تاريخ ابن الوردي
(الْفَصْل الثَّانِي)
(فِي ذكر مُلُوك الْفرس)
كَانُوا أعظم مُلُوك الأَرْض قَدِيما وترتيبهم لَا يماثلهم غَيرهم
فِيهِ وهم أَربع طَبَقَات
طبقَة أولى: يُقَال لَهَا الفيشدادية لِأَن كل وَاحِد مِنْهُم يُقَال
لَهُ فيشداد وَمَعْنَاهُ أول سيرة الْعدْل وهم تِسْعَة أوشهنج وطهمورث
وجمشيذ وبيوراسب وَهُوَ الضَّحَّاك وأفريدون بن القيان ومنوجهر
وأفراسياب وكرشاسب وزو، هذهه طبقَة قديمَة.
وطبقة ثَانِيَة: يُقَال لَهُم الكيانية أَي فِي أول أسمائهم لَفْظَة كي
للتنزيه مَعْنَاهَا الروحاني وَقيل الْجَبَّار وهم تِسْعَة أَيْضا
كيقباذ وكيكاوس وكيخسرو وكيلهراسب وكيشاسف وكي أزدشير بهمن وهماي بنت
أزدشير بهمن ودارا الأول ودارا الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي قَتله
الْإِسْكَنْدَر وَاسْتولى على ملكه.
وطبقة ثَالِثَة: وهم بعض مُلُوك الطوائف وَيُقَال لَهُم الأشغانية
وعدتهم أحد عشر: أشغا بن أشغان وَيُقَال أَشك بن أشكان وشابور بن أشغان
وأورمز بن أشغان وبيزن الأشغاني وجودرز الأشغاني ونرسي الأشغاني وهرمز
الأشغاني وخسروا الأشغاني وبلاش الأشغاني وأردوان الْأَصْغَر الأشغاني.
وطبقة رَابِعَة: وهم الأكاسرة لِأَن كل وَاحِد يُقَال لَهُ كسْرَى
وَيُقَال لَهُم الساسانية نِسْبَة إِلَى جدهم ساسان.
وَملك مِنْهُم عدَّة من النِّسَاء بعد الْهِجْرَة وَاسْتولى عَلَيْهِم
غَيرهم من الْفرس وأولهم أزدشير بابك وَآخرهمْ يزدجرد قتل أَيَّام
عُثْمَان رَضِي اللَّهِ عَنهُ كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ اللَّهِ
تَعَالَى.
الطَّبَقَة الأولى: الفيشدادية: أوشهنج أول من رتب الْملك وَوضع
الْخراج ملكه بعد الطوفان بِمِائَتي سنة وَقيل كَانُوا قبل الطوفان
وَكَذَا تَقول الْفرس وَيُنْكِرُونَ الطوفان ويزعمون أَن ملك مُلُوكهمْ
لم يَنْقَطِع وَلم يشْتَهر بعد أوشهنج غير طهمورث وَبَينه وَبَين
أوشهنج عدَّة آبَاء وسلك سيرة جده وَهُوَ أول من كتب
بِالْفَارِسِيَّةِ.
وَبعده " جمشيذ " بجيم مَفْتُوحَة وشين منقوطة ومثناة تَحت وذال منقوطة
أَخُو طهمورث لِأَبَوَيْهِ؛ وجم: الْقَمَر، وشيذ: الشعاع أَي شُعَاع
الْقَمَر، وَكَذَلِكَ يسمون خورشيذ أَي شُعَاع الشَّمْس؛ فخور اسْم
الشَّمْس. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
(1/34)
جمشيذ ملك الأقاليم السَّبْعَة وَزَاد فِي
صَلَاح السِّيرَة وأحدث النيروز عيدا يتنعمون فِيهِ وَوضع لكل أَمر من
الْأُمُور خَاتمًا مَخْصُوصًا فَكتب على خَاتم الْحَرْب الرِّفْق
والمداراة وعَلى خَاتم الْخراج الْعدْل والعمارة وعَلى خَاتم الْبَرِيد
وَالرسل الصدْق وَالْأَمَانَة وعَلى خَاتم الْمَظَالِم السياسة
والانتصاف، وَبقيت رسوم تِلْكَ الْخَوَاتِم حَتَّى محاها الْإِسْلَام
ثمَّ بدل سيرته بالتكبر والجبرية على وزرائه وقواده وآثر اللَّذَّات
فَتَبِعَهُ بيوراسب حَتَّى قَتله بِالْمِنْشَارِ.
ثمَّ ملك " بيوراسب " الضَّحَّاك وَيُقَال لَهُ الدهاك مَعْنَاهُ عشر
آفَات فعرب فَقيل الضَّحَّاك سَار بالعنف والفجور وَالْقَتْل والمكس
وَاللَّهْو وَكَانَ على مَنْكِبَيْه سلعتان يحركهما إِذا شَاءَ فَادّعى
أَنَّهُمَا حيتان تهويلا.
وَلما أَشْتَدّ جوره ظهر بأصفهان " كابي " قتل لَهُ الضَّحَّاك
ابْنَيْنِ فَأخذ كابي عَصا وعلق بطرفها جرابا وَيُقَال كَانَ حدادا
وَالَّذِي علقه قطع الحداة وحض النَّاس على مجاهدة بيوراسب واستفحل
أمره وَبَقِي ذَلِك الْعلم عِنْد الْفرس ورصعوه بالجواهر وسموه " درفش
كابيان ".
فهرب بيوراسب وَأبي كابى أَن يتَمَلَّك لكَونه لَيْسَ من بَيت الْملك
وَأمرهمْ فملكوا أفريدون بن القيان من أَوْلَاد جمشيذ واحتوى على
منَازِل بيوراسب وأمواله وأسره بدماوند وَقَتله وَكَانَ النَّبِي
إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فِي أَوَاخِر أَيَّام الضَّحَّاك
وَلذَلِك زعم قوم أَنه نمروذ أَو أَن نمروذ عَامل من عماله وَيَزْعُم
كل من الْفرس والسريان وَالْعرب أَن الضَّحَّاك مِنْهُم.
وَكَانَ إِبْرَاهِيم فِي أول ملك أفريدون وَقيل هُوَ ذُو القرنين
وَسَار فِي النَّاس بِأَحْسَن سيرة ورد مظالم الضَّحَّاك وَكَانَ
لأفريدون ثَلَاثَة أَوْلَاد فقسم الأَرْض بَينهم أَثلَاثًا:
أحدهم " إيرج " جعل لَهُ الْعرَاق والهند والحجاز وَجعله صَاحب التَّاج
والسرير وولاه على أَخَوَيْهِ.
وَالثَّانِي " سلم " جعل لَهُ الرّوم وديار مصر وَالْمغْرب.
وَالثَّالِث " طوج " جعل لَهُ الصين وَالتّرْك والمشرق جَمِيعه وَلما
مَاتَ أفريدون وثب طوج وَسلم على إيرج فقتلاه واقتسما بِلَاده وملكا
الأَرْض وَنَشَأ لإيرج ابْنه منوجهر حقد على عميه وتغلب على ملك أَبِيه
وتقوى وَسَار نَحْو التّرْك فَقتل طوج ثمَّ قتل سلم عميه وَأدْركَ ثأر
أَبِيه مِنْهُمَا.
ثمَّ نَشأ من ولد طوج ابْنه " أفراسياب " حشد وَحَارب منوهجر بن إيرج
وحاصره بطبرستان ثمَّ اصطلحا وَجعلا نهر بَلخ حدا بَينهمَا وَفِي
أَيَّام منوجهر ظهر مُوسَى وَذكروا أَن فِرْعَوْن مُوسَى وَهُوَ
الْوَلِيد بن الريان كَانَ عَاملا لمنوجهر فتغلب أفراسياب على ملك
فَارس وأفسد وَخرب.
ثمَّ ظهر " زو " بن طهماسب من أَوْلَاد منوجهر فطرد أفراسياب إِلَى
بِلَاد التّرْك بعد حروب وَأحسن السِّيرَة وَعمر وَأصْلح واستخرج
للسواد نهر الزاب وَبنى على حافتيه مَدِينَة ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... .
(1/35)
وَكَانَ وزيره كرشاسف من أَوْلَاد طوج بن
أفريدون وَقيل اشْتَركَا فِي الْملك.
ذكر الطَّبَقَة الثَّانِيَة وهم الكيانية: ملك بعد هَلَاك كرشاسف
كيقباذ بن زو واشبه أَبَاهُ فِي الْخَيْر وَعمارَة الْبِلَاد.
ثمَّ هلك وَملك بعده " كيكاوس " بن كينية بن كيقباذ الْمَذْكُور فَشدد
على أعدائه وَقتل خلقا من عُظَمَاء الْبِلَاد وَله ابْن اسْمه سياوش
بسين مُهْملَة وَالْأُخْرَى منقوطة كَانَ فِي نِهَايَة الْجمال سلمه
أَبوهُ إِلَى رستم الشَّديد نَائِب مملكة سجستان فرباه كَمَا يَنْبَغِي
وأتى بِهِ إِلَى وَالِده كيكاوس وَهُوَ فِي نِهَايَة الْأَدَب
والفروسية ففرح بِهِ وولاه مَمْلَكَته.
وَكَانَ لكيكاوس زَوْجَة مبدعة الْحسن فهويت سياوش وأعلمته فَامْتنعَ
وراجعته حَتَّى طاوعها وتعاشقا شَدِيدا مبرحا وَفِي الآخر علم كيكاوس
بذلك فَمنع ابْنه من الدَّار وضربها وحبسها ثمَّ أرضاها فَأرْسلت مَعَ
بعض الخصيان إِلَى سياوش تَقول إِن عاهدتني أَن تتَزَوَّج بِي قتلت
أَبَاك فَعرف الْخصي كيكاوس بذلك فحبسها وَمنع سياوش من الدُّخُول
إِلَيْهِ فَسَأَلَ سياوش رستما الَّذِي رباه أَن يشفع إِلَيْهِ أَن
يُرْسِلهُ إِلَى حَرْب أفراسياب ملك التّرْك فَأرْسلهُ مَعَ جَيش
فَصَالحه أفراسياب على مَا أَرَادَ وَأرْسل إِلَى أَبِيه يُعلمهُ بذلك
فَأنْكر عَلَيْهِ وَقَالَ لَا بُد من الْحَرْب فَلم يُمكن سياوش الْغدر
بأفراسياب وَلَا الرُّجُوع إِلَى وَالِده لما ذكر فهرب سياوش إِلَى
أفراسياب فَأكْرمه وزوجه ابْنَته ثمَّ أَن أَوْلَاد أفراسياب أغروا
والدهم بقتل سياوش وخوفوه عاقبته فَقتله وَبنت أفراسياب حُبْلَى مِنْهُ
فَأَرَادَ أَبوهَا قَتلهَا ثمَّ تَركهَا فَولدت ابْنا وَسمع كيكاوس
بذلك فَقتل زَوجته لكَون ذَلِك بِسَبَبِهَا وَأرْسل شطارا فِي زِيّ
التُّجَّار بِالْمَالِ فسرقوا لَهُ ابْن سياوش وَزَوجته وَاسم الْوَلَد
كيخسرو ثمَّ أَن كيكاوس قرر الْملك لِابْنِ ابْنه كيخسرو.
وَهلك وَاسْتمرّ " كيخسروا " ملكا وَقَوي فقصد جده أَبَا أمه أفراسياب
طَالبا ثأر أَبِيه سياوش وَجَرت حروب وَفِي الآخر ظفر كيخسروا
بأفراسياب وَأَوْلَاده وَعَسْكَره فَقَتلهُمْ وَنهب الْأَمْوَال وَلما
أَخذ ثَأْره وَاسْتقر ملكه تزهد وَخرج عَن الدُّنْيَا فَسَأَلَهُ
وُجُوه الدولة أَن يعين من يختاره ملكا وَكَانَ لهراسف حَاضرا وَهُوَ
من مرازبته فَجعله وَصِيّه وَأَقْبل النَّاس عَلَيْهِ وفقد كيخسرو،
مُدَّة ملك كيخسرو سِتُّونَ سنة.
وَلما ملك " لهراسف " وَيُقَال هُوَ ابْن أخي كيكاوس اتخذ سريرا ذَهَبا
مرصعا بالجواهر وينبت لَهُ بخراسان بَلخ وسكنها لقِتَال التّرْك.
وَفِي زمن لهراسف كَانَ " بخْتنصر " جعله لهراسف أصيهبدا على الْعرَاق
والأهواز وَالروم وَغَرْبِيٌّ دجلة فَأتى دمشق وَصَالَحَهُ أَهلهَا
وَصَالَحَهُ بَنو إِسْرَائِيل بالقدس ثمَّ غدروا بِهِ فَقتل وَخرب
الْقُدس وارتكب مَا تقدم ذكره فِي مصر وَالْمغْرب وفلسطين والأردن
وَحصل مَعَ بخْتنصر من بني إِسْرَائِيل دانيال النَّبِي وَغَيره من
أَوْلَاد الْأَنْبِيَاء وَحمل إِلَى لهراسف من الْمغرب وَالشَّام
والقدس أَمْوَالًا عَظِيمَة وَاخْتلف المؤرخون فِي بخْتنصر فَقيل كَانَ
مُسْتقِلّا بِنَفسِهِ وَقيل كَانَ نَائِبا للْفرس وَالأَصَح أَنه كَانَ
نَائِب لهراسف. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
(1/36)
وغزا بخْتنصر الْعَرَب وَكَانَ فِي زمن معد
بن عدنان فقصده طوائف من الْعَرَب مسالمين فَأحْسن إِلَيْهِم وأنزلهم
شاطىء الْفُرَات وبنوا مَوضِع معسكرهم وسموه الأنبار
" رُؤْيا بخْتنصر " وَفِي كتب الْيَهُود والمؤرخين من الْمُسلمين أَن
بخْتنصر رأى فِي نَومه صنما رَأسه من ذهب وصدره وذراعاه من فضَّة وبطنه
وفخذاه من نُحَاس وساقاه وَقَدمَاهُ من حَدِيد وأصابع قديمَة بَعْضهَا
حَدِيد وَبَعضهَا خزف وَأَن حِجَارَة انْقَطَعت من جبل من غير يَد
قاطعه لَهَا وصكت الصَّنَم فاندق الْحَدِيد والنحاس وَغَيره وَصَارَ
جَمِيع ذَلِك مثل الْغُبَار وألوت بِهِ ريح عَاصِفَة ثمَّ صَارَت
الْحِجَارَة الَّتِي صكت الصَّنَم جبلا عَظِيما امْتَلَأت مِنْهُ
الأَرْض كلهَا فَقَالَ بخْتنصر لَا أصدق تَعْبِير مَا رَأَيْته إِلَّا
مِمَّن يُخْبِرنِي بِمَا رَأَيْت وكتم بخْتنصر ذَلِك وَسَأَلَ
الْعلمَاء والسحرة والكهنة عَن ذَلِك فَلم يطق أحدا أَن ينبئه بذلك
حَتَّى سَأَلَ دانيال فنبأه دانيال بِصُورَة رُؤْيَاهُ كَمَا رَآهُ
بخْتنصر وَلم يخل مِنْهَا بِشَيْء
ثمَّ عبرها لَهُ دانيال فَقَالَ الرَّأْس ملكك وَأَنت بَين الْمُلُوك
بِمَنْزِلَة رَأس الصَّنَم الذَّهَب وَالَّذِي يقوم بعْدك دُونك
بِمَنْزِلَة الْفضة من الذَّهَب ثمَّ يكون كل مُتَأَخّر أقل مِمَّن
قبله مثل مَا أَن النّحاس دون الْفضة وَالْحَدِيد دون النّحاس وَأما
الْأَصَابِع الَّتِي بَعْضهَا حَدِيد وَبَعضهَا خزف فَإِن المملكة تصير
آخر الْوَقْت مختلطة مُخْتَلفَة بَعْضهَا قوي وَبَعضهَا ضَعِيف.
ثمَّ أَن اللَّهِ تَعَالَى يُقيم بعد ذَلِك مملكة لَا تبيد إِلَى آخر
الدَّهْر هَذَا تَعْبِير رُؤْيَاك فَخر بخْتنصر سَاجِدا لدانيال وَأمر
لَهُ بِالْخلْعِ وَأَن يقرب لَهُ القرابين قيل تولى بخْتنصر سبعا
وَخمسين سنة وشهرا وَثَمَانِية أَيَّام وَتَفْسِير بخْتنصر
بِالْعَرَبِيَّةِ عُطَارِد هُوَ ينْطق سمي بذلك لتقريبه الْحُكَمَاء
وَالْعُلَمَاء وحبه الْعلم.
وَلما هلك ولي ملك الْفرس بعد بخْتنصر ابْنه أولاق سنة وَاحِدَة وَقتل
ثمَّ ابْنه بلطشاصر سنتَيْن وَجلسَ للشراب واحتفل وَجمع فِي مجْلِس
عمله ألف نفس من أَصْحَابه وَجعل فِيهِ من آنِية الذَّهَب مَا يفوق
الْحصْر فَرَأى على ضوء الشمع يَد إِنْسَان تكْتب على الْحَائِط فَتغير
بلطشاصر واضطرب واصطكت ركبتاه فَدَعَا دانيال وَأخْبرهُ بذلك فَقَالَ
إِنَّك لما عظمت الذَّهَب وَالْفِضَّة والخشب وَالْحَدِيد وَلَيْسَ
فِيهَا مَا ينصرك وَلم تعظم الْإِلَه الَّذِي بِيَدِهِ نسمتك وروحك
وَجَمِيع تصاريف أَمرك أرسل كف يَد كتبت مَا مَعْنَاهُ اكشف واعر أَي
أَن مملكتك كشفت وعريت وَجعلت لأهل فَارس فَقتل بلطشاصر فِي تِلْكَ
اللَّيْلَة وَبِه انقرضت دولة بني بخْتنصر، عدنا إِلَى سِيَاق ملك
لهراسف.
ثمَّ ملك بعده ابْنه " كي كشتاسف " ويزعمون أَنه بَاقٍ فِي كمنكد
وَهُوَ بنى مَدِينَة نسا وَظهر فِي أَيَّامه " زرادشت " بزاي وَرَاء
والشين منقوطة سَاكِنة وَهُوَ صَاحب كتاب الْمَجُوس وَتوقف كشتاسف عَن
الدُّخُول فِي دينه ثمَّ صدقه وَدخل فِيهِ وَبَين كشتاسف وَبَين أرجاسف
ملك التّرْك حروب عَظِيمَة وقتلى كَثِيرُونَ بِسَبَب زرادشت وَدخُول
كشتاسف فِي دينه وانتصر كشتاسف على أرجاسف. ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... .
(1/37)
ثمَّ أَن كشتاسف تنسك وَانْقطع
لِلْعِبَادَةِ فِي جبل طميذر ولقراءة كتاب زرادشت ثمَّ فقدوا سفندريار
بن كشتاسف هلك فِي حَيَاة أَبِيه.
وَخلف ولدا اسْمه " أزدشير بهمن " فَملك حَتَّى ملك الأقاليم
السَّبْعَة. من كتاب أبي عِيسَى: أزدشير بهمن اسْمه بالعبرانية كورش
هُوَ الَّذِي أَمر بعمارة بَيت الْمُقَدّس وعود بني إِسْرَائِيل
إِلَيْهِ وَلَا دَلِيل على أَن أزدشير هُوَ كورش أقوى من كَلَام أشعيا
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام.
فَإِنَّهُ يَقُول فِي الْفَصْل الثَّانِي وَالْعِشْرين من كِتَابه
حِكَايَة عَن اللَّهِ تَعَالَى أَنا الْقَائِل لكورش دَاعِي الَّذِي
يتمم جَمِيع محياتي وَيَقُول لأورشلم عودي مَبْنِيَّة ولهيلكها كن
مزخرفا مزينا هَكَذَا قَالَ الرب لمسيحه كورش الَّذِي أَخذ بِيَمِينِهِ
لتدبير الْأُمَم وتنحني لَك ظُهُور الْمُلُوك سائرا بِفَتْح
الْأَبْوَاب أُمَامَة فَلَا تغلق وأسير أَنا قدامك وأسهل لَك الوعور
وأكسر أَبْوَاب النّحاس وأحبوك بالذخائر الَّتِي فِي الظُّلُمَات وَلم
يكن أحد فِي ذَلِك الزَّمَان بِهَذِهِ الصّفة الَّتِي ذكرهَا أشيعا
أَعنِي ملك الأأقاليم وَالْحكم على الْأُمَم وَغير ذَلِك مِمَّا ذكره
غير أزدشير بهمن فَتعين أَن يكون هُوَ كورش وَكَانَ أزدشير كَرِيمًا
متواضعا علامته على كتبه من أزدشير بهمن عبد اللَّهِ وخادم اللَّهِ
والسائس لأمركم.
وغزا رُومِية فِي ألف ألف مقَاتل وَبَقِي كَذَلِك إِلَى أَن هلك وَمعنى
بهمن الْحسن النِّيَّة وَكَانَ بهمن متزوجا بابنته هماي على رَأْي
الْمَجُوس فَتوفي بهمن وَهِي حَامِل مِنْهُ بدارا وَأوصى بهمن أَن
يعْقد التَّاج على مَا فِي بَطنهَا وَيخرج ابْنه ساسان من الْملك وساست
هماي الْملك بعده وَلحق ساسن بأصطخر وتزهد وَاتخذ غنما يرعاها
بِنَفسِهِ وَهَذَا ساسان أَبُو الأكاسرة ثمَّ وضعت هماي ولدا سمته
دَارا ابْنهَا وأخوها.
وَلما اشْتَدَّ سلمت إِلَيْهِ الْملك وعزلت نَفسهَا فضبط دَارا وساس
وَولد لَهُ ابْن سَمَّاهُ دَارا ابْن دَارا ثمَّ هلك وَولي " دَارا "
بن دَارا وَكَانَ حقودا ظَالِما فنفرت عَنهُ الْقُلُوب.
وَفِي زمَان دَارا تملك الْإِسْكَنْدَر الْمَشْهُور ابْن فيلقوس فَعرف
سيرة دَارا ونفرة الْقُلُوب عَنهُ فَسَار نَحوه بجيشه فلحق بِهِ كثير
من أَصْحَاب دَارا واقتتتلا ثمَّ وثب بعض أَصْحَاب دَارا على دَارا
فَقَتَلُوهُ وَأتوا إِلَى الْإِسْكَنْدَر فَقَتلهُمْ عَن آخِرهم
وَصَارَ ملك دَارا إِلَى الْإِسْكَنْدَر.
" كَانَ الْإِسْكَنْدَر " بن فيلقوس أَبوهُ أحد مُلُوك اليونان
وَكَانُوا طوائف فَلَمَّا ملك الْإِسْكَنْدَر غزاهم وَجمع ملكهم ثمَّ
غزا دَارا الْمَذْكُور ثمَّ الْهِنْد وَتَنَاول أَطْرَاف الصين ثمَّ
انْصَرف إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَكَانَ بناها فَهَلَك بِنَاحِيَة
السوَاد وَقيل بشهرروذ وعمره سِتّ وَثَلَاثُونَ سنة فَحمل فِي تَابُوت
ذهب إِلَى أمه وَكَانَ ملكه نَحْو ثَلَاث عشرَة سنة وَاجْتمعَ بعده ملك
الرّوم وَكَانَ مُتَفَرقًا وافترق ملك فَارس وَكَانَ مجتمعا.
مرض الْإِسْكَنْدَر بالخوانيق وَقيل بالسم وَهُوَ صَاحب أرسطاطاليس
وتلميذه وأرسطو الَّذِي أَشَارَ عَلَيْهِ بِعَدَمِ قتل الْفرس وَأَن
يولي أكابرهم وَمن يصلح للْملك كل وَاحِد بِرَأْسِهِ مملكة ليحصل
بَينهم التباغض وَلَا يجتمعوا على أحد فَفعل فَصَارَ مِنْهُم مُلُوك
الطوائف وَكَانَ ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
(1/38)
الْإِسْكَنْدَر أشقر أَزْرَق وَكَانَ
اليونان قبله طوائف فَأول مَا تملك غزاهم وَقتل مُلُوكهمْ وَاجْتمعَ
لَهُ جَمِيع مملكة اليونان وَلما اجْتمع لَهُ مملكة الْمغرب بنى
الْإسْكَنْدَريَّة وَسَار يُرِيد الشرق وقتال دَارا وَمر فِي طَرِيقه
على بَيت الْمُقَدّس وَأكْرم بني إِسْرَائِيل.
ثمَّ سَار إِلَى فَارس وَاسْتولى على ملك الْفرس وَقتل دَارا كَمَا مر
وَقيل إِنَّه انْصَرف من الْمشرق إِلَى جِهَة الشمَال وَبنى السد على
يَأْجُوج وَمَأْجُوج وَالصَّحِيح أَن الْإِسْكَنْدَر الْمَذْكُور لم
يكن مِنْهُ ذَلِك بل ذُو القرنين الْمَذْكُور فِي الْقُرْآن وَهُوَ ملك
قديم على زمن إِبْرَاهِيم الْخَلِيل قيل أَنه أفريدون وَقيل غَيره
وَغلط من ظن أَن باني السد هُوَ الْإِسْكَنْدَر الرُّومِي وَلذَلِك
استفاض على الْأَلْسِنَة أَن لقب الْإِسْكَنْدَر ذُو القرنين وَهَذَا
أَيْضا غلط فَإِن لَفظه ذُو عَرَبِيَّة مَحْضَة وَذُو القرنين من ألقاب
الْعَرَب وملوك الْيمن وَكَانَ مِنْهُم ذُو جَدب وَذُو كلاع وَذُو نواس
وَذُو شناتر وَذُو القرنين الصعب بن الرائش وَاسم الرائش الْحَارِث بن
ذِي سدد بن عَاد بن الماطاط بن سبا. وَقيل إِن ذَا القرنين الصعب هُوَ
الَّذِي مكن اللَّهِ لَهُ فِي الأَرْض وَبنى السد.
وَمِمَّا نَقله ابْن سعيد المغربي أَن ابْن عَبَّاس رَضِي اللَّهِ
عَنْهُمَا سُئِلَ عَن ذِي القرنين الَّذِي ذكره اللَّهِ فِي كِتَابه
فَقَالَ هُوَ من حمير وَهَذَا مِمَّا يُقَوي أَنه الصعب الْمَذْكُور
لِأَنَّهُ كَانَ ملكا عَظِيما من ولد حمير وَلما مَاتَ الْإِسْكَنْدَر
عرض الْملك على ابْنه فَأبى وتنسك فانقسمت ممالك الْإِسْكَنْدَر بَين
مُلُوك الطوائف وَبَين مُلُوك اليونان كَمَا سَيَأْتِي فِي الْفَصْل
الثَّانِي وَبَين غَيرهم.
(ذكر مُلُوك الطوائف)
أَشَارَ أرسطاطاليس على الْإِسْكَنْدَر بِمَا تقدم من تَوْلِيَة
الْمُلُوك فِي الْفرس قصد التباغض والتشاحن فَملك من كبار الْفرس
عشْرين ملكا عَلَيْهِم وهم المسمون مُلُوك الطوائف واستمروا
خَمْسمِائَة سنة واثنتي عشرَة سنة حَتَّى قَامَ أزدشير بن بابك فَجمع
ملك الْفرس وَكَانَت عدَّة مُلُوك الطوائف تزيد على تسعين ملكا وَلم
تؤرخ فِي مُبْتَدأ أَمرهم أَسمَاؤُهُم وَلَا مدد ملكهم فَإِنَّهُم
مُلُوك صغَار فِي الْأَطْرَاف وَعظم بعد الْإِسْكَنْدَر ملك اليونان
فَكَانَ الحكم لَهُم فَلذَلِك ذكرُوا بعد الْإِسْكَنْدَر فِي التواريخ
دون مُلُوك الطوائف وَبَقِي الْأَمر كَذَلِك حَتَّى اشتهرت الْمُلُوك
الأشغانية من بَين مُلُوك الطوائف.
(ذكر الطَّبَقَة الثَّالِثَة من الْفرس)
ذكر الطَّبَقَة الثَّالِثَة: وهم الأشغانية أول من اشْتهر مِنْهُم "
أشغا بن أشغان " ملك لمضي مِائَتَيْنِ وست وَأَرْبَعين لغَلَبَة
الْإِسْكَنْدَر وَملك أشغا عشر سِنِين فانقضاء ملكه لمضي مِائَتَيْنِ
وست وَخمسين سنة للإسكندر.
ثمَّ ملك بعده " شَابُور " بن أشغان سِتِّينَ سنة ومولد الْمَسِيح سنة
بضع وَأَرْبَعين خلت ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
(1/39)
من ملك شَابُور وانقضاء ملك شَابُور لمضي
ثلثمِائة وست عشرَة سنة للإسكندر.
ثمَّ ملك بعده " جور " بن أشغان وَقيل جودرز عشرَة سِنِين وَهلك لمضي
ثلثمِائة وست وَعشْرين سنة للإسكندر.
ثمَّ ملك " بيزن " الأشغاني إِحْدَى وَعشْرين سنة وَهلك لمضي ثلثمِائة
وَسبع وَأَرْبَعين. ثمَّ ملك " يزجرد " الأشغاني تسع عشرَة سنة وَهلك
لمضي ثلثمِائة وست وَسِتِّينَ. ثمَّ ملك " نرسي " الأشغاني أَرْبَعِينَ
سنة وَقَالَ يَوْم ملك أَنِّي ومحب مكرم من أنفذ أَمْرِي وَهلك لمضي
أَرْبَعمِائَة وست سِنِين.
ثمَّ ملك " هُرْمُز " الأشغاني تسع عشرَة سنة وَهلك لمضي أَرْبَعمِائَة
وَخمْس وَعشْرين سنة وَقَالَ يَوْم ملك يَا معشر النَّاس اجتنبوا
الذُّنُوب كَيْلا تذلوا بالمعاذير.
ثمَّ ملك بعده " أردوان " الأشغاني اثْنَتَيْ عشرَة سنة وَهلك لمضي
أَرْبَعمِائَة وَسبع وَثَلَاثِينَ سنة.
ثمَّ ملك " خسروا " الأشغاني أَرْبَعِينَ سنة وَقَالَ يَوْم ملك لتسطع
نَارِي مَا دَامَت مضطرمة وَهلك لمضي أَرْبَعمِائَة وَسبع وَسبعين سنة
للإسكندر.
ثمَّ ملك بعده " بلاش " الأشغاني أَرْبعا وَعشْرين سنة وَهلك لمضي
خَمْسمِائَة وَسنة.
ثمَّ ملك بعده " أردوان " الْأَصْغَر وَظهر أَمر أزدشير بن بابك وَقيل
أردوان الْمَذْكُور وَغَيره من الأردوانيين وَاجْتمعَ لَهُ ملك جَمِيع
الطوائف فَيكون انْقِضَاء ملك أردوان لمضي خَمْسمِائَة واثنتي عشرَة
سنة لغَلَبَة الْإِسْكَنْدَر وَيكون ملكه إِحْدَى عشرَة سنة وَقيل ملك
أردوان ثَلَاث عشرَة سنة.
(ذكر الطَّبَقَة الرَّابِعَة وهم الأكاسرة الساسانية)
وأولهم أزدشير بن بابك وَهُوَ من ولد ساسان بن أزدشير بهمن وأزدشير
بابك فِي أول ملكه أحد مُلُوك الطوائف تغلب على الأردوانيين لمضي
تِسْعمائَة وَأَرْبَعين لابتداء ولَايَة بخْتنصر ولمضي خَمْسمِائَة
واثنتي عشرَة لغَلَبَة الْإِسْكَنْدَر على دَارا وَهِي مُدَّة مُلُوك
الطوائف فَبين قيام أزدشير وَبَين الْهِجْرَة أَرْبَعمِائَة
وَاثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ ورصد بطليموس قبل أزدشير بِسبع وَسبعين سنه
وَهَذِه مُدَّة يُمكن أَن يعيشها بطليموس أَو غالبها فَلَيْسَ بطليموس
عَن أزدشير بِبَعِيد وَجَمِيع الأكاسرة الَّذين آخِرهم يزدجرد بن
شهريار من ولد أزدشير قتل الأردوانييين جَمِيعًا وَضبط الْملك وَكَانَ
حازما وَكتب لِابْنِهِ سَابُور عهدا ليَكُون لَهُ وَلمن بعده من أهل
بَيته يتَضَمَّن حكما وناموسا وَملك أَربع عشرَة سنة وَعشرَة أشهر
فموته فِي آخر سنة خَمْسمِائَة وَسبع وَعشْرين لغَلَبَة
الْإِسْكَنْدَر.
ثمَّ ملك بعده ابْنه " سَابُور " إِحْدَى وَثَلَاثِينَ سنة وَسِتَّة
أشهر وَكَانَ جميلا حازما ظهر فِي أَيَّامه " ماني الزنديق " وَادّعى
النُّبُوَّة وَتَبعهُ خلق سموا المانوية، وَلما مضى من ملك سَابُور ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
(1/40)
إِحْدَى عشرَة سنة فتح نَصِيبين من الرّوم
وتوغل فِي بِلَادهمْ وهم على عبَادَة الْأَصْنَام قبل تنصرهم وافتتح من
الشَّام بلادا عنْوَة وَقتل أَهلهَا وَسَار نَحْو رُومِية فصانعه ملك
الرّوم عرديانوس واعتنى سَابُور بِجمع كتب الفلسفة لليونانيين ونقلها
إِلَى الفارسية وَقيل فِي زَمَانه استخرج الْعود وَمَات لمضي أَرْبَعَة
أشهر من سنة تسع وَخمسين وَخَمْسمِائة للإسكندر.
ثمَّ ملك ابْنه " هُرْمُز " سنة وَسِتَّة أشهر وَكَانَ عَظِيم الْخلق
قَوِيا يلقب البطل مَاتَ فِي أَوَاخِر سنة خَمْسمِائَة وَسِتِّينَ
للإسكندر.
ثمَّ ملك ابْنه " بهْرَام " بن هُرْمُز ثَلَاث سِنِين وَثَلَاثَة أشهر
فَأحْسن ورفق وَمَات سنة أَربع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة بعد مُضِيّ شهر
مِنْهَا.
ثمَّ ملك ابْنه " بهْرَام " بن بهْرَام سبع عشرَة سنة فموته فِي أول
سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة للإسكندر.
ثمَّ ملك ابْنه " بهْرَام " بن بهْرَام أَربع سِنِين وَأَرْبَعَة أشهر
فَعدل وساس وَمَات سنة خمس وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة بعد مُضِيّ
سَبْعَة أشهر مِنْهَا.
ثمَّ ملك أَخُوهُ " نرسي " بن بهْرَام تسع سِنِين فموته سنة أَربع
وَتِسْعين وَخَمْسمِائة بعد مُضِيّ سَبْعَة أشهر مِنْهَا.
ثمَّ ملك ابْنه " هُرْمُز " بن نرسي تسع سِنِين فهلاكه لمضي سَبْعَة
أشهر من سنة ثَلَاث وسِتمِائَة وَخلف حملا فعقدوا التَّاج على رَأس
الْحمل فولد وسموه وَهُوَ " سَابُور " وَاشْتَدَّ ونجب من صباه بلغَة
ازدحام النَّاس على الجسر على دجلة بِالْمَدَائِنِ فَعمل إِلَى جَانب
الجسر جِسْرًا آخر ليَكُون هَذَا للداخلين وَذَاكَ للخارجين وَفِي صباه
طمع الْعَرَب فِي بِلَاده وخربوا فَلَمَّا بلغ سِتّ عشرَة سنة انتخب من
عسكره عدَّة وَسَار بهم إِلَى الْعَرَب وَقتل من وجد مِنْهُم وَوصل
الحسا والقطيف وَشرع يقتل وَلَا يفادي وَورد المشقر وَبِه أنَاس من
تَمِيم وَبكر بن وَائِل وَعبد الْقَيْس فسفك مَا لَا يُحْصى وَسَار
إِلَى الْيَمَامَة وَسَفك وَمَا مر بِمَاء للْعَرَب إِلَّا غوره وَلَا
بِئْر إِلَّا طمها.
ثمَّ عطف على ديار بكر وَرَبِيعَة فِيمَا بَين فَارس وَالروم وَصَارَ
ينْزع أكتاف الْعَرَب فَسمى سَابُور ذَا الأكتاف. ثمَّ غزا الرّوم
وَقتل وسبى ثمَّ هادنه قسطنطين ملك الرّوم حَتَّى توفّي قسطنطين سنة
خمس وَأَرْبَعين مَضَت من ملك سَابُور وملكت بَنو قسطنطين وهلكوا فِي
مُدَّة ملك سَابُور.
ثمَّ ملك على الرّوم كليانوس وارتد إِلَى الْأَصْنَام وَقتل
النَّصَارَى وَخرب الْكَنَائِس وأحرق الْإِنْجِيل وَسَار لقِتَال
سَابُور وَمَعَهُ الْعَرَب أَيْضا لفعل سَابُور بهم ثمَّ اقتتل كليانوس
وسابور فَانْهَزَمَ سَابُور وَقتلت الرّوم مِنْهُم وَاسْتولى كليانوس
على مَدِينَة سَابُور وَهِي طيسفون الْمَعْرُوفَة بِالْمَدَائِنِ. ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
(1/41)
ثمَّ استنجد سَابُور بالملوك المجاورين
لبلاده وَرفع كليانوس على طيسفون وَاسْتمرّ كليانوس مُقيما بِبِلَاد
الْفرس وسعى سَابُور فِي الصُّلْح فَبَيْنَمَا كليانوس فِي فسطاطه إِذْ
أَصَابَهُ سهم غرب فِي فُؤَاده فَقتل فهال الرّوم فقد ملكهم فِي بِلَاد
عدوهم فقصدوا يونيانوس مقدم جَيش كليانوس وَكَانَ يسر النَّصْرَانِيَّة
وَلم يرْتَد إِلَى الْأَصْنَام مَعَه وسألوه أَن يتَمَلَّك عَلَيْهِم
فَأبى يونيانوس وَقَالَ لَا أتملك على قوم يخالفونني فِي الدّين فعادوا
إِلَى النَّصْرَانِيَّة وَادعوا أَنهم إِنَّمَا عبدُوا الْأَصْنَام
خوفًا وتقية فَملك يونيانوس وَصَالح سَابُور وَسَار إِلَيْهِ فِي جمع
من أَصْحَابه واجتمعا واعتنقا وانتظمت الْمَوَدَّة بَينهمَا وَعَاد
بالروم إِلَى بِلَاده وَاسْتمرّ سَابُور على ملكه حَتَّى مَاتَ بعد
اثْنَتَيْنِ وَسبعين سنة هِيَ مُدَّة ملكه وَمُدَّة عمره فموت سَابُور
لمضي سَبْعَة أشهر من سنة خمس وَسبعين وسِتمِائَة للإسكندر.
ثمَّ ملك أَخُوهُ " أزدشير " بن هُرْمُز أَربع سِنِين أوصى سَابُور
لَهُ بذلك لصِغَر ابْن سَابُور وَمَات سنة تسع وَسبعين وسِتمِائَة
للإسكندر.
ثمَّ ملك بعده " سَابُور " بن سَابُور ذِي الأكتاف خمس سِنِين
وَأَرْبَعَة أشهر فَأحْسن السِّيرَة وَمَات بِسُقُوط فسطاطه عَلَيْهِ
فموته لمضي أحد عشر شهرا من سنة أَربع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة
للإسكندر.
ثمَّ ملك أَخُوهُ " بهْرَام " بن سَابُور ذِي الأكتاف إِحْدَى عشرَة
سنة ويدعى كرمان شاه فَأحْسن إِلَى أَن قَتله بعض الْفرس بِسَهْم لمضي
أحد عشر شهرا من سنة خمس وَتِسْعين وسِتمِائَة للإسكندر.
ثمَّ ملك ابْنه " يزدجرد " بن بهْرَام بن سَابُور ويلقب بالأثيم
وبالخشن إِحْدَى وَعشْرين سنة وَخَمْسَة أشهر وَكَانَ كلقبه فعسف
وَسَفك وصبروا عَلَيْهِ وطالت أَيَّامه وَهُوَ يزْدَاد جورا فَهَلَك
برفسة فرس لمضي أَرْبَعَة أشهر من سنة سبع عشرَة وَسَبْعمائة وَكَانَ
لَهُ ولدا اسْمه بهْرَام جور أسلمه أَبوهُ إِلَى الْمُنْذر ملك
الْعَرَب ليربيه بِظهْر الْحيرَة فَنَشَأَ هُنَاكَ وَقدم على أَبِيه
قبل هَلَاكه وبهرام جور فِي غَايَة الْأَدَب والفروسية فأهابه أَبوهُ
فَطلب الْعود إِلَى الْعَرَب فَأمره بذلك وَمَات أَبوهُ وَهُوَ عِنْد
الْمُنْذر فَاجْتمع الْفرس على تمْلِيك غير ولد يزدجرد لما قاسوا
مِنْهُ وَأَيْضًا لتخلق بهْرَام جور بأخلاق الْعَرَب ونشأته فيهم
فَوَلوا شخصا يُسمى كسْرَى من ولد أزدشير وَبلغ ذَلِك بهْرَام جور
فانتصر بالمنذر وَابْنه النُّعْمَان.
وتملك " بهْرَام جور " مَوضِع أَبِيه ويحكى عَنهُ فرط فِي الْقُوَّة
وَهلك بالتوحل فِي سبخَة بِسَبَب طرد صيد وَعدم وَكَانَ ملكه ثَلَاثًا
وَعشْرين سنة وَأحد عشر شهرا فَيكون هَلَاكه لمضي ثَلَاثَة أشهر من سنة
إِحْدَى وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة.
ثمَّ ملك ابْنه " يزدجرد " بن بهْرَام جور ثَمَانِي عشرَة سنة
وَأَرْبَعَة أشهر وقمع الْأَعْدَاء وَعمر الْبِلَاد ثمَّ هلك لمضي
سَبْعَة أشهر من سنة تسع وَخمسين وَسَبْعمائة وَخلف ابْنَيْنِ هُرْمُز
وفيروز. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .
(1/42)
فتملك " هُرْمُز " سبع سِنِين وظلم واحتجب
وهرب أَخُوهُ فَيْرُوز مِنْهُ إِلَى الهياطلة وَرَاء خُرَاسَان وَهِي
طخارستان واستعان بملكهم على أَخِيه هُرْمُز فأنجده واقتتلا فِي الرّيّ
فظفر فَيْرُوز بأَخيه هُرْمُز فسجنه وأمهما وَاحِدَة فانقضاء ملك
هُرْمُز فِي سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة للإسكندر.
ثمَّ ملك " فَيْرُوز " بن يزدجرد بن بهْرَام جور سبعا وَعشْرين سنة
فَأحْسن وَحصل فِي أَيَّامه غلاء وقحط وغور الْأَعْين ويبس النَّبَات
وهلاك الْوَحْش مُدَّة سبع سِنِين ثمَّ أغاثهم اللَّهِ تَعَالَى وَحسن
الْحَال وَملك الهياطلة حِينَئِذٍ اسْمه الأخشنواز وَوَقع بَينه وَبَين
فَيْرُوز بِسَبَب ابْن فَيْرُوز خطب بنت الأخشنواز فَلم يُزَوجهُ
فَسَار فَيْرُوز إِلَى الهياطلة وَذكر لَهُم ذنوبا مِنْهَا أَنهم
يأْتونَ الذكران وَلم يظفر مِنْهُم بِشَيْء وتردى فَيْرُوز فِي خَنْدَق
عمله الهياطلة وغطس فَوَقع فِيهِ وَجَمَاعَة فهلكوا واحتوى أخشنواز على
جَمِيع مَا كَانَ فِي مُعَسْكَره فَيكون هَلَاك فَيْرُوز فِي سنة
ثَلَاث وَتِسْعين وَسَبْعمائة.
ثمَّ ملك ابْنه " بلاش " أَربع سِنِين فَأحْسن وَمَات سنة سبع
وَتِسْعين وَسَبْعمائة.
ثمَّ ملك أَخُوهُ " قباذ " بن فَيْرُوز ثَلَاثًا وَأَرْبَعين سنة وَفِي
أَيَّامه ظهر " مزدك " الزنديق وَادّعى النُّبُوَّة وَأمر بالتساوي فِي
الْأَمْوَال والاشتراك فِي النِّسَاء لأَنهم أخوة لابوين آدم وحواء،
وَدخل قباذ فِي دينه فَهَلَك النَّاس وَعظم عَلَيْهِم ذَلِك وخلعوا
قباذا، وولوا أَخَاهُ جاماسف بن فَيْرُوز وَلحق قباذ بالهياطلة فنجدوه
وَسَار بهم وبعسكر خُرَاسَان وانتصر على أَخِيه جاماسف وحبسه حَتَّى
مَاتَ قباذ سنة أَرْبَعِينَ وَثَمَانمِائَة لمضي سَبْعَة أشهر من
السّنة.
ثمَّ ملك بعد قباذ ابْنه أنوشروان: صَغِيرا ثمانيا وَأَرْبَعين سنة
وَلما اسْتَقل بِالْملكِ وَجلسَ على السرير قَالَ لخواصه إِنِّي
عَاهَدت اللَّهِ إِن صَار الْملك إِلَيّ على أَمريْن أَحدهمَا أَنِّي
أُعِيد آل الْمُنْذر إِلَى الْحيرَة وَأطْرد الْحَارِث عَنْهَا وَأما
الْأَمر الثَّانِي فَهُوَ قتل المزدكية الَّذين قد أباحوا نسَاء
النَّاس وَأَمْوَالهمْ وجعلوهم مشتركين فِي ذَلِك بِحَيْثُ لَا يخْتَص
أحد بِامْرَأَة وَلَا بِمَال حَتَّى اخْتَلَط أَجنَاس اللؤماء بعناصر
الكرماء وتسهل سَبِيل العاهرات إِلَى قَضَاء شهواتهن واتصلت السفلة
إِلَى النِّسَاء الكرائم الَّتِي مَا كَانَ أَمْثَال أُولَئِكَ
يتجاسرون أَن يملؤا عيونهم مِنْهُنَّ إِذا رأوهن فِي طَرِيق، فَقَالَ
مزدك وَهُوَ بِجَانِب السرير: هَل تَسْتَطِيع أَن تقتل النَّاس
جَمِيعًا هَذَا فَسَاد فِي الأَرْض وَالله قد ولاك لتصلح لَا لتفسد
فَقَالَ أنوشروان يَا ابْن الخبيثة أَتَذكر وَقد سَأَلت قباذ أَن
يَأْذَن لَك فِي الْمبيت عِنْد أُمِّي فَإِذن لَك ومضيت نَحْو
حُجْرَتهَا فلحقت بك وَقبلت رجلك وَإِن نَتن جواربك مازال فِي أنفي
مُنْذُ ذَلِك إِلَى الْآن وَسَأَلْتُك حَتَّى وهبتها إِلَيّ وَرجعت.
قَالَ نعم فَأمر بِهِ فَقتل وأحرقت جيفته ونادى بِإِبَاحَة دِمَاء
المزدكية والمانوية أَيْضا فَقتل مِنْهُم خلق كثير وَثَبت
الْمَجُوسِيَّة الْقَدِيمَة وَكتب بذلك إِلَى أَصْحَاب الولايات وهجر
الملاذ وقوى جنده بالأسلحة وَعمر الْبِلَاد واسترد كثيرا من
الْأَطْرَاف إِلَيْهِ كالسند والزحج وزابلستان ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... .
(1/43)
وطخارستان وَبنى الْحُصُون وَقسم أَمْوَال
المزدكية على الْفُقَرَاء ورد الْأَمْوَال الَّتِي لَهَا أَصْحَاب
إِلَى أَصْحَابهَا وَألْحق كل مَوْلُود اخْتلف فِيهِ بالشبه وَإِن
كَانَ ولد للمزدكية المقتولة جعله عبد الزَّوْج الْمَرْأَة الَّتِي
حبلت بِهِ من المزدكية وَأمر بِكُل امْرَأَة غلبت على نَفسهَا أَن
تُعْطِي من مَال المزدكي الَّذِي غلبها مهر مثلهَا وَأمر بنساء
المعروفين اللَّاتِي مَاتَ من يقوم عَلَيْهِنَّ أَو تَبرأ مِنْهُنَّ
أهلهن لفرط الْغيرَة والإنفة أَن يجمعهن فِي مَوضِع أفرده لَهُنَّ
وأجرى عَلَيْهِنَّ الْمُؤْنَة وَأمر أَن يزوجن من مَال كسْرَى
وَكَذَلِكَ فعل بالبنات اللَّاتِي لم يُوجد لَهُنَّ أَب، وَأما البنون
الَّذين لم يُوجد لَهُم أَب فأضافهم إِلَى مماليكه.
ورد الْمُنْذر إِلَى الْحيرَة وطرد الْحَارِث عَنْهَا وأطاعه قَيْصر
وَفتح الرها مَدِينَة هِرقل ثمَّ الْإسْكَنْدَريَّة وغزا الخزر وَتوجه
إِلَى عدن فسكن هُنَاكَ نَاحيَة من الْبَحْر بَين جبلين بالصخور وَعمد
الْحَدِيد ثمَّ طَالب الهياطلة بِدَم فَيْرُوز وكبس بِلَادهمْ وَقتل
ملكهم وخلقا من أَصْحَابه وَتجَاوز بَلخ وَمَا وَرَاءَهَا وَعَاد إِلَى
الْمَدَائِن وَأرْسل جَيْشًا إِلَى الْيمن وَقدم عَلَيْهِم وهرز
فَقتلُوا الْحَبَشَة المستولين عَلَيْهَا وَأعَاد ملك آبَاء سيف بن ذِي
يزن عَلَيْهِ بعد قتل ملك الْحَبَشَة مَسْرُوق بن أَبْرَهَة الأشرم
الَّذِي جَاءَ بالفيل إِلَى الْكَعْبَة وغزا براحان وَبنى بَاب
الْأَبْوَاب وَفِي زَمَانه ولد عبد اللَّهِ أَبُو النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأَرْبَع وَعشْرين سنة من ملكه وَلذَلِك
ولد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الثَّانِيَة
وَالْأَرْبَعِينَ من ملكه وَتُوفِّي أنوشروان سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ
وَثَمَانمِائَة للإسكندر لمضي سَبْعَة أشهر مِنْهَا.
ثمَّ ملك بعده ابْنه " هُرْمُز " فَعدل وَأخذ للأدنى من الشريف وَبَالغ
فِي ذَلِك حَتَّى أبغضته خواصه وَأقَام على بنيه ومحبيه وأفرط فِي
التَّشْدِيد بِالْعَدْلِ وَوضع صندوقا فِي أَعْلَاهُ خرق وَأمر أَن
يلقِي المتظلم قصَّته فِيهِ والصندوق بختمه قصد بذلك وُصُول الشكاوى
إِلَيْهِ بسهولة.
ثمَّ طلب أَن يعلم بالظلامات سَاعَة فساعة فَاتخذ سلسلة وخرق لَهَا فِي
دَاره مَوضِع جُلُوسه وَقت خلوته وَجعل فِيهَا جرسا ليحركها المنظلم
فيحضره وينصفه من ظالمه.
ثمَّ خرج عَلَيْهِ أَعدَاء مِنْهُم شابه ملك التّرْك وَملك الرّوم
وَالْعرب فَأرْسل عسكراً إِلَى ملك التّرْك مقدمهم بهْرَام جوبين بن
بهْرَام خشنش من أهل الرّيّ فَقتل شابه وَنهب عسكره وطردهم فَقَامَ
ابْن شابه مقَام أَبِيه وَصَالح بهْرَام جوبين.
ثمَّ أَمر هُرْمُز بهْرَام جوبين بغزو التّرْك فِي بِلَادهمْ فَلم ير
بهْرَام جوبين ذَلِك مصلحَة وَخَافَ من مُخَالفَة هُرْمُز فاتفق
بهْرَام وَعَسْكَره وخلعوا طَاعَة هُرْمُز فأنفذ هُرْمُز لَهُم عسكرا
فَصَارَ أَكْثَرهم مَعَ بهْرَام جوبين بعد قتال.
وَكَانَ برويز بن هُرْمُز مطرودا عَن أَبِيه إِلَى أذربيجان فَبَلغهُ
اتِّفَاق الأكابر على خلع أَبِيه وخشي من اسْتِيلَاء بهْرَام جوبين على
الْملك فقصد برويز أَبَاهُ ووثب خالا برويز على هُرْمُز وأمسكاه وسملا
عَيْنَيْهِ وَلبس برويز التَّاج.
وَمن أول ملك هُرْمُز إِلَى اسْتِقْرَار ابْنه برويز نَحْو ثَلَاث
عشرَة سنة وَنصف سنة فَإِن ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
... .
(1/44)
هُرْمُز بَقِي معتقلا مُدَّة مديدة ثمَّ
خنق وَجلسَ برويز على السرير وَخَالفهُ بهْرَام جوبين أظهر انتصاره
لهرمز وشنع على برويز بقتل أَبِيه وسمل عَيْنَيْهِ وتراسلا إِلَى أَن
تغلب بهْرَام جوبين وخشي برويز أَن يُقيم أَبَاهُ الْأَعْمَى صُورَة
ويستولي على الْملك فَقتل أَبَاهُ وَلحق برويز بِملك الرّوم مستنجدا
بِهِ.
وَوصل " بهْرَام جوبين " وتوج وَقعد على السرير وَقَالَ إِنَّنِي وَإِن
كنت لم أكن من بَيت الْملك فَإِن اللَّهِ تَعَالَى ملكني الْيَوْم
وَالْملك بِيَدِهِ يملكهُ من يَشَاء وَتزَوج برويز مَرْيَم بنت ملك
الرّوم وأنجده بِثَمَانِينَ ألف فَارس فقاتل بهْرَام جوبين وَلحق
ببرويز كثير من الْفرس فهرب بهْرَام جوبين إِلَى خُرَاسَان ثمَّ إِلَى
التّرْك.
ثمَّ تملك " برويز " وَأكْرم عَسْكَر الرّوم وأعادهم إِلَى ملكهم
واستقرار برويز فِي الْملك فِي أثْنَاء سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعمِائَة
للإسكندر.
وَملك برويز ثمانيا وَثَلَاثِينَ سنة وَلما اسْتَقر غزا الرّوم وَسَببه
أَن ملك الرّوم أَبَا زَوجته هلك فطرد الرّوم ابْنه وَأَقَامُوا غَيره
فحاربهم برويز وكسرهم ووصلت خيله الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَجمع
أَمْوَالًا لم تَجْتَمِع لغيره وَتزَوج شيرين الْمُغنيَة وَبنى لَهَا
قصر شيرين بَين حلوان وخانقين وَكَانَ لَهُ ثَمَانِيَة عشر ابْنا
أكبرهم شهريار وَمِنْهُم شيرويه ملك بعده وَأم شيرويه مَرْيَم بنت ملك
الرّوم.
ثمَّ عتا برويز وظلم وأنهى إِلَيْهِ زَاذَان فروخ مُتَوَلِّي الْحَبْس
أَنه اجْتمع فِي الْحَبْس سِتَّة وَثَلَاثُونَ ألف رجل وَضَاقَتْ
عَلَيْهِم الحبوس وأنتنوا وَطلب مِنْهُ ان يُعَاقب من يسْتَحق مِنْهُم
وَيقطع من يسْتَحق ويفرج عَنْهُم فَقَالَ برويز بل اقتلهم جَمِيعهم
واقطع رؤوسهم وَاجْعَلْهَا قُدَّام دَار المملكة فَاعْتَذر زَاذَان
فروخ واستعفى فَقَالَ إِن لم تقتلهم الْيَوْم قتلتك قبلهم وَشَتمه
وَأخرجه فَأعْلم زَاذَان فروخ المحبوسين بذلك فضجوا فَقَالَ إِن أفرجت
عَنْكُم تَأْخُذُوا بِأَيْدِيكُمْ مَا تجدونه فِي الْأَسْوَاق من آلَات
وأخشاب وتكبسوا كسْرَى فِي دَاره بَغْتَة فَحَلَفُوا على ذَلِك وَلم
يشْعر كسْرَى برويز إِلَّا بالغلبة.
وعجزت حَاشِيَته تِلْكَ السَّاعَة عَن الرَّد عَنهُ فاختفى مِنْهُم
بِجَانِب بُسْتَان بِالدَّار يعرف بباغ الْهِنْد فأخرجوه إِلَى زَاذَان
فروخ فحبسه فِي دَار رجل اسْمه مارسفيد وَقَيده بِقَيْد ووكل بِهِ
وَمضى إِلَى عقر بابل.
فجَاء وَمَعَهُ " شيرويه " بن برويز وَأَجْلسهُ على السرير فأطاعه
الْخَاص وَالْعَام فراسله أَبوهُ وقرعه فَقَالَ شيرويه لَا تعجب إِن
أَنا قتلتك فإنني أقتدي بك فِي سملك عَيْني أَبِيك هُرْمُز وَقَتله
وَلَو لم تفعل ذَلِك مَعَ أَبِيك مَا أقدم عَلَيْك ولدك بِمثل ذَلِك
وَأرْسل شيرويه إِلَيْهِ من لَهُ عَلَيْهِ ثأر فَقتله ولمضي
اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سنة وَخَمْسَة أشهر عشر يَوْمًا من ملك برويز
هَاجر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من مَكَّة
إِلَى الْمَدِينَة وَهلك برويز لمضي خمس سِنِين وَسِتَّة أشهر
وَخَمْسَة عشر يَوْمًا لِلْهِجْرَةِ لِأَن من السّنة الثَّانِيَة
وَالْأَرْبَعِينَ من ملك أنوشروان وَهِي سنة مولد ... ... ... ... ...
... ... ...
(1/45)
رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - إِلَى نصف السّنة الثَّالِثَة وَالثَّلَاثِينَ من ملك
برويز وَهِي عَام الْهِجْرَة ثَلَاثًا وَخمسين سنة.
بَيَانه أَن رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
ولد فِي السّنة الثَّانِيَة وَالْأَرْبَعِينَ من ملك أنوشروان وَهَاجَر
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ ابْن ثَلَاث
وَخمسين سنة فَيكون لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سبع
سِنِين فِي أَيَّام أنوشروان واثنتا عشر سنة فِي أَيَّام هُرْمُز بن
أنوشروان وَسنة وَنصف تَقْرِيبًا فِي الفترة الَّتِي كَانَت بَين
إمْسَاك هُرْمُز واستقرار ابْنه برويز وَاثْنَتَانِ وَثَلَاثُونَ سنة
وَنصف تَقْرِيبًا من ملك برويز ومجموع ذَلِك ثَلَاث وَخَمْسُونَ وعَلى
ذَلِك فَتكون السّنة الثَّالِثَة وَالثَّلَاثُونَ من ملك برويز هِيَ
السّنة الْخَامِسَة وَالثَّلَاثُونَ وَتِسْعمِائَة للإسكندر
تَقْرِيبًا.
وَكَانَت مُدَّة ملك برويز ثمانيا وَثَلَاثِينَ سنة فَيكون هَلَاك
برويز فِي سنة أَرْبَعِينَ وَتِسْعمِائَة للإسكندر.
ثمَّ ملك شيرويه وَكَانَ رَدِيء المزاج كثير الْأَمْرَاض صَغِير الْخلق
وَإِخْوَته السَّبْعَة عشر كَأَنَّهُمْ عوالي الرماح كملوا خلقا وخلقا
وأدبا فَقتل الْجَمِيع ثمَّ نَدم وسقم وجزع وَلم يلتذ بعدهمْ بِشَيْء
وَحرم النّوم وَبكى لَيْلًا وَنَهَارًا وَرمى التَّاج وَهلك على تِلْكَ
الْحَال وَمُدَّة ملكه ثَمَانِيَة أشهر.
ثمَّ ملك أزدشير بن شيرويه بن برويز قيل كَانَ ابْن سبع سِنِين وحضنه
مهزخنشنش فَأحْسن السياسة ثمَّ قتل وَمُدَّة ملكه سنة وَسِتَّة أشهر.
ثمَّ ملك " شهريراز " وَكَانَ من مقدمي الْفرس مُقيما فِي مُقَابلَة
الرّوم فِي عَسْكَر عَظِيم وإقطاعه الشَّام وبلغه ملك أزدشير وصغره
فَأقبل وهجم طيسفون لَيْلًا بعد قتال وَقتل مهزخشنش، وَقتل أدزشير
وَلبس التَّاج وَجلسَ على السرير وَلَيْسَ من بَيت الْملك وَلما جلس
على السرير مَنعه وجع بَطْنه عَن الْقيام إِلَى الْخَلَاء فَدَعَا بطشت
وستارة وتبرز بَين يَدي السرير فتطير النَّاس من ذَلِك.
وَكَانَ من سنة الْفرس إِذا ركب الْملك أَن تقف حرسه صفّين لَهُ
وَعَلَيْهِم الدروع وَالْبيض وبأيديهم السيوف مَشْهُورَة والرماح
فَإِذا حاذاهم وضع كل مِنْهُم ترسه على قربوس سَرْجه ثمَّ وضع جَبهته
عَلَيْهِ كَهَيئَةِ السُّجُود ثمَّ يرفعون رؤوسهم ويسيرون من جَانِبي
الْملك وَركب شهريزار فَوقف لَهُ فروخ وأخواه فِي جملَة الحرس فَلَمَّا
حاذاهم طعنوه ثَلَاثَتهمْ فألقوه عَن فرسه وحملت عُظَمَاء الْفرس على
اصحابه فَقتلُوا مِنْهُم جمَاعَة وشدوا فِي رجل شهريراز حبلا وجره
إقبالا وإدبارا لكَونه تعرض للْملك وَلَيْسَ من بَيته.
ثمَّ ملكوا " بوران " بنت كسْرَى برويز فأحسنت وَردت خَشَبَة الصَّلِيب
على ملك الرّوم فَعظم موقعها عِنْده وأطاعها فِيمَا كلفته وملكت سنة
وَأَرْبَعَة أشهر.
ثمَّ هَلَكت فَملك " خشنشده " من بني عَم كسْرَى برويز فَلم يدبر
الْملك وَكَانَ ملكه أقل من شهر وَقتل.
(1/46)
ثمَّ ملكت " أرزمي دخت " بنت كسْرَى برويز
فعدلت وأحسنت وَكَانَ أعظم الْفرس حِينَئِذٍ فَرح هُرْمُز أصيهبدا
خُرَاسَان وَكَانَت أرزمي دخت من أجمل النِّسَاء فَخَطَبَهَا هَذَا
فامتنعت ثمَّ أَجَابَتْهُ إِلَى الِاجْتِمَاع بِهِ فِي اللَّيْل ليقضي
وطره مِنْهَا فَحَضَرَ بالشمع وَالطّيب فَأمرت حرسها فَقتلته وَكَانَ
رستم بن فرخ هُرْمُز وَهُوَ الَّذِي تولى قتال الْمُسلمين فِيمَا بعد
قد جعله أَبوهُ نَائِبه على خُرَاسَان لما توجه بِسَبَب أرزمي دخت
فَلَمَّا قتلته جمع جمعا وقصدها فَقَتلهَا بثأر أَبِيه وَكَانَ ملكهَا
سِتَّة أشهر فَاخْتلف الْفرس فِيمَن يولون فَلم يَجدوا غير رجل من عقب
أزدشير بن بابك اسْمه " كسْرَى " بن مهزخشنش.
فملكوه فَلم يلق بِهِ الْملك فَقَتَلُوهُ بعد أَيَّام وَلم يَجدوا من
بَيت الْملك أحد إِلَّا رجلا اسْمه " فَيْرُوز " بن حستان يزْعم أَنه
من نسل أنوشروان فملكوه فَكبر رَأسه عَن التَّاج فَقَالَ مَا أضيق
هَذَا التَّاج فتطيروا من افْتِتَاح كَلَامه بالضيق وقتلوه.
ثمَّ ملك " فرخ زادخسرو " من ولد أنوشروان سِتَّة أشهر وقتلوه، ثمَّ
ملك يزدجر بن شهريار بن برويز بن هُرْمُز بن أنوشروان بن قباذ بن
فَيْرُوز بن يزدجرد بن بهْرَام جور بن يزدجرد بن بهْرَام بن سَابُور
ذِي الأكتاف بن هُرْمُز بن نرسي بن بهْرَام بن بهْرَام خر بن هُرْمُز
ابْن سَابُور بن أزدشير بن بابك.
وَكَانَ يزدجرد مختفيا بأصطخر لما قتل أَبوهُ مَعَ إخْوَته حِين
قَتلهمْ أخوهم شيرويه وَكَانَ ملك يزدجرد الْمَذْكُور كالخيال
بِالنِّسْبَةِ إِلَى ملك آبَائِهِ يدبر الوزراء ملكه وضعفت مملكة فَارس
واجترأ عَلَيْهِم أعداؤهم وغزا الْمُسلمُونَ بِلَادهمْ بعد أَن مضى من
ملكه ثَلَاث وَأَرْبع سِنِين وعمره إِلَى أَن قتل بمرو عشرُون سنة قتل
فِي خلَافَة عُثْمَان رَضِي اللَّهِ عَنهُ سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ
لِلْهِجْرَةِ وَهُوَ آخِرهم وَزَالَ ملكهم بِالْإِسْلَامِ إِلَى
الْأَبَد، فَهَذَا تَرْتِيب مُلُوك الْفرس من أوشهنج إِلَى يزدجرد من
تجارب الْأُمَم لِابْنِ مسكويه، وَمن كتاب أبي عِيسَى.
(1/47)
|