تاريخ ابن الوردي
(أَخْبَار الْأمين بن الرشيد)
وَلما توفّي الرشيد بُويِعَ الْأمين سادسهم بالخلافة فِي عَسْكَر
الرشيد صَبِيحَة وَفَاته وَكَانَ بمرو، فَكتب إِلَيْهِ أَخُوهُ صَالح
بذلك مَعَ رَجَاء الْخَادِم وَأرْسل مَعَه خَاتم الْخَلِيفَة والبردة
والقضيب. وَلما وصل بَغْدَاد بُويِعَ أَيْضا وتحول إِلَى قصر
الْخلَافَة، وَجَاءَت أمه زبيدة من الرقة بخزائن الرشيد فتلقاها
بالأنبار وَمَعَهُ أَعْيَان بَغْدَاد.
وفيهَا: قتل تقفور ملك الرّوم فِي حَرْب برجان، وَملكه سبع سِنِين.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَة: فِيهَا قتل شَقِيق الْبَلْخِي
الزَّاهِد فِي غزَاة كولان من بِلَاد التّرْك.
وفيهَا: اخْتلف أهل حمص على عاملهم فانتقل إِلَى سليمَة، فَاسْتعْمل
الْأمين مَكَانَهُ عبد اللَّهِ بن سعيد الْحَرَشِي فَقَاتلهُمْ، ثمَّ
آمنهم.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَتِسْعين وَمِائَة: أبطل الْأمين اسْم الْمَأْمُون
من الْخطْبَة، وخطب لمُوسَى بن الْأمين ولقبه النَّاطِق بِالْحَقِّ
وَكَانَ طفْلا، وجهز جَيْشًا خمسين ألفا لِحَرْب الْمَأْمُون بخراسان
مقدمهم عَليّ بن عِيسَى بن ماهان وَكَانَ طَاهِر بن الْحُسَيْن
بِالريِّ من جِهَة الْمَأْمُون بعسكر قَلِيل، فَخلع طَاهِر بيعَة
الْأمين وَبَايع لِلْمَأْمُونِ وَقَاتل عَليّ بن عِيسَى، فَقتل عَليّ
بن عِيسَى وَانْهَزَمَ عسكره وَبعث بِرَأْسِهِ إِلَى الْمَأْمُون
بخراسان.
وفيهَا: توفّي أَبُو نؤاس الْحسن بن هانىء بن عبد الأول الشَّاعِر،
وعمره تسع وَخَمْسُونَ سنة:
قلت: وَأول شعره وَهُوَ صبي:
(حَامِل الْهوى تَعب ... يستفزه الطَّرب)
(1/201)
(إِن بَكَى يحِق لَهُ ... لَيْسَ مَا بِهِ
لعب)
(تضحكين لاهية ... والمحب ينتحب)
(تعجبين من سقمي ... صحتي هِيَ الْعجب)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَة: فِيهَا أَمر الْمَأْمُون أَن
يخْطب لَهُ بأَمْره الْمُؤمنِينَ لما تحقق قتل ابْن ماهان، وَعقد للفضل
بن سهل على الْمشرق من جبل هَمدَان إِلَى الْبَيْت طولا وَمن بَحر
فَارس إِلَى بَحر الديلم عرضا ولقبه ذَا الرياستين رياسة السَّيْف
والقلم، وَولى الْحسن بن سهل ديوَان الْخراج، ثمَّ استولى طَاهِر على
الأهواز ثمَّ وَاسِط ثمَّ الْمَدَائِن وَنزل صَرْصَر.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَة: فِيهَا حاصر طَاهِر وهرثمة
بعسكر الْمَأْمُون صحبتهما بَغْدَاد وحصروا الْأمين، وَوَقع فِيهَا
النهب والحريق وَمنعُوا الْميرَة، وَاشْتَدَّ الْحَال إِلَى خروجهما.
وفيهَا: توفّي إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب عَامل إفريقيا، فَقَامَ بعده
ابْنه أَبُو الْعَبَّاس عبد اللَّهِ.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَة: فِيهَا هجم طَاهِر بَغْدَاد
بعد قتال وَأخذ الْأمين أمه وَأَوْلَاده وتحصن بالمنصورة، وتفرق عَنهُ
جنده فحصر، ثمَّ خرج لَيْلًا وَعَلِيهِ ثِيَاب بيض وطيلسان أسود وَركب
مَعَ هرثمة فِي حراقة فأحتضنه هرثمة وكبل يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ، ثمَّ
شدوا عَلَيْهِ فغرقوها بِهِ، فشق الْأمين ثِيَابه فاستخرجه رجل من
المَاء وَعَلِيهِ سَرَاوِيل وعمامة لَا غير، وَأرْسل إِلَيْهِ طَاهِر
من الْعَجم من قَتله ونصبوا رَأسه على برج بِبَغْدَاد، ثمَّ أرسل بِهِ
إِلَى الْمَأْمُون وَأرْسل الْبردَة والقضيب، وَصلى طَاهِر بِالنَّاسِ
الْجُمُعَة وخطب لِلْمَأْمُونِ، وَكَانَ قَتله لست بَقينَ من الْمحرم
وخلافته أَربع سِنِين وَثَمَانِية أشهر وَكسر، وعمره ثَمَان
وَعِشْرُونَ سنة، كَانَ سبطا أنزع صَغِير الْعَينَيْنِ أقنى جميلا
طَويلا منهمكا فِي اللَّذَّات محتجبا عَن إخْوَته وَأهل بَيته، قسم
الْأَمْوَال والجواهر فِي خواصه، وَعمل خمس حراقات على صُورَة الْأسد
والفيل وَالْعِقَاب والحية وَالْفرس بِمَال عَظِيم، وَذكر ذَلِك أَبُو
نواس فَقَالَ:
(سخر اللَّهِ للأمين مطايا ... لم تسخر لصَاحب الْمِحْرَاب)
(فَإِذا مَا ركابه سرن برا ... سَار فِي المَاء رَاكِبًا لَيْث غَابَ)
(عجب النَّاس إِذْ رأوك عَلَيْهِ ... كَيفَ لَو أبصروك فَوق الْعقَاب)
(ذَات ظفر ومنسر وجناحين ... تشق الْعباب بعد الْعباب)
(أَخْبَار الْمَأْمُون بن الرشيد)
وَلما قتل الْأمين تمكن الْمَأْمُون فِي الْمشرق وَالْمغْرب وَهُوَ
سابعهم، فولى الْحسن بن سهل أَخا الْفضل بن سهل الْجبَال وَالْعراق
وَفَارِس والأهواز والحجاز واليمن.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَتِسْعين وَمِائَة: فِيهَا ظهر ابْن طَبَاطَبَا
الْعلوِي إِبْرَاهِيم بن
(1/202)
إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن الْحسن بن
عَليّ بِالْكُوفَةِ يَدْعُو إِلَى الرِّضَا من آل مُحَمَّد - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَبَايعُوهُ، ثمَّ هزم زُهَيْر بن
الْمسيب الضَّبِّيّ وَكَانَ قد جهزه إِلَيْهِ الْحسن بن سهل بِعشْرَة
آلَاف، ثمَّ سمه أَبُو السَّرَايَا بن مَنْصُور الْقيم بأَمْره ليستبد
بِالْأَمر، ثمَّ استولى أَبُو السريا على الْبَصْرَة وواسط، وَله مَعَ
عَسْكَر الْمَأْمُون وقائع.
وفيهَا: توفّي الْحُسَيْن وَالِد طَاهِر بخراسان.
وفيهَا: توفّي عبد اللَّهِ بن نمير الْهَمدَانِي الْكُوفِي وكنيته
أَبُو هَاشم، وَهُوَ وَالِد مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير شيخ
البُخَارِيّ. ثمَّ دخلت سنة مِائَتَيْنِ: فِيهَا هرب أَبُو السَّرَايَا
من الْكُوفَة إِلَى إِلَى جلولا، ثمَّ أُتِي بِهِ إِلَى الْحسن بن سهل
بالنهروان فَقتله وَبعث بِرَأْسِهِ إِلَى الْمَأْمُون، وَبَين خُرُوجه
وَقَتله عشرَة أشهر.
وفيهَا: ظهر إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن جَعْفَر بن مُحَمَّد الْعلوِي
وَسَار إِلَى الْيمن وَاسْتولى عَلَيْهَا، وَسمي الجزار لِكَثْرَة من
قتل وَسبي.
وفيهَا: أَمر الْمَأْمُون هرثمة بِالْمَسِيرِ إِلَى الشَّام، فخالفه
وَقدم عَلَيْهِ دَالا بمناصحته، فَعمل عَلَيْهِ الْحسن بن سهل حَتَّى
حبس ثمَّ قتل.
وفيهَا: أَمر الْمَأْمُون بإحصاء ولد الْعَبَّاس، فبلغوا ثَلَاثَة
وَثَلَاثِينَ ألفا مَا بَين ذكر وأنثي.
وفيهَا: قتل الرّوم ملكهم أليون، وَملك عَلَيْهِم ميخائيل.
وفيهَا: توفّي مَعْرُوف الْكَرْخِي الزَّاهِد ذُو الكرامات، وَكَانَ
أَبوهُ نَصْرَانِيّا.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا جعل الْمَأْمُون عَليّ
الرِّضَا بن مُوسَى الكاظم ولي عهد الْمُسلمين والخليفة بعده ولقبه
الرِّضَا، وَطرح السوَاد وَاسْتعْمل الخضرة فِي اللبَاس، ثمَّ خَاضَ
النَّاس فِي خلع الْمَأْمُون لأجل ذَلِك ولتولية الْحسن بن سهل.
وفيهَا: توفّي عبد اللَّهِ بن إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب صَاحب
إفريقية، وَتَوَلَّى أَخُوهُ زِيَادَة اللَّهِ بن إِبْرَاهِيم.
وفيهَا: افْتتح عبد اللَّهِ بن خردادبة وَالِي طبرستان جبال طبرستان
وَأنزل شهريار بن شهريار بن شروين عَنْهَا وَأسر أَبَا ليلى ملك
الديلم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا بُويِعَ لإِبْرَاهِيم
بن الْمهْدي بِبَغْدَاد فِي الْمحرم ولقب الْمُبَارك، وَذَلِكَ بعد أَن
خلعوا الْمَأْمُون، وَاسْتولى إِبْرَاهِيم على الْكُوفَة وعسكر
بِالْمَدَائِنِ، وَاسْتعْمل على الْجَانِب الغربي من بَغْدَاد
الْعَبَّاس بن مُوسَى الْهَادِي وعَلى الْجَانِب الشَّرْقِي إِسْحَاق
بن الْهَادِي.
وفيهَا: اسْتخْلف الْمَأْمُون على خُرَاسَان غَسَّان بن عباد وَقصد
الْعرَاق، وَلما وصل سرخس وثب أَرْبَعَة فَقتلُوا الْفضل بن سهل فِي
الْحمام فِي شعْبَان مِنْهَا وعمره سِتُّونَ سنة.
(1/203)
وَبلغ إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي وَالْمطلب
الَّذِي اخذ الْبيعَة لإِبْرَاهِيم قدوم الْمَأْمُون فتمارض الْمطلب
وَرَاح إِلَى بَغْدَاد وسعى بَاطِنا فِي الْبيعَة لِلْمَأْمُونِ وخلع
إِبْرَاهِيم، وَبلغ ذَلِك إِبْرَاهِيم وَهُوَ بِالْمَدَائِنِ فقصد
بَغْدَاد وَطلب الْمطلب فَامْتنعَ، فنهبه وَنهب دور أَهله وَلم يظفر
بالمطلب.
وفيهَا: عقد الْمَأْمُون العقد على بوران بنت الْحسن بن سهل، وَزوج
الْمَأْمُون بنته من عَليّ بن مُوسَى الرِّضَا.
وفيهَا: توفّي يحيى بن الْمُبَارك بن الْمُغيرَة الْمقري اليزيدي صَاحب
أبي عَمْرو بن الْعَلَاء علم ولد يزِيد بن مَنْصُور خَال الْمهْدي فنسب
إِلَيْهِ.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا مَاتَ عَليّ الرِّضَا
فَجْأَة بطوس، وَصلى عَلَيْهِ الْمَأْمُون وَدَفنه عِنْد الرشيد، وَولد
عَليّ سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَة وَهُوَ ثامن الْأَئِمَّة الانثي
عشر على رَأْي الإمامية.
وفيهَا: خلع أهل بَغْدَاد إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي ودعوا
لِلْمَأْمُونِ، وتوارى إِبْرَاهِيم إِلَى أَن قدم المأون، وَكَانَت
ولَايَة إِبْرَاهِيم سنة وَأحد عشر شهر وكسرا.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة وصل الْمَأْمُون إِلَى هَمدَان، وَكَانَت
بخراسان وَمَا وَرَاء النَّهر زلازل دَامَت سبعين يَوْمًا فَخرجت
الْبِلَاد وَهلك خلق.
وفيهَا: غلبت السوَاد على الْحسن بن سهل حَتَّى شدّ فِي الْحَدِيد
وَكتب إِلَى الْمَأْمُون بذلك.
(دولة بني زِيَاد مُلُوك الْيمن)
وَذكرهمْ عَن آخِرهم،، إِنَّمَا لم نفرق ذَلِك ليسهل، وَذَلِكَ أَنه
كَانَ شخص من بني زِيَاد بن أَبِيه اسْمه مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن
عبيد اللَّهِ بن زِيَاد مَعَ جمَاعَة من أُميَّة قد سلمهم الْمَأْمُون
إِلَى الْفضل بن سهل ذِي الرياستين وَقيل: إِلَى أَخِيه الْحسن، وَبلغ
الْمَأْمُون اختلال الْيمن فأنثى ابْن سهل على مُحَمَّد بن زِيَاد
فَأرْسلهُ الْمَأْمُون وَمَعَهُ جمَاعَة فحج فِي هَذِه السّنة وَسَار
إِلَى الْيمن وَفتح تهَامَة بعد الحروب بَينه وَبَين الْعَرَب،
وَاسْتقر ابْن زِيَاد بِالْيمن وَبنى زبيد واختطها سنة أَربع
وَمِائَتَيْنِ، وهادى الْمَأْمُون مَعَ مَوْلَاهُ جَعْفَر، فَعَاد
جَعْفَر وَمَعَهُ عَسْكَر ألفا فَارس من جِهَة الْمَأْمُون، فَعظم ابْن
زِيَاد وَملك إقليم الْيمن بأسره وَجعل جعفرا على الْجبَال واختط بهَا
مَدِينَة المديخيرة، وَإِلَى الْآن تسمى تِلْكَ الْبِلَاد مخلاف
جَعْفَر، والمخلاف: عبارَة عَن الْقطر الْوَاسِع. وَبَقِي مُحَمَّد
كَذَلِك حَتَّى توفّي.
ثمَّ ملك ابْنه إِبْرَاهِيم. ثمَّ ابْنه زِيَاد بن إِبْرَاهِيم وَلم
يطلّ، ثمَّ أَخُوهُ أَبُو الْحَبَش
(1/204)
إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وطالت مدَّته
وأسن، وَتُوفِّي سنة إِحْدَى وَسبعين وثلثمائة.
وَخلف أَبُو الْحَبَش طفْلا قيل اسْمه زِيَاد تولته أُخْته هِنْد بنت
أبي الْحَبَش وَتَوَلَّى مَعهَا رشد عبد أبي الْحَبَش وَبَقِي رشد على
ولَايَته حَتَّى مَاتَ، فَتَوَلّى عَبده حُسَيْن بن سَلامَة بعد رشد،
وسلامة الْمَذْكُورَة هِيَ أم حُسَيْن، وَنَشَأ حُسَيْن حازما عفيفا
وَصَارَ وزيرا لهِنْد ولأخيها الْمَذْكُور حَتَّى مَاتَا.
ثمَّ انْتقل ملك الْيمن إِلَى طِفْل من آل زِيَاد وَقَامَت بأَمْره
عمته وَعبد لحسين بن سَلامَة اسْمه مرجان.
وَكَانَ لمرجان عَبْدَانِ قد تغلبا على أُمُوره قيس ونجاح، ونجاح جد
مُلُوك زبيد، فتنافس قيس ونجاح على الوزارة وَكَانَ قيس عسوفا ونجاح
رؤوفا، وسيدهما مرجان يمِيل مَعَ قيس على نجاح، وعمة الطِّفْل تميل
إِلَى نجاح، فَشَكا ذَلِك قيس إِلَى مَوْلَاهُ مرجان فَقبض مرجان على
الْملك واسْمه إِبْرَاهِيم، وَقيل عبد اللَّهِ وعَلى عمته وسلمهما
إِلَى قيس فَبنى عَلَيْهِمَا جدارا وختمه حَتَّى مَاتَا، وَإِبْرَاهِيم
آخر مُلُوك الْيمن من بني زِيَاد، وَمُدَّة ملك بني زِيَاد الْيمن
مِائَتَان وَأَرْبع سِنِين، وانتقل ملكهم إِلَى عبيد عبيدهم لِأَن
الْملك صَار لنجاح.
وَلما قتل قيس إِبْرَاهِيم وَعَمَّته عظم ذَلِك على نجاح فاستنفر
الْأسود والأحمر وَقصد قيسا فِي زبيد وَجَرت بَينهمَا حروب آخرهَا أَن
قيسا قتل على بَاب زبيد وَفتحهَا نجاح فِي ذِي الْقعدَة سنة اثْنَتَيْ
عشرَة وَأَرْبَعمِائَة، وَقَالَ نجاح لسَيِّده مرجان: مَا فعلت بمواليك
وموالينا؟ قَالَ: هم فِي ذَلِك الْجِدَار، فَأخْرج نجاح إِبْرَاهِيم
وَعَمَّته ميتين وَصلى عَلَيْهِمَا ودفنهما وَبنى عَلَيْهِمَا مشهدا،
وَجعل نجاح سَيّده مرجان موضعهما وَوضع مَعَه جثة قيس وَبنى
عَلَيْهِمَا ذَلِك الْجِدَار وتملك نجاح وَركب بالمظلة وَضرب السِّكَّة
باسمه واستقل بِملك الْيمن.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا انْقَطَعت الْفِتَن بقدوم
الْمَأْمُون إِلَى بَغْدَاد ولباسه الخضرة ثَمَانِيَة أَيَّام ثمَّ
عَاد إِلَى لبس السوَاد.
وفيهَا: توفّي بِمصْر الإِمَام الشَّافِعِي رَحْمَة اللَّهِ عَلَيْهِ،
وَهُوَ مُحَمَّد بن إِدْرِيس بن الْعَبَّاس بن عُثْمَان بن شَافِع بن
السَّائِب بن عبيد بن عبد يزِيد بن هَاشم بن الْمطلب بن عبد منَاف،
وشافع الَّذِي نسب إِلَيْهِ الشَّافِعِي لَقِي النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ مترعرع وَأَبوهُ السَّائِب أسلم
يَوْم بدر، فالشافعي شَقِيق رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فِي نسبه يجْتَمع مَعَه فِي عبد منَاف بن الْمطلب،
وَكَانَت زَوْجَة هَاشم بن الْمطلب بن عبد منَاف بنت عمَّة الشفا بنت
هَاشم بن عبد منَاف، فولد لَهُ مِنْهَا عبد يزِيد جد الشَّافِعِي،
فالشافعي إِذن ابْن عَم رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - وَابْن عمته لِأَن الشِّفَاء أُخْت عبد الْمطلب جد رَسُول
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَولد الشَّافِعِي سنة خمس وَمِائَة بغزة على الصَّحِيح، وَأخذ الْعلم
من مَالك وَمُسلم بن خَالِد الزنْجِي وسُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَسمع
الحَدِيث من إِسْمَاعِيل بن علية وَعبد الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد
الثَّقَفِيّ، وَمُحَمّد بن الْحسن الشَّيْبَانِيّ وَغَيرهم.
(1/205)
قَالَ الشَّافِعِي: حفظت الْقُرْآن وَأَنا
ابْن تسع سِنِين، وحفظت الْمُوَطَّأ وَأَنا ابْن عشر، وقدمت على مَالك
وَأَنا ابْن خمس عشرَة سنة. وَقَالَ: رَأَيْت عَليّ بن أبي طَالب رَضِي
اللَّهِ عَنهُ فِي مَنَامِي فَسلم عَليّ وصافحني وَجعل خَاتمه فِي
إصبعي ففسر أَن مصافحته أما من الْعَذَاب وَجعله الْخَاتم فِي إصبعي
أَنه سيبلغ اسْمِي مَا بلغ اسْم عَليّ فِي الْمشرق وَالْمغْرب.
وناظر الشَّافِعِي مُحَمَّد بن الْحسن بالرقة فَقَطعه الشَّافِعِي،
وَكَانَ الشَّافِعِي حَافِظًا للشعر قَرَأَ عَلَيْهِ الْأَصْمَعِي
ديوَان الهذليين وديوان الشنفري بِمَكَّة. وَكَانَ أَحْمد بن حَنْبَل
يَقُول: مَا عرفت نَاسخ الحَدِيث ومنسوخه حَتَّى جالست الشَّافِعِي.
وَقدم الشَّافِعِي بَغْدَاد مرَّتَيْنِ سنة خمس وَسبعين وَمِائَة وَسنة
ثَمَان وَسبعين وَمِائَة وناظر بشرا المريسي المعتزلي بهَا، وناظر حفصا
الْفَرد بِمصْر، قَالَ حَفْص: الْقُرْآن مَخْلُوق وَاسْتدلَّ، فتجاريا
حَتَّى كفره الشَّافِعِي وَقَالَ: إِنَّمَا خلق اللَّهِ الْخلق بكن
فَإِذا كَانَت كن مخلوقة فَكَانَ مخلوقا خلق بمخلوق.
وَنظر فِي النُّجُوم وَهُوَ حدث، وَمَا نظر فِي شَيْء إِلَّا فاق
فِيهِ، حبلت امْرَأَته فَحسب وَقَالَ: تَلد جَارِيَة عوراء على فرجهَا
خَال أسود تَمُوت إِلَى كَذَا وَكَذَا، فَولدت فَكَانَ كَمَا قَالَ،
فَجعل على نَفسه أَن لَا ينظر فِيهِ بعْدهَا وَدفن الْكتب الَّتِي
كَانَت عِنْده فِي النُّجُوم، وَأنكر الشَّافِعِي على أهل الْكَلَام
وعَلى من يشْتَغل فِيهِ.
وَله أشعار فائقة مِنْهَا:
(وأحق خلق اللَّهِ بالهم امْرُؤ ... ذُو همة يبْلى بعيش ضيق)
وَله
(أكل الْعقَاب بِقُوَّة جيف الفلا ... وجنى الذُّبَاب الشهد وَهُوَ
ضَعِيف)
قلت: وَسَأَلَ بعض مُلُوك الشَّام عَن حلية الشَّافِعِي فَلم يكن
بِبَلَدِهِ من يقوم بهَا، ثمَّ بلغ ذَلِك الشَّيْخ الْعَلامَة تَقِيّ
الدّين أَبَا عَمْرو وَعُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان
الْمَعْرُوف بِابْن الصّلاح فَقَالَ: كَانَ رَضِي اللَّهِ عَنهُ
وَجَزَاء الْخَيْر طَويلا سَائل الْخَدين قَلِيل لحم الْوَجْه طَوِيل
الْعُنُق طَوِيل الْقصب أسمر خَفِيف العارضين يخضب لحيته بِالْحِنَّاءِ
حَمْرَاء قانية حسن الصَّوْت حسن السمت عَظِيم الْعقل حسن الْوَجْه حسن
الْخلق مهيبا فصيحا من أذرب النَّاس لِسَانا إِذا أخرج لِسَانه بلغ
أَنفه، وَكَانَ مسقاما مملوءا بالبوااسير، وَالله أعلم.
وفيهَا: مَاتَ الْحُسَيْن بن زِيَاد اللؤْلُؤِي أحد أَصْحَاب أبي
حنيفَة وَأَبُو دَاوُد سُلَيْمَان الطَّيَالِسِيّ صَاحب الْمسند،
ومولده سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَمِائَة. وفيهَا: توفّي النَّضر -
بالضاد الْمُعْجَمَة - بن شُمَيْل - بِضَم الشين - بن خَرشَة - بِفَتْح
الْخَاء الْمُعْجَمَة - الْبَصْرِيّ - النَّحْوِيّ، وَلما خرج من
الْبَصْرَة إِلَى خُرَاسَان طلع لوداعه نَحْو ثَلَاثَة آلَاف من
الْأَعْيَان، فَقَالَ: وَالله لَو وجدت كل يَوْم كيلجة باقلاء مَا
فارقتكم، فتمول وأثرى بمرو من خُرَاسَان.
(1/206)
وحظي عِنْد الْخَلِيفَة الْمَأْمُون،
وَقَالَ يَوْمًا الْمَأْمُون: حَدثنَا هشيم عَن مجَالد عَن الشّعبِيّ
عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِذا تزوج الرجل الْمَرْأَة لدينها وجمالها
كَانَ فِيهِ سداد، من عوز، وَفتح سين سداد، فَأَعَادَ النَّضر الحَدِيث
وَكسر السِّين، فَاسْتَوَى الْمَأْمُون جَالِسا وَقَالَ: تلحنني يَا
نضر، فَقَالَ: إِنَّمَا لحن هشيم وَكَانَ لحانا فتبع أَمِير
الْمُؤمنِينَ لَفظه، قَالَ: فَمَا الْفرق بَينهمَا قَالَ: السداد
بِالْفَتْح الْقَصْد فِي الدّين والسبيل، والسداد بِالْكَسْرِ
الْبلْغَة وكل مَا سددت بِهِ شَيْئا فَهُوَ سداد بِكَسْر السِّين،
وَأنْشد:
(أضاعوني وَأي فَتى أضاعوا ... ليَوْم كريهة وسداد ثغر)
فَأمر لَهُ الْمَأْمُون بِخَمْسِينَ ألف دِرْهَم وَالنضْر من أَصْحَاب
الْخَلِيل بن احْمَد، وَالْبَيْت لعمر بن عمر بن عُثْمَان بن عَفَّان
رَضِي اللَّهِ عَنهُ الْمَعْرُوف بالعرجي نِسْبَة إِلَى العرج عقبَة
بَين مَكَّة وَالْمَدينَة.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا اسْتعْمل الْمَأْمُون طَاهِر
بن الْحُسَيْن على الْمشرق.
وفيهَا: توفّي يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن زيد الْبَصْرِيّ أحد الْقُرَّاء
الْعشْرَة، وَله فِي الْقرَاءَات رِوَايَة مَشْهُورَة، قَرَأَ على
سَلام بن سُلَيْمَان الطَّوِيل، وَسَلام على عَاصِم وَعَاصِم عَليّ أبي
عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ، وَأَبُو عبد الرَّحْمَن على عَليّ رَضِي
اللَّهِ عَنهُ وَعلي على رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا مَاتَ الحكم بن هِشَام صَاحب
الأندلس لأَرْبَع بَقينَ من ذِي الْحجَّة، وَولي فِي صفر سنة
ثَمَانِينَ وَمِائَة، وعمره اثْنَتَانِ وَخَمْسُونَ، وَبَنوهُ تِسْعَة
عشر. وَقَامَ بعده ابْنه عبد الرَّحْمَن.
وفيهَا: توفّي قطرب مُحَمَّد بن المستنبر، أَخذ النَّحْو عَن
سِيبَوَيْهٍ كَانَ يبكر إِلَيْهِ فَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: مَا أَنْت
إِلَّا قطرب، فلقب بِهِ.
قلت: رَأَيْت فِي كتاب قطرب أَن من الْعَرَب من يفتح همزَة أَن مَعَ
اللَّام فَيَقُول: إِذا أَنِّي لبه، وَعَلِيهِ قَول الراجز:
(ألم تكن حَلَفت بِاللَّه الْعلي ... أَن مطاياك لمن خير الْمطِي)
كَأَن اللَّام مقحمة، ولغرابة هَذَا نقلته وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي أَبُو عَمْرو إِسْحَاق الشَّيْبَانِيّ اللّغَوِيّ.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا توفّي طَاهِر بن الْحُسَيْن
فِي جمادي الأولى من الْحمى، وَقصد أَن يخلع الْمَأْمُون فَمَاتَ،
وَكَانَ أَعور فلقب بِذِي اليمينين وَفِيه قيل:
(يَا ذَا اليمينين وَعين واحده ... نُقْصَان عين وَيَمِين زَائِدَة)
وفيهَا: مَاتَ الْفَقِيه الزَّاهِد بشر بن عَمْرو، وَهُوَ غير الحافي.
(1/207)
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن عَمْرو بن وَاقد
الْوَاقِدِيّ الْعَالم بالمغازي وباختلاف الْعلمَاء، ولي الْقَضَاء
بالجانب الشَّرْقِي من بَغْدَاد وَكَانَ الْمَأْمُون يُبَالغ فِي
إكرامه وعمره ثَمَان وَسَبْعُونَ.
وفيهَا: مَاتَ مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن عبد الْأَعْلَى الْمَعْرُوف
بِابْن كناسَة، وَهُوَ ابْن أُخْت إِبْرَاهِيم بن أدهم عَالم
بِالْعَرَبِيَّةِ وَالشعر وَأَيَّام النَّاس.
وفيهَا: مَاتَ أَبُو زَكَرِيَّا يحيى بن زِيَاد بن عبد اللَّهِ الديلمي
الْمَعْرُوف بالفراء الْكُوفِي، أبرع الْكُوفِيّين نَحوا ولغة وأدبا،
وَله كتاب الْحُدُود وَكتاب الْمعَانِي وكتابان فِي الْمُشكل وَكتاب
النَّهْي وَغير ذَلِك، توفّي بطرِيق مَكَّة وعمره نَحْو ثَلَاث
وَسِتِّينَ، كَانَ يفري الْكَلَام فلقب بذلك.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا مَاتَ الْفضل بن الرّبيع.
قلت: وفيهَا ورد عبد اللَّهِ بن طَاهِر بن الْحُسَيْن وَزِير
الْمَأْمُون لهدم حصون الشَّام وَهدم سُورَة معرة النُّعْمَان وحصن
الْكفْر وحصن حناك وَغير ذَلِك.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا مَاتَ ميخاييل ملك الرّوم،
ملك تسع سِنِين، ثمَّ ابْنه بو قيل.
وفيهَا: توفّي أَبُو عُبَيْدَة مُحَمَّد بن حَمْزَة اللّغَوِيّ وَكَانَ
يمِيل إِلَى مقَالَة الْخَوَارِج وعمره تسع وَتسْعُونَ، وَمَعَ كَمَال
فَضله كَانَ لَا يُقيم للشعر وزنا، وَله نَحْو مِائَتي مُصَنف.
ثمَّ دخلت سنة عشر وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا ظفر الْمَأْمُون بإبراهيم بن
مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب بن إِبْرَاهِيم الإِمَام الْمَعْرُوف
بِابْن عَائِشَة وبجماعة مَعَه سعوا فِي الْبيعَة لإِبْرَاهِيم بن
الْمهْدي فحبسهم، ثمَّ صلب ابْن عَائِشَة وَهُوَ أول عباسي صلب، ثمَّ
أنزل فَصلي عَلَيْهِ وكفن وَدفن.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر أمسك حارس أسود إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي متنقبا
مَعَ امْرَأتَيْنِ فَأحْضرهُ إِلَى الْمَأْمُون فحبسه، ثمَّ شفع فِيهِ
الْحسن بن سهل، وَقيل: بوران، وَقيل: بل الْمَأْمُون من نَفسه عَفا
عَنهُ وَأطْلقهُ.
وفيهَا: دخل الْمَأْمُون ببوران بنت الْحسن بن سهل وَكَانَ أَبوهَا
مُقيما بِفَم الصُّلْح فَسَار الْمَأْمُون وَدخل بهَا، ثمَّ وَنَثَرت
عَلَيْهِ أم الْحسن وَالْفضل ألفا حَبَّة لُؤْلُؤ نفيسة وَأوقدت شمعة
وَزنهَا أَرْبَعُونَ منا من عنبر، وَكتب الْحسن أَسمَاء ضيَاعه فِي
رقاع ونثرها على القواد، وَكَانَ الْحسن تخلص من السَّوْدَاء الَّتِي
ذكرنَا أَنَّهَا غلبت عَلَيْهِ فِي سنة ثَلَاث وَمِائَتَيْنِ.
قلت: وَلما خلا الْمَأْمُون ببوران حَاضَت من هَيْبَة الْخلَافَة
فَقَالَت: أَتَى أَمر اللَّهِ فَلَا تستعجلوا، وحذفت الْهَاء لِئَلَّا
تكون قارئة فِي الْحيض. فَفطن الْمَأْمُون لكنايتها وأعجب بهَا وَخرج
فِي الْحَال وَأنْشد فِي ذَلِك:
(فَارس مَاض بحربته ... عَارِف بالطعن فِي الظُّلم)
(1/208)
(كَاد أَن يدمي فريسته ... فاتقته من دم
بِدَم)
وَالله أعلم.
وفيهَا: مَاتَت علية بنت الْمهْدي ومولدها سنة سِتِّينَ وَمِائَة،
وَكَانَ زَوجهَا مُوسَى بن عِيسَى بن مُوسَى بن مُحَمَّد بن عَليّ بن
عبد اللَّهِ بن الْعَبَّاس.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى عشرَة وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا أَمر الْمَأْمُون
أَن يُنَادي: بَرِئت الذِّمَّة مِمَّن ذكر مُعَاوِيَة بِخَير أَو فَضله
على أحد من أصجاب رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
-.
وفيهَا: مَاتَ أَبُو الْعَتَاهِيَة الشَّاعِر.
وفيهَا: مَاتَ أَبُو الْحسن سعيد بن مسْعدَة الْأَخْفَش النَّحْوِيّ
الْبَصْرِيّ والخفش: صغر الْعَينَيْنِ مَعَ سوء بصرهما، أَخذ النَّحْو
عَن سِيبَوَيْهٍ وَكَانَ أكبر من سِيبَوَيْهٍ، وَقَالَ: مَا وضع
سِيبَوَيْهٍ شَيْئا فِي كِتَابه إِلَّا بعد أَن عرضه عَليّ. وَزَاد
الْأَخْفَش فِي الْعرُوض بَحر الخبب.
قلت: الْأَخْفَش الْأَكْبَر أَبُو الْخطاب عبد الحميد النَّحْوِيّ من
هجر، والأوسط صَاحب التَّرْجَمَة هَذِه، والأصغر الْمُتَأَخر عَليّ بن
سُلَيْمَان بن الْفضل النَّحْوِيّ توفّي سنة خمس عشرَة وَقيل سِتّ
عشرَة وثلثمائة.
وفيهَا: توفّي عبد الرَّزَّاق الصَّنْعَانِيّ الْمُحدث المتشيع من
مَشَايِخ أَحْمد بن حَنْبَل.
قلت: وفيهَا توفّي أَبُو عُبَيْدَة معمر بن الْمثنى التَّيْمِيّ تيم
قُرَيْش وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا أظهر الْمَأْمُون
القَوْل بِخلق الْقُرْآن وتفضيل عَليّ بن أبي طَالب على جَمِيع
الصَّحَابَة رَضِي اللَّهِ عَنْهُم.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن يُوسُف الضَّبِّيّ من مَشَايِخ البُخَارِيّ.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا توفّي إِبْرَاهِيم
الْمُغنِي كُوفِي سَافر إِلَى الْموصل وَعَاد فَقيل لَهُ الْموصِلِي.
وفيهَا: مَاتَ عَليّ بن جبلة الشَّاعِر، وَأَبُو عبد الرَّحْمَن
الْمُحدث الْمقري.
وفيهَا: وَقيل سنة ثَمَان عشرَة وَمِائَتَيْنِ: توفّي بِمصْر أَبُو
مُحَمَّد عبد الْملك بن هِشَام بن أَيُّوب الْحِمْيَرِي وَهُوَ جَامع
سيرة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَشَرحهَا
السُّهيْلي وَابْن هِشَام، من مصر وَأَصله من الْبَصْرَة.
وفيهَا: توفّي أَبُو عمر والشيباني، قَالَ أَبُو الْعَلَاء المعري: كتب
أَبُو عَمْرو شعر سبعين قَبيلَة وَكَانَ كلما كتب شعر قَبيلَة كتب
مُصحفا فَكتب سبعين مُصحفا وعاش مائَة وَسِتِّينَ.
وفيهَا: توفّي إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْموصِلِي، وَله كتاب الأغاني
الأول وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة أَربع عشرَة وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا اسْتعْمل الْمَأْمُون
عبد اللَّهِ بن طَاهِر على خُرَاسَان.
وفيهَا: صلح حَال أبي دلف مَعَ الْمَأْمُون وَكَانَ من أَصْحَاب
الْأمين.
(1/209)
وفيهَا: وَقيل سنة ثَلَاث عشرَة: توفّي
إِدْرِيس بن إِدْرِيس بن عبد اللَّهِ بن الْحسن بن الْحسن بن عَليّ
رَضِي اللَّهِ عَنْهُم بالمغرب، وَقَامَ ابْنه مُحَمَّد بِفَارِس
والبرير وَولى أَخَاهُ الْقَاسِم طنجة وأخاه عمر صنهاجة وَعمارَة وأخاه
دَاوُد هوارة تاسليت وأخاه يحيى داي وَمَا والاها وَبَاقِي إخْوَته على
ملك البربر.
وفيهَا: توفّي أَبُو عَاصِم بن مخلد الشَّيْبَانِيّ إِمَام فِي
الحَدِيث.
ثمَّ دخلت سنة خمس عشرَة وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا وصل الْمَأْمُون إِلَى
منبج ثمَّ أنطاكية ثمَّ المصيصة وطرطوس وَدخل الرّوم فَفتح حصونا
وَعَاد وَتوجه إِلَى دمشق.
وفيهَا: توفّي أَبُو سُلَيْمَان الدَّارَانِي الزَّاهِد بداريا، ومكي
بن إِبْرَاهِيم الْبَلْخِي من مَشَايِخ البُخَارِيّ، وَأَبُو زيد سعيد
النَّحْوِيّ اللّغَوِيّ ابْن ثَلَاث وَتِسْعين وَأَبُو سعيد
الْأَصْمَعِي اللّغَوِيّ الْبَصْرِيّ وَقيل: توفّي فِي غَيرهَا، واسْمه
عبد الْملك بن قريب بن عبد الْملك بن صَالح وعمره نَحْو ثَمَان
وَثَمَانِينَ، نسب إِلَى جده أصمع وَله مصنفات مِنْهَا: كتاب خلق
الْإِنْسَان وَكتاب الْأَجْنَاس وَكتاب الأنواء وَكتاب الصِّفَات
وَكتاب الميسر والقداح وَكتاب الْفرس وَكتاب الْإِبِل وَكتاب الشَّاء
وَكتاب جَزِيرَة الْعَرَب وَكتاب النَّبَات، وَقَرِيب: بِضَم الْقَاف.
ثمَّ دخلت سنة عشر وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا فتح الْمَأْمُون فِي الرّوم
عدَّة حصون وَقتل وسبى، ثمَّ عَاد إِلَى دمشق، ثمَّ سَار إِلَى مصر.
وفيهَا: مَاتَت أم جَعْفَر زبيدة بِبَغْدَاد.
ثمَّ دخلت سنة سبع عشرَة وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا عَاد الْمَأْمُون من
مصر وَدخل الرّوم وأناخ على لؤلؤة مائَة يَوْم ثمَّ رَحل عَائِدًا.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان عشرَة وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا امتحن أهل الْعلم،
وَذَلِكَ أَن الْمَأْمُون كتب إِلَى عَامله بِبَغْدَاد إِسْحَاق بن
إِبْرَاهِيم أَن من أقرّ من الْقُضَاة وَالشُّهُود وَالْعُلَمَاء أَن
الْقُرْآن مَخْلُوق خلى سَبيله وَمن أبي يُعلمهُ بِهِ فَجمع الَّذين
بِبَغْدَاد مِنْهُم، وَمِنْهُم: قَاضِي الْقُضَاة بشر بن الْوَلِيد
الْكِنْدِيّ وَمُقَاتِل وَأحمد بن حَنْبَل وقتيبة وَعلي بن الْجَعْد
وَغَيرهم، وَقَالَ لبشر: مَا تَقول فِي الْقُرْآن؟ قَالَ: الْقُرْآن
كَلَام اللَّهِ، قَالَ: لم أَسأَلك عَن هَذَا أمخلوق هُوَ؟ قَالَ:
اللَّهِ خَالق كل شَيْء، قَالَ: وَالْقُرْآن شَيْء؟ قَالَ: نعم، قَالَ:
أمخلوق هُوَ؟ قَالَ: لَيْسَ بخالق، قَالَ: لَيْسَ عَن هَذَا أَسأَلك
أمخلوق هُوَ؟ قَالَ: مَا احسن غير مَا قلت لَك.
قَالَ إِسْحَاق لِلْكَاتِبِ: أكتب مَا قَالَ، ثمَّ سَأَلَ غَيره
وَغَيره ويجيبون بِنَحْوِ جَوَاب بشر.
ثمَّ قَالَ لِأَحْمَد بن حَنْبَل: مَا تَقول فِي الْقُرْآن؟ قَالَ:
كَلَام اللَّهِ، قَالَ: أمخلوق هُوَ؟ قَالَ: كَلَام اللَّهِ مَا أَزِيد
عَلَيْهَا. ثمَّ قَالَ لَهُ: مَا معنى قَوْله سميع بَصِير؟ قَالَ
أَحْمد: كَمَا وصف نَفسه، قَالَ: فَمَا مَعْنَاهُ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي
هُوَ كَمَا وصف نَفسه.
ثمَّ سَأَلَ قُتَيْبَة وَعبيد اللَّهِ بن مُحَمَّد وَعبد الْمُنعم بن
إِدْرِيس بن نبت ووهب بن مُنَبّه
(1/210)
وَجَمَاعَة، فَأَجَابُوا أَن الْقُرْآن
مجعول لقَوْله تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيا} .
وَالْقُرْآن مُحدث لقَوْله: مَا يَأْتِيهم من ذكر من رَبهم مُحدث.
قَالَ إِسْحَاق: فالمجعول مَخْلُوق، قَالُوا: لَا نقُول مَخْلُوق لَكِن
مجعول. فَكتب مقالتهم ومقالة غَيرهم إِلَى الْمَأْمُون.
فورد جَوَاب الْمَأْمُون إِلَى إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم: أَن يحضر
قَاضِي الْقُضَاة بشر بن الْوَلِيد وَإِبْرَاهِيم بن الْمهْدي فَإِن
قَالَا بِخلق الْقُرْآن وَإِلَّا تضرب أعناقهما وَمن لم يقل سواهُمَا
بِخلق الْقُرْآن يوثقه بالحديد ويحمله إِلَى الْمَأْمُون.
فَجَمعهُمْ إِسْحَاق وَعرض عَلَيْهِم مَا أَمر بِهِ الْمَأْمُون،
فَقَالَ بشر وَإِبْرَاهِيم والجميع بِخلق الْقُرْآن إِلَّا أَرْبَعَة
هم: أَحْمد بن حَنْبَل والقواريري وسجادة وَمُحَمّد بن نوح الْمَضْرُوب
فَأَبَوا فشدهم فِي الْحَدِيد ثمَّ سَأَلَهُمْ، فأجابت سجادة
والقواريري فأطلقهما وأصر الإِمَام أَحْمد وَمُحَمّد بن نوح على
قَوْلهمَا فوجههما إِلَى طرطوس.
ثمَّ ورد كتاب الْمَأْمُون يَقُول: بَلغنِي أَن بشر بن الْوَلِيد
وَجَمَاعَة مَعَه إِنَّمَا أجابوا بِتَأْوِيل الْآيَة الْكَرِيمَة
الَّتِي أنزلهَا اللَّهِ تَعَالَى فِي عمار بن يَاسر إِلَّا من أكره
وَقَلبه مطمئن بِالْإِيمَان وَقد أخطأوا التَّأْوِيل فَإِن اللَّهِ
تَعَالَى عَنى بِهَذِهِ الْآيَة من كَانَ مُعْتَقدًا للْإيمَان مظْهرا
للشرك، فَأَما من كَانَ مُعْتَقدًا للشرك مظْهرا للْإيمَان فَلَيْسَ
هَذَا لَهُ، فأشخصهم إِلَى طرطوس ليقيموا بهَا إِلَى أَن يخرج أَمِير
الْمُؤمنِينَ من بِلَاد الرّوم.
فأرسلهم إِسْحَاق، فَلَمَّا صَارُوا إِلَى الرقة بَلغهُمْ موت
الْمَأْمُون فَرَجَعُوا إِلَى بَغْدَاد.
وفيهَا مرض الْمَأْمُون لثلاث عشرَة خلت من جُمَادَى الْآخِرَة،
وَذَلِكَ أَنه كَانَ جَالِسا هُوَ وآخوه المعتصم على شاطىء نهر
البدندون وأرجلهما فِي المَاء وَهُوَ غَايَة الصفاء والعذوبة ذكرا طيب
الرطب فوصلت بغال الْبَرِيد عَلَيْهَا الحقائف وفيهَا الألطاف، فجيء
مِنْهَا بسلين فيهمَا رطب فتعجبا وشكرا اللَّهِ وأكلا مِنْهُ وشربا من
المَاء فحما، وَلم يزل المعتصم مَرِيضا حَتَّى دخل الْعرَاق، وَلما مرض
الْمَأْمُون أوصى إِلَى أَخِيه المعتصم بِحَضْرَة ابْنه الْعَبَّاس
بتقوى اللَّهِ وَحسن سياسة الرّعية فِي كَلَام طَوِيل حسن وَقَالَ:
هَؤُلَاءِ بَنو عمك ولد أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ
أحسن صحبتهم وَتجَاوز عَن مسيئهم وَلَا تغفل صلَاتهم فِي كل سنة عِنْد
محلهَا.
وَتُوفِّي فَحَمله أَخُوهُ وَابْنه إِلَى طرطوس فدفناه بسلاحه بدار
جلعان خَادِم الرشيد
قلت: وَفِيه يَقُول بَعضهم:
(خلفوه بعرصتي طرطوس ... مِثْلَمَا خلفوا أَبَاهُ بطوس)
وَالله أعلم.
وَصلى عَلَيْهِ المعتصم، وخلافته عشرُون سنة وَخَمْسَة أشهر وَثَلَاثَة
وَعِشْرُونَ يَوْمًا سوى أَيَّام دعِي لَهُ بالخلافة وَأَخُوهُ الْأمين
مَحْصُور بِبَغْدَاد، ومولده لِلنِّصْفِ من ربيع الأول سنة سبعين
وَمِائَة وكنيته أَبُو الْعَبَّاس؛ كَانَ ربعَة أَبيض جميلا طَوِيل
اللِّحْيَة دقيقها وخطه
(1/211)
الشيب، وَقيل: كَانَ أسمر أقنى أعين ضيق
الْجَبْهَة بخده خَال أسود؛ ضَاقَ المَال عَلَيْهِ بِدِمَشْق وَحمل
إِلَيْهِ المعتصم ثَلَاثِينَ ألف ألف ألف فَاسْتَبْشَرَ بِهِ النَّاس،
فَقَالَ ليحيى بن أَكْثَم: نتصرف بِالْمَالِ وَيرجع أَصْحَابنَا خائبين
إِن هَذَا للؤم، فَفرق أَرْبَعَة وَعشْرين ألف ألف ألف وَرجله فِي
الركاب.
وَمن شعره:
(بَعَثْتُك مرتادا ففزت بنظرة ... وأغفلتني حَتَّى أَسَأْت بك الظنا)
(فناجيت من أَهْوى وَكنت مباعدا ... فياليت شعري عَن دنوك مَا أغْنى)
(أرى أثرا مِنْهَا بِعَيْنِك بَينا ... لقد أخذت عَيْنَاك من عينهَا
حسنا)
كَانَ مائلا إِلَى العلويين ورد فدك على ولد فَاطِمَة وَسلمهَا إِلَى
مُحَمَّد بن يحيى بن الْحسن بن زيد بن عَليّ بن الْحُسَيْن رَضِي
اللَّهِ عَنْهُم ليفرقها على مستحقيها من ولد فَاطِمَة، وَكَانَ
الْمَأْمُون فَاضلا مشاركا فِي عُلُوم كَثِيرَة.
قلت: وَذكر الشَّيْخ أَبُو غَالب همام بن الْفضل بن جَعْفَر بن عَليّ
بن الْمُهَذّب المعري فِي تَارِيخه: أَن قبر المؤمون كَانَ على بطانة
الْمِحْرَاب بِجَامِع طرطوس فَوَقع فِي أَيَّام بسيل الْملك وَهُوَ
بالدرع والبيضة وَالسيف فَذكر ذَلِك لبسيل، فَقَالَ: هَذَا ملك وَلَا
يجوز أَن يُغير، فَأمر بِأخذ السَّيْف وَأَن يرد إِلَى الْموضع وَالله
أعلم.
(أَخْبَار المعتصم بن الرشيد)
وبويع للمعتصم ثامنهم أبي إِسْحَاق مُحَمَّد بن هَارُون الرشيد
بالخلافة بعد موت الْمَأْمُون، فشغب الْجند وَنَادَوْا باسم الْعَبَّاس
بن الْمَأْمُون، فأحضر الْعَبَّاس فَبَايعهُ النَّاس، وَانْصَرف
المعتصم إِلَى بَغْدَاد فَقَدمهَا مستهل رَمَضَان.
وفيهَا: توفّي بشر بن عتاب المريسي وَكَانَ يَقُول بِخلق الْقُرْآن.
ثمَّ دخلت سنة تسع عشرَة وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا امتحن المعتصم أَحْمد
بن حَنْبَل بِالْقُرْآنِ فَلم يقل بخلقه، فجلده حَتَّى غَابَ عقله
وتقطع جلده وَقَيده وحبسه.
وفيهَا: توفّي أَبُو نعيم الْفضل التَّيْمِيّ من مَشَايِخ البُخَارِيّ
وَمُسلم، مولده سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَة وَكَانَ شِيعِيًّا.
ثمَّ دخلت سنة عشْرين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا خرج المعتصم لبِنَاء
سامراء.
وفيهَا: قبض على وزيره الْفضل بن مَرْوَان وَلم يكن للمعتصم مَعَه
أَمر، وَولى مَكَانَهُ مُحَمَّد بن عبد الْملك الزيات.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد الْجواد بن عَليّ بن مُوسَى بن جَعْفَر بن
مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنْهُم أحد
الْأَئِمَّة الإثني عشر على مَذْهَب الإمامية وَصلى عَلَيْهِ الواثق،
وعمره خمس وَعِشْرُونَ سنة وَدفن بِبَغْدَاد عِنْد جده مُوسَى،
وَمُحَمّد تَاسِع الإنثي عشر.
(1/212)
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى عشْرين
وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا توفّي قَاضِي القيروان أَحْمد بن مُحرز الْعَالم
الْعَامِل الزَّاهِد.
وفيهَا: توفّي آدم بن أبي إِيَاس الْعَسْقَلَانِي من مَشَايِخ
البُخَارِيّ.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ ثمَّ سنة ثَلَاث
وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا خرج نوفيل ملك الرّوم فَبلغ ريطرة
وَقتل وسبى وَمثل، وَبلغ المعتصم ذَلِك وَأَن أمراة هاشمية صاحت فِي
أَيدي الرّوم: وامعتصماه، فَنَهَضَ من وقته وَجمع العساكر وَسَار فِي
جُمَادَى مِنْهَا، وبلغه أَن عمورية عين النَّصْرَانِيَّة وأشرف
عِنْدهم من الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَمَا اعترضت فِي الْإِسْلَام، فتجهز
بِمَا لم يعْهَد من السِّلَاح وحياض الْأدم وَغير ذَلِك وَسَار على نهر
بَينه وَبَين طرطوس يَوْم وَفرق عسكره ثَلَاث فرق، فخربوا بِلَاد
الرّوم وأحرقوا حَتَّى وصلوا إِلَى عمورية فنصبوا المناجيق وفتحوا
بالمنجنيق ثغرة فِي السُّور وهجموها ونهبوا وَسبوا، وَأَقْبلُوا
بِالسَّبْيِ والأسرى إِلَى المعتصم من كل جِهَة، وَأمر بعمورية فهدمت
وأحرقت، وَبعد مقَامه خَمْسَة وَخمسين يَوْمًا ارتحل رَاجعا إِلَى
الثغور.
وبلغه فِي أثْنَاء الطَّرِيق أَن الْعَبَّاس بن الْمَأْمُون قد بَايع
جمعا من القواد وَقصد الْوُثُوب، فَأحْضرهُ وَسلمهُ إِلَى رجل،
فَلَمَّا وصل منبج طلب الطَّعَام فَأكل وَمنع المَاء حَتَّى مَاتَ
بمنبج، وَأتم المعتصم سيره إِلَى سامراء.
وفيهَا توفّي ملك إفريقية زِيَادَة الله بن إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب،
وَتَوَلَّى أَخُوهُ أَبُو عقال بن إِبْرَاهِيم. ثمَّ دخلت سنة أَربع
وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا مَاتَ إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي فِي
رَمَضَان، وَصلى عَلَيْهِ المعتصم.
وفيهَا: مَاتَ أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام الإِمَام اللّغَوِيّ،
وعمره سبع وَسِتُّونَ. قلت كَانَ أَبُو عبيد الْمَذْكُور قَاضِي طرطوس
وَهُوَ مؤلف كتاب الْغَرِيب المُصَنّف وَكتاب الْأَمْثَال
وَالْأَمْوَال والأنواء وَالطَّهَارَة وَغير ذَلِك. قَالَ ابْن
الْمُهَذّب فِي تَارِيخه: حَدثنِي بعض أهل الْعرَاق أَنه رأى بالمقابر
بِمَكَّة حجرا على قبر مَكْتُوب عَلَيْهِ: اللَّهُمَّ إِذا حشرت
الْأَوَّلين والآخرين فِي صَعِيد وَاحِد فَارْحَمْ أَبَا عبيد
الْقَاسِم بن سَلام.
وفيهَا: صلب المعتصم الأفشين ثمَّ أحرقه، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة خمس عشْرين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا توفّي أَبُو دلف،
وَعلي بن مُحَمَّد الْمَدَائِنِي الْمَشْهُور.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا توفّي أَبُو
الْهُذيْل بن مُحَمَّد بن الْهُذيْل بن عبد اللَّهِ العلاف الْبَصْرِيّ
شيخ الْمُعْتَزلَة، وَزَاد عمره على مائَة.
وفيهَا: توفّي أَبُو عقال الْأَغْلَب، وَتَوَلَّى أَخُوهُ أَبُو
الْعَبَّاس بن مُحَمَّد.
(1/213)
ثمَّ دخلت سنة سبع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا توفّي المعتصم أَبُو
إِسْحَاق مُحَمَّد بن هَارُون لثماني عشرَة لَيْلَة مَضَت من ربيع
الأول بسامراء وخلافته تسع سِنِين وَثَمَانِية أشهر ويومان، ومولده سنة
سبع وَتِسْعين وَمِائَة، وكما أَنه ثامن الْخُلَفَاء فَهُوَ الثَّامِن
من ولد الْعَبَّاس وَله ثَمَانِيَة بَنِينَ وثماني بَنَات، وَكَانَ
أَبيض أصهب اللِّحْيَة طويلها مربوعا مشربا بحمرة أول من أضيف إِلَى
لقبه اسْم اللَّهِ تَعَالَى من الْخُلَفَاء طيب الْخلق وَإِذا غضب لَا
يُبَالِي بِمَا فعل، رأى يَوْمًا وَهُوَ مُنْفَرد حمَار شيخ علق فِي
الوحل وَوَقع حمله فَنزل المعتصم وخلص الْحمار وَأعْطى صَاحبه
أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم، وَقَالَ ابْن أبي داؤد: تصدق المعتصم ووهب
على يَدي مائَة ألف دِرْهَم. |