تاريخ ابن الوردي
(خلفاء بني أُميَّة)
أَرْبَعَة عشر، أَوَّلهمْ مُعَاوِيَة وَآخرهمْ مَرْوَان الْجَعْدِي،
ملكوا نيفا وَتِسْعين سنة ألف شهر تَقْرِيبًا. قَالَ ابْن الْأَثِير:
لما سَار الْحسن رَضِي اللَّهِ عَنهُ من الْكُوفَة عرض لَهُ رجل
وَقَالَ: يَا مسود وُجُوه الْمُؤمنِينَ، فَقَالَ الْحسن: لَا تعذلني
فَإِن رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أرِي فِي
مَنَامه أَن بني أُميَّة ينزون على منبره رجلا فساءه ذَلِك، فَأنْزل
اللَّهِ: {إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر} و {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي
لَيْلَة الْقدر. لَيْلَة الْقدر خير من ألف شهر} يملكهَا بَنو أُميَّة.
(أَخْبَار مُعَاوِيَة)
وَهُوَ ابْن أبي سُفْيَان صَخْر بن حَرْب بن أُميَّة بن عبد شمس بن عبد
منَاف بن قصي، وامه هِنْد، ويكنى أَبَا عبد الرَّحْمَن، بُويِعَ يَوْم
الْحكمَيْنِ، وَقيل بِبَيْت الْمُقَدّس بعد قتل عَليّ رَضِي اللَّهِ
عَنهُ، وبويع ثَانِيًا الْبيعَة الثَّانِيَة يَوْم خلع الْحسن نَفسه
وَاسْتمرّ
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَسنة ثَلَاث وَأَرْبَعين:
فِيهَا توفّي عَمْرو بن الْعَاصِ بن وَائِل بن هَاشم بن سعد بن سعيد بن
سهم بن عَمْرو بن هصيص بن كَعْب بن لؤَي الْقرشِي كَانَ فِي
الْجَاهِلِيَّة من الثَّلَاثَة الهاجين لرَسُول اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهم عَمْرو الْمَذْكُور وَأَبُو
سُفْيَان بن حَرْب وَعبد اللَّهِ بن الزبعري، وَكَانَ يُجِيبهُمْ
ثَلَاثَة حسان بن ثَابت وَعبد اللَّهِ بن رَوَاحَة وَكَعب بن مَالك،
وَكَانَت مصر طعمة لعَمْرو بعد رزق جندها حسب شَرطه الَّذِي تقدم وَفِي
ذَلِك يَقُول عَمْرو:
(معاوي لَا أُعْطِيك ديني وَلم أنل ... بِهِ مِنْك دنيا فانظرن كَيفَ
تصنع)
(فَإِن تعطني مصرا فتربح بصفقة ... أخذت بهَا شَيخا يضر وينفع)
وَولى مُعَاوِيَة مصر بعد موت عَمْرو ابْنه عبد اللَّهِ ثمَّ عَزله.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَأَرْبَعين: فِيهَا استلحق مُعَاوِيَة زِيَاد بن
سميَّة أمة الْحَارِث بن كلدة الثَّقَفِيّ زَوجهَا بِعَبْد رومي لَهُ
اسْمه عبيد فَولدت زيادا على فرَاشه وَكَانَ أَبُو سُفْيَان فِي
الْجَاهِلِيَّة قد وَقع عَلَيْهَا بِالطَّائِف وَوضعت زيادا سنة
الْهِجْرَة وَنَشَأ فصيحا حضر بِمحضر جمع من الصَّحَابَة فِي خلَافَة
عمر فَقَالَ عَمْرو بن الْعَاصِ: لَو كَانَ هَذَا الْغُلَام من قُرَيْش
لساق الْعَرَب بعصاه، فَقَالَ أَبُو سُفْيَان لعَلي رَضِي الله عَنهُ:
أَنِّي لأعرف من وَضعه فِي رحم أمه، فَقَالَ عَليّ: وَمن هُوَ يَا
أَبَا سُفْيَان؟ فَقَالَ: أَنا، فَقَالَ مهلا يَا أَبَا سُفْيَان.
قلت: فَقَالَ أَبُو سُفْيَان شعرًا:
(أما وَالله لَوْلَا خوف شخص ... يراني يَا عَليّ من الأعادي)
(لأظهره سره صَخْر بن حَرْب ... وَبِمَ تكن الْمقَالة عَن زِيَاد)
(وَقد طَالَتْ مجامتلي ثقيفا ... وتركي فيهم ثَمَر الْفُؤَاد)
وَالله أعلم، وَلما لم يُصَرح زِيَاد بِشَهَادَة الزِّنَا على
الْمُغيرَة كَمَا تقدم صَارَت لَهُ عِنْده يَد يعظمه
(1/159)
بهَا ثمَّ اسْتعْمل عَليّ زيادا على فَارس
وَلما سلم الْحسن الْأَمر إِلَى مُعَاوِيَة منع زِيَاد بِفَارِس
الطَّاعَة فأهم مُعَاوِيَة أمره خوفًا أَن يَدْعُو إِلَى أحد من بني
هَاشم فَيُعِيد الْحَرْب وَقدم الْمُغيرَة عَامل مُعَاوِيَة
بِالْكُوفَةِ على مُعَاوِيَة سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين فَشكى
إِلَيْهِ امْتنَاع زِيَاد بِفَارِس فَتوجه الْمُغيرَة بأمانه إِلَى
زِيَاد فَأحْضرهُ وَبَايع مُعَاوِيَة وَفِي سنة أَربع وَأَرْبَعين
استلحق مُعَاوِيَة زيادا وَأعظم النَّاس ذَلِك خُصُوصا بَنو أُميَّة
حَتَّى قَالَ عبد الرَّحْمَن أَخُو مَرْوَان بن الحكم فِي ذَلِك:
(أَلا بلغ مُعَاوِيَة بن حَرْب ... مغلغلة عَن الرجل الْيَمَانِيّ)
(أتغضب أَن يُقَال أَبوك عف ... وترضى أَن يُقَال أَبوك زاني)
(واشهد أَن رَحِمك من زِيَاد ... كرحم الْفِيل من ولد الأتان)
قلت: وَفِي تَارِيخ ابْن خلكان أَن الأبيات ليزِيد بن مُفَرع، وَالله
أعلم.
ثمَّ ولى مُعَاوِيَة زيادا الْبَصْرَة مَعَ خُرَاسَان وسجستان ثمَّ
الْهِنْد والبحرين.
وفيهَا توفيت أم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان زوج النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَأَرْبَعين: فِيهَا قدم زِيَاد إِلَى الْبَصْرَة
فأكد الْملك لمعاوية وَتُوفِّي الْمُغيرَة سنة خمسين فأضاف مُعَاوِيَة
الْكُوفَة إِلَى زِيَاد أَيْضا وَهُوَ أول من سير بَين يَدَيْهِ
بالحراب والعمد وَاتخذ الحرس خَمْسمِائَة وَسَب زِيَاد عليا كَمَا
كَانَت عَادَتهم فَقَامَ حجر بن عدي وأثني على عَليّ فأوثقه وجهزه
إِلَى مُعَاوِيَة.
وروى ابْن الْجَوْزِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ مَا
مَعْنَاهُ أَنه استفظع من مُعَاوِيَة أَخذه الْخلَافَة بِلَا مُشَاورَة
واستخلافه يزيدا واستلحاقه زيادا وَقَتله حجر بن عدي وَأَصْحَابه
وَكَانَ حجر من أعظم النَّاس دينا قتل بعذراء ظَاهر دمشق.
وفيهَا توفّي عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن الْوَلِيد مَال أهل الشَّام
إِلَيْهِ، فَقيل إِن مُعَاوِيَة دس إِلَيْهِ سما مَعَ نَصْرَانِيّ
يُقَال لَهُ أَثَال.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَسنة سبع وَأَرْبَعين: فِيهَا توفّي
قيس بن عَاصِم بن سِنَان بن خَالِد بن منقر؛ وَفد على النَّبِي فِي بني
تَمِيم فَأسلم وَكَانَ قيس مَوْصُوفا بمكارم الْأَخْلَاق.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَأَرْبَعين: فِيهَا بعث مُعَاوِيَة جَيْشًا مَعَ
سُفْيَان بن عَوْف فحاصروا الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَمن الْجَيْش ابْن
عَبَّاس وَابْن عمر وَابْن الزبير وَأَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ
وَتُوفِّي هَذَا وَدفن قَرِيبا من سورها شهد أحدا وبدرا وَمَعَ عَليّ
صفّين وَغَيرهَا.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَأَرْبَعين وَسنة خمسين: فِيهَا بنيت القيروان
وكملت سنة خمس وَخمسين كَانَت أجمة مشتبكة فبناها عقبَة بن نَافِع
الصَّحَابِيّ عَامل مُعَاوِيَة على إفريقية وفيهَا توفّي دحْيَة بن
خَليفَة بن فَرْوَة بن فضَالة الْكَلْبِيّ من كلب بن وبرة أسلم قَدِيما
وَلم يشْهد بَدْرًا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: "
أشبه من رَأَيْت بِجِبْرِيل دحْيَة الْكَلْبِيّ ".
(1/160)
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَخمسين: فِيهَا
توفّي سعيد بن زيد من الْعشْرَة الْمَشْهُود لَهُم بِالْجنَّةِ.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَثَلَاث وَخمسين: فِيهَا هلك
زِيَاد بن أَبِيه فِي رَمَضَان من آكله فِي إصبعه، ومولده سنة
الْهِجْرَة.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَخمسين وَخمْس وَخمسين وست وَخمسين: فِيهَا ولى
مُعَاوِيَة سعيد بن عُثْمَان بن عَفَّان خُرَاسَان فَقطع جيحون إِلَى
سَمَرْقَنْد والصغد، وَهزمَ الْكفَّار وَفتح ترمذ صلحا، وَقتل مَعَه
قثم بن الْعَبَّاس وَدفن بسمرقند، وَمَات أَخُوهُ عبد اللَّهِ بن
الْعَبَّاس بِالطَّائِف، وَالْفضل بِالشَّام، ومعبد بأفريقية فَيُقَال
لم ير قُبُور إخْوَة أبعد من قُبُور هَؤُلَاءِ.
وفيهَا بَايع مُعَاوِيَة النَّاس ليزِيد بِولَايَة عَهده وَبَايَعَهُ
أهل الشَّام وَالْعراق وَأَرَادَ مَرْوَان بن الحكم عَامله
بِالْمَدِينَةِ الْبيعَة لَهُ فَامْتنعَ الْحُسَيْن مِنْهَا وَعبد
اللَّهِ بن عَمْرو وَعبد الرَّحْمَن بن أبي بكر وَعبد اللَّهِ بن
الزبير وَامْتنع النَّاس لامتناعهم، ثمَّ قدم مُعَاوِيَة الْحجاز
بِأَلف فَارس وَبَايع ليزِيد أهل الْحجاز إِلَّا الْمَذْكُورين،
وَقَالَ مُعَاوِيَة ليزِيد: أَنِّي مهدت لَك الْأُمُور وَلم يبْق أحد
لم يُبَايِعك غير هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة فَأَما عبد الرَّحْمَن فَرجل
كَبِير مماته الْيَوْم أَو غَدا وَأما ابْن عمر فَإِنَّهُ رجل قد غلب
عَلَيْهِ الْوَرع وَأما الْحُسَيْن فَلهُ قرَابَة فَإِن ظَفرت بِهِ
فاصفح عَنهُ وَأما ابْن الزبير فَإِن ظَفرت بِهِ فَقَطعه إربا إربا.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَسنة ثَمَان وَخمسين: فِيهَا توفيت أم الْمُؤمنِينَ
عَائِشَة زوج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأخوها
عبد الرَّحْمَن.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَخمسين: فِيهَا توفّي سعيد بن الْعَاصِ ولد عَام
الْهِجْرَة، وَالْعَاص قتل كَافِرًا ببدر وَكَانَ سعيد جوادا.
وفيهَا مَاتَ الحطيئة جَرْوَل بن مَالك لقب بالحطيئة لقصره أسلم ثمَّ
ارْتَدَّ ثمَّ اسْلَمْ، وفيهَا توفّي أَبُو هُرَيْرَة.
قلت: واسْمه عبد الرَّحْمَن بن صَخْر على الْأَصَح من نَحْو ثَلَاثِينَ
قولا كني بهريرة كَانَت لَهُ وَكَانَ مكثرا غير مُتَّهم.
ثمَّ دخلت سنة سِتِّينَ: فِيهَا توفّي مُعَاوِيَة فِي رَجَب وخلافته
تسع عشرَة سنة وَثَلَاثَة أشهر وَسَبْعَة وَعِشْرُونَ يَوْمًا من
مبايعه الْحسن وعمره خمس وَسَبْعُونَ سنة وَقيل سَبْعُونَ وَأنْشد وَقد
تجلد للعائدين:
(وتجلدي للعائدين أريهم ... أَنِّي لريب الدَّهْر لَا أتضعضع)
فَأَنْشد رجل:
(وَإِذا الْمنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تَمِيمَة لَا تَنْفَع)
خرج الضَّحَّاك بن قيس فَصَعدَ الْمِنْبَر وأثني عَلَيْهِ ثمَّ صلى
عَلَيْهِ ثمَّ حضر يزِيد من قَرْيَة حوارين من عمل حمص فصلى على قَبره.
(1/161)
(أَخْبَار مُعَاوِيَة)
أسلم مَعَ أَبِيه عَام الْفَتْح واستكتبه النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاسْتَعْملهُ عمر على الشَّام أَربع سِنِين من
خِلَافَته وَأقرهُ عُثْمَان مُدَّة خِلَافَته، نَحْو اثْنَتَيْ عشرَة
سنة وتغلب على الشَّام مُحَاربًا عليا أَربع سِنِين، فَكَانَ أَمِيرا
وملكا على الشَّام نَحْو أَرْبَعِينَ سنة، وَكَانَ حَلِيمًا ذَا
هَيْبَة يقهر حلمه غَضَبه ويغلب جوده مَنعه، حَتَّى رُوِيَ أَن أروى
بنت الْحَارِث بن عبد الْمطلب دخلت عَلَيْهِ وَهِي عَجُوز كَبِيرَة
فَقَالَ: مرْحَبًا بك يَا خَالَة كَيفَ أَنْت فَقَالَت: بِخَير يَا
ابْن أُخْت لقد كفرت النِّعْمَة وأسأت لِابْنِ عمك الصُّحْبَة وتسميت
بِغَيْر اسْمك وَأخذت غير حَقك وَكُنَّا أهل الْبَيْت أعظم النَّاس فِي
هَذَا الدّين بلَاء حَتَّى قبض اللَّهِ نبيه مشكورا سَعْيه مَرْفُوعا
مَنْزِلَته فَوَثَبت علينا بعده تيم وعدي وَأُميَّة فابتزونا حَقنا
ووليتم علينا فَكُنَّا فِيكُم بِمَنْزِلَة بني إِسْرَائِيل فِي آل
فِرْعَوْن وَكَانَ عَليّ بن ابي طَالب بعد نَبينَا بِمَنْزِلَة هَارُون
من مُوسَى، فَقَالَ لَهَا عَمْرو بن الْعَاصِ: كفي أيتها الْعَجُوز
الضَّالة واقصري عَن قَوْلك مَعَ ذهَاب عقلك، فَقَالَت: وَأَنت يَا
ابْن النَّابِغَة تَتَكَلَّم وذكرته وَأمه بشين.
فَقَالَ لَهَا: مُعَاوِيَة عَفا اللَّهِ عَمَّا سلف هَاتِي حَاجَتك،
فَقَالَت: أُرِيد ألفي دِينَار لأشتري بهَا عينا فواره فِي أَرض حراره
تكون لفقراء بني الْحَارِث بن عبد الْمطلب وَألْفي دِينَار أُخْرَى
أزوج بهَا فُقَرَاء بني الْحَارِث وَألْفي دِينَار أُخْرَى أستعين بهَا
على شدَّة الزَّمَان فَأمر لَهَا بِسِتَّة آلَاف دِينَار وانصرفت.
وَهُوَ أول من بَايع لوَلَده وَأول من وضع الْبَرِيد وَأول من عمل
الْمَقْصُورَة فِي الْمَسْجِد وَأول من خطب جَالِسا فِي قَول بَعضهم
وَأنكر على عبد اللَّهِ بن جَعْفَر بن أبي طَالب سَماع الأوتار والغناء
وَهُوَ رَأْي أهل الْمَدِينَة فَدخل إِلَى مُعَاوِيَة ببديح فغنى بِشعر
يُحِبهُ مُعَاوِيَة وَهُوَ:
(يَا لبيني أوقدي النارا ... إِن من تهوين قد حارا)
(رب نَار بت أرمقها ... تقضم الْهِنْدِيّ والغارا)
(وَلها ظَبْي يؤججها ... عَاقد فِي الخصر زنارا)
فطرب مُعَاوِيَة وَضرب بِرجلِهِ فَقَالَ ابْن جَعْفَر: مَه يَا أَمِير
الْمُؤمنِينَ فَقَالَ مُعَاوِيَة إِن الْكَرِيم طروب.
(أَخْبَار يزِيد بن مُعَاوِيَة)
ثَانِي خلفائهم أمه مَيْسُونُ بنت بَحْدَل الْكَلْبِيَّة، بُويِعَ
بالخلافة لما مَاتَ أَبوهُ فِي رَجَب سنة سِتِّينَ، وَأرْسل إِلَى
عَامله بِالْمَدِينَةِ بإلزام الْحُسَيْن وَعبد اللَّهِ بن الزبير
وَابْن عمر بالبيعة
(1/162)
فَأَما ابْن عمر فَقَالَ إِن أجمع النَّاس
على بيعَته بايعته وَأما الْحُسَيْن وَابْن الزبير فلحقا بِمَكَّة وَلم
يبايعا ورأسل عَامل الْمَدِينَة جَيْشًا مَعَ عَمْرو بن الزبير وَكَانَ
شَدِيد الْعَدَاوَة لِأَخِيهِ عبد اللَّهِ بن الزبير ليقاتله فانتصر
عبد اللَّهِ وَهزمَ الْجمع وَحبس أَخَاهُ عمرا حَتَّى مَاتَ فِي حَسبه.
وَورد على الْحُسَيْن مكاتبات أهل الْكُوفَة بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِم
ليبايعوه وَكَانَ عاملها النُّعْمَان بن بشير فَأرْسل الْحُسَيْن ابْن
عَمه مُسلم بن عقيل ليأخذوا الْبيعَة عَلَيْهِم فَقيل بَايعه بهَا
ثَلَاثُونَ ألفا وَقيل ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ ألفا وَبلغ يزِيد عَن
النُّعْمَان بن بشير كَلَام لَا يرضيه فولى الْكُوفَة عبيد اللَّهِ بن
زِيَاد وَالِي الْبَصْرَة فَقدم الْكُوفَة وَرَأى مَا النَّاس عَلَيْهِ
فَخَطب وحث على طَاعَة يزِيد. ثمَّ اجْتمع إِلَى مُسلم بن عقيل من
كَانَ بَايعه للحسين وحصروا عبيد اللَّهِ بن زِيَاد بقصره وَمَعَهُ
ثَلَاثُونَ رجلا فَأَمرهمْ أَن يشرفوا من الْقصر ويمنعوا أهل الطَّاعَة
ويخدلوا أهل الْمعْصِيَة، فَكَانَت الْمَرْأَة تَأتي ابْنهَا وأخاها
فَتَقول انْصَرف إِن النَّاس يكفونك، فَتفرق النَّاس عَن مُسلم وَبَقِي
مَعَه ثَلَاثُونَ رجلا فاستتر ونادى مُنَادِي عبيد اللَّهِ بن زِيَاد
من أَتَى بِمُسلم بن عقيل فَلهُ دِيَته فَأمْسك مُسلم وأحضر إِلَيْهِ
فشتمه وَشتم الْحُسَيْن وعليا وَضرب عُنُقه تِلْكَ السَّاعَة لثمان
مضين من ذِي الْحجَّة مِنْهَا ورميت جثته من الْقصر.
ثمَّ جهز بِرَأْسِهِ وَرَأس صَاحبه هانىء بن عُرْوَة إِلَى يزِيد وَأخذ
الْحُسَيْن فِي التَّوَجُّه من مَكَّة إِلَى الْعرَاق فَقَالَ عبد
اللَّهِ بن عَبَّاس: يَا ابْن الْعم إِنِّي أَخَاف عَلَيْك أهل
الْعرَاق فَإِنَّهُم قوم غدر أقِم بِهَذَا الْبَلَد فَإنَّك سيد أهل
الْحجاز وَإِن أَبيت إِلَّا أَن تخرج فسر إِلَى الْيمن فَإِن بهَا
شيعَة لأَبِيك وَبهَا حصون وشعاب، فَقَالَ: يَا ابْن الْعم أعلم وَالله
أَنَّك نَاصح مُشفق وَلَقَد أزمعت وأجمعت فَخرج الْحُسَيْن من مَكَّة
يَوْم التَّرويَة سنة سِتِّينَ فِي جمائع، وبلغه مقتل مُسلم بن عقيل
فَأعْلم من مَعَه بذلك، وَقَالَ: من أحب أَن ينْصَرف فلينصرف،
فَتَفَرَّقُوا عَنهُ يَمِينا وَشمَالًا.
وَلما وصل الْحُسَيْن إِلَى مَكَان اسْمه شراف وصل إِلَيْهِ الْحر
صَاحب شرطة عبيد اللَّهِ بن زِيَاد فِي ألفي فَارس، وقاتلوا الْحُسَيْن
فِي حر الظهيرة، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: مَا أتيت إِلَّا بكتبكم
فَإِن رجعتم رجعت من هُنَا فَقَالَ لَهُ: إِنَّا أمرنَا أَن لَا
نُفَارِقك حَتَّى نوصلك الْكُوفَة بَين يَدي عبيد اللَّهِ، فَقَالَ
الْحُسَيْن: الْمَوْت أَهْون من ذَلِك، وَمَا زَالُوا حَتَّى سَار مَعَ
صَاحب شرطة ابْن زِيَاد.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ: فِيهَا قتل الْحُسَيْن رَضِي
اللَّهِ عَنهُ ورد كتاب ابْن زِيَاد يَأْمر الْحر أَن ينزل الْحُسَيْن
وَمن مَعَه على غير مَاء فأنزلهم بكربلا يَوْم الْخَمِيس ثَانِي
الْمحرم مِنْهَا، وَفِي الْغَد قدم من الْكُوفَة عَمْرو بن سعد بن أبي
وَقاص بأَرْبعَة آلَاف فَارس أرْسلهُ ابْن زِيَاد لِحَرْب الْحُسَيْن
فَسَأَلَهُ الْحُسَيْن أَن يُمكن إِمَّا من الْعود من حَيْثُ أَتَى
وَإِمَّا أَن يُجهز إِلَى
(1/163)
يزِيد بن مُعَاوِيَة وَإِمَّا أَن يُمكن
أَن يلْحق بالثغور، فَكتب عَمْرو إِلَى ابْن زِيَاد يسْأَل أَن يُجَاب
الْحُسَيْن إِلَى أحد هَذِه الْأُمُور فَقَالَ ابْن زِيَاد: لَا وَلَا
كَرَامَة، وَأرْسل مَعَ شمر بن ذِي الجوشن إِلَى عَمْرو بن سعد: إِمَّا
أَن تقَاتل الْحُسَيْن وتقتله وتوطىء الْخَيل جثته، وَإِمَّا أَن
تَعْتَزِل وَيكون على الْجَيْش شمر فَقَالَ عَمْرو بن سعد: بل أقاتله.
ونهض عَشِيَّة الْخَمِيس تَاسِع الْمحرم مِنْهَا وَالْحُسَيْن أَمَام
بَيته بعد صَلَاة الْعَصْر فَلَمَّا قرب الْجَيْش مِنْهُ سَأَلَهُمْ
مَعَ أَخِيه الْعَبَّاس أَن يمهلوه إِلَى الْغَد وَأَنه يُجِيبهُمْ
إِلَى مَا يختارونه فَأَجَابُوهُ فَقَالَ الْحُسَيْن لأَصْحَابه:
إِنِّي قد أَذِنت لكم فَانْطَلقُوا فِي هَذَا اللَّيْل وَتَفَرَّقُوا
فِي سوادكم ومدائنكم، فَقَالَ أَخُوهُ الْعَبَّاس: لَا نَفْعل ذَلِك
لنبقى بعْدك لَا أرانا اللَّهِ ذَلِك أبدا، ثمَّ تكلم إخْوَته وَبَنُو
أَخِيه وَبَنُو عبد اللَّهِ بن جَعْفَر نَحْو ذَلِك وَبَات الْحُسَيْن
وَأَصْحَابه يصلونَ اللَّيْل كُله وَيدعونَ.
فَلَمَّا أَصْبحُوا ركب عَمْرو بن سعد فِي أَصْحَابه، وَذَلِكَ يَوْم
عَاشُورَاء مِنْهَا وعبء الْحُسَيْن أَصْحَابه، وهم اثْنَان
وَثَلَاثُونَ فَارِسًا وَأَرْبَعُونَ رَاجِلا
ثمَّ حملُوا على الْحُسَيْن وَأَصْحَابه وَاسْتمرّ الْقِتَال إِلَى
وَقت الظّهْر فصلى الْحُسَيْن وَأَصْحَابه صَلَاة الْخَوْف وَاشْتَدَّ
بالحسين الْعَطش فَتقدم ليشْرب فَرمى بِسَهْم فَوَقع فِي فَمه، ونادى
شمر: وَيحكم مَا تنتظرون بِالرجلِ اقْتُلُوهُ، فَضَربهُ زرْعَة بن شريك
على كتفه، وضربه آخر على عاتقة، وطعنه سِنَان بن أنس النَّخعِيّ
بِالرُّمْحِ، فَوَقع فَنزل إِلَيْهِ فذبحه واحتز رَأسه، وَقيل بل شمر
احتز رَأسه، وَجَاء بِهِ إِلَى عَمْرو بن سعد فَأمر عَمْرو جمَاعَة
فوطئوا صدر الْحُسَيْن وظهره بخيولهم ثمَّ بعث بالرؤوس وَالنِّسَاء
والأطفال إِلَى عبيد اللَّهِ بن زِيَاد فَجعل ابْن زِيَاد يقرع فَم
الْحُسَيْن بقضيب، فَقَالَ لَهُ زيد بن أَرقم: ارْفَعْ هَذَا الْقَضِيب
فوالذي لَا إِلَه غَيره لقد رَأَيْت شفتي رَسُول اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على هَاتين الشفتين، ثمَّ بَكَى
وَرُوِيَ إِنَّه قتل مَعَ الْحُسَيْن من أَوْلَاد عَليّ أَرْبَعَة هم
الْعَبَّاس، وجعفر، وَمُحَمّد، وَأَبُو بكر، وَمن أَوْلَاد الْحُسَيْن
أَرْبَعَة وَقتل عدَّة من اولاد عبد اللَّهِ بن جَعْفَر، وَمن أَوْلَاد
عقيل ثمَّ بعث ابْن زِيَاد بالرؤوس وبالنساء والأطفال إِلَى يزِيد بن
مُعَاوِيَة فَوضع يزِيد رَأس الْحُسَيْن بَين يَدَيْهِ واستحضر
النِّسَاء والأطفال.
ثمَّ أَمر النُّعْمَان بن بشير أَن يجهزهم بِمَا يصلحهم وَأَن يبْعَث
مَعَهم أَمينا ويوصلهم إِلَى الْمَدِينَة وَلما وصلوا الْمَدِينَة
لَقِيَهُمْ نسَاء بني هَاشم حاسرات وفيهن ابْنة عقيل بن أبي طَالب
وَهِي تبْكي وَتقول:
(مَاذَا تَقولُونَ إِن قَالَ النَّبِي لكم ... مَاذَا فَعلْتُمْ
وَأَنْتُم آخر الْأُمَم)
(بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي ... مِنْهُم أُسَارَى وصرعى ضرجوا بِدَم)
(مَا كَانَ هَذَا جزائي إِذْ نصحت لم ... أَن تخلفوني بِسوء فِي ذَوي
رحمي)
قلت: وَمِمَّا قلت فِي ذَلِك مضمنا عجز بَيت من الحماسة.
(1/164)
(أرأس السبط ينْقل والسبايا ... يُطَاف
بهَا وَفَوق الأَرْض رَأس)
(وَمَا لي غير هَذَا السَّبي ذخر؟ ... وَمَا لي غير هَذَا الرَّأْس
رَأس)
وَالله اعْلَم.
ثمَّ قيل أَن رَأس الْحُسَيْن جهز إِلَى الْمَدِينَة وَدفن عِنْد أمه،
وَقيل بِبَاب الفراديس، وَقيل أَن خلفاء مصر نقلوا من عسقلان رَأْسا
إِلَى الْقَاهِرَة ودفنوه بهَا وبنوا لَهُ مشْهد الْحُسَيْن.
وَالصَّحِيح: أَن عمره رَضِي اللَّهِ عَنهُ وعنا بهم خمس وَخَمْسُونَ
سنة وَأشهر، قيل أَنه حج خمْسا وَعشْرين حجَّة مَاشِيا، وَكَانَ
يُصَلِّي فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة ألف رَكْعَة.
قلت: قَالَ صَاحب معالم الْإِسْلَام: رُوِيَ عَن أنس بن الْحَارِث أَن
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِن ابْني
هَذَا - يَعْنِي الْحُسَيْن - يقتل بِأَرْض يُقَال لَهَا كربلا فَمن
شهد ذَلِك مِنْكُم فلينصره "، فَخرج أنس بن الْحَارِث إِلَى كربلاء
فَقتل مَعَ الْحُسَيْن رَضِي اللَّهِ عَنهُ.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَثَلَاث وَسِتِّينَ: فِيهَا
اتّفق أهل الْمَدِينَة على خلع يزِيد، وأخرجوا نَائِبه عُثْمَان بن
مُحَمَّد بن أبي سُفْيَان مِنْهَا، فَجهز يزِيد جَيْشًا مَعَ مُسلم بن
عقبَة وَأمره بِقِتَال أهل الْمَدِينَة فَإِذا ظفر بهَا أَبَاحَهَا
للجند ثَلَاثَة أَيَّام يسفكون فِيهَا الدِّمَاء وَيَأْخُذُونَ
الْأَمْوَال، وَأَن يبايعهم على أَنهم خول وَعبيد ليزِيد وَإِذا فرغ
يسير إِلَى مَكَّة.
فَسَار مُسلم وَنزل الْمَدِينَة من جِهَة الْحرَّة فِي عشرَة آلَاف
فَارس من أهل الشَّام، وأصر أهل الْمَدِينَة من الْمُهَاجِرين
وَالْأَنْصَار وَغَيرهم على قِتَاله، وَعمِلُوا خَنْدَقًا واقتتلوا
فَقتل الْفضل بن الْعَبَّاس، وَرَبِيعَة بن الْحَارِث بن عبد الْمطلب،
وَجَمَاعَة من الْأَشْرَاف وَالْأَنْصَار، ثمَّ انهزم أهل الْمَدِينَة،
واستباح مُسلم الْمَدِينَة حسب وَصِيَّة يزِيد.
وَعَن الزُّهْرِيّ أَن قَتْلَى الْحرَّة كَانُوا سَبْعمِائة من وُجُوه
النَّاس من قُرَيْش والمهاجرين وَالْأَنْصَار، وَعشرَة آلَاف من وُجُوه
الموَالِي مِمَّن لَا يعرف.
وَكَانَت الْوَقْعَة لثلاث بَقينَ من ذِي الْحجَّة مِنْهَا، ثمَّ بَايع
من بَقِي من النَّاس على أَنهم خول وَعبيد ليزِيد.
وَسَار إِلَى مَكَّة وَكَانَ مَرِيضا فَمَاتَ قبل وُصُوله، واستناب فِي
الْجَيْش الْحصين بن نمير السكونِي فِي الْمحرم سنة أَربع وَسِتِّينَ،
فَقدم الْحصين مَكَّة وحاصر عبد اللَّهِ بن الزبير أَرْبَعِينَ يَوْمًا
حَتَّى جَاءَهُم الْخَبَر بِمَوْت يزِيد بعد رمي الْبَيْت الْحَرَام
بالمنجنيق وإحراقه بالنَّار.
وَلما علم الْحصين بِمَوْت يزِيد قَالَ لِابْنِ الزبير: من الرَّأْي
أَن نَدع دِمَاء الْقَتْلَى بَيْننَا، وَأَقْبل لأبايعك واقدم إِلَى
الشَّام، فَامْتنعَ ابْن الزبير من ذَلِك، فارتحل الْحصين رَاجعا إِلَى
الشَّام، ثمَّ نَدم ابْن الزبير على عدم الْمُوَافقَة، وَسَار مَعَ
الْحصين من كَانَ بِالْمَدِينَةِ من بني امية إِلَى الشَّام.
وفيهَا أَي سنة أَربع وَسِتِّينَ: توفّي يزِيد بحوارين - من عمل حمص -
لأَرْبَع عشرَة لَيْلَة
(1/165)
خلت من ربيع الأول وَهُوَ ابْن ثَمَان وَثَلَاثِينَ سنة، وخلافته
ثَلَاث سِنِين وَسِتَّة أشهر، وَكَانَ أَدَم جَعدًا أحور الْعين
بِوَجْهِهِ أثر جدري حسن اللِّحْيَة خفيفها طَويلا، وَله عدَّة بَنِينَ
وَبَنَات، أَقَامَ يزِيد مَعَ أمه مَيْسُونُ بَين أَهلهَا فِي
الْبَادِيَة وتفصح وَشعر ببادية بني كلب وَسبب ذَلِك أَن مُعَاوِيَة
سَمعهَا تنشد:
(للبس عباءة وتقر عَيْني ... أحب إِلَيّ من لبس الشفوف)
(وَبَيت تخفق الْأَرْوَاح فِيهِ ... أحب إِلَيّ من قصر منيف)
(وَبكر يتبع الأظعان صَعب ... أحب إِلَيّ من بغل زفوف)
(وكلب ينبح الأضياف دوني ... أحب إِلَيّ من هر أُلُوف)
(وخرق من بني عمي فَقير ... أحب إِلَيّ من علج عنيف)
فَقَالَ: مَا رضيتيني يَا ابْنه بَحْدَل حَتَّى جَعَلتني علجا عنيفا
الحقي بأهلك، فمضت إِلَيْهِم وَيزِيد مَعهَا. |