثار على محمد بن الموال ففر إلى مالقة فجمع عسكراً ونازل ابن الموال فغلب عليه فقتله، ثم ثار عليه محمد بن يوسف والد يوسف المذكور فغلب على غرناطة، ففر الأيسر إلى تونس فأقام في كنف أبي فارس حتى جهز معه عسكراً إلى غرناطة، فملكها ثالث مرة وقتل محمد بن يوسف، فثار عليه يوسف ولده فقتله وكان صحبة أبي فارس منذ قتل أبوه، فلما مات أبو فارس توجه إلى صاحب فنشالة الفرنجي فأمده بعسكر، وكتب إلى أهل رندة ومالقة وغيرها أن يعينوه، وإلى أهل غرناطة أن يطيعوه، وتهددهم إن خالفوه، فسار يوسف فملك رندة ودخل غرناطة وفر منه الأيسر واستقر فيها، فلما كان في هذه السنة جهز إلى الأيسر عسكراً وهو بالمرية.
وفي شعبان طلب من البلاد بالوجه البحري خيول، فوظف على كل بلد فرس واحد، وعلى البلد الكبير إثنان أو ثلاثة، وإن لم يوجد فيه خيل أخذ عوض الفرس خمسة آلاف، فكانت مظلمة حادثة، - وفيه - في التاسع والعشرين منه كان ختان يوسف ابن السلطان الذي ولي السلطنة بعد أبيه ولقب العزيز وعمره يومئذ نحو تسع

(3/511)


سنين، أو هو ابن عشر ودخل في الحادية عشرة، وختن معه عدة من أولاد الأمراء وغيرهم، وكان مهماً حافلاً؛ ورأيت في كتاب بعض من يذكر الحوادث أن امرأة طلقت وهي حامل فكتمت حملها وتزوجت، ثم طلقها الزوج فتزوجت بثالث ثم بعد ذلك أخذها الطلق ووضعت ولداً صورته صورة الضفدع في قدر الطفل، فسترها الله بأن أماته - قرأت ذلك بخط الشيخ تقي الدين المقريزي، وأعيد التاج إلى ولاية القاهرة عند قدوم السلطان إلى القلعة وعزل دولات خجا، ثم أعطى ولاية القليوبية والمنوفية في ربيع الآخر، وانتهت زيادة النيل إلى سبعة عشر ذراعاً وسبعة عشر إصبعاً، ثم نقص بعد النيروز دفعة واحدة قدر ذراع ثم عادت الزيادة إلى أن كاد يكمل السابع عشر، فنقص أيضاً قدر خمسة عشر إصبعاً، ثم عادت الزيادة في العشرين من توت فتناهت إلى قدر عشرين إصبعاً من السابع عشر، ثم عاد النقص واستمر وشرقت غالب البلاد العالية من الصعيد الأعلى فما دونه، وشرق بعض بلاد الجيزة وما والاها، ومع ذلك لطف الله تعالى بالمسلمين في هذه السنة المباركة لطفاً عظيماً بحيث أن سعر القمح مع ارتفاعه قليلاً لم ينقطع الواصل منه، واستمر ذلك إلى أن جاء المغل الجديد وتناقص السعر، وفي صفر أعيد آقبغا الجمالي إلى كشف الوجه القبلي، وفي ليلة السبت تاسع ربيع الأول هبت ريح شديدة قلعت كثيراً من الأشجار بدمياط من أصولها، فتساقطت نخيل كثيرة وفسدت أشجار الموز، وفسد كثير من الأقصاب، وأسف كثير من الناس على ما تلف من ماله،

(3/512)


وشاع أن في أوائله وقع سراق الفرنج على سبعة مراكب للمغاربة المسلمين، فأسروا من فيها، ونهبوا الأموال والبضائع، وأحرقوا ثلاثة منها وساروا بأربعة، وفي ثامن عشر ربيع الأول أخرج إقطاع الأمير - الكبير - سودون بن عبد الرحمن وكان نائب الشام وأمر بلزوم بيته، فأرسل سودون في صبيحة ذلك اليوم جميع ما عنده من الخيل والجمال والبغال للسلطان، ولم يقرر في المارستان أحداً ولا في الأتابكبية، وأضيف الإقطاع إلى الديوان المفرد، ثم أمر بنفيه إلى دمياط في جمادى الآخرة، فاستمر بها إلى أن مات، والعجب أنه ولد له في ذا الشهر مولود من جارية ولم يكن له ولد ذكر، وقيل إنهم تكلموا مع السلطان في إحضاره إلى القاهرة ثم لم يتم ذلك وفي يوم الخميس ثاني عشر شهر ربيع الآخر نزل السلطان في عدد يسير فدخل المرستان وقرر أمره ونادى بأنه الناظر عليهم، ومن كانت له حاجة أو ظلامة فليحضر إلى باب السلطان! وفيه استقر إينال الششماني في نيابة صفد بحكم وفاة مقبل. - وفيه - في ثالث عشرى شوال استقر خليل بن شاهين الصفوي في نظر الإسكندرية، وكان أبوه يسكن القدس ونشأ ابنه هناك، ثم قدم القاهرة وتزوج أخت خوند جلبان زوج السلطان فعظمت حرمته، وسعى في حجوبية الإسكندرية ثم في نيابتها.
وفي صفر ألزم الوزير بحمل ما يوفر من العليق في ديوان الدولة وفي ديوان المفرد، فكان جملته سبعين ألف إردب،

(3/513)


وفي ربيع الأول عملت مكحلة لرمي المنجنيق من نحاس وزنها مائة وعشرون قنطاراً بالمصري، ونصبت خارج باب القرافة، ورموا بها إلى جهة الجبل بأحجار زنة بعضها قدر ستمائة رطل.
وفيه وصل كتب من دمياط بأنه هبت بها رياح عاصفة - فتقصفت نخيل كثيرة، وتلفت أشجار الموز وقصب السكر من الصقيع -، وانهدمت عدة دور، - وفزع الناس من شدة الريح حتى خرجوا إلى ظاهر البلد - وسقطت صاعقة فأحرقت شيئاً كثيراً، ثم نزل المطر فدام طويلاً.
وفيها وقع بمكة سيل عظيم طبق ما بين الجبلين، وانهدمت بمكة دور كثيرة، ووصل الماء إلى قرب باب الكعبة، وطاف بعض الناس سبحاً، وأقام الماء يوماً بالحرم إلى أن صرف، وفاضت زمزم إلى أن شرع الماء بها هدراً قرأت في كتاب علي بن إبراهيم الأبي الزبيدي نزيل مكة لما كان في ليلة الحادي والعشرين من جمادى الأولى وقع بمكة مطر غزير سالت منه الأودية وكانت ليلة الجمعة، فأصبحوا وقد صار في المسجد ارتفاع أربعة أذرع - ماء -، فأزيلت عتبة باب إبراهيم فخرج الماء من المسفلة، فبقى من الطين في المسجد نحو نصف ذراع، وتهدمت في تلك الليلة دور كثيرة، ومات تحت الردم جماعة،

(3/514)


وقرأت في كتاب صاحبنا شهاب الدين الجرهي أنه تلف له كتب كثيرة من السيل، وعقب هذا السيل وباء.
وفي يوم الأربعاء رابع عشر جمادى الآخرة وعك السلطان فاستمر بالقولنج خمسة أيام ثم تماثل وعدته فوجدته كما به، ثم عدته في أول يوم من شهر رجب فوجدته تماثل، ثم صلى الجمعة ثاني شهر رجب وكانوا أرجفوا بموته وتحزبوا أحزاباً، ووجل الناس من إثارة الفتنة، وفي أوائل شعبان قرئ البخاري في القلعة على العادة، وحضر شخص عجمي يقال له شمس الدين - محمد - الهروي ويقال له ابن الحلاج كهل من أبناء الأربعين ادعى أنه يعرف مائة وعشرين علماً، فأظهر بأواً عظيماً وشرع يسأل أسئلة مشكلة، وظهرت منه أمور تدل على إعجاب زائد فآل أمره إلى أن وقعت منه أمور أنكرت من جهة المعتقد، فزجر فخذل بعد ذلك وصار كآحاد الطلبة، واعتذر بعد ذلك أن بعض الناس أغراه بذلك ظناً منه أن ينقص من قدر كاتبه، فأبى الله ذلك وحاق المكر السيئ بأهله - ولله الحمد! وفيه في الجملة ذكاء وعلى ذهنه فوائد كثيرة وعنده استعداد ويعرف الطب، وعدت عليه سقطات، وبحث مع سعد الدين بن الديري فلم يحبه، وقرر من جملة المشايخ ورتب له ما يكفيه.

(3/515)


وفيه استعفى الوزير كريم الدين من الوزارة وشكا من كثرة المصروف وقلة المتحصل، فاسترضى بزيادة بلد أضيفت له فاستمر، ثم تغيب في يوم السبت ثالث عشرى رجب بعد أن طلع القلعة، واستقر في الوزارة أمين الدين إبراهيم الذي كان ولي نظر الدولة، وهو ولد مجد الدين عبد الغني ابن الهيصم الذي كان ولي نظر الخاص في دولة الناصر فرج، ولبس الخلعة في هذا اليوم المذكور، وهرع الناس للسلام عليه بمنزله ظاهر باب القنطرة بالقرب من الميس، فلما كان يوم الثلاثاء استقر ولده وهو صغير السن في نظر الدولة، وألبس خلعة لذلك وشغرت الأستادارية، وتكلموا مع السلطان في استقرار جانبك مملوك ناظر الجيوش عبد الباسط فيها فأجاب لذلك، ثم بطل ذلك وسعى ناظر الجيش في إعفائه، - وتغيظ السلطان على المباشرين، وألزم ناظر الخاص فيما قيل بالمباشرة فيها، واستعفى - فأمر أن ينادي بأمان الأستادار، فبلغه ذلك فظهر، وذلك في السابع والعشرين منه، وطلع إلى السلطان، فخلع عليه قباء كان عليه، ونزل إلى داره وفرح الناس - به - وكان يوماً مشهوداً - تم في.... -، ومن حوادث سنة 37 أنه أحصى من في الإسكندرية من الحاكة فوجد فيها ثمانمائة نول، وكان ذلك وقع في سنة 797، فبلغوا أربعة عشر ألف نول بمباشرة جمال الدين محمود الأستادار، ونحو هذا أن كتاب الجيش أحصوا قرى مصر قبلها وتحررها، فبلغت عدتها ألفين ومائة وسبعين قرية؛ وقد ذكر بعض القدماء في أوائل دولة الفاطميين أن عدتها عشرة آلاف.
وفيها أعيد جلال الدين أبو السعادات على القضاة في جمادى الآخرة عوضاً عن الجمال محمد بن علي الشيبي، وفي رجب سافر الناس صحبة أرنيغا إلى مكة.

(3/516)


وفي ذي القعدة استقر الشيخ شمس الدين محمد - بن أحمد - المالكي الفرياني المغربي في قضاء نابلس شافعياً وسافر إليها، وهو كثير الإستحضار للتواريخ، وكان يتعانى عمل المواعيد بقرى مصر وبدمياط وبلاد السواحل، وصحب الناس، وهو حسن العشرة نزهاً عفيفاً، وقد حدث بحلب عن أبي المجالس البطرني وما أظنه سمع منه فإنه ذكر لنا أن مولده سنة ثمانين ببلده وكان البطرني بتونس ومات بعد سنة تسعين، ورأيت له عند أصحابنا بحلب إسناداً للمسلسل بالأولية مختلفاً إلى السلفي وآخر أشد اختلافا منه إلى نصر الوائلي، وسئلت عنهما فبينت لهم فسادهما، ثم وقفت مع جمال الدين ابن السابق الحموي على كراسة كتبها عنه بأسانيده في الكتب الستة أكثرها مختلق وجلها مركب، وأوقفني الشيخ تقي الدين المقريزي له على تراجم كتبها له بخطه كلها مختلفة إلا الشئ اليسير - والله المستعان! ثم وقفت على ذلك بخط الفرياني المذكور وهو بضم الفاء وتشديد الراء بعدها ياء آخر الحروف وبعد الألف نون.
وفي رمضان ألزم السلطان القاضي بدر الدين ابن الأمانة بالحج لأنه ترجم له بأنه من المياسير وأنه قارب الثمانين ولم يحج فسأله فقال؛ حججت وأنا صغير، فقال: لا بد أن

(3/517)


تحج حجة الإسلام هذه السنة، فأجاب وحج ورجع سالماً، وجرى نظيره للعراقي فمات كما تقدم، ومن العجب أن ابن الأمانة لما ألزم تكره ذلك كثيرا؛ وفي يوم السبت عاشر ذي الحجة يوم عيد الأضحى ولد لمحمد ولدي ابنة سماها بيرم، ثم ماتت عن قرب بعد أن استهلت السنة، وفي يوم السبت خامس عشرى ذي الحجة وافق سابع مسرى كسر الخليج على العادة، وحصل للناس السرور بالوفاء، وكانت الوقفة بمكة يوم الجمعة، وكان الحج كثيراً، وحج جقمق وهو يومئذ أمير سلاح في أواخر ذي القعدة على الرواحل وصحبته خلق كثير، فحج ورجع أيضاً في العاشر من المحرم.
وفي هذه السنة كثر فساد الفرنج الكتيلان، فأخذوا عدة مراكب للتجار وأسروا من فيها، وباعوهم أسرى، وكاتب صاحبهم السلطان ينكر عليه إلزامه للفرنج بشراء بضائعه من الفلفل وغيره، فمزق السلطان كتابه لما قرئ عنه.
وفي التاسع والعشرين من شعبان ليلة السبت تراءى الناس الهلال فلم يروه، وأجمع أهل الفن أنه تغيب مع غيبوبة الشمس، فحضر ولد شهاب الدين أحمد بن قطب الدين

(3/518)


محمد بن عمر الشيبي فأخبر أنه رأى الهلال، وكان المحتسب حاضراً وكانوا كتبوا الورق على العادة بتضمن عدم الرؤية، وحضرت إلى السلطان فقلت للمحتسب: استصحب هذا معك، فتوجه به فذكر أنه صمم على أنه رآه، فسأل السلطان عنه فأثنوا عليه لكونه يقرب لجليس السلطان ولي الدين ابن قاسم، فأمر بالعمل بما يقتضيه الشرع، فحكم الحنبلي بمقتضى شهادته ونودي في الناس بالصيام، وذكر أن الناس بمد عدة ثلاثين تراءوا الهلال ليلة الإثنين فلم يروه، ولم يجئ أحد من البلاد يخبر برؤيته ليلة الأحد، لكن نحن اعتمدنا على حكم الحنبلي وأكملنا العدة ثلاثين ولم نتعرض للترائي ومن زعم أن الناس خرجوا للترائي فقد وهم، وإنما شاع أن بعض الناس تراءى فلم ير شيئاً، واتفق أن غالب الجهات المتباعدة وكثيراً من المتقاربة عيدوا يوم الإثنين.
وكان وفاء النيل في الثامن عشر من ذي الحجة، وصادف أنه أول يوم من مسرى وكان في العام الماضي تأخر إلى العشر الأخير منه، فبسبب ذلك التأخير وهذا الإسراع وقع الوفاء في أول العام وفي آخره، ولكن لزم منه أنه لم يقع في العام المقبل وفاء بل تأخر إلى أن دخل العام الذي يليه، فصار كالعام الوفاء مرتين وخلا عن العام الذي يليه، وهو من النوادر.
وفيها كانت لا ينال الأجرود النائب بالرها وقعة مع التركمان، وسببها أن بعض أتباعه كان في تسيير خيله فوقع بطائفة منهم فثار بهم فقتل منهم، فخرج إينال نجدة له - فخرج عليه كمينهم - فوقع بينهم قتال فقتل بين الطائفتين جماعة ودخل إينال المرقب فبلغ ذلك السلطان فكتب إلى نائب حلب قرقماس أن يتوجه بالعسكر إلى الرها، وكتب إلى سائر الممالك الشامية أنهم إن تحققوا نزول قرايلك على الرها أن يتقدموا بعساكرهم إلى اللحاق بقرقماس لقتال قرايلك.

(3/519)


وفيها أخرب أصبهان بن قرا يوسف بغداد وتشتت أهلها منها، وأخرب قبل ذلك الموصل.
وفيها جهز السلطان الجنيد أمير آخور إلى الغرب لمشتري الخيول، فعاد ومعه كتب من تونس وهدية من صاحبها وخيول جياد اشتراها.

ذكر من مات
في سنة سبع وثلاثين وثمانمائة من الأعيان.
إبراهيم بن داود بن محمد - بن أبي بكر - العباسي ولد أمير المؤمنين المعتضد ابن المتوكل العباسي، ولم يكن بقى له غيره، وكان رجلاً حسناً كبير الرئاسة، قرأ القرآن وحفظ المنهاج واشتغل كثيراً، وخلف أباه لما سافر خلافة حسنة شكر عليها، ومات بمرض السل في ليلة الأربعاء ثالث عشر ربيع الأول بالقاهرة ولم يكمل الثلاثين، ولم يبق لأبيه ولد ذكر، وذكر أنه تمام عشرين ولدا ذكرا.
أحمد بن محمود بن أحمد بن إسماعيل - بن محمد - بن أبي العز، الدمشقي شهاب الدين الحنفي المعروف بابن الكشك، انتهت إليه رئاسة أهل الشام في زمانه، وكا شهماً قوي النفس مستحضراً لكثير من الأحكام، ولي قضاء الحنفية استقلالاً مدة ثم أضيفت إليه نظر الجيش في الدولة المؤيدية وبعدها ثم صرف عنهما معاً، ثم أعيد لقضاء الشام وعين لكتابة السر بعد موت شهاب الدين ابن السفاح، فاعتذر لضعف يعتريه وهو عسر البول،

(3/520)


وكانت بينه وبين نجم الدين ابن حجى معاداة فكان كل منهما يبالغ في الآخر، لكن كان ابن الكشك أجود من ابن حجى - سامحهما الله تعالى! عاش ابن الكشك بضعاً وخمسين سنة وكانت وفاته ليلة الخميس سبع ربيع الأول بالشام.
إسماعيل بن أبي بكر بن المقرئ عالم البلاد اليمنية، شرف الدين أصله من الشرجة من سواحل اليمن، وولد سنة خمس وستين وسبعمائة بأبيات حسين، وسكن زبيد، ومهر في الفقه والعربية والأدب، وجمع كتاباً في الفقه سماه عنوان الشرف، يشتمل على أربعة علوم غير الفقه، يخرج من رموز في المتن عجيب الوضع، اجتمعت به في سنة ثمانمائة ثم في سنة ست وثمانمائة، وفي كل مرة يحصل لي منه الود الزائد والإقبال، وتنقلت به الأحوال، وولي إمرة بعض البلاد في دولة الأشرف، ونالته من الناصر جائحة تارة وإقبال أخرى، وكان يتشوف لولاية القضاء بتلك البلاد فلم يتفق له. ومن نظمه بديعية التزم أن تكون في كل بيت تورية مع التورية باسم النوع البديعي، وله مسائل وفضائل، وعمل مرة ما يتفرع من الخلاف في مسألة الماء المشمس فبلغت آلافا، وله شرح - مختصر - الحاوي في مجلدين، وحج سنة بضع عشرة، وأسمع كثيراً من شعره بمكة رحمه الله تعالى.

(3/521)


آقبغا الجمالي الذي كان عمل الأستادرية الكبرى غير مرة، وفي الآخر ولاه السلطان كشف البحيرة فتوجه إلى هناك فأغار على بعض العرب، فتجمعوا عليه وذهب دمه هدراً، وكان أهوج مقداماً غشوماً، وهو من مماليك كمشبغا الجمالي، وخرج الوزير الأستادار عبد الكريم ابن كاتب المناخات بعسكر فجمع العرب وأمنهم وأحضرهم إلى السلطان في 21 ربيع الآخر.
أبو بكر بن علي بن حجة، الحموي الحنفي، الشيخ الأديب الفاضل، شاعر الشام، تقي الدين الأزراري، كان في ابتداء أمره يعقد الأزرار، وكان يخضب بالحمرة، ثم تعانى النظم فتولع أولاً بالأزجال والمواليا ومهر في ذلك وفاق أهل عصره، ثم نظم القصائد ومدح أعيان أهل بلده، ودخل الشام فمدح برهان الدين ابن جماعة قبل التسعين بقصيدة كافية أعجبته، فطاف بها على نبهاء عصره فقرظوها له، ودخل بسبب ذلك إلى القاهرة فدل على القاضي فخر الدين بن مكانس ومدحه وطارح ولده وكتب له على القصيدة، ومن نظمه:
سرنا وليل شعره ينسدل ... وقد غدا بنومنا مسفرا
فقال صبح ثغره مبتسما ... عند الصباح يحمد القوم السرى
ومنه:
في سويدا مقلة الحب نادى جفنه ... وهو يقنص للأسود صيدا
لا تقولوا ما في السويداء رجال ... فأنا اليوم من رجال السويدا
واجتمعت به إذ ذاك، ثم عاد مرة أخرى فتأكدت الصحبة، ولما رجع في الأول صادف الحريق الكائن بدمشق لما كان الظاهر يحاصر دمشق بعد أن خرج من الكرك وكان أمراً مهولاً، فعمل فيه رسالة وكاتب بها ابن مكانس وهي طويلة، وأقام بحماة يمدح أمراءها وقضاتها، وله قصيدة في علاء الدين ابن أبي البقاء قاضي دمشق، ومدح أمين الدين الحمصي كاتب السر حينئذ وغيره ودخل القاهرة، ثم نوه به القاضي ناصر الدين البارزي في الدولة المؤيدية فعظم أمره وشاع ذكره، وكان نظم قصيدة بديعية على طريقة شيخه المعز الموصلي وشرحها في ثلاث مجلدات، وجمع مجاميع أخرى مخترعة وله في المؤيد غرر القصائد وقرر في ديوان الإنشاء منشئ الديوان، وعمل في طول

(3/522)


الدولة المؤيدية من إنشائه مجلدين في الوقائع، ودخل مع المؤيد بلاد الروم، فلما انقضت الدولة المؤيدية رق حاله فرجع إلى بلده حماة فأقام بها على خير إلى أن مات في الخامس والعشرين من شعبان، سمعت من نظمه كثيراً، وسمعت عليه معظم شرحه على بديعيته وجملة من إنشائه، ولقيته بحماة سنة ست وثلاثين ذهاباً وإياباً، وبيننا مودة أكيدة - والله المسؤول إن يرحمه ونعم الرجل كان - رحمه الله تعالى.
أبو بكر المقيم ببولاق، أحد من كان يعتقد، وكان مقيماً بالحسينية ظاهر القاهرة ثم تحول إلى بولاق وبنيت له زاوية، فاتفق أنه أمر بأن يبنى له بها قبر فبنى، فلما انتهت عمارته ضعف فمات فدفن فيه في المحرم، ويحكى عنه كرامات، ومكاشفات - وكان في الغالب ثملاً -.
جار قطلي نائب الشام، تنقل في الخدم إلى أن ولي نيابة حماة في الدولة المؤيدية ثم نقل إلى نيابة حلب عوضاً عن تاني بك البجاسي واستقر البجاسي في نيابة دمشق فكان دخوله

(3/523)


إلى حلب في شوال سنة ست وعشرين، ثم نقل إلى القاهرة في سنة ثلاث وثلاثين فأمر تقدمة، ثم قرر أتابك العساكر بها ثم نقل إلى نيابة دمشق بعد عزل سودون من عبد الرحمن، فكانت مدة ولايته لها قدر سنة واحدة إلى أن مات - ليلة الإثنين في تاسع عشر - في شهر رجب، وكان شهماً مسرفاً على نفسه، يحب العدل والإنصاف ولم يخلف ولداً، واستقر بعده في نيابة الشام قصروه نائب حلب نقلاً منها، واستقر عوضه في نيابة حلب قرقماس الحاجب الكبير، واستقر عوضه في الحجوبية يشبك المشد، ومن الاتفاق أن رفيقاً لي رأى لما كنا في سفرة آمد قبل أن ندخل حلباً وذلك في رمضان أن الناس اجتمعوا فطلبوا من يؤم بهم فرأوا رجلاً ينسب إلى الصلاح فسألوه أن يؤم بهم فقال بل يؤم بهم قرقماس، ففي الحال حضر قرقماس فتقدم فصلى بهم، فوليها بعد ذلك بدون السنة، ونفى سودون من عبد الرحمن الذي كان نائب الشام إلى دمياط بعد أن كان بذل في نيابة الشام ستين ألف دينار يعجل نصفها ويجهز ويرسل نصفها بعد الولاية فلم يجب، واستقر عوضه في إمرته الأمير الكبير إينال الجكمي أمير سلاح، واستقر عوضه آقبغا التمرازي أمير سلاح وكان أمير مجلس، واستقر عوضه أمير مجلس جقمق أمير آخور، واستقر عوضه أمير آخور تغرى برمش الذي كان نائب الغيبة في سفر الشام، كل ذلك في يوم الخميس سلخ رجب، وفي الثالث من شعبان ماتت أم تغرى برمش المذكور، وكان الجمع في جنازتها حافلاً ومنع ابنها أكابر الناس من المشي في جنازتها وركب وركبوا إلى مصلى المؤمني.
رمبثة بن محمد بن عجلان، الحسني الذي كان ولي إمرة مكة، وكان خرج في طائفة من العسكر للوقيعة ببني إبراهيم على نحو من ثمانية أيام من مكة، فقتل في المعركة.

(3/524)


عبد الله بن عبد الله العفيف المعروف بالأشرفي كان مملوكاً رومياً اشتراه أرغون الفاخوري ورباه، فتعلم الخط وحذق اللسان العربي وتعانى الخدم، فرآه البرهان المحلى - التاجر - فأعجبه، فاشتراه من أرغون ثم أعتقه، ثم تنقلت به الأحوال حتى اتصل المذكور بالملك الأشرف إسماعيل صاحب اليمن، فعظم عنده جداً وفوض إليه أمر المتاجر بعدن، وصار يكتب بخطه الأشرفي واشتهر بها، فشرق به المحلى وتولدت بينهما العداوة، وكان يباشر بصرامة وشهامة وبعض عسف مع معرفة تامة، فلم يزل على ذلك من سنة ثمانمائة يتنقل الحال في ذلك بينه وبين نور الدين ابن جميع إلى أن مات الأشرفي وتولى ولده الناصر ومات ابن جميع، وتحول العفيف الأشرفي إلى مكة فسكنها نحواً من عشر سنين، ثم تحول إلى القاهرة فقطنها، واستقام أمره إلى أن قدر أنه خرج في تجارة إلى جهة طرابلس فأسر من طائفة من الفرنج وقعوا بالمركب الذي هو فيه فانتبهوا ما معه، واستمر في الأسر نحواً من أربع سنين إلى أن مات في هذه السنة في ربيع الآخر.
عبد الله جمال الدين بن الشيخ شمس الدين محمد بن محمد، العراقي الحلبي الأصل نزيل القاهرة، ولد سنة 64 تقريباً بحلب، وكان أبوه من صدور علمائها، وتربى هو بعد موته عند الشيخ شهاب الدين الأذرعي، وحصل له وظائف أبيه، ثم تعلق بعد أن كبر بولاية الحكم فناب في عدة بلاد وولي قضاء بعض البلاد على غير مذهبه، ولم يكن متحرياً وكان يعرف الشروط، ويستكثر من شراء الكتب مع عدم فراغه للاشتغال، وقدم القاهرة سنة إحدى وعشرين فقطنها إلى أن مات، وفي هذه السنة قيل للسلطان إنه لم يحج، فأرسل إليه في العشر الأخير من شوال، فسأله عن ذلك فاعترف، فأمره أن يحج

(3/525)


في هذه السنة، فبادر إلى الإجابة وأظهر الفرح بذلك، فنزل في الحال فتجهز وتوجه صحبة الركب الأول، فقدرت وفاته بمغارة نبط - ذاهباً - على ما بلغنا، ولم أعرف له سماعاً في الحديث ولا حدث، وكان مبغضاً للناس بغير سبب غالباً - عفا الله عنه -.
عبد الله بن مسعود، التونسي المكي الشيخ الجليل المعروف بابن القرشية أخذ عن والده وذكر أنه.... قرأت بخطه أن من شيوخه شيخنا بالإجازة أبا عبد الله بن عرفة وقاضي الجماعة أبا العباس أحمد بن محمد بن جعدة أخذ عن محمد بن عبد السلام شارح ابن الحاجب، ومنهم أبو القاسم أحمد بن أبي العباس الغبريني، أخذ عن أبي جعفر بن الزبير وعن ابن عربون وابن هارون، ومنهم أبو العباس أحمد بن أدريس الزواوي شيخ بحاية، وحدث بالحديث المسلسل بالأولية ومصافحة المعمر، ومنهم أبو عبد الله بن مرزوق، ومنهم أبو الحسن محمد بن أبي العباس أحمد الأنصاري البطرني، وذكر أنه قرأ عليه القراآت وسمع عليه كثيراً من الحديث وألبسه خرقة التصوف، ومنهم أبو العباس أحمد بن مسعود بن غالب البلنسي، أخذ عن الوادياشي وعن أبي عبد الله بن هزال.
عبد العزيز السلطان أبو فارس بن أبي العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر بن يحيى بن إبراهيم بن يحيى بن عبد الواحد بن عمر الهنتاني الحفصي صاحب تونس، مات وهو قاصد إلى تلمسان وقد مضى كثير من أخباره في الحوادث، قرأت بخط صاحبنا أبي عبد الله محمد ابن عبد الحق الهنتي فيما كتب من سيرته أنه بلغه أنه كان لا ينام من الليل إلا قليلاً حتى حزر مقدار ما ينامه بالليل أربع ساعات لا يزيد قط بل ربما نقصت، وليس له شغل إلا النظر في مصالح ملكه، وكان يؤذن بنفسه ويؤم بالناس في الجماعة ويكثر من الذكر ويقرب أهل الخير، وقد أبطل كثيراً من المفاسد والتركاس بتونس منها العيالة وهو مكان يباع فيه الخمر للفرنج ويحصل منه في السنة شئ كثير وكان لأكثر الجيش عليه رواتب فأبطله وعوضهم - وأخرج المحسس بولده، قال - وشكى إليه قلة القمح - بالسوق - فدعا تجاره فعرض عليهم قمحاً من عنده وقال: أريد بيع هذا بسعر دينار ونصف، فاسترخصوه، فأمر ببيعه بذلك السعر وأن لا يشتري أحد من غيره بفوق ذلك، فاحتاجوا أن يبيعوا بذلك القدر فترك هو البيع فبلغه أنهم زادوا قليلاً فأمر بأن يباع ما عنده بسعر دينار واحد، وتقدم إلى خازنه أنه إن وجد القمح بالسوق لا يبيع من عنده شيئاً وإلا باع بسعر دينار فاضطروا إلى أن باعوا، فكانت تلك من أحسن الحيل في تمشية حال الناس، ولم يكن ببلاده كلها شئ من المكوس ولكنه كان يبالغ في أخذ الزكاة والعشر،

(3/526)


وكان محافظاً على عمارة الطرق حتى أمنت القوافل في أيامه في جميع بلاده. وذكر أنه حضر محاكمة مع منازع له في بستان إلى القاضي فحكم عليه، فقبل الحكم وأنصف الغريم، وكان إذا مر في الأسواق يسلم، ولا يلبس الحرير ولا يجلس عليه ولا يتختم بالذهب. وكانت صدقاته إلى الحرمين وإلى جماعة من الصلحاء بالقاهرة وغيرها مستمرة، وما سافر قط مع كثرة أسفاره إلا قدم بين يديه صدقات للزوايا وكذلك إذا عاد، وكتب إليه ابن عرفة مرة: والله لا أعلم يوماً يمر - علي ولا ليلة - إلا وأنا داع لكم بخير الدنيا والآخرة فإنكم عماد الدين ونصرة المسلمين؛ مات في 14 ذي الحجة عن ست وسبعين سنة بعد أن خطب له بفاس وتلمسان وما والاهما من المدن والقرى إحدى وأربعين سنة وأزيد، وقام من بعده حفيده المنتصر أبو عبد الله محمد بن الأمين أبي عبد الله محمد ابن أبي فارس.
عبد العزيز عز الدين بن القاضي بدر الدين محمد بن عبد العزيز بن الأمانة، مات في سابع عشرى جمادى الأولى، وكان شاباً صالحاً عفيفاً فاضلاً، اشتغل كثيراً ودرس وعمل المواعيد بالجامع الأزهر.
علي بن حسين ابن عروة المشرقي ثم الدمشقي الحنبلي أبو الحسن ابن زكنون، ولد قبل الستين وكان في ابتداء أمره جمالاً، وسمع علي بن يحيى بن يوسف الرحبي ويوسف الصيرفي ومحمد بن محمد بن داود وغيرهم، وكان يذكر أنه سمع من ابن المحب ثم أقبل على العبادة والإشتغال فبرع، وأقبل على مسند أحمد فرتبه على الأبواب، ونقل في كل باب ما يتعلق بشرحه من كتاب المغنى وغيره، وفرغ في مجلدات كثيرة، وكان منقطعاً في مسجد يعرف بمسجد القدم خارج دمشق، وكان يقرئ الأطفال ثم انقطع ويصلي الجمعة بالجامع الأموي ويقرأ عليه بعد الصلاة في الشرح،

(3/527)


وثار بينه وبين الشافعية شر كبير بسبب الاعتقاد، وكان زاهداً عابداً قانتاً خيراً لا يقبل لأحد شيئاً، ولا يأكل إلا من كسب يده؛ توفي في ثاني عشر جمادى الآخرة، وكانت جنازته حافلة.
عمر بن علي بن حجى، الشيخ الحنفي البسطامي، أصله من العجم، وصحب بعض الفقراء، ودخل القدس فلازم الشيخ عبد الله البسطامي فعرف به، وأخذ عن الشيخ محمد القرمي، ثم قدم مصر وسكن بقرب اللؤلؤة بالعارض، وكان خيراً ساكناً، يعتقدون الناس فيه، وله مدد من عقار يملكه ويستأجره، وكان قد أقعد وهو مع ذلك ملازم الصلاة والذكر، وقل أن ترد رسائله؛ مات في حادي عشر ذي الحجة وقد قارب التسعين، وسمعت بعض الناس يذكر أنه جاوز المائة وليس كما يظن.
قطلو بغا حجى البانقوسي حمو الظاهر ططر، ولي نظر الأوقاف في أيام الأشرف مدة، وباشر بعنف شديد ثم لانت عريكته، ثم انفصل ومات في يوم السبت 25 صفر.
محمد بن أحمد، المالكي فتح الدين ابن النعاس - بالعين والسين المهملتين - أحد موقعي الحكم، كان حسن الخط عارفاً بالوثائق، وولي الخطابة بمدرسة ناظر الجيش عبد الباسط وكان يتلمذ لإبن وفاء وتقدم في الصلاة عليه بإشارة ناظر الجيش بحضور القاضي الحنبلي وغيره من الأعيان. ولم يتفق لي حضورها.

(3/528)


محمد بن أبي بكر بن محمد بن سلامة. المارديني الحلبي الحنفي الشيخ بدر الدين، اشتغل ببلده مدة ولقى أكابر المشايخ وحفظ عدة مختصرات ومهر في الفنون وشغل الناس، وقدم إلى حلب مراراً فاشتغل بها ثم درس في أماكن وأقام بها مدة عشر سنين ثم رجع، ولما غلب قرايلك على ماردين نقله إلى آمد فأقام مدة، ثم أفرج عنه فرجع عنه إلى حلب فقطنها، ودرس في عدة مدارس، ثم حصل له فالج قبل موته بنحو عشر سنين فانقطع، ثم خف عنه وصار ثقيل الحركة، وكان حسن النظم والمذاكرة، اجتمعت به في حلب، وذكر لي أن مولده سنة خمس وخمسين ومدحني بقصيدة رائية وأجبته عنها، ومات ثانى صفر سنة 837، وكان فقيهاً فاضلاً صاحب فنون من العربية والمعاني والبيان، وأخذ عن شريحاً وجماعة، وقد ذكرت له ترجمة حسنة في معجمي ومات وله اثنتان وثمانون سنة ولم يخلف بحلب بعده مثله.
محمد ابن أبي بكر بن محمد السمنودي المقرئ تاج الدين الشهير بابن تمرية، ولد قبل الثمانين بيسير، وكان أبوه تاجراً بزازاً، فنشأ هو محباً في الإشتغال مع حسن الصورة والصيانة وتعانى القراآت فمهر فيها، ولازم الشيخ فخر الدين بالجامع الأزهر والشيخ كمال الدين الدميري، وولي خطابة جامع بشتاك، وأخذ أيضاً عن الشيخ خليل المشبب، مات يوم الجمعة عاشر صفر.

(3/529)


محمد بن عبد الله السلمي الشيخ بدر الدين، مات في تاسع عشر ذي الحجة.
محمد بن علي بن محمد بن أبي بكر، قاضي مكة جمال الدين القرشي العبدري المكي الشيبي أبو المحاسن، ولد في رمضان 779، وسمع على برهان الدين ابن صديق وغيره، وله إجازة من النشاورى والحافظ العراقي ونحوهما، وتعانى الأدب والنظر في التواريخ، وصنف أشياء لطيفة، منها ذيل على حياة الحيوان سماه طيب الحياة، ومن نظمه قوله في القاضي جلال الدين لما أعيد إلى القضاء بعد الهروي في سنة إثنتين وعشرين:
عود الإمام لدى الأنام كعيدهم ... بل عودة لا عيد عاد مثاله
أجلى جلال الدين عنا غمة ... زالت بعون الله جل جلاله
وولى سدانة البيت في سنة 27، ثم ولي قضاء مكة بعد صرف أبي السعادات في سنة ثلاثين فباشره، فحمدت سيرته وأضيف إليه نظر الحرم، ولم يكن يعاب إلا بما يرمى به من تناول لبن الخشخاش.
قال القاضي تقي الدين الشهبي: ولي حجاجة البيت سنة 28 وولي قضاء مكة سنة ثلاثين وجمع مجاميع كثيرة، منها تعليق على الحاوي وطيب الحياة مختصر حياة الحيوان مع زوائد، وكان رحل إلى شيراز وبغداد، وكتب بخطه حوادث زمانه؛ مات ليلة الجمعة ثامن عشرى ربيع الأول عن نحو من سبعين سنة.
محمد بن علي الحكري - بدر الدين -، ولي أبوه القضاء مدة لطيفة، كما تقدم ذكره في سنة ست وثمانمائة، ونشأ ابنه هذا نشأة حسنة واشتغل كثيراً ثم ناب في الحكم مدة، وكان جميل الصورة حسن المعاشرة متواضعاً، فاشتغل ومهر وبحث المقنع والمستوعب على القاضي الحنبلي، وكتب بخطه كثيراً؛ ومات في أول شهر ربيع الأول، طلعت له جمرة في قفاه فمات بها، وعاش ثلاثاً وخمسين سنة

(3/530)


محمد بن قطلبك الكماخي - بالخاء المعجمة - شمس الدين، أحد نواب الحنفي؛ مات في الخامس من جمادى الآخرة، وكان مذموم السيرة.
محمد بن محمد بن محمد بن القماح، التونسي المحدث بها أبو عبد الله، سمع من أبي عبد الله بن عرفة وجماعة وحج فسمع من شيخنا تاج الدين ابن موسى خاتمة من كان عنده حديث السلفي بالعلو بالسماع المتصل بالقاهرة من شيخنا حافظ العصر زين الدين العراقي ومن مسند القاهرة برهان الدين السامي وجماعة، ورجع إلى بلاده فعنى بالحديث واشتهر به وكاتبني مراراً بمكاتبات تدل على شدة عنايته بذلك ولكن بقدر طاقته في البلاد، وقد ولي قضاء بعض الجهات بالمغرب، وحدث بالإجازة العامة عن البطرني الأندلسي مسند تونس وخاتمة أصحاب ابن الزبير بالإجازة وعن غيره من المشارقة وحدث بالكثير؛ مات في أواخر شهر ربيع الآخر، كتب إلي بوفاته الشيخ عبد الرحمن البرشكي من تونس وقال: كان حسن البشر سمح الأخلاق محباً للحديث وأهله - رحمه الله تعالى.
محمد بن شفشيل، شمس الدين الحلبي، أحد الفقهاء بها، اشتغل كثيراً وفضل، سمعت من نظمه بحلب، وكتب عني كثيراً؛ مات في جمادى الأولى.
محمد بن الفخر، المصري ناصر الدين المعروف بابن النيدي.. كان أبوه

(3/531)


تاجراً، فنشأ هو محباً في العلم فمهر في العربية، وصاهر شيخنا العراقي على ابنته، ثم ماتت معه فتزوج بركة بنت الشيخ ولي الدين أخي زوجته الأولى ومات وهي في عصمته وخلف ولدين وكان معروفاً بكثرة المال فلم يظهر له شيء وله بضع وستون سنة.
محمد بن فندو ملك بنجالة جلال الدين أبو المظفر ويلقب بكاس، وكان سبب تملكه لها أن أباه كان كافراً فثار على شهاب الدين مملوك سيف الدين حمزة بن غياث الدين أعظم شاه بن إسكندر شاه بن شمس الدين، فغلبه على بنجالة وأسره، وكان أبو المظفر قد اسلم فثار على أبيه واستملك منه البلاد، وأقام شعار الإسلام، وجدد ما خربه أبوه من المساجد، وراسل صاحب مصر بهدية، واستدعى بعهد من الخليفة وكانت هداياه متواصلة بالشيخ علاء الدين البخاري نزيل مصر ثم دمشق، وعمر بمكة مدرسة هائلة، وكانت وفاته في شهر ربيع الآخر، واقيم بعده ولده المظفر أحمد شاه وهو ابن أربع عشرة سنة.
محمد الدمشقي المعروف بابن تيمية ناصر الدين، وكان يتعانى التجارة ثم أتصل بكاتب السر فتح الله وبشمس الدين بن الصاحب وسافر في التجارة لهما، وولي قضاء الإسكندرية مدة، وكان عارفاً بالطب، ودعاويه في الفنون أكثر من علمه؛ مات في تاسع شهر رمضان وقد جاوز السبعين.

(3/532)


مقبل بن عبد الله الرومي الذي كان دويدارا عند موت المؤيد، وفر إلى الشام فرقاً من ططر، ثم أمنه واستعان به على جقمق الذي كان نائب الشام ثم استقر في النيابة بصفد فباشرها مدة طويلة وحسنت سيرته فيها وسمعته، وكان فارساً بطلاً عارفاً بالسياسة؛ مات بصفد في يوم الجمعة 29 ربيع الأول، واستقر في نيابتها بعده اينال الششماني وكان قريب العهد من المجئ من إمرة الحاج وهم يشكون من جوره ووهنه - فلله الأمر

(3/533)


وقدم جماعة من المقادسة والخليلية يشكون من نائبها أركماس الجلباني أنواعاً من الظلم والأذية - لجميع الطوائف، ومما أعتمده أنه حبس القاضي شمس الدين البصروي وهو يومئذ قاضي الشافعية وزعم أنه استنقذه من العوام لئلا يرجموه وحجر على المياه التي لبيت المقدس فختم على الآبار ومنع الناس من الاستفاء منها إلا بثمن - إلى غير ذلك، فلما علم السلطان بسيرته أمر بعزله وقرر غيره في الإمرة وهو أخو - تغرى برمش الذي ناب عن السلطان في الغيبة.