تاريخ ابن الوردي
وَلما بلغ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْبَعِينَ سنة بَعثه اللَّهِ إِلَى الْأسود
والأحمر رَسُولا نَاسِخا بِشَرِيعَتِهِ الشَّرَائِع الْمَاضِيَة فَأول
مَا ابتدىء بِهِ من النُّبُوَّة الرُّؤْيَا الصادقة وحبب اللَّهِ
إِلَيْهِ الْخلْوَة وَكَانَ يجاور فِي جبل حراء من كل سنة شهرا فَفِي
سنة مبعثة خرج بأَهْله فِي رَمَضَان إِلَى حراء للمجاورة فِيهِ حَتَّى
إِذا كَانَت اللَّيْلَة الَّتِي أكْرمه اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا
جَاءَهُ جِبْرِيل فَقَالَ لَهُ اقْرَأ: قَالَ لَهُ فَمَا أَقرَأ قَالَ
{اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق} إِلَى قَوْله تَعَالَى {علم
الْإِنْسَان مَا لم يعلم}
فقرأها ثمَّ خرج إِلَى وسط الْجَبَل فَسمع صَوتا من جِهَة السَّمَاء
يَا مُحَمَّد أَنْت رَسُول اللَّهِ وَأَنا جِبْرِيل فَبَقيَ وافقا فِي
مَوْضِعه يُشَاهد جِبْرِيل حَتَّى انْصَرف جِبْرِيل ثمَّ انْصَرف
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَحكى لِخَدِيجَة مَا
رأى فَقَالَت: أبشر فوالذي نفس خَدِيجَة بِيَدِهِ إِنِّي لأرجو أَن
تكون نَبِي هَذِه الْأمة، ثمَّ أَتَت خَدِيجَة ابْن عَمها ورقة بن
نَوْفَل بن الْحَارِث بن أَسد بن عبد الْعُزَّى بن قصي وَكَانَ شَيخا
كَبِيرا.
قلت: وَكَانَ ورقة قد عمي وَتَنصر فِي الْجَاهِلِيَّة وَكتب من
التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالله أعلم فَلَمَّا ذكرت خَدِيجَة لورقة
أَمر جِبْرِيل وَمَا رأى ميسرَة فَقَالَ ورقة: إِنَّه ليَأْتِيه
الناموس الْأَكْبَر.
قلت: وَأخْبرهُ أَيْضا رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فَقَالَ ورقة هَذَا الناموس الَّذِي أنزل على مُوسَى يَا
لَيْتَني أكون فِيهَا جذعا حِين يخْرجك قَوْمك فَقَالَ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَو مخرجي هم "؟ فَقَالَ ورقة: نعم
لم يَأْتِ قطّ بِمثل مَا جِئْت بِهِ أحد إِلَّا عودي وأوذي وَإِن
يدركني يَوْمك أنصرك نصرا مؤزرا وَقَالَ ورقة فِي ذَلِك أبياتا
مِنْهَا:
(وَوصف من خَدِيجَة بعد وصف ... فقد طَال انتظاري يَا خديجا)
(بِمَا أخْبرته من قَول قس ... من الرهبان يكره أَن يصوجا)
(بِأَن مُحَمَّدًا سيسود يَوْمًا ... ويخصم من يكون لَهُ حجيجا)
(وَيظْهر فِي الْبِلَاد ضِيَاء نور ... يُقيم بِهِ الْبَريَّة أَن
تموجا)
(أَلا يَا لَيْتَني إِن كَانَ ذَا كم ... شهِدت وَكنت أَوَّلهمْ ولوجا)
(ولوجا فِي الَّذِي كرهت قُرَيْش ... وَلَو عجت بمنكبها عجيجا)
وَقَالَ أَيْضا:
(يَا للرِّجَال لصرف الْهم وَالْقدر ... وَمَا لشَيْء قَضَاهُ اللَّهِ
من غير)
(حَتَّى خَدِيجَة تَدعُونِي لأخبرها ... أمرا أرَاهُ سَيَأْتِي النَّاس
عَن أثر)
(فخبرتني بِأَمْر قد سَمِعت بِهِ ... فِيمَا مضى من قديم النَّاس
وَالْعصر)
(1/98)
(بِأَن أَحْمد يَأْتِيهِ فيخبره ...
جِبْرِيل أَنَّك مَبْعُوث إِلَى الْبشر)
(فَقلت إِن الَّذِي ترجين يُنجزهُ ... لَك الْإِلَه فارجى الْخَيْر
وانتظري)
(وارسليه إِلَيْنَا كي نسائله ... عَن أمره مَا يرى فِي النّوم والسهر)
(فَقَالَ حِين أَتَانَا منطقا عجبا ... يقف مِنْهُ أعالي الْجلد
وَالشعر)
(إِنِّي رَأَيْت أَمِين اللَّهِ واجهني ... فِي صُورَة كملت فِي أهيب
الصُّور)
(ثمَّ اسْتمرّ وَكَاد الْخَوْف يذعرني ... مِمَّا يسلم مَا حَولي من
الشّجر)
وَالله أعلم، وَلما قضى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جواره
انْصَرف وَطَاف بِالْبَيْتِ اسبوعا ثمَّ تَوَاتر إِلَيْهِ الْوَحْي،
وَفِي الحَدِيث الصَّحِيح " كمل من الرِّجَال كثير وَلم يكمل من
النِّسَاء إِلَّا أَربع آسِيَة زَوْجَة فِرْعَوْن وَمَرْيَم بنت عمرَان
وَخَدِيجَة بنت خويلد وَفَاطِمَة بنت مُحَمَّد ".
(أول من أسلم)
أول من أسلم خَدِيجَة وَقيل عَليّ وَهُوَ ابْن تسع وَقيل عشر وَقيل
إِحْدَى عشرَة وَكَانَ قبل الْإِسْلَام فِي حجر رَسُول اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَصَابَت قُرَيْش أزمة وَكَانَ
أَبُو طَالب كثير الْعِيَال فَقَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِعَمِّهِ الْعَبَّاس: " إِن أَخَاك أَبَا طَالب
كثير الْعِيَال فَانْطَلق بِنَا لنأخذ من بنيه مَا نخفف عَنهُ بِهِ "
فَأتيَاهُ لذَلِك فَقَالَ أَبُو طَالب: اتركا لي عقيلا واصنعا مَا
شئتما، فَأخذ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
عليا فضمه إِلَيْهِ وَأخذ الْعَبَّاس جعفرا فَلم يزل عَليّ مَعَه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى بَعثه اللَّهِ فَصدقهُ
وَلم يزل جَعْفَر مَعَ الْعَبَّاس حَتَّى أسلم وَمن شعر عَليّ فِي
سبقه:
(سبقتكم إِلَى الْإِسْلَام طرا ... غُلَاما مَا بلغت أَوَان حلمي)
وَفِي السِّيرَة أَن زيد بن حَارِثَة مولى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أسلم بعد عَليّ اشْتَرَاهُ وَأعْتقهُ،
ثمَّ أسلم بعد زيد أَبُو بكر ثمَّ عُثْمَان بن عَفَّان وَعبد
الرَّحْمَن بن عَوْف وَسعد بن أبي وَقاص وَالزُّبَيْر بَين الْعَوام
وَطَلْحَة بن عبيد اللَّهِ دعاهم أَبُو بكر إِلَى الْإِسْلَام وَجَاء
بهم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأسلموا، ثمَّ
أسلم أَبُو عُبَيْدَة عَامر بن عبد اللَّهِ بن الْجراح وَعبيدَة بن
الْحَارِث وَسَعِيد بن زيد بن عَمْرو بن نفَيْل بن عبد الْعُزَّى
وَهُوَ ابْن عَم عمر بن الْخطاب، وَعبد اللَّهِ بن مَسْعُود وعمار بن
يَاسر.
قلت: وَردت أَحَادِيث فِي أول من أسلم فَقيل أَبُو بكر وَقيل عَليّ
وَقيل خَدِيجَة وَقيل زيد بن حَارِثَة وَمَا أحسن مَا جمع بَعضهم بَين
الْأَحَادِيث وَهُوَ الْأَلْيَق فَإِن الْجمع وَلَو بِوَجْه أولى
فَقَالَ أول من أسلم من الرِّجَال أَبُو بكر وَمن النِّسَاء خَدِيجَة
وَمن الصّبيان عَليّ وَمن الموالى زيد بن الحارثة وَالله أعلم.
وَكَانَت دَعوته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سرا ثَلَاث
سِنِين ثمَّ أَمر بِإِظْهَار الدعْوَة وَلما نزل {وأنذر عشيرتك
الْأَقْرَبين} دَعَا عليا فَقَالَ: " اصْنَع لنا صَاعا من طَعَام
وَاجعَل لنا عَلَيْهِ رجل شَاة واملأ لنا عسا من لبن واجمع لي بني
الْمطلب حَتَّى أكلمهم وأبلغهم مَا أمرت بِهِ " فَفعل ودعاهم وهم
أَرْبَعُونَ رجلا يزِيدُونَ رجلا أَو ينقصونه فيهم أَعْمَامه أَبُو
طَالب وَحَمْزَة وَالْعَبَّاس وأحضر
(1/99)
عَليّ الطَّعَام فَأَكَلُوا حَتَّى
شَبِعُوا، قَالَ عَليّ: لقد كَانَ الرجل الْوَاحِد مِنْهُم ليَأْكُل
جَمِيع مَا شَبِعُوا كلهم مِنْهُ فَلَمَّا فرغوا من الْأكل وَأَرَادَ
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يتَكَلَّم بدره
أَبُو لَهب إِلَى الْكَلَام فَقَالَ: أَشد مَا سحركم صَاحبكُم فَتفرق
الْقَوْم وَلم يكلمهم رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - ثمَّ قَالَ يَا عَليّ: " قد رَأَيْت كَيفَ سبقني هَذَا
الرجل إِلَى الْكَلَام فَاصْنَعْ لنا فِي غَد كَمَا صنعت الْيَوْم
واجمعهم ثَانِيًا " فَصنعَ عَليّ فِي الْغَد كَذَلِك فَلَمَّا أكلُوا
وَشَرِبُوا اللَّبن قَالَ لَهُم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
-: " مَا أعلم إنْسَانا فِي الْعَرَب جَاءَ قومه بِأَفْضَل مِمَّا
جِئتُكُمْ بِهِ قد جِئتُكُمْ بخيري الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَقد
أَمرنِي الله أَن أدعوكم إِلَيْهِ فَإِنَّكُم تؤازروني على هَذَا
الْأَمر " فأحجم الْقَوْم جَمِيعًا.
قَالَ عَليّ: فَقلت وَإِنِّي لأحدثهم سنا وأرمصهم عينا وأعظمهم بَطنا
وأحمشهم ساقا: أَنا يَا نَبِي اللَّهِ أكون وزيرك عَلَيْهِم وَذكر
الحَدِيث فَقَامَ الْقَوْم يَضْحَكُونَ وَيَقُولُونَ لأبي طَالب قد سرك
أَن نسْمع لابنك ونطيع وَاسْتمرّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- على مَا أمره اللَّهِ تَعَالَى لم يبعد عَنهُ قومه وَلم يردوا
عَلَيْهِ حَتَّى عَابَ آلِهَتهم وَنسب قومه وآباءهم إِلَى الْكفْر
والضلال فَأَجْمعُوا على عداوته إِلَّا من عصمَة اللَّهِ
بِالْإِسْلَامِ.
وذب عَنهُ عَمه أَبُو طَالب فجَاء أَبَا طَالب رجال من أَشْرَاف
قُرَيْش مِنْهُم عتبَة وَشَيْبَة ابْنا ربيعَة بن عبد منَاف وَأَبُو
سُفْيَان بن أُميَّة بن عبد شمس وَأَبُو البحتري بن هِشَام بن
الْحَارِث بن أَسد وَالْأسود بن الْأسود بن الْمطلب بن أَسد وَأَبُو
جهل وَنبيه ومنبه ابْنا الْحجَّاج السهميان وَالْعَاص بن وَائِل
السَّهْمِي وَهُوَ أَبُو عَمْرو بن الْعَاصِ فَقَالُوا: يَا أَبَا
طَالب إِن ابْن أَخِيك قد عَابَ ديننَا وسفه أَحْلَامنَا وضلل أباءنا
فانهه عَنَّا أَو خل بَيْننَا وَبَينه فردهم أَبُو طَالب ردا حسنا
وَاسْتمرّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على مَا هُوَ
عَلَيْهِ فَعظم عَلَيْهِم وَأتوا أَبَا طَالب ثَانِيًا وَقَالُوا: إِن
لم تَنْهَهُ وَإِلَّا نازلناك وإياه حَتَّى يهْلك أحد الْفَرِيقَيْنِ
فَعظم عَلَيْهِ وَقَالَ لرَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - يَا ابْن أخي إِن قَوْمك قَالُوا لي كَذَا وَكَذَا فَظن -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن عَمه خاذله فَقَالَ: " يَا
عَم لَو وضعُوا الشَّمْس فِي يَمِيني وَالْقَمَر فِي شمَالي مَا تركت
هَذَا الْأَمر ".
ثمَّ استعبر فَبكى وَقَامَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
فناداه أَبُو طَالب: أقبل يَا ابْن أخي وَقل مَا أَحْبَبْت فوَاللَّه
لَا أسلمك لشَيْء أبدا، فَأخذت كل قَبيلَة تعذب كل من أسلم مِنْهَا
وَمنع اللَّهِ رَسُوله بِعَمِّهِ أبي طَالب.
" إِسْلَام حَمْزَة " كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - عِنْد الصَّفَا فَمر بِهِ [إِسْنَاده صَحِيح] . أَبُو جهل
بن هِشَام فشتم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلم
يكلمهُ وَكَانَ حَمْزَة فِي القنص فَلَمَّا حضر أنبأته مولاة لعبد
اللَّهِ بن جدعَان بشتم أبي جهل لِابْنِ أَخِيه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَغَضب حَمْزَة وَقصد الْبَيْت ليطوف بِهِ
وَهُوَ متوشح قوسه فَوجدَ ابْن هِشَام قَاعِدا مَعَ جمَاعَة فَضَربهُ
حَمْزَة بِالْقَوْسِ فَشَجَّهُ ثمَّ قَالَ أتشتم مُحَمَّدًا وَأَنا على
دينه فَقَامَتْ رجال من بني مَخْزُوم لينصروا أَبَا جهل فَقَالَ أَبُو
جهل: دَعوه فَإِنِّي سببت ابْن أَخِيه سبا قبيحا، ودام حَمْزَة على
إِسْلَامه وَعلمت قُرَيْش أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قد عز وَامْتنع بِإِسْلَام حَمْزَة.
(1/100)
(إِسْلَام عمر بن الْخطاب)
ابْن نفَيْل بن عبد الْعُزَّى كَانَ شَدِيد الْبَأْس والعداوة للنَّبِي
فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " اللَّهُمَّ أعز
الْإِسْلَام بعمر بن الْخطاب أَو بِأبي الحكم بن هِشَام " وَهُوَ أَبُو
جهل قلت: وَفِيه قيل سَمَّاهُ معشره أَبَا حكم وَالله سَمَّاهُ أَبَا
جهل وَالله أعلم. فهدى اللَّهِ تَعَالَى عمر رَضِي اللَّهِ عَنهُ
وَكَانَ قد أَخذ سَيْفه وَقصد قتل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فَلَقِيَهُ نعيم بن عبد اللَّهِ النحام فَقَالَ مَا
تُرِيدُ يَا عمر فَأخْبرهُ فَقَالَ لَهُ نعيم لَئِن فعلت ذَلِك لم
يتركك بَنو عبد منَاف تمشي على الأَرْض وَلَكِن اردع أختك وَابْن عمك
سعيد بن زيد وخبابا فَإِنَّهُم قد أَسْلمُوا فقصدهم عمر وهم يَتلون
سُورَة طه من صحيفَة فَسمع شَيْئا مِنْهَا وَعَلمُوا بِهِ فأخفوا
الصَّحِيفَة فَسَأَلَهُمْ عَمَّا سَمعه فأنكروه فَضرب أُخْته فشجها
وَقَالَ أريني مَا كُنْتُم تقرؤنه وَكَانَ عمر قَارِئًا كَاتبا فخافت
على الصَّحِيفَة فعاهدها على ردهَا إِلَيْهَا فدفعتها إِلَيْهِ فقرأها
وَقَالَ: مَا احسن هَذَا وأكرمه.
فطمعت فِي إِسْلَامه فَخرج إِلَيْهِ خباب وَكَانَ قد استخفى مِنْهُ
فَسَأَلَهُمَا عمر عَن مَوضِع رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالُوا هُوَ بدار عِنْد الصَّفَا وَكَانَ
عِنْده نَحْو أَرْبَعِينَ نفسا مَا بَين رجال وَنسَاء وهم حَمْزَة
وَأَبُو بكر وَعلي رَضِي اللَّهِ عَنْهُم فقصدهم عمر متوشحا سَيْفه
فَأذن لَهُ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
فَلَمَّا دخل نَهَضَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأخذ
بمجمع رِدَائه وجبذه جبذة شَدِيدَة وَقَالَ: " مَا جَاءَ بك يَا ابْن
الْخطاب أَو مَا تزَال حَتَّى تنزل بك قَارِعَة " فَقَالَ عمر: يَا
رَسُول اللَّهِ جِئْت لأومن بِاللَّه وَرَسُوله فَكبر رَسُول اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَتمّ إِسْلَام عمر، وَلما
اشْتَدَّ أَذَى قُرَيْش لأَصْحَابه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - أذن لمن لَيْسَ لَهُ عشيرة تحميه فِي الْهِجْرَة إِلَى أَرض
الْحَبَشَة فَأول من خرج اثْنَا عشر رجلا وَأَرْبع نسْوَة مِنْهُم
عُثْمَان وَمَعَهُ زَوجته رقية بنت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - وَالزُّبَيْر وَعُثْمَان بن مَظْعُون وَعبد اللَّهِ بن
مَسْعُود وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وركبوا الْبَحْر إِلَى
النَّجَاشِيّ فأقاموا عِنْده.
ثمَّ هَاجر جَعْفَر بن أبي طَالب وتتابع الْمُسلمُونَ وَجَمِيع من
هَاجر من الْمُسلمين إِلَى الْحَبَشَة ثَلَاثَة وَثَمَانُونَ رجلا سوى
الصغار وَمن ولد ثمَّ فَأرْسلت قُرَيْش فِي طَلَبهمْ عبد اللَّهِ ابْن
أبي ربيعَة وَعَمْرو بن الْعَاصِ وَأرْسلت مَعَهُمَا هَدِيَّة من
الْأدم للنجاشي فوصلا وطلبا من النَّجَاشِيّ الْمُهَاجِرين فَلم يجبهما
ورد هديتهما فَقَالَ عَمْرو بن الْعَاصِ: سلهم مَا يَقُولُونَ فِي
عِيسَى فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا مَا قَالَه اللَّهِ تَعَالَى من أَنه
كلمة اللَّهِ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم الْعَذْرَاء فَلم يُنكر
النَّجَاشِيّ ذَلِك وَأَقَامُوا فِي جواره آمِنين ورجعا خائبين
وَرَأَتْ قُرَيْش ذَلِك وَجعل الْإِسْلَام يفشو فِي الْقَبَائِل
فتعاهدوا على بني هَاشم وَبني الْمطلب أَن لَا يناكحوهم وَلَا يبايعوهم
وَكَتَبُوا بذلك صحيفَة وتركوها فِي جَوف الْكَعْبَة توكيدا.
وانحاز بَنو هَاشم كافرهم ومسلمهم إِلَى أبي طَالب ودخلوا مَعَه فِي
شعبه وَخرج من بني هَاشم أَبُو لَهب عبد الْعُزَّى بن عبد الْمطلب
إِلَى قُرَيْش مُظَاهرا لَهُم وَكَانَت امْرَأَته أم جميل بنت حَرْب
أُخْت أبي سُفْيَان على رَأْيه فِي عَدَاوَة رَسُول اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَت تحمل الشوك
(1/101)
فتضعه فِي طَرِيقه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فسماها اللَّهِ تَعَالَى حمالَة الْحَطب وَأقَام
بَنو هَاشم فِي الشّعب وَمَعَهُمْ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَحْو ثَلَاث سِنِين.
قلت: فَكَانَ بَنو هَاشم مَحْصُورين فِي الشّعب لَا يخرجُون إِلَّا من
موسم إِلَى موسم وشلت يَد كَاتب الصَّحِيفَة مَنْصُور بن عِكْرِمَة
الْعَبْدي حَتَّى يَبِسَتْ وَالله أعلم. وَبلغ الْمُهَاجِرين
بِالْحَبَشَةِ أَن أهل مَكَّة أَسْلمُوا فَقدم مِنْهُم ثَلَاثَة
وَثَلَاثُونَ رجلا فَلَمَّا قربوا من مَكَّة لم يَجدوا ذَلِك صَحِيحا
فَدَخَلُوهَا مستخفين وَمن القادمين عُثْمَان وَالزُّبَيْر وَعُثْمَان
بن مَظْعُون ثمَّ ان النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قَالَ لأبي طَالب: " يَا عَم إِن رَبِّي سلط الأرضة على صحيفَة قُرَيْش
فَلم تدع فِيهَا غير أَسمَاء الله ونفت مِنْهَا الظُّلم والقطيعة "
فَأعْلم أَبُو طَالب قُريْشًا بذلك وَقَالَ: إِن كَانَ صَحِيحا
فَانْتَهوا عَن قطيعتنا وَإِن كَانَ كذبا دفعت إِلَيْكُم ابْن اخي
فرضوا بذلك فَإِذا الْأَمر كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فَزَادَهُم ذَلِك شرا فاتفق جمَاعَة من قُرَيْش
وَنَقَضُوا مَا تَعَاهَدُوا عَلَيْهِ فِي الصَّحِيفَة من قطيعة بني
الْمطلب. وأسري بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لسبع
عشرَة لَيْلَة خلت من رَمَضَان فِي السّنة الثَّالِثَة عشر من
النُّبُوَّة وَقيل فِي ربيع الأول وَقيل فِي رَجَب، وَهل كَانَ
الْإِسْرَاء بجسده أم كَانَ رُؤْيا صَادِقَة الْجُمْهُور على انه
بجسده، وَقَالَت عَائِشَة وَمُعَاوِيَة: أسرى بِرُوحِهِ.
وَقيل الْإِسْرَاء إِلَى الْبَيْت الْمُقَدّس جسداني وَمِنْه إِلَى
السَّمَوَات السَّبع وسدرة الْمُنْتَهى روحاني.
" وَتُوفِّي أَبُو طَالب " فِي شَوَّال سنة عشر من النُّبُوَّة قَالَ
لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي اشتداد مَرضه: " يَا
عَم قلها اسْتحلَّ لَك الشَّفَاعَة يَوْم الْقِيَامَة " فَقَالَ أَبُو
طَالب: يَا ابْن أخي لَوْلَا مَخَافَة السبة وَأَن تظن قُرَيْش
إِنَّمَا قَتلهَا جزعا من الْمَوْت لقتلها وَالْمَشْهُور أَنه مَاتَ
... ... ... ... . وَقيل إِنَّه جعل يُحَرك شَفَتَيْه فأصغى إِلَيْهِ
الْعَبَّاس بأذنه وَقَالَ: وَالله يَا ابْن أخي لقد قَالَ الْكَلِمَة
الَّتِي أَمرته أَن يَقُول فَقَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْحَمد لله الَّذِي هداك يَا عَم ".
قلت: وَقيل أَحْيَا الله لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أَبَوَيْهِ وَعَمه فآمنوا بِهِ ثمَّ مَاتُوا وَالله اعْلَم. وَمن شعر
أبي طَالب:
(وَدَعَوْتنِي وَعلمت أَنَّك صَادِق ... وَلَقَد صدقت وَكنت ثمَّ
أَمينا)
(وَلَقَد علمت بِأَن دين مُحَمَّد ... من خير أَدْيَان الْبَريَّة
دينا)
(وَالله لن يصلوا إِلَيْك بِجَمْعِهِمْ ... حَتَّى أُوَسَّد فِي
التُّرَاب دَفِينا)
وعاش أَبُو طَالب بضعا وَثَمَانِينَ سنة.
" ثمَّ توفيت خَدِيجَة " رَضِي اللَّهِ عَنْهَا بعد أبي طَالب وموتهما
قبل الْهِجْرَة بِنَحْوِ ثَلَاث سِنِين ونالت قُرَيْش مِنْهُ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بموتهما خُصُوصا أَبُو لَهب وَالْحكم بن
الْعَاصِ وَعقبَة بن أبي معيط بن أُميَّة فَإِنَّهُم كَانُوا جيران
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ويؤذونه فِي بَيته
بِمَا يلقون عَلَيْهِ وَقت صلَاته وَفِي طَعَامه من الْأَذَى.
وَاشْتَدَّ بِهِ ذَلِك حَتَّى " سَافر إِلَى الطَّائِف " يلْتَمس من
ثَقِيف النُّصْرَة ورجاء أَن يقبلُوا مَا جَاءَ بِهِ من اللَّهِ فوصل
إِلَى الطَّائِف وَعمد إِلَى جمَاعَة من أَشْرَاف ثَقِيف مثل مَسْعُود
وحبِيب
(1/102)
ابْني عَمْرو فَجَلَسَ إِلَيْهِم ودعاهم
إِلَى اللَّهِ فَقَالَ لَهُ وَاحِد مِنْهُم: أما وجد اللَّهِ أحدا
يُرْسِلهُ غَيْرك وَقَالَ ألآخر: وَالله لَا أُكَلِّمك أبدا وَلَئِن
كنت رَسُولا من اللَّهِ كَمَا تَقول لأَنْت أعظم خطرا من أَن أرد
عَلَيْك الْكَلَام وَلَئِن كنت تكذب على اللَّهِ فَمَا يَنْبَغِي لي
أَن اكلمك فَقَامَ وَقد يئس من خير ثَقِيف وَأغْروا بِهِ سفهاءهم
وعبيدهم يَسُبُّونَهُ ويصيحون حَتَّى اجْتمع عَلَيْهِ النَّاس وألجأوه
إِلَى حَائِط وَرجع عَنهُ سفهاؤهم.
فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اللَّهُمَّ إِلَيْك
أَشْكُو ضعف قوتي وَقلة حيلتي وهواني على النَّاس يَا أرْحم
الرَّاحِمِينَ أَنْت رب الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنت رَبِّي إِلَى من
تَكِلنِي إِن لم تكن عَليّ غَضبا فَلَا أُبَالِي " ثمَّ قدم مَكَّة
وَقَومه أَشد عَلَيْهِ مِمَّا كَانُوا يعرض نَفسه على الْقَبَائِل فِي
مواسم الْحَج يَدعُوهُم إِلَى اللَّهِ فَيَقُول: " يَا بني فلَان
إِنِّي رَسُول اللَّهِ إِلَيْكُم يَأْمُركُمْ أَن تعبدوا اللَّهِ وَلَا
تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا وَأَن تخلعوا مَا يعبد من دونه وَأَن تؤمنوا
بِي وتصدقوني " وَعَمه أَبُو لَهب يُنَادي إِنَّمَا يدعوكم أَن تسلخوا
اللات والعزى من أَعْنَاقكُم إِلَى مَا جَاءَ بِهِ من الْبِدْعَة
والضلالة فَلَا تطيعوه.
وَكَانَ أَبُو لَهب أَحول لَهُ غديرتان فَبينا هُوَ عِنْد الْعقبَة
إِذْ لَقِي نَفرا من الْخَزْرَج من يثرب وَأَهْلهَا قبيلتان الْأَوْس
والخزرج ثَمَانُون يجمعهُمْ أَب وَاحِد وَبَين القبيلتين حروب وهم حلف
قبيلتين من الْيَهُود يُقَال لَهما قُرَيْظَة وَالنضير من نسل هَارُون
بن عمرَان فَعرض - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْإِسْلَام
عَلَيْهِم وتلا عَلَيْهِم الْقُرْآن وهم سِتَّة فآمنوا بِهِ
وَصَدقُوهُ.
ثمَّ انصرفوا وَذكروا ذَلِك لقومهم بِيَثْرِب ودعوهم إِلَى الْإِسْلَام
حَتَّى فَشَا فيهم فَلم تبْق دَار إِلَّا وفيهَا ذكر لرَسُول اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَلما كَانَ الْعَام الْمقبل وافى الْمَوْسِم اثْنَا عشر من
الْأَنْصَار فَبَايعُوهُ بيعَة النِّسَاء قبل أَن يفْرض عَلَيْهِم
الْحَرْب وبيعة النِّسَاء هِيَ أَن لَا يشركوا بِاللَّه وَلَا يسرقوا
وَلَا يزنزوا وَلَا يقتلُوا أَوْلَادهم فَبعث مَعَهم مُصعب بن عُمَيْر
بن هَاشم بن عبد منَاف بن عبد الدَّار ليعلمهم شرائع الْإِسْلَام
وَالْقُرْآن وَلما قدم الْمَدِينَة دخل بِهِ أسعد بن زُرَارَة أحد
السِّتَّة الَّذين بَايعُوا رَسُول اللَّهِ فِي الْعقبَة حَائِطا لبني
ظفر وَكَانَ سعد بن معَاذ سيد الْأَوْس ابْن خَالَة أسعد بن زُرَارَة.
وَكَانَ أسيد بن حضير أَيْضا سيدا فَأخذ أسيد حربته ووقف على مُصعب
وأسعد فَقَالَ: مَا جَاءَ بكما تسفهان ضعفاءنا اعتزلا إِن كَانَ لَكمَا
بأنفسكما حَاجَة فَقَالَ لَهُ مُصعب: أَو تجْلِس فَتسمع فَجَلَسَ أسيد
وأسمعه مُصعب الْقُرْآن وعرفه الْإِسْلَام فَقَالَ أسيد مَا أحسن هَذَا
كَيفَ تَصْنَعُونَ إِذا أردتم الدُّخُول فِي هَذَا الدّين فَعلمه مُصعب
فَأسلم وَقَالَ ورائي رجل إِن اتبعكما لم يخْتَلف عَنهُ أحد وسأرسله
إلَيْكُمَا يَعْنِي سعد بن معَاذ.
ثمَّ أَخذ أسيد حربته وَانْصَرف إِلَى سعد بن معَاذ وَبعث بِهِ إِلَى
مُصعب وأسعد فَلَمَّا أقبل قَالَ أسعد لمصعب جَاءَك وَالله سيد من
وَرَاءه فَلَمَّا وقف عَلَيْهِمَا سعد بن معَاذ تهدد أسعد وَقَالَ
لَوْلَا قرابتك مني مَا صبرت على أَن تغشانا فِي دَارنَا بِمَا نكره
فَقَالَ لَهُ مُصعب أَو
(1/103)
مَا تسمع فَإِن رضيت أمرا قبلته وَإِلَّا
عزلنا عَنْك مَا تكره فَقَالَ أنصفت فَعرض مُصعب عَلَيْهِ الْإِسْلَام
وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآن قَالَ فَعرفنَا وَالله فِي وَجهه
الْإِسْلَام قبل أَن يتَكَلَّم.
ثمَّ قَالَ كَيفَ تَصْنَعُونَ إِذا أَنْتُم أسلمتم فعرفناه ذَلِك
فَأسلم وَانْصَرف إِلَى النادي حَتَّى وقف عَلَيْهِ وَمَعَهُ أسيد بن
حضير فَلَمَّا رَآهُ قومه مُقبلا قَالُوا نحلف بِاللَّه لقد رَجَعَ سعد
بِغَيْر الْوَجْه الَّذِي ذهب بِهِ فَقَالَ: يَا بني عبد الْأَشْهَل
كَيفَ تعلمُونَ أَمْرِي فِيكُم قَالُوا سيدنَا وأفضلنا قَالَ: فَإِن
كَلَام رجالكم ونسائكم عَليّ حرَام حَتَّى تؤمنوا بِاللَّه وَرَسُوله
فَمَا أَمْسَى فِي دَار بني عبد الْأَشْهَل أحد حَتَّى أسلم وَنزل سعد
بن معَاذ وَمصْعَب فِي دَار أسعد بن زُرَارَة يدعوان إِلَى الْإِسْلَام
حَتَّى لم يبْق دَار من دور الْأَنْصَار إِلَّا وَبهَا مُسلمُونَ
إِلَّا دَار بني أُميَّة بن زيد.
ثمَّ أَن مُصعب بن عُمَيْر عَاد إِلَى مَكَّة وَمَعَهُ من الَّذين
أَسْلمُوا ثَلَاثَة وَسَبْعُونَ رجلا وَامْرَأَتَانِ بَعضهم من
الْأَوْس وَبَعْضهمْ من الْخَزْرَج مَعَ كفار من قَومهمْ وهم مستخفون
من الْكفَّار فوصلوا مَكَّة وواعدوا رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ليجتمعوا بِهِ لَيْلًا فِي أَيَّام التَّشْرِيق
" بِالْعقبَةِ ".
وجاءهم رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وَمَعَهُ الْعَبَّاس مُشْركًا متوثقا مِنْهُم لِابْنِ أَخِيه فَقَالَ
الْعَبَّاس يَا معشر الْخَزْرَج إِن مُحَمَّدًا منا حَيْثُ علمْتُم
وَقد منعناه من قَومنَا وَهُوَ فِي عز ومنعة فِي بَلَده وَأَنه قد أَبى
إِلَّا الانحياز إِلَيْكُم واللحوق بكم فَإِن كُنْتُم تقفون عِنْد مَا
دعوتموه إِلَيْهِ وتمنعونه مِمَّن خَالفه فَأنْتم وَمَا تحملتم من
ذَلِك وَإِن كُنْتُم ترَوْنَ أَنكُمْ مسلموه وخاذلوه فَمن الْآن
فَدَعوهُ فَقَالُوا قد سمعنَا فَتكلم يَا رَسُول اللَّهِ وَخذ لنَفسك
ولربك وَمَا احببت فَتكلم رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - وتلا الْقُرْآن.
ثمَّ قَالَ أُبَايِعكُم على أَن تَمْنَعُونِي مِمَّا تمْنَعُونَ مِنْهُ
نِسَائِكُم وَأَوْلَادكُمْ وَدَار الْكَلَام بَينهم واستوثق كل فريق من
الآخر ثمَّ سَأَلُوا رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فَقَالُوا إِن قتلنَا دُونك مَا لنا قَالَ الْجنَّة
قَالُوا فابسط يدك فَبسط يَده فَبَايعُوهُ.
ثمَّ انصرفوا رَاجِعين إِلَى الْمَدِينَة وَأمر - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَصْحَابه بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَة
فَخَرجُوا أَرْسَالًا وَأقَام ينْتَظر أَن يَأْذَن لَهُ ربه فِي
الْخُرُوج من مَكَّة وَبَقِي مَعَه أَبُو بكر الصّديق وَعلي رَضِي
اللَّهِ عَنْهُمَا، وبيعة الْعقبَة الثَّانِيَة وَهِي هَذِه كَانَت فِي
سنة ثَلَاث عشرَة من المبعث.
(ذكر الْهِجْرَة النَّبَوِيَّة على صَاحبهَا أفضل الصَّلَاة
وَالسَّلَام)
لفظ التَّارِيخ مُحدث فِي لُغَة الْعَرَب لِأَنَّهُ مُعرب من ماه روز،
وَبِذَلِك جَاءَت الرِّوَايَة
(1/104)
روى ابْن سُلَيْمَان عَن مَيْمُون بن
مهْرَان أَن الْأَمْوَال كثرت فِي زمن عمر وَصَارَ مَا يقسم مِنْهَا
غير مُؤَقّت فتعرف ذَلِك من رسوم فَاسْتَحْضر الهرمزان فَسَأَلَهُ
فَقَالَ: لنا حِسَاب نُسَمِّيه ماه روز - مَعْنَاهُ حِسَاب الشُّهُور -
فعربوا الْكَلِمَة إِلَى مؤرخ ثمَّ جعلُوا اسْمه التَّارِيخ ثمَّ
أتفقوا على أَن يكون مبدأ تَارِيخ دولة الْإِسْلَام سنة الْهِجْرَة من
مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة وَقد تصرم من شهور هَذِه السّنة وأيامها
الْمحرم وصفر وَثَمَانِية أَيَّام من ربيع الأول، فَلَمَّا عزموا على
تأسيس الْهِجْرَة رجعُوا الْقَهْقَرَى ثَمَانِيَة وَسِتِّينَ يَوْمًا
وأرخوا من أول الْمحرم.
ثمَّ أحصوا من أول يَوْم من الْمحرم إِلَى آخر يَوْم من عمره - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَكَانَ عشر سِنِين وشهرين، وَإِذا حسب
عمره من الْهِجْرَة حَقِيقَة فَيكون تسع سِنِين وَأحد عشر شهرا واثنين
وَعشْرين يَوْمًا وَهَذَا جدول يتَضَمَّن مَا بَين الْهِجْرَة وَبَين
التواريخ الْقَدِيمَة الْمَشْهُورَة من السنين فَإِذا أردْت أَن تعرف
مَا بَين أَي تاريخين شِئْت مِنْهَا فَانْظُر إِلَى مَا بَينهمَا
وَبَين الْهِجْرَة وانقص أقلهما من اكثرهما وَمهما بَقِي فَهُوَ مَا
بَينهمَا.
" مِثَاله " إِذا أردْت أَن تعرف مَا بَين مولد الْمَسِيح ومولد رَسُول
اللَّهِ صلوَات اللَّهِ وَسَلَامه عَلَيْهِمَا نقصت مَا بَين مولد
رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَبَين
الْهِجْرَة وَهُوَ ثَلَاث وَخَمْسُونَ سنة وشهران وَثَمَانِية أَيَّام
من سِتّمائَة وَإِحْدَى وَثَلَاثِينَ سنة يبْقى خَمْسمِائَة وثمان
وَسَبْعُونَ سنة تنقص شَهْرَيْن وَثَمَانِية أَيَّام هِيَ جملَة مَا
بَين المولدين الْمَذْكُورين وَكَذَلِكَ أَي تاريخين أردْت من هَذَا
الْجَدْوَل:
6216 - سنة: بَين الْهِجْرَة وَبَين آدم على مُقْتَضى التَّوْرَاة
اليونانية وَاخْتِيَار المؤرخين.
5967 - سنة: بَين الْهِجْرَة وَبَين آدم على مُقْتَضى التَّوْرَاة
اليونانية وَاخْتِيَار المنجمين حَسْبَمَا أثبتوه فِي الزيجات.
4761 - سنة: بَين الْهِجْرَة وَبَين آدم على مُقْتَضى التَّوْرَاة
العبرانية وَاخْتِيَار المؤرخين وَينْقص عِنْد المنجمين 249 سنة.
5137 - سنة: بَين الْهِجْرَة وَبَين آدم على مُقْتَضى السامرية
وَاخْتِيَار المؤرخين وَينْقص عِنْد المنجمين مَا ذكر وَهَذَا جَار فِي
جَمِيع التواريخ الَّتِي قبل بخْتنصر.
3974 - سنة: بَين الْهِجْرَة وَبَين الطوفان وَكَانَ لستمائة مَضَت من
عمر نوح وعاش بعده 350 سنة وَيَجِيء فِي تَارِيخ الطوفان المذهبان.
3725 - سنة: بَين الْهِجْرَة وَبَين الطوفان على اخْتِيَار المنجمين
حَسْبَمَا قَيده أَبُو معشر وكوشيار وَغَيرهمَا فِي الزيجات والتقاويم.
3364 سنة: بَين الْهِجْرَة وَبَين تبلبل الْأَلْسِنَة على اخْتِيَار
المؤرخين وَينْقص عِنْد المنجمين 249 سنة حَسْبَمَا تقدم ذكره.
2893 - سنة: بَين الْهِجْرَة وَبَين مولد إِبْرَاهِيم على اخْتِيَار
المؤرخين وَأما على أختيار المنجمين فينقص 249 سنة.
(1/105)
2793 - سنة: بَين الْهِجْرَة وَبِنَاء
إِبْرَاهِيم واسماعيل الْكَعْبَة وَذَلِكَ لمضي 100 سنة من عمر
إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام بالتقريب.
2348 - سنة: بَين الْهِجْرَة ووفاة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَفِيه
المذهبان وَالْمَذْكُور هُوَ اخْتِيَار المؤرخين.
1860 - سنة: بَين الْهِجْرَة وَعمارَة بَيت الْمُقَدّس وَفرغ لمضي
إِحْدَى عشرَة سنة من ملك سُلَيْمَان ولمضي 546 سنة لوفاة مُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَام وَفِيه المذهبان.
1369 - سنة وَأَيَّام 117: بَين الْهِجْرَة وَابْتِدَاء ملك بخْتنصر
وَلَيْسَ فِيهِ خلاف.
1350 - سنة: بَين الْهِجْرَة وخراب بَيت الْمُقَدّس وَكَانَ لمضي 19
سنة من ملك بخْتنصر وَبَقِي خرابا 70 سنة ثمَّ عمر وتراجعت إِلَيْهِ
بَنو إِسْرَائِيل.
946 - سنة: بَين الْهِجْرَة وفيلبس قبل الْإِسْكَنْدَر باثنتي عشرَة
سنة وَبَين فيلبس وأغسطس 294 ذكره بطليموس فِي المجسطي وَقد أرخ بِهِ
غَالب أرصاده.
934 - سنة: بَين الْهِجْرَة وَغَلَبَة الْإِسْكَنْدَر على الْفرس وَقتل
دَارا وَهُوَ تَارِيخ إبتداء مُلُوك الطوائف مَاتَ الْإِسْكَنْدَر بعد
غلبته بِنَحْوِ 7 سِنِين فَبين مَوته وَالْهجْرَة تِسْعمائَة وَنَحْو
28 سنة.
652 - سنة: بَين الْهِجْرَة وَغَلَبَة أغسطس على مصر وَقتل قلوابطرا
ملكة اليونان وَكَانَ لمضي اثْنَتَيْ عشرَة سنة من ملك أغسطس وَهُوَ
أَيْضا تَارِيخ انْقِرَاض اليونان.
631 - سنة: بَين الْهِجْرَة ومولد الْمَسِيح وعاش إِلَى أَن رفع
ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سنة فَبين رَفعه وَالْهجْرَة 598 سنة.
558 - سنة: بَين الْهِجْرَة وَبَين خراب الْقُدس الثَّانِي وَكَانَ
لمضي 40 سنة من رفع الْمَسِيح وَهُوَ تَارِيخ تشت الْيَهُود إِلَى
الْأَبَد.
507 - سنة: بَين الْهِجْرَة وَأول ملك أرديانوس.
422 - سنة: بَين الْهِجْرَة وَملك أزدشير بن بابك أبي الأكاسرة وَهُوَ
أَيْضا تَارِيخ انْقِرَاض مُلُوك الطوائف.
339 - سنة: بَين الْهِجْرَة وَأول ملك دقلطيانوس وَهُوَ آخر عَبدة
الْأَصْنَام من الْمُلُوك.
53 - سنة وشهران و 8 أَيَّام: بَين الْهِجْرَة وَبَين مولد رَسُول
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
13 - سنة وشهران و 8 أَيَّام: بَين الْهِجْرَة ومبعثه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
9 - سِنِين و 11 شهرا و 22 يَوْمًا: بَين الْهِجْرَة ووفاة الرَّسُول -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
(بَقِيَّة خبر الْهِجْرَة)
وَلما علمت قُرَيْش أَنه صَار لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - أنصار وَأَن أَصْحَابه بِمَكَّة قد لَحِقُوا بهم خَافُوا من
خُرُوجه إِلَى الْمَدِينَة فاتفقوا أَن يَأْخُذُوا من كل قَبيلَة رجلا
ليضربوه بسيوفهم ضَرْبَة وَاحِدَة فيضيع دَمه فِي الْقَبَائِل وبلغه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَلِك فَأمر عليا أَن ينَام على
فرَاشه وَأَن يتشح بِبرْدِهِ الْأَخْضَر
(1/106)
وَأَن يتَخَلَّف عَنهُ ليؤدي مَا كَانَ
عِنْده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الودائع إِلَى
أَرْبَابهَا.
وَكَانَ الْكفَّار قد اجْتَمعُوا على بَابه يَرْصُدُونَهُ ليثبوا
عَلَيْهِ فَأخذ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حفْنَة تُرَاب
وتلا أول يس وَجعل ذَلِك التُّرَاب على رُؤُوس الْكفَّار فَلم يروه
فَأَتَاهُم آتٍ وَقَالَ: إِن مُحَمَّدًا خرج وَوضع على رؤسكم
التُّرَاب، وَجعلُوا ينظرُونَ فيرون عليا عَلَيْهِ برد النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَيَقُولُونَ مُحَمَّد نَائِم.
وَكَذَا حَتَّى أَصْبحُوا فَقَامَ عَليّ فعرفوه وَأقَام عَليّ بِمَكَّة
حَتَّى أدّى الودائع وَقصد النَّبِي إِذْ خرج من دَاره دَار أبي بكر
فَأعلمهُ بِأَن اللَّهِ قد أذن بِالْهِجْرَةِ فَقَالَ أَبُو بكر
الصُّحْبَة يَا رَسُول اللَّهِ قَالَ الصُّحْبَة فَبكى أَبُو بكر فَرحا
واستأجرا عبد اللَّهِ بن أريقط وَكَانَ مُشْركًا ليدلهما على الطَّرِيق
ومضيا إِلَى غَار بثور وَهُوَ جبل أَسْفَل مَكَّة فأقاما بِهِ.
ثمَّ خرجا من الْغَار بعد ثَلَاثَة أَيَّام وتوجها إِلَى الْمَدِينَة
ومعهما عَامر بن فهَيْرَة مولى أبي بكر وَعبد اللَّهِ بن أريقط
الدَّلِيل وجدت قُرَيْش فِي طلبه وَتَبعهُ سراقَة بن جعْشم المدلجي على
فرس لَهُ فَقَالَ أَبُو بكر هَذَا الطّلب لحقنا فَقَالَ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لصَاحبه أبي بكر لَا تحزن إِن اللَّهِ
مَعنا، فَلَمَّا دنا سراقَة ساخت بِهِ قَوَائِم فرسه إِلَى
رُكْبَتَيْهِ فِي أَرض صلبة فَنَادَى سراقَة يَا مُحَمَّد ادْع اللَّهِ
أَن يخلصني وَلَك عَليّ لأعمين على من ورائي فَدَعَا لَهُ فخلص.
ثمَّ أخبرهُ سراقَة بِمَا ضمن لَهُ قومه عِنْد ظفره بِهِ وَسَأَلَ
موادعته فوادعه وَكتب لَهُ بِهِ كتابا فَأَتَاهُ عَام الْفَتْح وَأسلم
وَقَالَ لَهُ كَيفَ بك يَا سراقَة إِذا سورت بِسوَارِي كسْرَى برويز،
قلت: فلبسهما فِي زمن عمر رَضِي اللَّهِ عَنهُ. وَبلغ ذَلِك أَبَا جهل
فَقَالَ:
(بني مُدْلِج أَنِّي أخال سفيهكم ... سراقَة يستغوي لنصر مُحَمَّد)
(عَلَيْكُم بِهِ أَن لَا يفرق جمعكم ... فنصبح شَتَّى بعد عز وسؤدد)
فَقَالَ لَهُ سراقَة:
(أَبَا حكم وَالله لَو كنت شَاهدا ... لأمر جوادي حَيْثُ ساخت قوائمه)
(علمت وَلم تشكك بِأَن مُحَمَّدًا ... رَسُول وبرهان فَمن ذَا يكاتمه)
وَقَالَ أَبُو بكر الصّديق رَضِي اللَّهِ عَنهُ:
(وَقد زَاد نَفسِي واطمأنت وَآمَنت ... بِهِ الْيَوْم مَا لاقي جواد
ابْن مُدْلِج)
(سراقَة إِذْ يَبْغِي علينا بكيده ... على أعوجي كالهراوة مدمج)
(فَقَالَ رَسُول اللَّهِ يَا رب اغنه ... فمهما تشا من مفظع الْأَمر
تفرج)
(فساخت بِهِ فِي الأَرْض حَتَّى تغيبت ... حَوَافِرِهِ فِي بطن وَاد
مفجع)
(فأغناه رب الْعَرْش عَنَّا ورده ... وَلَوْلَا دفاع اللَّهِ لم يتعرج)
ومروا على خَيْمَتي أم معبد الْخُزَاعِيَّة فَسَأَلُوهَا تَمرا
وَلَحْمًا يشترونه فَلم يُصِيبُوا عِنْدهَا من ذَلِك شَيْئا فَنظر -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى شَاة فِي كسر الْخَيْمَة
فَقَالَ: مَا هَذِه؟ قَالَت شَاة: خلفهَا الْجهد
(1/107)
عَن الْغنم قَالَ هَل بهَا من لبن قَالَت
هِيَ أجهد من ذَلِك فَاسْتَأْذن أم معبد ودعا بِالشَّاة وَمسح بِيَدِهِ
ضرْعهَا وسمى اللَّهِ ودعا لَهَا فِي شَاتِهَا فتفاجت عَلَيْهِ وَردت
واجترت ودعا بِإِنَاء يربض الرَّهْط فَحلبَ ثمَّ سَقَاهَا حَتَّى رويت
ثمَّ سقى أَصْحَابه حَتَّى رووا ثمَّ شرب آخِرهم ثمَّ حلب ثَانِيًا
حَتَّى مَلأ الْإِنَاء ثمَّ غَادَرَهُ عِنْدهَا وبايعها وَارْتَحَلُوا
وَأصْبح صَوت بِمَكَّة عَال لَا يَدْرُونَ من صَاحبه يَقُول:
(جزى اللَّهِ رب الْعَرْش خير جَزَائِهِ ... رَفِيقَيْنِ قَالَا
خَيْمَتي أم معبد)
(هما نزلا بِالْهدى واهتديا بِهِ ... وَقد فَازَ من أَمْسَى رَفِيق
مُحَمَّد)
(فَمَا حملت من نَاقَة فَوق رَحلهَا ... أبر وأوفي ذمَّة من مُحَمَّد)
(فيال قصي مَا زوى اللَّهِ عَنْكُم ... بِهِ من فعال لَا تجاري وسؤدد)
(لِيهن بني كَعْب مَكَان فَتَاتهمْ ... ومقعدها للْمُؤْمِنين
بِمَرْصَد)
(سلوا أختكم عَن شَاتِهَا وإنائها ... فَإِنَّكُم إِن تسألوا الشَّاة
تشهد)
(دَعَاهَا بِشَاة حَائِل فتحلبت ... بِهِ من صَرِيح ضرَّة الشَّاة
مُزْبِد)
(فغادرها رهنا لَدَيْهَا لحالب ... يُرَدِّدهَا فِي مصدر ثمَّ مورد)
فَأَجَابَهُ حسان:
(لقد خَابَ قوم زَالَ عَنْهُم نَبِيّهم ... وَقدس من يسري إِلَيْهِم
وَيَغْتَدِي)
(ترحل عَن قوم فضلت عُقُولهمْ ... وَحل على قوم بِنور مُجَدد)
(هدَاهُم بِهِ بعد الضَّلَالَة رَبهم ... وأرشدهم من يتبع الْحق يرشد)
(وَقد نزلت مِنْهُ على أهل يثرب ... ركاب هدى حلت عَلَيْهِم بِأَسْعَد)
(نَبِي يرى مَا لَا يرى النَّاس حَولهمْ ... وَيَتْلُو كتاب اللَّهِ
فِي كل مشْهد)
(وَإِن قَالَ فِي يَوْم مقَالَة غَائِب ... فَتَصْدِيقُهَا فِي
الْيَوْم أَو فِي ضحى الْغَد)
(لِيهن أَبَا بكر سَعَادَة جده ... بِصُحْبَتِهِ من يسْعد اللَّهِ
يسْعد ... )
وَالله أعلم.
وَقدم رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة خلت من ربيع الأول سنة إِحْدَى يَوْم
الأثنين الظّهْر فَنزل قبَاء على كُلْثُوم بن الْهدم وَأقَام بقباء
الْإِثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاء وَالْأَرْبِعَاء وَالْخَمِيس وَأسسَ
مَسْجِد قبَاء الَّذِي نزل فِيهِ {لمَسْجِد أسس على التَّقْوَى} وَخرج
من قبَاء يَوْم الْجُمُعَة فَمَا مر على دَار من دور الْأَنْصَار
إِلَّا قَالُوا هَلُمَّ يَا رَسُول اللَّهِ إِلَى الْعدَد وَالْعدة
ويعترضون نَاقَته فَيَقُول: " خلوا سَبِيلهَا فَإِنَّهَا مأمورة "
حَتَّى انْتَهَت إِلَى مَوضِع مَسْجده وَكَانَ مربد السهل وَسُهيْل
ابْني عَمْرو يتيمين فِي حجر معَاذ بن عفراء فبركت هُنَاكَ وَوضعت
جِرَانهَا فَنزل عَنْهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وَاحْتمل أَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ رَحلهَا إِلَى بَيته وَأقَام -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْد أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ
حَتَّى بنى مَسْجده ومساكنه وَقيل بل كَانَ مَوضِع الْمَسْجِد لبني
النجار وَفِيه نخل وَخرب وقبور الْمُشْركين.
(1/108)
وَتزَوج عَائِشَة رَضِي اللَّهِ عَنْهَا: قبل الْهِجْرَة بعد وَفَاة
خَدِيجَة وَدخل بهَا بعد الْهِجْرَة بِثمَانِيَة أشهر وَهِي بنت تسع
وَتُوفِّي عَنْهَا وَهِي بنت ثَمَانِي عشرَة سنة.
" وآخى بَين الْمُسلمين " فَاتخذ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- عليا أَخا وآخى بَين أبي بكر وخارجة بن زيد الْأنْصَارِيّ وَبَين أبي
عُبَيْدَة وَسعد بن معَاذ الْأنْصَارِيّ وَبَين عمر وعتبان بن مَالك
النصاري وَبَين عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَسعد بن الرّبيع
الْأنْصَارِيّ وَبَين عُثْمَان بن عَفَّان وَأَوْس بن ثَابت
الْأنْصَارِيّ وَبَين طَلْحَة بن عبيد اللَّهِ وَكَعب بن مَالك
الْأنْصَارِيّ وَبَين سعيد بن زيد وَأبي بن كَعْب الْأنْصَارِيّ.
وَأول مَوْلُود للمهاجرين بعد الْهِجْرَة عبد اللَّهِ بن الزبير وَأول
مَوْلُود للْأَنْصَار النُّعْمَان بن بشير.
(تَحْويل الْقبْلَة)
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ من الْهِجْرَة: فِيهَا حولت الصَّلَاة إِلَى
الْكَعْبَة كَانَت الصَّلَاة بِمَكَّة وَبعد مقدمه إِلَى الْمَدِينَة
بِثمَانِيَة عشر شهرا إِلَى بَيت الْمُقَدّس وَذَلِكَ يَوْم
الثُّلَاثَاء منتصف شعْبَان فَاسْتقْبل فِي صَلَاة الظّهْر وَبلغ أهل
قبَاء ذَلِك فتحولوا إِلَى جِهَة الْكَعْبَة وهم فِي الصَّلَاة.
قلت: كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أَصْحَابه فِي
منَازِل بني سَلمَة فصلى بهم رَكْعَتَيْنِ من الظّهْر فِي مَسْجِد
الْقبْلَتَيْنِ إِلَى الْقُدس.
ثمَّ أَمر فِي الصَّلَاة باستقبال الْكَعْبَة وَهُوَ رَاكِع فِي
الرَّكْعَة الثَّانِيَة فَاسْتَدَارَ واستدارت الصُّفُوف خَلفه
فَأَتمَّ الصَّلَاة فَسُمي مَسْجِد الْقبْلَتَيْنِ وَالله أعلم.
وَفِي شعْبَان مِنْهَا فرض صَوْم رَمَضَان.
قلت: وفيهَا فرضت صَدَقَة الْفطر، وَفِي شَوَّال مِنْهَا تزوج
عَائِشَة، " وفيهَا " تزوج عَليّ فَاطِمَة رَضِي اللَّهِ عَنْهُمَا
وَالله أعلم؛ وفيهَا أرى عبد اللَّهِ بن زيد بن عبد ربه الْأنْصَارِيّ
صُورَة الْأَذَان فِي النّوم وَورد الْوَحْي بِهِ.
قلت: قَالَ الشَّيْخ مُحي الدّين النَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة: إِن
السّنة الأولى فِيهَا شرع الْأَذَان وَأسلم عبد اللَّهِ بن سَلام
فاعتمد ذَلِك وَالله أعلم.
وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ بعث - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عبد
اللَّهِ بن جحش فِي ثَمَانِيَة أنفس إِلَى نَخْلَة بَين مَكَّة والطائف
ليتعرفوا أَخْبَار قُرَيْش فَمر بهم عير لقريش فغنموها وأسروا
اثْنَيْنِ وحضروا بذلك إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- وَهِي أول غنيمَة غنمها الْمُسلمُونَ وَفِي سنة اثْنَتَيْنِ أَيْضا
فِي رَمَضَان. |