تاريخ ابن الوردي

(أَخْبَار هِشَام بن عبد الْملك)

وَلما مَاتَ يزِيد بن عبد الْملك ولي هِشَام بن عبد الْملك وَهُوَ ابْن أَربع وَثَلَاثِينَ وَأشهر وَهُوَ عاشرهم، كَانَ بالرصافة فَجَاءَتْهُ الْخلَافَة على الْبَرِيد فَسَار إِلَى دمشق.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَمِائَة: وَمَا بعْدهَا حَتَّى دخلت سنة عشر وَمِائَة فِيهَا توفّي الْحسن الْبَصْرِيّ بن أبي الْحسن من أكَابِر التَّابِعين، مولده فِي خلَافَة عمر.

(1/174)


وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن سِيرِين، أَبوهُ سِيرِين من سبي خَالِد، كَاتبه أنس بن مَالك سَيّده على مَال فَحَمله إِلَيْهِ وَعتق، لَقِي ابْن سِيرِين جمَاعَة من الصَّحَابَة وروى عَنْهُم مثل: أبي هُرَيْرَة وَعبد اللَّهِ بن الزبير، وَهُوَ من كبار التَّابِعين وَله الْيَد الطُّولى فِي تَعْبِير الرُّؤْيَا.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى عشرَة وَمِائَة: وَسنة اثْنَتَيْ عشرَة وَمَا بعْدهَا حَتَّى دخلت سنة سِتّ عشرَة وَمِائَة، فِيهَا توفّي " الباقر " مُحَمَّد بن زين العابدين عَليّ بن الْحُسَيْن، وَقيل سنة أَربع عشرَة، وَقيل سبع عشرَة، وَقيل ثَمَانِي عشرَة وَمِائَة، وَقيل عَاشَ ثَلَاثًا وَسبعين وَأوصى أَن يُكفن فِي قَمِيصه الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ، تبقر فِي الْعلم: أَي توسع، ومولده سنة سبع وَخمسين وَكَانَ عمره لما قتل الْحُسَيْن ثَلَاث سِنِين، توفّي بالحميمة من الشراة فَنقل إِلَى البقيع.
ثمَّ دخلت سنة سبع عشرَة وَمِائَة: فِيهَا، وَقيل فِي سنة عشْرين وَمِائَة توفّي نَافِع مولى عبد اللَّهِ بن عمر بن الْخطاب أَصَابَهُ عبد اللَّهِ فِي بعض غَزَوَاته وَكَانَ من كبار التَّابِعين، سمع مَوْلَاهُ وَأَبا سعيد الْخُدْرِيّ، وروى عَنهُ الزُّهْرِيّ وَمَالك بن أنس، وَأهل الحَدِيث يَقُولُونَ: رِوَايَة الشَّافِعِي عَن مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر سلسلة الذَّهَب لجلالتهم.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَانِي عشرَة وَسنة تسع عشرَة وَمِائَة: فِيهَا غزا الْمُسلمُونَ التّرْك فنصروا وغنموا وَقتلُوا عَظِيما وَقتلُوا خاقَان ملك التّرْك، تولى حربهم أَسد بن عبد اللَّهِ الْقَسرِي. ثمَّ دخلت سنة عشْرين وَمِائَة: فِيهَا توفّي أَبُو سعيد عبد الله بن كثير أحد الْقُرَّاء السَّبْعَة.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَة: فِيهَا: غزا مَرْوَان بن مُحَمَّد بن مَرْوَان وَكَانَ على الجزيرة وأرمينية بِلَاد صَاحب السرير، فبذل لَهُ الْجِزْيَة فِي كل سنة سبعين ألف رَأس يُؤَدِّيهَا.
وفيهَا غزا مسلمة بن عبد الْملك الرّوم، فَافْتتحَ حصونا وغنم.
وفيهَا غزا نصر بن سيار مَا رواء النَّهر وَقتل ملك التّرْك، ثمَّ مضى إِلَى فرغانة فسبى كثيرا.
وفيهَا، وَقيل سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَة خرج زيد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنْهُم بِالْكُوفَةِ ودعا إِلَى نَفسه وَبَايَعَهُ خلق، وَكَانَ وَالِي الْكُوفَة من جِهَة هِشَام يُوسُف بن عمر الثَّقَفِيّ فَجمع وَقَاتل زيدا فَأَصَابَهُ سهم فِي جَبهته فَأدْخل دَارا وَنزع السهْم فَمَاتَ وعمره اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ، وصلب يُوسُف بن عمر جثته وَبعث بِرَأْسِهِ إِلَى هِشَام فنصب بِدِمَشْق، ودامت جثته حَتَّى مَاتَ هِشَام وَولي الْوَلِيد فأحرقت.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَة: فِيهَا توفّي إِيَاس بن مُعَاوِيَة بن قُرَّة الْمُزنِيّ ذُو الفراسة والذكاء قَاضِي الْبَصْرَة فِي خلَافَة عمر بن عبد الْعَزِيز.

(1/175)


ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسنة أَربع وَعشْرين وَمِائَة: فِيهَا توفّي مُحَمَّد بن مُسلم بن عبيد اللَّهِ بن عبد اللَّهِ بن شهَاب الْقرشِي الزُّهْرِيّ - بِضَم الزَّاي - نِسْبَة إِلَى زهرَة بن كلاب بن مرّة، وعمره ثَلَاث وَسَبْعُونَ، وَهُوَ من أَعْلَام التَّابِعين رأى عشرَة من الصَّحَابَة وروى عَنهُ مَالك وسُفْيَان وَغَيرهمَا، وَكَانَ يضع كتبه حوله مشتغلا بهَا فَقَالَت زَوجته: وَالله لهَذِهِ الْكتب أَشد عَليّ من ثَلَاث ضرائر.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَعشْرين وَمِائَة: فِيهَا توفّي هِشَام بن عبد الْملك بالرصافة لست خلون من ربيع الأول، وخلافته تسع عشرَة سنة وَتِسْعَة أشهر وَكسر، وعمره خمس وَخَمْسُونَ، مرض بالذبحة استعير من الْجِيرَان قمقم لتسخين مَاء غسله، فَإِن عياضا كَاتب الْوَلِيد ختم على موجوده، وَدفن بالرصافة وَهُوَ الَّذِي بناها وسكنها لصحتها هربا من الطَّاعُون، وَكَانَت مَدِينَة رُومِية فخربت حَتَّى بناها هِشَام وَبنى بهَا قَصْرَيْنِ وَبهَا دير مَعْرُوف، وَكَانَ أَحول بَين الْحول حازما عَاقِلا ذَا سياسة، وَله بنُون مِنْهُم مُعَاوِيَة أَبُو عبد الرَّحْمَن دخل الأندلس وملكها لما زَالَ ملك بني أُميَّة.

(أَخْبَار الْوَلِيد بن يزِيد)

وَلما مَاتَ هِشَام بُويِعَ الْوَلِيد بن يزِيد بن عبد الْملك لثلاث خلون من ربيع الأول وَهُوَ حادي عشر خلفائهم، وَكَانَ هُوَ وَأَصْحَابه فِي الْبَريَّة فِي الْأَزْرَق خوفًا من هِشَام فِي ضيق وَسُوء حَال، فَكتب إِلَيْهِ بِمَوْت هِشَام فَحَضَرَ وَولي، وَعَكَفَ على الشّرْب والغناء وَالنِّسَاء، وَزَاد النَّاس فِي إعطائهم عشرات، ثمَّ زَاد أهل الشَّام زِيَادَة بعد العشرات عشرَة أُخْرَى وَلم يقل فِي شَيْء سَأَلَهُ لَا.
وفيهَا توفّي الْقَاسِم بن أبي برة من الْمَشْهُورين بِالْقِرَاءَةِ.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَة: فِيهَا سلم الْوَلِيد خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي إِلَى يُوسُف بن عمر عَامله بالعراق فَعَذَّبَهُ وَقَتله.
وفيهَا قتل الْوَلِيد بن يزِيد بن عبد الْملك قَتله يزِيد بن الْوَلِيد بن عبد الْملك الملقب بالناقص فِي جُمَادَى الْآخِرَة مِنْهَا بعد أَن ثقل على النَّاس لَهو الْوَلِيد ومجونه وشربه واجتماعه بالفساق حَتَّى رَمَوْهُ بالْكفْر واتهموه بأمهات أَوْلَاد أَبِيه، ودعا يزِيد إِلَى نَفسه، وَنَهَاهُ أَخُوهُ الْعَبَّاس بن الْوَلِيد بن عبد الْملك عَن ذَلِك وتهدده فأخفى الْأَمر عَنهُ.
وَكَانَ يزِيد مُقيما بالبادية لوخم دمشق، فَلَمَّا اجْتمع لَهُ أمره قصد دمشق متخفيا فِي سَبْعَة نفر وَكَانَ بَينه وَبَينهَا مسيرَة أَرْبَعَة أَيَّام وَنزل بجرود على مرحله من دمشق، ثمَّ دخل دمشق لَيْلًا وَقد بَايع لَهُ أَهلهَا، وَكَانَ عَامل الْوَلِيد على دمشق عبد الْملك بن مُحَمَّد بن الْحجَّاج ووبئت دمشق فَنزل بقرية قطنا، فَظهر حِينَئِذٍ يزِيد بِدِمَشْق وَاجْتمعَ عَلَيْهِ الْجند وَغَيرهم، وأحضر عَامل الْوَلِيد من قطن بالأمان، ثمَّ جهز يزِيد جَيْشًا إِلَى الْوَلِيد بن يزِيد بن عبد الْملك مقدمهم عبد الْعَزِيز بن الْحجَّاج بن عبد الْملك.

(1/176)


وَلما ظهر يزِيد بن الْوَلِيد بِدِمَشْق سَار بعض موَالِي الْوَلِيد إِلَيْهِ وأعلمه وَهُوَ بالأعذق من عمان، فَسَار الْوَلِيد حَتَّى أَتَى السَّحَرَة إِلَى قصر النُّعْمَان بن بشير، ونازله عبد الْعَزِيز وَجرى بَينهمَا قتال كثير.
وَقصد الْعَبَّاس بن الْوَلِيد بن عبد الْملك أَخُو يزِيد اللحوق بالوليد ونصرته على أَخِيه، فَأرْسل عبد الْعَزِيز مَنْصُور بن جُمْهُور إِلَى الْعَبَّاس فَأَخذه قهرا وأتى بِهِ إِلَى عبد الْعَزِيز فألزمه بمبايعة أَخِيه، وَنصب عبد الْعَزِيز راية وَقَالَ: هَذِه راية الْعَبَّاس قد بَايع لأمير الْمُؤمنِينَ يزِيد فَتفرق النَّاس عَن الْوَلِيد، فَركب الْوَلِيد بِمن مَعَه وَقَاتل قتالا شَدِيدا، ثمَّ انهزم عَنهُ أَصْحَابه فَدخل الْقصر وأغلقه وحاصروه ودخلوا وقتلوه لليلتين بَقِيَتَا من جُمَادَى الْآخِرَة مِنْهَا وبعثوا بِرَأْسِهِ إِلَى يزِيد فَسجدَ شكرا وطيف بِالرَّأْسِ على رمح فِي دمشق، وعمره اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ سنة وَكَانَ من فتيَان أُميَّة وظرفائهم.

(أَخْبَار يزِيد بن الْوَلِيد)

وَاسْتقر يزِيد " النَّاقِص " فِي الْخلَافَة يَوْمئِذٍ وَهُوَ ثَانِي عشر خلفائهم وَنقص النَّاس العشرات الَّتِي زَادهَا الْوَلِيد فلقبوه النَّاقِص، وَخَالفهُ أهل حمص وهجموا دَار أَخِيه الْعَبَّاس فنهبوا وسلبوا حرمه وَأَجْمعُوا على محاربة يزِيد بِدِمَشْق، فَجهز عسكرا قَاتلهم قَرِيبا من ثنية الْعقَاب، فَانْهَزَمَ الحمصيون وَاسْتولى عَلَيْهَا يزِيد وَأخذ الْبيعَة عَلَيْهِم.
ثمَّ وثب أهل فلسطين على عَامل يزِيد فأخرجوه وأحضروا يزِيد بن سُلَيْمَان بن عبد الْملك فجعلوه عَلَيْهِم، ودعا النَّاس إِلَى قتال يزِيد النَّاقِص، فَأرْسل يزِيد جَيْشًا مَعَ سُلَيْمَان بن هِشَام بن عبد الْملك، ووعد كبراء فلسطين ومناهم، فتخاذلوا عَن صَاحبهمْ، فَلَمَّا قرب مِنْهُم الْجَيْش تفَرقُوا، وَقدم سُلَيْمَان جَيْشًا فِي أثر يزِيد بن سُلَيْمَان بن عبد الْملك فنهبوه، وَسَار سُلَيْمَان بن هِشَام بن عبد الْملك حَتَّى نزل طبرية وَبَايع بهَا ليزِيد، ثمَّ الرملة وَبَايع بهَا كَذَلِك.
ثمَّ عزل يزِيد يُوسُف بن عمر عَن الْعرَاق، وولاه مَنْصُور بن جُمْهُور وَضم إِلَيْهِ خُرَاسَان، فَامْتنعَ نصر بن سيار فِي خُرَاسَان، ثمَّ عزل يزِيد بن الْوَلِيد مَنْصُور بن جُمْهُور عَن الْعرَاق وولاه عبد اللَّهِ بن عمر بن عبد الْعَزِيز.
وفيهَا أظهر مَرْوَان بن مُحَمَّد الْخلاف ليزِيد بن الْوَلِيد.
وفيهَا توفّي يزِيد النَّاقِص لعشر بَقينَ من ذِي الْحجَّة، وخلافته خَمْسَة أشهر وَاثنا عشر يَوْمًا، مَاتَ بِدِمَشْق وعمره سِتّ وَأَرْبَعُونَ وَقيل ثَلَاثُونَ سنة، كَانَ أسمر طَويلا صَغِير الرَّأْس جميلا.