تاريخ ابن الوردي
(خلَافَة عمر بن الْخطاب)
ابْن نفَيْل بن عبد الْعُزَّى رَضِي اللَّهِ عَنهُ، بُويِعَ بالخلافة
يَوْم وَفَاة أبي بكر وَقَالَ فِي أول خطبَته: يَا أَيهَا النَّاس
وَالله مَا فِيكُم أحد أقوى عِنْدِي من الضَّعِيف حَتَّى آخذ الْحق
لَهُ وَلَا
(1/136)
أَضْعَف عِنْدِي من الْقوي حَتَّى أَخذ
الْحق مِنْهُ، ثمَّ أول شَيْء أَمر بِهِ عزل خَالِد بن الْوَلِيد رَضِي
اللَّهِ عَنهُ عَن إمرة الْجَيْش وَولى أَبَا عُبَيْدَة رَضِي اللَّهِ
عَنهُ على الْجَيْش وَالشَّام وَهُوَ أول من سمي أَمِير الْمُؤمنِينَ
ثمَّ نَازل أَبُو عُبَيْدَة دمشق من جِهَة بَاب الْجَابِيَة، وخَالِد
من جِهَة بَاب توما وَبَاب شَرْقي، وَعَمْرو بن الْعَاصِ من جِهَة
أُخْرَى، وحاصروها نَحْو سبعين لَيْلَة، وَفتح خَالِد مَا يَلِيهِ
بِالسَّيْفِ فَخرج أهل دمشق من الْجَانِب الآخر وبذلوا الصُّلْح لأبي
عُبَيْدَة، وفتحوا لَهُ الْبَاب فَأَمنَهُمْ فَالتقى مَعَ خَالِد فِي
وسط الْبَلَد وَفِي أَيَّام عمر فتح الْعرَاق.
ثمَّ دخلت سنة أَربع عشرَة: فِيهَا فِي الْمحرم أَمر عمر بِبِنَاء
الْبَصْرَة وَقيل سنة خمس عشرَة.
قلت: وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد أخبر أَنَّهَا
تكون مصرا من الْأَمْصَار فَكَانَ كَمَا قَالَ، وَالله أعلم.
وفيهَا توفّي أَبُو قُحَافَة أَبُو أبي بكر الصّديق وعمره سبع
وَتسْعُونَ سنة بعد وَفَاة ابْنه أبي بكر رَضِي اللَّهِ عَنْهُمَا.
ثمَّ دخلت سنة خمس عشرَة: فِيهَا فتحت حمص بعد دمشق صَالحهمْ أَبُو
عُبَيْدَة بعد حِصَار طَوِيل على مَا صَالح عَلَيْهِ أهل دمشق ثمَّ
سَار إِلَى " حماه " وَكَانَت عَظِيمَة زمن سُلَيْمَان بن دَاوُد
عَلَيْهِمَا السَّلَام وَذكرت فِي أَخْبَار دَاوُد وَسليمَان
وَكَذَلِكَ كَانَت زمن اليونان وَفِي الْفتُوح وَقَبله صغرت هِيَ وشيرز
وكانتا من عمل حمص وَكَانَت حمص كرْسِي هَذِه الْبِلَاد وَصَالح أهل
حماه أَبَا عُبَيْدَة على الْجِزْيَة وَالْخَرَاج وَجعل كنيستهم
الْعُظْمَى جَامعا وَهُوَ بِالسوقِ الْأَعْلَى ثمَّ جدد فِي خلَافَة
الْمهْدي من بني الْعَبَّاس وَكَانَ مَكْتُوبًا على لوح مِنْهُ أَنه
جدد من خراج حمص.
ثمَّ صَالح أَبُو عُبَيْدَة أهل " شيرز والمعرة " على صلح أهل حماه،
وَكَانَ يُقَال لَهَا معرة حمص، ثمَّ قيل معرة النُّعْمَان بن بشير
الْأنْصَارِيّ كَانَت مُضَافَة إِلَيْهِ مَعَ حمص فِي خلَافَة
مُعَاوِيَة.
قلت: قَالَ ابْن خلكان فِي تَارِيخه إِن النُّعْمَان بن بشير تدبر
المعرة فنسبت إِلَيْهِ، وَالله أعلم.
ثمَّ فتح أَبُو عُبَيْدَة " اللاذقية " عنْوَة، وجبلة، وأنطرسوس ثمَّ
نَازل " قنسرين " وَكَانَت كرْسِي مَمْلَكَته حلب، وَالْيَوْم حلب من
أَعمالهَا وَبهَا جمع عَظِيم من الرّوم فتقاتلوا فانتصر الْمُسلمُونَ،
ثمَّ صالحوه على صلح حمص على أَن يخربوا الْمَدِينَة فخربت ثمَّ فتح
حلب وأنطاكية ومنبج ودلوك وسرمين ويبرين وعزاز وَالشَّام من هَذِه
النَّاحِيَة ثمَّ فتح خَالِد مرعش وأجلاهم وخربها وَفتح حصن الْحَدث كل
ذَلِك سنة خمس عشرَة وَقيل سِتّ عشرَة.
فآيس هِرقل من الشَّام وَسَار إِلَى قسطنطينية من الرها والتفت إِلَى
الشَّام عِنْد مسيره وَهُوَ على نشز وَقَالَ السَّلَام عَلَيْك يَا
سوريا سَلام لَا اجْتِمَاع بعده وَلَا يعود إِلَيْك رومي بعْدهَا
إِلَّا خَائفًا حَتَّى يُولد الْوَلَد المشؤوم وليته لم يُولد فَمَا
أجل فعله وَأمر فتنته على الرّوم.
(1/137)
ثمَّ فتحت قيسارية وصبصطية وَبهَا قبر يحيى
بن زَكَرِيَّاء عَلَيْهِ السَّلَام، ونابلس ولد ويافا وَتلك الْبِلَاد
وَطَالَ حِصَار بَيت الْمُقَدّس واعتاص عَلَيْهِم.
قلت: وَكَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد
قَالَ لعمر رَضِي اللَّهِ عَنهُ: " إِنَّك ستفتح بَيت الْمُقَدّس بِلَا
قتال " فَسَار عمر إِلَى الشَّام وَفتحهَا بِلَا سيف كَمَا قَالَ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد أَن اسْتخْلف عمر على
الْمَدِينَة عليا رَضِي اللَّهِ عَنْهُمَا وَالله أعلم.
وفيهَا أَي سنة خمس عشرَة وضع عمر الدَّوَاوِين وَفرض الْعَطاء
للْمُسلمين وَقيل سنة عشْرين فَقيل لَهُ ابدأ بِنَفْسِك فَامْتنعَ
وَبَدَأَ بِالْعَبَّاسِ فرض لَهُ خَمْسَة وَعشْرين ألفا ثمَّ بَدَأَ
بالأقرب فَالْأَقْرَب من رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - وَفرض لأهل بدر خَمْسَة آلَاف خَمْسَة آلَاف، وَفرض لمن
بعدهمْ إِلَى الْحُدَيْبِيَة وبيعة الرضْوَان أَرْبَعَة أُلَّاف
أَرْبَعَة آلَاف، ثمَّ لمن بعدهمْ ثَلَاثَة آلَاف ثَلَاثَة آلَاف، ثمَّ
لأهل الْقَادِسِيَّة وَأهل الشَّام أَلفَيْنِ أَلفَيْنِ، وَلمن بعد
الْقَادِسِيَّة واليرموك ألفا ألفا، ولروادفهم خَمْسمِائَة
خَمْسمِائَة، ثمَّ ثلثمِائة ثلثمِائة، ثمَّ مِائَتَيْنِ وَخمسين
مِائَتَيْنِ وَخمسين.
وفيهَا كَانَت وقْعَة " الْقَادِسِيَّة " تولى حَرْب الْأَعَاجِم
فِيهَا سعد بن أبي وَقاص ومقدم الْعَجم رستم، ودام الْقِتَال الشَّديد
أَيَّامًا الْيَوْم الأول " يَوْم أعواث " ثمَّ يَوْم " عماس " ثمَّ "
لَيْلَة الهرير " تركُوا فِيهِ الْكَلَام وهر واهريرا حَتَّى أَصْبحُوا
ثمَّ الظّهْر هبت ريح عاصف فَمَال الْغُبَار على الْكفَّار وانْتهى
الْقَعْقَاع وَأَصْحَابه إِلَى سَرِير رستم وَقد قَامَ رستم عَنهُ
واستظل ببغال عَلَيْهَا مَال وصلت من كسْرَى للنَّفَقَة فشدوا على رستم
فهرب ولحقه هِلَال بن عَلْقَمَة فَأخذ بِرجلِهِ وَقَتله وَجَاء بِهِ
وَطَرحه بَين أرجل البغال وَصعد السرير ونادى قتلت رستم وَرب
الْكَعْبَة.
وتمت الْهَزِيمَة على الْعَجم وَقتل مِنْهُم مَا لَا يُحْصى ثمَّ نزل
سعد غربي دجلة على نهر شير قبالة مَدَائِن كسْرَى وَلما شَاهد إيوَان
كسْرَى كبروا وَقَالُوا هَذَا كسْرَى هَذَا مَا وعد اللَّهِ وَرَسُوله.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ عشرَة: وَأقَام سعد على نهر شير إِلَى أَيَّام من
صفر، ثمَّ عبروا دجلة، وهرب الْفرس من الْمَدَائِن نَحْو حلوان،
وَكَانَ كسْرَى يزدجرد قد قدم عِيَاله إِلَى حلوان وَخرج هُوَ وَمن
مَعَه بِمَا قدرُوا عَلَيْهِ فَدخل الْمُسلمُونَ الْمَدَائِن وَقتلُوا
كل من وجدوه وَنزل سعد بِالْقصرِ الْأَبْيَض وَاتخذ إيوَان كسْرَى مصلى
واحتاط على أَمْوَال تخرج عَن الإحصاء، وأدركوا بغلا وَقع فِي المَاء
عَلَيْهِ تَاج كسْرَى ومنطقته وَدِرْعه وَغير ذَلِك مكللا بالجوهر،
واستوهب سعد مَا يخص أَصْحَابه من بِسَاط كسْرَى وَكَانَ على هَيْئَة
رَوْضَة صورت فِيهِ الزهور بالجواهر على قضبان الذَّهَب وَبعث بِهِ
إِلَى عمر فَقَطعه عمر وَقِسْمَة بَين الْمُسلمين فَأصَاب عليا رَضِي
اللَّهِ عَنهُ قِطْعَة مِنْهُ فَبَاعَهَا بِعشْرين ألف دِرْهَم،
وَأقَام سعد بِالْمَدَائِنِ وَبعث جَيْشًا إِلَى جلولا وَكَانَ قد
اجْتمع بهَا الْفرس.
فجرت وقْعَة " جلولا " وَقتل من الْفرس مَا لَا يُحْصى فَسَار كسْرَى
يزدجرد عَن حلوان
(1/138)
وقصدها الْمُسلمُونَ واستولوا عَلَيْهَا
ثمَّ فتحُوا تكريت والموصل ثمَّ قرقيسا وماسبذان عنْوَة.
وفيهَا قدم جبلة بن الْأَيْهَم على عمر فَتَلقاهُ الْمُسلمُونَ وَدخل
فِي زِيّ حسن وَبَين بديه جنائب وَلبس أَصْحَابه الديباج.
وفيهَا حج عمر فحج مَعَه جبلة فوطىء رجل من فَزَارَة إزَاره فِي
الطّواف فَلَطَمَهُ جبلة فهشم أَنفه فَشَكَاهُ الْفَزارِيّ إِلَى عمر
فَقَالَ: إِمَّا أَن ترضيه وَإِمَّا أقدته مِنْك، قَالَ أتقيده مني
وَأَنا ملك وَهُوَ سوقة، قَالَ: يَا جبلة إِنَّه قد جمعك وإياه
الْإِسْلَام فَمَا تفضله إِلَّا بالعافية، قَالَ: وَالله لقد رَجَوْت
أَن أكون فِي الْإِسْلَام أعز مني فِي الْجَاهِلِيَّة، قَالَ عمر: هُوَ
ذَاك قَالَ: إِذا أتنصر، قَالَ إِن تنصرت ضربت عُنُقك، قَالَ أخرني
إِلَى غَد، قَالَ ذَلِك لَك، فهرب هُوَ وَأَصْحَابه إِلَى
الْقُسْطَنْطِينِيَّة إِلَى هِرقل فتنصروا، وَأكْرمهمْ هِرقل وأقطع
لَهُ، ثمَّ نَدم جبلة على فعله ذَلِك وَمضى رَسُول عمر إِلَى هِرقل
وَشَاهد مَا فِيهِ جبلة من النِّعْمَة.
قلت: وَلما اجْتمع رَسُول عمر بجبلة لامه على الرِّدَّة فَقَالَ إِن
كنت تضمن لي أَن يزوجني عمر ابْنَته ويوليني الْأَمر بعده رجعت، فضمن
الرَّسُول التَّزْوِيج وَلم يضمن الثَّانِيَة، ثمَّ نصب مَوَائِد
الذَّهَب وصحاف الْفضة فَامْتنعَ الرَّسُول مِنْهَا وَأكل فِي الخلنج
وَجِيء بطساس الْفضة وأباريق الذَّهَب فَامْتنعَ الرَّسُول وَغسل
يَدَيْهِ فِي الصفر، ثمَّ وضعت عشرَة كراسي مرصعة عَن يَمِينه وَعشرَة
عَن شِمَاله وَجلسَ عَلَيْهَا جوَار حسان عَلَيْهِنَّ الْحلِيّ، ثمَّ
طيب بِوَاسِطَة طَائِر عَجِيب الْخلقَة فَقَالَ للجواري اللَّاتِي عَن
يَمِينه: بِاللَّه أضحكننا فَقُلْنَ وخفقت عيدانهن:
(لله در عِصَابَة نادمتهم ... يَوْمًا بجلق فِي الزَّمَان الأول)
(يسقون من ورد البريض عَلَيْهِم ... رَاحا تصفق بالرحيق السلسل)
(أَوْلَاد جَفْنَة حول قبر أَبِيهِم ... قبر ابْن مَارِيَة الْكَرِيم
الْمفضل)
(يغشون حَتَّى مَا تهر كلابهم ... لَا يسْأَلُون عَن السوَاد الْمقبل)
(ثمَّ الأنوف كَرِيمَة أحسابهم ... بيض الْوُجُوه من الطّراز الأول)
فَقَالَ جبلة: هَذَا لحسان، ثمَّ الْتفت إِلَى اللواتي عَن يسَاره
وَقَالَ: بِاللَّه أبكيننا فَقُلْنَ:
(لمن الدَّار أقفرت بمعان ... بَين أَعلَى اليرموك فالخمان)
(ذَاك مغنى لآل جَفْنَة فِي الد ... هر محلا لحادث الْأَزْمَان)
(قد أَرَانِي هُنَاكَ دهرا مكينا ... عِنْد ذِي التَّاج مقعدي ومكاني)
(ودنا الفصح فالولائد ... ينظمن سرَاعًا أَكلَة المرجان)
وَقَالَ: هَذَا لحسان ثمَّ أنشأ:
(تنصرت للإتراف من أجل لطمة ... وَمَا كَانَ فِيهَا لَو سمحت بهَا
ضَرَر)
(تكنفني مِنْهَا لجاج ونخوة ... وبعت لَهَا الْعين الصَّحِيحَة بالعور)
(فياليت أُمِّي لم تلدني وليتني ... رجعت إِلَى القَوْل الَّذِي قَالَ
لي عمر)
(1/139)
(وَيَا لَيْتَني أرعى الْمَخَاض بقفرة ...
وَكنت أَسِيرًا فِي ربيعَة أَو مُضر)
ثمَّ أَن الرَّسُول أخبر عمر رَضِي اللَّهِ عَنهُ بذلك كُله وَبعث
مَعَه جبلة خَمْسمِائَة دِينَار لحسان بن ثَابت فَقَالَ حسان:
(إِن ابْن جفن من بَقِيَّة معشر ... لم يغرهم آباؤهم باللوم)
(لم ينسني بِالشَّام إِذْ هُوَ رَبهَا ... كلا وَلَا منتصرا بالروم)
وَلَام عمر الرَّسُول هلا ضمن لَهُ الْأَمريْنِ فَإِن جبلة كفؤ لبنته
وَأما ولَايَة الْأَمر فَهِيَ بيد اللَّهِ يُورثهَا من يَشَاء من
عبَادَة قَالَ الرَّسُول فعدت من عِنْد عمر إِلَى جبلة لأضمن لَهُ مَا
اشْترط فَوجدت النَّاس منصرفين من جنَازَته فَعلمت أَن الشَّقَاء قد
غلب عَلَيْهِ فِي أم الْكتاب.
ثمَّ دخلت سنة سبع عشرَة: فِيهَا اختطت الْكُوفَة وتحول سعد إِلَيْهَا.
وفيهَا اعْتَمر عمر رَضِي اللَّهِ عَنهُ وَأقَام بِمَكَّة عشْرين
لَيْلَة ووسع الْمَسْجِد الْحَرَام وَهدم منَازِل قوم أَبَوا بيعهَا
وَجعل أثمانها فِي بَيت المَال وَتزَوج أم كُلْثُوم بنت عَليّ - أمهَا
فَاطِمَة - رَضِي اللَّهِ عَنْهُم.
وفيهَا وقْعَة الْمُغيرَة بن شُعْبَة ولاه عمر الْبَصْرَة وَكَانَ
قبالة علية الْمُغيرَة عَلَيْهِ فِيهَا أَرْبَعَة وهم: أَبُو بكرَة
مولى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأَخُوهُ لأمه
زِيَاد بن أَبِيه، وَنَافِع بن كلدة، وشبل بن معبد، فَرفعت الرّيح
الكوة عَن الْعلية فَإِذا الْمُغيرَة على أم جميل بنت الأرقم بن عَامر
بن صعصعة فَكَتَبُوا إِلَى عمر بذلك، فَعَزله واستقدمه مَعَ الشُّهُود
وَولى الْبَصْرَة أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ فَلَمَّا قدم إِلَى عمر
شهد أَبُو بكرَة وَنَافِع وشبل عَلَيْهِ بالزنى وَلم يفصح زِيَاد
وَقَالَ عمر قبل أَن يشْهد أرى رجلا أَرْجُو أَن لَا يفضح اللَّهِ بِهِ
رجلا من اصحاب رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -،
فَقَالَ زِيَاد: رَأَيْته جَالِسا بَين رجْلي امْرَأَة وَرَأَيْت
رجلَيْنِ مرفوعتين كأذني حمَار ونفسا يَعْلُو وأستا ينبو عَن ذكر وَلَا
أعرف مَا وَرَاء ذَلِك فَقَالَ عمر هَل رَأَيْت الْميل فِي المكحلة
قَالَ: لَا؛ قَالَ فَهَل تعرف الْمَرْأَة لَا وَلَكِن أشبههَا، فجلد
الشُّهُود الثَّلَاثَة حد الْقَذْف، وَزِيَاد أَخُو أبي بكرَة لأمه
فَلم يكلمهُ أَبُو بكرَة بعْدهَا.
وفيهَا فتح الْمُسلمُونَ الأهواز من يَد الهرمزان من عُظَمَاء الْفرس
وفتحوا رامهرمز وتستر ثمَّ نزل الهرمزان من القلعة على حكم عمر فَأرْسل
مَعَ وَفد مِنْهُم أنس بن مَالك والأحنف بن قيس فوصلوا بِهِ
الْمَدِينَة وَقد ألبسوه الديباج الْمَذْهَب وعَلى رَأسه تاجه مكللا
بالياقوت فوجدوا عمر نَائِما بِالْمَسْجِدِ وَلَيْسَ لَهُ حرس وَلَا
حجاب فَاسْتَيْقَظَ للجبلة وَقَالَ لَهُ اللَّهِ الَّذِي أذلّ
بِالْإِسْلَامِ هَذَا وأشباهه وَنزع مَا عَلَيْهِ وألبس ثوبا صفيفا،
ثمَّ قَالَ لَهُ كَيفَ رَأَيْت عَاقِبَة الْغدر وعاقبة أَمر اللَّهِ
فَقَالَ الهرمزان: نَحن وَإِيَّاكُم فِي الْجَاهِلِيَّة لما خلى
اللَّهِ بيني وَبَيْنكُم غلبناكم وَلما كَانَ اللَّهِ الْآن مَعكُمْ
غلبتمونا وَطلب مَاء فَأتي بِهِ وَقَالَ: أَخَاف أَن يقتلني وَأَنا
أشْرب فَقَالَ عمر لَا بَأْس عَلَيْك حَتَّى تشرب فَرمى الْإِنَاء
فانكسر فقصد عمر قَتله فَقَالَت
(1/140)
الصَّحَابَة: إِنَّك أمنته بِقَوْلِك لَا
بَأْس عَلَيْك إِلَى أَن تشرب، وَلم يشرب ذَلِك المَاء، ثمَّ أسلم
وَفرض لَهُ أَلفَيْنِ.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَانِي عشرَة: فِيهَا أمحل الْحجاز فاستعان عمر
الْأَمْصَار فَكَانَ مِمَّن قدم عَلَيْهِ أَبُو عُبَيْدَة بأَرْبعَة
آلَاف رَاحِلَة زادا فقسم عمر حَتَّى أرخصت الْمَدِينَة وَلما اشْتَدَّ
الْقَحْط استقسى بِالْعَبَّاسِ فسقوا وَأَقْبل النَّاس يتمسحون بأذيال
الْعَبَّاس.
وفيهَا كَانَ طاعون عمواس بِالشَّام مَاتَ بِهِ أَبُو عُبَيْدَة رَضِي
اللَّهِ عَنهُ واستخلف أَبُو عُبَيْدَة " معَاذ بن جبل " فَمَاتَ
بالطاعون فاستخلف عَمْرو بن الْعَاصِ، وَمَات فِي هَذَا الطَّاعُون
خَمْسَة وَعِشْرُونَ ألفا وَمكث شهرا وطمع الْعَدو وَكَانَ
بِالْبَصْرَةِ مثله.
وفيهَا سَار عمر إِلَى الشَّام فقسم مَوَارِيث الْمَوْتَى بِهِ ثمَّ
رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَة فِي ذِي الْقعدَة.
ثمَّ دخلت سنة تسع عشرَة: وَسنة عشْرين فِيهَا فتحت مصر والإسكندرية
على يَد عَمْرو بن الْعَاصِ وَالزُّبَيْر فَنزلَا عين شمس بِقرب
المطرية ففتحاها وَبعث عَمْرو بن الْعَاصِ أَبْرَهَة بن الصَّباح إِلَى
الفرما وَضرب عَمْرو فسطاطه مَوضِع جَامعه بِمصْر الْآن واختطت مصر
وَبني الْجَامِع ثمَّ فتح الْإسْكَنْدَريَّة عنْوَة بعد قتال شَدِيد.
وفيهَا توفّي بِلَال بن رَبَاح مُؤذن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ مولى أبي بكر الصّديق وَاسم أمه حمامة
وَهُوَ من مولدِي الْحَبَشَة أسلم بعد إِسْلَام أبي بكر وَلم يُؤذن بعد
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طلب من أبي بكر أَن
يُرْسِلهُ فِي الْجِهَاد فَسَأَلَهُ أَبُو بكر أَن يُقيم مَعَه
فَأَقَامَ، ثمَّ ولي عمر فَسَأَلَهُ ذَلِك فأبي، وَسَار إِلَى دمشق
وَبهَا مَاتَ وَدفن بِبَاب الصَّغِير.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَعشْرين: فِيهَا وقْعَة نهاوند مَعَ
الْأَعَاجِم ومقدمهم الفرزان جمع مائَة وَخمسين ألفا وَجَرت بَينهم
حروب كَثِيرَة آخرهَا كسرة الْأَعَاجِم وفناؤهم وهرب الفرزان وَوصل
إِلَى ثنية هَمدَان فَوجدَ بغالا محملة عسلا عوقته، فَنزل عَن فرسه
هَارِبا فِي الْجَبَل فَتَبِعَهُ الْقَعْقَاع رَاجِلا وَقَتله فَقيل
إِن لله جندا من عسل.
وفيهَا فتحت الدينور والصيمرة وهمدان وأصفهان.
وفيهَا توفّي خَالِد بن الْوَلِيد وقبره قيل بِالْمَدِينَةِ وَقيل
بحمص.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين: فِيهَا فتحت أذربيجان والري
وجرجان وقزوين وزنجان وطبرستان.
وفيهَا صَالح عَمْرو بن الْعَاصِ أهل برقة على الْجِزْيَة ثمَّ حاصر
طرابلس الغرب وَفتحهَا عنْوَة.
وفيهَا غزا الْأَحْنَف بن قيس خُرَاسَان وَحَارب يزدجرد وافتتح هراة
عنْوَة ثمَّ سَار إِلَى مرو وَكتب يزدجرد إِلَى ملك التّرْك يستمده
وَإِلَى ملك السَّنَد وَإِلَى ملك الصين وَانْهَزَمَ
(1/141)
يزدجرد إِلَى بَلخ ثمَّ هزموه فَعبر نهر
جيحون وَأبي صلح الْمُسلمين فطرده عسكره وصالحوا الْمُسلمين وبقوا
بأماكنهم وَسَار يزدجرد مَعَ ملك التّرْك فِي حاشيتته وَأقَام بفرغانة
زمن عمر كُله.
وفيهَا توفّي أبي بن كَعْب بن قيس من ولد مَالك بن النجار ويكنى أَبَا
الْمُنْذر أَمر اللَّهِ نبيه أَن يقْرَأ عَلَيْهِ الْقُرْآن وَقَالَ: "
اقْرَأ أمتِي أبي بعدِي "، وَقيل توفّي سنة ثَلَاثِينَ فِي خلَافَة عمر
رَضِي اللَّهِ عَنْهُمَا.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَعشْرين: فِيهَا طعن أَبُو لؤلؤة فَيْرُوز عبد
الْمُغيرَة بن شُعْبَة عمر رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاة فِي
خاصرته وَتَحْت سرته لست بَقينَ من ذِي الْحجَّة.
قلت: وَكَانَ أَبُو لؤلؤة نَصْرَانِيّا.
" وَتُوفِّي عمر " يَوْم السبت سلخ ذِي الْحجَّة وَدفن يَوْم الْأَحَد
هِلَال الْمحرم سنة أَربع وَعشْرين وَمُدَّة خِلَافَته عشر سِنِين
وَسِتَّة أشهر وَثَمَانِية أَيَّام، وَدفن عِنْد النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأبي بكر رَضِي اللَّهِ عَنْهُمَا.
قلت: مر يَوْمًا عمر بن الْخطاب رَضِي اللَّهِ عَنهُ على رَسُول
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ عَلَيْهِ
السَّلَام: " لَا يزَال بَيْنكُم وَبَين الْفِتْنَة بَاب شَدِيد الغلق
مَا دَامَ هَذَا بَين أظْهركُم فَإِذا فارقكم انْفَتح ذَلِك الْبَاب "
فَكَانَ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام، لِأَن الْفِتْنَة كلهَا نجمت
بعد مَقْتَله وناحت الْجِنّ عَلَيْهِ قبل مَقْتَله بِثَلَاث فَقَالَت:
(أبعد قَتِيل بِالْمَدِينَةِ أَصبَحت ... لَهُ الأَرْض تهتز الْعضَاة
بأسواق)
(جزا اللَّهِ خيرا من أَمِير وباركت ... يَد اللَّهِ فِي ذَاك
الْأَدِيم الممزق)
(فَمن يسع أَو يركب جناحي نمعامة ... ليدرك مَا قَدمته الْيَوْم يسْبق)
(قضيت أمورا ثمَّ غادرت بعْدهَا ... بوائق فِي أكمامها لم تفتق)
(وَمَا كنت أخْشَى أَن تكون وَفَاته ... بكفي شقي أَزْرَق الْعين مطرق)
وَنسب بَعضهم هَذِه الأبيات إِلَى مزرد بن ضرار، وَالله اعْلَم.
وعهد بالخلافة إِلَى النَّفر الَّذين مَاتَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ عَنْهُم رَاض وهم عَليّ
وَعُثْمَان وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَسعد بعد أَن عرضهَا على عبد
الرَّحْمَن بن عَوْف فأبي. وَكَانَ عمر طَوِيل الْقَامَة أَبيض أصلع
أشيب وعمره ثَلَاث وَسِتُّونَ وَقيل سِتُّونَ وَقيل خمس وَخَمْسُونَ
وفضله وعدله وزهده مَشْهُور حرس بِنَفسِهِ لَيْلَة قفلا نزلُوا
بِنَاحِيَة السُّوق هُوَ وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَهُوَ أول من كتب
التَّارِيخ وَأول من عس بِاللَّيْلِ وَأول من نهى عَن بيع أُمَّهَات
الْأَوْلَاد وَأول من جمع على صَلَاة الْجِنَازَة بِأَرْبَع
تَكْبِيرَات، وَكَانُوا من قبل يكبرُونَ أَرْبعا وخمسا وستا، وَأول من
جمع على إِمَام يُصَلِّي التَّرَاوِيح، وَأول من ضرب بِالدرةِ وَدون
الدَّوَاوِين وخطب مرّة وَعَلِيهِ إِزَار فِيهِ اثْنَتَا عشرَة رقْعَة
وَمر فِي بعض حجاته بضجنان فَقَالَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّهِ
الْمُعْطِي من شَاءَ مَا شَاءَ كنت أرعى إبل الْخطاب فِي هَذَا
الْوَادي وَكَانَ
(1/142)
فظا يرعبني إِذا عملت ويضربني إِذا قصرت وَقد أَصبَحت وَلَيْسَ بيني
وَبَين اللَّهِ أحد وفضائله رَضِي اللَّهِ عَنهُ اكثر من أَن تحصر.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَعشْرين: فِيهَا عقب موت عمر اجْتمع أهل الشورى
وهم: عَليّ وَعُثْمَان وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَسعد بن أبي وَقاص
وَعبد اللَّهِ بن عمر رَضِي اللَّهِ عَنْهُم، وَشرط عمر أَن يكون ابْنه
عبد اللَّهِ شَرِيكا فِي الرَّأْي وَلَا يكون لَهُ حَظّ فِي
الْخلَافَة، وَجعل الْمدَّة ثَلَاثَة أَيَّام وَقَالَ: لَا يمْضِي
الْيَوْم الرَّابِع إِلَّا وَلكم أَمِير، وَإِن أختلفتم فكونوا مَعَ
الَّذين مَعَهم عبد الرَّحْمَن، |