تاريخ ابن الوردي

(أَخْبَار الواثق بن المعتصم)

وبويع الواثق تاسعهم هَارُون بن المعتصم يَوْم وَفَاة أَبِيه، وَأم الواثق قَرَاطِيس أَو ولد رُومِية.
وفيهَا: هلك نوفيل ملك الرّوم، وملكت بعده امْرَأَته بدورة وَابْنهَا مِنْهُ ميخائيل.
وفيهَا: توفّي بشر بن الْحَارِث الزَّاهِد الْمَعْرُوف بالحافي فِي ربيع الأول.
ثمَّ دخلت سنة وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا فتح الْمُسلمُونَ أَمَاكِن من جَزِيرَة صقلية وأمير صقلية مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن الْأَغْلَب مُقيم فِي بلزم يُجهز الجيوش فَيفتح ويغنم، وإمارته على صقلية تسع عشرَة سنة، وَتُوفِّي سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ.
وفيهَا: مَاتَ أَبُو تَمام حبيب بن أَوْس الطَّائِي الشَّاعِر
قلت: وقبره بالموصل، وَهُوَ جَامع الحماسة قصد الْبَصْرَة فخشي عبد الصَّمد بن الْمعدل الشَّاعِر بهَا من انصراف النَّاس عَنهُ إِلَى أبي تَمام فَكتب إِلَيْهِ:
(أَنْت بَين اثْنَتَيْنِ تبرز للنَّاس ... وكلتاهما بِوَجْه مذال)

(لست تنفك راجيا لوصال ... من حبيب أَو طَالبا لنوال)

(أَي مَاء يبْقى لوجهك قل لي ... بَين ذل الْهوى وذل السُّؤَال)

فَأَضْرب أَبُو تَمام عَن مقْصده وَرجع وَقَالَ: قد شغل هَذَا مَا يَلِيهِ فَلَا حَاجَة لنا فِيهِ، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا صادر الواثق الْكتاب.
وفيهَا: توفّي خلف بن هِشَام الْبَزَّار الْمقري، وَالْبَزَّار: بالزاي ثمَّ الرَّاء.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا مَاتَ عبد اللَّهِ بن طَاهِر بنيسابور وَهُوَ أَمِير خُرَاسَان وعمره ثَمَان وَأَرْبَعُونَ، فَأَقَامَ الواثق ابْنه طَاهِرا مَوْضِعه.
وفيهَا: خرجت الْمَجُوس من أقاصي الأندلس فِي الْبَحْر إِلَى بِلَاد الْمُسلمين وَجَرت بالأندلس وقائع انهزم فِيهَا الْمُسلمُونَ، فَلَمَّا دخلُوا حَاضِرَة أشبيلية وافاهم عبد الرَّحْمَن الْأمَوِي صَاحب الأندلس والمسلمون من كل جِهَة فَانْهَزَمَ الْمَجُوس وغنم الْمُسلمُونَ أَرْبَعَة مراكب بِمَا فِيهَا، وَعَاد الْمَجُوس إِلَى بِلَادهمْ.

(1/214)


وفيهَا: مَاتَ أشناس التركي بعد ابْن طَاهِر بِتِسْعَة أَيَّام.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا مَاتَ الْمُغنِي مُخَارق، وَأَبُو يَعْقُوب بن يُوسُف بن يحيى الْبُوَيْطِيّ صَاحب الشَّافِعِي مَحْبُوسًا فِي محنة النَّاس بِالْقُرْآنِ وَلم يجب إِلَى القَوْل بِأَنَّهُ مَخْلُوق وَكَانَ من الصَّالِحين، وبويط: من قرى مصر.
وفيهَا: توفّي ابْن الْأَعرَابِي مُحَمَّد بن زِيَاد الْكُوفِي اللّغَوِيّ، وَأَبوهُ عبد سندي، أَخذ الْأَدَب عَن الْمفضل الضَّبِّيّ وَله كتب مِنْهَا: كتاب النَّوَادِر وَكتاب الأنواء وتاريخ الْقَبَائِل، ولد لَيْلَة وَفَاة أَبِيه حنيفَة سنة خمسين وَمِائَة، والأعرابي: مَنْسُوب إِلَى الْأَعْرَاب، يُقَال: رجل أَعْرَابِي إِذا كَانَ بدويا وَإِن لم يكن من الْعَرَب وَرجل عربى مَنْسُوب إِلَى الْعَرَب وَإِن لم يكن بدويا، وَيُقَال: رجل أعجم وأعجمي إِذا فِي لِسَانه عجمة وَإِن كَانَ من الْعَرَب وَرجل عجمي: مَنْسُوب إِلَى الْعَجم وَإِن كَانَ فصيحا.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا توفّي الواثق بِاللَّه أَبُو جَعْفَر هَارُون بن المعتصم لست بَقينَ من ذِي الْحجَّة بالاستسقاء أقعد فِي تنور مسخن فَوجدَ بِهِ خفَّة فعاوده وَأخرج فِي محفة فَمَاتَ فِيهَا وَدفن بالهاروني؛ نظر المنجمون فِي مولده عِنْد اشتداد مَرضه فقدروا أَنه يعِيش خمسين سنة مستأنفة فَعَاشَ عشرَة أَيَّام؛ كَانَ أَبيض مشربا بحمرة فِي عينه الْيُسْرَى نُكْتَة بَيَاض وخلافته خمس سِنِين وَتِسْعَة أشهر وَكسر وعمره اثْنَتَانِ وَثَلَاثُونَ سنة، وَلَقَد بَالغ فِي إكرام العلويين وَفرق فِي الْحَرَمَيْنِ أَمْوَالًا حَتَّى لم يبْق فيهمَا سَائل. وَلما بلغ أهل الْمَدِينَة مَوته كَانَت تخرج نِسَاؤُهُم إِلَى البقيع كل لَيْلَة وبندبن لفرط إحسانه، وَلَكِن أشبه أَبَاهُ المعتصم وَعَمه الْمَأْمُون فِي امتحان النَّاس بِالْقُرْآنِ الْكَرِيم وألزمهم بالْقَوْل بخلقه وَأَن اللَّهِ لَا يرى فِي الْآخِرَة بالأبصار.

(أَخْبَار المتَوَكل بن المعتصم)

ثمَّ أَن كبراء الدولة ألبسوا مُحَمَّد بن الواثق قلنسوة ودراعة سَوْدَاء وَهُوَ أَمْرَد قصير وَأَرَادُوا بيعَته، فَلم يرَوا ذَلِك مصلحَة فَتَنَاظَرُوا فِيمَن يولونه، ثمَّ أحضروا المتَوَكل فَقَامَ أَحْمد ابْن أبي دؤاد وَألبسهُ الطَّوِيلَة وعممه وَقبل بَين عَيْنَيْهِ، فبويع المتَوَكل عاشرهم وَهُوَ جَعْفَر بن المعتصم يَوْم موت الواثق، وَعمر المتَوَكل يَوْمئِذٍ سِتّ وَعِشْرُونَ سنة.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا قبض المتَوَكل على مُحَمَّد بن عبد الْملك الزيات وصادره وحبسه وعذبه بالتنور: وَكَانَ ابْن الزيات قد عمل تنور خشب فِيهِ مسامير حَدِيد أطرافها إِلَى دَاخل تمنع من فِيهِ من الْحَرَكَة وَلَا يقدر على الْجُلُوس، وَعَذَاب بِهِ ابْن أَسْبَاط الْمصْرِيّ، فعذبوا ابْن الزيات بتنوره الْمَذْكُور.
وَكَانَ الصولي صديق ابْن الزيات فصادره بِأَلف ألف دِرْهَم، فَقَالَ الصولي:
(وَكنت أَذمّ إِلَيْك الزَّمَان ... فَأَصْبَحت مِنْك أَذمّ الزمانا)

(1/215)


(وَكنت أعدك للنائبات ... فها أَنا أطلب مِنْك الأمانا)
قلت: مَا أحسن هَذَا الْبَيْت لَو أنْشد كَذَا
(وَقد كنت أطلب مِنْك المنى ... فها أَنا أطلب مِنْك الأمانا)

وفيهَا: ولى المتَوَكل ابْنه الْمُنْتَصر الْحَرَمَيْنِ واليمن والطائف.
وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة توفّي أَبُو زَكَرِيَّا يحيى بن معِين بن عون بن زِيَاد بن بسطَام الْمُزنِيّ الْبَغْدَادِيّ الْحَافِظ صَاحب الْجرْح وَالتَّعْدِيل إِمَام حَافظ، قيل: إِنَّه من قَرْيَة تقياي نَحْو الأنبار، وَكَانَ الإِمَام أَحْمد شَدِيد الصُّحْبَة لَهُ يَشْتَرِكَانِ فِي عُلُوم الحَدِيث وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ يحيى فِيمَن روى عَن الشَّافِعِي، وَولد سنة ثَمَان وَخمسين وَمِائَة.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا توفّي مُحَمَّد بن مُبشر المعتزلي الْبَغْدَادِيّ، وَأَبُو خَيْثَمَة زُهَيْر الْمُحدث، وَعلي بن عبد اللَّهِ بن جَعْفَر الْمَدِينِيّ الْحَافِظ إِمَام ثِقَة.
قلت: وفيهَا توفّي جد بني الْمُهَذّب بمعرة النُّعْمَان وَهُوَ أَبُو الْوَلِيد همام بن عَامر بن أبي شهَاب، وَدفن قبلي الميدان ظَاهر المعرة وَكَانَ من النبلاء الْأَغْنِيَاء، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا ظهر بسامراء مَحْمُود بن فرخ وَادّعى النُّبُوَّة وَأَنه ذُو القرنين وَتَبعهُ سَبْعَة وَعِشْرُونَ رجلا، فألزم أَصْحَابه أَن يصفعه كل مِنْهُم عشر صفعات ثمَّ حَبسهم وضربه حَتَّى مَاتَ.
وفيهَا: مَاتَ الْحسن بن سهل وعمره تسعون بدواء أفرط عَلَيْهِ الْقيام.
وفيهَا: مَاتَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْموصِلِي ذُو الألحان والغناء.
وفيهَا: مَاتَ سريح بن يُونُس بن سريح - بِالسِّين الْمُهْملَة.
وفيهَا: وَقيل فِي تلوها: مَاتَ عبد السَّلَام بن رغبان - بالغين المنقوطة - الشَّاعِر ديك الْجِنّ الشيعي تشيعا حسنا وعمره بضع وَتسْعُونَ، وَمن شعره الْجيد:
(وقم أَنْت فاحثث كأسها غير صاغر ... وَلَا تسق إِلَّا خمرها وعقارها)

(مشعشة من كف ظَبْي كَأَنَّمَا ... تنَاولهَا من خَدّه فأدارها)

ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا أَمر المتَوَكل بهدم قبر الْحُسَيْن رَضِي اللَّهِ عَنهُ وَهدم مَا حوله من الْمنَازل، وَكَانَ شَدِيد البغض لعَلي وَلأَهل بَيته وَكَانَ نديمه عبَادَة المخنث يكبر بَطْنه بمخده ويكشف رَأسه وَهُوَ أصلع ويرقص وَيَقُول: قد أقبل الأصلع البطين خَليفَة الْمُسلمين - يَعْنِي عليا رَضِي اللَّهِ عَنهُ -. فَقَالَ لَهُ الْمُنْتَصر يَوْمًا: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن عليا ابْن عمك فَكل أَنْت لَحْمه إِذا شِئْت وَلَا تخل مثل هَذَا الْكَلْب وَأَمْثَاله يطْمع فِيهِ، فَقَالَ المتَوَكل للمغنين غنوا:
(غَار الْفَتى لِابْنِ عَمه ... رَأس الْفَتى فِي حرَامه)

وَكَانَ يُجَالس من اشْتهر ببغض عَليّ كَابْن الجهم الشَّاعِر وَأبي السمط، وَكَانَ من

(1/216)


أحسن الْخُلَفَاء سيرة وَمنع القَوْل بِخلق الْقُرْآن فَغطّى ذمه لعَلي على حَسَنَاته.
قلت:
(وَكم قد محى خير كَمَا انمحت ... ببغض عَليّ سيرة المتَوَكل)

(تعمق فِي عدل وَلما جنى على ... جناب عَليّ حطه السَّيْل من عَليّ)
وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي مَنْصُور بن الْمهْدي.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا مَاتَ مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ أَمِير صقيلة، وَولي مَكَانَهُ الْعَبَّاس بن الْفضل بن يَعْقُوب بن فَزَارَة وَفتح قصر بانه دَار ملك صقلية وَغَيرهَا، وَكَانَت سرقوسة قَلبهَا دَار الْملك.
وفيهَا: توفّي حَاتِم الْأَصَم الزَّاهِد الْمَشْهُور الْبَلْخِي، خرج من امْرَأَة صَوت فأوهمها أَنه أَصمّ لِئَلَّا تخجل فَسُمي بِهِ.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا توفّي عبد الرَّحْمَن بن الحكم بن هِشَام بن عبد الرَّحْمَن الدَّاخِل بن مُعَاوِيَة بن هِشَام بن عبد الْملك صَاحب الأندلس فِي ربيع الآخر، ومولده سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَة، وولايته إِحْدَى وَثَلَاثُونَ سنة وَثَلَاثَة أشهر وَله خَمْسَة وَأَرْبَعُونَ ابْنا، وَملك بعده ابْنه مُحَمَّد.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا توفّي مَحْمُود بن غيلَان الْمروزِي من مَشَايِخ البُخَارِيّ وَمُسلم.
ثمَّ دخلت سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا مَاتَ ابْن الشَّافِعِي واسْمه مُحَمَّد وكنيته أَبُو عُثْمَان، كَانَ قَاضِي الجزيرة، وروى عَن أَبِيه وَعَن ابْن عُيَيْنَة، وَابْن الشَّافِعِي مُحَمَّد غير هَذَا مَاتَ بِمصْر سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ.
وفيهَا: توفّي أَبُو ثَوْر إِبْرَاهِيم بن خَالِد بن أبي الْيَمَان الْكَلْبِيّ الْبَغْدَادِيّ صَاحب الشَّافِعِي وناقل أَقْوَاله الْقَدِيمَة عَنهُ، وَكَانَ على مَذْهَب أهل الرَّأْي حَتَّى قدم الشَّافِعِي الْعرَاق فَاتبعهُ.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا فِي ربيع الأول توفّي الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل بن هِلَال بن أَسد بن إِدْرِيس ينْسب إِلَى معد بن عدنان روى عَنهُ مُسلم وَالْبُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد وَإِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ، وَكَانَ مُجْتَهدا ورعا صَدُوقًا. قَالَ الشَّافِعِي: خرجت من بَغْدَاد وَمَا خلفت بهَا أحدا أتقى وَلَا أورع وَلَا أفقه من احْمَد بن حَنْبَل.
قلت: حزر من حضر جنَازَته من الرِّجَال فَكَانُوا ثَمَانمِائَة ألف وَمن النِّسَاء سِتِّينَ ألفا، وَقيل: أسلم يَوْم مَوته عشرُون ألفا من النَّصَارَى وَالْيَهُود وَالْمَجُوس، وَحدث إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ قَالَ: رَأَيْت بشر بن الْحَارِث الحافي فِي الْمَنَام كَأَنَّهُ خَارج من مَسْجِد الرصافة وَفِي كمه شَيْء يَتَحَرَّك، فَقلت: مَا فعل اللَّهِ بك؟ فَقَالَ: غفر لي وأكرمني، فَقلت: مَا هَذَا الَّذِي

(1/217)


فِي كمك؟ قَالَ: قدم علينا البارحة روح أَحْمد بن حَنْبَل فنثر عَلَيْهِ الدّرّ والياقوت فَهَذَا مِمَّا التقطت، قلت: مَا فعل يحيى بن معِين وَأحمد بن حَنْبَل قَالَ: تركتهما وَقد زارا رب الْعَالمين وَوضعت لَهما الموائد، قلت: فَلم تَأْكُل مَعَهُمَا أَنْت؟ قَالَ: قد عرف هوان الطَّعَام عَليّ وأباحني النّظر إِلَى وَجهه، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا مَاتَ أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب أَمِير إفريقية، وَولى ابْنه أَبُو إِبْرَاهِيم أَحْمد بن مُحَمَّد.
وفيهَا: توفّي القَاضِي يحيى بن أَكْثَم بن مُحَمَّد بن قطن من ولد أَكْثَم بن صَيْفِي التَّمِيمِي حَكِيم الْعَرَب يحيى من أَصْحَاب الشَّافِعِي بَصِير بِالْأَحْكَامِ إِمَام فِي عدَّة فنون وَكَانَ دميم الْخلق، جلس الْمَأْمُون يَوْمًا وَهُوَ مغتاظ يستاك وَيَقُول: متعتان كَانَتَا على عهد رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وعَلى عهد أبي بكر وَأَنا أنهى عَنْهُمَا وَمن أَنْت يَا جعل حَتَّى تنْهى عَمَّا فعله رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ . فأوجم الْحَاضِرُونَ حَتَّى دخل يحيى بن أَكْثَم فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: أَرَاك متغيرا؟ فَقَالَ يحيى: هُوَ غم لما حدث من النداء بتحليل الزِّنَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: الزِّنَا؟ قَالَ: نعم الْمُتْعَة زنا، قَالَ: وَمن أَيْن قلت هَذَا؟ قَالَ: من كتاب اللَّهِ وَحَدِيث رَسُول اللَّهِ، قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذين هم لفروجهم حافظون إِلَّا على أَزوَاجهم أَو ماملكت أَيْمَانهم فَإِنَّهُم غير ملومين فَمن ابْتغى وَرَاء ذَلِك فَأُولَئِك هم العادون} يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ زَوْجَة الْمُتْعَة ملك يَمِين؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهِيَ الزَّوْجَة الَّتِي تَرث وتورث؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فقد صَار متجاوز هذَيْن من العادين، وَهَذَا الزُّهْرِيّ روى عَن عبد اللَّهِ وَالْحسن ابْني مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة عَن أَبِيهِمَا عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي اللَّهِ عَنْهُم قَالَ: أَمرنِي رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن أنادي بالنهى فِي الْمُتْعَة وتحريمها بعد أَن كَانَ أَمر بهَا.
فَقَالَ الْمَأْمُون: أمحفوظ هَذَا عَن الزُّهْرِيّ؟ قَالَ: نعم رَوَاهُ عَنهُ جمَاعَة مِنْهُم مَالك رَضِي اللَّهِ عَنهُ، فَقَالَ الْمَأْمُون: أسْتَغْفر اللَّهِ، وبادر إِلَى النداء بِتَحْرِيم الْمُتْعَة وَالنَّهْي عَنْهَا.
وَكَانَ ابْن أَكْثَم يتهم بالصبيان، وَقد قيل فِيهِ أشعار مِنْهَا:
(وَكُنَّا نرجي أَن نرى الْعدْل ظَاهرا ... فأعقبنا من بعد ذَاك قنوط)

(مَتى تصلح الدُّنْيَا وَيصْلح أَهلهَا ... وقاضي قُضَاة الْمُسلمين يلوط)
وَلأَحْمَد بن نعيم:
(أنطقني الدَّهْر بعد إخراسي ... لنائبات أطلن وسواسي)

(لَا أفلحت أمة وَحقّ لَهَا ... بطول نكس وَطول إتعاس)

(ترْضى بِيَحْيَى يكون سائسها ... وَلَيْسَ يحيى لَهَا بسواس)

(قَاض يرى الْحَد فِي الزِّنَا وَلَا ... يرى على من يلوط من باس)

(يحكم للأمرد الغرير على ... مثل جرير وَمثل عَبَّاس)

(فَالْحَمْد لله كَيفَ قد ذهب الْعدْل ... وَقل الْوَفَاء فِي النَّاس)

(1/218)


(أميرنا يرتشي وحاكمنا ... يلوط وَالرَّأْس شَرّ مَا راس)

(لَا أَحسب الْجور يَنْقَضِي وعَلى الْأمة ... وَآل من آل عَبَّاس)
وأكثم - بِالْمُثَلثَةِ والمثناة فَوق - الْعَظِيم الْبَطن والشعبان.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا سَار المتَوَكل إِلَى دمشق.
وفيهَا: مَاتَ إِبْرَاهِيم بن الْعَبَّاس بن مُحَمَّد بن صول الصولي.
وفيهَا: مَاتَ الْحَارِث المحاسبي بن أَسد الزَّاهِد، وهجره أَحْمد بن حَنْبَل لأجل علم الْكَلَام فاختفى لتعصب الْعَامَّة لِأَحْمَد، وَلم يصل عَلَيْهِ غير أَرْبَعَة أنفس.
قلت: المحاسبي - بِضَم الْمِيم - وَهُوَ مِمَّن اجْتمع لَهُ علم الْبَاطِن وَالظَّاهِر وَله كتب فِي الْأُصُول والزهد مِنْهَا: كتاب الرِّعَايَة، ترك أَبوهُ سبعين ألف دِرْهَم فَلم يَأْخُذ مِنْهَا شَيْئا وَهُوَ مُحْتَاج إِلَى دِرْهَم لكَون أَبِيه قدريا، وَقَالَ: صحت الرِّوَايَة عَن رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَنه لَا يتوارث أهل ملتين وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا دخل المتَوَكل دمشق وعزم على الْمقَام بهَا وَنقل دواوين الْملك إِلَيْهَا، فَقَالَ يزِيد بن مُحَمَّد المهلبي:
(أَظن الشَّام تشمت بالعراق ... إِذا عزم الإِمَام على انطلاق)

(فَإِن تدع الْعرَاق وساكنيه ... فقد تبلى المليحة بِالطَّلَاق)

ثمَّ استوبأ دمشق واستثقل ماءها، فعاود سر مرا بعد شَهْرَيْن وَعشرَة أَيَّام.
وفيهَا: نفى المتَوَكل بختيشوع إِلَى الْبَحْرين وَقبض مَاله، وَقتل أَبَا يُوسُف يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن السّكيت مُصَنف إصْلَاح الْمنطق، قَالَ: لَهُ، أَيّمَا أحب إِلَيْك ابناي المعتز والمؤيد أم الْحسن وَالْحُسَيْن؟ فغض ابْن السّكيت من ابنيه وَذكر من الْحسن وَالْحُسَيْن مَا هما أَهله، فداسوا بَطْنه وَحمل إِلَى دَاره فَمَاتَ، وَقيل: قَالَ: إِن قنبر خَادِم عَليّ خير مِنْك وَمن ابنيك، فَسَلُوا لِسَانه من قَفاهُ، وعمره ثَمَان وَخَمْسُونَ. والسكيت - بِكَسْر السِّين وَتَشْديد الْكَاف - كثير السُّكُوت.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ: فِي ذِي الْقعدَة مِنْهَا: توفّي ذُو النُّون الْمصْرِيّ، وَأَبُو الْحُسَيْن بن عَليّ الكرابيس صَاحب الشَّافِعِي.
قلت: وفيهَا زلزل الشَّام عَظِيما فِي شباط وَسَقَطت من ذَلِك كَنِيسَة حناك الْكَبِيرَة وَغَيرهَا، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا تحول المتَوَكل إِلَى الْجَعْفَرِي وَبَدَأَ عِمَارَته سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، كَانَ مَوْضِعه يُسمى الماخورة.
وفيهَا: توفّي دعبل بن عَليّ الْخُزَاعِيّ الشَّاعِر، ومولده سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَة وَكَانَ يتشيع.

(1/219)


قلت: وَمَا أحسن قَول دعبل - وَقد يرْوى لغيره:
(لَكِنَّهَا خطرات من وساوسه ... يُعْطي وَيمْنَع لَا بخلا وَلَا كرما)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا قتل المتَوَكل بِالسُّيُوفِ فِي الْخلْوَة فِي مجْلِس شرابه بِرَأْي ابْنه الْمُنْتَصر وبغا الصَّغِير الشرابي، وَقتل مَعَه وزيره الْفَتْح بن خاقَان لَيْلَة الْأَرْبَعَاء لسبع خلون من شَوَّال، وخلافته أَربع عشرَة سنة وَعشرَة أشهر وَثَلَاثَة أَيَّام، وعمره نَحْو أَرْبَعِينَ سنة، وَكَانَ أسمر خَفِيف العارضين.

(أَخْبَار الْمُنْتَصر بن المتَوَكل)

فِي صَبِيحَة تِلْكَ اللَّيْلَة بُويِعَ الْمُنْتَصر، حضرت الْأَعْيَان بالجعفري فَأخْرج أَحْمد بن الْخَطِيب كتابا من الْمُنْتَصر أَن الْفَتْح بن خاقَان قتل المتَوَكل فَقتلته بِهِ، فَبَايعُوهُ.
قلت: وفيهَا حج أَبُو عبَادَة البحتري هربا من الْمُنْتَصر لِأَنَّهُ كَانَ يشرب مَعَ أَبِيه لما قتل فَقَالَ:
(فَلَو كَانَ سَيفي سَاعَة الْقَتْل فِي يَدي ... درى الفاتك العجلان كَيفَ أساوره)

فَلَمَّا قضي حجه وَعَاد مدح الْمُنْتَصر بقصيدة مِنْهَا:
(حجَجنَا البنية شكرا لما ... حبانا بِهِ اللَّهِ فِي الْمُنْتَصر)
وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْعَبَّاس أَمِير صقلية، فولى النَّاس ابْنه عبد اللَّهِ ثمَّ ورد من إفريقية خفاجة بن سُفْيَان أَمِيرا فغزا وَفتح، ثمَّ اغتاله بعض أَصْحَابه فولى النَّاس ابْنه مُحَمَّدًا، ثمَّ أقره مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْأَغْلَب صَاحب القيروان، وَبَقِي مُحَمَّد بن خفاجة أَمِيرا إِلَى سنة سبع وَخمسين وَمِائَتَيْنِ فَقتله طواشيته وهربوا فَقتلُوا.
وفيهَا: توفّي أَبُو عُثْمَان بكر بن مُحَمَّد الْمَازِني الإِمَام فِي الْعَرَبيَّة.
قلت: بذل لَهُ ذمِّي مائَة دِينَار على فاقة ليقرئه كتاب سِيبَوَيْهٍ، فَامْتنعَ غيرَة للْعلم وَالْقُرْآن، فاتفق أَن جَارِيَة غنت بِحَضْرَة الواثق.
(أظلوم أَن مصابكم رجلا ... أهْدى السَّلَام تَحِيَّة ظلم)

فلحنت فِي نصب رجل فأصرت على أَن شيخها الْمَازِني لقنها إِيَّاه بِالنّصب، فَاسْتَحْضرهُ الواثق وَسَأَلَهُ أترفع رجلا من الْبَيْت الْمَذْكُور أم تنصبه؟ فَقَالَ: بل الْوَجْه النصب، لِأَن مصابكم مصدر بِمَعْنى أَصَابَتْكُم فَهُوَ بِمَنْزِلَة قَوْلك: إِن ضربك زيدا ظلم بِدَلِيل أَن الْكَلَام مُعَلّق إِلَى أَن تَقول ظلم، فَأمر لَهُ الواثق بِأَلف دِينَار ورده مكرما، فَقَالَ: رددنا اللَّهِ مائَة فعوضنا ألفا. وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا توفّي الْمُنْتَصر بِاللَّه مُحَمَّد بن جَعْفَر

(1/220)


المتَوَكل يَوْم الْأَحَد بسامراء لخمس خلون من ربيع بالذبحة اعتل ثَلَاثَة أَيَّام وعمره خمس وَعِشْرُونَ وَسِتَّة أشهر وخلافته سِتَّة أشهر ويومان، وَكَانَ أعين أقنى قَصِيرا مهيبا عَظِيم اللَّحْم عَاقِلا منصفا، أَمن العلويين وَأمر بزيارة قبر الْحُسَيْن.