تاريخ ابن الوردي

(وقْعَة صفّين)

وَلما اتّفق عَمْرو مَعَ مُعَاوِيَة على حَرْب عَليّ قدم جرير بن عبد اللَّهِ البَجلِيّ على عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ فَأعلمهُ بذلك، فَسَار عَليّ من الْكُوفَة إِلَى جِهَة مُعَاوِيَة، وَقدم عَلَيْهِ عبد اللَّهِ بن عَبَّاس وَمن مَعَه من اهل الْبَصْرَة، فَقَالَ عَليّ:
(لأصبحن الْعَاصِ وَابْن العَاصِي ... سبعين ألفا عاقدي النواصي)

(مجنبين الْخَيل بالقلاص ... مستحقبين حلق الدلاص)

وحدا بعلي نَابِغَة جعد فَقَالَ:
(قد علم المصران وَالْعراق ... أَن عليا فَحلهَا الْعتاق)

(أَبيض جحجاح لَهُ رواق ... أَن الأولى جاءوك لَا أفاقوا)

(لكم سباق وَلَهُم سباق ... قد علمت ذَلِكُم الرفاق)

وَسَار عَمْرو وَمُعَاوِيَة من دمشق بِأَهْل الشَّام إِلَى جِهَة عَليّ، وتأنى مُعَاوِيَة فِي مسيره حَتَّى اجْتمعت الجموع بصفين، وَخرجت سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَالْأَمر على ذَلِك.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَثَلَاثِينَ: وَمضى الْمحرم والجيشان بصفين يتراسلون بِمَا يطول ذكره بِلَا قتال، وَفِي صفر جرت بَينهم وقعات بصفين قيل: تسعون وقْعَة، وَمُدَّة الْمقَام بهَا مائَة وَعشرَة أَيَّام، وَقتل من أهل الشَّام خَمْسَة وَأَرْبَعُونَ ألفا وَمن الْعرَاق خَمْسَة وَعِشْرُونَ ألفا مِنْهُم سِتَّة وَعِشْرُونَ رجلا من أهل بدر.
وَتقدم عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ إِلَى أَصْحَابه أَن لَا يبدؤهم بِقِتَال وَلَا يقتلُوا مُدبرا وَلَا ياخذوا شَيْئا من أَمْوَالهم وَلَا يكشفوا عَورَة.
قَالَ مُعَاوِيَة: أردْت الانهزام بصفين فتذكرت قَول ابْن الأطنابة فَثَبت وَكَانَ جاهليا والأطنابة امْرَأَة وَهُوَ قَوْله:
(أَبَت لي همتي وحياء نَفسِي ... وإقدامي على البطل المشيح)

(وإعطائي على الْمَكْرُوه مَالِي ... وأخذي الْحَمد بِالثّمن الربيح)

(وَقَوْلِي كلما جشأت وجاشت ... رويدك تحمدي أَو تستريحي)

وَقَاتل عمار بن يَاسر مَعَ عَليّ وَقد نَيف على تسعين سنة والحربة فِي يَده وَيَده ترْعد وَقَالَ: هَذِه راية قَاتَلت بهَا مَعَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَلَاث مَرَّات وَهَذِه الرَّابِعَة، ودعا بِمَاء ليشْرب فَجَاءَتْهُ امْرَأَة بقدح من لبن، فَشرب مِنْهُ ثمَّ قَالَ: صدق اللَّهِ وَرَسُوله.

(1/150)


(الْيَوْم ألْقى الْأَحِبَّة ... مُحَمَّدًا وَحزبه)

قَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِن آخر رِزْقِي من الدُّنْيَا صيخة لبن - والصيخ اللَّبن الرَّقِيق الممزوج - وارتجز:
(نَحن قتلناكم على تَأْوِيله ... كَمَا قتلناكم على تَنْزِيله)

(ضربا يزِيل الْهَام عَن مقليه ... وَيذْهل الْخَلِيل عَن خَلِيله)

وَقَاتل حَتَّى اسْتشْهد رَضِي اللَّهِ عَنْهُم أَجْمَعِينَ، وَفِي الصَّحِيح أَن رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " تقتل عمارا الفئة الباغية ". قيل: قَتله أَبُو عَادِية بِرُمْح، وَاحْترز آخر رَأسه وأقبلا يختصمان إِلَى عَمْرو وَمُعَاوِيَة كل مِنْهُمَا يَقُول: أَنا قتلته، فَقَالَ عَمْرو: إنَّكُمَا فِي النَّار، فَلَمَّا انصرفا قَالَ مُعَاوِيَة لعَمْرو: مَا رَأَيْت مِثْلَمَا صرفت قوما بذلوا أنفسهم دُوننَا، فَقَالَ عَمْرو: هُوَ وَالله ذَلِك وَالله إِنَّك لتعلمه ولوددت أَنِّي كنت مت قبل هَذَا بِعشْرين سنة.
وَبعد قتل عمار انتدب عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ عشْرين ألفا وَحمل بهم، فَلم يبْق لأهل الشَّام صف إِلَّا انْتقض وَعلي يَقُول:
(أقتلهم وَلَا أرى مُعَاوِيَة ... الجاحظ الْعين الْعَظِيم الخاوية)

ثمَّ نَادَى: يَا مُعَاوِيَة علام تقتل النَّاس مَا بَيْننَا هَلُمَّ أحاكمك إِلَى اللَّهِ فأينا قتل صَاحبه استقامت لَهُ الْأُمُور فَقَالَ عَمْرو: أنصفك ابْن عمك، فَقَالَ مُعَاوِيَة: مَا أنصف إِنَّك تعلم أَنه لم يبرز إِلَيْهِ أحد إِلَّا قَتله، فَقَالَ عَمْرو: وَمَا يحسن بك ترك مبارزته، فَقَالَ مُعَاوِيَة: طمعت فِي الْأَمر بعدِي؟ .
ثمَّ تقاتلوا لَيْلَة الهرير شبهت بليلة الْقَادِسِيَّة وَكَانَت لَيْلَة الْجُمُعَة وَاسْتمرّ الْقِتَال إِلَى الصُّبْح، قيل: كبر على تِلْكَ اللَّيْلَة أَرْبَعمِائَة تَكْبِيرَة وَكَانَ عَادَته كلما قتل كبر، ودام إِلَى ضحى الْجُمُعَة، وَقَاتل الأشتر قتالا عَظِيما حَتَّى انْتهى إِلَى معسكرهم وأمده عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ بِالرِّجَالِ.
وَلما رأى عَمْرو ذَلِك قَالَ: هَلُمَّ نرفع الْمَصَاحِف على الرماح ونقول: هَذَا كتاب اللَّهِ بَيْننَا وَبَيْنكُم، فَفَعَلُوا ذَلِك، فَقَالَ أهل الْعرَاق لعَلي: أَلا تجيب إِلَى كتاب اللَّهِ؟ فَقَالَ عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ: امضوا على حقكم وصدقكم فِي قتال عَدوكُمْ فَإِن عمرا وَمُعَاوِيَة وَابْن أبي معيط وَابْن أبي سرح وَالضَّحَّاك بن قيس لَيْسُوا بأصحاب دين وَلَا قُرْآن وَأَنا أعرف بهم مِنْكُم وبحكم اللَّهِ، وَالله مَا رفعوها إِلَّا خديعة ومكيدة، فَقَالُوا: لَا تَمْنَعنَا أَن ندعي إِلَى كتاب اللَّهِ فتأبي، فَقَالَ عَليّ: إِنِّي إِنَّمَا قاتلتهم ليدينوا بِحكم كتاب اللَّهِ فَإِنَّهُم قد عصوا اللَّهِ فِيمَا أَمرهم، فَقَالَ لَهُ مَسْعُود بن فدك التَّمِيمِي وَزيد بن حُصَيْن الطَّائِي فِي عِصَابَة من الَّذين صَارُوا خوارج: يَا عَليّ أجب إِلَى كتاب اللَّهِ إِذا دعيت إِلَيْهِ وَإِلَّا دفعناك برمتك إِلَى الْقَوْم ونفعل بك مَا فعلنَا بعثمان بن عَفَّان، فَقَالَ عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ: إِن تطيعوني فَقَاتلُوا وَإِن تعصوني فافعلوا مَا بدا لكم، قَالُوا: وَابعث إِلَى الإشتر فليأتك، فَبعث إِلَيْهِ يَدعُوهُ فَقَالَ الأشتر

(1/151)


للرسول: لَيْسَ هَذِه السَّاعَة الَّتِي يَنْبَغِي لَك أَن تزيلني عَن موقفي، فَرجع الرَّسُول وَأخْبرهُ بالْخبر وَارْتَفَعت الْأَصْوَات وَكثر الرهج من جِهَة الشتر، فَقَالُوا لعَلي: مَا نرَاك أَمرته إِلَّا بِالْقِتَالِ، فَقَالَ: هَل رَأَيْتُمُونِي ساررت الرَّسُول إِلَيْهِ أَلَيْسَ كَلمته وَأَنْتُم تَسْمَعُونَ؟ قَالُوا: فأبعث إِلَيْهِ ليأتك وَإِلَّا اعتزلناك، فَرجع إِلَيْهِ الرَّسُول وأعلمه فَقَالَ: قد علمت وَالله أَن رفع الْمَصَاحِف يُوقع اخْتِلَافا وَأَنَّهَا مشورة ابْن العاهرة، وَرجع الأشتر إِلَى عَليّ وَقَالَ خدعتم فانخدعتم، وَكَانَ غَالب من نهى عَن الْقِتَال قراء.
وَلما كفوا عَن الْقِتَال سَأَلُوا مُعَاوِيَة لأي شَيْء رفعت الْمَصَاحِف؟ قَالَ: لتنصبوا حكما مِنْكُم وَحكما منا ونأخذ عَلَيْهِمَا أَن يعملا بِمَا فِي كتاب اللَّهِ ثمَّ نتبع مَا اتفقَا عَلَيْهِ، فَأجَاب الْفَرِيقَانِ إِلَى ذَلِك؛ فَقَالَ الْأَشْعَث بن قيس وَهُوَ من أكبر الْخَوَارِج: إِنَّا قد رَضِينَا بِأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، فَقَالَ عَليّ: قد عصيتموني فِي أول الْأَمر فَلَا تعصوني الْآن لَا أرى أَن أولي أَبَا مُوسَى، فَقَالُوا: لَا نرضى إِلَّا بِهِ، فَقَالَ عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ: إِنَّه قد فارقني وخذل عني النَّاس ثمَّ هرب مني حِين أمنته بعد أشهر وَلَكِن ابْن عَبَّاس أولى مِنْهُ، فَقَالُوا: ابْن عَبَّاس ابْن عَمَلك وَلَا نُرِيد إِلَّا رجلا هُوَ مِنْك وَمن مُعَاوِيَة سَوَاء، قَالَ عَليّ: فالأشتر، فَأَبَوا وَقَالُوا: وَهل أسعرها إِلَّا الأشتر.
فاضطر عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ إِلَى إجابتهم وَأخرج أَبَا مُوسَى، وَأخرج مُعَاوِيَة عَمْرو بن الْعَاصِ، وَاجْتمعَ الحكمان عِنْد عَليّ وَكتب بِحُضُورِهِ: هَذَا مَا تقاضى عَلَيْهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ، فَقَالَ عَمْرو: وَهُوَ أميركم وَأما أميرنا فَلَا؟ فَقَالَ الْأَحْنَف: لَا تمحوا اسْم أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَقَالَ الْأَشْعَث بن قيس: امح هَذَا الِاسْم، فَأجَاب عَليّ ومحاه وَقَالَ: اللَّهِ أكبر سنة بِسنة وَالله إِنِّي لكاتب رَسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم الْحُدَيْبِيَة فَكتبت مُحَمَّد رَسُول اللَّهِ فَقَالُوا: لست برَسُول اللَّهِ وَلَكِن اكْتُبْ بِاسْمِك وَاسم أَبِيك فَأمرنِي رَسُول اللَّهِ بمحوه فَقلت لَا أَسْتَطِيع قَالَ: فأرني فأريته فمحاه بِيَدِهِ ثمَّ قَالَ: إِنَّك ستدعى إِلَى مثلهَا فتجيب.
فَقَالَ عَمْرو: سُبْحَانَ اللَّهِ أتشبهنا بالكفار وَنحن مُؤمنُونَ؟ فَقَالَ عَليّ: يَا ابْن النَّابِغَة وَمَتى لم تكن للفاسقين وليا وَلِلْمُؤْمنِينَ عدوا؟ فَقَالَ عَمْرو: وَالله لَا يجمع بيني وَبَيْنك مجْلِس بعد الْيَوْم، فَقَالَ عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ: إِنِّي لأرجو أَن يطهر اللَّهِ مجلسي مِنْك وَمن أشباهك.
وَكتب الْكتاب فَمِنْهُ: هَذَا مَا تقاضي عَلَيْهِ عَليّ بن أبي طَالب وَمُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان قَاضِي عَليّ على أهل الْكُوفَة وَمن مَعَهم وقاضي مُعَاوِيَة على أهل الشَّام وَمن مَعَهم أَنا ننزل عِنْد حكم اللَّهِ وَكتابه نحيي مَا احيا ونميت مَا امات فَمَا وجد الحكمان فِي كتاب اللَّهِ وهما أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عبد اللَّهِ بن قيس وَعَمْرو بن الْعَاصِ عملا بِهِ وَمَا لم يجدا فِي كتاب اللَّهِ فَالسنة العادلة وَأخذ الحكمان من عَليّ وَمُعَاوِيَة وَمن الجندين المواثيق أَنَّهُمَا أمينان على أَنفسهمَا وأهلهما وَالْأمة لَهما أنصار على الَّذِي يتقاضيان عَلَيْهِ وأجلا الْقَضَاء إِلَى رَمَضَان من

(1/152)


هَذِه السّنة وَإِن أحبا أَن يؤخرا ذَلِك أخراه، وَكتب فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء لثلاث عشرَة خلت من صفر سنة سبع وَثَلَاثِينَ على أَن يوافي عَليّ وَمُعَاوِيَة مَوضِع الْحكمَيْنِ بدومة الجندل فِي رَمَضَان فَإِن لم يجتمعا لذَلِك اجْتمعَا من الْعَام الْمقبل بأذرح.
ثمَّ سَار عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ إِلَى الْعرَاق إِلَى الْكُوفَة وَلم يدخلهَا الْخَوَارِج مَعَه بل اعتزلوا عَنهُ.
ثمَّ فِي هَذِه السّنة بعث عَليّ لِلْمِيعَادِ أَرْبَعمِائَة رجل فيهم أَبُو مُوسَى وَعبد اللَّهِ بن عَبَّاس ليُصَلِّي بهم وَلم يحضر عَليّ، وَبعث مُعَاوِيَة عَمْرو بن الْعَاصِ فِي أَرْبَعمِائَة ثمَّ جَاءَ مُعَاوِيَة واجتمعوا بأذرح، وَشهد مَعَهم عبد اللَّهِ بن عَمْرو وَعبد اللَّهِ بن الزبير والمغيرة بن شُعْبَة، والتقى الحكمان فَدَعَا عَمْرو أَبَا مُوسَى أَن يَجْعَل الْأَمر إِلَى مُعَاوِيَة، فَأبى وَقَالَ: لم أكن لأوليه وأدع الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين، ودعا أَبُو مُوسَى عمرا إِلَى أَن يَجْعَل الْأَمر إِلَى عبد اللَّهِ بن عمر بن الْخطاب، فَأبى عَمْرو، ثمَّ قَالَ عَمْرو: مَا ترى أَنْت؟ فَقَالَ: أرى أَن نخلع عليا وَمُعَاوِيَة ونجعل الْأَمر شُورَى بَين الْمُسلمين، فأظهر لَهُ عَمْرو أَن هَذَا هُوَ الرَّأْي.
ثمَّ أَقبلَا إِلَى النَّاس وَقد اجْتَمعُوا فَقَالَ أَبُو مُوسَى: إِن رَأينَا قد اتّفق على أَمر نرجو بِهِ صَلَاح هَذِه الْأمة، فَقَالَ عَمْرو: صدق تقدم فَتكلم يَا أَبَا مُوسَى، فَلَمَّا تقدم لحقه ابْن عَبَّاس وَقَالَ لَهُ: وَيحك إِنِّي أَظن أَنه خدعك إِن كنتما قد اتفقتما على أَمر فقدمه قبلك فَإِنِّي لَا آمن أَن يخالفك، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: إِنَّا قد اتفقنا، فَحَمدَ اللَّهِ وَأثْنى عَلَيْهِ وَقَالَ: أَيهَا النَّاس إِنَّا لم نر أصلح لأمر هَذِه الْأمة من أَمر قد أجمع عَلَيْهِ رَأْيِي ورأي عَمْرو وَهُوَ أَن نخلع عليا وَمُعَاوِيَة فَاسْتَقْبلُوا أَمركُم وولوا عَلَيْكُم من رَأَيْتُمُوهُ لهَذَا الْأَمر أَهلا، ثمَّ تنحى وَأَقْبل عَمْرو فَقَامَ مقَامه فَحَمدَ اللَّهِ وَأثْنى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ: إِن هَذَا قد قَالَ مَا سَمِعْتُمْ وخلع صَاحبه وَأَنا أَخْلَع صَاحبه كَمَا خلعه وَأثبت صَاحِبي فَإِنَّهُ ولي عُثْمَان والطالب بدمه وأحق النَّاس بمقامه، فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ: مَا لَك لَا وفقك اللَّهِ غدرت وفجرت، وَركب أَبُو مُوسَى وَلحق بِمَكَّة حَيَاء، وَانْصَرف عَمْرو وَأهل الشَّام إِلَى مُعَاوِيَة فَسَلمُوا عَلَيْهِ بالخلافة، وَمِنْهَا أَخذ أَمر عَليّ فِي الضعْف وَأمر مُعَاوِيَة فِي الْقُوَّة.
وَلما اعتزلت الْخَوَارِج عليا رَضِي اللَّهِ عَنهُ دعاهم إِلَى الْحق، فامتنعوا وَقتلُوا رسله وَكَانُوا أَرْبَعَة آلَاف، ووعظهم ونهاهم عَن الْقِتَال فتفرقت مِنْهُم جمَاعَة وَبَقِي مَعَ عبد اللَّهِ بن وهب جمَاعَة على ضلاتهم، وقاتلوا فَقتلُوا عَن أخرهم، وَقتل من أَصْحَاب عَليّ سَبْعَة أَوَّلهمْ يزِيد بن نُوَيْرَة شهد أحدا، وَرجع عَليّ إِلَى الْكُوفَة وحض النَّاس على قتال مُعَاوِيَة فتقاعدوا وَقَالُوا: نستريح ونصلح عدتنا، فَدخل لذَلِك الْكُوفَة.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ: فِيهَا جهز مُعَاوِيَة عمرا بعسكر إِلَى مصر وَكتب مُحَمَّد بن أبي بكر يستنجد عليا، فَأرْسل إِلَيْهِ الأشتر فسقي فِي القلزم عسلا مسموما فَمَاتَ فَقَالَ مُعَاوِيَة: إِن لله جندا من عسل.

(1/153)


وَوصل عَمْرو مصر وقاتله أَصْحَاب مُحَمَّد بن أبي بكر فَهَزَمَهُمْ عَمْرو وتفرق عَن مُحَمَّد أَصْحَابه فَمشى مُحَمَّد حَتَّى انْتهى إِلَى خربة فَقبض عَلَيْهِ وَأتوا بِهِ مُعَاوِيَة بن خديج فَقتله فِي هَذِه السّنة وألقاه فِي جيفة حمَار وَأحرقهُ بالنَّار، وَدخل عَمْرو مصر وَبَايع أَهلهَا لمعاوية، وقنتت عَائِشَة فِي دبر كل صَلَاة تَدْعُو على مُعَاوِيَة وَعَمْرو بِسَبَب قتل أَخِيهَا مُحَمَّد، وجزع عَليّ لمقتله وَقَالَ: عِنْد اللَّهِ نحتسبه.
ثمَّ بَث مُعَاوِيَة سراياه على عُمَّال عَليّ، فَبعث النُّعْمَان بن بشير إِلَى عين النَّهر فنهب وَهزمَ من بهَا من أَصْحَاب عَليّ، وَبعث سُفْيَان بن عَوْف إِلَى هيت والأنبار فنهب وَرجع بِمَا بهَا من المَال إِلَى مُعَاوِيَة، وسير عبد اللَّهِ بن سعد الْفَزارِيّ إِلَى الْحجاز فَجهز عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ إِلَيْهِ خيلا فالتقوه بتيماء، فَانْهَزَمَ أَصْحَاب مُعَاوِيَة وَلَحِقُوا بِالشَّام؛ كل هَذَا وَعلي يخْطب الْخطب البليغة ويجتهد على الْخُرُوج لقِتَال مُعَاوِيَة وَعَسْكَره يتقاعد عَنهُ.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَلَاثِينَ: وَالْأَمر كَذَلِك.
وفيهَا: بعث عبد اللَّهِ بن عَبَّاس وَهُوَ عَامل الْبَصْرَة زيادا إِلَى فَارس، فَأصْلح مَا اخْتَلَّ مِنْهَا بِسَبَب قتال عَليّ وَمُعَاوِيَة وضبطها حَتَّى قَالَت الْفرس: مَا رَأينَا مثل سياسة أنوشروان إِلَّا سياسة هَذَا الْعَرَبِيّ.
ثمَّ دخلت سنة أَرْبَعِينَ: وكل وَاحِد من عَليّ وَمُعَاوِيَة يقنت وَيَدْعُو على الآخر وَأَصْحَابه.
وفيهَا: بعث مُعَاوِيَة بسر بن أَرْطَأَة فِي عَسْكَر إِلَى الْحجاز، فهرب أَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ عَامل عَليّ على الْمَدِينَة وَلحق بعلي، وَسَفك بسر بهما الدِّمَاء واستكره النَّاس على بيعَة مُعَاوِيَة، ثمَّ سَار إِلَى الْيمن وَقتل ألوفا، فهرب مِنْهُ عبيد اللَّهِ بن الْعَبَّاس عَامل عَليّ بِالْيمن، فَوجدَ لِعبيد اللَّهِ ابْنَيْنِ صبيين فذبحهما وأتى بعظيمة فَقَالَت أمهما عَائِشَة بنت عبد اللَّهِ بن عبد المدان تبكيهما:
(هَا من أحسن ابْني اللَّذين هما ... كالدرتين تشظى عَنْهُمَا الصدف)

(هَا من أحسن ابْني اللَّذين هما ... قلبِي وسمعي فقلبي الْيَوْم يختطف)

(من دلّ والهة حرى مدلهمة ... على صبيين ذلا إِذْ غَدا السّلف)

(خبرت بسرا وَمَا صدقت مَا زَعَمُوا ... من إفكة وَمن القَوْل الَّذِي اقترفوا)

(مقتل عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ)

قيل: اجْتمع ثَلَاثَة من الْخَوَارِج وهم: عبد الرَّحْمَن بن ملجم الْمرَادِي وَعَمْرو بن بكير التَّمِيمِي والبرك بن عبد اللَّهِ التَّمِيمِي وَقيل: اسْمه الْحجَّاج، فَذكرُوا إخْوَانهمْ من المارقة المقتولين بالنهروان فَقَالُوا: لَو قتلنَا أَئِمَّة الضَّلَالَة أَرحْنَا مِنْهُم الْعباد، فَقَالَ ابْن ملجم: أَنا

(1/154)


أكفيكم عليا، وَقَالَ البرك: أَنا أكفيكم مُعَاوِيَة، وَقَالَ عَمْرو بن بكير: أَنا أكفيكم عَمْرو بن الْعَاصِ: وتعاهدوا أَن لَا فرار وسحبوا سيوفا مَسْمُومَة، وتواعدوا لسبع عشرَة تمْضِي من رَمَضَان مِنْهَا.
وَاتفقَ مَعَ ابْن ملجم وردان من تيم الربَاب، وشبيب من أَشْجَع، ووثبوا على عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ وَقد خرج إِلَى الصَّلَاة الْغَدَاة، فَضَربهُ شبيب فَوَقع سَيْفه فِي الطاق فهرب شبيب وَنَجَا وضربه ابْن ملجم فِي جَبهته، وهرب وردان، فَأمْسك ابْن ملجم وأحضر مكتوفا بَين يَدي عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ.
ودعا الْحسن وَالْحُسَيْن وَقَالَ: أوصيكما بتقوى اللَّهِ، وَلَا تبغيا الدُّنْيَا، وَلَا تبكيا على شَيْء زوي عنكما مِنْهَا، ثمَّ لم ينْطق إِلَّا بِلَا إِلَه إِلَّا اللَّهِ حَتَّى قبض.
قلت: قَالَ الإسفرايني فِي معالم الْإِسْلَام: روى عمار أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رأى عليا نَائِما فِي بعض الْغَزَوَات على التُّرَاب فَقَالَ: " مَا لَك يَا أَبَا تُرَاب "، ثمَّ قَالَ: " أَلا أحدثتكم بِأَشْقَى النَّاس؟ رجلَيْنِ، قُلْنَا بلَى، قَالَ: أجثم قمود وَالَّذِي يَضْرِبك بِأَعْلَى هَذِه - فَوضع يَده على قرنه - حَتَّى تبتل مِنْك هَذِه وَأخذ بلحيته، وَفِي رِوَايَة أَنه قَالَ لعَلي: إِنَّك لَا تَمُوت حَتَّى تُؤمر فَإِذا أمرت خضبت هَذِه من هَذِه، ثمَّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: يقتلك أَشْقَى مُرَاد ".
ويروى: أَن عليا رَضِي اللَّهِ عَنهُ كَانَ إِذا رأى ابْن ملجم يَقُول لَهُ: يَا أشقاها مَتى تخضب هَذِه من هَذِه ثمَّ ينشد:
(أُرِيد حَيَاته وَيُرِيد قَتْلِي ... عذيرك من خيلك من مُرَاد)
وَالله أعلم.
وَأما البرك فَوَثَبَ على مُعَاوِيَة تِلْكَ اللَّيْلَة وضربه بِالسَّيْفِ فَوَقع فِي ألييه فأمسكوه، فَقَالَ لمعاوية: إِنِّي أُبَشِّرك فَلَا تقتلني، فَقَالَ: بِمَاذَا؟ قَالَ: إِن رفيقي قتل عليا هَذِه اللَّيْلَة فَقَالَ مُعَاوِيَة: لَعَلَّه لم يقدر عَلَيْهِ، قَالَ بلَى إِن عليا لَيْسَ مَعَه من يَحْرُسهُ، فَقتله مُعَاوِيَة.
وَأما عَمْرو بن بكير فَجَلَسَ تِلْكَ اللَّيْلَة لِابْنِ الْعَاصِ فَلم يخرج للصَّلَاة، وَأمر خَارِجَة بن أبي حَبِيبَة صَاحب شرطته أَن يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَخرج، فَشد عَلَيْهِ عَمْرو بن بكير فَقتله وَهُوَ يَظُنّهُ ابْن الْعَاصِ، فَأَخَذُوهُ إِلَى عَمْرو فَقَالَ: من هَذَا؟ قَالُوا: عَمْرو، فَقَالَ: أَنا من قتلت؟ قَالُوا: خَارِجَة، فَقَالَ: أردْت عمرا، وَأَرَادَ اللَّهِ خَارِجَة.
وَلما مَاتَ عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ أخرج ابْن ملجم من الْحَبْس، فَقطع عبد اللَّهِ بن جَعْفَر يَده ثمَّ رجله، وكلت عَيناهُ بمسمار محمى وَقطع لِسَانه وأحرق. ولعمران بن حطَّان الْخَارِجِي كَاذِبًا مخزيا:
(يَا ضَرْبَة من ولي مَا أَرَادَ بهَا ... إِلَّا ليبلغ من ذِي الْعَرْش رضوانا)

(إِنِّي لأذكره يَوْمًا فأحسبه ... أوفى الْبَريَّة عِنْد اللَّهِ ميزانا)

(1/155)


قلت: وَلأبي الطّيب الطَّبَرِيّ صَادِقا مهديا:
(يَا ضَرْبَة من شقي مَا أَرَادَ بهَا ... إِلَّا ليهْدم لِلْإِسْلَامِ اركان)

(إِنِّي لأذكره يَوْمًا فألعنه ... لذاك ألعن عمرَان بن حطانا)

ولبعضهم:
(وليتها إِذْ فدت عمرا بخارجه ... فدت عليا بِمن شَاءَت من الْبشر)
وَالله أعلم.
وَعمر عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ قيل ثَلَاث وَسِتُّونَ، وَقيل: خمس وَسِتُّونَ، وَقيل: تسع وَخَمْسُونَ. وخلافته خمس سِنِين إِلَّا ثَلَاثَة أشهر.
وقبره قيل فِيمَا يَلِي قبْلَة الْمَسْجِد بِالْكُوفَةِ، وَقيل: عِنْد قصر الْإِمَارَة، وَقيل: حوله الْحسن إِلَى الْمَدِينَة إِلَى البقيع عِنْد فَاطِمَة رَضِي اللَّهِ عَنْهُم. قَالَ الْمُؤلف رَحمَه اللَّهِ: وَالأَصَح الَّذِي ارْتَضَاهُ ابْن الْأَثِير وَغَيره: أَنه بالنجف.

(صفته رَضِي اللَّهِ عَنهُ)

كَانَ شَدِيد الأدمة عَظِيم الْعَينَيْنِ بطينا أصلع عَظِيم اللِّحْيَة كثير شعر الصَّدْر مائلا إِلَى الْقصر حسن الْوَجْه لَا يُغير شَيْبه كثير التبسم، كَانَ حَاجِبه مَوْلَاهُ قنبر وَصَاحب شرطته نفَيْل بن قيس الريَاحي، وقاضية شريحا، استقضاه عمر بِالْكُوفَةِ واشتهر بهَا إِلَى أَيَّام الْحجَّاج.
وَأول أَزوَاج عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ فَاطِمَة لم يتَزَوَّج عَلَيْهَا فِي حَيَاتهَا وَولدت لَهُ الْحسن وَالْحُسَيْن ومحسنا مَاتَ صَغِيرا وَزَيْنَب وَأم كُلْثُوم زَوْجَة عمر بن الْخطاب، وَبعد وَفَاة فَاطِمَة تزوج أم الْبَنِينَ بنت حزَام الْكلابِيَّة فَولدت لَهُ الْعَبَّاس وجعفرا وَعبد اللَّهِ وَعُثْمَان، قتل الْأَرْبَعَة مَعَ الْحُسَيْن وَلم يعقب مِنْهُم غير الْعَبَّاس، وَتزَوج ليلى بنت مَسْعُود بن خَالِد النَّهْشَلِي التَّمِيمِي وَولدت لَهُ عبد اللَّهِ وَأَبا بكر قتلا مَعَ الْحُسَيْن أَيْضا، وَتزَوج أَسمَاء بنت عُمَيْس وَولدت لَهُ مُحَمَّدًا الْأَصْغَر وَيحيى وَلَا عقب لَهما، وَولد لَهُ من الصهبا بنت ربيعَة الثعلبية من سبي خَالِد بِعَين النَّهر عمر ورقية، وعاش عمر الْمَذْكُور خمْسا وَثَمَانِينَ سنة وَحَازَ نصف مِيرَاث أَبِيه وَمَات بينبع وَله عقب. وَتزَوج عَليّ أَيْضًا أُمَامَة بنت أبي الْعَاصِ بن الرّبيع بن عبد شمس بن عبد منَاف وَأمّهَا زَيْنَب بنت رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَولدت لَهُ مُحَمَّد الْأَوْسَط وَلَا عقب لَهُ. وَولد لَهُ من خوله بنت جَعْفَر الْحَنَفِيَّة مُحَمَّد الْأَكْبَر بن الْحَنَفِيَّة وَله عقب.
وَكَانَ لَهُ بَنَات من أُمَّهَات شَتَّى مِنْهُنَّ أم حسن ورملة الْكُبْرَى من ام سعيد بنت عُرْوَة، وَمن بَنَاته أم هانىء ومَيْمُونَة وَزَيْنَب الصُّغْرَى ورملة الصُّغْرَى وَأم كُلْثُوم الصُّغْرَى وَفَاطِمَة وأمامة وَخَدِيجَة وَأم الْكِرَام وَأم سَلمَة وَأم جَعْفَر وجمانة ونفيسة فبنوه الذُّكُور كلهم أَرْبَعَة عشر لم يعقب مِنْهُم إِلَّا خَمْسَة الْحسن وَالْحُسَيْن وَمُحَمّد بن الْحَنَفِيَّة وَالْعَبَّاس وَعمر.

(1/156)


(شَيْء من فضائله رَضِي اللَّهِ عَنهُ)

من ذَلِك: مشاهده مَعَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأَخُوهُ رَسُول اللَّهِ لَهُ، وَسبق إِسْلَامه وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم خَيْبَر: " لَأُعْطيَن الرَّايَة رجلا يحب اللَّهِ وَرَسُوله " الحَدِيث، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من كنت مَوْلَاهُ فعلي مَوْلَاهُ "، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أما ترْضى أَن تكون مني بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى "، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أقضاكم عَليّ "
وحاكم نَصْرَانِيّا فِي درع إِلَى شُرَيْح، فَقَالَ شُرَيْح لعَلي: أَلَك بَينه؟ قَالَ: لَا، وَهُوَ يضْحك، فَأخذ النَّصْرَانِي الدرْع وَمَشى يَسِيرا، ثمَّ عَاد وَقَالَ: أشهد أَن هَذِه أَحْكَام الْأَنْبِيَاء، ثمَّ أسلم واعترف بِسُقُوط الدرْع من عَليّ، ففرح بِإِسْلَامِهِ، ووهبه الدرْع وفرسا وَشهد مَعَه الْخَوَارِج فَقتل وَحمل سلْعَته فِي يَده.
وَكَانَ يقسم مَا فِي بَيت المَال كل جُمُعَة، وَدخل مرّة بَيت المَال فَوجدَ الذَّهَب وَالْفِضَّة فَقَالَ: يَا صفرا اصفري، وَيَا بيضًا ابيضي، وغري غَيْرِي لَا حَاجَة لي فِيك.
وقصده أَخُوهُ لِأَبِيهِ وَأمه عقيل يسترفده فَلم يجد عِنْده مَا يطْلب، فلحق بِمُعَاوِيَة وَكَانَ مَعَ مُعَاوِيَة يَوْم صفّين فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة يمازحه: يَا أَبَا يزِيد أَنْت الْيَوْم مَعنا، قَالَ: وَيَوْم بدر كنت أَيْضا مَعكُمْ، وَكَانَ عقيل يَوْم بدر مَعَ الْمُشْركين هُوَ وَالْعَبَّاس.

(بيعَة الْحسن رَضِي الله عَنهُ)

وَبعد وَفَاة عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ بُويِعَ الْحسن ابْنه، فَكتب إِلَيْهِ عبد اللَّهِ بن عَبَّاس من مَكَّة يحضه على جِهَاد عدوه، وَكَانَ ابْن عَبَّاس قد أَخذ من الْبَصْرَة مَالا وَلحق بِمَكَّة قبل مقتل عَليّ؛ وَأول من بَايعه قيس بن سعد بن عبَادَة فَقَالَ: أبسط يدك على كتاب اللَّهِ وَسنة رَسُوله وقتال الْمُخَالفين، فَقَالَ الْحسن: على كتاب اللَّهِ وَسنة رَسُوله فَإِنَّهُمَا ثابتان، وَبَايَعَهُ النَّاس؛ وَكَانَ الْحسن يشْتَرط أَنهم سامعون مطيعون تسالمون من سالمت وتحاربون من حَارَبت، فارتابوا من ذَلِك فَقَالُوا: مَا هَذَا لكم بِصَاحِب وَمَا يُرِيد الْقِتَال.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين: قيل أَن عليا تجهز قبل مَوته لقِتَال مُعَاوِيَة وَبَايع أَرْبَعِينَ ألفا على الْمَوْت فاتفق قَتله، فَلَمَّا بُويِعَ الْحسن بلغه مسير أهل الشَّام مَعَ مُعَاوِيَة لقتاله، فتجهز الْحسن فِي ذَلِك الْجَيْش وَسَار عَن الْكُوفَة فِي لِقَاء مُعَاوِيَة وَوصل الْمَدَائِن، وَجعل على مقدمته قيس بن سعد فِي اثْنَي عشر ألفا، وَقيل بل عبيد اللَّهِ بن عَبَّاس، وَجرى فِي عسكره فتْنَة، قيل نازعوا الْحسن بساطا تَحْتَهُ فَدخل الْمَقْصُورَة الْبَيْضَاء بِالْمَدَائِنِ وَنَفر قلبه من ذَلِك الْعَسْكَر، فَكتب إِلَى مُعَاوِيَة وَاشْترط شُرُوطًا إِن أَجَابَهُ إِلَيْهَا سمع وأطاع، فَأَجَابَهُ مُعَاوِيَة إِلَيْهَا؛ والشروط: أَن يُعْطِيهِ مَا فِي بَيت مَال الْكُوفَة، وخراج دَار أبجرد من فَارس، وَأَن لَا يسب عليا؛ فَلم يجب إِلَى الْكَفّ عَن السب، فَطلب أَن لَا يسب وَهُوَ يسمع، فَأَجَابَهُ وَمَا وَفِي بِهِ، وَقيل: إِنَّه وَصله بأربعمائة ألف دِرْهَم، وَلم يصله شَيْء من خراج دَار أبجرد.

(1/157)


وَدخل مُعَاوِيَة الْكُوفَة وَبَايَعَهُ النَّاس، وَجَرت بَين قيس بن سعد بن عبَادَة وَعبيد اللَّهِ بن عَبَّاس، وَبَين مُعَاوِيَة مراسلات آخرهَا المبايعه بِمن مَعَهُمَا وشرطا أَن لَا يطالبا بِمَال وَلَا دم، ووفي لَهما مُعَاوِيَة، وَلحق الْحسن بِالْمَدِينَةِ وَأهل بَيته.
وَقيل سلم الْأَمر إِلَى مُعَاوِيَة فِي ربيع الأول سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين، وَقيل فِي ربيع الآخر، وَقيل فِي جُمَادَى الأولى، وعَلى هَذَا فخلافته على القَوْل الأول خَمْسَة أشهر وَنَحْو نصف شهر وعَلى الثَّانِي سِتَّة أشهر وَكسر.
روى سفينة أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْخلَافَة بعدِي ثَلَاثُونَ سنة ثمَّ تكون ملكا عَضُوضًا ". وَكَانَ آخر الثَّلَاثِينَ يَوْم خلع الْحسن نَفسه من الْخلَافَة.
وَأقَام الْحسن بِالْمَدِينَةِ إِلَى أَن توفّي بهَا فِي ربيع الأول سنة تسع وَأَرْبَعين، ومولده بِالْمَدِينَةِ سنة ثَلَاث من الْهِجْرَة، وَهُوَ أكبر من الْحُسَيْن بِسنة وَكَانَ مطلاقا وَله خَمْسَة عشر ولدا ذكرا وثماني بَنَات، كَانَ يشبه النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من رَأسه إِلَى سرته، وَالْحُسَيْن يشبه النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من سرته إِلَى قدمه.
وَقيل إِن زَوجته جعدة بنت الْأَشْعَث سمته، قيل بِأَمْر مُعَاوِيَة، وَقيل بِأَمْر يزِيد أطمعها بالتزوج بهَا وَلم يَفِ؛ وَأوصى الْحسن أَن يدْفن عِنْد جده، فَمنع مَرْوَان بن الحكم وَالِي الْمَدِينَة من ذَلِك وكادت تكون فتْنَة بَين الأمويين والهاشميين، فَدفن بِالبَقِيعِ
وَبلغ مُعَاوِيَة موت الْحسن فَسجدَ، فَقَالَ بَعضهم:
(أصبح الْيَوْم ابْن هِنْد شامتا ... ظَاهرا النخوة إِذْ مَاتَ الْحسن)

(يَا ابْن هِنْد إِن تذق كأس الردى ... تَكُ فِي الدَّهْر كشيء لم يكن)

(لست بِالْبَاقِي فَلَا تشمت بِهِ ... كل حَيّ للمنايا مُرْتَهن)

فِي الصَّحِيح: ان النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْحسن وَالْحُسَيْن سيدا شباب أهل الْجنَّة وأبوهما خير مِنْهُمَا ".
قلت: سُئِلَ الشَّيْخ الزَّاهِد محيي الدّين النَّوَوِيّ عَن قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْحسن وَالْحُسَيْن سيدا شباب أهل الْجنَّة "، مَا مَعْنَاهُ؟ فَأجَاب بِجَوَاب مِنْهُ معنى الحَدِيث: أَن الْحسن وَالْحُسَيْن وَإِن مَاتَا شيخين فهما سيدا كل من مَاتَ شَابًّا وَدخل الْجنَّة وكل أهل الْجنَّة يكونُونَ فِي سنّ أَبنَاء ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَلَا يلْزم كَون السَّيِّد فِي سنّ من يسودهم وَالله اعْلَم.
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الْحسن وَقد أَخذ بِيَدِهِ: " إِن ابْني هَذَا سيد وسيصلح اللَّهِ بِهِ بَين فئتين من الْمُسلمين عظيمتين ".
وَرُوِيَ: أَنه مر بالْحسنِ وَالْحُسَيْن رَضِي اللَّهِ عَنهُ وهما يلعبان فطأطأ لَهما عُنُقه وحملهما وَقَالَ: " نعم المطية مطيتهما وَنعم الراكبان هما ".

(1/158)