تاريخ ابن الوردي

 (الْفَصْل الأول)

(فِي عَمُود التواريخ الْقَدِيمَة وَذكر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام على التَّرْتِيب)

(آدم وبنيه إِلَى نوح)

من الْكَامِل لِابْنِ الْأَثِير عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن الله تَعَالَى خلق آدم من قَبْضَة قبضهَا من جَمِيع الأَرْض فجَاء بَنو آدم على قدر الأَرْض مِنْهُم الْأسود والأحمر والأبيض وَبَين ذَلِك، وَمِنْهُم السهل والحزن وَبَين ذَلِك.
آدم: أَي من أَدِيم الأَرْض، خلق اللَّهِ جسده وَتَركه أَرْبَعِينَ لَيْلَة وَقيل أَرْبَعِينَ سنة ملقى بِغَيْر روح وَقَالَ الْمَلَائِكَة: {إِذا نفخت فِيهِ من روحي فقعوا لَهُ ساجدين، فَلَمَّا نفخ فِيهِ الرّوح سجد لَهُ الْمَلَائِكَة كلهم أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيس أبي واستكبروا وَكَانَ من الْكَافرين} كبرا وحسدا، فأوقع اللَّهِ على إِبْلِيس اللَّعْنَة والأياس من رَحمته وَجعله شَيْطَانا رجيما وَأخرجه من الْجنَّة، بعد أَن كَانَ ملكا على سَمَاء الدُّنْيَا وَالْأَرْض، وخازنا من خزان الْجنَّة. وأسكن آدم الْجنَّة، ثمَّ خلق من ضلع آدم حَوَّاء زَوجته وَسميت حَوَّاء: لِأَنَّهَا خلقت من شَيْء حَيّ، فَقَالَ اللَّهِ: {يَا آدم اسكن أَنْت وزوجك الْجنَّة وكلا مِنْهَا رغدا حَيْثُ شئتما وَلَا تقربا هَذِه الشَّجَرَة فتكونا من الظَّالِمين} .
ثمَّ أَن إِبْلِيس أَرَادَ دُخُول الْجنَّة ليوسوس لآدَم، فَمَنعه الخزنة، فَعرض نَفسه على دَوَاب الأَرْض أَن تحمله حَتَّى يدْخل الْجنَّة ليكلم آدم وَزَوجته، فَأبى الْجَمِيع ذَلِك إِلَّا الْحَيَّة فأدخلته الْجنَّة بَين نابيها، وَكَانَت الْحَيَّة على غير شكلها الْآن، فوسوس لآدَم وَزَوجته وَحسن عِنْدهم الْأكل من الشَّجَرَة الَّتِي نهاهما اللَّهِ عَنْهَا - وَهِي الْحِنْطَة - وَقدر عِنْدهمَا أَنَّهُمَا إِن أكلا مِنْهَا خلدا وَلم يموتا. فأكلا مِنْهَا فبدت لَهما سوآتهما، فَقَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {اهبطوا بَعْضكُم لبَعض عَدو} آدم وحواء وإبليس والحية، وأهبطهم اللَّهِ من الْجنَّة إِلَى الأَرْض، وسلب آدم وحواء كل مَا كَانَا فِيهِ من النِّعْمَة والكرامة.
وَلما هَبَط آدم إِلَى الأَرْض كَانَ لَهُ ولدان هابيل وقابيل وَيُسمى قابيل قاين أَيْضا، فَقرب كل من هابيل وقابيل قربانا، وَكَانَ قرْبَان هابيل خيرا من قرْبَان قابيل، فَتقبل قرْبَان هابيل وَلم يتَقَبَّل قرْبَان قابيل، فحسده على ذَلِك، وَقتل قابيل هابيل، وَقيل: بل كَانَ لقابيل أُخْت توأم، وَكَانَت أحسن من توأم هابيل، وَأَرَادَ آدم أَن يُزَوّج توأم قابيل بهابيل وتوأم هابيل بقابيل، فَلم يطب لقابيل ذَلِك، وَأخذ قابيل توأمه وهرب بهَا. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .

(1/9)


وَبعد قتل هابيل ولد لآدَم شِيث لمضي مِائَتَيْنِ وَثَلَاثَة سنة من عمر آدم، وَهُوَ وَصِيّ آدم، وَتَفْسِير شِيث: هبة اللَّهِ، وَإِلَى شِيث يَنْتَهِي أَنْسَاب بني آدم كلهم.
وَلما صَار لشيث مِائَتَان وَخمْس سِنِين ولد لَهُ أنوش لمضي أَرْبَعمِائَة وَخمْس وَثَلَاثِينَ سنة من عمر آدم، قَالَت الصابئة: ولد لشيث ابْن آخر اسْمه صابىء وَإِلَيْهِ تنْسب الصائبة وَلما صَار لأنوش مائَة وَتسْعُونَ سنة ولد لَهُ قينان لمضي سِتّمائَة وَخمْس وَعشْرين سنة من عمر آدم. .
وَلما صَار لقينان مائَة وَسَبْعُونَ سنة ولد لَهُ مهلابيل لمضي سَبْعمِائة وَخمْس وَتِسْعين سنة من عمر آدم.
وَلما مضى لمهلاييل مائَة وَخمْس وَثَلَاثُونَ سنة توفّي آدم لمضي تِسْعمائَة وَثَلَاثِينَ سنة من عمره هُوَ جملَة عمره. عَن ابْن الْجَوْزِيّ: أَن آدم عِنْد مَوته بلغ وَلَده وَولد وَلَده أَرْبَعِينَ ألفا. وَلما صَار لمهلاييل مائَة وَخمْس وَسِتُّونَ سنة ولد لَهُ يزدْ - بالزاي الْمُعْجَمَة وَالدَّال الْمُهْملَة.
وَلما صَار ليزد مائَة وَاثْنَتَانِ وَسِتُّونَ سنة ولد لَهُ حنوخ - بِمُهْملَة وبنون ومعجمة -. ولمضي عشْرين سنة من عمر حنوخ توفّي شِيث وعمره تِسْعمائَة واثنتا عشرَة سنة، وَكَانَت وَفَاة شِيث لمضي ألف وَمِائَة واثنتين وَأَرْبَعين لهبوط آدم، وَاسم شِيث عِنْد الصابئة عاديمون.
وَلما صَار لحنوخ مائَة وَخمْس وَسِتُّونَ سنة ولد لَهُ متوشلح - بمثناة فَوق، وَقيل: مُثَلّثَة وَآخره مُهْملَة -.
وَلما مضى من عمر متوشلح ثَلَاث وَخَمْسُونَ سنة توفّي أنوش بن شِيث، وَكَانَ عمر أنوش لما توفّي تِسْعمائَة وَخمسين سنة.
وَلما صَار لمتوشلح مائَة وَسبع وَسِتُّونَ سنة ولد لَهُ لامخ وَيُقَال: لامك ولمك أَيْضا. وَلما مضى إِحْدَى وَسِتُّونَ سنة من عمر لامخ توفّي قينان بن أنوش وعمره تِسْعمائَة وَعشر سِنِين.
وَلما صَار للامخ مائَة وثمان وَثَمَانُونَ سنة ولد لَهُ نوح بعد مُضِيّ ألف وسِتمِائَة واثنتين وَأَرْبَعين سنة من هبوط آدم. وَلما مضى من عمر نوح أَربع وَثَلَاثُونَ سنة توفّي مهلابيل بن قينان، وَعمر مهلاييل لما توفّي ثَمَانمِائَة وَخمْس وَتسْعُونَ سنة. وَلما مضى من عمر نوح مِائَتَان وست وَسِتُّونَ سنة توفّي يزدْ بن مهلابيل وعمره تِسْعمائَة وَاثْنَتَانِ وَسِتُّونَ سنة.
وَأما حنوخ - وَهُوَ إِدْرِيس - فَرفع لما بلغ ثَلَاثمِائَة وخمسا وَسِتِّينَ سنة إِلَى السَّمَاء لمضي ثَلَاث عشرَة سنة من عمر لامخ قبل ولادَة نوح بِمِائَة وَخمْس وَسبعين سنة ونبأ اللَّهِ إِدْرِيس وانكشفت لَهُ الْأَسْرَار السماوية، وَله صحف مِنْهَا: لَا ترموا أَن تحيطوا بِاللَّه خبْرَة فَإِنَّهُ أعظم وَأَعْلَى أَن يُدْرِكهُ بِظَنّ المخلوقون إِلَّا من آثره. ومتوشلح بن حنوخ توفّي لمضي سِتّمائَة سنة من عمر نوح عِنْد ابْتِدَاء مَجِيء الطوفان، وَعمر متوشلح لما توفّي تِسْعمائَة وتسع وَسِتُّونَ سنة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .

(1/10)


وَلما صَار لنوح خَمْسمِائَة سنة ولد لَهُ سَام وَحَام وَيَافث، ولمضي سِتّمائَة من عمر نوح كَانَ الطوفان لمضي أَلفَيْنِ وَمِائَتَيْنِ واثنتين وَأَرْبَعين سنة من هبوط آدم.

(ذكر نوح وَولده)

من الْكَامِل، أرسل نوح إِلَى قومه، وَكَانُوا أهل أوثان على الْأَصَح بِدَلِيل: {لَا تذرن آلِهَتكُم وَلَا تَذَرُون ودا وَلَا سواعا} الْآيَة، وَصَارَ نوح يَدعُوهُم وَلَا يلتفتون، ويخنقونه حَتَّى يغشى عَلَيْهِ فَإِذا أَفَاق قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِر لقومي فَإِنَّهُم لَا يعلمُونَ، وَبَقِي لَا يَأْتِي قرن مِنْهُم إِلَّا أَخبث من الَّذِي قبله، وَكم ضربوه حَتَّى ظنُّوا مَوته فيفيق ويغتسل وَيقبل يَدعُوهُم.
فَلَمَّا طَال عَلَيْهِ شكا إِلَى اللَّهِ فَأوحى إِلَيْهِ: " أَنه لن يُؤمن من قَوْمك إِلَّا من قد آمن " فَلَمَّا يئس مِنْهُم دَعَا عَلَيْهِم {رب لَا تذر على الأَرْض من الْكَافرين ديارًا} . فَأوحى اللَّهِ إِلَيْهِ أَن يصنع السَّفِينَة، وصاروا يسخرون مِنْهُ وَيَقُولُونَ: يَا نوح قد صرت نجارا بعد النُّبُوَّة، صنعها من خشب الساج.
فَلَمَّا فار التَّنور - وَكَانَ هُوَ الْآيَة بَين نوح وَبَين ربه عز وَجل - حمل نوح من أمره اللَّهِ بِحمْلِهِ وَمِنْهُم أَوْلَاده سَام وَحَام وَيَافث وَنِسَاؤُهُمْ، وَقيل: حمل أَيْضا سِتَّة أناسي، وَقيل: ثَمَانِينَ رجلا أحدهم جرهم كلهم من بني شِيث، ثمَّ أَدخل مَا أمره اللَّهِ من الدَّوَابّ، وتخلف عَن نوح ابْنه يام كَافِرًا. وارتفع المَاء وطما. {وَهِي تجْرِي بهم فِي موج كالجبال} وَعلا المَاء على رُؤُوس الْجبَال خَمْسَة عشر ذِرَاعا فَهَلَك مَا على وَجه الأَرْض من حَيَوَان ونبات، وبينما أرسل المَاء وغاض سِتَّة أشهر وَعشر لَيَال، وَقيل: كَانَ ركُوب نوح فِي السَّفِينَة لعشر لَيَال مَضَت من رَجَب لعشر خلت من آب، وَخرج من السَّفِينَة يَوْم عَاشُورَاء من الْمحرم، واستقرت على الجودي من أَرض الْموصل.
قَالَ ابْن الْأَثِير: وَالْمَجُوس لَا يعترفون بالطوفان، وَبَعْضهمْ يزْعم أَنه كَانَ بإقليم بابل وَمَا قرب مِنْهُ وَأَن مسَاكِن ولد جيومرث كَانَت بالمشرق فَلم تصلهم، وَكَذَلِكَ جَمِيع الْأُمَم المشرقية من الْهِنْد وَالْفرس والصين لَا يعترفون بالطوفان وَبَعض الْفرس يَقُول: لم يعم وَلم يَتَعَدَّ عقبَة حلوان.
وَالصَّحِيح: أَن جمع أهل الأَرْض من ولد نوح لقَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلنَا ذُريَّته هم البَاقِينَ} . فَجَمِيع النَّاس من ولد سَام وَحَام وَيَافث أَوْلَاد نوح، فسام أَبُو الْعَرَب وَفَارِس وَالروم، وَحَام أَبُو السودَان، وَيَافث أَبُو التّرْك. ويأجوج وَمَأْجُوج والفرنج والقبط من ولد قوط بن حام، وَولد لحام أَيْضا ماريغ ولماريغ كنعان، وَبَنُو كنعان كَانُوا أَصْحَاب الشَّام حَتَّى غزتهم بَنو إِسْرَائِيل نَقله ابْن سعد.
وَقَالَ ابْن الْأَثِير: بَنو كنعان من ولد سَام، ولسام أَوْلَاد مِنْهُم: لاوذ وللاوذ فَارس، وجرجان، وطسم، وعمليق أَبُو العماليق وَمِنْهُم الْجَبَابِرَة بِالشَّام والفراعنة بِمصْر، وسكنت بَنو طسم الْيَمَامَة إِلَى الْبَحْرين، وَمن ولد سَام أَيْضا أرم بن سَام، ولأرم أَوْلَاد مِنْهُم جاثر، ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .

(1/11)


وَمن ولد جاثر ثَمُود وجديس، وَولد لأرم أَيْضا عوض، وَمن عوض عَاد وَكَانَ كَلَام ولد أرم الْعَرَبيَّة، وسكنت بَنو عَاد الرمل إِلَى حَضرمَوْت، وسكنت ثَمُود الْحجر بَين الْحجاز وَالشَّام.
عدنا إِلَى ذكر من على عَمُود النّسَب من نوح إِلَى إِبْرَاهِيم: ولد لنوح سَام وَحَام وَيَافث لمضي خَمْسمِائَة سنة، والطوفان لستمائة من عمره.
وَولد لسام أرفخشذ لمضي مائَة وَسِتِّينَ من عمر سَام بعد الطوفان بِسنتَيْنِ.
وَلما بلغ أرفخشذ مائَة وخمسا وَثَلَاثِينَ سنة ولد لَهُ قينان، فولادة قينان تكون لمضي مائَة وَسبع وَثَلَاثِينَ سنة للطوفان.
وَلما بلغ قينان مائَة وتسعا وَثَلَاثِينَ ولد لَهُ شالخ، فَتكون ولادَة شالخ لمضي مِائَتَيْنِ وست وَسبعين من الطوفان. وَلما مَضَت سنة ثلثمِائة وَخمسين للطوفان توفّي نوح وعمره تِسْعمائَة وَخَمْسُونَ سنة، فوفاة نوح لمضي أَربع وَسبعين من عمر شالخ.
وَلما بلغ شالخ مائَة وَثَلَاثِينَ سنة لمضي أَرْبَعمِائَة وست سِنِين للطوفان ولد لَهُ غابر.
وَلما بلغ غابر مائَة وأربعا وَثَلَاثِينَ سنة ولد لَهُ فالغ لمضي خَمْسمِائَة وَأَرْبَعين للطوفان. ثمَّ ولد لفالغ أرغو ولفالغ مائَة وَثَلَاثُونَ سنة.
وَعند مولد أرغو تبلبلت الألسن، وَقسمت الأَرْض. وتفرق بَنو نوح، وَذَلِكَ لمضي سِتّمائَة وَسبعين للطوفان.
وَلما صَار لأرغو مِائَتَان وَاثْنَتَانِ وَثَلَاثُونَ ولد لَهُ ساروغ - واسْمه فِي التَّوْرَاة سرُور - وَذَلِكَ لمضي ثَمَانمِائَة وَسِتِّينَ للطوفان.
وَلما صَار لساروغ مائَة وَثَلَاثُونَ سنة ولد لَهُ ناخور لمضي اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة للطوفان.
وَلما صَار لناخور تسع وَسَبْعُونَ سنة ولد لَهُ تارخ لمضي ألف وَإِحْدَى عشرَة سنة للطوفان.
وَلما صَار لتاريخ سَبْعُونَ سنة ولد لَهُ إِبْرَاهِيم الْخَلِيل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لمضي ألف وَإِحْدَى وَثَمَانِينَ للطوفان.
جملَة أَعمار الْمَذْكُورين: عَاشَ سَام سِتّمائَة، فَتكون وَفَاته بعد وَفَاة نوح بِمِائَة وَخمسين سنة. وعاش أرفخشذ أَرْبَعمِائَة وخمسا وَسِتِّينَ. وقينان أَرْبَعمِائَة وَثَلَاثِينَ. وشالخ أَرْبَعمِائَة وَسِتِّينَ. وغابر أَرْبَعمِائَة وأربعا وَسِتِّينَ. وفالغ ثلثمِائة وتسعا وَثَلَاثِينَ سنة. وأرغو ثلثمِائة وتسعا وَثَلَاثِينَ. وساروغ ثلثمِائة وَثَلَاثِينَ. وناخور مِائَتَيْنِ وثمان سِنِين. وتارخ مِائَتَيْنِ وَخمْس سِنِين.
سَبَب تبلبل الْأَلْسِنَة: قَالَ أَبُو عِيسَى: اجْتمع بَنو نوح الناشئون بعد الطوفان على بِنَاء ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .

(1/12)


حصن خوفًا من الطوفان ثَانِيًا وَقَالُوا: نَبْنِي صرحا شامخا يبلغ السَّمَاء، فَجعلُوا لَهُ اثْنَيْنِ وَسبعين برجا على كل برج كَبِير مِنْهُم يستحث على الْعَمَل، فانتقم اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُم وبلبلهم إِلَى لُغَات شَتَّى، وَلم يوافقهم غابر على ذَلِك وَاسْتمرّ على طَاعَة اللَّهِ، فبقاه اللَّهِ على اللُّغَة العبرانية. وَلما افترق بَنو نوح صَار لولد سَام الْعرَاق وَفَارِس وَمَا يَلِي كَذَا إِلَى الْهِنْد، ولولد حام الْجنُوب مِمَّا يَلِي مصر على النّيل ومغربا إِلَى الْمغرب الْأَقْصَى، ولولد يافث مَا يَلِي بَحر الخزر ومشرقا إِلَى جِهَة الصين، وَكَانَت شعوب أَوْلَاد نوح عِنْد تبلبل الْأَلْسِنَة اثْنَيْنِ وَسبعين شعبًا.

(ذكر هود وَصَالح)

نبيان أرسلا بعد نوح وَقبل إِبْرَاهِيم، وَقيل: إِن هودا هُوَ غابر بن شالخ. أرسل اللَّهِ هودا إِلَى عَاد أهل أصنام ثَلَاثَة، وَكَانَت عَاد وَثَمُود جبارين طوَالًا بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {واذْكُرُوا إِذْ جعلكُمْ خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم فِي الْخلق بسطة} . ودعا هود قوم عَاد فَلم يُؤمن مِنْهُم إِلَّا الْقَلِيل،، فَأهْلك اللَّهِ الَّذين لم يُؤمنُوا برِيح سبع لَيَال وَثَمَانِية أَيَّام حسوما أَي دَائِما، فَلم تدع من عَاد أحدا حَتَّى هلك غير هود وَالْمُؤمنِينَ مَعَه فَإِنَّهُم اعتزلوا فِي حَظِيرَة. وَبَقِي هود كَذَلِك حَتَّى مَاتَ وقبره بحضرموت، وَقيل بِحجر مَكَّة.
قيل: من قوم عَاد لُقْمَان غير الْحَكِيم الَّذِي على عهد دَاوُد، وَحصل لعاد قبل هلاكهم جَدب فأرسلوا جمَاعَة مِنْهُم إِلَى مَكَّة يستسقون لَهُم، مِنْهُم لُقْمَان. فَلَمَّا هَلَكت عَاد بَقِي لُقْمَان بِالْحرم، فَقَالَ لَهُ اللَّهِ تَعَالَى: اختر وَلَا سَبِيل إِلَى الخلود، فَقَالَ: يَا رب أَعْطِنِي عمر سَبْعَة أنسر. فَكَانَ يَأْخُذ الفرخ الذّكر حِين يخرج من بيضته حَتَّى مَاتَ أَخذ غَيره، وعاش كل نسر ثَمَانِينَ سنة، وَاسم النسْر السَّابِع لبد، فَلَمَّا مَاتَ لبد مَاتَ لُقْمَان مَعَه. وَقد كثر ذكر هَذَا نظما ونثرا.
وَأرْسل اللَّهِ صَالحا إِلَى ثَمُود، وَهُوَ صَالح بن عبيد بن آسَف بن ماشخ بن عبيد بن جاثر بن ثَمُود، فَدَعَا صَالح قوم ثَمُود - كَانُوا بِالْحجرِ - إِلَى التَّوْحِيد فَلم يُؤمنُوا بِهِ إِلَّا قَلِيل مستضعفون، ثمَّ أَن كفارهم عاهدوه على أَنه إِن أَتَى بِمَا يقترحونه آمنُوا، فاقترحوا أَن يخرج من صَخْرَة مُعينَة نَاقَة ,
فَسَأَلَ صَالح اللَّهِ، فَأخْرج نَاقَة، وَولدت فصيلا. فَلم يُؤمنُوا، وَفِي الآخر عقروها، فأهلكوا بعد ثَلَاثَة أَيَّام بصيحة من السَّمَاء فِيهَا صَوت كل صَاعِقَة، فتقطعت قُلُوبهم فَأَصْبحُوا فِي دِيَارهمْ جاثمين؛ وَسَار صَالح إِلَى فلسطين، ثمَّ إِلَى الْحجاز يعبد اللَّهِ حَتَّى مَاتَ ابْن ثَمَان وَخمسين سنة.

(ذكر إِبْرَاهِيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -)

هُوَ إِبْرَاهِيم بن تارخ - وَهُوَ آزر - بن ناخور بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن غابر بن ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .

(1/13)


شالخ بن أرفخشذ بن سَام بن نوح، وَأسْقط ذكر قينان بن أرفخشذ من عَمُود النّسَب قيل: لِأَنَّهُ كَانَ ساحرا فَقَالُوا: شالخ بن أرفخشذ وبالحقيقة هُوَ شالخ بن قينان بن أرفخشذ. ولد إِبْرَاهِيم بالأهواز، وَقيل: بِبَابِل - وَهِي الْعرَاق -، وَكَانَ آزر أَبوهُ يصنع الْأَصْنَام ويعطيها إِبْرَاهِيم ليبيعها فَيَقُول: من يَشْتَرِي مَا يضرّهُ وَلَا يَنْفَعهُ.
وَلما أَمر إِبْرَاهِيم بِدُعَاء قومه إِلَى التَّوْحِيد دَعَا أَبَاهُ فَلم يجبهُ، ودعا قومه فاتصل أمره بنمروذ بن كوش ملك تِلْكَ الْبِلَاد، وَكَانَ نمروذ عَاملا على سَواد الْعرَاق وَمَا اتَّصل بِهِ للضحاك، وَقيل: كَانَ مُسْتقِلّا. فَرمى نمروذ إِبْرَاهِيم فِي نَار عَظِيمَة فَكَانَت النَّار عَلَيْهِ بردا وَسلَامًا، وَخرج من النَّار بعد أَيَّام، وآمن بِهِ رجال من قومه على خوف من نمروذ، وَآمَنت بِهِ زَوجته سارة بنت عَمه هاران.
ثمَّ أَن إِبْرَاهِيم وَمن آمن مَعَه وأباه - على كفره - هَاجرُوا إِلَى حران مُدَّة؛ ثمَّ سَار إِبْرَاهِيم إِلَى مصر وصاحبها فِرْعَوْن، قيل: اسْمه سِنَان بن علوان، وَقيل: طوليس، فَذكر جمال سارة لفرعون، فأحضرها وَسَأَلَ إِبْرَاهِيم عَنْهَا، فَقَالَ: هَذِه أُخْتِي - يَعْنِي فِي الْإِسْلَام فهم فِرْعَوْن بهَا فأيبس اللَّهِ يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ، فَلَمَّا تخلى عَنْهَا أطلق، ثمَّ هم بهَا فَجرى لَهُ ذَلِك، فَأطلق سارة وَقَالَ: لَا يَنْبَغِي لهَذِهِ أَن تخْدم نَفسهَا فَوَهَبَهَا هَاجر جَارِيَة، فَجَاءَت بهَا إِلَى إِبْرَاهِيم.
ثمَّ سَار إِبْرَاهِيم من مصر إِلَى الشَّام وَأقَام بَين الرملة وإيليا، وَكَانَت سارة لَا تَلد فَوهبت إِبْرَاهِيم هَاجر فَولدت مِنْهُ إِسْمَاعِيل - وَمَعْنَاهُ بالعبراني: مُطِيع اللَّهِ - لمضي سِتّ وَثَمَانِينَ من عمر إِبْرَاهِيم، فحزنت سارة لذَلِك فَوَهَبَهَا اللَّهِ إِسْحَاق، وَلدته سارة بنت تسعين سنة.
وَغَارَتْ سارة من هَاجر وَابْنهَا وَقَالَت: ابْن الْأمة لَا يَرث مَعَ ابْني، وَطلبت من إِبْرَاهِيم إخراجهما عَنْهَا. فَسَار بهما إِلَى الْحجاز وتركهما بِمَكَّة، وَتزَوج إِسْمَاعِيل بِمَكَّة امْرَأَة من جرهم، وَمَاتَتْ أمة بِمَكَّة، وَقدم إِلَيْهِ إِبْرَاهِيم وبنيا الْكَعْبَة - الْبَيْت الْحَرَام -، ثمَّ أمره الله بِذبح وَلَده، وَقيل: إِسْحَاق: وَقيل: إِسْمَاعِيل، وفداه اللَّهِ بكبش. وَكَانَ إِبْرَاهِيم فِي آخر أَيَّام بيوراسب الضَّحَّاك، وَسَيذكر مَعَ الْفرس فِي أول ملك أفريدون، والنمروذ عَامله.
ولإبراهيم أَخَوان هاران وناخور ابْنا آزر، فهاران أولد لوطا، وأولد ناخور تبويل، وأولد تبويل لَا بَان، وأولد لَا بَان ليا وراحيل زَوْجَتي يَعْقُوب.
وَمن زعم أَن الذَّبِيح إِسْحَاق يَقُول: مَوضِع الذّبْح بِالشَّام على ميلين من إيليا - وَهِي بَيت الْمُقَدّس -، وَمن زعم أَنه إِسْمَاعِيل يَقُول: كَانَ بِمَكَّة.
وَاخْتلف فِي الْأُمُور الَّتِي ابتلى اللَّهِ إِبْرَاهِيم بهَا قيل: هِيَ هجرته عَن وَطنه والختان وَذبح ابْنه، وَقيل غير ذَلِك. وَفِي أَيَّام إِبْرَاهِيم توفيت سارة بعد هَاجر وَفِيه خلاف وَتزَوج بعد سارة امْرَأَة من الكنعانيين ولدت من إِبْرَاهِيم سِتَّة، فجملة أَوْلَاده ثَمَانِيَة بِإِسْمَاعِيل. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .

(1/14)


وَإِسْحَاق وَفِيه خلاف. وَتقدم أَن إِبْرَاهِيم ولد لمضي ألف وَإِحْدَى وَثَمَانِينَ من الطوفان.
وَلما صَار لإِبْرَاهِيم مائَة سنة ولد لَهُ إِسْحَاق وَلما صَار لإسحاق سِتُّونَ سنة ولد لَهُ يَعْقُوب. وَلما صَار ليعقوب سِتّ وَثَمَانُونَ ولد لَهُ لاوى. وَلما صَار للاوى سِتّ وَأَرْبَعُونَ ولد لَهُ قاهاث. وَلما صَار لقاهاث ثَلَاث وَسِتُّونَ ولد لَهُ عمرَان. وَلما صَار لعمران سَبْعُونَ ولد لَهُ مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فولادة مُوسَى لمضي أَرْبَعمِائَة وَخمْس وَعشْرين من مولد إِبْرَاهِيم، وعاش مُوسَى مائَة وَعشْرين فَبين. ولادَة إِبْرَاهِيم ووفاة مُوسَى خَمْسمِائَة وَخمْس وَأَرْبَعُونَ سنة.
جملَة أعمارهم: عَاشَ إِبْرَاهِيم مائَة وخمسا وَسبعين، وَإِسْحَاق مائَة وَثَمَانِينَ وَيَعْقُوب مائَة وَسبعا وَأَرْبَعين، ولاوى مائَة وَسبعا وَثَلَاثِينَ؛ وقاهات مائَة وَسبعا وَعشْرين، وَعمْرَان مائَة وستا وَثَلَاثِينَ. وَمَات إِبْرَاهِيم ولإسحاق خمس وَسَبْعُونَ، وَمَات إِسْحَاق وليعقوب مائَة وَعِشْرُونَ، وَمَات يَعْقُوب وللاوى سِتُّونَ، ولاوي ولقاهاث إِحْدَى وَثَمَانُونَ، وقاهاث ولعمران أَربع وَسِتُّونَ، وَعمْرَان ولموسى سِتّ وَسِتُّونَ سنة بِنَاء على أَن جملَة عمر عمرَان مائَة وست وَثَلَاثُونَ.
وَاخْتلف فِي معنى الصُّحُف الْمنزلَة على إِبْرَاهِيم، فَعَن أبي ذَر عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهَا أَمْثَال مِنْهَا: أَيهَا الْمُسَلط الْمَغْرُور إِنِّي لم أَبْعَثك لِتجمع الدُّنْيَا بَعْضهَا على بعض وَلَكِن بَعَثْتُك لِترد عني دَعْوَة الْمَظْلُوم فَإِنِّي لَا أردهَا وَلَو كَانَت من كَافِر، وعَلى الْعَاقِل أَن يكون بَصيرًا بِزَمَانِهِ، مُقبلا على شانه حَافِظًا لِلِسَانِهِ، وَمن عد كَلَامه من عمله قل كَلَامه إِلَّا فِيمَا يعنيه.
وَإِبْرَاهِيم أول من اختتن، وأضاف الضَّيْف، وَلبس السَّرَاوِيل
وَلُوط ابْن أخي إِبْرَاهِيم أَبوهُ هاران بن آزر وَهُوَ تارخ، وَبَاقِي النّسَب مر مَعَ إِبْرَاهِيم. آمن لوط بِعَمِّهِ إِبْرَاهِيم وَهَاجَر مَعَه إِلَى مصر، وَعَاد إِلَى الشَّام وأرسله اللَّهِ إِلَى أهل سدوم - أهل كفر وفاحشة - دعاهم ونهاهم فَلم يلتفتوا، وَكَانُوا يأْتونَ الرِّجَال ويقطعون السَّبِيل ويأتون فِي ناديهم الْمُنكر، كَانَ قطعهم الطَّرِيق إمساكهم الْمُسَافِر واللواط بِهِ.
فَلَمَّا طَال على لوط تماديهم سَأَلَ اللَّهِ النُّصْرَة، فَأرْسل اللَّهِ الْمَلَائِكَة لقلب سدوم وقراها الْخمس، وَكَانَ بسدوم أَرْبَعمِائَة ألف، وقراها: صبغة وعمره وأذمى وصيويم وبالع. وأعلمت الْمَلَائِكَة إِبْرَاهِيم بِمَا أمروا بِهِ من الْخَسْف بِقوم لوط، فَسَأَلَ إِبْرَاهِيم جِبْرِيل فيهم وَقَالَ لَهُ: أَرَأَيْت إِن كَانَ فيهم خَمْسُونَ من الْمُسلمين؟ فَقَالَ جِبْرِيل: إِن كَانَ فيهم خَمْسُونَ لَا نعذبهم. قَالَ إِبْرَاهِيم: وَأَرْبَعُونَ؟ قَالَ: وَأَرْبَعُونَ. قَالَ: وَثَلَاثُونَ؟ قَالَ: وَثَلَاثُونَ. قَالَ إِبْرَاهِيم: وَعشرَة؟ قَالَ جِبْرِيل: وَعشرَة. فَقَالَ إِبْرَاهِيم: إِن هُنَاكَ لوطا؟ فَقَالَ جِبْرِيل وَالْمَلَائِكَة: نَحن أعلم بِمن فِيهَا.
فَلَمَّا وصلت الْمَلَائِكَة إِلَى لوط هم قومه أَن يلوطوا بهم، فأعماهم جِبْرِيل بجناحه وَقَالَت الْمَلَائِكَة للوط، " نَحن رسل رَبك فَأسر بأهلك بِقطع من اللَّيْل وَلَا يلْتَفت مِنْكُم أحد ". فَلَمَّا خرج لوط بأَهْله قَالَ للْمَلَائكَة: أهلكوهم السَّاعَة، فَقَالُوا: لم نؤمر إِلَّا بالصبح ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .

(1/15)


أَلَيْسَ الصُّبْح بقريب. فَلَمَّا كَانَ الصُّبْح قلبت الْمَلَائِكَة سدوم وقراها الْخمس بِمن فِيهَا، وَسمعت امْرَأَة لوط الهدة فَقَالَت: واقوماه! فأدركها حجر فَقَتلهَا. وأمطر اللَّهِ الْحِجَارَة على من لم يكن بالقرى فأهلكهم.
وَولد إِسْمَاعِيل ولإبراهيم سِتّ وَثَمَانُونَ سنة، وَلما صَار لإسماعيل ثَلَاث عشرَة سنة تطهر هُوَ وَأَبوهُ إِبْرَاهِيم. وَلما صَار لإِبْرَاهِيم مائَة سنة وَولد لَهُ إِسْحَاق أخرج إِسْمَاعِيل وَأمه إِلَى مَكَّة، وَسكن مَكَّة مَعَ إِسْمَاعِيل قبائل جرهم كَانُوا قبله بِالْقربِ من مَكَّة فاختلطوا بِهِ، وَتزَوج مِنْهُم ورزق من الجرهمية اثْنَي عشر ولدا.
وَلما أَخذ إِبْرَاهِيم فِي بِنَاء بَيت اللَّهِ وَإِسْمَاعِيل يناوله الْحِجَارَة بِأَمْر اللَّهِ كَانَا كلما بنيا قَالَا: رَبنَا تقبل منا أَنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم. وَكَانَ وقُوف إِبْرَاهِيم على حجر وَهُوَ يَبْنِي وَذَلِكَ الْموضع مقَام إِبْرَاهِيم. وَاسْتمرّ الْبَيْت على مَا بناه حَتَّى هدمته قُرَيْش سنة خمس وَثَلَاثِينَ من مولد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَبِنَاء إِبْرَاهِيم الْكَعْبَة بعد مَا مضى مائَة سنة من عمره، فَبين ذَلِك وَبَين الْهِجْرَة أَلفَانِ وَسَبْعمائة وَثَلَاث وَتسْعُونَ سنة تَقْرِيبًا.
وَأرْسل اللَّهِ إِسْمَاعِيل إِلَى قبائل الْيمن وَإِلَى العماليق، وَزوج إِسْمَاعِيل ابْنَته من ابْن أَخِيه الْعيص بن إِسْحَاق، وعاش إِسْمَاعِيل مائَة وَسَبْعَة وَثَلَاثِينَ سنة، وَمَات بِمَكَّة، وَدفن عِنْد قبر أمه بِالْحجرِ، ووفاة إِسْمَاعِيل بعد وَفَاة إِبْرَاهِيم بثمان وَأَرْبَعين سنة.
ثمَّ أَن إِسْحَاق تزوج ابْنة عَمه فَولدت لَهُ الْعيص وَيَعْقُوب، وَيُقَال ليعقوب إِسْرَائِيل، وأولد الْعيص زَوجته بنت عَمه إِسْمَاعِيل أَوْلَادًا، ونكح يَعْقُوب ليا بنت لابان بن ثبويل بن ناخور بن آزر وَالِد إِبْرَاهِيم فَولدت ليا روبيل أكبر أَوْلَاد يَعْقُوب، ثمَّ شَمْعُون ولاوى ويهوذا، ثمَّ تزوج يَعْقُوب عَلَيْهَا أُخْتهَا راحيل فَولدت لَهُ يُوسُف وبنيامين، وَكَذَلِكَ ولد ليعقوب من سريتين لَهُ سِتَّة أَوْلَاد فَكَانَ بَنو يَعْقُوب اثْنَا عشر هم آبَاء الأسباط، وَأقَام إِسْحَاق بِالشَّام حَتَّى توفّي ابْن مائَة وَثَمَانِينَ، وَدفن عِنْد أَبِيه إِبْرَاهِيم صلوَات اللَّهِ عَلَيْهِم.
أَسمَاء آبَاء الأسباط الإثني عشر: روبيل، ثمَّ شَمْعُون، ثمَّ لاوى، ثمَّ يهوذا، ثمَّ يساخر، ثمَّ زيولون، ثمَّ يُوسُف، ثمَّ بنيامين، ثمَّ دَان، ثمَّ تفتالي، ثمَّ كاذ، ثمَّ أَشَارَ.

(ذكر أَيُّوب عَلَيْهِ السَّلَام)

قد عد من أمة الرّوم لِأَنَّهُ من ولد الْعيص، هُوَ أَيُّوب بن موص بن رازح بن الْعيص بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَزَوْجَة أَيُّوب رَحْمَة.
وَكَانَ لأيوب البثنة من أَعمال دمشق ملكا وأموالا عَظِيمَة، فابتلي بذهاب الْأَمْوَال وبالفقر وَهُوَ على عِبَادَته وشكره، ثمَّ ابْتُلِيَ فِي جسده حَتَّى تجذم ودود مرميا على مزبلة لَا تطاق رَائِحَته، وَرَحْمَة تخدمه صابرة عَلَيْهِ، فتراءى لَهَا إِبْلِيس وأراها مَا ذهب لَهُم وَقَالَ: اسجدي لي لأرد مَا لكم إِلَيْكُم. فاستأذنت أَيُّوب فَغَضب وَحلف ليضربنها مائَة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .

(1/16)


ثمَّ عافاه اللَّهِ ورزقه، ورد إِلَى امْرَأَته شبابها وحسنها وَولدت لأيوب سِتَّة وَعشْرين ذكرا. ثمَّ أمره اللَّهِ أَن يَأْخُذ عرجونا من النّخل فِيهِ مائَة شِمْرَاخ فَيضْرب بِهِ زَوجته ليبر فِي يَمِينه، فَفعل. وَكَانَ أَيُّوب نَبيا فِي عهد يَعْقُوب فِي قَول بَعضهم، وَذكر أَن أَيُّوب عَاشَ ثَلَاثًا وَتِسْعين. وَمن ولد أَيُّوب ابْنه بشر بَعثه اللَّهِ بعد أَيُّوب وَسَماهُ ذَا الكفل، وَكَانَ مقَامه بِالشَّام.

(ذكر يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام)

وَولد ليعقوب يُوسُف وليعقوب إِحْدَى وَتسْعُونَ سنة، وفارقه وعمره ثَمَانِي عشر سنة، وافترقا إِحْدَى وَعشْرين سنة، واجتمعا بِمصْر وَعمر يَعْقُوب مائَة وَثَلَاثُونَ سنة، وبقيا مُجْتَمعين سبع عشرَة سنة، فعمر يُوسُف لما توفّي يَعْقُوب سِتّ وَخَمْسُونَ سنة، وعاش يُوسُف مائَة وَعشر سِنِين، فمولد يُوسُف لمضي مِائَتَيْنِ وَإِحْدَى وَخمسين من مولد إِبْرَاهِيم، ووفاته لمضي ثلثمِائة وَإِحْدَى وَسِتِّينَ من مولد إِبْرَاهِيم، وَتَكون وَفَاة يُوسُف قبل مولد مُوسَى بِأَرْبَع وَسِتِّينَ سنة محققا.
وحسدت يُوسُف إخْوَته لحسنه وَحب أَبِيه لَهُ، وألقوه فِي الْجب وَفِيه مَاء وصخرة فآوى إِلَيْهَا ثَلَاثَة أَيَّام، وَأخرجه السيارة من الْجب وأخذوه مَعَهم، وَجَاء أَخُوهُ يهوذا إِلَيْهِ بِطَعَام فَلم يجده، ثمَّ رَآهُ عِنْد السيارة، فَأخْبر يهوذا إخْوَته فأتوهم وَقَالُوا: هَذَا عَبدنَا أبق منا، وخافهم يُوسُف فَلم يذكر حَاله، فاشتروه من إخْوَته بِثمن بخس - قيل: عشرُون، وَقيل: أَرْبَعُونَ درهما - وذهبوا بِهِ إِلَى مصر فَبَاعَهُ استاذه من الْعَزِيز الَّذِي على خَزَائِن مصر، وَفرْعَوْن مصر حِينَئِذٍ الريان بن الْوَلِيد من العماليق من ولد عملاق بن سَام بن نوح.
وَلما اشْترى الْعَزِيز يُوسُف هويته امْرَأَته راعيل وراودته عَن نَفسهَا، فَأبى وهرب مِنْهَا، وَلَحِقتهُ من خَلفه وأمسكته بِقَمِيصِهِ فأنقد قَمِيصه، وَوصل أَمرهمَا إِلَى زَوجهَا الْعَزِيز وَابْن عَمها تينان، فَظهر لَهما بَرَاءَة يُوسُف وَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي راودته، ثمَّ مَا زَالَت تَشْكُو من يُوسُف إِلَى زَوجهَا وَتقول: أَنه يَقُول للنَّاس أَنِّي راودته عَن نَفسه، وَقد فضحني. حَتَّى حَبسه زَوجهَا سبع سِنِين، ثمَّ أخرجه فِرْعَوْن مصر بِسَبَب تَعْبِيره الرُّؤْيَا.
وَلما مَاتَ الْعَزِيز الَّذِي اشْترى يُوسُف جعل فِرْعَوْن يُوسُف مَوْضِعه على خزائنه كلهَا وَجعل الْقَضَاء إِلَيْهِ وَحكمه نَافِذا، ودعا يُوسُف فِرْعَوْن الريان الْمَذْكُور إِلَى الْإِيمَان، فَآمن. وَبَقِي كَذَلِك إِلَى أَن مَاتَ الريان.
وَملك مصر بعده قَابُوس بن مُصعب من العمالقة أَيْضا وَلم يُؤمن. وَتُوفِّي يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام فِي ملكه بعد أَن وصل إِلَيْهِ أَبوهُ يَعْقُوب وَإِخْوَته جَمِيعهم من أَرض كنعان وَهِي الشَّام بِسَبَب الْمحل، وَاجْتمعَ شملهم سبع عشرَة سنة.
وَمَات يَعْقُوب وَأوصى إِلَى يُوسُف بدفنه مَعَ أَبِيه إِسْحَاق، فَسَار بِهِ وَدَفنه فِي الشَّام عِنْد أَبِيه، وَعَاد إِلَى مصر وَبهَا توفّي وَدفن؛ حَتَّى كَانَ من مُوسَى وَفرْعَوْن مَا كَانَ، فَلَمَّا سَار مُوسَى من مصر ببني إِسْرَائِيل إِلَى التيه نبش يُوسُف وَحمله مَعَه فِي التيه حَتَّى مَاتَ مُوسَى. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .

(1/17)


فَلَمَّا قدم يُوشَع ببني إِسْرَائِيل إِلَى الشَّام دَفنه بِالْقربِ من نابلس، وَقيل: عِنْد الْخَلِيل.
ثمَّ بعث اللَّهِ شعيبا عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى أَصْحَاب الأيكة وَأهل مَدين، قيل: شُعَيْب من ولد إِبْرَاهِيم، وَقيل: من ولد من آمن بإبراهيم. والأيكة: شجر ملتف، فَلم يُؤمنُوا، فأهلكوا بسحابة أمْطرت نَارا يَوْم الظلة، وَأهْلك أهل مَدين بالزلزلة.
ثمَّ أرسل اللَّهِ مُوسَى بن عمرَان بن قاهاث بن لاوى بن يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم نَبيا بشريعة بني إِسْرَائِيل، وَلما ولد كَانَ فِرْعَوْن مصر الْوَلِيد قد أَمر بقتل الْأَطْفَال، فخافت عَلَيْهِ أمه، وَألقى اللَّهِ تَعَالَى فِي قبلهَا أَن تلقيه فِي النّيل، فَجَعَلته فِي تَابُوت وألقته، والتقطته آسِيَة امْرَأَة فِرْعَوْن وربته وَكبر.
فَبينا هُوَ يمشي فِي بعض الْأَيَّام إِذْ وجد إِسْرَائِيلِيًّا وقبطيا يختصمان، فَوَكَزَ القبطي فَقضى عَلَيْهِ. ثمَّ اشْتهر ذَلِك، وَخَافَ من فِرْعَوْن فهرب نَحْو مَدين واتصل بشعيب وزوجه ابْنَته صفورة، وَأقَام يرْعَى غنم شُعَيْب عشر سِنِين.
ثمَّ سَار مُوسَى بأَهْله فِي زمن الشتَاء، وَأَخْطَأ الطَّرِيق وَامْرَأَته حَامِل، فَأَخذهَا الطلق فِي لَيْلَة شَاتِيَة، فَأخْرج زنده ليقدح فَلم تظهر لَهُ نَار وأعيا مِمَّا يقْدَح، فَقَالَ لأَهله: امكثوا {إِنِّي آنست نَارا لعَلي آتيكم مِنْهَا بِخَبَر أَو آتيكم بشهاب قبس لَعَلَّكُمْ تصطلون} . فَلَمَّا دنا مِنْهَا رأى نورا من السَّمَاء إِلَى شَجَرَة عَظِيمَة من العوسج وَقيل: من الْعنَّاب، فتحير مُوسَى وَخَافَ وَرجع، فنودى مِنْهَا، وَلما سمع الصَّوْت استأنس وَعَاد. فَلَمَّا أَتَاهَا نُودي من جَانب الْوَادي الْأَيْمن من الشَّجَرَة: يَا مُوسَى إِنِّي أَنا اللَّهِ رب الْعَالمين. وَلما رأى تِلْكَ الهيبة علم أَنه ربه فخفق قلبه وكل لِسَانه وضعفت منته، ثمَّ شدّ اللَّهِ قلبه، وَلما عَاد عقله نُودي: {فاخلع نعليك إِنَّك بالواد الْمُقَدّس} . وَجعل اللَّهِ عَصَاهُ وَيَده آيَتَيْنِ.
ثمَّ أقبل إِلَى أَهله وَسَار بهم نَحْو مصر حَتَّى أَتَاهُم لَيْلًا، وَاجْتمعَ بِهِ هَارُون وَسَأَلَهُ من أَنْت؟ فَقَالَ: أَنا مُوسَى، فتعارفا واعتنقا. ثمَّ قَالَ مُوسَى: يَا هَارُون أَن اللَّهِ تَعَالَى أرسلنَا إِلَى فِرْعَوْن فَانْطَلق معي إِلَيْهِ. فَقَالَ: سمعا وَطَاعَة. فَانْطَلقَا إِلَيْهِ، وَأرَاهُ مُوسَى عَصَاهُ ثعبانا فاغرا فَاه.
قلت: قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي الْكَشَّاف: كَانَ ثعبانا ذكرا أشعر فاغرا فَاه بَين لحييْهِ ثَمَانُون ذِرَاعا، وضع لحيه الْأَسْفَل على الأَرْض ولحيه الْأَعْلَى على سور الْقصر ثمَّ توجه نَحْو فِرْعَوْن ليأخذه، فَوَثَبَ فِرْعَوْن من سَرِيره وهرب وأحدث وَلم يكن أحدث قبل ذَلِك، وَحمل على النَّاس فانهمزموا وَمَات مِنْهُم خَمْسَة وَعِشْرُونَ ألفا فَقتل بَعضهم بَعْضًا، وَدخل فِرْعَوْن الْبَيْت وَصَاح: يَا مُوسَى خُذْهُ وَأَنا أُؤْمِن بك وَأرْسل مَعَك بني إِسْرَائِيل، فَأَخذه مُوسَى، فَعَاد عَصا وَالله أعلم. ثمَّ أَدخل يَده فِي جيبه، وأخرجها وَهِي بَيْضَاء لَهَا نور تكل مِنْهُ الْأَبْصَار، فَلم يسْتَطع فِرْعَوْن النّظر إِلَيْهَا، ثمَّ ردهَا إِلَى جيبه، وأخرجها فَإِذا هِيَ على لَوْنهَا الأول.
ثمَّ أحضر لَهما فِرْعَوْن السَّحَرَة وَعمِلُوا الْحَيَّات، وَألقى مُوسَى عَصَاهُ فتلقفت ذَلِك وآمن بِهِ السَّحَرَة، فَقَتلهُمْ فِرْعَوْن عَن آخِرهم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .

(1/18)


ثمَّ أَرَاهُم الْآيَات من الْقمل والضفادع وصيروة المَاء دَمًا، فَلم يُؤمن فِرْعَوْن وَلَا أَصْحَابه. وَآخر الْحَال أطلق فِرْعَوْن لبني إِسْرَائِيل مَعَ مُوسَى، ثمَّ نَدم فلحقهم بعسكره عِنْد بَحر القلزم، فَضرب مُوسَى بعصاه الْبَحْر، فانشق وَدخل فِيهِ هُوَ وَبَنُو إِسْرَائِيل، وتبعهم فِرْعَوْن وَجُنُوده، فانطبق الْبَحْر على فِرْعَوْن وَجُنُوده وغرقوا عَن آخِرهم.
وَمن معجزات مُوسَى قصَّته مَعَ قَارون ابْن عَم مُوسَى، رزقه الله مَالا عَظِيما قيل: إِن مَفَاتِيح خزائنه كَانَت حمل أَرْبَعِينَ بغلا، وَبنى دَارا صفحها بِالذَّهَب وأبوابها ذهب، فتكبر قَارون بِمَالِه على مُوسَى، وَاتفقَ مَعَ بني إِسْرَائِيل عَن الْخُرُوج عَن طَاعَته وَجعل لبغي - أَي قحبة - جعلا على أَن تقذف مُوسَى بِنَفسِهَا، ثمَّ أَتَى مُوسَى وَقَالَ: إِن قَوْمك قد اجْتَمعُوا، فَخرج إِلَيْهِم مُوسَى وَقَالَ: من سرق قطعناه، وَمن افترى جلدناه، وَمن زنى رجمناه، فَقَالَ لَهُ قَارون: وَإِن كنت أَنْت؟ قَالَ مُوسَى: نعم، وَإِن كنت أَنا. قَالَ: فَإِن بني إِسْرَائِيل يَزْعمُونَ أَنَّك فجرت بفلانة، قَالَ مُوسَى: فادعوها، فَإِن قَالَت فَهُوَ كَمَا قَالَت. فَلَمَّا جَاءَت قَالَ لَهَا مُوسَى: أَقْسَمت عَلَيْك بِالَّذِي أنزل التَّوْرَاة إِلَّا صدقت {أَنا فعلت بك مَا يَقُول هَؤُلَاءِ؟ قَالَت: لَا كذبُوا، وَلَكِن جعلُوا لي جعلا على أَن أقذفك؛ فَأُوحي اللَّهِ إِلَى مُوسَى: مر الأَرْض بِمَا شِئْت تطعك، فَقَالَ: يَا أَرض خُذِيهِمْ، فَجعل قَارون يَقُول: يَا مُوسَى ارْحَمْنِي، ومُوسَى يَقُول: يَا أَرض خُذِيهِمْ، فابتلعتهم الأَرْض، ثمَّ خسف بهم وبدار قَارون.
وَلما هلك فِرْعَوْن وحنوده قصد مُوسَى الْمسير ببني إِسْرَائِيل إِلَى مَدِينَة الجبارين - أرِيحَا - فَقَالَ بَنو إِسْرَائِيل: (يَا مُوسَى إِن فِيهَا قوما جبارين. وَإِنَّا لن ندْخلهَا حَتَّى يخرجُوا مِنْهَا {فَاذْهَبْ أَنْت وَرَبك فَقَاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} . فَغَضب مُوسَى ودعا عَلَيْهِم فَقَالَ: {رب إِنِّي لَا أملك إِلَّا نَفسِي وَأخي فافرق بَيْننَا وَبَين الْقَوْم الْفَاسِقين} . فَقَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنَّهَا مُحرمَة عَلَيْهِم أَرْبَعِينَ سنة يتيهون فِي الأَرْض} . فبقوا فِي التيه، وَأنزل اللَّهِ عَلَيْهِم الْمَنّ والسلوى.
ثمَّ أوحى إِلَى مُوسَى: إِنِّي متوف هَارُون، فأت بِهِ إِلَى جبل كَذَا. فَانْطَلقَا نَحوه، فَإِذا هما بسرير فَنَامَا عَلَيْهِ، وَأخذ هَارُون الْمَوْت وَرفع إِلَى السَّمَاء، وَرجع مُوسَى إِلَى بني إِسْرَائِيل فَقَالُوا لَهُ: أَنْت قتلت هَارُون لحبنا إِيَّاه، فَقَالَ: وَيحكم أفتروني أقتل أخي} فَلَمَّا أَكْثرُوا عَلَيْهِ سَأَلَ اللَّهِ تَعَالَى، فَأنْزل السرير وَعَلِيهِ هَارُون، وَقَالَ لَهُم: إِنِّي مت وَلم يقتلني مُوسَى.
ثمَّ توفّي مُوسَى، وَاخْتلف فِي صُورَة وَفَاته، قيل: كَانَ هُوَ ويوشع يمشيان فظهرت غمامة سَوْدَاء فخافها يُوشَع واعتنق مُوسَى، فأنسل مُوسَى من قماشه، وَبَقِي يُوشَع معتنق الثِّيَاب، وَعدم مُوسَى، وأتى يُوشَع بالقماش إِلَى بني إِسْرَائِيل فَقَالُوا: أَنْت قتلت مُوسَى ووكلوا بِهِ، فَسَأَلَ اللَّهِ أَن يبين بَرَاءَته فَرَأى كل رجل كَانَ موكلا على يُوشَع فِي مَنَامه أَن يُوشَع لم يقتل مُوسَى فَإنَّا رفعناه إِلَيْنَا، فَتَرَكُوهُ. وَقيل: بل تنبأ يُوشَع وأوحي إِلَيْهِ، وَبَقِي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .

(1/19)


مُوسَى يسْأَله فَلم يُخبرهُ، فَعظم ذَلِك على مُوسَى وَسَأَلَ الْمَوْت فَمَاتَ، وَقيل غير ذَلِك. توفّي فِي التيه فِي سَابِع آذار لمضي ألف وسِتمِائَة وست وَعشْرين من الطوفان فِي أَيَّام منوجهر الْملك، مَاتَ بعد هَارُون أَخِيه بِأحد عشر شهرا، وَهَارُون كَانَ أكبر مِنْهُ بِثَلَاث سِنِين.
ومولد مُوسَى لمضي أَرْبَعمِائَة وَخمْس وَعشْرين من مولد إِبْرَاهِيم، وَبَين وَفَاة إِبْرَاهِيم ومولد مُوسَى مِائَتَان وَخَمْسُونَ سنة، وَولد مُوسَى لمضي ألف وَخَمْسمِائة وست سِنِين من الطوفان، وَكَانَ عمره لما خرج ببني إِسْرَائِيل من مصر ثَمَانِينَ سنة، وَأقَام فِي التيه أَرْبَعِينَ سنة، فَيكون عمره مائَة وَعشْرين سنة.
وَكَانَ بَنو إِسْرَائِيل قبل ان يخرجهم مُوسَى تَحت حكم فَرَاعِنَة مصر رعية لَهُم، وَكَانُوا على بقايا من دينهم الَّذِي شَرعه يَعْقُوب ويوسف، وَأول قدومهم إِلَى مصر لمضي تسع وَثَلَاثِينَ سنة من عمر يُوسُف، فأقاموا فِي مصر بَقِيَّة عمر يُوسُف وَهُوَ إِحْدَى وَسَبْعُونَ، لِأَن عمر يُوسُف مائَة وَعشر سِنِين فَإِذا نقصنا مِنْهَا تسعا وَثَلَاثِينَ بَقِي إِحْدَى وَسَبْعُونَ، وَأَقَامُوا أَيْضا مُدَّة مَا بَين وَفَاة يُوسُف ومولد مُوسَى وَهُوَ أَربع وَسِتُّونَ سنة، وَأَقَامُوا أَيْضا ثَمَانِينَ سنة من عمر مُوسَى حَتَّى خرج بهم، فجملة مقَام بني إِسْرَائِيل بِمصْر حَتَّى أخرجهم مُوسَى مِائَتَيْنِ وَخمْس عشرَة سنة.

(ذكر حكام بني إِسْرَائِيل ثمَّ مُلُوكهمْ)

لما مَاتَ مُوسَى لم يتَمَلَّك على بني إِسْرَائِيل ملك بل سد حكامهم مسد الْمُلُوك إِلَى قيام طالوت فَكَانَ أول مُلُوكهمْ - كَمَا سترى -. قَالَ الْمُؤلف رَحمَه اللَّهِ: وَهَذَا الْفَصْل - فِي حكام بني إِسْرَائِيل وملوكهم - قد كثر الْغَلَط فِيهِ لبعد عَهده ولكونه باللغة بالعبرانية، فتعسر النُّطْق بألفاظه على الصِّحَّة والتواريخ فِي هَذَا الْفَنّ مُخْتَلفَة، وَأما فِي أَسمَاء الْحُكَّام، وَأما فِي عَددهمْ، وَأما فِي مدد استيلائهم. ولليهود الْكتب الْأَرْبَعَة وَالْعشْرُونَ وَهِي عِنْدهم متواترة قديمَة وَلم تعرب إِلَى الْآن، فأحضرت مِنْهَا سَفَرِي قُضَاة بني إِسْرَائِيل وملوكها وأحضرت عَارِفًا بالعبرانية والعربية وَتركته يقْرؤهَا، وأحضرت بهَا ثَلَاث نسخ وكتبت مِنْهَا مَا ظهر عِنْدِي صِحَّته وضبطت الْأَسْمَاء حسب الطَّاقَة.
يُوشَع: لما مَاتَ مُوسَى قَامَ بتدبير بني إِسْرَائِيل يُوشَع بن نون بن البشاماع بن عمهود بن بغدان بن ياحن بن شالخ بن راشف بن رافح بن يريعا ين إفرائيم بن يُوسُف بن يَعْقُوب، وَأقَام بهم فِي التيه ثَلَاثَة أَيَّام، ثمَّ ارتحل بهم إِلَى الشَّرِيعَة بالغور - واسْمه الْأُرْدُن - فِي عَاشر نيسان من سنة وَفَاة مُوسَى، فَلم يجد سَبِيلا للعبور، فَأمر يُوشَع حاملي صندوق الشَّهَادَة الَّذِي فِيهِ الألواح بِأَن ينزلُوا إِلَى حافة الشَّرِيعَة، فوقفت حَتَّى انكشفت أرْضهَا وَعبر بَنو إِسْرَائِيل ثمَّ عَادَتْ الشَّرِيعَة كَمَا كَانَت، وَنزل يُوشَع بهم على أرِيحَا محاصرا لَهَا، وَفِي كل يَوْم يَدُور حولهَا مرّة وَاحِدَة إِلَى السَّابِع أَمر بني إِسْرَائِيل أَن يطوفوا ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .

(1/20)


حول أرِيحَا سبع مَرَّات وَأَن يصوتوا بالقرون، فعندما فعلوا هَبَطت الأسوار ورسخت وتساوت الْخَنَادِق بهَا وَدخل بَنو إِسْرَائِيل أرِيحَا بِالسَّيْفِ وَقتلُوا أَهلهَا.
وَبعدهَا سَار إِلَى نابلس إِلَى الْمَكَان الَّذِي بيع فِيهِ يُوسُف فَدفن عِظَام يُوسُف هُنَاكَ. وَكَانَ مُوسَى قد استخرج يُوسُف من نيل مصر واستصحبه إِلَى التيه، وَبَقِي مَعَهم أَرْبَعِينَ سنة، وتسلمه يُوشَع إِلَى أَن دَفنه فَرَاغه من أرِيحَا. وَملك يُوشَع الشَّام وَفرق فِيهِ عماله، ودبر بني إِسْرَائِيل نَحْو ثَمَان وَعشْرين سنة.
ثمَّ توفّي يُوشَع وَدفن فِي كفر حارس وَله من الْعُمر مائَة وَعشر سِنِين. وَفِي تَارِيخ ابْن سعيد المغربي: أَن يُوشَع مدفون فِي المعرة، فَلَا أعلم أنقل ذَلِك أم أثْبته على مَا هُوَ مَشْهُور الْآن. قَالَ الْمُؤلف رَحمَه اللَّهِ: فَكَانَت وَفَاة يُوشَع سنة ثَمَان وَعشْرين لوفاة مُوسَى.
وَبعد يُوشَع قَامَ بتدبيرهم (فينحاس) بن الْعيزَار بن هَارُون بن عمرَان وكالب بن يوقنا، وَكَانَ فينحاس هُوَ الإِمَام وَهُوَ من سبط يهوذا. وَكَانَ كالب يحكم بَينهم، وَكَانَ أَمرهمَا فِي بني إِسْرَائِيل ضَعِيفا، دَامَ بَنو إِسْرَائِيل كَذَلِك سبع عشرَة سنة.
ثمَّ طغوا فَسلط اللَّهِ عَلَيْهِم " كوشيان " ملك الجزيرة - قيل: قبرس - وَقيل: كَانَ ملك الأرمن، وَهُوَ من ولد الْعيص بن إِسْحَاق. فاستولى على بني إِسْرَائِيل واستعبدهم ثَمَان سِنِين، فاستغاثوا إِلَى اللَّهِ. وَكَانَ لكالب أَخ من أمه اسْمه عثنئال بن قياز فَأَقَامَ كالب أَخَاهُ عثنئال على بني إِسْرَائِيل، فَكَانَ خلاص بني إِسْرَائِيل من كوشيان سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين لوفاة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، لِأَن كوشيان حكم عَلَيْهِم ثَمَان سِنِين.
فينحاس - بفاء ثمَّ مثناة تَحت مُهْملَة، ثمَّ نون سَاكِنة، ثمَّ حاء مُهْملَة، ثمَّ ألف مُهْملَة وسين مُهْملَة -.
ثمَّ قَامَ بعد كوشيان " عثنئال " بن قياز من سبط يهوذا وأزال قطيعة صَاحب الجزيرة عَن بني إِسْرَائِيل وَأصْلح حَالهم، وَكَانَ صَالحا دبر أَمرهم أَرْبَعِينَ سنة، فَتكون وَفَاته فِي أَوَاخِر سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين لوفاة مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. عثنئال - بِعَين مُهْملَة وثاء مُثَلّثَة سَاكِنة وَنون مَكْسُورَة ومثناة تَحت مَهْمُوزَة وَألف وَلَام -.
وَبعده أَكثر بَنو إِسْرَائِيل الْمعاصِي وعبدوا الْأَصْنَام فَسلط عَلَيْهِم " عغلون " ملك ماب من ولد لوط، واستعبدهم فاستغاثوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وبقوا تَحت مضايقته ثَمَان عشرَة سنة، فَيكون خلاصهم مِنْهُ فِي أَوَاخِر عشر وَمِائَة. عغلون - بِعَين مَفْتُوحَة مُهْملَة وَسُكُون الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَضم اللَّام وَسُكُون الْوَاو ثمَّ نون.
ثمَّ أَقَامَ اللَّهِ لَهُم " أهوذ " من سبط بنيامين، فَكف عَنْهُم أذيه عغلون ومضايقته، ودبرهم ثَمَانِينَ سنة، فَتكون وَفَاة أهوذ فِي أَوَاخِر سنة تسعين وَمِائَة لوفاة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام - أهوذ على وزن أقوم وذالة مُعْجمَة _ ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...

(1/21)


وَلما مَاتَ أهوذ قَامَ بتدبيرهم " شمكار " بن عنوث دون سنة، فَتكون ولَايَة شمكار ووفاته سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَمِائَة لوفاة مُوسَى. شمكار - بإهمال الرَّاء بِوَزْن صمصام -.
ثمَّ طغوا فأسلمهم اللَّهِ إِلَى نابين ملك الشَّام فاستبعدهم عشْرين سنة حَتَّى خلصوا مِنْهُ فَيكون خلاصهم مِنْهُ فِي أَوَاخِر سنة إِحْدَى عشرَة وَمِائَتَيْنِ لوفاة مُوسَى. ثمَّ قَامَ فيهم " باراق " بن أبي نعم من سبط تفتالي، وَامْرَأَة اسْمهَا دبورا فقهقرا بَابَيْنِ ودبرا بني إِسْرَائِيل أَرْبَعِينَ سنة، فَتكون انْقِضَاء مدتهما أَوَاخِر سنة إِحْدَى وَخمسين وَمِائَتَيْنِ لوفاة مُوسَى. باراق - بموحدة تَحت وَألف وَرَاء مُهْملَة وَألف وقاف.
ثمَّ أرتكبوا الْمعاصِي بِغَيْر مُدبر لَهُم مِنْهُم سبع سِنِين، وَاسْتولى عَلَيْهِم أعداؤهم من مَدين تِلْكَ الْمدَّة، فَيكون آخر مُدَّة هَذِه الفترة فِي أَوَاخِر سنة ثَمَان وَخمسين وَمِائَتَيْنِ من وَفَاة مُوسَى، فاستغاثوا فَأَقَامَ اللَّهِ فيهم " لذعون " بن نواش فَقتل أعداءهم وأقأم دينهم أَرْبَعِينَ سنة، فَتكون وَفَاته فِي أَوَاخِر سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ لوفاة مُوسَى. لذعون - بذال منقوطة وَعين مُهْملَة بِوَزْن مَنْصُور - ... ... .
ثمَّ قَامَ فيهم بعده ابْنه " أبيمالخ " ثَلَاث سِنِين، فَتكون وَفَاته فِي أَوَاخِر سنة إِحْدَى وثلثمائة لوفاة مُوسَى. أبيمالخ - بِهَمْزَة وباء مُوَحدَة تَحت ومثناة تَحت وَمِيم وَألف وَلَام وخاء مُعْجمَة - ... ... ... ...
ثمَّ قَامَ بعده فيهم " يؤائير " الجرشِي من سبط ششوخر اثْنَتَيْنِ وَعشْرين سنة، فَتكون وَفَاته لمضي ثلثمِائة وَثَلَاث وَعشْرين من وَفَاة مُوسَى. يؤائير - بِضَم الْيَاء الْمُثَنَّاة تَحت وهمزة مَفْتُوحَة وَألف ثمَّ همزَة مَكْسُورَة وياء مثناة وَرَاء مُهْملَة - ... .
ثمَّ ارتكبوا الْمعاصِي فَسلط عليم بَنو عمون من ولد لوط، وملكهم أمونيطو فاستولى عَلَيْهِم ثَمَانِي عشرَة سنة حَتَّى خلصوا مِنْهُ، فَتكون انْقِضَاء مدَّته فِي أَوَاخِر سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وثلثمائة لوفاة مُوسَى.
ثمَّ اسْتَغَاثُوا إِلَى اللَّهِ فَأَقَامَ فيهم " يفتح " الجرشِي من سبط منشا، فكفاهم شَرّ بني عمون وَقتل من بني عمون كثيرا ودبرهم سِتّ سِنِين، فَتكون وَفَاته فِي أَوَاخِر سنة ثَلَاثمِائَة وَسبع وَأَرْبَعين. يفتح - بِضَم الْيَاء الْمُثَنَّاة تَحت وَسُكُون الْفَاء وَضم التَّاء الْمُثَنَّاة فَوق وحاء مُهْملَة - ... ... ...
وَقَامَ فيهم بعده " أبصن " من سبط يهوذا سبع سِنِين، فوفاته فِي أَوَاخِر سنة أَربع وَخمسين وثلثمائة لوفاة مُوسَى. أبصن - بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَضم الصَّاد الْمُهْملَة ثمَّ نون - ... . . وَبعده دبرهم " أيلون " من سبط زيولون عشر سِنِين، فوفاته فِي سنة أَربع وَسِتِّينَ وثلثمائة لوفاة مُوسَى. أيلون - بِهَمْزَة ممدودة مُهْملَة وَضم اللَّام وواو وَنون - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .

(1/22)


وَبعده دبرهم " عبدون " بن هِلَال من سبط أفرائيم بن يُوسُف ثَمَان سِنِين فوفاته سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وثلثمائة لوفاة مُوسَى. عبدون - بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة ودالة مُهْملَة بِوَزْن مَنْصُور.
ثمَّ اخطأوا وعصوا، فَسلط عَلَيْهِم اهل فلسطين واستولوا عَلَيْهِم أَرْبَعِينَ سنة فَيكون آخر اسْتِيلَاء أهل فلسطين عَلَيْهِم فِي أَوَاخِر سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَأَرْبَعمِائَة لوفاة مُوسَى. فاستغاثوا إِلَى اللَّهِ فَأَقَامَ فيهم " شمشون " بن مانوخ من سبط دوف، وَكَانَ لشمشون قُوَّة عَظِيمَة يعرف بشمشون الْجَبَّار، فدافع أهل فلسطين ودبر ملك بني إِسْرَائِيل عشْرين سنة، ثمَّ غَلبه أهل فلسطين وأسروه ودخلوا بِهِ كنيستهم وَكَانَت مركبة على أعمدة، فَأمْسك العواميد وحركها بِقُوَّة حَتَّى وَقعت الْكَنِيسَة فَقتلته وَمن فِيهَا من فلسطين من كبارهم، فانقضاء مُدَّة تَدْبِير شمشون فِي أَوَاخِر سنة اثنيتين وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة لوفاة مُوسَى. وشمشون - بشينين معجمتين بِوَزْن مَنْصُور - ... ...
ثمَّ كَانَت فَتْرَة وصاروا بِغَيْر مُدبر عشر سِنِين، فانقضاء الفترة فِي أَوَاخِر سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة لوفاة مُوسَى.
ثمَّ قَامَ فيهم " غالى " الكاهن، عبد صَالح من ولد أثنامور بن هَارُون بن عمرَان، وَمعنى الكاهن: الإِمَام. فدبرهم أَرْبَعِينَ سنة، وَكَانَ عمره لما ولي ثمانيا وَخمسين سنة، فمدة عمره ثَمَان وَتسْعُونَ سنة، فِي أول سنة من ولَايَته ولد شمويل النَّبِي بقرية سيلو على بَاب الْقُدس، وَفِي الثَّالِثَة وَالْعِشْرين من ولَايَة غالي ولد دَاوُد النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام، فوفاة غالي فِي أَوَاخِر سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة لوفاة مُوسَى.
ثمَّ دبر بني إِسْرَائِيل " شمويل " النَّبِي، وتنبأ بعد الْأَرْبَعين عِنْد وَفَاة غالي إِحْدَى عشرَة سنة، ومنتهى هَذِه الإحدى عشرَة سنة هِيَ آخر سنى حكام بني إِسْرَائِيل وقضاتهم، فكلهم كَانُوا بِمَنْزِلَة الْقُضَاة وسدوا مسد مُلُوكهمْ. وَبعد تَدْبِير شمويل إِحْدَى عشرَة سنة قَامَ لَهُم مُلُوك - كَمَا سنذكر -، فَتكون انْقِضَاء سني حكامهم فِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة لوفاة مُوسَى.
ثمَّ حضر بَنو إِسْرَائِيل إِلَى شمويل وسألوه أَن يُقيم فيهم ملكا، فَأَقَامَ فيهم " شاول "، وَهُوَ طالوت بن قيس من سبط بنيامين، وَكَانَ رَاعيا، وَقيل: سقاءا، وَقيل دباغا، فَملك سنتَيْن واقتتل هُوَ وجالوت - وجالوت من جبابرة الكنعانيين وَكَانَ ملكه بجهات فلسطين كَانَ من الشدَّة وَطول الْقَامَة بمَكَان عَظِيم -، فَلَمَّا برز لِلْقِتَالِ لم يقدم عَلَيْهِ أحد، فَذكر شمويل عَلامَة قَاتل جالوت فَاعْتبر طالوت عسكره فَلم يكن فيهم من يُوَافق الْعَلامَة، وَكَانَ دَاوُد أَصْغَر بني أَبِيه رَاعيا فِي غنم أَبِيه وَإِخْوَته فَطَلَبه طالوت واعتبره شمويل بالعلامة، وَهِي دهن كَانَ يستدير على رَأس من يكون فِيهِ السِّرّ، وأحضر أَيْضا تنور حَدِيد وَقَالَ: الَّذِي يقتل جالوت يكون ملْء هَذَا التَّنور. فَلَمَّا اعْتبر دَاوُد مَلأ التَّنور واستدار الدّهن على رَأسه ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .

(1/23)


فتحققت الْعَلامَة، فَأمره طالوت بمبارزة جالوت. فبارزه وَقتل دَاوُد جالوت وعمره إِذْ ذَاك ثَلَاثُونَ سنة ,.
ثمَّ مَاتَ شمويل فدفنه بَنو إِسْرَائِيل فِي اللَّيْل وناحوا عَلَيْهِ، وَكَانَ عمره اثْنَتَيْنِ وَخمسين سنة، وَمَال النَّاس إِلَى دَاوُد حبا، فحسده طالوت وَقصد قَتله مرّة بعد أُخْرَى، فهرب دَاوُد مِنْهُ وَاحْترز على نَفسه. ثمَّ نَدم طالوت على قصد قَتله وَمَا وَقع مِنْهُ وَأَرَادَ تَكْفِير ذنُوبه بِمَوْتِهِ فِي الْغُزَاة، وَقصد الفلسطينيين وَقَاتلهمْ حَتَّى قتل هُوَ وَأَوْلَاده، فموت طالوت فِي أَوَاخِر سنة خمس وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة لوفاة مُوسَى.
وَبعد قَتله افْتَرَقت الأسباط فَملك على أحد عشر سبطا " أيش يوشت " بن طالوت ثَلَاث سِنِين.
وَانْفَرَدَ سبط يهوذا وَملك عَلَيْهِم " دَاوُد " بن بيشا بن عوفيذ بن بوعر بن سَلمُون بن نحشوف بن عمينندوب بن رم بن مصرون بن بارص بن يهوذا بن يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِم السَّلَام، وحزن دَاوُد على طالوت وَلعن مَوضِع مصرعه. وَكَانَ مقَام دَاوُد بحبرون، فَلَمَّا استوثق لَهُ الْملك وأطاعه كل الأسباط لثمان وَثَلَاثِينَ سنة من عمر دَاوُد انْتقل إِلَى الْقُدس، ثمَّ فتح فِي الشَّام كثيرا، ثمَّ أَرض فلسطين وبلد عمان وماب وحلب ونصيبين وبلاد الأرمن وَغير ذَلِك، وَلما أوقع دَاوُد بِصَاحِب حلب وَعَسْكَره - وَكَانَ صَاحب حماه إِذْ ذَاك اسْمه ثاعو وَكَانَ معاديا لصَاحب حلب - فَأرْسل صَاحب حماه ثاعو وزيره بِالسَّلَامِ وَالدُّعَاء والهدايا إِلَى دَاوُد فَرحا بقتل صَاحب حلب.
وَلما صَار لداود ثَمَان وَخَمْسُونَ سنة وَهِي السّنة الثَّامِنَة وَالْعشْرُونَ من ملكه كَانَت قصَّته مَعَ أوريا وَزَوجته وَهِي مَشْهُورَة. وَفِي سِتِّينَ من عمر دَاوُد خرج عَلَيْهِ ابْنه أبشولوم بن دَاوُد فَقتل وَملك دَاوُد أَرْبَعِينَ سنة وَلما صَار لَهُ سَبْعُونَ سنة توفّي، فوفاته فِي أَوَاخِر سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة لوفاة مُوسَى، وَأوصى بِالْملكِ لِسُلَيْمَان، وأوصاه بعمارة بَيت الْمُقَدّس وَعين لذَلِك عدَّة بيُوت تحتوي على جمل من الذَّهَب.
وَملك بعده " سُلَيْمَان " وعمره اثْنَتَا عشرَة سنة، وآتاه اللَّهِ من الْحِكْمَة وَالْملك مَا أخبر بِهِ فِي كِتَابه الْعَزِيز. وَفِي السّنة الرَّابِعَة من ملكه فِي أيار وَهِي سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة لوفاة مُوسَى ابْتَدَأَ سُلَيْمَان بعمارة بَيت الْمُقَدّس، وَأقَام فِي عِمَارَته لَهُ سبع سِنِين، وَفرغ مِنْهُ فِي الْحَادِيَة عشر من ملكه، فالفراغ من عِمَارَته فِي أَوَاخِر سِتّ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة لوفاة مُوسَى، وَكَانَ ارْتِفَاع الْبَيْت الَّذِي عمره سُلَيْمَان ثَلَاثِينَ ذِرَاعا وَطوله سِتِّينَ فِي عرض عشْرين ذِرَاعا، وَعمل خَارج الْبَيْت سورا محيطا بِهِ امتداده خَمْسمِائَة فِي خَمْسمِائَة، ثمَّ شرع فِي بِنَاء دَار ملكه بالقدس واجتهد وشيدها وفرغها فِي ثَلَاث عشرَة سنة وانتهت فِي الرَّابِعَة وَالْعِشْرين من ملكه. وَفِي الْخَامِسَة وَالْعِشْرين من ملكه جَاءَتْهُ بلقيس ملكه الْيمن وَمن مَعهَا، وأطاعه مُلُوك الأَرْض وحملوا إِلَيْهِ النفائس. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .

(1/24)


وَتُوفِّي وعمره اثْنَتَانِ وَخَمْسُونَ سنة، وَمُدَّة ملكه أَرْبَعُونَ سنة، فوفاته فِي أَوَاخِر خمس وَسبعين وَخَمْسمِائة لوفاة مُوسَى.
وَملك بعده ابْنه " رحبعم " وَكَانَ رَدِيء الشكل شنيع المنظر، فأظهر الصلابة على بني إِسْرَائِيل وَقَالَ لَهُم: أَنا خنصري أغْلظ من ظهر أبي وَمهما كُنْتُم تخشون من أبي فَإِنِّي أعاقبكم بأشد مِنْهُ، فَخرج عَن طَاعَته عشرَة أَسْبَاط وَلم يبْق مَعَه غير سبطي يهوذا وبنيامين. وَملك على الْعشْرَة " بريعم " عبد سُلَيْمَان وَكَانَ كَافِرًا فَاسِقًا. وَاسْتقر لولد دَاوُد الْملك على السبطين فَقَط وعَلى بَيت الْمُقَدّس.
وَصَارَ للأسباط الْعشْرَة مُلُوك تعرف بملوك الأسباط نَحْو مِائَتَيْنِ وَإِحْدَى وَسِتِّينَ سنة، وَكَانَ ولد سُلَيْمَان فِي بني إِسْرَائِيل بِمَنْزِلَة الْخُلَفَاء فِينَا وملوك الأسباط مثل الْخَوَارِج. ولنقدم ذكر بني دَاوُد إِلَى حِين اجْتمعت لَهُم المملكة على جَمِيع الأسباط، ثمَّ نذْكر مُلُوك الأسباط مُتَتَابعين فَنَقُول:
اسْتمرّ رحبعم ملكا للسبطين إِلَى دُخُول السّنة الْخَامِسَة من ملكه فغزاه فِيهَا فِرْعَوْن مصر - واسْمه شيشاق - وَنهب المَال المخلف عَن سُلَيْمَان، وَزَاد رحبعم فِي عمَارَة بَيت لحم وغزة وصور وَغَيرهَا، وجدد أَيْلَة، وَولد لَهُ ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ ابْنا سوى الْبَنَات، وَملك سبع عشرَة سنة، وعاش إِحْدَى وَأَرْبَعين، فوفاته فِي أَوَاخِر سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة لوفاة مُوسَى. رحبعم: بالراء وَضم الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء وَضم الْعين.
وَملك بعده على قَاعِدَته ابْنه " أفيسا " - بِفَتْح الْهمزَة وَكسر الْفَاء العبرانية - ثَلَاث سِنِين فوفاته فِي أَوَاخِر سنة خمس وَتِسْعين وَخَمْسمِائة لوفاة مُوسَى.
وَملك بعده ابْنه " إيشا " أحدى وَأَرْبَعين سنة، خرج عَلَيْهِ عَدو - قيل: من الْحَبَشَة، وَقيل: من الْهِنْد - فَهَزَمَهُ اللَّهِ بَين يَدي إيشا. فوفاته فِي أَوَاخِر سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة لوفاة مُوسَى.
ثمَّ بعده ابْنه " يهوشافاط " خمْسا وَعشْرين سنة، وعمره لما ملك خمس وَثَلَاثُونَ سنة، وَكَانَ صَالحا معتنيا بعلمائهم. وَخرج عَلَيْهِ عَدو من ولد الْعيص فِي جمع عَظِيم، فَافْتتنَ أعداؤه حَتَّى انمحقوا فغنمهم، وَاسْتمرّ ملكا خمْسا وَعشْرين سنة وَتُوفِّي، فوفاته فِي أَوَاخِر سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وسِتمِائَة.
ثمَّ ملك ابْنه " يهورام " - بِالْمُثَنَّاةِ تَحت - بن يهوشافاط، وعمره إِذْ ذَاك اثْنَتَانِ وَثَلَاثُونَ وَملك ثَمَانِي سِنِين فوفاته سنة تسع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة.
ثمَّ ملك ابْنه " أحزياهو " وعمره لما ملك اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ وَملك سنتَيْن فوفاته فِي اواخر سنة إِحْدَى وَسبعين وسِتمِائَة وَهُوَ بِفَتْح الْهمزَة والحاء الْمُهْملَة وَسُكُون الزَّاي وَبعده فَتْرَة سبع سِنِين بِغَيْر ملك حكمت فِيهَا سَاحِرَة أَصْلهَا من جواري سُلَيْمَان اسْمهَا عثلياهو أفنت بني دَاوُد سوى طِفْل اسْمه يواش بن أحزيو أخفوه عَنْهَا. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .

(1/25)


ثمَّ ملك بعْدهَا " يواش " ابْن سبع سِنِين وَفِي السّنة الثَّالِثَة وَالْعِشْرين من ملكه رمم بَيت الْمُقَدّس وَملك أَرْبَعِينَ سنة فوفاته فِي اواخر سنة ثَمَان عشرَة وَسَبْعمائة ويواش بِضَم الْمُثَنَّاة تَحت وشين مُعْجمَة.
ثمَّ ملك بعده ابْنه " أمصياهو " بِسُكُون الصَّاد وَهُوَ ابْن خمس وَعشْرين وَملك تسعا وَعشْرين سنة وَقيل خمس عشرَة وَقتل فموته فِي أَوَاخِر سنة سبع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة لوفاة مُوسَى.
ثمَّ ملك بعده " عزياهو " وَهُوَ ابْن سِتّ عشرَة ملك اثْنَتَيْنِ وَخمسين سنة وبرص وتنغصت أَيَّامه عَلَيْهِ وتغلب عَلَيْهِ ابْنه يوثم فوفاة عزياهو فِي أَوَاخِر سنة تسع وَتِسْعين وَسَبْعمائة لوفاة مُوسَى وَهُوَ بِضَم الْعين وَتَشْديد الزَّاي.
ثمَّ ملك بعده بنه " يوثم " وَهُوَ ابْن خمس وَعشْرين سنة ملك سِتّ عشرَة سنة فوفاته سنة خمس عشرَة وَثَمَانمِائَة " يوثم " بِضَم الْمُثَنَّاة تَحت ثمَّ فتح الْمُثَلَّثَة قيل كَانَ يُونُس فِي أَيَّامه.
وَملك بعد وَفَاته ابْنه " آخر " بِمد الْهمزَة الْمُهْملَة وَبِالْحَاءِ وَالزَّاي وَهُوَ ابْن عشْرين وَملك سِتّ عشرَة سنة وَفِي الرَّابِعَة من ملكه قَصده رصين ملك دمشق و " أشعيا " النَّبِي كَانَ فِي أَيَّامه فبشر آخر بِصَرْف رصين عَنهُ بِغَيْر حَرْب فوفاة آخر فِي أَوَاخِر إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَثَمَانمِائَة.
وَملك بعده ابْنه " حزقيا " بِكَسْر الْحَاء وَالْقَاف وَتَشْديد الْمُثَنَّاة تَحت وَكَانَ صَالحا مظفرا ولدخول السّنة السَّادِسَة من ملكه انقرضت دولة الْخَوَارِج مُلُوك الأسباط وَتقدم ذكرهم ولنذكرهم الْآن مُخْتَصرا إِلَى حِين انْتَهوا فِي السَّادِسَة من ملك حزقيا وَهَؤُلَاء خَرجُوا بعد سُلَيْمَان على رحبعم ابْنه سنة سِتّ وَسبعين وَخَمْسمِائة وانقرضوا سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَثَمَانمِائَة فمدة ملكهم مِائَتَان وَإِحْدَى وَسِتُّونَ سنة وعدتهم سَبْعَة عشر ملكا وهم يربعم ونودب وتعشو وإيلا وزمرا وتبنى وعمرى وأحوب وأحزيو وياهولرام ويهوناحان ويواش ويربعهم وَآخر ويقحو ويافح وهوشاع.
عدنا إِلَى ذكرحزقيا ملك وَهُوَ ابْن عشْرين فرغ عمره قبل مَوته بِخمْس عشرَة سنة فزاده اللَّهِ خمس عشرَة وَأمره أَن يتَزَوَّج وَأخْبرهُ بذلك نَبِي فِي زَمَانه وقصده سنحاريب ملك الجزيرة فخذل وَفتن عسكره فَرجع وَقَتله ابْنَانِ من أَوْلَاده فِي نِينَوَى ثمَّ هربا إِلَى جبال الْموصل ثمَّ إِلَى الْقُدس فَآمَنا بحزقيا واسمهما أرزمالح وسراصر وَملك بعد سنحاريب ابْنه أسرحدون وَكَانَ أشعيا النَّبِي قد أخبر بني إِسْرَائِيل أَن اللَّهِ يَكفهمْ سنحاريب بِغَيْر قتال وَعظم حزقيا وهادنه الْمُلُوك وَتُوفِّي فِي أَوَاخِر سنة سِتِّينَ وَثَمَانمِائَة.
وَملك بعده ابْنه " منشا " وعمره اثْنَتَا عشرَة سنة فطغى وَفسق اثْنَتَيْنِ وَعشْرين سنة وغزاه صَاحب الجزيرة ثمَّ تَابَ تَوْبَة نصُوحًا حَتَّى مَاتَ وَملكه خمس وَخَمْسُونَ سنة فوفاته فِي أَوَاخِر سنة تِسْعمائَة وَخمْس عشرَة سنة. منشا بميم وَنون مَفْتُوحَة وشين مُعْجمَة مُشَدّدَة.
ثمَّ ملك بعده ابْنه " آمون " بِهَمْزَة مُهْملَة سنتَيْن. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .

(1/26)


ثمَّ بعده ابْنه " يوشيا " بِضَم الْمُثَنَّاة تَحت وَسُكُون الْوَاو وَكسر الشين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْمُثَنَّاة تَحت.
ثمَّ بعده ابْنه " يهوياخين " ثَلَاثَة أشهر فغزاه فِرْعَوْن مصر - أَظُنهُ الْأَعْرَج - وأسره إِلَى مصر فَمَاتَ بهَا.
وَملك بعد أسره أَخُوهُ " يهوياقيم " وَفِي السّنة الرَّابِعَة من ملكه تولى بخْتنصر على بابل وَهِي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَتِسْعمِائَة لوفاة مُوسَى، وَذَلِكَ على حكم مَا اجْتمع لنا من مدد ولايات بني إِسْرَائِيل وفتراتهم أما مَا اخْتَارَهُ المؤرخون فَهُوَ: أَن من وَفَاة مُوسَى إِلَى ابْتِدَاء ملك بخْتنصر تِسْعمائَة وثمانيا وَسبعين سنة وَمِائَتَيْنِ وَثَمَانِية وَأَرْبَعين يَوْمًا وَهُوَ يزِيد على مَا اجْتمع لنا من من المدد الْمَذْكُورَة فَوق سِتّ وَعشْرين سنة وَهُوَ تفَاوت قريب، وَكَانَ هَذَا النَّقْص إِنَّمَا حصل من إِسْقَاط الْيَهُود كسور المدد الْمَذْكُورَة إِذْ يبعد أَن يملك الشَّخْص عشْرين سنة أَو تسع عشرَة سنة مثلا بِلَا أشهر وَأَيَّام مَعهَا ولنؤرخ بِولَايَة بخْتنصر مَا بعْدهَا.
كَانَ ابْتِدَاء ولَايَة " بخْتنصر " فِي سنة تسع وَسبعين وَتِسْعمِائَة لوفاة مُوسَى وَفِي السّنة الأولى من ولَايَة بخْتنصر فتح نِينَوَى - مَدِينَة قبالة الْموصل - وَقتل أَهلهَا وخربها وَفِي الرَّابِعَة وَهِي السَّابِعَة من ملك يهوياقيم سَار بخْتنصر إِلَى الشَّام وغزا بني إِسْرَائِيل فأطاعه يهوياقيم فأبقاه على ملكه؛ أطاعه ثَلَاث سِنِين ثمَّ عصى عَلَيْهِ فَأرْسل لإمساكه وأحضر فَمَاتَ فِي الطَّرِيق خوفًا فمدة يهوياقيم نَحْو إِحْدَى عشرَة سنة وانقضاؤها فِي أَوَائِل سنة ثَمَان لابتداء ملك بخْتنصر. ويهوياقيم مثنى الياءات تَحت.
وَلما أَخذ اسْتخْلف ابْنه " يخينو " فَأَقَامَ مائَة يَوْم ثمَّ أرسل بخْتنصر فَأَخذه إِلَى بابل وَهُوَ بِفَتْح الْمُثَنَّاة تَحت وَفتح الْخَاء وَسُكُون النُّون وَضم الْمُثَنَّاة تَحت ثمَّ وَاو وَأخذ بخْتنصر مَعَه جمَاعَة من عُلَمَاء بني إِسْرَائِيل مِنْهُم دانيال وحزقيل النَّبِي من نسل هَارُون وسجن يخنيو إِلَى أَن مَاتَ بخْتنصر.
وَلما أمْسكهُ نصب عَمه " صدقيا " وَاسْتمرّ فِي طَاعَته وَكَانَ أرمياء النَّبِي يعظ صدقيا وَبني إِسْرَائِيل ويهددهم ببختنصر وَلَا يلتفتون وَفِي التَّاسِعَة من ملك صدقيا عصى على بخْتنصر فَنزل بخْتنصر بالجيوش على تارين ورفنية وَبعث بالجيش مَعَ وزيره نبوزراذون بِفَتْح النُّون وَضم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْوَاو وَفتح الزَّاي وَالرَّاء وبالذال الْمُعْجَمَة إِلَى حِصَار صدقيا بالقدس فحاصره سنتَيْن وَنصفا أَولهَا عَاشر تموز من التَّاسِعَة لملك صدقيا وَأخذ بعد حِصَار تِلْكَ الْمدَّة الْقُدس بِالسَّيْفِ وَأسر صدقيا وخلقا من بني إِسْرَائِيل وأحرق الْقُدس وَهدم الْبَيْت الَّذِي بناه سُلَيْمَان وَأحرقهُ وأباد بني إِسْرَائِيل قتلا وتشريدا فَكَانَ مُدَّة ملك صدقيا نَحْو إِحْدَى عشرَة سنة وَهُوَ آخر مُلُوك بني إِسْرَائِيل.
وَأما من تولى مِنْهُم بعد إِعَادَة عمَارَة بَيت الْمُقَدّس كَمَا سَيَأْتِي فَإِنَّمَا كَانَ لَهُ الرياسة بِبَيْت الْمُقَدّس لَا غير فَيكون انْقِضَاء ملك بني إِسْرَائِيل وخراب بَيت الْمُقَدّس على يَد بخْتنصر سنة عشْرين من ولَايَة بخْتنصر تَقْرِيبًا وَهِي التَّاسِعَة وَالتِّسْعُونَ بعد التسْعمائَة لوفاة ... ... . . ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .

(1/27)


مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَهِي أَيْضا سنة ثَلَاث وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة مَضَت من عمَارَة بَيت الْمُقَدّس وَهِي مُدَّة لبثه على الْعِمَارَة وَاسْتمرّ بَيت الْمُقَدّس خرابا سبعين سنة ثمَّ عمر كَمَا سَيَأْتِي، وَإِلَى هُنَا انْتهى نقلنا من كتب الْيَهُود الْمَعْرُوفَة بالأربعة وَالْعِشْرين المتواترة عِنْدهم.
" وَمن تجارب الْأُمَم " لِابْنِ مسكوية: لما غزا بخْتنصر الْقُدس وَخَرَّبَهُ وأباد بني إِسْرَائِيل أَقَامَ مِنْهُم جمَاعَة عِنْد فِرْعَوْن مصر هربا مِنْهُ فطلبهم من فِرْعَوْن مصر وَقَالَ: هَؤُلَاءِ عَبِيدِي. فَلم يسلمهم فِرْعَوْن وَقَالَ، لَيْسُوا بعبيدك وَإِنَّمَا هم أَحْرَار: فقصد بخْتنصر مصر وهرب مِنْهُم جمَاعَة أَيْضا إِلَى الْحجاز وَأَقَامُوا مَعَ الْعَرَب - من كتاب أبي عِيسَى - ثمَّ بعد ذَلِك قصد بخْتنصر صور وحاصرها فَأرْسل أَهلهَا أَمْوَالهم فِي الْبَحْر فَأرْسل اللَّهِ على السفن ريحًا فغرقت وَملك صور بِالسَّيْفِ وَقتل صَاحبهَا وَلم يجد فِيهَا كسبا طائلا ثمَّ سَار بخْتنصر إِلَى مصر وَقَاتل فِرْعَوْن الْأَعْرَج فانتصر بخْتنصر عَلَيْهِ وَقَتله وصلبه وَحَازَ ذخائر مصر وسبى قبط مصر وَغَيرهم وَصَارَت مصر خرابا أَرْبَعِينَ سنة ثمَّ غزا الْمغرب وَعَاد إِلَى بِلَاده بِبَابِل وَسَنذكر أَخْبَار بخْتنصر ووفاته مَعَ الْفرس إِن شَاءَ اللَّهِ تَعَالَى.
" وَأما بَيت الْمُقَدّس " فعمر بعد لبثه على التخريب سبعين سنة عمره بعض مُلُوك الْفرس واسْمه عِنْد الْيَهُود كيرش فَقيل هُوَ دَارا بن بهمن وَقيل هُوَ بهمن وَهُوَ الْأَصَح يشْهد بِصِحَّتِهِ كتاب أشيعا كَمَا سنذكر عِنْد ذكر أزدشير بهمن الْمَذْكُور مَعَ مُلُوك الْفرس فتراجعت إِلَى الْقُدس بَنو إِسْرَائِيل وَكَانَت عِمَارَته فِي أول سنة تسعين لابتداء ولَايَة بخْتنصر.
وَمن جملَة العائدين إِلَى الْمُقَدّس " عُزَيْر " عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ بالعراق وَقدم مَعَه أَلفَانِ أَو يزِيدُونَ من بني إِسْرَائِيل الْعلمَاء وَغَيرهم وترتب مَعَ عُزَيْر بالقدس مائَة وَعِشْرُونَ شَيخا من عُلَمَاء بني إِسْرَائِيل وَكَانَت التَّوْرَاة قد عدمت مِنْهُم إِذْ ذَاك فمثلها اللَّهِ فِي صدر العزير ووضعها لبني إِسْرَائِيل يعرفونها بحلالها وحرامها فَأَحبُّوهُ وَأصْلح أَمرهم وَمن كتب الْيَهُود أَن العزير لبث يدبر بني إِسْرَائِيل فِي الْقُدس حَتَّى توفّي بعد أَرْبَعِينَ سنة لعمارة بَيت الْمُقَدّس فَتكون وَفَاة العزير سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَة لابتداء ولَايَة بخْتنصر واسْمه بالعبراني عزرا من ولد فينحاس بن العزر بن هَارُون بن عمرَان.
وَمِنْهَا أَن الَّذِي تولى رياستهم بعده شَمْعُون الصّديق من نسل هَارُون أَيْضا، وَمن كتاب أبي عِيسَى أَنهم لما تراجعوا إِلَى الْقُدس صَار حكامهم مِنْهُم تَحت حكم الْفرس حَتَّى ظهر الْإِسْكَنْدَر فِي سنة أَرْبَعمِائَة وَخمْس وَثَلَاثِينَ لولاية بخْتنصر، وغلبت اليونان على الْفرس فَدخل بَنو إِسْرَائِيل حِينَئِذٍ تَحت حكم اليونان وَأَقَامُوا ولاتهم مِنْهُم أَيْضا.
وَكَانَ يُقَال للمتولي عَلَيْهِم " هيرذوش " وَقيل هرذوش واستمروا كَذَلِك حَتَّى خرب بَيت الْمُقَدّس الخراب الثَّانِي وتشتت مِنْهُ بَنو إِسْرَائِيل كَمَا سَيذكرُ.
عدنا إِلَى ذكر من كَانَ من الْأَنْبِيَاء فِي أَيَّام بني إِسْرَائِيل ذكر " يُونُس " ابْن مَتى عَلَيْهِ السَّلَام، مَتى أمه. وَلم يشْتَهر نَبِي بِأُمِّهِ غير عِيسَى وَيُونُس عَلَيْهِمَا السَّلَام قيل أَن يُونُس من ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .

(1/28)


بني إِسْرَائِيل وَأَنه من سبط بنيامين وَقيل بعث يُونُس فِي تِلْكَ الْمدَّة إِلَى أهل نِينَوَى قبالة الْموصل بَينهمَا دجلة فنهاهم عَن الْأَصْنَام وأوعدهم بِالْعَذَابِ فِي يَوْم مَعْلُوم إِن لم يتوبوا وَضمن ذَلِك عَن ربه عز وَجل فَلَمَّا أظلهم الْعَذَاب آمنُوا فكشفه اللَّهِ عَنْهُم وَجَاء يُونُس لذَلِك الْيَوْم فَلم ير الْعَذَاب حل وَلَا علم بإيمَانهمْ فَذهب مغاضبا.
قَالَ ابْن سعيد: وَدخل فِي سفينة بدجلة فوقفت السَّفِينَة فَقَالَ رئيسها: فِيكُم من لَهُ ذَنْب، وتساهموا على من يلقونه فِي الْبَحْر فَوَقَعت المساهمة على يُونُس فَرَمَوْهُ فالتقمه الْحُوت وَسَار بِهِ إِلَى الإبلة وَكَانَ من شَأْنه مَا أخبر اللَّهِ بِهِ فِي الْقُرْآن الْعَظِيم.
ذكر " أرميا " تقدم أَن أرميا كَانَ فِي أَيَّام صدقيا وَبَقِي أرميا يَأْمر بني إِسْرَائِيل بِالتَّوْبَةِ ويتهددهم ببختنصر فَلَمَّا لم يرجِعوا فارقهم أرميا واختفى حَتَّى غزاهم بخْتنصر وَخرب الْقُدس كَمَا مر. قَالَ ابْن سعيد: أوحى اللَّهِ إِلَى أرميا أَنِّي عَامر بَيت الْمُقَدّس فَاخْرُج إِلَيْهَا فَخرج إِلَى الْقُدس وَهِي خراب فَقَالَ فِي نَفسه سُبْحَانَ اللَّهِ أَمرنِي اللَّهِ أَن انْزِلْ هَذِه الْبَلدة وَأَخْبرنِي أَنه عامرها فَمَتَى يعمرها وَمَتى يُحْيِيهَا اللَّهِ بعد مَوتهَا فَنَامَ وَمَعَهُ حِمَاره وسلة فِيهَا طَعَام وَكَانَ من قصَّته كَمَا قَالَ اللَّهِ {أَو كَالَّذي مر على قَرْيَة وَهِي خاوية على عروشها قَالَ أَنِّي يحيى هَذِه اللَّهِ بعد مَوتهَا فأماته اللَّهِ مائَة عَام ثمَّ بَعثه} الْآيَة. وَقيل صَاحب هَذِه الْقِصَّة العزير وَالأَصَح أَنه أرميا.
ذكر " نقل التَّوْرَاة " وَغَيرهَا من العبرانية إِلَى اللُّغَة اليونانية من كتاب أبي عِيسَى لما ملك الْإِسْكَنْدَر وَعظم ملك اليونان وقهروا الْفرس أطاعهم بَنو إِسْرَائِيل وَغَيرهم وتولت مُلُوك اليونان بعد الْإِسْكَنْدَر وَكَانَ يُقَال لكل وَاحِد مِنْهُم بطليموس وَذَلِكَ أَن الْإِسْكَنْدَر مَاتَ فَملك بعده بطليموس بن لاغوس ابْن عشْرين سنة ثمَّ ملك بعده بطليموس محب أَخِيه فَوجدَ نَحْو ثَلَاثِينَ ألف أَسِير من الْيَهُود فَأعْتقهُمْ وَأمرهمْ بالعودة إِلَى بِلَادهمْ ففرح بَنو إِسْرَائِيل بذلك وَأرْسل رَسُولا إِلَى بني إِسْرَائِيل المقيمين بالقدس وَطلب مِنْهُم أَن يرسلوا إِلَيْهِ عدَّة من عُلَمَائهمْ لنقل التَّوْرَاة وَغَيرهَا إِلَى اللُّغَة اليونانية فسارعوا إِلَى أمره وازدحموا على الرواح إِلَيْهِ ثمَّ اتَّفقُوا أَن يبعثوا من كل سبط من أسباطهم سِتَّة نفر فبلغوا اثْنَيْنِ وَسبعين رجلا فَلَمَّا وصلوا إِلَى بطليموس أحسن قراهم وصيرهم سِتا وَثَلَاثِينَ فرقة وَخَالف بَين أسباطهم وَأمرهمْ فترجموا لَهُ سِتا وَثَلَاثِينَ نُسْخَة بِالتَّوْرَاةِ وقابل بطليموس بَعْضهَا بِبَعْض فَوَجَدَهَا مستوية لم فترجموا لَهُ سِتا وَثَلَاثِينَ نُسْخَة بِالتَّوْرَاةِ وقابل بطليموس بَعْضهَا بِبَعْض فَوَجَدَهَا مستوية لم تخْتَلف اخْتِلَافا يعْتد بِهِ وَفرق النّسخ الْمَذْكُورَة فِي بِلَاده، وَبعد فراغهم من التَّرْجَمَة وصلهم وجهزهم إِلَى بلدهم وَسَأَلَهُ المذكورون نُسْخَة من تِلْكَ النّسخ فأسعفهم بنسخة وعادوا بهَا إِلَى بَيت الْمُقَدّس.
فنسخة التَّوْرَاة المنقولة لبطليموس حِينَئِذٍ أصح التَّوْرَاة وأثبتها وَقد تقدم ذكرهَا وَذكر نُسْخَة الْيَهُود ونسخة السامرة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .

(1/29)


(ذكر زَكَرِيَّا وَيحيى عَلَيْهِمَا السَّلَام)

قَالَ ابْن سعيد فِي كِتَابه: زَكَرِيَّا من ولد سُلَيْمَان بن دَاوُد نَبِي مَذْكُور فِي الْقُرْآن كَانَ نجارا وَهُوَ الَّذِي كفل مَرْيَم أم عِيسَى وَكَانَت مَرْيَم بنت عمرَان بن ماثان من ولد سُلَيْمَان بن دَاوُد وَأم مَرْيَم اسْمهَا حنه وَكَانَ زَكَرِيَّا متزوجا أُخْت حنه وَاسْمهَا إيساع فَكَانَت زوج زَكَرِيَّا خَالَة مَرْيَم وَلذَلِك كفل مَرْيَم فَلَمَّا كَبرت بنى لَهَا زَكَرِيَّا غرفَة فِي الْمَسْجِد وانقطعت فِيهَا لِلْعِبَادَةِ وَكَانَ لَا يدْخل على مَرْيَم غير زَكَرِيَّا وَأرْسل اللَّهِ جِبْرِيل فبشر زَكَرِيَّا بيحيي مُصدقا بِكَلِمَة من اللَّهِ يَعْنِي عِيسَى ابْن مَرْيَم ثمَّ أرسل جِبْرِيل وَنفخ فِي جيب مَرْيَم فَحملت بِعِيسَى وَكَانَت قد حملت خَالَتهَا إساع بِيَحْيَى وَولد يحيى قبل الْمَسِيح بِسِتَّة أشهر ثمَّ ولدت مَرْيَم عِيسَى وَعلمت الْيَهُود ولادَة مَرْيَم لعيسى من غير بعل فاتهموا بهَا زَكَرِيَّا فهرب واختفى فِي شَجَرَة عَظِيمَة فَقطعُوا الشَّجَرَة وَقَطعُوا زَكَرِيَّا مَعهَا وَكَانَ عمره نَحْو مائَة سنة. ولد الْمَسِيح لمضي ثلثمِائة وَثَلَاث سِنِين للإسكندر.
وَقتل زَكَرِيَّا بعد وِلَادَته فَيكون مقتل زَكَرِيَّا بعده بِقَلِيل " وَيحيى " ابْنه نبىء صَغِيرا ودعا إِلَى عبَادَة اللَّهِ تَعَالَى وَلبس الشّعْر واجتهد حَتَّى نحل وَكَانَ عِيسَى قد حرم نِكَاح بنت الْأَخ وَكَانَ لهردوس الْحَاكِم على بني إِسْرَائِيل بنت أَخ أَرَادَ أَن يَتَزَوَّجهَا حَسْبَمَا هُوَ جَائِز فِي دين الْيَهُود فَنَهَاهُ يحيى فطلبت أم الْبِنْت من هردوس قتل يحيى فَامْتنعَ فعاودته هِيَ وَالْبِنْت وألحت فَأمر بِيَحْيَى فذبح لديهما قبل رفع الْمَسِيح بِمدَّة يسيرَة لِأَن عِيسَى ابْتَدَأَ بالدعوة وَله ثَلَاثُونَ سنة وَلما أمره اللَّهِ ان يَدْعُو النَّاس إِلَى دين النَّصَارَى غمسه يحيى فِي نهر الْأُرْدُن ولعيسى نَحْو ثَلَاثِينَ سنة وَخرج من الغمس وابتدأ بالدعوة وَجَمِيع مَا لبث الْمَسِيح بعد ذَلِك ثَلَاث سِنِين فذبح يحيى كَانَ بعد مُضِيّ ثَلَاثِينَ سنة من عمر عِيسَى وَقيل رَفعه وَرفع عِيسَى بعد نبوته بِثَلَاث سِنِين وَالنَّصَارَى تسمي يحيى يوحنا المعمدان لكَونه عمد الْمَسِيح.

(ذكر عِيسَى ابْن مَرْيَم عَلَيْهِمَا السَّلَام)

مَرْيَم أمهَا حنه زوج عمرَان كَانَت حنه لَا تَلد واشتهت الْوَلَد فدعَتْ ونذرت إِن رزقت ولدا جعلته من سدنة بَيت الْمُقَدّس فَحملت حنه وَهلك زَوجهَا عمرَان وَهِي حَامِل فَولدت بِنْتا سمتها مَرْيَم مَعْنَاهُ العابدة ثمَّ حملتها وَأَتَتْ بهَا الْمَسْجِد ووضعتها عِنْد الْأَخْبَار وَقَالَت دونكم هَذِه الْمَنْذُورَة فتنافسوا فِيهَا لِأَنَّهَا بنت عمرَان وَكَانَ من أئمتهم فَقَالَ زَكَرِيَّا أَنا أَحَق بهَا لِأَن خَالَتهَا زَوْجَتي فَأخذ زَكَرِيَّا وَضمّهَا إِلَى إيساع خَالَتهَا وَكَانَ مَا قدمْنَاهُ، وَولدت مَرْيَم عِيسَى فِي بَيت لحم سنة أَربع وثلثمائة لغَلَبَة الْإِسْكَنْدَر.
{فَأَتَت بِهِ قَومهَا تحمله قَالُوا يَا مَرْيَم لقد جِئْت شَيْئا فريا} وَأخذُوا الْحِجَارَة ليرجموها فَتكلم عِيسَى وَهُوَ فِي المهد مُعَلّقا فِي منكبها {قَالَ إِنِّي عبد اللَّهِ آتَانِي الْكتاب وَجَعَلَنِي نَبيا} فَلَمَّا سمعُوا كَلَام ابْنهَا تركوها ثمَّ أَخَذته مَرْيَم وسارت بِهِ إِلَى مصر مَعَ ابْن عَمها يُوسُف النجار بن يَعْقُوب بن ماثان وَكَانَ نجارا حكيما وَيَزْعُم بَعضهم أَن يُوسُف كَانَ تزوج مَرْيَم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .

(1/30)


لَكِن لم يقربهَا وَهُوَ أول من أنكر حملهَا ثمَّ تحقق براءتها وَسَار مَعهَا إِلَى مصر وَأَقَامَا هُنَاكَ اثْنَتَيْ عشرَة سنة.
ثمَّ عَاد عِيسَى وَأمه إِلَى الشَّام وَنزلا الناصرة وَبهَا سميت النَّصَارَى أَقَامَ بهَا حَتَّى بلغ ثَلَاثِينَ سنة فَأرْسل.
من كتاب أبي عِيسَى: لما صَار لَهُ ثَلَاثُونَ سَار إِلَى الْأُرْدُن وَهُوَ شَرِيعَة الْغَوْر فاعتمد وابتدأ بالدعوة ولستة أَيَّام خلت من كانون الثَّانِي لمضي ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وثلثمائة للإسكندر، وَأظْهر عِيسَى المعجزات فأحيا عازر بعد ثَلَاثَة أَيَّام من مَوته وَجعل من الطين طيرا قيل هُوَ الخفاش وَأَبْرَأ الأكمة والأبرص وَمَشى على المَاء وَأنزل اللَّهِ عَلَيْهِ الْمَائِدَة وَأوحى إِلَيْهِ الْإِنْجِيل.
من كتاب ابْن سعيد المغربي: لبس عِيسَى الصُّوف وَالشعر وَأكل من نَبَات الأَرْض، وَرُبمَا تقوت من غزل أمه والحواريون الَّذين اتَّبعُوهُ اثْنَا عشر وهم: شَمْعُون الصَّفَا وشمعون القناني وَيَعْقُوب بن زندي وَيَعْقُوب بن حلقي وقولوس ومارقوس وأندراوس وتمريلا ويوحنا ولوقا وتوما وَمَتى، وَهَؤُلَاء هم سَأَلُوهُ نزُول الْمَائِدَة فَسَأَلَ ربه فأنزلها سفرة حَمْرَاء مغطاة بمنديل فِيهَا سَمَكَة مشوية وحولها الْبُقُول مَا خلا الكراث وَعند رَأسهَا الْملح وَعند ذنبها خل وَمَعَهَا خَمْسَة أرغفة على بَعْضهَا زيتون وعَلى بَاقِيهَا رمان وتمر فَأكل مِنْهَا خلق كثير وَلم تنقص وَلم يَأْكُل مِنْهَا ذُو عاهة إِلَّا برأَ كَانَت تنزل يَوْمًا وتغيب يَوْمًا أَرْبَعِينَ لَيْلَة.
قَالَ ابْن سعيد: وَلما أعلم اللَّهِ الْمَسِيح أَنه خَارج من الدُّنْيَا جزع من ذَلِك فَدَعَا الحواريين وصنع لَهُم طَعَاما وَقَالَ لَهُم احضروني اللَّيْلَة فَإِن بِي إِلَيْكُم حَاجَة فَلَمَّا اجْتَمعُوا بِاللَّيْلِ عشاهم وَقَامَ يخدمهم فَلَمَّا فرغوا من الطَّعَام أَخذ يغسل أَيْديهم ويمسحها بثيابه فتعاظموا ذَلِك فَقَالَ: من رد عَليّ شَيْئا مِمَّا أصنع فَلَيْسَ مني فَتَرَكُوهُ حَتَّى إِذا فرغ قَالَ: إِنَّمَا فعلت ذَلِك ليَكُون لكم إسوة بِي فِي خدمَة بَعْضكُم بَعْضًا وَأما حَاجَتي إِلَيْكُم فَإِن تجتهدوا لي فِي الدُّعَاء إِلَى اللَّهِ أَن يُؤَخر أَجلي فَلَمَّا أَرَادوا ذَلِك ألْقى اللَّهِ عَلَيْهِم النّوم حَتَّى لم يستطيعوا الدُّعَاء وَجعل الْمَسِيح يوقظهم ويؤنبهم فَلَا يزدادون إِلَّا نوما وتكاسلا وأعلموه أَنهم مغلوبون عَن ذَلِك فَقَالَ الْمَسِيح: سُبْحَانَ اللَّهِ يذهب بالراعي فتتفرق الْغنم.
ثمَّ قَالَ لَهُم: الْحق أَقُول لكم ليكفرن بِي أحدكُم قبل أَن يَصِيح الديك وليبيعني أحدكُم بدارهم يسيرَة ويأكلن ثمني، وَكَانَت الْيَهُود قد جدت فِي طلبه فَحَضَرَ بعض الحواريين إِلَى هرودس الْحَاكِم على الْيَهُود وَإِلَى جمَاعَة من الْيَهُود وَقَالَ: مَا تَجْعَلُونَ لي إِذا دللتكم على الْمَسِيح، فَجعلُوا لَهُ ثَلَاثِينَ درهما فَأَخذهَا ودلهم عَلَيْهِ فَرفع اللَّهِ تَعَالَى الْمَسِيح إِلَيْهِ وَألقى شبهه على الَّذِي دلهم عَلَيْهِ وَاخْتلف الْعلمَاء فِي مَوته قبل رَفعه فَقيل رفع وَلم يمت وَقيل توفاه اللَّهِ ثَلَاث سَاعَات وَقيل سبع سَاعَات ثمَّ أَحْيَاهُ وَتَأَول قَائِل هَذَا قَوْله تَعَالَى {إِنِّي متوفيك} وربط الْيَهُود الشَّخْص الْمُشبه بِهِ وقادوه بِحَبل وَيَقُولُونَ لَهُ أَنْت كنت تحيي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .

(1/31)


الْمَوْتَى أَفلا تخلص نَفسك من هَذَا الْحَبل ويبصقون فِي وَجهه ويلقون عَلَيْهِ الشوك وصلبوه على الْخشب سِتّ سَاعَات.
ثمَّ استوهبه يُوسُف النجار من الْحَاكِم الَّذِي كَانَ على الْيَهُود واسْمه فيلاطون ولقبه هردوس وَدَفنه يُوسُف فِي قبر كَانَ يُوسُف قد أعده لنَفسِهِ.
وَأنزل اللَّهِ الْمَسِيح من السَّمَاء إِلَى أمه مَرْيَم وَهِي تبْكي فَقَالَ لَهَا: إِن اللَّهِ رفعني إِلَيْهِ وَلم يُصِبْنِي إِلَّا الْخَيْر وأمرها فَجمعت لَهُ الحواريين فبثهم فِي الأَرْض رسلًا عَن اللَّهِ وَأمرهمْ أَن يبلغُوا عَنهُ مَا أمره اللَّهِ بِهِ ثمَّ رَفعه اللَّهِ إِلَيْهِ وتفرق الحواريون حَيْثُ أَمرهم وَكَانَ رَفعه لمضي ثلثمِائة وست وَثَلَاثِينَ سنة من غَلَبَة الْإِسْكَنْدَر على دَارا.
قَالَ الشهرستاني: ثمَّ أَن أَرْبَعَة من الحواريين مَتى ولوقا وبرقس ويوحنا اجْتَمعُوا وَجمع كل وَاحِد مِنْهُم إنجيلا، وخاتمة إنجيل مَتى أَن الْمَسِيح قَالَ: إِنِّي أرسلتكم إِلَى الْأُمَم كَمَا أَرْسلنِي أبي إِلَيْكُم فاذهبوا وَادعوا الْأُمَم باسم الْأَب والإبن وروح الْقُدس.
قلت: تَعَالَى اللَّهِ عَن ذَلِك علوا كَبِيرا وَكَانَ بَين رفع الْمَسِيح ومولد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَمْسمِائَة وَخمْس وَأَرْبَعُونَ سنة تَقْرِيبًا وَكَانَت ولادَة الْمَسِيح أَيْضا لمضي ثَلَاث وَثَلَاثِينَ سنة من أول ملك أغسطس ولمضي إِحْدَى وَعشْرين سنة من غلبته على قلوبطرا لِأَن أغسطس لمضي اثْنَتَيْ عشرَة سنة من ملكه سَار من رُومِية وَملك ديار مصر وَقتل قلوابطرا ملكه اليونان وَبعد إِحْدَى وَعشْرين سنة من غلبته على قلوبطرا ولد الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام وَقيل غير ذَلِك لَكِن هَذَا الْأَقْوَى، وَمُدَّة ملك أغسطس ثَلَاث وَأَرْبَعُونَ سنة وعاش الْمَسِيح إِلَى أَن رفع ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سنة وَثَلَاثَة سنة وَثَلَاثَة أشهر فَيكون رفع الْمَسِيح بعد موت أغسطس بِثَلَاث وَعشْرين سنة فِي أَوَاخِر السّنة من ملك غانيوس وَسَنذكر أمة عِيسَى النَّصَارَى مَعَ بَاقِي الْأُمَم فِي الْفَصْل الْخَامِس.
وَمَرْيَم أم عِيسَى عاشت نَحْو ثَلَاث وَخمسين سنة حملت بالمسيح وَلها ثَلَاث عشرَة سنة وَعَاشَتْ مجتمعه مَعَه ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سنة وكسرا وَبقيت بعد رَفعه سِتّ سِنِين.
وَاعْلَم أَنه لما ظهر الْمَسِيح أَرَادَ هردوس قَتله وَاسم هردوس فيلاطوس فَرفع وَجرى مَا تقدم ذكره وَكَانَ عمر الْمَسِيح عِنْد موت أغسطس عشر سِنِين تَقْرِيبًا وَرَفعه بعد موت أغسطس بِنَحْوِ ثَلَاث وَعشْرين سنة وَالَّذِي ملك بعد أغسطس طيباريوس اثْنَتَيْنِ وَعشْرين سنة ثمَّ غانيوس أَربع سِنِين ثمَّ فلوذيوس أَربع عشرَة سنة ثمَّ يارون ثَلَاث عشرَة سنة.
ثمَّ ملك آخر قيل اسْمه أوشاسبانوس وَقيل أسفسيشوس عشر سِنِين.
ثمَّ ملك بعده طيطوس، وَفِي السّنة الأولى من ملكه قصد بَيت الْمُقَدّس وأوقع باليهود وقتلهم وأسرهم عَن آخِرهم إِلَّا من اختفى وَنهب الْقُدس وأحرق الهيكل واحرق كتبهمْ وخلا الْقُدس من بني إِسْرَائِيل كَأَن لم تغن بالْأَمْس وَلم تعد لَهُم بعد ذَلِك رياسة وَلَا حكم وَذَلِكَ بعد رفع الْمَسِيح بِنَحْوِ أَرْبَعِينَ سنة فخرب بَيت الْمُقَدّس ثَانِيًا وتشتت الْيَهُود التشتت ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .

(1/32)


الَّذِي لم يعودوا بعده لأربعين سنة من رفع الْمَسِيح ولثلثمائة وست وَسبعين من غَلَبَة الْإِسْكَنْدَر ولثمانمائة وَإِحْدَى عشرَة لابتداء ملك بخْتنصر فَلبث بَيت الْمُقَدّس على عِمَارَته الأولى كَذَلِك إِلَى أَن خربه بخْتنصر أَرْبَعمِائَة وَثَلَاثًا وَخمسين سنة ثمَّ لبث على التخريب سبعين سنة ثمَّ عمر ولبث على عِمَارَته الثَّانِيَة إِلَى حِين خربه طيطوس التخريب الثَّانِي سَبْعمِائة وَإِحْدَى وَعشْرين سنة، وَفِي العزيزي لِلْحسنِ بن أَحْمد المهلبي فِي المسالك والممالك أَن بَيت الْمُقَدّس بعد أَن خربه طيطوس ثَانِيًا كَمَا مر تراجع إِلَى الْعِمَارَة قَلِيلا قَلِيلا وترمم وَاسْتمرّ عَامِرًا وَهِي عِمَارَته الثَّالِثَة حَتَّى سَارَتْ هيلانة أم قسطنطين إِلَى الْقُدس فِي طلب خَشَبَة الْمَسِيح الَّتِي زعم النَّصَارَى صلب الْمَسِيح عَلَيْهَا.
وَلما وصلت إِلَى الْقُدس بنت كَنِيسَة قمامة على الْقَبْر الَّذِي زعم النَّصَارَى أَنه قبر عِيسَى وَخَربَتْ هيكل بَيت الْمُقَدّس وَأمرت أَن تلقى فِيهِ قمامات الْبَلَد وزبالته فَصَارَ مَوضِع الصَّخْرَة مزبلة.
وَبَقِي كَذَلِك حَتَّى قدم عمر بن الْخطاب رَضِي اللَّهِ عَنهُ وَفتح الْقُدس فدله بَعضهم على مَوضِع الهيكل فنظفه عمر من الزبائل وَبنى بِهِ مَسْجِدا إِلَى أَن تولى الْوَلِيد بن عبد الْملك فهدم الْمَسْجِد وَبنى على الأساس الْقَدِيم الْمَسْجِد الْأَقْصَى وقبة الصَّخْرَة وَبنى هُنَاكَ قبابا أَيْضا سمى بَعْضهَا قبَّة الْمِيزَان وَبَعضهَا قبَّة الْمِعْرَاج وَبَعضهَا قبَّة السلسلة وَالْأَمر على ذَلِك إِلَى يَوْمنَا هَذَا.
وخلاصة مَا ذكر أَن هيكل بَيت الْمُقَدّس عمره سُلَيْمَان وَبَقِي حَتَّى خربه بخْتنصر أَولا ثمَّ عمره كورش ثَانِيًا وَبَقِي حَتَّى خربه طيطوس ثَانِيًا ثمَّ تراجع للعمارة قَلِيلا قَلِيلا حَتَّى خربته هيلانة أم قسطنطين ثَالِثا ثمَّ عمره عمر رَضِي اللَّهِ عَنهُ رَابِعا ثمَّ خرب وعمره الْوَلِيد خَامِس عمَارَة وَهِي إِلَى الْآن. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .

(1/33)