تاريخ ابن الوردي
(سُلَيْمَان بن عبد الْملك)
وَلما مَاتَ الْوَلِيد بُويِعَ أَخُوهُ سُلَيْمَان بن عبد الْملك
سابعهم، كَانَ بالرملة لما مَاتَ الْوَلِيد وبلغه الْخَبَر بعد سَبْعَة
أَيَّام، فَقدم وَأحسن السِّيرَة ورد الْمَظَالِم.
قلت: وَأعْتق سُلَيْمَان سبعين ألفا بَين مَمْلُوك ومملوكة وكساهم،
قَالَه مُحَمَّد بن سُلَيْمَان. وَاتخذ ابْن عَمه عمر بن عبد الْعَزِيز
وزيرا.
وفيهَا: غزا مسلمة بن عبد الْملك الرّوم.
(1/171)
ثمَّ دخلت سنة سبع وَسنة ثَمَان وَتِسْعين
فِيهَا: خرج سُلَيْمَان بالجيوش وَنزل بمرج دابق، وَبعث أَخَاهُ مسلمة
إِلَى قسطنطينية وَقَالَ: أقِم عَلَيْهَا تفتحها فشتى عَلَيْهَا وَزرع
النَّاس بهَا الزَّرْع وأكلوه، وَأقَام مسلمة قاهرا لَهُم حَتَّى
تفتحها جَاءَهُ الْخَبَر بِمَوْت أَخِيه سُلَيْمَان.
وفيهَا: فتح يزِيد بن الْمُهلب بن أبي صفرَة عَامل سُلَيْمَان على
خُرَاسَان جرجان وطبرستان.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَتِسْعين: فِيهَا: فِي صفر توفّي سُلَيْمَان بن عبد
الْملك بدابق من أَرض قنسرين مرابطا وَأَخُوهُ مسلمة منَازِل
قسطنطينية، كَانَ سُلَيْمَان أسمر طَويلا جميلا بِهِ عرج حسن السِّيرَة
مُغْرِي بِالنسَاء وَالْأكل، قيل أكل مرّة سبعين رمانة وجديا وست
دجاجات وَكَثِيرًا من الزَّبِيب ثمَّ نَام، وانتبه فَأتوهُ بالغداء
فَأكل على عَادَته.
وَقيل إِن سَبَب مَوته أَن نصراينا أَتَاهُ بدابق بزنبليين مملوءين
تينا وبيضا فَأكل بيضه وتينة وَكَذَا حَتَّى فرغا، ثمَّ أَتَوْهُ بمسح
وسكر فاتخم فَمَاتَ، وَصلى عَلَيْهِ عمر بن عبد الْعَزِيز وَكَانَ
غيورا أَمر بخصي المخنثين بِالْمَدِينَةِ، فخصاهم عَامله أَبُو بكر بن
مُحَمَّد بن عمر الْأنْصَارِيّ.
وَلما اشْتَدَّ مرض سُلَيْمَان بدابق أوصى بالخلافة لعمر بن عبد
الْعَزِيز بن مَرْوَان بن الحكم بن أبي الْعَاصِ بن أُميَّة بن عبد شمس
بن عبد منَاف ثامن خلفائهم وَأمه بنت عَاصِم بن عمر بن الْخطاب.
(أَخْبَار عمر بن عبد الْعَزِيز)
وبويع عمر بن عبد الْعَزِيز بالخلافة أَوَائِل سنة تسع وَتِسْعين،
فَأبْطل سبّ عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ على المنابر وَكتب إِلَى نوابه
بإبطاله، وَلما خطب يَوْم الْجُمُعَة أبدل السب فِي الْخطْبَة بقوله
تَعَالَى: {إِن اللَّهِ يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان وإيتاء ذِي
الْقُرْبَى وَينْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر وَالْبَغي ويعظكم
لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ} ، فاستمر الخطباء على قراءاتها، ومدحه كثير بن
عبد الرَّحْمَن الْخُزَاعِيّ فَقَالَ:
(وليت فَلم تَشْتُم عليا وَلم تخف بريا وَلم ... تتبع سجية مجرم)
(وَقلت فصدقت الَّذِي قلت بِالَّذِي ... فعلت فأضحى رَاضِيا كل مُسلم)
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَمِائَة فِيهَا: توفّي عمر بن عبد الْعَزِيز
لخمس بَقينَ من رَجَب بخناصرة وَدفن بدير سمْعَان، وَقيل توفّي بدير
سمْعَان وَدفن بِهِ، قَالَ القَاضِي جمال الدّين بن وَاصل: الظَّاهِر
عِنْدِي أَن دير سمْعَان هُوَ الْمَعْرُوف الْآن بدير النقيرة من عمل
معرة النُّعْمَان وَأَن قَبره هُوَ هَذَا الْمَشْهُور.
قلت: وَبِه أَقُول، فَإِنِّي رَأَيْت كتاب تَارِيخ لِابْنِ الْمُهَذّب
المعري من جباة أبي الْعَلَاء يذكر فِيهِ أَن هَذَا الدَّيْر
الْمَذْكُور اسْمه دير سمْعَان، وَلَقَد رَأَيْت كثيرا من أهل المعرة
يَحْكِي
(1/172)
عَنهُ مَا شَاهد من كراماته فِي النّوم أَو
الْيَقَظَة حَتَّى لقد حكى لي من أَثِق بِهِ من أَصْحَابِي وأقاربي
أَنهم زاروا قَبره مرّة ثمَّ حصل من بَعضهم على بعض بِحَضْرَتِهِ سوء
أدب وتلاعب فغشيهم مَا كَادُوا يهْلكُونَ بِهِ حَتَّى أيقنوا
بِالْمَوْتِ وَلَكنهُمْ بَادرُوا إِلَى الإستغفار والبكاء والندامة
حَتَّى سرى عَنْهُم ذَلِك.
وزرت أَنا قَبره بالدير مرَارًا فَرَأَيْت عِنْده كتابا كَبِيرا
يشْتَمل على أخباره الْحَسَنَة وَسيرَته الجميلة وفضله وعدله رَحْمَة
اللَّهِ عَلَيْهِ.
وَمِمَّا يتعجب مِنْهُ أَن الشريف الرضي رثى أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر
بن عبد الْعَزِيز بقوله:
(دير سمْعَان لَا عدتك الغوادي ... خير ميت من آل مَرْوَان ميتك)
(يَا ابْن عبد الْعَزِيز لَو بَكت الْعين ... فَتى من أُميَّة لبكيتك)
(أَنْت طهرتنا من السَّبَب والشتم ... فَلَو أمكن الْجَزَاء جزيتك)
(ولعمري لقد زكوت وَقد طبت ... وَإِن لم يطب وَلم يزك بَيْتك)
ورثى أَبَا إِسْحَاق الصابي الْكَافِر بقصيدة طنانة أَولهَا:
(أعلمت من حملُوا على الأعواد ... أَرَأَيْت كَيفَ خبا ضِيَاء
الْوَادي)
فَلَا جرم قلت أَنا:
(أَقْسَمت مَا قَول الرضي بمرتضى ... فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَقد يزل
الْعَاقِل)
(أبمثل ذَا يرثى كفور صابىء ... وبمثل ذَا يرثى الإِمَام الْعَادِل)
وَالله أعلم.
قيل أَن بني أُميَّة خَافُوا إِن أمتدت أَيَّامه أَن يخرج الْأَمر
عَنْهُم إِلَى من يصلح فَسَموهُ
وَولد بِمصْر سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ، وخلافته سنتَانِ وَخَمْسَة أشهر،
وعمره أَرْبَعُونَ سنة وَأشهر، رمحته دَابَّة وَهُوَ غُلَام فشجت وَجهه
فدعي بالأشج، وَكَانَ متحريا سنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين.
(أَخْبَار يزِيد بن عبد الْملك)
وَلما مَاتَ عمر بن عبد الْعَزِيز بُويِعَ يزِيد بن عبد الْملك بن
مَرْوَان بالخلافة وَهُوَ تاسعهم، وَأمه عَاتِكَة بنت يزِيد بن
مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان، عهد إِلَيْهِ سُلَيْمَان بن عبد الْملك
بعد عمر.
وَفِي أَيَّام يزِيد هَذَا خرج يزِيد ابْن الْمُهلب بن أبي صفرَة
بِجمع، فَأرْسل يزِيد بن عبد الْملك أَخَاهُ مسلمة فقاتله، وَقتل ابْن
الْمُهلب وَجَمِيع آل الْمُهلب الْمَشْهُورين بِالْكَرمِ والشجاعة،
وَفِيهِمْ يَقُول الشَّاعِر:
(نزلت على آل الْمُهلب شاتيا ... غَرِيبا عَن الأوطان فِي زمن الْمحل)
(فَمَا زَالَ بِي إحسانهم وافتقادهم ... وبرهم حَتَّى حسبتهم أَهلِي)
(1/173)
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَمِائَة: فِيهَا توفّي عبيد اللَّهِ بن عبد
اللَّهِ بن عتبَة بن مَسْعُود أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة
بِالْمَدِينَةِ، وَعبيد اللَّهِ هَذَا ابْن أخي عبد اللَّهِ بن
مَسْعُود الصَّحَابِيّ، وَهَؤُلَاء الْفُقَهَاء السَّبْعَة هم الَّذين
انْتَشَر عَنْهُم الْعلم والفتيا حَتَّى قيل فيهم:
(أَلا كل من لَا يَقْتَدِي بأئمة ... فقسمته ضيزى عَن الْحق خَارجه)
(فَخذ هم عبيد اللَّهِ عُرْوَة قَاسم ... سعيد سُلَيْمَان أَبُو بكر
خَارجه)
فعبيد اللَّهِ الْمَذْكُور من الْأَعْلَام التَّابِعين وَلَقي كثيرا من
الصَّحَابَة، وَعُرْوَة: هُوَ ابْن الزبير بن الْعَوام بن خويلد؛ وَأم
عُرْوَة أَسمَاء بنت أبي بكر ذَات النطاقين، توفّي عُرْوَة سنة ثَلَاث
وَتِسْعين، وَقيل أَربع وَتِسْعين؛ ومولده سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين،
وقاسم: هُوَ ابْن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق من أفضل أهل زَمَانه،
وَسَعِيد: هُوَ ابْن الْمسيب بن حزن بن أبي وهب الْقرشِي؛ جمع بَين
الحَدِيث وَالْفِقْه والزهد؛ ولد لِسنتَيْنِ مضتا من خلَافَة عمر
وَتُوفِّي سنة إِحْدَى، وَقيل اثْنَتَيْنِ، وَقيل: أَربع، وَقيل خمس
وَتِسْعين، وَسليمَان: هُوَ ابْن يسَار مولى مَيْمُونَة زوج النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - روى عَن ابْن عَبَّاس وَأبي
هُرَيْرَة وَأم سَلمَة، وَتُوفِّي سنة سبع وَمِائَة، وَقيل غير ذَلِك؛
وعمره ثَلَاث وَسَبْعُونَ، وَأَبُو بكر: هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن بن
الْحَارِث بن هِشَام بن الْمُغيرَة المَخْزُومِي الْقرشِي، كنيته
اسْمه؛ سمي رَاهِب قُرَيْش، وَأَبوهُ أَخُو أبي جهل، وَتُوفِّي سنة
أَربع وَتِسْعين؛ وَولد فِي خلَافَة عمر، وخارجه: هُوَ ابْن زيد بن
ثَابت الْأنْصَارِيّ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
فِي أَبِيه: " أفرضكم زيد "، توفّي خَارِجَة سنة تسع وَتِسْعين، وَقيل
سنة مائَة بِالْمَدِينَةِ، وَأدْركَ زمن عُثْمَان.
وَفِي زمنهم من هُوَ مثلهم وَفِي طبقتهم وَلم يذكر مَعَهم مثل سَالم بن
عبد اللَّهِ بن عمر بن الْخطاب، وَغَيره، توفّي سَالم سنة سِتّ
وَمِائَة.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسنة أَربع وَسنة خمس وَمِائَة: فِيهَا: لخمس
بَقينَ من شعْبَان توفّي يزِيد بن عبد الْملك وعمره أَرْبَعُونَ،
وخلافته أَربع سِنِين وَشهر عهد بالخلافة إِلَى أَخِيه هِشَام، ثمَّ
إِلَى ابْنه الْوَلِيد بن يزِيد، وَكَانَ يزِيد صَاحب لَهو وَهُوَ
صَاحب حبابة وسلامة القس، وَمَاتَتْ حبابة فَمَاتَ بعْدهَا بسبعة عشر
يَوْمًا، وَسميت سَلامَة القس: لِأَن عبد الرَّحْمَن بن عبد اللَّهِ بن
عمار سمي القس لعبادته وفقهه فَمر بمنزل أستاذ سَلامَة فَسمع غناءها
فهواها وهويته واجتمعا، فَقَالَت سَلامَة: إِنِّي أحبك، فَقَالَ:
وَأَنا أَيْضا، فَقَالَت: وأشتهي أَن أقبلك، فَقَالَ: وَأَنا أَيْضا،
فَقَالَت: وَمَا يمنعك؟ قَالَ: تقوى اللَّهِ، وَانْصَرف، فَعرفت بذلك. |