إنباء الغمر بأبناء العمر
سنة ثلاث وأربعين
وثمانمائة؟؟
المحرم - أوله الأحد، العشرين من بونة من أشهر القبط -، وفي ليلة السبت
تراءوا هلال المحرم فلم يظهر مع الصحو الشديد، فلما كان صبيحة هذا
اليوم استقر القاضي محب الدين بن الأشقر ناظر الجيش وركب الناس معه
وكان الجمع وافراً، واستقر معه محمد بن أبي الفرج عبد الرزاق أخو فخر
الدين في الأستادارية، فركب معه فوصله إلى منزله برأس حارة زويلة،
وتوجه إلى منزله بقرب قنطرة سنقر، وتوجه غالب الناس معه.
وفي هذا اليوم وصل رأس تغري برمش ورفيقه ونودي عليهما بالقاهرة ثم علقا
بباب زويلة - وقد تقدم أنه ضربت عنقه في سابع عشر ذي الحجة من الحالية
- بقلعة حلب، وقدم مبشر الحاج وأخبر أنهم وقفوا يوم السبت، وأن بعض
الناس تحدث برؤية الهلال ليلة الجمعة ولم يثبت ذلك، لكن سار الركب من
مكة فباتوا بعرفات ليلة الجمعة احتياطاً.
وفي هذا اليوم نقلت الشمس من برج السرطان، وهو أول يوم من الصيف، ومن
يومئذ نقص النهار وأخذ الليل منه، وهذا اليوم هو أطول أيام السنة وأقصر
لياليها.
(4/131)
وفي يوم الاثنين ثاني المحرم استقر الشيخ
ولي الدين السفطي شيخ المدرسة الجمالية في نظر الكسوة مضافة إلى وكالة
بيت المال، وركب الناس معه أيضاً.
وفي الثالث منه أمر عبد الباسط ناظر الجيش دويداره بإحضار ما في منزله
من الذهب، فكان ثلاثين ألف دينار فاستقلها السلطان، فاستأذنه ناظر
الجيش المذكور في بيع موجوده فأذن له، وشرعوا في بيع جميع ما عنده من
الحواصل، فوصلت مصادرته في اليوم العاشر إلى مائة ألف دينار وثلاثين
ألف دينار والطلب مستمر، وقيل إنه طلب منه ألف ألف دينار، وإن بعض
الوسائط أنزلها إلى خمسمائة ألف دينار، ولم يثبت ذلك وصودر كاتبه على
عشرة آلاف دينار، ثم خفف عنه منها الخمس، والأستادار جانب بك مملوكه -
على عشرة آلاف دينار، فباع دوره واثاثه وشرع في وزنها وضمن عليهم
وأطلقوهم، ثم أطلق ضفدع وإبراهيم الكاتب بغير شيء، وكثرت الأمتعة
والملابس الفاخرة بأيدي الناس من كثرة من يبيع ذلك من حواشي المشار
إليه - إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار.
ومن أعجب ما يذكر أن جميع منادميه صاروا ملازمين لكاتب السر طمعاً في
استمرار جهاتهم وجاههم - والله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور
(4/132)
وأحضر الشريف بدر الدين حسن الإسكندراني
التاجر، وكان يتوكل عن ناظر الجيش في بيع النبهار من الإسكندرية في
هيئة شنيعة، فحبس بالبرج وحوسب إلى إن استقر عليه شيء يسير وأطلق، ثم
لما كان بعد ذلك تقرر على عبد الباسط ثلاثمائة ألف دينار، وكان السلطان
ألزمه بستمائة، ثم بخمسمائة ثم بأربعمائة، فتكلموا معه في ذلك فأظهر
العجز عن ذلك، وقرروا مع السلطان أن يكون ثلاثمائة وأعلموه بذلك، ثم
شاوروا السلطان فأنكر أن يكون رضي بذلك، وتغيظ عليهم وعليه وأمر بحبسه
في البرج، فحبس في برج مظلم وضيق عليه، فأقام إلى أن قلب الله قلبه
وأمر بإخراجه منه، وتسلمه نائب القلعة فأنزله في غرفة علية وهي أعلى
بناء في القلعة، فأقام بهاأكثر من شهر إلى أن افرج عنه.
وتوجه إلى مكة في أثناء ربيع الآخر - كما سيأتي بيانه إن شاء الله
تعالى.
وفي التاسع عشر منه وصل سابق الحاج وذكر أنه فارقهم من عيون القصب
وأنهم بخير.
وفيه ابتدأت الزيادة في النيل.
وفي يوم الجمعة سادسه رفع أمين النيل الخبر بأنه يومئذ كان على أربعة
أذرع وعشرة أصابع، فزاد على العام الماضي في النقص خمسة وأربعين إصبعا،
واستمرت الزيادة فكان في أبيب وهو يوم الجمعة العشرين من المحرم أنقص
من العام الذي قبله بأحد وستين إصبعا، فلم يزل يزيد حتى كان في العشرين
من صفر أزيد من الذي قبله بأربعة تسعين إصبعا - فسبحان القادر.
وفي السادس والعشرين منه خلع على نور الدين ابن آقبرص أحد نواب الحكم
بوظيفة نظر البيوت عوضاً عن ناظر الجيش، وكانت الخلعة جبة سمور.
(4/133)
وفي يوم السبت الثامن والعشرين منه وصل
يشبك الحاجب الكبير وخلع عليه، واستقر أتابك العساكر، وهرع الناس
للسلام عليه، ونزل ببيت بركة وهو الذي كان فيه أركماس الظاهري -
الدويدار، ودخل العسكر الذين كانوا في الصعيد. وفي هذا اليوم عقد مجلس
بسبب حسن الأميوطي الذي عمل نقابة الحكم في العام الماضي للقاضي علم
الدين صالح - البلقيني وادعى عليه بأمور معضلة، فسمع الدعوى عليه بعضها
القاضي الشافعي وبعضها القاضي الحنفي، وأمر الحنفي بحبسه ليتبين ما
ادعاه من الطعن في الشهود، واجتمع بسبب ذلك من لا يحصى عدده من الناس،
وحصل له لما أرسل إلى الحبس من الإهانة والصفع مال لا يزيد عليه، ولو
لاذب الجيش عنه لقتل على ما قيل.
شهر صفر الأغر - أوله يوم الاثنين، وفي صبيحة الثلاثاء عزر حسن الأميوط
نقيب البلقيني في مجلس الحنفي، فضرب على ظهره مجرداً نحواً من أربعين،
وأهين في أثناء ذلك إهانة عظيمة وأعيد إلى الحبس، واجتمع من الناس من
لا يعد كثرة، ولولا والي الشرطة لقتلوه، ثم حبس ثم أحضر يوم السبت إلى
مجلس الحكم - فادعى عليه ثانياً - ولم يقع ما كان يظن، وأعيد إلى الحبس
ثم أفرج عنه في الحال، وسكنت القضية بعد أن كان يظن أنه يراق دمه لا
محالة.
وفي أواخر يوم الخميس رابعه الموافق لثاني عشري أبيب أمطرت السماء
مطراً غزيراً بعد صلاة العصر، ودامت نحو ساعة وأوحلت الأرض داخل
القاهرة وحولها، وقد وقع نظير ذلك في سنة تسع وأربعين فأمطرت في.. من..
فوافق جمادى الأولى فأمطرت من بعد العصر إلى قرب العشاء فكان أكثر من
ذلك، فاستغرب الناس ذلك ونسوا وقوعه قبل ذلك بست سنين.
وفي يوم الجمعة وصل العسكر الذي كان جهز إلى الشام، ودخل قبلهم قانباي
البهلوان فقرر في نيابة صفد عوضاً عن إينال الأجرود، وصل إينال
(4/134)
المذكور بعد اسبوع واستقر مقدماً على عادته
بعد أن خلع عليه ثالث عشره -، وواجه أمراء العسكر السلطان يوم السبت
سادسه، وخلع عليهم وهرع الناس للسلام عليهم.
وفي يوم الخميس أهين عبد الباسط وحول من محبسه بالقاعة - إلى البرج
الذي كان حبس فيه أولاً أتابعه وهو في رفاهية، فعاد إلى ضيق وحصر وشدد
عليه في التهديد وطلب المال، وكان هو يظن أنه إذا بادر بدفع المال يفرج
عنه، وذكر أنه حمل جميع ما عنده من النقد ثم عرض جميع ما عنده من أصناف
المتاجر للبيع فاشتريت للسلطان، ثم عرض جميع ما عندهم الجواهر والحلي
وبيع للسلطان أيضاً - ثم عرض جميع ما عنده من الثياب الصوف والحرير
والمخمل والمذهب والمطرز فاشترى ايضاً للسلطان، ثم عرض جميع ما عنده من
الأثاث فبيع بالأثمان الغالية تارة وبالرخيصة أخرى، وحصل لجماعته في
أثناء ذلك منافع كثيرة، ومع ذلك فلم يجتمع من ذلك إلا نحو مائتي ألف
دينار، وأصر السلطان على طلب خمسمائة ألف دينار بعد أن كان طلب منه ألف
ألف دينار - فلم يزل يحطها إلى أن صارت على النصف ولكن المطلوب منه حط
على أنه لا يقدر إلا على ما ذكر، لكن بقي له العقار فكأنه شرع في
الحيلة في حل الأوقاف ليباع ما يمكن بيعه من العقار - والحكم لله ثم آل
الأمر إلى أن غضب منه فأمر بسجنه في البرج المظلم فأقام فيه مدة. ثم
أفرج عنه - وسلم لنائب القلعة فأسكنه عنده في طبقة عليا نيرة. وتقرر
مال المصادرة على مائتي ألف دينار وخمسين ألف دينار، فاستوعب ما يقدر
عليه من النقد والبضائع والامتعة - والديون والغلال، وباع ما لم يوفقه
من العقار - وأخر كثيراً مما وقفه وباع بعضه أنقاضا فلم يكمل المائتين،
فاخذ في الإستدانة وسؤال المعارف ومن سبقت له إليه يد، فكان جهد ذلك أن
كمل المائتين في العاشر من ربيع الأول - ثم كان ما سنذكره.
وفي يوم الاثنين خامس عشره رسم السلطان أن يرسل الملك العزيز يوسف ابن
الأشرف إلى الإسكندرية على طريق البر وصحبته اسنبغا الطيارى أحد
الأمراء المقدمين
(4/135)
ليودعه السجن بها وأمر بتحويل الأمراء
المسجونين هناك إلى قلعة صفد وغيرها، ثم بطل العزم عن سجن العزيز
واستمر تحويل الأمراء، وأقام قانباي البهلوان الذي تقرر في إمره صفد
بسرياقوس إلى أن يحضروا ويتوجه بهم صحبته إلى أن يسجنهم بقلعة صفد
وبغيرها كقلعة المرقب والصبيبة، ثم وصلوا وسلموا وتوجه كل إلى مقصده،
وذلك في أول ربيع الأول.
وفي يوم الخميس ثامن عشر صفر كسر الخليج الحاكمي على العادة، ونودي على
النيل بالوفاء ستة عشر ذراعاً وزيادة إصبعين، ثم نودي عليه في صبيحة
الجمعة بعشرة، فصار على ستة عشر ذراعاً ونصف ذراع، وكان في مثل هذا
اليوم من العام الماضي على ثلاثة عشر ذراعاً وربع -، وانحل سعر الغلال
بعد أن كان ارتفع - ولله الحمد، وزاد الماء في ثلاثة أيام متوالية بعد
يوم الوفاء اثنين وثلاثين إصبعا، وهو شيء لم يعهد قبل هذه السنة، ثم
زاد سبعة في اليوم الثالث من يوم الوفاء وستة في اليوم الرابع - فبلغت
زيادته عن العام الماضي أربعة أذرع وتسعة أصابع، وما سمع قط أن النيل
في العاشر من مسري تكمل ثمانية عشر ذراعاً ينقص إصبعاً واحداً، واستمرت
المناداة بالزيادة إلى يوم الخميس الثاني من شهر ربيع الآخر فزاد أصابع
من العشرين، فاستراب أكثر الناس بذلك، لأن الذين اعتادوا معرفة ذلك ممن
له دار تطل على النيل لم يصل الماء عنده - إلى علامة العشرين، فتوجه
جماعته فشاهدوا المقياس فظهر لهم كذب القياس، ثم اقتضى الرأي عدم
التوسع في ذلك لئلا يضطرب العامة إذا تبين أن الزيادة دون ما ذكر فلا
يؤمن أن يحدث من ذلك غلاء في السعر، واستشعر القياس بذلك فصار ينادي كل
يوم بإصبع مع أن
(4/136)
الزيادة مستمرة بأكثر من ذلك، وكان آخر يوم
من مسري يوم الأحد ثاني عشر ربيع الأول انتهى إلى تسعة عشر ذراعاً وستة
عشر إصبعا.
وفي ليلة السبت حادي عشر ربيع الأول حول الملك العزيز من القلعة إلى
ساحل بولاق فأنزل في الحراقة الصغرى، ومعه من يتوكل به إلى الإسكندرية،
فسجن بها على عادة من تقدمه كولد الملك الناصر فرج ثم ولد الملك
المؤيد، وعمل المولد السلطاني في يوم الأحد الثاني عشر منه وكان
حافلاً، وفرع وقت العشاء سواء، وخرج الناس والاسواق مفتحة والليلة
مقمرة جداً - ولله الحمد. ونودي بالسفر إلى مكة في الرجبية. وعين عدة
من المماليك للإقامة بمكة والمدينة، أما مكة فلحفظ البضائع الواردة من
الهند من عبيد مكة وسفهائها، وأما المدينة فلقمع الرافضة الذين تسلطوا
على أهل السنة بها.
وفي هذا الشهر قبض على سراج الدين عمر بن موسى - الحمصي الذي كان قاضي
طرابلس ثم دمشق، وكان قد تسحب من دمشق بكلام بلغه عن السلطان من جهة
انتمائه إلى أينال الجكمي فأقام بقرية من طرابلس، فبلغ ذلك النائب
فمسكه وأرسل وقيده بقيد ثقيل وسجنه وكاتب فيه، فشفع فيه بعض الأمراء
بالقاهرة فأذن في إطلاقه، وتوجه القاصد بذلك، وكان سفر الرجبية من
القاهرة في.. وأميرهم وممن سافر معهم..، وكان أول توت أول السنة
الشمسية يوم السبت ثامن عشر شهر ربيع الأول، ابتدأ السلطان في الحكم
بين الناس بالإسطبل على العادة ونودي بذلك، فكان أول شيء أمر
(4/137)
به أن ينفي عز الدين البساطي المالكي وناصر
الدين الشنشي الحنفي وولده إلى قوصن ثم بلغني أنه شفع فيه ولم يتم ذلك
للبساطي واستمر الشنش. وأمر السلطان القضاة الأربعة - أن لا يحبس أحد
من نوابهم أحداً إلا بعد مراجعة مستنيبه، وكسر سد الأميرية وغيرها في
هذا اليوم، فنقص البحر نحو نصف ذراع بعد أن، كان نودي عليه يوم الجمعة
بإكمال العشرين ذراعاً، ثم زاد إلى سلخ تسعة أصابع، وانتهت الزيادة يوم
الجمعة ثامن شهر ربيع الآخر إلى أحد عشر إصبعا من أحد وعشرين ذراعاً،
والحق أنه لم يكمل العشرين وأن الافتراء من أمين البحر.
وفيه وقع بين المطوعة في البحر من أهل دمياط وبين الفرنج وقعة بساحل
صيدا، قتل فيها كبيرهم المجاهد عبد الرحمن، وأسر المسلمون بعد أن قتل
منهم جماعة، وأخذت لهم ثلاثة مراكب، وأسف المسلمون على ذلك أسفاً
شديداً.
وفي أواخر شهر ربيع الأول وردت مطالعة نائب الشام يشكو فيها من
القاضيين الشافعي والحنفي، فأمر السلطان بعزلهما معاً، فعزل القاضي
بهاء الدين - ابن حجي من كتاب السر بدمشق ومن قضاء الشافعية، واستقر في
قضاء الشافعية شمس الدين الوناي، وقرر في يوم الخميس سابع شهر ربيع
الآخر، وفي كتابة السر شهاب الدين العجلوني الذي كان يوقع عند الأمير
الدويدار الكبير، وكان عين لها زين الدين بن السفاح بل قيل له البس
الوظيفتين معاً، ثم استقر في نظر الجيش فقط، وصرف جمال الدين الكركي.
وأمر السلطان بنقل بهاء الدين من دمشق إلى القدس فسكنها بطالاً، ثم
تكلم له في تدريس الصلاحية فرسم له بها، وصرف الشيخ عز الدين القدسي
وتوجه القاصد بذلك إلى دمشق، ثم بطل ذلك وكتب إلى ابن حجي بالقدوم إلى
القاهرة واستمر القدسي في وظيفته فقدم ابن حجي في رجب ثم خلع عليه بنظر
الجيش وسافر في أول رمضان، وصرف زين الدين بن السفاح وأعيد إلى نظر
الجيش بحلب، واستقر في قضاء الحنفية بدمشق بعض المصريين،
(4/138)
وصرف القاضي شمس الدين محمد بن علي الصفدي
ثم تأخر ذلك واستمر الصفدي، واستقر في قضاء الحنفية بحلب عز الدين عبد
العزيز بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن العديم، ثم بطل وأخر لبس الخلعة
واستمر ابن الشحنة.
شهر ربيع الآخر - أوله الجمعة بالرؤية موافق لثالث عشر توت، وأرخ في
بعض البلاد كدمياط بيوم الخميس، وفي يوم الاثنين رابع شهر ربيع الآخر
وصل القاضي علاء الدين ابن خطيب الناصرية الحلبي من حلب إلى القاهرة من
أجل السعي في العود إلى وظيفة القضاء، فأقام إلى شعبان ثم خلع عليه
وسافر في أثنائه إلى بلاده على وظيفته فوصل في أواخر رمضان، ثم لم يلبث
أن مات.
وفي يوم الاثنين حادي عشره أفرج عن زين الدين عبد الباسط، وخلع عليه
خلعة رضا - وهي جبة سمور، وأذن له في السفر إلى مكة، فرجع بخلعته إلى
تربته بالصحراء بالقرب من تربة قجماس ليقيم بها إلى إن يرحل بعد أيام،
ثم تحول إلى طرف المرج من جهة بركة الجب ليتجهز منها إلى مكة بأهله
وعياله، وانضم إليه جمع كثير من الناس، وتوجهوا إلى مكة في ليلة
الاثنين الثامن عشر من هذا الشهر.
وفي يوم السبت تاسعه أذن للشنشي وولده بالعود إلى القاهرة وتوجه إليهما
القاصد بذلك.
(4/139)
وفي يوم الأربعاء سادس شهر ربيع الآخر ادعى
جماعة من المجاهدين ومن انضم إليهم على شخص نصراني أن هو الذي كان
السبب في قتل المجاهدين وأنه كاتب الفرنج بقضيتهم حتى استعدوا لهم ودل
على عوراتهم، وأقيم بذلك البينة عند بعض نواب الحكم بدمياط مالكي
المذهب، وثبت ذلك عليه فحكم بقتله وأمر بسجنه ليراجع السلطان، فاجتمع
عليه جمع لا يحصون كثرة فنزعوه من أيدي أعوان الحكم وحملوه إلى ظاهر
البلد فقتلوه بين الكنائس وحرقوه، ومدوا أيديهم إلى الكنائس فهدوموها
ونهبوا ما فيها، وكان النائب بالثغر ركب بمن حضر من القضاة وغيرهم
لينزعوا النصارني منهم، فوجدوا الأمر قد اشتد فكاتب السلطان بذلك، فأمر
بإحضار القضاة والنائب فسألهم فأخبروه بجلية الحال، وأخرج بعض الناس
محضراً بأن النصراني المذكور أسلم قبل قتله، فتغيظ على قاتليه وأمر
بحبس كبارهم، ثم أذن في إطلاقهم في اليوم الثاني وأمر بعزل النائب
والقضاة، فاستقر في النيابة محمد الصغير معلم النشاب - الذي كان وليها
في العام الماضي، واستمر القاضي - على حاله، وأمر في الاقتصار في
النواب على ثلاثة فقط.
وفي يوم الاثنين حادي عشره أمر السلطان أن يستقر للقاضي الشافعي من
النواب أربعة وللحنفي اثنان وللمالكي كذلك وللحنبلي كذلك، وعقد في هذا
اليوم مجلس بحضرته بسبب الحوانيت التي نازع فيها بسعي تاني بك البجاسي،
وحضره قاضي حلب المنفصل علاء الدين ابن خطيب الناصرية وذكر الصورة
مفصلة، ومع ذلك أمر السلطان القاضي الشافعي أن ينشئ الدعوة في ذلك
ويحرر الأمر فيها، ثم أذن السلطان أن يستقر للشافعي ست أنفس ولكل من
رفقته ثلاثة، فكتب الشافعي أسماء جميع النواب في رقاع وأحضرها لحضرة
السلطان، فتناول السلطان منها ستة فاستقر بهم ومنع غيرهم، ثم أذن بعد
سبعة أيام في زيادة اثنين، ثم أمر باستبدال ثلاثة من الستة بثلاثة أمير
منهم لطعن بعض جلسائه في الثلاثة الأولين، فانتهى أمره في يوم الثلاثاء
سادس عشري شهر ربيع الآخر إلى ثمانية وللحنفي أربعة، واستقر المالكي
على ثلاثة والحنبلي كذلك.
(4/140)
وفي هذا الشهر مات آقبغا التمرازي نائب
الشام، ووصل الخبر في يوم الأحد رابع عشر الشهر المذكور، فقرر في نيابة
دمشق جلبان نائب حلب، وقرر نائب طرابلس في نيابة حلب، وقرر الحاجب
الكبير برسباي الذي كان وقع بينه وبين النائب ما وقع في نيابة طرابلس،
وقرر في الحجوبية نائب غزة، توجه دولات باي الدويدار الثاني في تقليد
نائب حلب في يوم الثلاثاء.
شهر - جمادى الأولى - أوله السبت، في أول يوم منه نودي بالسفر في رجب
لمن أراد التوجه إلى الحجاز صحبة المماليك المجهزة إلى مكة، وكان ما
حذا للمناداة الأولى، فتحرك جماعة لذلك منهم - وتوجه قبل ذلك الأمير
محمد بن علي ابن إينال أمير شكار -، وصحبته عسكر من الترك والعرب لدفع
قبيلة بلي المفسدين في طريق الحجاز، فظفروا بطائفة منهم بسطح العقبة
رجعوا بعد أن امتاروا، فقبضوا عليهم واستمروا إلى أن دخلوا بلاد بلي.
وفي يوم الثلاثاء الرابع منه الموافق لخامس عشر بابه والعاشر من تشرين
الأول أمطرت السماء في أول الليل قليلاً ثم في أول النهار، ثم أرعدت
ولم يكثر المطر إلا من بعد الظهر فاستمر إلى بعد العصر وتزلقت الأرض،
وأخذ النيل في الانهباط، ثم لم يظهر اثر ذلك بل ثبت غلى أن انقضت بابه،
واستمر البحر إلى أن نزلت الشمس برج الجوزاء، ولم يتغير مزاج الحر - ثم
كان ما سنذكره.
وفي يوم الجمعة ثاني عشري جمادى الأولى لبس السلطان الصوف ووافق التاسع
من هاتور وهو الخامس من تشرين الثاني، وتأخرت عن عادة الاشرف نحواً من
عشرين يوما، وأظن
(4/141)
سبب ذلك استمرار الحر.
واستهل جمادى الآخرة والأمر على ذلك، وفي هذا اليوم أمر السلطان بجمع
اليهود من مراكزهم، فاجتمعوا عنده في الحوش فشرط عليهم مشافهة أن لا
يؤخروا عندهم صداق امرأة ولا طلاقها بل يدفع لها في الحال، وأن لا
يشهدوا على يهودي ولا نصراني في مرض مخوف بوقف ولا وصية إلا بإذن من
القاضي والناظر على المواريث. واستمر الحر إلى أن نقلت الشمس إلى برج
القوس فتأخر البرد عن العادة، وانهبط النيل فكان في نصف هاتور في خمسة
عشر ذراعاً وافرة؛ ووصل رسول شاه رخ ابن اللنك إلى القاهرة ومعه جماعة،
فأقام أكثرهم بالشام ووصل هو ببعض جماعته - إلى مصر، ومضمون رسالته
التهنئة بالسلطنة..
شهر رجب الأصم - أوله الثلاثاء، في أول يوم منه خرج أمير المحمل فضرب
خيامه مقابل خليج الزعفران، ثم خرج الحاج وهم كثير ورحلوا من ثم في يوم
الاثنين فنزلوا مقابل المرج ورحلوا ليلة السبت خامسه -؛ ووصل الخبر
بعدهم بقليل بأن العسكر الذين توجهوا إلى العرب بأنهم غلبوا عليهم.
وفي اليوم الرابع عشر منه أدير المحمل وكان حافلاً.
وفي يوم الاثنين سابع شهر رجب دخل فصل الشتاء، واشتد البرد على العادة
بعد أن كان الحر تمادى إلى يوم الخميس ثالثه - وتأخر المطر بعد نزول
المطرة الأولى المنبه عليها، ثم امطرت مطراً يسيراً مرة بعد مرة،
(4/142)
وتسلطت الدودة على البرسيم فأكلت منه
الأكثر، فغلا بسبب ذلك حتى كانت قيمته قدر العام الماضي مرة ونصف أو
أزيد، ثم توالت الأمطار وحصل النفع بها.
وفي يوم الاثنين حادي عشر منه دخل أحمد بن إينال وصحبته جماعة من عرب
بلي، قبض عليهم فأمر بتسميرهم وتوسيطهم، وهم الذين كانوا في آخر سنة 41
قطعوا الطريق على الحاج ونهبوا منه أموالاً عظيمة، وهلك بسبب ذلك خلائق
من النساء والأطفال والرجال بالجوع والعطشن وحصل للناس بذلك سرور كثير،
لكن قيل إن كثيراً منهم لم يكن منهم وإنما أخذوهم بغتة ولم يحصل طائل -
والعلم عند الله تعالى.
شعبان المكرم - أوله الخميس.
شهر رمضان المعظم قدره وحرمته - أوله الجمعة، في الثاني والعشرين منه
وصلت الجمال الذين حملت الحجاج الرجبية، وذكروا أنهم فارقوهم وهم بخير
وقد انحط السعر قليلاً وكان الحمل الدقيق بلغ ثلاثة عشر ديناراً فنقص
دينار، وكان شاع بالقاهرة أنه بلغ العشرين أو زاد، فظهر كذب تلك
الإشاعة.
وفي التاسع منه ثار العامة بدمشق على النائب بها، فهجموا عليه دار
السعادة ففتحوا الطبلخلناة فضربوها، فتجمعوا، وكان السبب في ذلك إن
شخصاً يقال له عبد الرزاق خدم برددارا عند النائب فاحتكر اللحم وصار هو
الذي يتولى الذبيحة، فغلا اللحم وصار يشتري الغنم بالسعر البخس ويبيع
بالربح المفرط، فقل الجالب بسبب ذلك فاشتد الخطب حتى كان اللحم يباع
بدرهمين ونصف فبلغ ثمانية، فنادى النائب بالجند فأمسكوا منهم جماعة
وسجنوهم، فهجم الباقون السجن وكسورا بابه وأطلقوا أصحابهم، وكان النائب
قبل ذلك لما شكوا إليه عزل البرددار ونادى بإسقاط المكس عن الغنم،
فانحط السعر إلى أربعة وخمسة فلم يقنعهم ذلك، فكاتب في ذلك فوصل الخبر
بذلك في الثالث والعشرين من رمضان، فأمر السلطان بجمع الأمراء
(4/143)
والقضاة يوم الأحد صبيحة الرابع والعشرين
فاشتوروا فقيل للمالكي إن عندهم قولاً بقتل الثلث لاستصلاح الثلث فأنكر
المالكي ذلك وقال: هذا لا يعرف في المذهب العشر قال: فما السبب في تجرئ
هؤلاء؟ قال: كثرة الحلم عنهم - هذا ملخص ما حكاه هو لي، فإنني ركبت فما
وصلت حتى انقض المجلس، وكذلك الحنبلي ما أدرك المجلس، وسألت الحنفي
فقال ما أجبت بشيء لأجل غيبتكم، ففهمت أن المعول كان على المالكي، وذكر
لي الحنفي أن بعض الأمراء قال: هؤلاء بغاة، قال: فقلت له: لا، ما هؤلاء
بغاة وإنما أساءوا الأدب، وينبغي أن نعرف البادي منهم بذلك فنعاقبه بما
يرتدع به غيره؛ فلما كان يوم الاثنين كتب مرسوم قرئ على المنبر بتهديد
العامة والإنكار عليهم فيما فعلوا، وكتب توقيع القاضي تقي الدين بن
قاضي شهبة بعوده إلى القضاء وبعزل القاضي شمس الدين الونائي، لان
النائب بعث يشكو منه ويقول: إنما تسلط العامة علينا به - ونحو ذلك،
وعين للسفر بذلك الشريف الحموي الموقع بعناية كاتب السر فوصل قبل سفر
الحاج بيومين، وكان الونائي قد تجهز إلى الحج فاسترم، واستقر ابن قاضي
شهبة، وهي الولاية الثانية.
شهر - شوال المبارك أوله السبت بالرؤية الصحيحة، وصادف تاسع برمهات
ورابع آذار، وقع في أول يوم منه ريح باردة، وأثارت غباراً شديداً بحيث
كان يتصاعد إلى أعلى القلعة واشتدت الظلمة منه وقت العصر إلى أن أمطرت
شيئاً يسيراً، فسكن واستمر البرد
(4/144)
الشديد بحيث أنه كان يضاهي ما كان في أول
الشتاء أو أشد منه، واستمر إلى فرغ برمهات وعاد مزاج فصل الربيع على
العادة، وفي الثاني منه نقلت الشمس إلى برج الحمل.
وفي يوم الأحد الثالث والعشرين منه الموافق لأول يوم من برمودة من أشهر
القبط - كان عيد النصارى - أخزاهم الله.
وفي النصف منه تنازلت أسعار الغلال وانحطت إلى قدر النصف بحيث بيع ما
كان بلغ ثلاثمائة بمائة وخمسين واقل من ذلك.
وفيه - رحل إلى القاهرة طالب حديث الفاضل البارع قطب الدين محمد بن
محمد بن عبد الله بن خيضر بن سليمان بن داود بن فلاح بن ضميدة البلقاوي
ويعرف الآن بالخيضري نسبة لجد أبيه، فسمع الكثير وكتب كتباً كثيرة
وأجزاء، وجد وحصل في مدة لطيفة شيئاً كثيراً، وتوجه صحبة الحاج المصري
لقضاء الفرض، وكتب عني في مدة يسيرة المجلد الأول من الإصابة بتمييز
الصحابة وقرأه وعارض به معي وأتقنه، ونسخ أيضاً تعجيل المنفعة في رجال
الأربعة وقرأه كله وأتقنه، وسمع عدة أجزاء، وكتب عدة مجالس من الامالي؛
وخطه مليح وفهمه جيد، ومحاضراته تدل على كثرة استحضاره.
وفي يوم الثلاثاء خامس عشر شوال وصل ناصر الدين بك بن خليل بن قراجا بن
دلغادر، وجلس له السلطان في إيوان القصر الكبير جلوساً عاماً، وأمر
الأمراء الكبراء بتلقيه فتلقوه ظاهر القاهرة ودخلوا به من البلد إلى أن
أطلعوه القلعة فدخل ومعه أولاده، فخدم وخلع عليه
(4/145)
وأنزل في بيت نوروز، وهو شيخ كبير يقال بلغ
الثمانين، وتغلب على لونه السمرة الشديدة، وتقدم خبره في حوادث سنة
727، وكان دخل القاهرة في دولة الملك الظاهر مرة قبلها، ثم صاهره
السلطان وتزوج ابنته، وسافر بعده إلى بلاده بعد أن، بولغ في إكرامه
والإنعامات عليه.
وورد الخبر بأن أبا الفضل ابن شيخنا زين الدين ابن حسين اغتيل فوجد
لعبه، قتله شريف من الرافضة، وقيل: إن سبب ذلك أن الحسني كان له دين
على القاتل فلما مات أوصى أبا الفضل، فطالب أبو الفضل بمال محاجيزه،
فمطله فألح عليه فاغتاله، وصار أهل المدينة في خوف شديد، ولم يبق أحد
يجسر أن يخرج من بيته سحراً، وكان سليمان أمير المدينة غائباً وله نائب
اسمه حيدر بن عزيز فخرج في جماعة لتحصيل القاتل، وكان تسحب هو وجماعة
من عشيرته، فما ظفروا بأحد منهم - وكان ما سنذكره في السنة المقبلة.
وفي أواخر شوال مر صاحبنا القاضي محب الدين بن أبي الحسن البكري المصري
نائب الحكم وكان قد سار مع الرجبية إلى مكة، فرأى وهو يطوف بالبيت بعض
الصناع من المرخمين يحاول قلع لوح رخام من الحجر وهو في غاية الثبات
ليلصقه على كيفية أخرى فأنكر عليه، فتوجه المذكور إلى شاد العمارة
سودون المحمدي فذكر له ذلك، فسال عنه فقيل له إنه نائب الحكم عن
الشافعي، فقال: لعل هذا هو الذي كاتب فينا، فأمر بإحضاره فأهانه وضربه
تحت رجليه عصيات، ثم أراد أن يركبه حماراً ويطوف به فقيل له: إنه بريء
مما اتهمته به وإنه كان حين ورود الكتاب مقيماً بالقاهرة، فندم على ذلك
ولقيه في الطواف فاستحله؛ وكان المحب المذكور قد امتلأ غيظاً بما أصابه
بغير جرم وكظم، فما لبث إن حم واستمر موعوكاً إلى أن قدم الحج فتوجه مع
الركب المصري فمات باليبنع بعد أن رجع من زيارة المدينة النبوية - وقد
ذكرت ذلك في ترجمته فيما سيأتي، وختم له بخير ولعله مات شهيداً؛ ورأت
امرأة من أهل الصدق ليلة دفنه وهي مستيقظة على سطح كأن عمود نور أقبل
من نحو المدينة إلى أن غاب في قبر المذكور، فأيقظت زوجها وأخرى من
أقاربها، فشاهدوا ما شاهدت وأخبروا به،
(4/146)
وفيه ورد الخبر بأنه خرج على الحاج بعد أن
انفصلوا من المدينة ريح حارة وأعقبها سموم أضعفت الأبدان وأهلكت الجمال
ومات منها من بني آدم عدد كثير، منهم القاضي محب الدين محمد بن أبي
الحسن البكري نائب الحكم، وكان عارفاً بالأحكام متثبتاً في القضايا،
وقوراً عاقلاً، كثير الاحتمال، مشاركاً في الفقه ولم يشتغل في غيره وقد
درس في المدرسة الخروبية بشاطئ النيل نحواً من عشر سنين، وكان قد توجه
إلى الحجاز في الرجبية فجاور ثم رجع، وذكر لي من أثق به من أنه كان
كثير الطواف وأنه واظب على خمسين أسبوعاً في كل يوم، وهو من قدماء
معارفنا وأهل الاختصاص بنا - فالله يعظم أجرنا فيه ويبدلنا به خير منه
وقد غبطته بما اتفق له من حسن الخاتمة بالحج والمجاورة وزيارة الحضرة
الشريفة النبوية والموت عقب ذلك في الغربة، وكانت وفاته بالينبع وصلى
عليه هناك ودفن به، وقد جاوز السبعين بسنتين.
شهر ذي الحجة الحرام اختتام السنة أوله الثلاثاء بالرؤية - يوم
الثلاثاء مستهل ذي الحجة بالرؤية، فيه استقر نور الدين علي بن أحمد ابن
آقبرس في نظر الأوقاف عوضاً عن تقي الدين بن عبد الرحمن - ابن تاج
الدين عد الوهاب ابن ناصر الدين - بن نصر الله ابن أخي الصاحب بدر
الدين - وكان تقي الدين استقر فيها بعد صلاح الدين ابن عمه، وكان عمه
الصاحب بدر الدين إذ ذاك موعوكاً فبلغه ذلك فشق عليه وشغله الضعف، ثم
توجه للعافية واستمر نور الدين في الوظيفة.
وفي الثامن من ذي الحجة ورد الخبر بموت أقبغا التركماني في محبسه بسجن
الكرك، وكان أحد الأمراء الكبار في الدولة الأشرفية، وولي النظر على
الخانقاه الناصرية بسرياقوس؛ فذكر بعض الكبراء إن السلطان أمر كاتب
السر أن يكتب إلى نائب الكرك بأن
(4/147)
يطلقه، ويشترط عليه أنه لا يعود إلى شرب
المسكر وأنه متى عاد نفي إلى قبرس؛ فشرع كاتب السر في كتابة السر بذلك،
فوصل الخبر بموته قبل أن يفرغ الكتاب.
وفي يوم الثلاثاء التاسع والعشرين منه وصل المبشر بسلامة الحاج ومعه من
الأخبار أن الوقفة كانت بمكة يوم الأربعاء، وأن السعر في الأقوات كان
ارتفع فكان الحمل من الدقيق بخمسة عشر شخصاً والإردب من الشعير بتسعة،
وكان الجمع كثيراً جداً، ولم يدخل مكة من واصل الهدايا إلا القليل،
وكان الأرز والشاشات في غاية - رخص بخلاف ما عدا ذلك من اللبان ونحوه،
وأن الركب الأول وصل مكة - في السابع والعرين من ذي القعدة.
وفي هذه السنة ثار توران شاه بهمس بن توران شاه على أخيه سيف الدين
صاحب هرمز وما معها فانتزع منه المملكة، ففر سيف الدين إلى شاه رخ ابن
اللنك - ملك الشرق مستغيثاً به فأمده بعسكر فسار إلى فرغان فنازلها،
فسار إليه أخوه فتحاربا إلى إن تصالحا على أن يكون ملك القلعة لسيف
الدين هي وما حولها وافترقا.
ذكر من مات
في سنة ثلاث وأربعين وثمانمائة من الأعيان
أحمد الدميري أحد نواب الحكم شهاب الدين كان فاضلاً يستحضر كثيراً من
المسائل الفقهية، وناب في الحكم في بعض النواحي وبالقاهرة، ومرض مدة
طويلة بوجع الظهر ثم بالإسهال، ومات في الحادي والعشرين من صفر، وأظنه
جاوز الستين.
احمد النفيائي - بكسر النون وسكون الفاء بعدها تحتانية مثناة - نسبة
إلى بلدة بالوجه البحري ويعرف بال لثاني - الشيخ شهاب الدين، كان من
مشاهير الطلبة عند
(4/148)
قدماء المشايخ، ثم نزل في فقاهة المؤيدية
وتكسب بالشهادة مدة إلى أن مات.
آقبغا التمرازي، نائب الشام - تقدم في الحوادث.
آقبغا التركماني، كذلك وأنه مات في محبسه بالكرك -.
أبو بكر الحلبي، نزيل بيت المقدس الشيخ أبو بكر، تلمذ للشيخ عبد الله
البسطامي، وكان له اشتغال بالفقه والحديث، ثم أقبل على العبادة وجاور
بيت المقدس، وكف بصره بأخرة.
سودون دويدار اركماس الظاهري - الدويدار الكبير، كان غشوماً عارفاً
بأفانين الظلم، صرف عن وظيفته قبل موت الأشرف، وأصيب برمد أفسد عينه،
ولما قبض على أستاذه خدم في المماليك السلطانية، وكان بصدد أن تقدم
ففجئه الموت، وأحاط ناظر الخاص على موجوده وهو شيء كثير، مات في ذي
القعدة.
عبد اللطيف بن محمد بن الأمانة تقي الدين بن القاضي بدر الدين، درس في
الحديث بالمنصورية، وفي الفقه بالمدرسة الكهارية مكان أبيه أياماً،
ومات وهو شاب في يوم الأحد ثامن عشري ذي القعدة وكان مشكور السيرة على
صغر سنه.
(4/149)
علي بن محمد الطائي خطيب الناصرية القاضي
علاء الدين، كان مولده في سنة 744، وسمع من أحمد بن عبد العزيز بن
المرحل وهو أقدم شيخ له ومن عمر بن ايدغمش خاتمة أصحاب إبراهيم بن
خليل.. ومات في الحادي عشر من شوال.
قطج الأمير، مات في العشر الأوسط من رمضان، وكان قد ولي إمرة بعض
البلاد الشامية، وحضر إلى القاهرة مصروفاً فأقام دون الشهر.
محمد بن أحمد تاج الدين الأنصاري التفهيني سبط القاضي مجد الدين الحنفي
البلبيسي، أحد نواب الحكم الشافعي، مات يوم الأحد تاسع عشري المحرم بعد
أن مرض مرضاً طويلاً، ولم يجاوز الستين.
محمد بن أبي الحسن القاضي محب الدين البكري - تقدم ذكره في الحوادث.
محمد بن عبد الله الشيخ جمال الدين الكازروني، المدني جاء الخبر بوفاته
وقد انتهت إليه رياسة العلم بالمدينة النبوية ولم يبق هناك من يقاربه،
وكان ولي قضاء المدينة والخطابة من مدة ثم صرف، ودخل القاهرة مراراً
ومولده في سنة.. نقلته من خطه.
(4/150)
محمد بن يحيى بن علي بن محمد بن أبي زكريا
المقرئ الشيخ شمس الدين الصالحي صالحية مصر بالشرقية - هكذا كنت أظن،
ثم ذكر لي أخوه شهاب الدين أحمد أنهم ينسبون إلى قرية يقال لها منية أم
صالح بناحية مليح من الغربية وإلى حارة الصالحية بالبرقية داخل
القاهرة، ولد قبل الستين، عني بالقراآت فأتقن السبع - على جماعة، وذكر
لي أنه رحل إلى دمشق وقرأ على ابن اللبان، وطعن في ذلك بأن سنه تصغر عن
ذلك، كما تقدم في تقييد وفاة ابن اللبان، واشتغل بالفقه وتولى تدريس
الفقه بالظاهرية البرقوقية عوضاً عن الشيخ أوحد الدين - بحكم نزوله له
عند بمبلغ كثير من الذهب، وكان اتصل بالأمير قطلوبغا الكركي فقرره
إماماً بالقصر، واشتهر في ذلك مدة وناب بجاهه في الحكم أحياناً وأم
قطلوبغا المذكور، ثم ولي شيخ القراآت بالمدرسة المؤيدية لما فتحت، وما
علمته تزوج وكان مولعاً بالمطالب، ينفق ما يتحصل له فيها مع التقتير
على نفسه، وكف بصره في أواخر عمره واختل ذهنه - عفا الله عنه واستقر في
تدريس الظاهرية شهاب الدين أحمد الكوراني بعناية كاتب السر، وعمل له
إجلاساً حضرناه، وخلع عليه جنده مستحسنة، وكان المستنزل لأخيه شهاب
الدين عن وظائفه وأمضى ذلك النظار، وباشرها في حياته ثم نوزع في
المؤيدية، وعقد له مجلس بسبب أن شرط الواقف إذا وقع نزول أن لا يقرر
النازل ولا المنزول له.
محمد الدجوي ناصر الدين الموقع، ناب في الحكم قليلاً ووقع عند بعض
الأمراء؛ ومات في شهر رجب وأظنه بلغ الخمسين.
(4/151)
سنة أربع وأربعين
وثمانمائة
استهلت يوم الخميس موافقاً للثامن من بونة من شهور القبط.
وفي يوم السبت الثالث منه قبض على الأستادار ناصر الدين محمد ابن أبي
الفرج وحبس بالبرج، ثم تسلمه الوزير بعد أيام على مال صودر عليه،
واستقر في وظيفته مملوك يقال له طوغان، وخلع عليه وباشر.
وفي يوم الاثنين الثاني عشر منه ووافق التاسع عشر من بونة وهو أول يوم
من فصل الصيف، وكان الهواء بارداً وقت السحر واستمر إلى إن تعالى
النهار بحيث وجد من البرد كأيام أوائل الربيع، فلما قرب الظهر اشتد
الحر جداً كما في كل يوم.
وخلع على القاضي سراج الدين عمر بن موسى الحمصي، واستقر في قضاء الشام
على عادته بعد أن سعى السعي الحثيث وأجيب بالمنع مراراً، فلم يزل يتلطف
لي أن أجيب، وتوجه في اليوم العشرين من المحرم.
وكذا أعيد قاضي صفد علاء الدين بن حامد وصرف الزهري وتوجه في هذا
الشهر، وفيه - قبض على ابن القف ناظر الجيش بصفد لشكوى نائب صفد منه،
وأخبر قائس النيل في اليوم الخامس والعشرين من بونة وهو الثامن عشر من
المحرم إن النيل بلغ في القياس إلى ستة أذرع وأربعة أصابع، ونودي عليه
في العشرين منه بثلاثة اصابع، واستمرت الزيادة.
وفي يوم الثلاثاء سابع عشري المحرم رفع إلى السلطان أن رجلاً مات وأوصى
إلى رجل فضم القاضي الشافعي إليه آخر وأن التركة وقع فيها تفريط،
فطلبهما وطلب نائب
(4/152)
الحكم الذي اثبت أهلية الآخر وحبسهما
بالقلعة، ثم سأل الوصي فذكر في القصة أموراً تغير السلطان منها لظنه
صدق الوصي والواقع أنه مشهور بالكذب والبهتان، وقد امتلأ غيظاً فضم
الآخر معه حتى أنه لم يتمكن مما كان يروم أن يفعله فنسب إلى المذكور
أموراً معضلة، فظن السلطان أن ذلك بعلم القاضي فتغيظ على القاضي وأرسل
إليه أن لا يخطب به يوم الجمعة، وعين شخصاً من نواب الحكم يقال له
برهان الدين ابن الميلق، فخطب به يوم الجمعة أول صفر، وطلب من يفوض
إليه الحكم فذكر له جماعة، فاختار القاضي شمس الدين الونائي الذي كان
ولي قضاء الشام وانفصل منه في شوال وحج وعاد إلى القاهرة فدخلها في يوم
الجمعة ثالث عشري المحرم - ثم كان ما سنذكره.
شهر صفر الأغر - أوله الجمعة، ذكرنا أن ابن الميلق خطب وذكروه فيمن
تولى القضاء وبلغ ذلك صالح - ابن البلقيني فضاق صدره وعيل صبره واشتد
سعيه، فلم يجب لشيء وتعين الونائي وفصلت خلعته يوم السبت، ثم في أثناء
يوم السبت طلب السلطان شهود التركة وفوض لنائب القلعة أن يباشر
المحاسبة بين الوصي ورفيقه بحضرة الشهود وبحضرة شخص يقال له جمال الدين
عبد الله الحلبي التاجر، وكان هو الذي وصل الوصي حتى ذكر للسلطان ما
ذكر، وكررت المحاسبة ووقعت المحاققة والمشاححة إلى أن ظهر لنائب الغيبة
دغل الوصي وتزيده في القول وافتراءه ما كان افترى، فدخل بالمحاسبة إلى
السلطان وظهرت براءة القاضي والذي أقامه، وذلك وقت أذان المغرب؛ فلما
كان صبيحة الأحد أمر بإطلاق نائب الحكم والذي أقامه القاضي، واتفق أن
كلمه ولده الأمير ناصر الدين محمد فيما يتعلق بالقاضي وجبر خاطره فيما
وقع فيه من الافتراء، فأذن له فبطل أمر - الونائي، وفصلت للقاضي جبة
سمور ولبسها صبيحة الاثنين وكان يوماً مشهوداً.
وفي أوائله وصل عبد الباسط إلى القدس سالماً، وكان أرجف بأنه اصيب جميع
من
(4/153)
معه ولم يسلم غيره، ثم ظهر أنه لم يكن لذلك
صحة، ووصلت هديته إلى السلطان بعد أيام فيها مائة - شاش وأشياء كثيرة
من تحف الهند واليمن والحبشة -، فقبلها وخلع على قاصده.
وفي يوم الأربعاء السابع والعشرين منه وهو الموافق - للرابع من مسري
أوفى النيل ستة عشر ذراعاً وإصبعين، وكسر الخليج في صبيحة يوم الخميس،
وباشر ذلك الأمير ناصر الدين محمد ولد السلطان، وصحبته حاجب الحجاب
وجمع يسير، وكان يوماً مشهوداً، وكانت الزيادة في هذه السنة من
العجائب، فإنه ابتدئ في العشرين من المحرم فكان يزيد قليلاً قليلاً إلى
يوم السبت السادس عشر من صفر، فزاد ثمانية ثم زاد اثني عشر إصبعاً، ثم
زاد في خمسة أيام ثمانين إصبعاً، في يوم ثلاثين، وفي يوم عشرين، وفي
ثلاثة أيام كل يوم عشرة، وفي يوم سبعة عشر أيضاً، فنودي خمسة يوم
الوفاء خمسة عشر تعليق الستة عشر وإصبعين فوقها.
وفيها كائنة إبراهيم ابن خطيب القدس وقاضيه جمال الدين بن جماعة، رفع
فيه إلى السلطان أنه زور عليه مرسوماً بمرتب، فأحضر إلى القدس وصرف
أبوه عن القضاء وحوقق على ذلك -، وجرى لصهره قاضي الحنفية ابن الديري
من البؤس وتغير الخاطر ما لا يعبر عنه، وبالغ السلطان في الإنكار على
كاتب السر بسبب ذلك.
وفي الأربعاء تاسعه عقد مجلس بالصالحية بسبب شخص قرمي اسمه علي ابن أخي
قطلو خجا، حضره القضاة الثلاثة وغاب الحنبلي لضعفه، وكان المذكور رفع
أمره إلى السلطان أنه وقع في حق نبينا صلى الله عليه وسلم بكلام فاحش،
وأن بعض العوام أنكر عليه فكثر اللغط، فخلصه منهم شهاب الدين ابن عبيد
الله الحنفي نائب الحكم، فأنكر السلطان عليه ذلك في يوم الأحد أول يوم
ن الشهر عند التهنئة، فاعتذر بأنه خشي عليه من العوام أن يقتلوه، فأكد
السلطان عليه في تحصيله، ثم اتفق أن بعض الحجاب
(4/154)
قبض عليه وهو ذاهب إلى جهة الشام، فرده من
الخانقاه السرياقوسية فأحضر عند السلطان فأمر بعقد مجلس بالقضاة
الأربعة، فشهد ثلاثة عند ابن عبيد الله المذكور عليه بما يقتضي
الاستهتار بالدين والتنقيص للرسول، وشهد أحدهم أنه قال عند كثرة صلاة
المصلين على النبي صلى الله عليه وسلم أول النهار: فلان معرض، وشهد آخر
أنه سمعه يقول لمن صلى.. بأمنا - يقول: تصلوا ومحمدكم نبيكم - كذا
وكذا، وذكر لفظة بالتركي فاحشة، وشهد آخر أنه سمعه يخاطب جماعة من
المسلمين بما نصه: يا خنازير كل دينكم باطل، ثم حضر القضاة عند السلطان
بسببها، عادوا له ما جرى، فأمر الحنفي أن يتعاطى الحكم في ذلك بنفسه
بعد أن أحضر جلساء السلطان النقل من عدة كتب للحنفية أن توبة الزنديق
لا تقبل، فطلب القاضي تكثير الشهود، وكان القاضي - قد بلغه أن الذين
يشهدون عليه بنحو ذلك كثير، فتوجه إلى منزله وأحضر المذكور فادعى عليه
أن له مدة طويلة يمر بالشوارع ويصرح بسب النبي صلى الله عليه وسلم
وبالسب في الصحابة وينظر إلى السماء ويتكلم بكلمات تؤدي إلى الزندقة،
فأنكر فشهد عليه شاهدان أنه قال لفظاً بالتركي يقتضي سب البارئ سبحانه
السب الفاحش، وزاد أحدهما أنه سب أبا بكر، وشهد آخر أنه قيل له: ترض عن
أبي بكر، فقال: أبو بكر سكم ومحمدكم، وشهد آخر أنه سمعه مراراً يصرح
بسب أبي بكر ويقول عنه: كلب، وشهد آخر أنه طلب منه شيئاً فقال: ما معي
إلا أربعة أفلس، فقال: هاتهم فهم عندي خير ن أربعين نبياً أو أربعين
ألف نبي - شك الشاهد، وشهد آخر أنه سمعه يشير إلى الماسء ويقول بلفظ
غير عربي ما يقتضي السب الصريح، ثم أعيدت شهادة الذين شهدوا أمس، فاعذر
إلى المدعي عليه فقال: لا اعرف أحداً منهم ولابيني وبين أحد منهم
عداوة، ثم حضر شاهد آخر فشهد عليه أنه سمع منه لفظاً فاحشاً بغير
العربي مدلوله سب البارئ بما هو أشنع وأبشع مما تقدم؛ فعند ذلك أمر به
إلى السجن فسمعه شاهدان من الناس يتلو قوله تعالى: ربنا ظلمنا أنفسنا
وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن، نطق بها بالتاء المثناة المفتوحة بدل
النون، وحضر شاهد آخر في صبيحة يوم الأربعاء حادي عشره فشهد أنه مسعه
يسب البارئ وغالب
(4/155)
المسلمين سباً فاحشاً بغير اللسان العربي،
وانه يعرف اللغة التي نطق بها، ومدلول الألفاظ السب الفاحش؛ فسئل حينئذ
القاضي الحكم فيه فتأمل جميع ما قامت به البينة فرأى أنها لا تصدر من
صحيح الإيمان بل من غير متمسك بملة من الملل وأنه بذلك يستحق إراقة دمه
وعد قبول توبته، فأمر بإراقة دمه هدراً عالماً بالخلاف، فلما تكامل ذلك
أركبه جملاً وأمر أن يطوف به الشوارع التي كان يعلن فيها بما تقدم ذكر،
فلما وصل الرميلة أمر السلطان بضرب عنقه هناك فضربت.
وفي يوم الثلاثاء ثالث عشري شهر ربيع الآخر تأخر القاضي كمال الدين
كاتب السر عن الخدمة بسبب تغيظ السلطان عليه في يوم الاثنين من أجل
امرأة تظلمت من وقف عليها بدمشق استبدل في غيبتها، ثم حضرت إلى دمشق
بعد مدة طويلة فرفعت الأمر لأحد نواب الحكم فحكم لها باسترجاعه، فأمر
السلطان كاتب السر أن يكتب لها بتسليم الوقف، فتأمل ما بيدها فوجده لا
نيفذ تسليهما ذلك فتباطأ في كتابة المرسوم، فلما سأله عن سبب البطوء
قال: ليس معها حق، فغضب عليه وانزعج عليه، فنزل داره - وراسل يستعفي،
ثم في يوم الأربعاء خلع عليه جبة وركب معه جماعة واستمر، وكان ذلك يوم
الأربعاء رابع عشري شهر ربيع الأول سنة 844، فاجتمع فيه خمس أربعا آت
والثمانمائة يشتمل على أربع مائتين وهي آخر أربعاء في الشهر؛ وإنما
ذكرت ذلك لما فيه من الرد على من يتعانى التشاؤم.
شهر ربيع الآخر - أوله الثلاثاء، في يوم الاثنين السابع منه أعيد
القاضي بدر الدين العينتابي إلى وظيفيته الحسبة عوضاً عن الأمير تنم
وركب في جمع كثير، فأظهر العوام الفرح به، ونودي من جهته بإبطال ما
أحدث على الباعة من الجمع وغيرها، فكثر الدعاء له.
(4/156)
وفي يوم السبت سادس عشرين وصل رسول ملك
الشرق شاه رخ ابن اللنك، وكان الخبر بوصوله وصل قبل ذلك، وأنزل في بيت
جمال الدين الأستادار بين القصرين، وزينب البلد لذلك زينة عامة في جميع
الحارات، وبالغوا في ذلك أعظم من زينة المحمل، ثم أحضر الرسول يوم
الاثنين وقرئ الكتاب الواصل صحبته بالقصر الكبير بمحضر من الامراء
والقضاة والمباشرين، ومحصله الجواب عن الكتاب الواصل إليه والسرور به
وقبول الهدية وتجهيز هدية صحبة الرسول المذكور، وعرضت في القصر على
رؤوس أربعين من الحمالين في الأقفاص، ثم أمرهم السلطان بعد ذلك برفع
الزينة بعد أن كان أشيع أنها تقيم شهراً وأكثر، والسبب في رفعها ما
اشتهر من المفاسد التي تقع في الحوانيت وغيرها في الليل.
وفي هذا الشهر نازل إينال الحسني الذي كان أمير المدينة ومعه جمع كثير
من العربان المدينة، فخرج إليه أميرها سليمان ومعه جمع قليل، فحصل
النصر للفئة القليلة، وقيل: كان قصد إينال نهب المدينة فخذل وانهزم
ورجع سليمان منصوراً.
شهر جمادى الأولى - أوله الثلاثاء بالرؤية، ووافق الشهر القبطي بابة.
وفي الثامن منه مات ولد الرسول الذي مات أبوه - بغزة وكانت له جنازة
حافلة حضرها كبار الأمراء والمباشرين.
وفي ليلة الجمعة قرئت عند قبره ختمة واحتفل السلطان بسبب ذلك، ثم حضر
الرسول الذي بقي، وعمل له ضيافة حافلة وخلع عليه خلعة هائلة، وذلك في
الثاني عشر، وأمر الأمراء أن يضيفوه كل يوم واحداً بعد واحد، فبدأ
الأمير الكبير ثم ولد السلطان.
(4/157)
وفي يوم الثلاثاء الثاني والعشرين منه قدم
المجاهدون من بحر الفرنج وكانوا أرسلوا على رودس وراسلوا صاحبها بكتاب
من السلطان، فجاءهم من أنذرهم أن الفرنج أرادوا أن يبيتوهم، فخرجوا من
الساحل فأحاطوا بهم فقاتلوهم إلى الليل، فهبت ريح شديدة ومطر فأفرجت
لهم، فساروا كما هم إلى أن مروا على بعض سواحل البلد فرأوا في طرفها
معصرة قصب سكر، فنزلوا عليها، فنهبوا ما فيها وأسروا من وجدوه من
المزارعين وغيرهم، ورضوا بهذه الغنيمة التافهة، ونجوا بأنفسهم بعد أن
قتل منهم نحو الأربعين وجرح جماعة، ولم يظفروا بما خرجوا بسببه - ولله
الإرادة يفعل ما يشاء وينصر من يشاء.
وفي هذا الشهر بطوله كان الحر مستمراً، ووافق شهر بابة من أشهر القبط،
ولم يعهد ذلك حتى كان الحر فيه اشد مما كان في الذي قبله وهو - توت،
وثبت النيل ثباتاً عظيماً، فلم ينقص في طول هذا الشهر سوى نحو الذراع
ثم اخذ في النقص، واستمر الحر في هاتور، فلم يكن فيه من أوله إلى آخره
البرد المعهود إلا اليسير. وأواخره دخل كيهك يوم الأحد ثاني رجب والأمر
على حاله إلا أنه في صبيحته وقع برد وليس بالشديد وظهر الزرع، ثم وقع
البرد في أول يوم من فصل البرد وهو عند نزول الشمس القوس واستمر، ثم
تزايد هبوب الريح المريسية واشتد التأذي بها حتى وقع في أوائل طوبة
الذي يسمى الصقيع، فأفسد كثيراً من الزروع كالقصب والفول والبرسيم.
فلما كان في الرابع عشر من شعبان وهو الثالث عشر من طوبة وقع مطر رقيق
من طلوع الفجر إلى آخر النهار فوقع الزلق والوحل.
جمادى الآخرة - أوله الجمعة، في أوله شرع النيل في النقص، وشرع الناس
في الزرع.
وفي الثاني منه أحضر شهاب الدين أحمد بن يوسف الكوراني مجلس السلطان
بحضرة القاضي الحنفي والمحتسب، فعزز بالضرب تحت رجليه بعد أن كان
السلطان أمر أن
(4/158)
يضرب عرياناً فشفع فيه الحنفي فضرب خمسة
وسبعين عصاً، وأمر بنفيه فأخرج في الحال إلى التربة، وكان السبب في ذلك
أن شخصاً يقال له حميد الدين ابن تاج الدين الفرغناني قدم من دمشق يطلب
وظيفة بدمشق، فكتب له السلطان بها فتوجه إلى دمشق، فوقف في طريقه
القاضي الحنفي وهو شمس الدين الصفدي فرجع ساخطاً، فذكر للسلطان أن
الحنفي وقع في حق أمهات المؤمنين وقص قصة شنيعة فبدر الكوراني بالإنكار
عليه، وهذا الكوراني كان قدم علينا من نحو عشر سنين طالب علم وهو في
غاية القلة، فقرأ علي البخاري ودار على بعض الشيوخ، وتردد إلى كاتب
السر البارزي فاتفق حضور كتاب من بلاد العجم فاستقرأه إياه، فأجاد في
تعريبه فقربه إلى السلطان فقرر له راتباً، وترقى بعد ذلك إلى أن صار في
هذه الدولة عيناً لكاتب السر عند السلطان، فصار يجالس السلطان في كل
يوم - من أول النهار إلى قرب الظهر لا ينقطع، وعظم قدره في أعين الناس
على العادة بالوهم وثقل في نفس الأمر على السلطان وهو مطبوع على
الاحتمال.
فلما أنكر على حميد الدين اتفق حضورهما عند كاتب السر فتقاولا في ذلك
فقال له حميد الدين: أنت حمار ما تفهم فأجابه بان الحمار أنت وأبوك
وأجدادك وأسلافك وكان في المجلس جماعة، منهم بدر الدين محمود بن عبيد
الله، وكان قد سعى في قضاء دمشق عقب إينال الجكمي، وغضب السلطان على
القضاة الذين وافقوه على الخلاف، ومنهم الصفدي فعزل الشافعي لذلك وولي
بهاء الدين ابن حجي، فطمع ابن عبيد الله أن يعزل الصفدي فسعى في ذلك
فتوقفوا في قضيته، وبالغ فيها الكوراني المذكور، فبادر حميد الدين
بالشكوى إلى السلطان واستشهد بابن عبيد الله، فشهد له - بأن الكوراني
قال له، ولم يذكر ما بدا به حميد الدين.
وكان تاج الدين والد هذا يدعى أنه من ذرية الإمام أبي حنيفة وأملى
لنفسه نسباً إلى يوسف بن أبي حنيفة، يعرف من له أدنى ممارسة بالأخبار
تلفقه، فكتبه عنه الشيخ تقي الدين المقريزي، فطلب السلطان شاهداً آخر
فأحضروا آخر فلم يشهد بشيء
(4/159)
فسكنت القضية، وصعد الكوراني على عادته
فبالغ في التنصل، فدار حميد الدين على أعيان الحنفية فقال لهم: هذا
الرجل قد سب أبا حنيفة لأنه من أسلافي وهو يعرف أنني من ذريته، وكان
مرة استأذن له على السلطان فقال له: إن ابن أبي حنيفة بالباب - إلى غير
ذلك، فتعصبوا له ودار معه ابن عبيد الله، فدبروا أمرهم إلى أن ظهر لهم
أن يكيدوه بقاصد ملك الشرق فاجتمعوا به، فوجدوا فقهيه في غاية الحنق من
الكوراني، لأنه كان اجتمع به أول ما قدموا فحصلت له منه إساءة ثم لما
أضافهم السلطان عنده بدت من الكوراني في حقه إساءة أخرى، فانتصف هو منه
بحضرة السلطان إدلالاً عليه لكونه في ضيافته، وما استطاع الكوراني
بنتصف فانضاف حقد هذا الفقيه على الكوراني إلى ما عنده من شدة العصبية
للحنفية، فطلع إلى السلطان فشنع على الكوراني، وكان فيما قال إن الخبر
إذا وصل إلى ملك الشرق مع شدة اعتقاده في أبي حنيفة يتغير خاطره
وينسبكم إلى التعصب على الإمام، فحرك عنده ساكناً كامناً فأمر بطلبه في
الحال وأمر بسجنه في البرج، وأرسل إلى القضاة أن يعقدوا له مجلساً،
فاجتمعوا في صبيحة الثلاثاء الثامن والعشرين من جمادى الاولى، فآل
الأمر إلى أن وقعت الدعوى عليه عند القاضي الحنفي، فأمر بنزوله معه إلى
منزله فانزل ماشياً، فشهد عليه ابن عبيد الله وانضاف إليه بدر الدين
محمد ابن حسن التنسي وهو من الشهود بالقاهرة، وهو ابن أخت القاضي - بدر
الدين بن الأمانة، وهو مشهور بالتجوز في شهادة الزور، ولكن كان كاتب
السر قربه وأدناه وسافر به معه إلى دمشق، فحصل به مقاصد كثيرة وتمول هو
بجاه كاتب السر وعاد -، فكانت له في بابه حركات كثيرة، والناس منه في
حنق شديد القضاة ومن دونهم، فاتفق أنه كان عنده من الكوراني كمين فذهب
وشهد عليه، فأرسل كاتب السر يعلم الحنفي أن القضاة لا تقبل التنسي،
فاتفق حضور بعض الأطباء وهو ابن أخت شمس الدين ابن عفيف الذي قتله
الاشرف في أواخر عمره فذكر أنه كان دخل لكاتب السر في ضرورة فسمع
الكائنة فشهد بها، فاجتمعوا يوم السبت المذكور وكان ما كان.
وفيه قدم نائب الشام جلبان وقدم تقدمة كبيرة مع ثمانين جمالاً.
وخلع عليه مراراً، وأعيد إلى بلده على وظيفته، فسار قبله بأيام قاضي
الشام الحنفي مطلوباً بسبب ما نقل عنه
(4/160)
حميد الدين المذكور في كائنة الكوراني،
فإنه نقل عنه أنه سئل عن الحكمة في طواف النبي صلى الله عليه وسلم على
النساء في ليلة واحدة، فأجاب بأنه فعل ذلك ليعفهن عن الزنا، فاستبشع
هذا اللفظ وغضب السلطان وأمر بإحضاره، فوصل إليه البريدي فأغرمه مائتي
دينار وتكلف شيئاً آخر حتى وصل وشفع له نائب الشام وجماعة أن يسلم على
السلطان وكان أمر أن يكتب إلى الشام بكتابة الواقعة وأن كل من سمعها
يكتب خطه بما سمع، فامتنع السلطان من الإذن له وصمم على أنه لا يأذن له
إلا إذا عاد الجواب وظهرت براءة ساحته.
رجب الفرد الحرام - أوله السبت، في التاسع عشر منه عقد مجلس بحضرة
السلطان وادعى حميد الدين النعماني على القاضي شمس الدين الصفدي محمد
بن علي بن عمر قاضي الحنفية بدمشق أنه قال في مجلس من المجالس أنا ما
اتقيد بمذهب أبي حنيفة بل أحكم تارة بمذهب الشافعي وتارة بمذهب مالك
وتارة بمذهب أحمد، وأن علماء مذهبه أفتوا بأن هذا تلاعب وأن الحكم بذلك
لا يصح، فأجاب بأنني ما أردت إلا أنني أتبع مقالة أبي يوسف تارة ومقالة
محمد تارة وغيرهما من علماء المذهب؛ فقال المدعي: هذا الجواب لا يطابق
الدعوى وانتصرت للصفدي وقلت له -: بل يطابق إذا أراد أن الرواية التي
عن أبي يوسف توافق مذهب الشافعي مثلاً والرواية عن محمد توافق مذهب
مالك مثلاً، فلا يلزم من ذلك أنه يخرج عن مذهب الحنفية، والقاضي الذي
يوليه السلطان في هذه الأزمان على قاعدة ن تقدمه ومن تقدم كانوا منهم
العالم المتأهل للترجيح وهذه طريقته وغيره المقلد الصرف، والصفدي
المذكور من أهل العلم فلا ينكر عليه أن يعمل بما رجح عنده، وكثر اللغط
إلى أن قال السلطان على طريق التنزل: لو ثبت عليه شيء ما كان يجب عليه
أكثر من التعزير وقد عزز بإحضاره من دمشق إلى هنا؛ وانفصل المجلس على
ذلك.
وفي العشر الوسط صرح السلطان بعزل الحمصي عن قضاء دمشق وعين الونائي،
(4/161)
فتوقف وذكر أنه شرع في تدريس كتاب وسأل
المهلة إلى أن يختمه في آخر رمضان فاجيب، ثم طلب إعادة ما خرج من وظائف
القاضي الشافعي فأجيب، ثم استشعر بان ذلك لا يتم فاستعفى وأقام، وأدير
المحمل في الثالث عشر من الشهر وكان حافلاً. وأبطل النفط الذي كان يعمل
بالرميلة.
شهر - رمضان المعظم قدره وحرمته - أوله الثلاثاء يرؤية عدد قليل ثم كثر
من يقول إنه رآه.
شوال المبارك - أوله الخميس، في الرابع عشر منه توجه القاضي الشافعي
ونائب القلعة وهو تغري برمش الفقيه إلى الدير الذي نبه عليه في حوادث
شعبان في ترجمة جوهر وهو بساتين الوزير لما رفعت إلى السلطان قصة بأنه
أحدث فيه أبنية مشيدة فأمرهما بكشفه وعمل ما يقتضيه حكم الشرع، فتوجها
في طائفة من الناس فإذا فيه جماعة من الجيوش، ووجدوا النصارى قد بالغوا
في تحصينه، وجددوا أمام الباب حوشاً كبيراً دوره بذراع العمل من ثلاث
جوانب نحو الستين ذراعاً بالحجر الأبيض، واعتلوا بأن اللصوص قد تهجم
عليه، فظهرت معذرتهم في التشييد لا في المحدث، فأمروا بإزالته وإبقاء
الترميم؛ وذكر بعض - من جاورهم أن جاههم انخفض بموت الخازندار وأن
قريبه بعد وفاته تسحب، فلما كان يوم الثلاثاء سابع عشر الشهر المذكور
توجه نائب الشافعي ونائب القلعة بأمر السلطان فهدم الحوش المذكور
بحضرتهم، فحضر جمع من أهل تلك القرية وأخبروا أن الجدار المستطيل
المسامت لكنيسة كان للبستان المجاور للكنيسة، وأن البستان لما خرب
وسقطت جدرانه وقلعت اشجاره بقي أثر الجدار المذكور، فادعى النصارى أنه
كان جدار الحوش يتعلق بالكنيسة وأقاموا من شهد بذلك، فأذن نائب الحنفي
في إعادته بنقضه،
(4/162)
فجددوه كما تقدم، فظهر أن لا استحقاق لهم
فهدم، وحصل لأهل تلك الناحية سرور كثير بذلك، فإن من كانوا فيه من
الجيوش كانوا يستطيلون على من فيه وعلى من يمر بهم، فانخفضت دولتهم
وانحطت رتبتهم - ولله الحمد.
وفي ذي القعدة قدم نائب حلب ولاقاه السلطان بالمطعم وخلع عليه، ثم قدم
هدية هائلة وقدم كاتب السر بها وكان قدم صحبته تقدمته أيضاً.
وفي آخر ذي الحجة الحرام - طرق جمع من الفرنج في عدة مراكب ساحل
الطينة، فاخذوا مركبين للتجار بما فيهما وأسروا من فيهما، ثم طوقوا
الساحل فأحرقوا ما فيه من المراكب ونهبوا ما قدروا عليه.
ذكر من مات
في سنة أربع وأربعين وثمانمائة من الأعيان
أحمد بن إسماعيل قطب الدين القلقشندي، مات في الثامن من ذي الحجة، وكان
أكبر من بقي من شهود المودع الحكمي، سمع الحديث من.. واشتغل.. وكان حسن
الكتابة متقن المباشرة، وفيه شهامة، وأنجب عدة أولاد منهم ولده علاء
الدين وهو أمثلهم طريقة، قارب الثمانين.
أحمد بن أبي بكر بن رسلان بن نصير بن صالح، البلقينين، المعروف
بالعجيمي، قاضي المحلة الكبرى بالغربية، شهاب الدين، مات في يوم
الثلاثاء رابع عشر جمادى الأولى عن أكثر من ثمانين سنة، ذكر لي ولده
أوحد الدين محمد انه ولد في سنة 67 فأكمل سبعاً وسبعين سنة
(4/163)
وهو ابن عم الشيخ سراج الدين، وآخر الإخوة
الخمسة، وأجلهم بهاء الدين أبو الفتح رسلان، ومات قبل هذا بأكثر من
أربعين سنة - واشتغل هذا في أول الأمر ثم تشاغل بنيابة الحكم فناب في
عدة قرى، ثم استقر في نيابة الحكم - بالمحلة - وتقدم في الحوادث ما جرى
له في أيام المؤيد، وعزل ابن عمه القاضي جلال الدين بسبب قيام الناس
عليه فعزل هو أيضاً، واستمر ثم عاد بعد ذلك وولي مراراً إلى أن مات.
أحمد بن عبيد الله الأردبيلي شهاب الدين - الحنفي أحد نواب الحكم، مات
في ليلة الأربعاء ثالث عشري رمضان، وكان مولده في صفر سنة إحدى وتسعين،
واشتغل قليلاً وتعلم بالتركي. وكان جميل الصورة فقربه كثير من الأمراء،
وتنقلت به الأحوال إلى أن ولي نيابة الحكم بالجاه مع قلة البضاعة في
الفقه والمصطلح، وحفظت عليه عدة أحكام كثيرة فاسدة، وكان مع ذلك يلازم
الجلوس بمسجد بظهر الخانقاه الشيخونية إلى أن مات بالإسهال الدموي
والقولنج والصرع.
أحمد بن عيسى القاضي شهاب الدين المعروف بابن عيسى الحنبلي، اشتغل
قليلاً، وتعاني الشهادة عند الأمراء وله شهادة في الأحباس، وكان ساكناً
وقوراً متعففاً، وناب في الحكم مدة، ومات في يوم الخميس الثالث
والعشرين من جمادى الأولى، وأظنه قارب السبعين.
أحمد بن نصر الله بن محمد بن عمر بن أحمد قاضي الحنابلة محب الدين أبو
يوسف التستري الأصل ثم البغدادي، نزيل القاهرة، ولد في السابع عشر من
شهر رجب سنة 765، وقرأ على أبيه وغيره، وأخذ عن الكرماني والسخاوي،
ورأيت إجازة الشيخ شمس الدين محمد بن يوسف ابن علي الكرماني له
واستدعاء سئل فيه أن يجيز له ولغيره، وقد وصفه بالفضيلة مع صغر السن
وتمثل فيه بقول الشاعر:
(4/164)
إن الهلال إذا رأيت نموه ... أيقنت أن
سيصير بدراً كاملاً
ولقبه شهاب الدين، وأجاز له إن يروي عنه شرح البخاري والكتب الخمسة
ومشيخة إجازة معينة، وذلك في جمادى الآخرة سنة 782، وسمع بدمشق من ابن
رجب وابن المحب، وبحلب من ابن المرحل، ثم رحل إلى القاهرة، وذلك سنة
ثمان وثمانين، فسمع بحلب ودمشق ثم قطن القاهرة، وقرر في درس الحنابلة
بالمدرسة الظاهرية البرقوقية أول ما فتحت بعد أن كان درس قبله فيها
لأهل الحديث الشيخ زاده العجمي، وكان يحفظ قطعة كبيرة من البخاري
ويسردها مع فنون كثيرة كان صاهر الاقصراي، وانجب ولده الشيخ محب الدين
إمام السلطان الآن، ولازم الشيخ محب الدين الشيخين سراج الدين ابن
الملقن وسراج الدين البلقيني، وسمع من عز الدين بن الكويك وغيره ولم
يمعن، والعجب أنه لم يلازم حافظ الدنيا في وقته شيخنا العراقي وهو
المشار إليه في علم الحديث مع دعواه أنه محدث، وكان بعد يدرس منظومة
الألفية، ثم ناب في الحكم مدة ثم وليه استقلالاً مرتين، الاولى بعد موت
علاء الدين الحموي وقد تقدم بيان ذلك في الحوادث مفصلا، وكانت وفاته
بعلة القولنج، وكان يعتريه أحياناً ويرتفع، وفي هذه العلة استمر أكثر
من ستين يوماً إلى أن مات بعد طلوع الفجر صبيحة يوم الأربعاء النصف من
جمادى الأولى، وقد أقام في الولاية الثانية ثلاث عشرة سنة، ومن
الاتفاقيات أنني كنت أنظر ليلة الأحد ثاني عشر جمادى الأولى في دمية
القصر للباخرزي فمررت في ترجمة المظفر بن علي أن له هذه الأبيات يرثي
بها:
(4/165)
بلاني الزمان ولا ذنب لي ... بلى إن بلواه
للأنبلي
وأعظم ما ساءني صرفه ... وفاة أبي يوسف الحنبلي
سراج العلوم ولكن خبا ... وثوب الجمال ولكن بلى
وقد التزم فيها النون ثم الباء قبل اللام فتعجبت من ذلك، ووقع في نفسي
أنه يموت بعد ثلاثة أيام بعدد الأبيات فكان كذلك، ومات بعد أن صلى
الصبح بالإيماء، فأكمل ثمانياً وسبعين سنة وعشرة أشهر إلا يومين واستقر
ولده يوسف بعده في تدريس المنصورية والأشرفية.
(4/166)
أبو بكر بن سليمان سبط ابن العجمي المعروف
بابن الاشقر شرف الدين، مات في يوم الأربعاء الثاني من رمضان، وكان
مولده بحلب سنة.. وتعاني صناعة التوقيع فمهر فيها، وقدم القاهرة سنة
سبع وثمانمائة فقرره جمال الدين الأستادار في توقيع الدست، فباشره إلى
أن مات، وكان تزوج ابنة أخيه شمس الدين، واستقر موقعاً - كبيراً عنده،
وحصل عدة جهات في طول المدة منها مشيخات بعدة خانكات وتداريس وأنظار،
وأنجب ولده معين الدين عبد اللطيف، وولي شرف الدين نيابة كتابة السر في
دولة الأشرف واستمر، ثم ولي كتابة السر بحلب في حياة الأشرف وبعده،
ووليها ولده المذكور، وكان شرف الدين حسن الملتقى، بشوش الوجه، كثير
السكون، قليل الشر والكلام، محبباً إلى اكثر الناس، وإنما قيل له أبن
العجمي لأن أمه بنت.. هي بنت..
جوهر القنقباي الطواشي الحبشي الخازندار الزمام بالباب السلطاني، وكان
من عبيد الأمير قنقباي الجركسي، ثم تنقلت به الاحوال بعده إلى أن خدم
عند علم الدين ابن الكويز
(4/167)
فسار عنده سيرة حسنة، لانه كان يحب أهل
القرآن ويدرس فيه ويقرب أهله ويتدين ويتعفف، فعظم قدره عند أستاذه بذلك
إلى أن مات، فلما أن مات خمل قليلاً ثم اتصل بالملك الأشرف بواسطة جوهر
اللالا الذي تقدم ذكر وفاته سنة 42، فاستخدمه في باب السلطان وقربه
منه، فأنس به لما فيه من العقل والسكون والتدبير، فلما مات في الزمام
قرر في الوظيفة خشقدم الذي كان خازندارا وقرر - في وظيفته جوهر
المذكور، فباشر في أول أمره مباشرة حسنة وتقرب من الناس جداً وتزاحموا
على بابه وصار يقضي حاجة من ينتمي إليه فاشتهر بذلك فهرعوا إليه، ثم
تقرب إلى السلطان بتحصيل الأموال من وجوه أكثرها لا تحل. فكان يقربه
ويتبرأ عند الناس من ذلك ويظهر الإنكار سراً، وهو السبب الأعظم في
إطلاق أموال التجار ورخص بضاعاتهم وغلبة الفرنج لهم، حتى صار التاجر
يغيب السنة فما فوقها بمصر - ويحضر - فلا يستطيع أن يبيع حملاً واحداً
من بضاعته ولا يجد من يشتريه ويستدين نفقته على نفسه وعياله وعنده ما
يساوي عشرة آلاف دينار، فبقوا على هذا البلاء بقية مدة الأشرف نحو
العشر سنين، ثم تمادى الحال على ذلك بعده، وأضيفت إليه بعد الاشرف
وظيفة الزمام، فإن جوهرا الزمام لما قبض عليه بسبب هرب العزيز قرر عوضه
فيروز الجركسي، فلما غضب السلطان عليه بسبب هرب العزيز قرر هذا في
وظيفة الزمام مضافة إلى الخازندارية، فجمع الوظيفتين ولكنه لم يتمكن
مما كان يفعله أيام الاشرف وصار في دولة الظاهر خائفاً يترقب ويتوقع
الإيقاع به ولكن زوج السلطان كانت اتصلت به بعد ابن الكويز، فلما سكنت
القلعة وعزل فيروز ساعدت جوهراً هذا ووصفت للسلطان سيرته، فقرره مع أنه
كان يعرف ما كان يعامل به الناس أيام الأشرف وهو أحد من كان ينكر سيرته
ومع ذلك أغضى عنه إلى أن حصل له في موضع مباله دمل فآلمه وحبس عنه
الإراقة، ثم فتح فتألم منه شديداً لكنه استراح بفتحه من الألم، ثم ربا
في موضع آخر فأقام بذلك نحو الشهرين واشتد به الأمر في العشر الأوسط من
رجب وارجف بموته، ثم كانت وفاته في ليلة الاثنين أول شعبان من اشهر
العرب - آخر يوم من كيهك من شهور القبط - وقد جاوز السبعين،
(4/168)
وأنشأ داراً بدرب الأتراك بالقرب من الجامع
الأزهر، وكان في آخر عمره أخذ أماكن عند باب السر من الجهة القبلية من
جامع الأزهر وعمرها مدرسة فلما قرب فراغها مات فدفن بها، ويقال إنه كان
له قريب من الجيوش فأسكنه في دير عند بساتين الوزير، فعمره وصار هو ومن
معه يتظاهرون بما لا يتظاهر به غيرهم بجاهه - والله أعلم بسريرته.
ومن عجائبه أن ولي الدين بن قاصم كان قد ولي قضاء دمياط في دولة الأشرف
بجاهه بعد موت ابن مكنون، فكان يستنيب فيها من يرتشي من المال الجزيل
ويقرر عليه كل شهر مقداراً جيداً فكان جوهر يطلع على ذلك لأنه صديقه،
فلما سافر ابن قاسم للمجاورة بمكة نزل عن قضاء دمياط للقاضي كمال الدين
البازري، فباشرها إلى أن خرج إلى قضاء دمشق، فسأل جوهر أن ينزل له عن
قضاء دمياط فنزل له - عن فجرى على عادة ابن قاسم، وانضاف إلى ذلك أنه
يستأجر من الأوقاف بالنزر اليسير بما يحصل منه في السنة أموالاً كثيرة،
ورأيته إذا عزل نائباً وقرر آخر يكتب بخطه الداعي جوهر الحنفي، وكذلك
إذا سئل في مرسوم أو كتاب بالوصية بأحد، وتوسع في تحصيل الإقطاعات
والإرصادات إلى أن قيل إنه وجد باسمه بعد موته نحو خمسين ما بين رزق
وإقطاع ومن المستأجرات وكان يستأجر القرية بخمسين ديناراً وهي تغل قدر
المائة أو أزيد، ويصرف أجرتها على حساب صرف الدينار بأحد عشر وربع درهم
وزناً وهو يساوي حينئذ أربعة عشر درهماً وربع درهم، ثم يبيع عليهم بذلك
عسلاً يقيمه عليهم بثلاثين درهما وهو يساوي عشرين ونحوها، فلا يتحصل
لهم من الجهة نحو العشرين - وقس على ذلك، ومن خالفه في شيء مما يرومه
لا يأمن على نفسه ولا ماله، وفي الأحيان يمتنع من صرف الأجرة أصلا
ويقول: إن كانت الأرض مصرية شرقت مع أنه كان ربما استأجرها مقيلاً
ومراحاً، وإن كانت شامية يقول - كانت محلاً راعاً كانت في تلك السنة أو
عند الأرض مطراً؛ ويواظب مع ذلك على الصلاة والتلاوة، ويقرب أهل
القرآن، ويتصدق في فقراء الحرمين بجمل من المال.
حسن بن عبد الله بن تقي القباني بدر الدين، كان مشهوراً بجده، مات في
خامس عشري شوال عن سن عالية تقرب من التسعين، وكان في بدايته اشتغل
وتعانى
(4/169)
القراآت فأتقن السبع، وصاهر الشيخ شمس
الدين ابن الصائغ على ابنته وهي خالة الشيخ تقي الدين المقريزي، وذكر
لنا الشيخ تقي الدين أنه كان شاباً وبدر الدين هذا رجل، وتعلم الوزن
بالقبان فاستمر، وكان خيراً كثير التأني، وكان يؤم بنا في رمضان
بالمنكوتمرية.
عبد الله بن سعد الدين بن التاج موسى القبطي أمين الدين، كان أبوه ولي
نظر الخاص في أيام الملك الظاهر برقوق مدة، وباشر هذا في غيبته
الوظيفة، وكان شاباً جميل الصورة وتولع بالأدب، ثم امتحن في أيام جمال
الدين الأستادار فسلك طريق المجون، وصار ينادم الأكابر من الأمراء
والمباشرين، وحصل بسبب ذلك أموالاً وكثرت مرتباته وجهاته وصار يكثر
الحج، ثم حصل له في رجليه بلغم إلى أن أقعد فصار يحمل على الأيدي، وكان
يتهم بمحبة العبيد السود وله في ذلك ماجريات وسخف كثير، وكان طلق الوجه
كثير البشاشة والنوادر؛ مات في الثاني من جمادى الآخرة، وعاش بضعاً
وستين سنة.
عبد الرحمن بن حسن بن سويد المصري وجيه الدين بن بدر الدين، أحد نواب
الحكم المالكية، وكان أبوه زوجه بنت القاضي فخر الدين القاياني وهو
صغير وتزوج أبو أختها، ثم مات القاياتي فاحتاط أبوه على تركته
(4/170)
بطريق الإيصاء والتحدث، وخلص لهم الدار
العظمى بشاطئ النيل، وكان هذا حسن الصورة، دخل مع والده اليمن وهو صغير
سنة ثمانمائة، ثم صار يسافر به معه ويقربه أكثر من أخيه الأكبر محمد
الذي تقدم ذكر موته، واشتغل هذا قليلاً وصار أنبه من أخيه مع بأو زائد
فيهما، ليس له سبب إلا دناءة أصل جدهما والد بدر الدين. وكان بدر الدين
في غاية التضاع لكنه حصل له مال طائل فصار إلى ولديه فعظمت أنفسهما
وانتسبا إلى كنانة، فقال لي بعض المصريين: لعل أصلهما من منية كنانة
بالقللوبية فإن أكثر أهلها نصارى، وكان القائل يعتمد على قول الشيخ شمس
الدين الغماري أنه رأى سويداً وهو بالعمامة الزرقاء يبيع الفراريج
والقفص على رأسه - والعلم عند الله! ورأس وجيه الدين بعد أبيه وصار
المشار إليه بمصر، ولازم يشبك الأعرج الامير الكبير في دولة الأشرف
فكان يتقوى به في أموره، ثم لازم جوهر الخازندار الأشرفي فعظم أمره
وتقوى به في أمور كثيرة، وكان ابتداء ضعفه في ربيع الأول فانتقل من مرض
إلى مرض إلى أن غلب عليه الزحير ثم حبس الإراقة، فلما قوي البرد اشتد
به ثم انحلت قواه إلى أن مات في ليلة السادس من شعبان، وصلى عليه بجامع
عمرو؛ وتقدم في الصلاة عليه القاضي المالكي، في ساعة دفنه حضر من ختم
على حواصله في منزله وغيره من جهة السلطان، لأن بعض أتباع الخازندار
رافع فيه على ما قيل، ثم أطلق ولده وفك الختم على منزله صبيحة ذلك
اليوم.
(4/171)
علي بن الحسن بن عمر نور الدين التلواني،
مات في آخر يوم الاثنين الخامس ولعشرين من ذي القعة، وبيده يومئذ تدريس
الصالحية بجوار قبة الشافعي ومشيخة الرباط بالبيبرسية، وكان أصله من
بلاد المغرب، وسكن الحسن حزوان من قرى المنوفية فولد له على هذا بعد
ستين وسبعمائة فنشأ بها، ثم انتقل إلى تلوانة وعرف بالنسبة إليها، وقدم
القاهرة فطلب العلم، ولازم البلقيني حتى أذن له بالتدريس والفتوى،
وتصدى لذلك قديماً في حياة مشايخه، فاخذ عنه جماعة، ومارس العربية -
اشتغل قديماً، وكان جهوري الصوت، مشهور الصيت، قليل التحقيق، كثير
الدعوى، حسن البشر، صحيح البنية، قوياً ديناً خيراً - مكرماً للطلبة
بحيث كان الفيومي يسميه وزير الطلبة، وقد سمع الكثير من شيوخنا كان أبي
المجد والشامي وأنظارهما. وحدث، وأسمع البخاري مدة بالجامع الأزهر،
ودرس بعدة أماكن، وناهز الثمانين أو جاوزها.
علي المالكي الشيخ نور الدين البنبي، كان حسن السمت سليم الفطرة، خطب
بالجامع الأزهر مدة نيابة عني، واغتبطوا به؛ مات في سادس عشري ذي
الحجة.
(4/172)
قاسم البشتكي، مات في أول شهر رجب بأرض
تبني من عمل غزة، وكان له فيها أرض خراجية فأقام بها وكانت له وجاهة،
وتزوج بنت الملك الأشرف شعبان قديماً ورأس، وكان يحب أهل العلم ويقربهم
واشتغل، ثم حصلت له حظوة في دولة الملك المؤيد، وولي نظر الجوالي
فباشرها بحرمة وشهامة، ثم حط عليه كاتب السر ناصر الدين - ابن البارزي،
وكانت عنده وسوسة وخفة، ثم غضب عليه المؤيد وضربه، ثم من بعده تنقلت به
الاحوال، ولم يحظ في دولة الأشرف بطائل، وركبه الدين فتوجه إلى أرضه
المذكورة ورافقنا في السفر إلى حلب ثم إلى البيرة، ثم رجع معنا حلب
بإذن الأشرف، وذلك آخر عهدي به إلى أن مات غريباً وقد جاوز الستين.
(4/173)
قجق الجركسي نائب القلعة كان جركسياً -
وكان من الخيار، مات مبطوناً في يوم السبت سلخ جمادى الآخرة، واستقر
بعده صاحبنا تغري برمش الفقيه المحدث الفاضل.
محمد بن إبراهيم بن عبد الرحيم الحريري صلاح الدين المشهور بابن مطيع،
مولده سنة 762، ومات ي ليلة السبت بعد أذان المغرب ثاني عشر شهر ربيع
الآخر فأكمل الثمانين وزاد عليها، وكان أبوه حريرياً فمات وهو صغير،
فتزوج شهاب الدين بن مطيع أمه فنسب إليه واشتهر به، وترك صناعة أبيه
بعد أن كان أتقنها، وتنزل في المدارس ولازم حلق أهل العلم، وسمع من
صلاح الدين البلبيسي ونجم الدين ابن زين وابن حديدة وابن الشيخة وابن
الملقن والسويداوي وغيرهم، وسمع معنا من بعض شيوخنا، وكان يذكر أنه سمع
من الزيتاوي ببيت المقدس ولم يكن له ثبت ولا وجد اسمه ي الطباق التي
فيها أسماء من أخذ عن الزيتاوي، وكان لطيف العشرة، وهو احد الصوفية
بخانقاه السلطان صلاح الدين المعروفة بسعيد السعداء، وقد اصابه فالج من
نحو خمس سنين أو أكثر ودام به نحو العام ثم عوفي منه، ثم صارت الأمراض
تعتاده إلى أن مات بإسهال أصابه في آخر علته.
(4/174)
محمد بن أحمد بن محمد التنسي القاضي شمس
الدين بن قاضي القضاة ناصر الدين، مولده 777 أو سنة ثمان، ونشأ في حجر
السعادة وكان من جملة أوصيائه، واشتغل وتقدم، وكان لطيف المزاج مع
شراشة خلق، وناب في الحكم مدة طويلة، وحكم في بعض المجالس مدة، وكان قد
أتلف ما خلف له أبوه وفسدت حاله، ثم صلح حاله قليلاً وعين لقضاء
المالكية بالشام فلم يتم، ولما استقر أخوه في القضاء استنابه، فأظهر
بعد قليل عدم القبول وتوجه مع الرجبية إلى مكة، فأقام بها إلى أن قدم
مع الحاج في أول السنة، فأصابه ذرب فطال به إلى أن مات في يوم السبت من
شهر ربيع الآخر، وكان الجمع في جنازته متوفراً.
محمد بن عمار بن محمد بن أحمد - المالكي الشيخ الإمام العالم العلامة
شمس الدين،
(4/175)
ولد في حدود الستين، واشتغل قديماً ولقي
المشايخ، وسمع من كثير من شيوخنا، وقرأ بنفسه ولم يكثر، وسمع معي
بالقاهرة والإسكندرية وكان صاحب فنون، وقد جمع مجاميع كثيرة، وشرح
العمدة، وكتب على التسهيل، واختصر كثيراً من الكتب المطولة، وسكن مصر
بجوار جامع عمرو بن العاص وانتفع به المصريون وسكن الشيخ أبي عبد الله
الجبرتي بالقرافة مدة، وكان حسن المحاضرة محباً في الصاحلين حسن
المعتقد، وكان لما ولي تدريس المسلمية بمصر في سنة ثلاث وثمانمائة بعد
موت شمس الدين ابن مكين نوزع فيه بأن شرط الواقف أن يكون المدرس في
حدود الأربعين، فأثبت محضراً بأن سنه إذ ذاك خمس وأربعون سنة، فعلى هذا
يكون مولده سنة 758؛ ومات في ليلة السبت الرابع عشري من ذي الحجة،
فيكون أكمل ستاً وثمانين سنة، وكان قد عرض له عرق جذام، واستحكم به
واشتد قرب وفاته.
(4/176)
ستة خمس وأربعين
وثمانمائة
المحرم أوله - يوم الاثنين، وهو الرابع من بونة من أشهر القبط، وقد زاد
النيل بخلاف ما جرت به العادة بحيث كانت الزيادة بعد ما تناهى النقص
أكثر من ذراعين -، وانقطع جسر بحر - بني المنجا، واهتم السلطان بأمره
وبأمر بقية الجسور، واستمرت الزيادة في النيل إلى الثامن منه، فغرقت
كثير من الأمقنة التي في الجزائر وحصل لأصحابها جوائح.
وفي الثالث منه ولد للأمير الكبير يشبك ولد من بنت الملك الظاهر ططر،
ولم يولد له ولد قبله، فسر به وأفرط هو وأهله فيما صنعوا من الوليمة
لأجله، فلم ينشب أن مات يوم السبت - السادس عشر من الشهر، فاشتد أسفهم
عليه وحزنهم لكنه هو تجلد، وكان السلطان لما بلغه سرورهم به أعطاه إمرة
وأرسل إليه خيلاً ورقيقاً.
وفي الخامس عشر منه قدم ثلاثة مشايخ من دمشق، وهم عبد الرحمن بن قريح
الطحان وناظر الصاحبية، وعلي بن إسماعيل بن بردس، وكان السلطان طلبهم
من دمشق
(4/177)
بعناية تغري برمش نائب القلعة، لانهم كانوا
انفردوا برواية المسند الحنبلي بالسماع العالي عن أصحاب الفخر، وعند
بعضهم سنن أبي داود والترمذي ومشيخة الفخر، فجهزوا وأخرجوا في ثالث
عشري ذي الحجة ووصلوا في تاريخه، فأنزلهم نائب القلعة عنده، وقرئ عليهم
عنده في برج القلعة، ثم قرئ عليهم بالبيبرسية وعند سيدي محمد ولد
السلطان بالفور داخل القلعة أيضاً، وهرع الناس إلى السماع عليهم.
وفي السادس عشر ظفر بجماعة من الفرنج من ناحية رشيد قبض عليهم وأحضروا
إلى القاهرة.
صفر الأغر - في الثامن منه عقد مجلس بسبب مدرسة ابن السويد التي أنشأها
بمصر بالقرب من حمام أمير جندار بظهر فندق الكارم الصغير، وكان وقفها
مسجداً وجعل فيها مدرساً، فعمد ولده عبد الرحمن إلى المدرس فأبطله،
وادعى أن أباه اسند إليه النظر وأنه اقتضى رأيه أن يجعل فيها خطبة،
فاستؤذن الملك الأشرف في إقامة الخطبة فأذن، واتصل ذلك بالقاضي الحنفي
وهو يومئذ بدر الدين العيني فأثبت الإذن وحكم بموجبه، فأقيمت بها خطبة،
واتخذ لها منبراً فوضعه بجانب المحراب ودكة للمؤذنين، واستمر الحال إلى
هذه الغاية،
(4/178)
فلما مرض مرض موته أسند النظر لولده،
فنازعه الآن أخوه أحمد وادعى أن أباه شرط النظر لأولاده بعده، فأحضر
كتاب الوقف فوجد فيه أنه شرط النظر لنفسه ومن بعده لولديه محمد وعبد
الرحمن ومن بعدهما لأولادهما وأولاد أولادهما إلى آخره وجعل لنفسه أن
يوصي بذلك لمن شاء بعد موته، فأثبت عبد الرحمن فصلاً في هامش كتاب
الوقف يتضمن - انه اسند إليه النظر وفيه ملحق بين السطرين وجعل له أن
يسند لمن شاء، وأوصل الفصل بالقاضي بدر الدين العيني ضمن كتاب الوقف،
فأشهد عليه أنه ثبت عنده مضمون كتاب الوقف ومضمون ما بهامشه من الفصول
وحكم بصحة الوقف هذا الذي تضمنه تسجيله، فروجع في ذلك، فذكر أنه لم
يحكم إلا بصحة الوقف خاصة دون ما تضمنه فصل الإسناد، وقع البحث في أن
الإسناد يساوي الوصية أو يزيد عليها، ثم ذكر شهود الفصل أنهم لم
يتحملوا الشهادة بالملحق ولا أدوها عند الحاكم، ووافقهم الحاكم على ذلك
مع قوله إن حكمه لم يلاق الفصل المذكور أصلاً، وكانت الدعوى عند كاتبه
فاتجه له أن الإسناد المذكور من الواقف لعبد الرحمن، وإن قلنا بصحته
بناء على أن المراد به الوصية إليه على وفق ما جعله لنفسه لكن قوله إنه
جعل لعبد الرحمن أن، يسند لم يدخل في الجعل المذكور، وعلى تقدير دخوله
فلم يتصل بحاكم ولا حكم به.
فلما اتصل به ذلك قامت عنده البينة العادلة بأن الواقف المذكور وقف
مكانه المذكور مدرسة وعين لها مدرساً سماه، وأن ولده هو الذي خالف شرطه
وأبدل المدرس بالخطبة، فسئل الحكم بما ثبت عنده من ذلك فحكم بتبطيل
الخطبة من المكان المذكور وتقرير المدرس على وفق شرط الواقف، وأكد ذلك
أن الحاكم الذي اتصل به الوقف وحكم به ذكر أن حكمه بصحة إقامة الخطبة
بناه على أن الواقف هو الذي شرط ذلك، فلما وضح له أنه شرط غير ذلك لم
يتناوله الحكم وصرح برجوعه منه، فأزيل المنبر وبطلب الخطبة يوم الجمعة
عاشره، فلما كان في الرابع والعشرين من صفر أعيدت الخطبة بعد أن عقد
مجلس قبل ذلك بيوم، وأظهروا حكماً سابقاً حكم به العينين بإقامة الخطبة
بها، فادعوا أنه سابق على حكم الشافعي بالإبطال وأن الحكم السابق يرفع
الخلاف، فنازعهم الشافعي في ذلك، فأمر السلطان ابتداء بإقامة الخطبة،
فأرسل الشافعي إلى الخزانة التي وضع فيها المنبر لما أزيل، ففك ختمه
عنها فأعادوا المنبر وصلوا بها.
(4/179)
قرأت في مجموع لطيف بخط بعض أصحابنا في يوم
الاثنين تاسع ربيع الآخر سنة 45 ورد من النائب بثغر دمياط ثلاثة نفر من
السلمين، أخبر في مكاتبته بأنهم كانوا في مركب بالبحر فخرج عليهم
الفرنج فقاتلوهم فاختلسوهم وقتلوا من قتلوا وأسروا الثلاثة وأن النائب
اشتراهم بمائة وستين ديناراً، فقال لهم السلطان: لم أسلمتم أنفسكم؟ ولم
لم تقاتلوا حتى تقتلوا؟ ثم سلمهم لوالي الشرطة وقال له: خلص منهم القدر
الذي وزنه عنهم النائب ورده إليه، قال - وما سمع بأعجب من هذا الحكم في
مثل هذا.
شهر ربيع الأول - أوله يوم الخميس بالرؤية.
وفي يوم الجمعة الثاني من الشهر كسر الخليج بمصر، وباشر التخليق سيدي
محمد بن السلطان ومعه الحاجب الكبير وجماعة، وذلك في السابع والعشرين
من أبيب، ولم يعهد نظير ذلك فيما مضى، ونودي بالوفاء وزيادة إصبعين،
وكانت العادة المستمرة أن النيل إذا احترق كانت علامة لبلوغه الغاية
تلك السنة وبالعكس، فلم يحترق في هذه السنة بل كان قارب الوفاء قبل
دخوله بونة، فلما دخل بونة تناقص، وعند استحقاق النداء عليه كان بلغ
زيادة على عشرة اذرع، وزاد مترسلاً فأكمل الستة في أحد وثلاثين يوماً،
وأسرع ما أدركناه أنه أوفى في التاسع والعشرين من أبيب، واستغرب الشيوخ
ذلك - والأمور كلها لله يفعل ما يشاء.
وفي يوم السبت ثالثه استقر في الحسبة الشيخ على الخراساني بالقاهرة
مضافة لمصر وصرف بدر الدين العيني، فكانت مدة تكلمه في الحسبة في هذه
الولاية دون السنة، لأنه استقر في ربيع الآخر سابع يوم فنقصت السنة
شهراً وعشرة أيام،
(4/180)
وانتهت زيادة النيل إلى تعليق العشرين
ذراعاً، وهبط في أواخر توت بسرعة، وبادروا إلى الزرع، وهبت ريح بادرة
نحو أسبوع، ثم عاد مزاج فصل الخريف على العادة، ولبس السلطان الصوف قبل
العادة القديمة وذلك في العشرين من بابة، وصادف تلك الليلة أن أمطرت
وهبت الريح الباردة يومين وعاد الحر في أثناء الليل وفي أثناء النهار.
جمادى الآخرة - أوله الثلاثاء، فيه سار علي بن حسن بن عجلان بن رميثة
المكي الحسني أميراً على مكة عوضاً عن أخيه أبي البركات، وصحبته يشبك
الصوفي أحد الأمراء ليقيم بمكة عوضاً عن سودون المحمدي، وصحبته الاجناد
على العادة، وسافر معهم نويس قليل.
وفي يوم الخميس تاسع شهر رجب استقر الأمير زين الدين عبد الرحمن القاضي
علم الدين - ابن الكويز في الأستادارية الكبرى، وصرف قيز طوغان ثم أفرج
عنه سريعاً، واستقر زين الدين يحيى قريب بن أبي الفرج ناظر الديوان
المفرد على حاله - والتزم بالتكفية.
وفي يوم الاثنين سابع عشر منه استقر الأمير شهاب الدين أحمد ابن علي بن
إينال في إمرة الإسكندرية، وصرف سنبغا الطياري بحسب سؤاله، ولم يسافر
حتى بلغه خروج الطياري من الإسكندرية فتوجه في أواخر شعبان، وقدم
الطياري في ثامن عشر شهر رمضان، واستمر على إمرته بتقدمة ألف، وحضر من
الإسكندرية في رجب الرماة ومعهم صفة قلعة من خشب فقدموها للسلطان،
ورموا عليها بحضرته بقوس الرجل فخرج منها صورة شخص بسيف وترس
(4/181)
فرمى عليه عبد صغير فضرب رقبته بالسهم؛
فأمر السلطان بأن يخلع عليهم وكتب لهم بجامكية وصرفهم إلى بلدهم، وحضر
برسباي نائب طرابلس فتلقاه السلطان ونزل ببيت لزوجته بجوار كاتب السر،
وكان قبل ذلك حاجب الحجاب بدمشق، وقدم تقدمته للسلطان على مائتين
وأربعين جمالاً.
وفي هذه السنة واقعة شهاب الدين القدسي وهو أحمد بن عبد الله ابن محمد
العسقلاني الأصل المقدسي، اشتغل بالقدس كثيراً وكان فيه فرط زكاء،
وتعاني الكلام على العامة فمهر في ذلك، واجتمع عليه خلق كثير، ثم قدم
القاهرة فكان يجتمع في مجلسه جمع كثير خصوصاً النساء، فتعصب عليه قوم
فمنعه القاضي المالكي من اجتماع النساء عنده، وكان اتفق أنه حكى حكاية
عن الإمام مالك فنسبه بعض أهل مذهبه إلى تنقيصه.. فمنعه المالكي من
الكلام جملة، ثم شفعوا فيه فأذن له، ثم اتفق أنه توجه إلى الحج فجاور
سنة أربع وأربعين وعقد المجلس للوعظ كعادته، فاحبه العامة وحضر مجلسه
بعض الخاصة والتف عليه جماعة من أهل اليمن، تعصب عليه القاضيان الشافعي
والمالكي لكلام بلغهما عنه، فقرأت كائنته بخط القاضي - الحنفي وهذا
ملخصها فقال في حقه: هو من الفضلاء الأذكياء، وانتفع به الناس، واشتغل
عليه الطلبة، وكتب على الفتوى، ووعظ بالمسجد فاجتمع عليه العوام وبعض
الخواص، واستمر في العام الماضي ثم في هذا العام إلى تحمل عليه بعض
الفقهاء بمكة، فعلموا عليه محضراً ونسبوه إلى أمور، وشهد
(4/182)
عليه بها بعض حاشيتهم وهو ينكر ذلك، ومحصل
ما أثبتوه عليه أشياء، أدناها توجب التعزيز وأعلاها الكفر، وشهدوا عليه
بأفعال قلبية كقولهم: قال كذا وقصده كذا ونحو ذلك مما لا يطلع عليه إلا
الله؛ ثم أمر القاضي المالكي بحبسه فحبس ليلة الجمعة ويوم الجمعة إلى
أن فاتته صلاة الجمعة، فعقد له الشريف أبو البركات مجلساً حضره سودون
المحمدي وجماعة، فأحضر فبدر أن قال: لي دعوى على القاضي المالكي، فأخذه
الشافعي وتله بلحيته بحضور الجميع وقال له: يا شيخ نحس! وأمر بكشف راسه
وتعزيره، وأشهد على نفسه أنه منعه من الجلوس على الكرسي بالمسجد
الحرام؛ وانفصل المجلس على ذلك ولولا أن الشريف لطف قضيته لكان الأمر
أشد من ذلك.
ثم إنه جلس للتدريس على عادته فمنعه الشافعي من التدريس ومن الكتابة
على الفتوى، وحكم هو ونفذ المالكي، وشهد الحاشية، فحصل له بذلك مشقة
زائدة وعزم على التوجه إلى القاهرة لإنهاء حاله إلى السلطان.
قلت: واتفق قدوم المذكور يوم الخميس ثاني عشري رمضان وكان سبقه قاصد
صاحب مكة علي بن حسن فنقل عنه أن الشريف المخلوع تعصب له لكونه كان
يذكر له أن علياً مقدم على أبي بكر وأنه لما قدم علي بن حسن والياً على
مكة اجتمع به بناء على أنه يروج عنده بذلك فجبهه وقال له: أنا رجل سني
وأبو البركات زيدي، وأنهى ما اتفق له إلى السلطان، وأحضر المحضر الذي
كتبه المالكي والشافعي فيه، فتغيظ السلطان منه على ما بلغني، فلما كان
يوم الجمعة استشار المذكور بعض خواص السلطان، فأشار إليه أن لا يحدث
أمراً لأن السلطان في أول كل قضية يكون مغمور الفكر بما يلقى إليه
ابتداء إلى أن يتجلى له الأمر بعد، فسكت على مضض
(4/183)
ثم في..
شهر رمضان المعظم قدره وحرمته - أوله الأحد وترؤه ليلة السبت وكانت
رؤيته ممكنة لكن كان الغيم مطبقاً ومضى أكثر النهار ولم يتحدث أحد
برؤيته، وتمادى الأمر على ذلك إلى العشر الثاني، فشاع أن بعض أهل
الضواحي صاموا يوم السبت، ثم كثر الخبر عن أهل المحلة فكوتب حاكمها،
فاجاب بأنه شهد برؤيته شاهدان من العدول وآخران مستوران، وتحدث برؤيته
جماعة كثيرون وحكم به بعض نواب الحكم، فلما تكامل ذلك اتصل ببعض نواب
الحنبلي القاضي - فحكم بتحريم صوم يوم الاثنين الذي هو بالعدد يكون
ثلاثين من رمضان وبوجوب قضاء يوم السبت على قاعدتهم في أن الهلال إذا
رئي ببلد وجب على بقية البلاد صومه وقضاءه على من كان أفطره، وكانوا هم
صاموا يوم السبت على قاعدتهم - في صوم اليوم الذي يلي الليلة التي يكون
غيمها مطبقاً ولولا ذلك لأمكنت رؤية الهلال. فلما كانت ليلة الاثنين
تراءى الناس الهلال فرآه جمع جم، فكان العيد يوم الاثنين بغير شك، فلم
يمكن الحنابلة صيامه.
شهر - ذي القعدة الحرام أوله - الأربعاء في يوم السبت رابعه عقد مجلس
بحضرة القضاة - فادعى تقي التاجر على برهان الدين بن ظهير شاهد عثمان
ولد السلطان أنه ظلمه، فإنه كان اشترى حصة من مطبخ سكر لتقي فيها
الأكثر فوقع بينهما منازعة بسبب ذلك.
فأشهد تقي على نفسه أنه ملك ولد السلطان حصته - من الجدر. والنحاس الذي
يطبخ فيه السكر والجوز والبنا - وكتب بينه وبين ابن ظهير مباراة وثبت،
واستثنى في المباراة قدرة كبيرة تختص بتقي فادعى تقي، ثم إن تقي ادعى
بأن - ابن ظهير حولها في غيبته بغير وجه شرعي، فادعى بذلك بين يدي
الحنفي فقال الحنفي: لا تسمع دعوى من أمراء ولو كان وكيلاً. فأذن
السلطان لأحد أئمة القصر في الدعوى على تقي عن ولده، فأمر السلطان أن
يتوجهوا إلى مجلس القاضي فأعيدت الدعوى. فخشي تقي على نفسه من غيظ
السلطان فقال: كل ما يدعي علي لولد السلطان أنا أملكه لولد السلطان،
فبادر من أعلم السلطان أن الحق غلب على تقي، فظن صحة ذلك فأرسل إلى
القاضي أن لا يمكن تقي
(4/184)
من التصرف ولا من التوجه من مجلس الحكم حتى
يزن المال. فظن القاضي أن السلطان يريد مصادرة تقي فأخبره بالرسالة،
فصار يكاتب معارفه بالورق إلى إن حصل المال في عدة أيام وهو في صورة
الترسيم في مجلس القاضي، ثم كتب عليه في.
قرأت بخط من أثق به: لما وصل الحاج إلى مدينة الينبع كان الدقيق في أول
النهار كل حمل بسبعة دنانير، فارتفع الظهر إلى اثني عشر ثم العصر إلى
ستة عشر، وكان العليق أربع ويبات بدينار فوصل إلى ويبتين، ووصل الحمل
الفول الصحيح إلى عشرة، وكان البقسماط رخيصاً فوصل إلى ستين درهماً كل
عشرة، وكاد الجمالة أن يهربوا، فقدر وصول الخبر بوصول المراكب إلى
الساحل، فتراجع السعر إلى أن صار وسطاً بعد ما كان أولاً وآخراً. وتوجه
خلق كثير من الركب إلى الساحل فأحضر الدقيق والعليق. ولزم من ذلك أن
أقاموا بالينبع أربعة أيام، ولما وصلوا إلى منزلة بدر ولم يجدوا بها
عليقا بيع النوى كل ويبة بثلث أفلوري والبقسماط بسبعين العشرة. وكان مع
ذلك اللحم واللبن والبطيخ كثيراً.
ومات شعبان بواب دار الضرب قبل رابغ بيوم، وكان وصول الركب إلى مكة سحر
يوم الخميس، ولم يروا الهلال تلك الليلة لكثرة الغيم، وسألوا أهل مكة
فلم يخبر أحد منهم برؤيته. وتمادوا على أن الوقفة تكون يوم السبت،
وأشار عليهم القاضي الشافعي أن يخرجوا يوم الخميس ويسيروا إلى عرفة
ليدركوا الوقوف ليلة السبت احتياطاً ويقفوا يوم السبت أيضا. فبينا هم
على ذلك إذ دخل الركب الشامي فأخبروا برؤية الهلال ليلة الخميس وانه
ثبت عند قاضيهم، فبنوا على ذلك ووقفوا يوم الجمعة ونفروا ليلة السبت
على العادة، وذكر أنه وجد بمكة رخاء كثيراً؛ قال: ووصلت إلى جدة عدة
مراكب وأسرعوا تفريغها، فكان يدخل إلى مكة كل يوم خمسمائة جمل، وبيع
الشاش الخنبيسني بافلورين
(4/185)
ونصف إلى ثلاثة - والأرز البيرمي من افلوري
إلى ثلاثة.
قال: ووصل إلى مكة من اللؤلؤ والعقيق مع - السروي شيء كثير إلى الغاية.
قال: وفي اليوم الثاني من ذي الحجة ازدحم الناس فمات أربعة عشر نفساً،
ثم دخل الركب الغزاوي ثم الشامي ثم الحلبي ثم الكركي ثم الصفدي ثم
البغدادي ثم التركماني إلى أن امتلأت بيوت مكة وشعابها وجبالها وامتدوا
إلى منى؛ قال: ولما وصلوا إلى عرفات أرجف مرجف بأن السيد بركات هجم جدة
ونهبها، ولم يظهر صحة ذلك، ووصل قاسم أخو بركات حاجاً فأمنه الشريف علي
ولم يحدث منه سوء مع أنه أشجعهم وأفرسهم، وندب أخاه الذي يقال له سيف
ليأخذ جماعة ويتوجه إلى حراسة جدة، ثم اتفق أخاه الذي يقال له سيف
ليأخذ جماعة ويتوجه إلى حراسة جدة، ثم اتفق معه على إن يحفظ الحاج بمنى
وعرقة، وتأخر هو عن الخروج مع الحاج ليلة التاسع، فلما كان بعد عصر
عرفه ثارت غبرة عظيمة ثم ظهر خلق كثير فرسان وغيرهم، فظن الناس أنه
بركات جاء في جمعه لينهبهم، فانكشف الغبار فإذا هو علي ومن معه، أدركوا
الوقوف بعرفة، وصحبته أخوه إبراهيم وكان قد تغيب عنه بمكة، فلما وجده
اعتذر بأنه قيل له إنه عزم على إمساكه، فتنصل من ذلك واستصحبه معه
فحصلت الطمأنينة للناس، ونزلوا منى صبيحة اليوم العاشر، وتجهز المبشر
في ذلك اليوم فدخل القاهرة ليلة الأحد خامس عشري ذي الحجة.
وفي الثاني من ذي الحجة لبس السلطان البياض. لأن الحر كان اشتد من
يومين ووافق السابع عشر من برمودة، فتقدم قبل عادة القيظ بعشرين يوماً.
وفي الرابع عشر - من ذي الحجة توجه القاضيان الشافعي والحنفي والمحتسب
وجماعة إلى كنيسة اليهود الكائنة بقصر الشمع بمصر، فوجدوا فيها منبراً
ثلاث عشرة درجة يشبه أن يكون قريب العهد بالتجديد، فتشاوروا في أمره
فهم في أثناء ذلك ظهر في الدرجة التي يقف عليها الخطيب أو يقعد كتابة
يلوح أثرها، فقال لهم الشافعي: تأملوا هذه الكتابة، فتداولها جماعة
منهم حتى تبين أنها محمد وهي ظاهرة وأحمد وهي خفية، فاقتضى الرأي إزالة
المنبر المذكور فصورت دعوى، وحكم نور الدين بن آقبرس نائب الحكم وناظر
الأوقاف بإزالته وتأخر المحتسب لذلك وافترقوا، ثم قام الشيخ امين الدين
يحيى ابن الأقصرائي في كشف كنائس اليهود والنصارى فأبطلت عدة كنائس،
ختم على أبوابها إلى أن يتضح أمرها، فمنها واحدة للملكيين،
(4/186)
وجد فيها دعائم بالحجر العص النحيت مثل
الأعمدة، فادعوا أنها كانت ذات أعمدة رخام فاحترقت في سنة ثلاث
وسبعمائة، وأخرجوا لها محضراً ثبت على القاضي جلال الدين القزويني وأذن
في مرمتها فرموها بالحجارة وهي دون الرخام..
وفي التاسع والعشرين منه استقر سودون الذي كان دويدارا عند طوغان أمير
آخور الكبير - المؤيدي، واستقر في آخر دولة الاشرف أمير شوي فاستقر
الآن في نظر أوقاف المساجد والجوامع والزوايا بالوجهين القبلي والبحري،
فصار نظار الأوقاف الأهلية ثلاثة أنفس: نور الدين بن آقبرس وشرف الدين
أبو بكر المصارع، وسودون أمير شوي.
ذكر من مات
في سنة خمس وأربعين وثمانمائة من الأعيان
أحمد بن علي بن عبد القادر بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن تميم بن عبد
الصمد الشيخ تقي الدين المقريزي، واصلهم من بعلبك ثم تحول أبوه إلى
القاهرة وولي بها بعض ولايات من متعلقات القضاة وولي التوقيع في ديوان
الإنشاء، وكان مولد تقي الدين في سنة ست وستين وسبعمائة، ونشأ نشأة
حسنة، وحفظ كتاباً في مذهب أبي حنيفة تبعاً لجده لأمه الشيخ شمس الدين
بن الصائغ الأديب المشهور، ثم لما ترعرع وجاوز العشرين ومات أبوه سنة
ست وثمانين تحول شافعياً، وأحب إتباع - الحديث فواظب على ذلك حتى كان
يتهم بمذهب ابن حزم ولكنه كان لا يعرف به، ونظر في عدة فنون، وأولع
(4/187)
بالتاريخ فجمع منه شيئاً كثيراً وصنف فيه
كتباً، وسمع من شيوخنا وممن قبلهم قليلاً كالطبردار وحدث ببعض
مسموعاته، وكان لكثرة ولعه بالتاريخ يحفظ كثيراً منه، وكان إماماً
بارعاً مفنناً متقناً ضابطاً ديناً خيراً، محباً لأهل السنة يميل إلى
الحديث والعمل به حتى نسب إلى الظاهر - حسن الصحبة، حلو المحاضرة، وحج
كثيراً واور مرات، وقد رأيت بعض المكيين قرأ عليه شيئاً من تصانيفه
فكتب في أوله نسبه إلى تميم ابن المعز بن المنصور بن القائم بن المهدي
عبيد الله القائم بالمغرب قبل الثلاثمائة، والمعز هو الذي بنيت له
القاهرة وهو أول من ملك من العبيديين - فالله أعلم، ثم إنه كشط ما كتبه
ذلك المكي من أول المجلد، وكان في تصانيفه لا يتجاوز في نسبه عبد الصمد
بن تميم، ووقفت على ترجمة جده عبد القادر بخط الشيخ تقي الدين بن رافع
وقد نسبه أنصارياً فذكرت ذلك له، فأنكر ذلك على ابن رافع وقال: من أين
له ذلك! وذكر لي ناصر الدين أخوه أنه بحث عن مستند أخيه تقي الدين في
الانتساب إلى العبيديين، ذكر له أنه دخل مع والده جامع الحاكم فقال له
وهو معه في وسط الجامع: يا ولدي! هذا جامع جدك؛ مات الشيخ تقي الدين في
يوم الخميس سابع عشري شهر رمضان.
أحمد بن يوسف الخطيب الملقب درابة - بضم المهملة وتشديد الراء بعد
الألف موحدة - شهاب الدين، اشتغل قليلاً وجلس مع الشهود دهراً طويلاً،
وعمل توقيع الحكم
(4/188)
ثم توقيع الدرج ثم توقيع الدست، وكان سليم
الباطن قليل الشر، وفيه غفلة؛ مات في رجب وقد قارب التسعين.
داود بن محمد أمير المؤمنين المعتضد بالله أبو الفتح بن أمير المؤمنين
أبي عبد الله المتوكل على الله، مات في يوم الأحد رابع شهر ربيع الأول
وقد قارب التسعين بعد مرض طويل، وعهد بالخلافة لأخيه شقيقه سليمان ولقب
بالمستكفي بالله -.
طيبغا مملوك الصاحب بدر الدين ابن نصر الله، مات في 2 المحرم وكان قد
أمر بحماة في الدولة الاشرفية.
عبد الله بن محمد بن الجلال نائب الحكم جمال الدين الزيتوني الشافعي
أخذ عن شيخنا رهان الدين الأبناسي وغيره، واشتغل كثيراً وتقدم ومهر
ونظم الشعر المقبول الجيد
(4/189)
وأفاد، وناب في الحكم وتصدر وكان قليل الشر
كثير السكون والكلام فاضلاً، أظنه قارب السبعين - بتقديم السين؛ مات في
يوم الخميس سادس عشر رجب.
عبد الله بن محمد جمال الدين البرلسي، اشتغل قليلاً وكان يتعانى بزي
الصوفية ويصحب الفقراء ثم دخل مع الفقهاء، وناب في الحكم قليلاً في بعض
البلاد -، ثم منع من ذلك لكائنة جرت له لأن الشافعي لما منعه ناب عند
الحنفي، فعين عليه قضية تتعلق بكنيسة اليهود، فحكم فيها بحكم يلزم نقض
حكم سابق على حكمه من قاضي القضاة علاء الدين بن المغلي الحنبلي، فأنكر
عليه وقوبل على ذلك وصرف عن نيابة الحكم واستمر إلى أن مات في رجب،
وأظنه مات في عشر التسعين - بتقديم المثناة.
عبد الله بن محمد جمال الدين ابن الدماميني المخزومي - الإسكندراني
قاضي الإسكندرية، وليها أكثر من ثلاثين سنة، وكان قليل البضاعة في
العلم لكنه كثير البذل ضخم الرياسة، سخي النفس، أفنى مالاً كثيراً في
قيام صورته في المنصب ودفع من يعارضه فيه وركبه الدين، ثم تحصل له إرث
أو أمر من الأمور التي يحصل تحت يده بها مال من أي جهة كانت ساغت أم لم
تسغ فيوشك أن يبذرها في ذلك، وآخر ما اتفق له أن المعروف بسرور المغرب
قام في عزله إلى أن عزل بشمس الدين ابن عامر أحد نواب الحكم من القاضي
شمس الدين البساطي، وامتنع القاضي بدر الدين بن - التنسي من استنابته
فحسن الشيخ سرور للسلطان تولية ابن عامر فولاه، فدخل إلى الإسكندرية
وباشر القضاء بها، وخرج جمال الدين قبله فقدم القاهرة وهو موعوك فتوسل
بكل وسيلة إلى أن أعيد إلى منصبه، وصرف ابن عامر فاستمر خاملاً،
وأداروا الحيلة في إفساد
(4/190)
صورة الشيخ سرور إلى أن تمت، ونفي إلى
المغرب بأمر السلطان، ثم شفع به فأمر بإعادته، فصادف أنه كان أنزل في
مركب إفرنجي ليسافر به إلى بلاد المغرب فوصل البريدي مساء، ففهموا أنه
جاء في إطلاقه فغالطوه بقراءة الكتاب إلى أن يصبح ودسوا إلى الفرنجي
فأقلع بمركبه ليلاً، فلما أصبحوا وقرئ الكتاب أمر بإصعاده، فقيل سافر
في المركب، ورجع البريدي واستمر سفر الشيخ سرور -، فلم ينتفع القاضي
بعده بنفسه بل استمر متعللاً، واشيع موته مراراً إلى أن تحقق ذلك في
هذا الشهر ذي القعدة، أظنه جاوز الستين، وعين للقضاء بعده الشيخ شهاب
الدين التلمساني، فوليه وتوجه فباشره، وتحفظ بمباشرته إلى أن شاعت
سيرته المستحسنة واستمر، وانطفأت تلك الجمرة كأنه لم تكن، ولم يترك
جمال الدين بعده من يخلفه من أهل بيته، وانقطع خبر الشيخ سرور فقيل إن
الإفرنجي اغتاله فلحق الظالم بالمظلوم فكانا كما قال الله تعالى ضعف
الطالب والمطلوب.
عبد الرحمن بن علي الشيخ زين الدين ابن الصائغ كاتب الخط المنسوب، تعلم
الخط المنسوب من الشيخ نور الدين الوسمي، فأتقن قلم النسخ حتى فاق فيه
على شيخه، وأحب طريقة ابن العفيف فسلكها، واستفاد فيها من شيخنا
الزفتاوي وصارت له طريقة منتزعة من طريقة ابن العفيف وغازي، وكان
الوسمي كتب على غازي وغازي كتب اولاً على ابن أبي رقيبة شيخ شيخنا
الزفتاوي وهو تلميذ ابن العفيف، ثم تحول غازي عن طريقة ابن العفيف إلى
طريقة ولدها بينها وبين طريقة الزكي العجمي، فاق أهل زمانه في حسن الخط
ونبغ في عصره شيخنا الزفتاوي لكنه لم تحصل له نباهة لسكناه بالفسطاط،
ومهر عبد الرحمن وشيخنا
(4/191)
وكذا شيخه، وصرح كثير بتفضيله عليه، ونسخ
عدة مصاحف وكتب، وقرر مكتباً في عدة مدارس، وانتفع أهل العصر به وحصل
له في آخر عمره انجماع بسبب ضعف، فانقطع إلى أن مات في نصف شوال في عشر
الثمانين.
عبد الرحمن بن يوسف بن أحمد بن سليمان بن داود بن سليمان زين الدين أبو
محمد وأبو الفرج ابن قريج - بقاف وراء وجيم مصغر - ابن الطحان الحنبلي
الصالحي المسند، مولده في سنة 164، واعتنى به أبوه فاسمعه على صلاح
الدين ابن أبي عمر المسند، وعلي عمر بن أميلة جامع الترمذي والسنن لأبي
داود ومشيخة الفخر ابن البخاري وعمل اليوم والليلى لابن السني كما ذكر
وعلى زينب بنت قاسم ما في المشيخة من جزء الأنصاري وصحيح مسلم كما ذكر
على البدر محمد بن علي بن عيسى بن قواليح سنة 777: أنا علي بن يعيش
وغيره، وقرأ بنفسه على ابن المحب حرسي: أنا المطعم ويحيى بن سعد
والحجار سماعاً والتقى سليمان بن حمزة إجازة: أنا ابن اللبي، وجميع
فوائد الكنجروديات تخريج السكري: أنا ابن الزراد، وكتاب اليقين لابن
أبي الدنيا: أنا أبو بكر بن عبد الدائم أنا محمد بن إبراهيم بن سليمان
الإربلي سماعاً ونصر بن عبد الرزاق الجيلي وخليل بن أحمد الجوسقي أجازة
قالوا: أنا شهدة، وكتاب الأربعين الصوفية لأبي نعيم: أنا إسحاق الآمدي،
وسمع من لفظه كثيراً، وسمع على أبي الهول علي بن عمر الجزري كتاب الذكر
لابن أبي الدنيا: أنا التقي سليمان ابن حمزة نبأنا الشهاب عمر
السهروردي أنا هبة الله الشبلي، وقرأ على أحمد بن العماد وأبي بكر بن
العز شيخنا بالإجازة، ومحمد بن الرشيد وعبد الرحمن ابن السبط كتاب
التوكل لابن أبي الدنيا قالا: أنا العماد أبو عبد الله محمد بن يعقوب
الجرائدي ويحيى بن سعد قالا أنا عبد الرحمن ابن مكي، وعلي ابن أبي بكر
بن يوسف بن عبد القادر الخليلي جزءاً في فضل ركعتي الفجر وغير ذلك من
أمالي القاضي أبي عبد الله المحاملي: أنا محمد بن غازي الحجازي أنا
يحيى بن محمد القرشي أنا عبد الصمد بن محمد الأنصاري أنا عبد الكريم بن
الخضر السلمي أنا الخطيب بسنده؛
(4/192)
مات بقلعة الجبل في يوم الاثنين بعد العصر
السابع والعشرين من صفر بعد أن تمرض أياماً يسيرة، وأسمع في قدمته سنن
أبي داود وقطعة كبيرة من المسند.
عبد الرحيم بن محمد بن أبي بكر الرومي الحنفي نائب الحكم زين الدين،
اشتغل قليلاً، وتنزل في المدارس، وناب في الحكم مدة؛ ومات في رجب وقارب
السبعين أوأكملها.
علي بن محمد نور الدين الويشي - وهو بكسر الواو وسكون المثناة من نحت
بعدها معجمة، وكان قد طلب العلم فاشتغل كثيراً ونسخ بخطه الحسن شيئاً
كثيراً، ثم تعاني الشهادة في القيمة فدخل في مداخل عجيبة واشتهر
بالشهادات الباطلة - والله سبحانه عفو غفور! مات في ذي القعدة. محمد بن
عبد الرحمن بن أبي أمامة أبو أمامة بن أبي هريرة الدكالي الأصل المعروف
بابن النقاش، مات في يوم الثلاثاء سادس عشري شعبان وقد قارب السبعين،
اشتغل قليلاً وهو شاب، ثم صار يخالط الأمراء في تلك الفتن التي كانت
بعد وفاة برقوق فجرت له خطوب، وقد خطب نيابة عن ابيه بالجامع الطولوني،
وحج مراراً وجاور، وتمشيخ بعد وفاة والده ولم ينجب وأصابه الفالج في
أوائل هذا العام إلى أن مات به، ودفن إلى جانب والده.
محمد بن علي شمس الدين أبو شامة الشامي، كان يزعم أنه أنصاري وولي
(4/193)
نيابة الحكم بدمشق ثم ناب في الحكم
بالقاهرة، وكان كثير السكون مع إقدام وجرأة - وقد تقدم منا في الحوادث،
وكان خمل في آخر دولة الأشرف وتغيب مدة، ثم ظهر في دولة الظاهر وولي
وكالة بيت المال بدمشق، ومات بها. محمد بن عمر شمس الدين الدنجاوي، مات
في أول شوال بالقاهرة وكان تعانى الأدب فمهر، واشتغل في الفقه
والعربية، وقرره شرف الدين يحيى بن العطار في خزانة الكتب بالمؤيدية،
وكان خفيف ذات اليد، وجاد شعره، ومات في هذا الشهر بعد توعك يسير، وذكر
لأصحابه أنه رأى في المنام أنه يؤم بناس كثيرة وأنه قرأ سورة نوح ووصل
إلى قوله تعالى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر فاستيقظ وجلا فقص المنام
على بعض أصحابه وقال: هذا دليل أنني أموت في هذا الضعف، فكان كما قال،
وما أظنه بلغ الأربعين.
محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن عبد الرزاق بن عيسى بن عبد المنع ابن
عمران بن حجاج الأنصاري السفطي الشيخ ضياء الدين بن شيخنا ناصر الدين
شيخ الآثار النبوية بالقرب - على شاطئ النيل؛ مات في شوال، وكان خيراً
فاضلاً مشهوراً بالخير والديانة، وولي المشيخة بعد أبيه فأقام فيها
بضعاً وثلاثين سنة.
محمد بن محمود بن محمد البالسي ثم القاهرة شمس الدين، مات في
(4/194)
ليلة الأربعاء الثاني والعشرين من صفر وقد
بلغ التسعين وزاد عليها لأن مولده كان سنة 754، كان صاهر شيخنا ابن
الملقن قديماً على ابنته، وحصل وظائف من مباشرات وأطلاب وشهادات، وكان
أحد الرؤساء بالقاهرة، وناب في الحكم في عدة بلاد، وكان حسن الخط قليل
العلم، وسمع الكثير من شيخنا وغيره، واستجاز له شيخنا في شوال سنة
سبعين وسبعمائة جماعة من مسندي الشام، منهم عمر بن أميلة وأحمد بن
إسماعيل بن السيف وصلاح الدين بن أبي عمر وأحمد بن محمد المهندس وحسن
بن أحمد بن هلال وزينب بنت القاسم، وهؤلاء من أصحاب الفخر وآخرون، وحدث
في أواخر عمره لما ظهرت هذه الإجازة وعن غيرهم، وتمرض في آخر عمره مدة،
ومات صحيح البصر والسمع والأسنان.
محمد البصروي ناصر الدين، مات بغزة، وولي كتابة السر في إمرة نوروز
بالشام، وتولى قضاء القدس في دولة الأشرف سنة 35، وعزل منها في دولة
الظاهر، وكان قليل البضاعة من اعلم، وفيه حشمة ورياسة.
محمد البرلس موقع الدست ناصر الدين، مات في جمادى الآخرة، كان يوقع عن
الخليفة وعن ناظر الخاص، وكان استقراره في التوقيع سنة.. فأقام في
ذلك.. أربعين سنة.
(4/195)
سنة ست وأربعين
وثمانمائة
شهر الله المحرم - أوله السبت، في يوم الاحد - الثاني منه - أمره
السلطان والي الشرطة بإصلاح الطرقات، فأساء التصرف في ذلك فإنه ألزم كل
من له حانوت أو بيت أن ينظف ما أمامه، واوجع كثيراً منهم بالضرب
المؤلم، فبادر إلى ذلك - كل من حضر الوعيد فشرع في قطع ما أمام داره أو
حانوته، وغاب كثير منهم فصارت الطرقات جميعاً موعرة وقاسى الناس من ذلك
شدة شديدة خصوصاً من يمشي بالليل وهو ضعيف البصر، ثم أبطل ذلك في اليوم
الثاني، واستمر بعض الطرق بغير إصلاح.
وفي أول يوم منه ختم على كنيسة النصارى الملكيين، لأنه وجد داخلها
أعمدة كدان من الحجارة المنحوتة وأكناف جدد فزعموا أن معهم مستنداً
بذلك، فلما أبطأوا بإحضاره ختموا عليها ومنعوا من دخولها، وكشف في حارة
زويلة عن دار كانت لبعض أكابر اليهود وكانوا يجتمعون عنده للاشتغال
بأمور دينهم فمات فجعلها محبسة لذلك فصارت في حكم الكنيسة، فرفع عنهم
أنهم أحدثوا كنيسة، فأكد عليهم عدم الاجتماع فيها وأن تسكن بالأجرة أو
لمن يستحق سكناها، وفوض الأمر فيها لبعض نواب الحنفي فحكم بانتزاعها من
أيدي اليهود، واشهد على الكثير منهم بعد أن ثبت عنده أنها إن أحدثت
كنيسة أن لا حق لهم في رقبتها، فحكم بها لبيت المال، فنودي عليها في
يوم الأربعاء ثاني عشره.
وفي الخامس منه عزر القاضي الحنفي ثلاثة من يهود كنيسة مصر الذي ظهر
فيها اللوح المكتتب فيه محمد وأحمد لان جماعة ثبت عنده أنهم كانوا
يصعدون على المنبر، فمات واحد منهم وأسلم آخر وعاش آخر موعوكاً ثم مات،
(4/196)
ثم تتبعوا سائر الكنائس وحكم بأنها من
الحجارة الجديدة لكونها محدثة وليس لهم الإعادة إلا بالمثل أو دونه،
وفعل ذلك بجميع ما بالبلدين - وحصل على جميع الطوائف من أهل الذمة من
الإهانة والتعزير ما لا يزيد عليه، وأظهر الملكية محضراً يتضمن الإذن
لهم عمارتها بعد الحريق الكائن في سنة ثلاثين وسبعمائة من القاضي جلال
الدين القزويني قاضي الديار المصرية في الدولة الناصرية، وتاريخ المحضر
سنة 34، فوقع في ذلك نزاع كثير، وانفصل الحال على أن كل ما حكم فيه
نائب الشافعي يكمله على مقتضى مذهبه، وما عدا ذلك يتولى الحكم فيه
القاضي المالكي بنفسه.
وفي الخامس من المحرم ادعى عند القاضي صدر الدين ابن روق على طائفة من
اليهود القرائن بأن بحارة زويلة دارا تعرف بدار ابن شمخ كانت مرصدة
لتعليم أطفال اليهود وسكنى لهم فأحدثوها كنيسة، لها حدود أربعة: القبلي
إلى خربة فاصلة بينها وبين دار تعرف بأولاد الجالي، والبحري إلى دار
بحري في ملك بو سعيد النصراني، والشرقي إلى سكن إبراهيم العلاف،
والغربي بعضه إلى دار شموال النافذ وفيه الباب؛ فأشهد عليه انه ثبت
عنده بشهادة من أعلم له مضمون المحضر المذكور، وحكم بموجب ما قامت به
البينة في تاريخه وكان نص شهادة من أعلم له، شهد بمضمونه عبد الرزاق بن
محمد بن شعيب الشهير بالجنيدي، كتب بخطه وأعلم له: شهد عندي بذلك،
ومثله عبد الله بن يوسف بن ناصر الشريف النقلي وكتب عنه وأعلم له: شهد
بذلك، ومثله جلال الدين محمد بن علي بن عبد الوهاب ابن القماط، ومثله
داود بن عبد الكريم وزادوا أن الدار المذكورة تسمى دار ابن شمخ وليست
بكنيسة قديماً، وشهد علي بن محمد التوصوفي أن الدار المذكورة - تعرف
بدار ابن شمخ وانها كانت معدة لتعليم الأطفال وأعلم له: شهد بذلك ومحمد
بن أبي بكر بن محمد - بن قضاة وأنها ليست بكنيسة قديماً وإنها كانت
معدة لتعليم أطفال اليهود وكتب عنه وأعلم له: شهد عندي بذلك، وشهد بمثل
ذلك نحو عدد المذكورين، ثم اتصل ذلك بأفضل الدين محمود بن سراج الدين
القرمي ونفذ حكم صدر الدين في السادس من المحرم، ثم ادعى عند نور الدين
ابن البرقي على جماعة من اليهود أن الدار المذكورة أعلاه كانت مرصدة
لتعليم أطفال اليهود القرايين ومسكنا لهم ثم اتخذوها كنيسة عن قريب
وأنها
(4/197)
مستحقة لبيت المال المعمور بمقتضى أن ابن
شمخ هلك ولم يعقب ولم يترك ولداً ولا أسفل من ذلك ولا عاصباً ولا من
يحجب بيت المال عن استحقاقها سفلاً وعلواً، أن رئيس اليهود القرايين
ومشايخهم يتداولون وضع أيديهم على الدار المذكورة خلفاً عن سلف بغير
طريق شرعي، وطالبهم برفع أيديهم وتسليمها لمن يستحقها، فسئلوا فأجابوا
بأن هذه الدار بأيديهم وأنهم وجدوها على هذا الوجه وتلقوها عن آبائهم
وأجدادهم، وبين المدعي المذكور ما ادعاه فذكر المدعي أن الذي تضمنه
المحضر المذكور ثبت أولاً على صدر الدين وحكم بموجبه ونفذه أفضل الدين،
أعذر فيه لجمع كثير من اليهود القرايين، فكلف المدعي المذكور أن يثبت
ذلك، فاتصل بنور الدين البرقي ما اتصل بأفضل الدين من الثبوت والتنفيد.
والإعذار والإقرار، وثبت عنده بطريق شرعي أن ابن شمخ هلك ولم يترك
ولداً ولا اسفل من ذلك ولا عاصباً ولا من يحجب بيت المال عن استحقاق
هذه الدار سفلاً وعلوا وثبت عنده جميع ذلك ثبوتاً شرعياً، فلما تكامل
ذلك سأل المدعي المذكور الحاكم المذكور الإشهاد على نفسه بثبوت ذلك
والحكم باستحقاق بيت المال لهذه الدار سفلاً وعلواً وجميع ما اشتملت
عليه من المنافع والمرافق والحقوق، وعلى المعذر إليهم برفع أيديهم عن
الدار المذكورة سفلاً وعلوا وتسليمها لبيت المال، فاستخار الله تعالى
ونظر في ذلك - وتروى فيه والتمس من المدعي عليهم حجة يدفعون بها ما ثبت
بأعاليه أو كتاباً قديماً يشهد لهم بملك أو وقف، فاعترفوا بأن لا حجة
لهم تدفع ذلك ولم يكن عندهم كتاب بذلك، فأعاد المدعي المذكور السؤال
المذكور، فراجع الحاكم المذكور فيه مستنيبه ومن حضر من أهل العلم،
وأجاب السائل إلى سؤاله وأشهد على نفسه بثبوت ذلك عنده الثبوت الشرعي،
وحكم بما سأله الحكم به فيه - حكماً صحيحاً شرعياً مستوفيا شرائطه
الشرعية، وأشهد عليه بذلك في يوم الجمعة السابع من المحرم سنة تاريخه.
وفي يوم الخميس السابع والعشرين من شوال استقر القاضي بدر الدين محمود
بن أحمد العينتابي في الحسبة عوضاً عن الشيخ نور الدين الخراساني، وعزل
افضل الدين الذي كان الخراساني استنابه في غيبته، وكان قبل ذلك خصيصاً
عند القاضي بدر الدين العيني وولاه الخطابة بمدرسته واستنابه، فنقم
عليه الانضمام للشيخ نور الدين.
وفي هذا اليوم بعد استقرار القاضي ناصر الدين ابن المخلطة في تدريس
المالكية بالمدرسة
(4/198)
الأشرفية نازعه ولد الشيخ عبادة بمساعدة
جماعة من الأكابر، وتمسكوا بقول الواقف بان من كان له ولد وهو أهل
التدريس بها فلا يقدم عليه غيره، فاستقر الولدان جميعاً لأنه لم يوجد
في شرط الواقف ما يمنع التشريك، وقبل ذلك نوزع القاضي شمس الدين ابن
عامر المالكي في تدريس الشيخونية يعد أن استقر فيها وعمل إجلاساً،
فنوزع بان شرط الواقف أنه لا يقدم على من كان متأهلاً للتدريس من طلبة
المكان، فإن لم يكن فيهم أهل قرر من غيرهم، يقدم الأفضل فالأفضل
والأمثل فالأمثل، وكان أحد النظار قرر ابن عامر والآخر قرر الشيخ يحيى
العجيسي، فاتفقوا على أن الشيخ يحيى أفضل من ابن عامر، فصرف ابن عامر
وقرر الشيخ يحيى، وأشار بعض الحاضرين بأن يعوض ابن عامر وظيفة خفيفة من
وظائف الشيخ يحيى، فتبرع قاضي المالكية بوظيفته بالجمالية له ووقع
التراضي، ثم غضب القاضي من ابن عامر من كلام واجهه به فتعصب له ناظر
الجمالية فامتنع من إمضاء النزول، ولم يظفر ابن المخلطة ولا ابن عامر
بشيء.
وفي يوم الاثنين الخامس عشر من ذي القعدة صرف كاتبه عن القضاء بسبب
امرأتين من أهل الشام تنازعتا في نظر خمس سنين وشهراً وعشرة أيام وقف
والدهما، فشرك الحمصي وهو يومئذ قاضي الشافعية بدمشق بينهما ثم بعده
الونائي بقليل، فحكم للكبرى وألغى الحكم للصغرى، فعقد لهما مجلس بحضرة
السلطان وتعصب الأكابر للصغرى، فوجد حكم الونائي لا يلاقي حكم الحمصي
فأمر كاتبه أن يستوعب الصورة ويستمر بهما على الاشتراك، فلما تأملت
وجدت حكم الونائي لا ينقض، فاعتل عليه وكيل الصغرى بأنه اسنده إلى ما
ثبت عنده من تبذيرها وسفهها ولم يفسر التبذير والسفه فلا يقدح فيها،
لاحتمال أن يكون من شهد بذلك يعتقد ما ليس بسفه سفهاً وما ليس بتبذير
تبذيراً،
(4/199)
وأخرج فتاوى جماعة من الشافعية بذلك،
فتوقفت عن مراده لما تأملت في آخر حكم الونائي بعد اعتبار ما يجب
اعتباره شرعاً فقلت: لو جاء فقال: فسر عندي بقادح وقد دخل في هذا
الكلام كان مقبولاً منه، فاستشاط الوكيل وتوسلت موكلته إلى جمع كثير من
الأكابر، فأبلغوا السلطان أن هذا الكلام تعصب للونائي، فصرح بعزل
الاثنين، فلما بلغ كاتبه ذلك أقام بمنزله لا يجتمع بأحد، فلما كان ضحى
يوم الخميس حضر إليه الحمصي رسولاً من السلطان على لسان الشيخ شمس
الدين الرومي أحد جلساء السلطان فأمره بالاجتماع بالسلطان، فاجتمع به -
فقص عليه القصة مفصلة، فعذره واعتذر إليه وقرره في الوظيفة، وكان قد
صمم على عدم القبول من أول يوم، فاجتمع به القاضي الماضي المالكي وبلغه
عن الجماعة ما يقتضي التخويف والتهديد إذا استمر على الإعراض بما يخشى
منه على المال والد والعرض، فقبل على ذلك - والله المستعان؛ ثم ألحوا
عليه في التشريك بين المرأتين في النظر، فتأمل - فوجد حكم الونائي منذ
سنين وجاز أن يصير السفيه فيها رشيداً، فالتمس منهم بينة تشهد باستواء
المرأتين في صفة الرشد الآن ليقع التشريك بينهما مع بقاء حجة الغائبة،
فاقيمت عند بعض النواب، وقضى بذلك في ثاني ذي الحجة منها - والله
المستعان.
وفي الثامن والعشرين من ذي القعدة قدم القاضي بهاء الدين ابن حجي من
الشام، وهرع الناس للسلام عليه، ثم استقر في نظر الجيش صبيحة ذلك اليوم
وهو يوم الاثنين تاسع عشري شهر ذي الحجة، وظهر بعد ذلك انه كان آخر يوم
من الشهر، لأنه اشتهر أن جمع من الناس رأوا هلال ذي القعدة ليلة الأحد.
واستهل ذو الحجة يوم الثلاثاء بالرؤية.
ففي الحادي عشر منه لبس السلطان البياض.
وفي الخامس عشر منه وصل علي بن حسن بن عجلان أمير مكة من الطور وكان
السلطان أرسل بالقبض عليه، فقبض في ذي القعدة وجهز في البحر إلى الطور
(4/200)
ومعه أخوه إبراهيم، فوصلا مقيدين فسجنا
ببرج القلعة، وكان أخوهما أبو القاسم قد استقر في الإمرة وتوجه صحبة
الحاج، وكان شرط عليه أن يبطل النزلة وهي أن عادة أكابرهم أن يستجير
بهم الغريب ويسمونه نزيلاً، فغلب ذلك عليهم حتى صار من عليه حق يستنزل
ببعضهم فيمنع من يطالبه حتى بالحق، وكثر البلاء بذلك وافرطوا فيه فرفع
ذلك للسلطان، فشرط على هذا الأمير إن يبطل ذلك جملة ويعاقب من فعله،
وكتب عليه بذلك التزام وحكم عليه به.
ذكر من مات
في سنة ست وأربعين وثمانمائة من الأعيان
أحمد بن محمد شهاب الدين بن محمد - الشيخ شمس الدين بن فهيد المصري
المشهور بابن المغيربي - بالتصغير، ولد من أمة سوداء بعد الستين، ونشأ
في حجر أبيه، وزوجه بنت الأمير أبي بكر بن بهادر، وكان بزي الترك، ولم
يشتغل بعلم ولا تميز في شيء إلا أنه كان كثير المعاشرة للجند، وينفق
عليهم بمعرفة لسانهم والانتساب إلى الفقراء، وولي في سلطنة الملك
الظاهر جقمق مشيخة الدسوقية، وكثرت فيه الشكوى، وكان ممن يأكل الدنيا
بالدين، ولا يتوقى من يمين يحلفها فيما لا قيمة له مع إظهار تحري الصدق
والديانة البالغة، وكان يتوسع في المآكل والملابس من غير مادة، فلا
يزال عليه الدين ويشكو الضيق؛ مات بعلة الدرب في ليلة الثامن من شهر ذي
الحجة بعد ضعف ستة أشهر.
حسن بن نصر الله بن حسن بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الكريم البصروي
الأصل ثم الفوي، كاتب سر مصر وناظر جيشها وخاصها ووزيرها وأستادارها
ومشيرها، ولد في ليلة الثلاثاء ثالث ربيع الأول سنة سبعمائة وست وستين
بفوة ونشأ بها، ثم تحول إلى الإسكندرية فباشر بها عدة جهات، ثم عاد إلى
فوة فولي نظرها، ثم عاد إلى الإسكندرية فولي نظرها، ثم تحول إلى
القاهرة فترقى بعناية يشبك الكبير في دولة الناصر، فولي الخاص ثم
الوزارة ثم نظر الجيش إلى أن جاءت الدولة المؤيدية، فخرجت عنه الجيش
وتولى الخاص ثم الوزارة، وصودر مراراً من غير إهانة، ثم ولي الخاص بعد
انقضاء الدولة المؤيدية في زمن الظاهر ططر، واستمر في دولة الصالح محمد
بن ططر ثم في دولة الأشرف إلى أن استقر أستادارا، وصرف عن الخاص
بالقاضي كريم الدين بن عبد الكريم ابن كاتب جكم في أوائل جمادى الأولى
سنة 828، وعزل عن الاستادارية، وصودر هو وولده صلاح، وأخذ الأشرف منهما
ستين ألف دينار، واستمر بطالاً في منزله، ثم ولي الأستادارية بعد سنين
مرة ثانية فلم تطل مدته فيها وعزل، ثم ولي الأستادارية بعد سنين مرة
ثانية فلم تطل مدته فيها وعزل، وولي آقبغا الجمالي الأستادارية عوضاً
عنه، ولزم داره سنين إلى أن ولي كتابة السربعد موت ولده صلاح الدين
فباشرها يسيراً، وعزله جقمق بصهره الكمال البارزي، ولزم البدر بيته إلى
أن مات، وكان شيخاً طوالاً ضخماً جهوري الصوت حسن الشكالة مدور اللحية
كريماً واسع النفس على الطعام فاضلاً، وطالت ايامه في السعادة هو وولده
فصارا رؤساء مصر، وكان لا يسلم كل قليل من مصادره مع إنعامه وفضله على
أعيان الدولة، وكان عنده بادرة خلق سيء مع حدة مزاج وصياح في كلامه،
مات في هذه السنة بعد أن أقام ضعيفاً نحو السنتين بمرض يقال له الحمق
والنسيان اختلط منه ذهنه، وحجب في منزله إلى أن مات في ليلة الأربعاء
سابع ربيع الآخر -.
أيتمش الخضري كان من مماليك الظاهر برقوق - وتقرر خاصكيا، وولي إمرة
غزة ثم ولي الأستادارية الكبرى في دولة الأشرف، وتنقلت به الأحوال
وأصيب في جسده
(4/201)
ببياض فكان يستره بحمرة، وكان قارئاً
للقرآن، محباً في حملته، كثير البر لهم، مع شر فيه وبذاءة لسان وارتكاب
أمور فيما يتعلق بالمال، سقط عليه جدار فغطاه، فأخرج منه مغشياً عليه،
فعاش بعده قليلاً ومات في آخر ليلة السبت العشرين من شهر رجب.
تغر بردى البكلمشي الملقب بالمؤذي، مات يوم الثلاثاء خامس عشر - في
جمادى الآخرة وهو يومئذ الدويدار الكبير، وكان شهماً شجاعاً، عارفاً
بالامور، فصيحاً بالعربية، كثير الجمع للدنيا، وعمر في ولايته
الدويدارية مدرسة بالصليبة، عمل فيها خطبة، ووقف عليها أوقافاً غالبها
مغتصبة، وسر أكثر الناس بموته لثقل وطاته عليهم، وأظنه قارب السبعين.
(4/202)
عبادة بن علي الزرزاي المالكي الشيخ العالم
العلامة المفنن زين الدين، سمع الكثير من شيوخنا ورافقنا في السماع مدة
ومهر في الفقه وغيره، وصار رئيس المالكية بأخرة، وعين للقضاء بعد موت
القاضي شمس الدين البساطي فامتنع، فألح عليه فأصر ثم تغيب إلى أن ولي
غيره، وولاه الملك الأشرف التدريس بمدرسته التي بجوار الوراقين أول ما
فتحت - تدريس المالكية بها إلى أن مات، وولي قبل موته بقليل تدريس
الشيخونية بعد ابن تقي، وكان قبل موته بمدة قد انقطع إلى الله تعالى،
وأعرض عن الاجتماع بالناس وأقبل على شأنه، وامتنع من الإفتاء إلا
باللفظ أحياناً، مات في رمضان وجاوز السبعين.
عبد الله السنباطي الواعظ جمال الدين، مات في
(4/203)
رمضان بعد مرض طويل وقد جاوز السبعين، وكان
يتكلم على الناس بالجامع الأزهر من نحو سبعين سنة، ولازم مجلس - الشيخ
سراج الدين البلقيني، يقرأ عليه من كلامه وكلام غيره، واشتهر ذكره وحظي
حظوة عظيمة، وكان مع ذلك يشتغل بالعلم ويستحضر في الفقه، وقد ناب في
الحكم عن القاضي جلال الدين وغيره.
عبد الرحمن بن محمد الزركشي الشيخ أبو ذر الحنبلي، سمع من أبي عبد الله
البياني صحيح مسلم وحدث به عنه مراراً، وتفرد عنه بالرواية بالديار
المصرية بل كان في هذا الوقت مسند مصر، مات في ليلة الأربعاء ثامن عشر
صفر فنزل الناس بموته درجة، ومولده في.. وخمسين وسبعمائة، وكان يدري
الفقه على مذهبه، فقرر في تدريس المدرسة الاشرفية الجديدة، وباشر في
تدريس الشيخونية بعد موت القاضي محب الدين الحنبلي البغدادي، وكان صحيح
البدن ضعيف البصر وقد ناهز التسعين.
عبد العزيز بن علي بن عبد المحمود البكري المقدسي البغدادي الحنبلي
القاضي عز الدين، ولي قضاء القدس وحصل بينه وبين الخطيب بالقدس وهو
حينئذ القاضي برهان الدين الباعوني فقام على الباعوني فقدر أن الباعوني
ولي قضاء الشام، فتوجه عز الدين إلى بغداد فأقام بها وولي القضاء بها
ثم عاد إلى القدس، فلما دخل الهروي القدس وقع بينهما فتحول عز الدين
إلى القاهرة بأهله، فاتفق دخول الهروي القاهرة وولي قضاء الشافعية بها،
فقام عليه عز الدين إلى أن عزل، ثم ولي تدريس الحنابلة بالمؤيدية أول
ما فتحت، ثم ولي قضاء الشام فأقام مدة ثم عاد، ثم ولي القضاء بالديار
المصرية مرة ثانية، ثم أعيد إلى قضاء دمشق،
(4/204)
وكان عجباً في بني آدم كثير الدهاء والمكر
والحيل ونقل عنه أشياء مضحكة؛ مات بدمشق في شوال مفصولاً عن الحكم،
وكان اختصر المغني وضم إليه مسائل من المنتقى لابن تيمية من مختصرات
الحنابلة.
علي بن إسماعيل بن محمد بن بردس بن نصر بن بردس بن رسلان البعلي علاء
الدين، مولده سنة 762 ببعلبك ونشا بها وقرأ القرآن، ورحل به والده إلى
دمشق واسمعه جامع الترمذي وسنن أبي داود ومشيخة الفخر على أبي حفص عمر
بن أميلة، وأسمعه على الصلاح ابن أبي عمر الشمائل للترمذي ومسند ابن
عباس من مسند الإمام أحمد ومسند أهل البيت فيما أظن، وسمع مسند الإمام
الشافعي على يوسف بن عبد الله ابن حاتم بن الحبال سنة 772 أنا أبو
الحسن اليونيني والتاج عبد الخالق ابن علوان، قال اليونيني: أنا ابن
الزبيدي وأخوه أبو علي الحسن وعبد السلام ابن عبد الرحمن بن سكينة
ومحمد بن سعد بن الخازن وأبو هريرة محمد ابن الوسطاني وآخرون إجازة؛ ح
وقال ابن علوان: أنا الموفق بن قدامة إجازة نا أبو زرعة أنا أبو الحسن
الكرخي بسنده، وله مسموعات آخر ببعلبك على شيوخها وفيهم كثرة، وهو شيخ
صالح خير مؤذن بجامع بعلبك، مات بعد أن رجع إلى بلاده في أول سنة
(4/205)
ست وأربعين، وكان قدم القاهرة كما تقدم
وأقام بها مدة وأسمع الكثير، ثم رجع فمات وبقي من الثلاثة واحد وهو
ناظر الصاحبية.
محمد بك بن دلغادر الأمير ناصر الدين صاحب الأبلستين وحمو الملك الظاهر
جقمق، مات في أوائل جمادى الآخرة بالأبلستين، وقيل إنه قتل على فراشه،
وكان كثير الشرور والعصيان على الملوك -.
(4/206)
محمد بن عمر بن علي الطنبدي القاضي جمال
الدين المعروف بابن عرب، مات في ليلة الخميس الثامن من شهر رمضان وهو
في عشر المائة، ولد بعد الخمسين بيسير، واشتغل وقرأ القرآن وحفظ
التنبيه، ثم وقع على القضاة وهو في العشرين، رأيت خطه في الشهادة على
أبي البقاء السبكي سنة 73 فأداها بعد سبعين سنة وزيادة، ثم ولي حسبة
القاهرة ووكالة بيت المال غير مرة، وأذن له في الحكم نيابة عن القاضي
الشافعي، ثم اقتصر على النيابة بعد الثمانمائة واستمر، وجرت له خطوب،
وانقطع باخرة في منزله مع صحة عقله وقوة جسده، وكانت أكثر إقامته
ببستان له بجزيرة الفيل، ثم توالت عليه الأمراض وتنصل - إلى أن كان في
هذه السنة فإنه سقط من مكان فانكسرت ساقه، فحمل في محفة من جزيرة الفيل
إلى القاهرة، فأقام نحو أربعة أشهر ومات، وهو أقدم من بقي من طلبة
العلم ونواب القضاة الشافعية.
محمد بن محمد بن محمد بدر الدين ين زين بن شمس الدين الدميري المالكي،
كان جده ناظر المارستان وولي الحسبة وكذا والده واستمر هو في مشارفته،
وكان مشكور السيرة كثير الحياء والتودد للناس، مات في رمضان وكثر
الثناء عليه ولم يبلغ الخمسين.
محمد بن محمد بن بدير زوج أخت الذي قبله بدر الدين العباسي المعروف
بالعجمي، وكان رفيق الذي قبله بالمارستان مشكور السيرة أيضاً محبباً
إلى الناس، وكثر التأسف عليهما، مات في شوال.
(4/207)
سنة سبع وأربعين
وثمانمائة
شهر الله - المحرم، أوله الأربعاء بالرؤية في اليوم التاسع منه استقر
سراج الدين عمر بن موسى الحمصي في قضاء الشافعية بطرابلس، وأضيف إليه
نظر الجيش بعد أن أقام بالقاهرة ثمانية اشهر وأزيد يسعى في قضاء
الشافعية بدمشق، فحضر الونائي قاضيها في الثالث والعشرين من ذي الحجة،
فحصل للحمصي ياس من قضاء دمشق فسعى في طرابلس إلى أن خلع عليه.
وفي يوم الأحد تاسع عشر شهر ربيع الأول عمل المولد السلطاني، وكان
مختصراً في كل أحواله بحيث أن عدد القراء انحط من ثلاثين إلى عشرة
وكذلك الوعاظ، وفرغ بين العشائين، وتوجه الناس إلى منازلهم سالمين من
عبث المماليك.
وفي يوم الاثنين سابع عشر شهر - ربيع الأول توجه العسكر المجهز لقتال
الفرنج برودس، ومقدمهم تمرباي راس نوبة الكبير وإينال العلائي الدوادار
الكبير، ومعهم ألف وخمسمائة مقاتل، ومعهم جمع كثير من المطوعة، فتوجهوا
إلى دمياط ليجتمع بها المراكب التي جهزت من الشامات وغيرها.
وفي هذا العشر من هذا الشهر توقف النيل بعد إن كانت الزيادة في العشر
الأول ظاهرة، ونودي في يوم منه بثلاثين إصبعاً - والله المستعان فيما
كان - فكانت مدة التوقف.. وفي ليلة الخميس.. وفي من شهر ربيع الآخر
توجهت مراكب - العساكر إلى دمياط
(4/208)
للغزو، وكان ركوبهم في البحر في.. وساروا،
وقذفهم الريح إلى أن اجتمعوا في طرابلس.. وتوجهوا منها في..، فلما كان
في السابع من جمادى الآخرة فتحوا بلداً في جزيرة في وسط البحر تسمى
القشتيل - بفتح القاف وسكون المعجمة وكسر المثناة من فوق وسكون المثناة
من تحت بعدها لام.
وقد شرح لي صاحبنا العلامة إبراهيم بن عمر بن الحسن البقاعي الوقعة
وأثبتها في هذا التعليق بخطه منذ توجهوا من دمياط إلى أن توجهوا إلى
جهة الديار المصرية ليكون قصتها متوالية، وهذا اوان سفر الجيش المنصور
من داخل فم البحر الملح كان يوم الأحد رابع عشر شهر ربيع الآخر قاصداً
اللمسون من جزيرة قبرس - جعلها الله دار إسلام إلى يوم الدين! آمين.
وكان في المراكب واحد بطيء السير، فكان الناس يتقدمونه لحكم الهواء ثم
يرجعون بسببه، فتاهوا عن طريقهم فأشرفوا على جبال صيدا وكان قد قل ماء
بعضهم، فأرسوا على ساحل بيروت ليلة الاثنين ثاني عشري الشهر، وتاه
تمرباي في خمسة عشر مركباً فأرسوا على طرابلس في تلك الليلة، ووجدنا
العسكر الشامي قد توجه من بيروت إلى قبرس في خمسة عشر مركباً يوم
الخميس ثامن عشر الشهر، ثم رحلنا عن بيروت يوم الأربعاء رابع عشري
الشهر والريح قليل
(4/209)
جداً، فأرسينا على الملاحة من أرض قبرس يوم
الأحد ثاني عشريه، ووافى بها فيه من كان ذهب إلى طرابلس فكان ذلك من
غرائب الاتفاق، ثم رحلنا يوم الثلاثاء مستهل جمادى الأولى، واستبطأنا
الشاميون وكانوا على اللمسون فلاقونا بين الملاحة واللمسون فأرسينا
هنالك، وقد تم عدد المراكب ثمانين ما بين أغربة وحمالات ومربعات وزوارق
وسلالير سوى ما يبتعها من القوارب، ثم سرنا ليلة الأربعاء ثانيه
فأرسينا على اللمسون في آخر نهارها، فوجدنا أميرها قد رحل بأهلها
وأمتعتهم، فحكم اصحاب الأغراض الدنيوية، وهم غالب الناس عليهم بنقض
العهد، وأفتاهم بذلك من تسمي باسم الطلب ممن لم يرسخ قدمه في العلوم
الدينية، ولم تطل ممارسته للسنة النبوية، ولا اتسعت معارفه في الأحوال
الحربية والسياسات الشرعية، وتشبثوا بما لا تمسك فيه، فاشتد الأذى وعظم
الخطب، فسعوا في تلك الأراضي بالفساد ونهبوا ما وجدوه في بعض البلاد،
وحرقوا وقتلوا، فنهيت من قدرت عليه وبالغت في الزجر، وبحثت مع بعض من
أضلهم حتى قطعت حججهم، وذكرت أنا تحققنا لهم عهداً فلا نزيله إلا بتحقق
نقضه وان عذرهم في الهرب الخوف من المفسدين، وما في قوله تعالى يا أيها
الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا - الآية من الإشارة إلى
التأني، وعلى ذلك فإنهم لعمري لم يرجعوا بقلوبهم، ثم ذكرت قصة يهود بني
النضير في ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إليهم - يستعينهم في دية
العامريين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه خطا، وجلوسه
صلى الله عليه وسلم إلى بعض جدرهم، وعزمهم على أن يطرحوا عليه صخرة
ليقتلوه وإخبار الله تعالى له بذلك، وأنه مع تحققه لنقضهم لم يبادر
إليهم بالقتال بل خيرهم بينه وبين المسير من بلاده إلى آخر القصة؛
فبينما نحن على ذلك إذ جاءت رسل صاحب قبرس في آخر يوم الخميس تخبر بان
ضيافته تلاقي العسكر في الباف بإشباع الموحدة -، وأنهم باقون على عهدهم
سامعون مطيعون
(4/210)
مسرورون بمسيرنا إلى رودس لكثرة أذاهم له،
واعتذروا عن هرب القرى المجاورة بنحو اعتذاري عنهم. وفي ذلك اليوم رأى
بعض المسلمين مركبين أشرفوا علينا من بعد بحيث رأوا مراكبنا ثم ذهبوا
فقصدوا المسير إليهم، فلم يكن في الأغربة من يصلح لذلك من النوتية ولا
من الجند ليفرقهم في تلك الأراضي، ثم رحلنا من اللمسون ليلة السبت خامس
الشهر فأرسينا على اللمسون عصر يومها، ثم سرنا يوم الاثنين بالمقاذيف
وتفرقت المراكب لعدم الريح وعدم المقاذيف في بعضها فأرسينا على الرأس
الأبيض في ذلك اليوم، ثم سرنا منه ليلة الثلاثاء خامس عشر الشهر مع
معاكسة الهواء وجر أصحاب المقاذيف العريين عنها فارسينا قريباً من ذلك
المنزل، ثم سرنا صبيحة يوم الأربعاء سادس عشره فأرسينا على قرية قريبة
من الباف، فجاءت رسل صاحب قبرس فأخبروا عن مقدار الضيافة وشكوا ما فعل
في بلادهم وتوجعوا، وظهر منهم الخداع إما لما فعل ببلادهم أو لغير ذلك،
فاستقل أميرنا هديتهم وغضب لعدم مجيء ملكهم وإحضارهم لما بقي عندهم من
المال، واعتذروا عما فعل في بلادهم بأنه فعل بعض الأتباع بغير علمه على
أنهم معذورون لعدم المبادرة باللقاء وإحضار الضيافة والإخبار بالطاعة،
فرحل ليلة الخميس سابع عشره معرجاً عن الباف لئلا يأخذ هديتهم،
فتعديناها وأرسينا على رأس الصندفاني، ثم رحلنا صبح يوم الجمعة ثامن
عشر الشهر مع عدم الريح، فاستمرينا ندور في البحر ونحن بحيث نرى الجبال
إلى أن قصدنا البر فأرسينا به ليلة الأحد في هذه المنزلة فاستقينا، ثم
رحلنا يوم الأحد العشرين منه فنزلنا على مدينة العلايا من بر التركية
ليلة الخميس رابع عشري الشهر، وحصلت هناك زلزلة عظيمة قبل غروب شمس يوم
الجمعة خامس عشره - بنحو عشر درج رجفت منها الأرض ثلاث رجفات، ثم سرنا
عنها يوم الاثنين ثامن عشري اشهر، فأرسينا على مدينة
أنطاليا ليلة الأربعاء مستهل جمادى الآخرة، ثم سرنا عنها ضحى ذلك اليوم
فأرسينا على آغو ليلة الخميس ثانيه - لاجتماع الناس، وكان قد حصل لهم
ريح عاصف فرقهم وضعضع بعضهم، فاجتمعوا إلا اثنين: أحدهما لم يقعوا له
على خبر والثاني أخبروا انه في أنطاكيا يصلح خللاً حصل في غرابه، فأمر
يشبك الفقيه بالرجوع لمساعدته، فرجع ليلة الأحد خامس الشهر، وسار
الأمير بالجيش نحو رودس، فرجعنا إلى أنطاكيا في ذلك اليوم، فلما أصلح
المركب سرنا ليلة الثلاثاء سابع الشهر فلحقنا بعض العسكر عند رأس
الشالدون فأرسينا جميعاً على منزلة فنيكة، ثم سرنا منها تلك الليلة
فلحقنا جميع العسكر في بكرتها عند مجاز القيقبون ومعهم بتخاص وكان مر
على المراكب ليلاً فلم يرها وظنهم تقدموا، فلما قرب من القيقبون وجدوا
أربعة من مراكب الفرنج فطلبوه فرجع ونذر بهم التركمان، فاجتمعوا في
البر فتركوه ورجعوا، فعلم أن الجيش وراءه فاستمر راجعاً حتى نام في
فنيكة، وبلغ الأمير خبره فأرسل في أمره نجدة فوجدوه في فنيكة - وفي هذا
اليوم أرسلنا بالقيقيون، ووجدوا هنالك امرأة جالسة على الجبل، فأحضروها
إلى أمير فقالت: إنها كان تسحر جيش المسلمين ثم هداها الله تعالى إلى
الإسلام فأسلمت، فأبطل الله تعالى باطل سحرهم، وأوقعهم في حبائل كفرهم
وأشراك كيدهم ومكرهم - ثم سرنا في أواخر ليلة الجمعة عاشر الشهر
فأرسينا ضحى يومها بمنزلة إينوا، ثم سرنا منها في أوائل ليلة السبت
حادي عشره فأرسينا في أواخرها على قشتيل الروج، وهو حصن منيع على جبل
رفيع في طرف جزيرة تقرب مساحتها من مساحة القاهرة من الحسينية إلى
القرافة ومن تربة برقوق إلى بولاق فشارفه بعض شبان المسلمين فصعد إليهم
بعض الأكابر فتلطف بهم حتى ردهم، فظن الفرنج انهم خافوا فرموا عليهم
بمكحلة وهزأوا بهم، فأثر الكلام في الناس فكلم بعضهم الأمير في قتالهم
فمنع منه وأقلع للسفر، ثم أكثروا عليه في ذلك فرده الله تعالى لأمر
قدره وقضاه، وارتضاه في سالف الازل فأمضاه، فوثب الناس إليهم وثوب
الآساد، وسمحوا بأرواحهم سماح الاجواد، ووقع قائم الزحف، وقام قاعد
الحتف، وتقدمت الأبطال، وتميزت فحول الرجال، وعملت المعاول في السور،
وبان هنالك الرجل الصبور، وتراشق الناس بالنبال، وتراموا بالجنادل
الخفاف والثقال، فطارت رسل السهام، بمر شراب الحمام، ودارت على
البرايا، كؤوس المنايا، وألقوا بالدرق والحنويات، والدروع الداوديات -
ولله در المقاليع! فلقد كانت كأنها المناجيق - ولله أصحابها! فلقد كان
الأقوياء يسترون بعض أجسامهم بدروع الحديد وكانوا هم يعدون جميع
أبدانهم حديداً، ويرمون رمياً شديداً، ثم أحجموا عن مجاورة السور إلى
جدار الحصن وهبت ريح الصبا من حين قتالهم إلى ظهر يوم الاثنين ثاني عشر
الشهر، فكان ذلك من آيات القول المحمدي نصرت بالصبا وفي ذلك اليوم حطم
الناس واشتد البؤس، وقامت الحرب على ساق، وكلت من النظر الاحداق، اشتكت
إلى أبدانها الأعناق، واستداروا بالحصن من غالب الجوانب، وكثر في رمينا
الصائب؛ فحمي الوطيس، وخذل إبليس أخطأت كثيراً سهامهم ومكاحلهم، وأصيبت
دروعهم ومقاتلهم، وحينئذ استدارت الريح دبوراً فكانت من علامات
إهلاكهم، وأهلكت عاد بالدبور، وهدت مكحلتنا عند ذلك ناحية من الجدار،
وأضرم بسهم خطاي من تحته نار؛ وكان ذلك من بديع الآيات، وعظيم
العنايات، وما زالت تقلله تقليلاً، وتهدمه قليلاً قليلاً، إلى أن هدمت
منه جانباً كبيراً، وكان يوماً على الكافرين عسيراً. اليلة الأربعاء
مستهل جمادى الآخرة، ثم سرنا عنها ضحى ذلك اليوم فأرسينا على آغو ليلة
الخميس ثانيه - لاجتماع الناس، وكان قد حصل لهم ريح
(4/211)
عاصف فرقهم وضعضع بعضهم، فاجتمعوا إلا
اثنين: أحدهما لم يقعوا له على خبر والثاني أخبروا انه في أنطاكيا يصلح
خللاً حصل في غرابه، فأمر يشبك الفقيه بالرجوع لمساعدته، فرجع ليلة
الأحد خامس الشهر، وسار الأمير بالجيش نحو رودس، فرجعنا إلى أنطاكيا في
ذلك اليوم، فلما أصلح المركب سرنا ليلة الثلاثاء سابع الشهر فلحقنا بعض
العسكر عند رأس الشالدون فأرسينا جميعاً على منزلة فنيكة، ثم سرنا منها
تلك الليلة فلحقنا جميع العسكر في بكرتها عند مجاز القيقبون ومعهم
بتخاص وكان مر على المراكب ليلاً فلم يرها وظنهم تقدموا، فلما قرب من
القيقبون وجدوا أربعة من مراكب الفرنج فطلبوه فرجع ونذر بهم التركمان،
فاجتمعوا في البر فتركوه ورجعوا، فعلم أن الجيش وراءه فاستمر راجعاً
حتى نام في فنيكة، وبلغ الأمير خبره فأرسل في أمره نجدة فوجدوه في
فنيكة - وفي هذا اليوم أرسلنا بالقيقيون، ووجدوا هنالك امرأة جالسة على
الجبل، فأحضروها إلى أمير فقالت: إنها كان تسحر جيش المسلمين ثم هداها
الله تعالى إلى الإسلام فأسلمت، فأبطل الله تعالى باطل سحرهم، وأوقعهم
في حبائل كفرهم وأشراك كيدهم ومكرهم - ثم سرنا في أواخر ليلة الجمعة
عاشر الشهر فأرسينا ضحى يومها بمنزلة إينوا، ثم سرنا منها في أوائل
ليلة السبت حادي عشره فأرسينا في أواخرها على قشتيل الروج، وهو حصن
منيع على جبل رفيع في طرف جزيرة تقرب مساحتها من مساحة القاهرة من
الحسينية إلى القرافة ومن تربة برقوق إلى بولاق فشارفه بعض شبان
المسلمين فصعد إليهم بعض الأكابر فتلطف بهم حتى ردهم، فظن الفرنج انهم
خافوا فرموا عليهم بمكحلة وهزأوا بهم، فأثر الكلام في الناس فكلم بعضهم
الأمير في قتالهم فمنع منه وأقلع للسفر، ثم أكثروا عليه في ذلك فرده
الله تعالى لأمر قدره وقضاه، وارتضاه في سالف الازل فأمضاه، فوثب الناس
إليهم وثوب الآساد، وسمحوا بأرواحهم سماح الاجواد، ووقع قائم الزحف،
وقام قاعد الحتف، وتقدمت الأبطال، وتميزت فحول الرجال، وعملت المعاول
في السور، وبان هنالك الرجل الصبور، وتراشق الناس بالنبال، وتراموا
بالجنادل الخفاف والثقال، فطارت رسل السهام، بمر شراب الحمام، ودارت
على البرايا، كؤوس المنايا، وألقوا بالدرق والحنويات، والدروع
الداوديات - ولله در المقاليع! فلقد كانت كأنها المناجيق - ولله
أصحابها! فلقد كان الأقوياء يسترون بعض أجسامهم بدروع الحديد وكانوا هم
يعدون جميع أبدانهم حديداً، ويرمون رمياً شديداً، ثم أحجموا عن مجاورة
السور إلى جدار الحصن وهبت ريح الصبا
(4/212)
من حين قتالهم إلى ظهر يوم الاثنين ثاني
عشر الشهر، فكان ذلك من آيات القول المحمدي نصرت بالصبا وفي ذلك اليوم
حطم الناس واشتد البؤس، وقامت الحرب على ساق، وكلت من النظر الاحداق،
اشتكت إلى أبدانها الأعناق، واستداروا بالحصن من غالب الجوانب، وكثر في
رمينا الصائب؛ فحمي الوطيس، وخذل إبليس أخطأت كثيراً سهامهم ومكاحلهم،
وأصيبت دروعهم ومقاتلهم، وحينئذ استدارت الريح دبوراً فكانت من علامات
إهلاكهم، وأهلكت عاد بالدبور، وهدت مكحلتنا عند ذلك ناحية من الجدار،
وأضرم بسهم خطاي من تحته نار؛ وكان ذلك من بديع الآيات، وعظيم
العنايات، وما زالت تقلله تقليلاً، وتهدمه قليلاً قليلاً، إلى أن هدمت
منه جانباً كبيراً، وكان يوماً على الكافرين عسيراً.
وكان الأمير سودون قراقاش المؤيدي - قص على يوم السبت سادس عشري جمادى
الأولى أنه رأى في المنام أن الحصار في مكان له سوران، قال: فهززت الذي
يليني لأرميه، فقال: ارم الذي وراءك فهو الأهم، قال: فقلت: بل أرميك ثم
أرميه؛ فكان تأويل ذلك أنه كان منزله وقت حصار هذا الحصن قرب البرج
الأخير الذي يلي - فيه الباب، فاشرف من هناك بعض الفرنج ضحى يوم الخميس
سادس عشر الشهر أعني جمادى الآخرة - وقالوا: قد كان قصدكم إلى رودس
فنريد أن تذهبوا إليها قبل أن تنهك أنفسكم وأموالكم، فإن أخذتموها فنحن
في قبضتكم، أو أعطونا سلورة حتى نذهب إليهم، فإن رضوا سلمنا لكم فعلنا؛
فلم يرد الأمير لهم جواباً إلا رمي المكحلة والمنجنيق، وكان قد نهانا
في ذلك الوقت ونادى مناديه وهم يسمعون بالمنع من كلامهم إلا بإذنه،
وكنا وجدناهم قد طموا بعض آبارهم، ووضعوا في الجميع التراب وأغصان
الدفلي وورقها، فأنتنت المياه وقلت، فذهب جماعة من المسلمين إلى بر
التركية للاستقاء، فوجدوا هناك ثلاثة رجال فأتوا بهم في عصر هذا اليوم،
فسألهم الأمير عن أمرهم، فقالوا: إنهم هربوا من بلاد التركمان قاصدين
إلى القشتيل، فضربهم فأصروا على ذلك وقالوا: إنهم مماليك لبعض الروم
وسمي كل واحد منهم مالكه وكان قد أصيب خلق ممن دنا إلى الحصن بالحجارة
والنبل وضاع منا في أحجارهم سهام كثيرة، فمنع الأمير من الدنو إليهم
وجعل جل القتال على المدفع والمنجنق، ثم أمطرت علينا
(4/213)
السماء من أوائل يوم الأحد إلى أواخر يوم
الاثنين مطراً متصلاً ومنه ما هو شديد جداً مع برق ساطع ورعد صادع ثم
استمر الجو في غالب الأوقات مغلساً والمطر يتعاهد الارض والهواء عاصف
فشق ذلك على الناس لإتيانه لهم على غفلة لكنه أغناهم عن الاستقاء من بر
التركية، ثم صحت السماء يوم السبت خامس عشري الشهر وحميت الشمس فاتفقت
فيه كثرة إصابة المكحلة والمنجنيق وتواردهما على مكان واحد من الجدار
فأوهناه وهنا شنيعاً وأسرعنا إلى إفساده إسراعاً ذريعاً، فخاف الكفار
من الدنو إلى ذلك المكان، فاتفق أن قاربه اثنان من المسلمين فعلما ذلك
فلاصقا الجدار وتابعهما الناس وأسرع إليهم النقابون وستروهم بالأتراس.
وجاء الفرنج وأكثروا من رمي الحجارة، فيسر الله تعالى نقبه، وتلاحق
الناس بالحنويات وجدوا في الأمر، وكانت القتلى مع ذلك قليلاً، وجاء
الليل فأرخى ستره وأسبل سرباله فكانت حجارتهم تنزل على غرة فغلبت
السلامة، وضاق النقب على الحجارين فستر لهم بابه بالاخشاب فأوسعوا، وجد
الجد عند الصباح وعظم الهد لما دعا داعي الفلاح، وحم الأمر وجاء النصر،
ودقت فينا البشائر، وشقت منهم بعد الجدر المرائر فقذف الله في قلوب
الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً ومأواهم
النار وبئس مثوى الظالمين، فطلبوا الأمان عند الشروق، فكفوا عنهم النبل
ودلوا كبيرهم إلينا بحبل، فوقع الصلح على أن يكفوا عنهم القتل، وعن
أهلهم ويتركوا حصنهم بما فيه، فكان ذلك من الألطاف الخفية والآيات
النبوية، وكانت عدتهم نحو مائة وخمسين ورحالهم ستين، والله أعلم بعدة
قتلاهم! فقد سئل اثنان بحضوري مفترقين فاختلف كلامهما اختلافاً كثيراً،
وقتل منا أكثر من ثلاثين وجرح كثير، فصعد المسلمون إليه وعلوا أكثرهم -
عليه، ونكست تلك الأعلام وانتصبت رايات الإسلام، وكسرت الصلبان، وعلت
كلمة الإيمان، وزعق هنالك الذعر السلطاني، وحمد ولله الحمد الأمر
الشيطاني، وكان يوماً علينا مطيراً، وعلى الكافرين عبوساً قمطريراً، ثم
شرعنا في هدم المكان صبح يوم الاثنين سابع عشري شهر، فلم يفرغ إلا وقد
ساوت جدرانه الأرض، من طولها والعرض، وسارع إليه الخراب، وصار ماوى
الثعالب والذئاب، ولم يبق في تلك الجزيرة ديار، ولا نافخ نار،
(4/214)
ولقد صعدت الحصن فرأيت من صعوبته ما يزيد
على الوصف، وكثر حمدي لله تعالى على ما ألقى في قلوبهم من الرعب، فإنهم
لو ثبتوا لزاد التعب، ولم نقدر عليه بنقب ولا مكحلة، والمرجو ممن حقق
بعض - منام الأمير سودون أن يحقق بقيته، واتفق رأي الأمراء أن يشتوا في
بلاد الروم في بلدة يقال لها مكري حتى يريد الله ما يريد فهو المرجو
فضله في تيسير الأمور، ثم لم يوافقهم الريح الشرقي واستمر الغربي،
وخافوا من هروب من في المراكب من النواتية وغيرهم، فاقتضى رأيهم أن
ينزلوا بجزيرة قبرس، فساروا
ضحى يوم الأحد ثالث شهر رجب، فاصبحوا بمنزلة فنيكة وقد تفرقت المراكب
لظلمة الليل وقلة الريح، فأقاموا بها يومين ثم سافروا، فقويت الريح
فأرسوا بالجانب الغربي من رأس الشالدون في منزلة يقال لها قرابالق وقد
تفرقت المراكب بحيث لم يعلم أحد خبر أحد إلى أن هبت الريح فاجتمعوا إلا
مركب الأمير إينال الدويدار، وهو كبيرهم، فأرسلوا من يعرف خبرهم في
مركب لطيف فلم يعد الخبر عنه، ثم ظهر إنه ارسى بمن معه في القيقبون من
عدم الريح، فتوجهت الاغربة بأمر أمير البحر إليه وكان غرابنا فيها،
فسرنا بعد أن دفن أمير الشاميين فارس نائب القلعة وكان جرح في القشتيل
في جبينه جراحة أزالت عقله، فلما كنا في أثناء الطريق آخر هذا اليوم
أرسلت علينا السماء من أفواهها عيون الماء، واجتمعت ظلمة الليل إلى
سواد ذلك العماء، فأرسينا هنالك، وقد خفنا أن تحيط بنا المهالك، وأن
تحبط أعمالنا لذلك، فلم يصبح يوم الأحد عاشره إلا وقد شابت رؤوس الجبال
فاكتست عمائم الثلج البيض، وعادت وجوه الرجال من شباب البرد في الطويل
العريض، ثم ابيض السحاب فشابت منه ناصية البحر، وعاد اسوداده واخضراره
فائقاً بياض النحر، فضربتنا الأهواء من بياض الجبال والبحر بشيبين،
وأغرقتنا الأنواء من ماء الغمام والموج بشيبين، وبلينا من قرص الذباب
ورقص الغراب، بأليم العذاب، فعلمت أنه لا يريح من هذه العموم، ويزيح ما
توالى من جيوش الغموم، إلا الأعمال الصالحة، والأقوال الرابحة، ولم
أستحضر فيما سلف لي منها اأرتضيه، فألتجئ إلى ظله وارتجيه، وفهمت من
حديث كعب بن عجرة وغيره أن أسرع الدعاء في القبول، واشده إنقاذاً من
شدة الشدائد الصلاة على الرسول، فلزمتها ليلاً ونهاراً، عشياً وإبكارا
وأرسينا ليلة الاثنين على فنيكة - ومنعنا الهواء من جوازها وهو صعب
العريكة، فبتنا بليلة رأينا فيها من الأهوال ما رأينا، وقاسينا من شديد
الأحوال الذي قاسينا، ريح تكاد والعياذ بالله أن تقلب الغراب، وصيب لا
ينجي منه ستر ولا ثياب، وبرق يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار، وأمواج ما
يمنعها كبر - من الكبر ومثيرها البحر الزخار، فضاقت الصدور من جامعين،
وطارت القلوب من خافضين رافعين، ليل سواده أشد من سواد الغراب، وغراب
أعظم في تقلبه من لاطائر النقاب، ثم انجلت الشمس وطاب الوقت، وابتدانا
في اجتناء ثمرة الصلات من الفوز والنجاة، فسرنا في آخر ليلة الأربعاء
ثالث عشر الشهر نحو القيقبون حتى أدركنا بقية الجيش في المكان الأول،
واجتمعت الآراء على العود إلى الديار المصرية خوفاً من هيجان البحر
وعدم موافقة الرياح - والله المستعان. يوم الأحد ثالث شهر رجب، فاصبحوا
بمنزلة فنيكة وقد تفرقت المراكب لظلمة الليل وقلة الريح، فأقاموا بها
يومين ثم سافروا، فقويت الريح فأرسوا بالجانب الغربي من رأس الشالدون
في منزلة يقال لها قرابالق وقد تفرقت المراكب بحيث لم يعلم أحد خبر أحد
إلى أن هبت الريح فاجتمعوا إلا مركب الأمير إينال الدويدار، وهو
كبيرهم، فأرسلوا من يعرف خبرهم في مركب لطيف فلم يعد الخبر عنه، ثم ظهر
إنه ارسى بمن معه في القيقبون من عدم الريح، فتوجهت الاغربة بأمر أمير
البحر إليه وكان غرابنا فيها، فسرنا بعد أن دفن أمير الشاميين فارس
نائب القلعة وكان جرح في القشتيل في جبينه جراحة أزالت عقله، فلما كنا
في أثناء الطريق آخر هذا اليوم أرسلت علينا السماء من أفواهها عيون
الماء، واجتمعت ظلمة الليل إلى سواد ذلك العماء، فأرسينا هنالك، وقد
خفنا أن تحيط بنا المهالك، وأن تحبط أعمالنا لذلك، فلم يصبح يوم الأحد
عاشره إلا وقد شابت رؤوس الجبال فاكتست عمائم الثلج البيض، وعادت وجوه
الرجال من شباب البرد في الطويل العريض، ثم ابيض السحاب فشابت منه
ناصية البحر، وعاد اسوداده واخضراره فائقاً بياض النحر، فضربتنا
الأهواء من بياض الجبال والبحر بشيبين، وأغرقتنا الأنواء من ماء الغمام
والموج بشيبين، وبلينا من قرص الذباب ورقص الغراب، بأليم العذاب، فعلمت
أنه لا يريح من هذه العموم، ويزيح ما توالى من جيوش الغموم، إلا
الأعمال الصالحة، والأقوال الرابحة، ولم أستحضر فيما سلف لي منها
اأرتضيه، فألتجئ إلى ظله وارتجيه، وفهمت من حديث كعب بن عجرة وغيره أن
أسرع الدعاء في القبول، واشده إنقاذاً من شدة الشدائد الصلاة على
الرسول، فلزمتها ليلاً ونهاراً، عشياً وإبكارا وأرسينا ليلة الاثنين
على فنيكة - ومنعنا الهواء من جوازها وهو صعب العريكة، فبتنا بليلة
رأينا فيها من الأهوال ما رأينا، وقاسينا من شديد الأحوال الذي قاسينا،
ريح تكاد
(4/215)
والعياذ بالله أن تقلب الغراب، وصيب لا
ينجي منه ستر ولا ثياب، وبرق يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار، وأمواج ما
يمنعها كبر - من الكبر ومثيرها البحر الزخار، فضاقت الصدور من جامعين،
وطارت القلوب من خافضين رافعين، ليل سواده أشد من سواد الغراب، وغراب
أعظم في تقلبه من لاطائر النقاب، ثم انجلت الشمس وطاب الوقت، وابتدانا
في اجتناء ثمرة الصلات من الفوز والنجاة، فسرنا في آخر ليلة الأربعاء
ثالث عشر الشهر نحو القيقبون حتى أدركنا بقية الجيش في المكان الأول،
واجتمعت الآراء على العود إلى الديار المصرية خوفاً من هيجان البحر
وعدم موافقة الرياح - والله المستعان.
واتفق وصول أولهم إلى ساحل دمياط في يوم الأربعاء التاسع عشر من شهر
رجب، ووصل الخبر بذلك إلى القاهرة في يوم الجمعة بعد الصلاة، ثم وصل
سودون المحمدي مبشراً بقدومهم فاجتمع بالسلطان في يوم الاحد الثاني
والعشرين منه، ثم تلاحق بقية العسكر، فمنهم من جرته الريح إلى ساحل
دمياط كما تقدم، ومنهم من جرته إلى الإسكندرية، ونزل أكثرهم بساحل
رشيد، ثم دخلوا بحر النيل فاستقبلهم الريح المريسية، فما تكامل مجيئهم
إلا في يوم الأربعاء حادي عشر شعبان، فركبوا جميعاً ومعهم الأسرى
والغنيمة إلى القلعة، وخلع عليهم، واجتمعوا بالسلطان يوم الخميس.
من الحوادث بعد سفر الغزاة
في أواخر جمادى الآخرة قدم زين الدين عبد الباسط الذي كان ناظر الجيش
ومدبر المملكة في سلطنة الأشرف بعد أن استأذن في القدوم إلى السلطان
زائراً، فأذن له فقدم، وهرع الناس إلى تلقيه وبالغوا في ذلك لما ظنوا
من عوده إلى ما كان
(4/216)
عليه، فلما اجتمع بالسلطان خلع عليه وعلى
أولاده الثلاثة، فزينت لهم البلد وأظهروا من الفرح به ما لم يكن في
البال حتى أطبق أكثر الناس على أنهم ما رأوا مثل ذلك اليوم من كثرة
استبشار الناس به، وهرع الناس بعد للسلام عليه وأرجفوا بولايته
وتنافسوا في ذلك، فأقام أياماً ثم استأذن في الزيارة فأذن له، فحصل له
بسط زائد وابتهاج وعاد بغير شيء، ثم تكرر ذلك إلى أن أظهر أنه لا أرب
في ولاية من الولايات وإنما يريد أن يشتي بالقاهرة ويصيف بالشام، فسكت
عنه، ثم بدا له أن يستأذن في الرجوع فأذن له فودع، وسار قبل أن يستهل
رجب، وحصل لأصحاب الوظائف طمأنينة زائدة بعد قلق كثير، لأن كلاً منهم
ما كان يدري ما يؤل أمره معه، وأعطى السلطان لولده الكبير بالشام -
إمرة.
وفيه رافع ولد القاضي شهاب الدين ابن الرسام الذي كان قاضياً بحماة ثم
بحلب، وكان ولده هذا يتقاضى الإشغال بباب والده، ثم توصل إلى التعرف
بالسلطان لما كان في السفرة الأخيرة من دولة الأشرف بحلب، ثم إنه حضر
ورافع في كاتب السر بحلب وهو زين الدين عمر بن شهاب الدين بن السفاح
وفي نائب القلعة ووالي القلعة ومباشر القلعة أنهم استولوا على الحواصل
السلطانية في إمرة تغري برمش الذي كان نائباً بها وخرج لما خلع الملك
العزيز وآل أمره إلى القتل كما تقدم، فاحضر الأربعة مع البريدية وحبسوا
بالبرج، ثم أذن لنائب القلعة تغري برمش الفقيه في محاسبتهم، فتقرر
عليهم خمسة وعشرين ألف دينار وأطلقوا ليحصلوها، واستقر الذي رافع فيهم
في نظر الجيش وكتابة السر جميعاً، وسافر ومعه زوجته ألف بنت القاضي علم
الدين صالح ابن شيخنا البلقيني، فلما كان بعد سفره بعشرة أيام
(4/217)
أعيدت كتابة السر لابن السفاح وأذن له في
السفر..
ذكر من مات
في سنة سبع وأربعين وثمانمائة من الأعيان
ازبك جحا مات مسجونا بقلعة صفد، وكان من خواص الأشرف.
(4/218)
حسن بن عثمان بن الأشقر بدر الدين أخو ناظر
الجيوش محب الدين، وكان قد باشر نظر المرستان نيابة عن أخيه، ثم لما
تولاه في زمن الظاهر جقمق مات في صفر ولم يكمل الستين، وتاسف عليه أخوه
كثيراً، وكان قائماً بأمور أخيه كلها.
علي بن أحمد بن.. بصال الإسكندراني الأصل نور الدين - كان يتعانى
التوقيع في ديوان الإنشاء، واشتغل كثيراً في عدة فنون ولم يكن بالماهر،
وسمع من أبي الفرج ابن الشيخة والشيخ سراج الدين بن الملقن وغيرهما ومن
قبل ذلك، كتب بخطه كثيراً من تصانيف شيخنا المذكور، وحدث باليسير ولازم
مجالس الإملاء عندي نحواً من عشرين سنة، مات ف آخر يوم الأربعاء ثالث
عشري رجب أظنه أكمل السبعين.
خليل السخاوي غرس الدين ناظر الحرمين القدس والخليل، كان عامياً ورقاه
الظاهر جقمق حتى عد من الأعيان، ولم تطل مدته حتى مات ليلة العشرين من
جمادى الأولى وكان يتدين مع كونه عارياً.
صدقة المحرقي فتح الدين ناظر الجوالي، كان ممن رقاه جقمق على عاميته؛
مات في ليلة الخميس سلخ شوال ودفن ظاهر باب الحديد.
(4/219)
فارس أمير السرية التي خرجت من دمشق في
الغزاة إلى رودس فأصابه جراحة، فتضعف منها إلى أن مات في البحر بعد أن
رجعوا - وقد ذكر في رسالة برهان الدين -.
محمد ناصر الدين أبو المعالي بن السلطان الظاهر جقمق، مات في السبت سحر
الثاني عشر من ذي الحجة، وكان مولده في شهر رجب سنة 816، وقرأ القرآن
واشتغل بالعلم وحفظ كتباً ومهر في مدة يسيرة، ونشا في معاشرة أهل
العلم، ولازم الشيخ سعد الدين بن الديري قبل أن يلي القضاء، وتردد إلى
كاتبه، وأخذ عن شمس الدين الكافياجي الرومي وغيره، وكان محباً في العلم
والعلماء، وولي الإمرة بعد سلطنة أبيه بقليل، وجلس راس الميسرة وسكن
الغور
(4/220)
بالقلعة، ووعك في أثناء السنة قدر شهر ثم
عوفي، ثم انتكس في أوائل شوال وأصابه السل، فصار بنقص كل يوم، ثم
انقطعت عنه شهوة الأكل وخرج إلى النزهة في الربيع وهو بتلك الحال فما
رجع إلا وهو كما به، وطرأ عليه الإسهال واستحكم به السل، وهو مع ذلك
يحضر الموكب إلى أن صلى صلاة العيد ونزل إلى بيته بالرميلة فضحى ورجع
واستمر إلى أن مات، لم يتهيأ له أن يوصي، وخلف بنتين وثلاث نسوة
ووالديه، وكان حنفياً لكثرة من يعاشره، ويلازم الشافعية، وكان كثير
البر والبشر، قليل الأذى، كثير الإنكار على ما لا يليق بالشرع، غلا أنه
كان منجمعاً عن الكلام مع والده، وكان يكظم غيظه إلى أن قدرت وفاته -،
فمات شهيداً فمنعهم أبوه من الاعتماد على ذلك، ومنهم من يزعم أنه سقى؛
ولم يثبت شيء من ذلك، ودفن بقرب القلعة بالتربة التي أنشأها قانباي
الجركسي لولده محمد.. وكان من أقرانه، وكانت سيرة الآخر مشكورة، ومات
وله دون الثلاثين.
(4/221)
يحيى بن العباس بن محمد بن أبي بكر
العباسي، وهو ابن الخليفة السلطان المستعين بالله أمير المؤمنين بن
المتوكل بن المعتضد، مات بعد الظهر الثاني عشر من المحرم، وأخرجت
جنازته صبيحة الثالث عشر، ودفن بالصحراء في حوش اتخذه لنفسه فدفن فيه
أولاده، ولم يخلف غير بنتين، ولم يبلغ الأربعين، وكان قد ترشح للخلافة
لما مات عمه المعتضد داود وادعى أن والده عهد إليه، فلم يتم له ذلك،
وكان من خيار الناس، مشكور السيرة، سليماً مما يعاب - رحمه الله! ولم
يخلف ذكراً وخلف مالاً جزيلاً فيما قيل.
جمال الدين بن المجبر التزمنتي.. الشيخ جمال الدين، مات في ليلة الجمعة
خامس عشر شهر رجب، وكان فاضلاً اشتغل كثيراً -، ودار على
(4/222)
الشيوخ، ودرس في أماكن، وناب في الحكم عن
القاضي علم الدين ابن شيخنا البلقيني وكان صديقه، وأظنه جاوز السبعين.
جلال الدين بن شرف الدين عبد الوهاب، الشريف الجعفري الزيني الأسيوطي،
مدرس المدرسة الشريفية بأسيوط، والمدرسة المذكورة إنشاء ابن عم أبيه
زين الدين بن الناظر الاسيوطي، وكان قد ولي الحكم بها مدة.
(4/223)
|