تاريخ ابن الوردي
(قصَّة الْفِيل)
اعْلَم أَنه لما صَار الْملك إِلَى أَبْرَهَة بِالْيمن بنى كَنِيسَة
عَظِيمَة وَقصد حج الْعَرَب إِلَيْهَا دون الْكَعْبَة فجَاء شخص وأحدث
فِي الْكَنِيسَة فَغَضب أَبْرَهَة وَسَار بجيشه وبالفيل، وَقيل
بِثَلَاثَة عشر فيلا لهدم الْكَعْبَة وَوصل الطَّائِف فَبعث الْأسود بن
مَقْصُود إِلَى مَكَّة فساق أَمْوَال أَهلهَا لأبرهة وَأرْسل أَبْرَهَة
إِلَى قُرَيْش يَقُول لست أقصد الْحَرْب بل جِئْت لأهدم الْكَعْبَة
فَقَالَ عبد الْمطلب: وَالله مَا نُرِيد حربه هَذَا بَيت اللَّهِ فَإِن
منع عَنهُ فَهُوَ بَيته وَحرمه وَإِن خلي بَينه وَبَينه فوَاللَّه مَا
عندنَا من دفع ثمَّ انْطلق عبد الْمطلب مَعَ رَسُول أَبْرَهَة إِلَيْهِ
فَقيل لَهُ هَذَا سيد قُرَيْش فَأذن لَهُ أَبْرَهَة وأكرمه وَنزل عَن
سَرِيره وَجلسَ مَعَه وَسَأَلَهُ عَن حَاجته فَذكر عبد الْمطلب أباعرة
الَّتِي أخذت لَهُ فَقَالَ أَبْرَهَة أَنِّي كنت أَظن أَنَّك تطلب مني
أَن لَا أخرب الْكَعْبَة الَّتِي هِيَ دينك فَقَالَ عبد الْمطلب أَنا
رب الأباعر فأطلبها وللبيت رب يمنعهُ فَأمر أَبْرَهَة برد أباعره
عَلَيْهِ فَانْصَرف بهَا إِلَى قُرَيْش.
وَلما قَارب أَبْرَهَة مَكَّة وتهيأ لَهَا صَار كلما قبل الْفِيل
مَكَّة وَكَانَ اسْمه مَحْمُودًا ينَام وَيَرْمِي بِنَفسِهِ إِلَى
الأَرْض وَلم يسر فَإِذا قبلوه غير مَكَّة قَامَ يُهَرْوِل وَبينا هم
كَذَلِك إِذا أرسل اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِم طيرا أبابيل أَمْثَال
الخطاطيف مَعَ كل طَائِر ثَلَاثَة أَحْجَار فِي منقاره وَرجلَيْهِ
يقذفهم بهَا وَهِي مثل الحمص والعدس فَلم تصب أحدا مِنْهُم إِلَّا هلك
وَلَيْسَ كلهم أَصَابَت.
ثمَّ أرسل اللَّهِ تَعَالَى سيلا فألقاهم فِي الْبَحْر وَالَّذِي سلم
مِنْهُم ولى هَارِبا مَعَ أَبْرَهَة إِلَى الْيمن يبتدر الطَّرِيق
وتساقطوا بِكُل منهل وَأُصِيب أَبْرَهَة فِي جسده وَسَقَطت أعضاؤه
وَوصل إِلَى صنعاء كَذَلِك وَمَات فَخرجت قُرَيْش إِلَى مَنَازِلهمْ
وغنموا شَيْئا كثيرا وَملك بعد أَبْرَهَة ابْنه مكوم ثمَّ أَخُوهُ
مَسْرُوق بن أَبْرَهَة وَمِنْه أَخذ الْعَجم الْيمن وَمن هُنَا نشرع
فِي التواريخ الإسلامية.
(1/92)
(مولد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - وَشرف نسبه الطَّاهِر)
ولد عبد اللَّهِ بن عبد الْمطلب قبل الْفِيل بِخمْس وَعشْرين سنة
وَكَانَ أَبوهُ يُحِبهُ لِأَنَّهُ كَانَ أحسن أَوْلَاده وأعفهم بَعثه
أَبوهُ يمتار لَهُ فَمر بِيَثْرِب فَمَاتَ بهَا ولرسول اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَهْرَان وَقيل كَانَ حملا وَدفن
فِي دَار الْحَارِث بن إِبْرَاهِيم بن سراقَة الْعَدوي وهم أخوال عبد
الْمطلب وَقيل فِي دَار النَّابِغَة ببني النجار وَتركته خَمْسَة أجمال
وَجَارِيَة حبشية اسْمهَا بركَة وكنيتها أم أَيمن وهى حاضنة رَسُول
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأما أم رَسُول
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَهِيَ آمِنَة بنت وهب
بن عبد منَاف بن زهرَة بن كلاب بن مرّة بن كَعْب بن لؤى بن غَالب بن
فهر وَهُوَ قُرَيْش.
" قلت ": تقدم الْخلاف فِي قُرَيْش فَفِي جزمه هُنَا بِأَنَّهُ فهر مَا
فِيهِ وَقد يُقَال قطع هُنَا بِأَنَّهُ الْأَصَح وَالله أعلم فَخَطب
عبد الْمطلب من وهب سيد بني زهرَة ابْنَته آمنهُ لعبد اللَّهِ فَزَوجهُ
بهَا فَولدت رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
يَوْم الأثنين لعشر خلون من ربيع الأول من عَام الْفِيل وَكَانَ قدوم
الْفِيل فِي منتصف الْمحرم مِنْهَا وَهِي الثَّانِيَة وَالْأَرْبَعُونَ
من ملك كسْرَى أنوشروان وَهِي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَثَمَانمِائَة
لغَلَبَة الْإِسْكَنْدَر على دَارا وَهِي سنة ألف وثلثمائة وست عشرَة
لبختنصر وَفِي السَّابِع من وِلَادَته ذبح جده عبد الْمطلب عَنهُ ودعا
لَهُ قُريْشًا فَلَمَّا أكلُوا قَالُوا: يَا عبد الْمطلب أَرَأَيْت
ابْنك هَذَا الَّذِي أكرمتنا على وَجهه مَا سميته؟ قَالَ: سميته
مُحَمَّدًا قَالُوا: فَبِمَ رغبت بِهِ عَن أَسمَاء أهل بَيته قَالَ:
أردْت أَن يحمده اللَّهِ فِي السَّمَاء وَخَلفه فِي الأَرْض.
وروى الْبَيْهَقِيّ بأسناده الْمُتَّصِل بِالْعَبَّاسِ رَضِي اللَّهِ
عَنهُ قَالَ: ولد رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- مختونا مَسْرُورا فأعجب جده عبد الْمطلب وحظي عِنْده وَقَالَ:
لَيَكُونن لِابْني هَذَا شَأْن، وبإسناده المنتهي إِلَى مَخْزُوم بن
هانىء المَخْزُومِي عَن أَبِيه قَالَ: لما كَانَت اللَّيْلَة الَّتِي
ولد فِيهَا رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
ارتجس إيوَان كسْرَى وَسَقَطت مِنْهُ أَربع عشرَة شرافة وخمدت نَار
فَارس وَلم تخمد قبل ذَلِك بِأَلف عَام، وغاصت بحيرة ساوة وَرَأى
الموبذان قَاضِي الْفرس فِي مَنَامه إبِلا صعابا تقود خيلا عرابا قد
قطعت دجلة وانتشرت فِي بلادها فَلَمَّا أصبح كسْرَى أفزعه ذَلِك
وَاجْتمعَ بموبذان فَقص عَلَيْهِ موبذان أَيْضا مَا رأى فَقَالَ
كسْرَى: أَي شَيْء يكون هَذَا فَقَالَ المؤبذان وَكَانَ عَالما: يكون
حدث من جِهَة الْعَرَب فَكتب كسْرَى إِلَى النُّعْمَان بن الْمُنْذر
أما
(1/93)
بعد فَوجه إِلَيّ بِرَجُل عَالم بِمَا
أُرِيد أَن أسأله عَنهُ فَوجه إِلَيْهِ بِعَبْد الْمَسِيح بن عَمْرو بن
حنان الغساني فَأخْبرهُ كسْرَى بِمَا كَانَ من ارتجاس الإيوان وَغَيره
فَقَالَ علم ذَلِك عِنْد خَال لي يسكن مشارف الشَّام يُقَال لَهُ سطيح
قَالَ كسْرَى فَاذْهَبْ إِلَيْهِ وسله وأتني بِتَأْوِيل مَا عِنْده
فَسَار عبد الْمَسِيح حَتَّى قدم على سطيح وَقد أشفى على الْمَوْت
فَسلم عَلَيْهِ وحياه فَلم يحر جَوَابا فَأَنْشد عبد الْمَسِيح.
(أَصمّ أم يسمع غطريف الْيمن ... أم فَإِذا فاض أم بِهِ شأو العنن)
(يَا فاصل الخطة أعيت من وَمن ... وَكَاشف الْكُرْبَة عَن وَجه الغضن)
(أَتَاك شيخ الْحَيّ من آل سنَن ... وَأمه من آل ذِئْب بن حجن)
(رَسُول قيل الْعَجم كسْرَى بالوسن ... لَا يرهب الرَّعْد وَلَا ريب
الزَّمن)
(تجوب فِي الأَرْض علنداة الشجن ... ترفعني وجنا وتهوى فِي وجن)
قلت وتتمته:
(حَتَّى أَتَى عاري الجآجي والقطن ... بلغَة فِي اللَّوْح بوفاء الدمن)
(كَأَنَّمَا حثحث من حصني سكن ... )
وَالله أعلم.
فَرفع سطيح رَأسه وَقَالَ عبد الْمَسِيح على جمل مشيخ يهوي إِلَى سطيح
وَقد أوفي على الضريح بَعثك ملك ساسان لارتجاس الإيوان وخمود النيرَان
ورؤيا الموبذان وَذكرهَا يملك مِنْهُم مُلُوك وملكات على عدد الشرفات
وكل مَا هُوَ آتٍ آتٍ ثمَّ قضى سطيح مَكَانَهُ ثمَّ قدم عبد الْمَسِيح
على كسْرَى وَأخْبرهُ بقول سطيح فَقَالَ إِلَى أَن يملك منا أَرْبَعَة
عشر ملكا تكون أُمُور هلك مِنْهُم عشرَة فِي أَربع سِنِين وَفِي العقد
أَن سطيحا على زمن نزار بن معد بن عدنان وَهُوَ الَّذِي قسم الْمِيرَاث
على بني نزار وَإِخْوَته.
قلت: الارتجاس الِاضْطِرَاب وَقد يكون من الصَّوْت وغاصت أَي نضبت وفاذ
وفاض إِذا مَاتَ يَا فاصل أَي يَا قَاطع والخطة الْأَمر الشَّديد أعيت
من أَي لم يدر مَا جِهَتهَا والغضن الْكثير الغضون وتجوب تقطع
والعلنداة الشَّدِيدَة الصلبة يَعْنِي النَّاقة والوجن والوجس الغلظ من
الأَرْض والجآجي جمع جؤجؤ وَهُوَ عظم الصَّدْر والقطن مأوى الْعَجز من
الظّهْر واللوح شدَّة الْحر والعطش والبوغاء التُّرَاب وَالله أعلم.
(شرفه وَشرف بَيته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -)
روى الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ رَفعه إِلَى الْعَبَّاس قَالَ: قلت
يَا رَسُول اللَّهِ إِن قُريْشًا إِذا الْتَقَوْا لَقِي بَعضهم بَعْضًا
بالبشاشة وَإِذا لقونا لقونا بِوُجُوه لَا نعرفها فَغَضب رَسُول
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْد ذَلِك غَضبا
شَدِيدا ثمَّ قَالَ: " وَالَّذِي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَا يدْخل قلب
رجل الْإِيمَان حَتَّى يحبكم للَّهِ وَلِرَسُولِهِ " وَذكر فِي مَوضِع
آخر عَن ابْن عمر رَضِي اللَّهِ عَنْهُمَا قَالَ: إِنَّا لقعود بِفنَاء
رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذْ مرت بِهِ
امْرَأَة فَقَالَ بعض الْقَوْم: هَذِه بنت رَسُول اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ أَبُو سُفْيَان: مثل
(1/94)
مُحَمَّد فِي بني هَاشم مثل الريحانة فِي
وسط التِّبْن فَانْطَلَقت الْمَرْأَة فَأخْبرت النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فجَاء النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يعرف فِي وَجهه الْغَضَب فَقَالَ: " مَا بَال
أَقْوَال تبلغني عَن أَقوام أَن اللَّهِ عز وَجل خلق السَّمَوَات سبعا
فَاخْتَارَ العلى مِنْهَا فأسكنها من شَاءَ من خلقه ثمَّ خلق الْخلق
فَاخْتَارَ من الْخلق بني آدم وَاخْتَارَ من بني آدم الْعَرَب
وَاخْتَارَ من الْعَرَب مُضر وَاخْتَارَ من مُضر قُريْشًا وَاخْتَارَ
من قُرَيْش بني هَاشم واختارني من بني هَاشم ".
وَعَن عَائِشَة رَضِي اللَّهِ عَنْهَا قَالَت قَالَ رَسُول اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قَالَ لي جِبْرِيل قلبت
الأَرْض مشارقها وَمَغَارِبهَا فَلم أجد احدا أفضل من مُحَمَّد وقلبت
الأَرْض مشارقها وَمَغَارِبهَا فَلم أجد بني أَب أفضل من بني هَاشم ".
" نسبه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " تقدم ذكر بني
إِسْمَاعِيل على عَمُود النّسَب وَأما نسب نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سردا فَهُوَ أَبُو الْقَاسِم مُحَمَّد بن عبد
اللَّهِ بن عبد الْمطلب بن هَاشم بن عبد منَاف بن قصي بن كلاب بن مرّة
بن كَعْب بن لؤَي بن غَالب فهر بن مَالك بن النَّضر بن كنَانَة بن
خُزَيْمَة بن مدركة بن إلْيَاس بن مُضر بن نزار بن معد بن عدنان وَنسبه
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى عدنان مُتَّفق عَلَيْهِ،
وعدنان من ولد إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم الْخَلِيل عَلَيْهِ
السَّلَام بِلَا خلاف إِنَّمَا الْخلاف فِي عدَّة الْآبَاء الَّذين
بَين عدنان وَإِسْمَاعِيل فعد بَعضهم بَينهمَا نَحْو أَرْبَعِينَ رجلا
وَبَعْضهمْ عد دون ذَلِك.
وَعَن أم سَلمَة زَوجته عَنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قَالَ: " عدنان بن أدد بن زيد بن يرا بن أعراق الثرى "، فَقَالَت أم
سَلمَة زيد هميسع ويرا بنت وَإِسْمَاعِيل أعراق الثرى.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: عدنان بن أدد بن الْمُقَوّم بن باحور بن تارخ
بن يعرب بن يشجب بن نابت بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم وَفِي شَجَرَة
النّسَب للجواني النسابة وَهُوَ الْمُخْتَار عدنان بن أد بن أدد بن
اليسع بن الهميسع بن سلامان بن نبت بن قيدار بن إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ
السَّلَام.
" رضاعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أول من أرضعه بعد
أمه ثويبة مولاة عَمه أبي لَهب مَعَ ابْنهَا مسروح بلبنه وَحَمْزَة
عَمه وَأَبا سَلمَة بن عبد الْأسد المَخْزُومِي فهما أَخَوَاهُ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الرَّضَاع وَكَانَت المراضع
يقدمن مَكَّة من الْبَادِيَة يطلبن أَن يرضعن الْأَطْفَال فقدمن فِي
سنة شهباء وَأخذت كل وَاحِدَة طفْلا وَلم تَجِد حليمة طفْلا غَيره
وَكَانَ يَتِيما مَاتَ أَبوهُ عبد اللَّهِ فَلم يرغبن فِيهِ لِأَن
الْمَعْرُوف يُرْجَى من أبي الصَّبِي.
" قلت ": وَمن معالم الْإِسْلَام قَالَت حليمة بنت أبي ذُؤَيْب بن
الحراث السعدية: فَذَهَبت فاحتملته إِلَى رحلي فَلَمَّا وَضعته فِي
حجري أقبل على ثدياي بِمَا شَاءَ فَشرب حَتَّى رُوِيَ وَشرب أَخُوهُ
حَتَّى رُوِيَ ثمَّ نَامَا وَمَا كَانَ أَي أَخُوهُ ينَام قبل ذَلِك
وَقَامَ زَوجي إِلَى شارفنا وَكَانَت مَا تبض بقطرة فَنظر إِلَيْهَا
فَإِذا أَنَّهَا لحافل فَحلبَ مِنْهَا حَتَّى شرب وشربت وبتنا بِخَير
لَيْلَة وَقَالَ لي صَاحِبي أخذت نسمَة مباركة قلت أَرْجُو ذَلِك ثمَّ
خرجنَا وَركبت أَتَانِي وَكَانَت عجفاء قَمْرَاء وحملتهما عَلَيْهَا
معي وَالله لَقطعت بالركب حَتَّى أَن صواحبي
(1/95)
ليقلن لي وَيحك يَا بنت أبي ذُؤَيْب أربعي
علينا وَالله إِن لَهَا لشأنا ثمَّ مروا بعراف فَقَالَت النسْوَة سَلِي
هَذَا فَجَاءَت حليمة إِلَيْهِ وأخبرته خَبره وَمَا قَالَت فِيهِ أمه
من رؤياها فصاح يَا آل هُذَيْل اقْتُلُوهُ وآلهته ليهلكن الأَرْض
وَإنَّهُ لينتظر أمرا من السَّمَاء قَالَت وقدمناه على عشرَة أعنز مَا
ير من الْبَيْت هزالًا وَإِن كُنَّا لنريح الْإِبِل وَأَنَّهَا لحفل
فنحلب وَنَشْرَب ونحلب شارفنا عبوقا وصبوحا وَجعل أهل الْحَاضِرَة
يَقُولُونَ لرعاتهم أبلغوا حَيْثُ تبلغ غنم حليمة فيبلغون فَلَا تَأتي
مَوَاشِيهمْ إِلَّا كَمَا كَانَت قبل ذَلِك وَتَروح غنم حليمة يخَاف
عَلَيْهَا الحبط وَالله أعلم.
ثمَّ قدمت بِهِ مَكَّة وَهِي أحرص النَّاس على مكثه عِنْدهَا فَقَالَت
لأمه آمِنَة: لَو تركت ابْني عِنْدِي حَتَّى يغلظ فَإِنِّي أخْشَى
عَلَيْهِ وباء مَكَّة وَلم تزل بِهِ حَتَّى تركته مَعهَا فَعَادَت بِهِ
إِلَى بِلَاد بني سعد وَكَانَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي بعض الْأَيَّام مَعَ أَخِيه من الرَّضَاع
خَارِجا عَن الْبيُوت إِذْ أَتَى ابْن حليمة أمه يشْتَد وَقَالَ لَهَا
ولأبيه ذَاك أخي الْقرشِي قد جَاءَ رجلَانِ عَلَيْهِمَا ثِيَاب بَيَاض
فأضجعاه وشقا بَطْنه وهما يسوطانه فَخرجت حليمة وَزوجهَا نَحوه فواجداه
قَائِما فَقَالَا: مَا لَك يَا بني؟ قَالَ: جَاءَنِي رجلَانِ بطست من
ذهب مَمْلُوء ثلجا فأضجعاني وشقا بَطْني.
قلت: تتمته ثمَّ استخرجا قلبِي فشقاه فاستخرجا مِنْهُ علقَة سَوْدَاء
ثمَّ غسلا بَطْني وقلبي بذلك الثَّلج حَتَّى أنقياه، ويروى وختما
عَلَيْهِ بِخَاتم من نور وَالله أعلم. فَقَالَ زوج حليمة لَهَا: قد
خشيت أَن هَذَا الْغُلَام قد أُصِيب فألحقيه بأَهْله، فَقدمت بِهِ على
أمه آمِنَة فَقَالَت: مَا أقدمك بِهِ وَكنت حريصة عَلَيْهِ.؟ فَقَالَت
حليمة: تخوفت عَلَيْهِ الشَّيْطَان، قَالَت أمه: كلا وَالله مَا
للشَّيْطَان عَلَيْهِ من سَبِيل إِن لِابْني شَأْنًا.
" وإخواته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الرَّضَاع " عبد
اللَّهِ وأنيسة وجذامة وَهِي الشيماء غلب ذَلِك على
اسْمهَا وأمهم حليمة وأبوهم الْحَارِث بن عبد الْعُزَّى السَّعْدِيّ
قدمت حليمة عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد أَن
تزوج خَدِيجَة وَشَكتْ الجدب فَكلم لَهَا خَدِيجَة رَضِي اللَّهِ
عَنْهَا فأعطتها أَرْبَعِينَ شَاة ثمَّ قدمت حليمة وَزوجهَا الْحَارِث
عَلَيْهِ بعد النُّبُوَّة فَأَسْلمَا، وَبَقِي مَعَ أمه آمِنَة
فَلَمَّا بلغ سِتّ سِنِين توفيت أمه بالأبواء بَين مَكَّة وَالْمَدينَة
وَكَانَت قد قدمت بِهِ على أَخْوَاله بني عدي بن النجار تزيره إيَّاهُم
فَمَاتَتْ وَهِي رَاجِعَة إِلَى مَكَّة وكفله جده عبد الْمطلب فَلَمَّا
بلغ ثَمَان سِنِين توفّي جده عبد الْمطلب ثمَّ قَامَ بكفالته عَمه
أَبُو طَالب بن عبد الْمطلب وَأَبُو طَالب شَقِيق عبد اللَّهِ، ثمَّ
خرج بِهِ أَبُو طَالب فِي تِجَارَة لَهُ إِلَى الشَّام.
قلت: وَأوصى عبد الْمطلب قبل وَفَاته أَبَا طَالب بِهِ وَقَالَ فِيمَا
أوصاه بِهِ:
(أوصِي أَبَا طَالب بعدِي بِذِي رحم ... مُحَمَّد وَهُوَ فِي ذَا
النَّاس مَحْمُود)
(هَذَا الَّذِي تزْعم الْأَحْبَار أَن لَهُ ... أمرا سيظهره نصر
وتأييد)
(فِي كتب مُوسَى وَعِيسَى مِنْهُ بَيِّنَة ... كَمَا يحدثني الْقَوْم
العبابيد)
(1/96)
(فاحذر عَلَيْهِ شرار النَّاس كلهم ...
والحاسدين فَإِن الْخَيْر مَحْسُود)
وَالله أعلم.
فَلَمَّا وصل مَعَ عَمه إِلَى بصرى وعمره إِذْ ذَاك ثَلَاث عشرَة سنة
رَآهُ بحيرا الراهب فَرَأى الغمامة تظله فَقَالَ لأبي طَالب: ارْجع
بِهِ وَاحْذَرْ عَلَيْهِ الْيَهُود فَخرج بِهِ أَبُو طَالب بعد فَرَاغه
من تِجَارَته حَتَّى أقدمه مَكَّة.
قلت: وَرَآهُ إِذن رجال من الْيَهُود فعرفوا صفته وَأَرَادُوا أَن
يغتالوه وهم زرير ودريس وَتَمام فَذَهَبُوا إِلَى بحيرا فذاكروه ذَلِك
ويظنون أَن بحيرا سيتابعهم على رَأْيهمْ فنهاهم أَشد النَّهْي وَقَالَ:
أتجدون صفته؟ قَالُوا نعم، قَالَ: فمالكم إِلَيْهِ سَبِيل، وَقَالَ
أَبُو طَالب فِي ذَلِك:
(إِن ابْن آمِنَة الْأمين مُحَمَّدًا ... عِنْدِي بِمثل منَازِل
الْأَوْلَاد)
(لما تعلق بالزمام رَحمته ... والعيس قد قلصن بالأرواد)
وَمِنْهَا:
(راعيت فِيهِ قرَابَة مَوْصُولَة ... وَذكرت فِيهِ وَصِيَّة الأجداد)
(وأمرته بالسير بَين عمومة ... بيض الْوُجُوه مصالت أنجاد)
(حَتَّى إِذا مَا الْقَوْم بصرى عاينوا ... لاقوا على شرك من المرصاد)
(حبرًا فَأخْبرنَا حَدِيثا صَادِقا ... عَنهُ ورد معاشر الحساد)
(قوم بهود قد رَأَوْا مَا قدر رأى ... ظلّ الغمامة وغر الأكباد)
(ثَارُوا لقتل مُحَمَّد فنهاهم ... عَنهُ واجهد أحسن الإجهاد)
وَالله أعلم، وشب رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- حَتَّى بلغ فَكَانَ أعظم النَّاس مُرُوءَة وحلما وَأَحْسَنهمْ
جَوَابا وأصدقهم حَدِيثا وأبعدهم عَن الْفُحْش حَتَّى سَمَّاهُ قومه
الْأمين وَحضر مَعَ عمومته حَرْب الْفجار وعمره أَربع عشرَة سنة وَهِي
حَرْب بَين قُرَيْش وَبَين هوَازن انتهكت فِيهَا هوَازن حُرْمَة الْحرم
فسميت بالفجار كَانَت الكرة فِيهَا أَولا على قُرَيْش وكنانة ثمَّ
انتصرت قُرَيْش.
وَبلغ خَدِيجَة بنت خويلد بن أَسد بن عبد الْعُزَّى بن قصي بن كلاب
صدقه وأمانته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فعرضت خَدِيجَة
عَلَيْهِ سَفَره فِي تِجَارَة لَهَا إِلَى الشَّام مَعَ غلامها ميسرَة
فَأجَاب وَخرج وَمَعَهُ ميسرَة حَتَّى قدم الشَّام وَبَاعَ وَاشْترى
وَرجع قَافِلًا إِلَى مَكَّة بِمَال خَدِيجَة فحدثها ميسرَة بِمَا
شَاهد مِنْهُ وَأَن ملكَيْنِ كَانَا يظلانه وَقت الْحر فعرضت خَدِيجَة
نَفسهَا عَلَيْهِ فَتَزَوجهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أَيّمَا وَهِي بنت أَرْبَعِينَ سنة وَأصْدقهَا عشْرين بكرَة وَآمَنت
بِهِ وَهِي أول أَزوَاجه وَلم يتَزَوَّج غَيرهَا حَتَّى مَاتَ رَضِي
اللَّهِ عَنْهَا وَعَاشَتْ مَعَه بعد مبعثه عشر سِنِين وَتوفيت قبل
الْهِجْرَة بِثَلَاث سِنِين.
(تَجْدِيد قُرَيْش عمَارَة الْكَعْبَة)
كَانَت الْكَعْبَة قَصِيرَة الْبناء فهدمتها قُرَيْش ثمَّ بنوها حَتَّى
بلغ الْبُنيان الْحجر الْأسود فاختصموا فِيهِ وأرادت كل قَبيلَة رَفعه
إِلَى مَوْضِعه ثمَّ اتَّفقُوا على تحكيم أول دَاخل من بَاب
(1/97)
الْحرم فَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أول دَاخل
فَقَالُوا هَذَا الْأمين وعمره إِذْ ذَاك خمس وَثَلَاثُونَ سنة فحكموه
فَأَمرهمْ بِوَضْع الْحجر الْأسود فِي وسط عباءة ثمَّ أَمر كل قَبيلَة
أَن يَأْخُذُوا بِطرف من العباءة حَتَّى انْتَهوا بِهِ إِلَى مَوضِع
الرُّكْن فَأَخذه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَوَضعه فِي
مَوْضِعه.
ثمَّ أَتموا بِنَاء الْكَعْبَة وَكَانَت تُكْسَى الْقبَاطِي ثمَّ
كُسِيت البرود وَأول من كساها الديباج الْحجَّاج بن يُوسُف. |