تاريخ ابن الوردي

 (أَخْبَار القاهر بِاللَّه بن المعتضد)

وبويع القاهر بِاللَّه مُحَمَّد بن المعتضد وَهُوَ تَاسِع عشرهم لليلتين بَقِيَتَا من شَوَّال مِنْهَا، ثمَّ أحضر القاهر أم المقتدر وسألها عَن الْأَمْوَال فَاعْترفت بِمَا عِنْدهَا من المصاغ والثيباب فَقَط، فضربها شَدِيدا وَقد بَدَأَ بهَا الاسْتِسْقَاء، ثمَّ علقها برجلها فَحَلَفت أَنَّهَا لَا تملك غير مَا أطلعته عَلَيْهِ. واستوزر أَبَا عَليّ بن مقلة وعزل وَولى وَقبض على جمَاعَة من الْعمَّال.
وفيهَا توفّي القَاضِي أَبُو عَمْرو مُحَمَّد بن يُوسُف وَكَانَ فَاضلا، وَأَبُو الْحُسَيْن بن صَالح الْفَقِيه الشَّافِعِي العابد، وَأَبُو نعيم عبد الْملك الْفَقِيه الشَّافِعِي الْجِرْجَانِيّ الْمَعْرُوف بالأشتر الأستراباذي.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى عشْرين وثلثمائة: فِيهَا فِي جمادي الْآخِرَة مَاتَت شغب وَالِدَة المقتدر ودفنت فِي تربَتهَا بالرصافة.
وفيهَا: حصلت الوحشة بَين مؤنس والقاهر، أَقَامَ مؤنس يلبق حاجبا وَجعل أَمر الْخلَافَة إِلَيْهِ فضيق على القاهر، وَمنع دُخُول امْرَأَة إِلَى دَار الْخلَافَة حَتَّى يعرف من هِيَ فَإِن القاهر كَانَ قد استمال جمَاعَة فِي الْبَاطِن للقبض على يلبق ومؤنس وَاتفقَ مَعَه الساجية وطريف السنكري أكبر القواد، فَقبض القاهر على يلبق وَابْنه ومؤنس فِي أول شعْبَان مِنْهَا، لأَنهم اتَّفقُوا مَعَ ابْن مقلة على خلعه وَإِقَامَة أبي أَحْمد بن المكتفي.
وَحضر ابْن يلبق وَأظْهر أَنه يُرِيد الِاجْتِمَاع بالخليفة بسب القرامطة وَقصد الْقَبْض على القاهر وَلم يعلم ابْن يلبق بِمَا رتبه لَهُ القاهر، وَدخل فَقبض عَلَيْهِ القاهر فِي دَار الْخلَافَة. وَبلغ أَبَاهُ يلبق ذَلِك وَكَانَ مَرِيضا فَحَضَرَ إِلَى دَار الْخلَافَة بِسَبَب ذَلِك، فَقبض عَلَيْهِ أَيْضا.
ثمَّ استدعى القاهر مؤنسا فَامْتنعَ، فَحلف أَن قَصده مِنْهُ الْكَشْف عَن حَال يلبق وَابْنه فَإِن صَحَّ مَا بلغه عَنْهُمَا وَإِلَّا أطلقهما، فَحَضَرَ مؤنس فَقبض عَلَيْهِ أَيْضا وعزل ابْن مقلة واستوزر أَبَا جَعْفَر مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن عبيد اللَّهِ، ثمَّ جد فِي طلب أَحْمد بن المكتفي فظفر بِهِ وَبنى عَلَيْهِ حَائِطا فَمَاتَ.
وشغب أَصْحَاب مؤنس وَكَانُوا أَكثر الْعَسْكَر وثاروا بِسَبَب حبس مؤنس وطلبوا إِطْلَاقه، فذبح ابْن يلبق وَوضع رَأسه فِي طست وَكَانَ قد حَبسهم مُتَفَرّقين ثمَّ أحضر الرَّأْس فِي الطست إِلَى أَبِيه فَجعل يلبق يبكي ويرسف الرَّأْس، ثمَّ قَتله القاهر وَجعل رَأسه مَعَ رَأس ابْنه وأحضرهما إِلَى مؤنس فَتشهد مؤنس وَلعن قاتلهما فَقتله أَيْضا، وطيف بالرؤؤس الثَّلَاثَة فِي بَغْدَاد وَنُودِيَ: هَذَا جَزَاء من يخون الإِمَام، ثمَّ نظفت الرؤوس وَجعلت فِي خزانَة الرؤوس على جاري عَادَتهم، ثمَّ عزل القاهر أَبَا جَعْفَر الْوَزير وَولى الحصيني الوزارة، ثمَّ قبض على طريف السنكري.

(1/254)


(ابْتِدَاء دولة بني بويه)

كَانَ بويه متوسط الْحَال بَين الديلم وكنيته أَبُو شُجَاع، وَلما عظمت مملكة بني بويه اشْتهر نسبهم فَقَالُوا: بويه بن فناخسروا بن تَمام بن كوهى بن شيرزيل الْأَصْغَر بن شيركوه بن شيرزيل الْأَكْبَر بن شيران شاه بن شيرفنه بن شستان شاه بن سسن فَيْرُوز بن شيرزبل بن سناد بن بهْرَام جور الْملك بن يزدجرد الْملك وَبَاقِي النّسَب إِلَى أردشير بن بابك تقدم.
وَكَانَ لبويه ثَلَاثَة بَنِينَ وهم: عماد الدولة أَبُو الْحسن عَليّ وركن الدولة الْحسن ومعز الدولة أَبُو الْحُسَيْن أَحْمد، وَكَانُوا فِي خدمَة مَا كَانَ بن كالي الديلمي وَلما ملك من الديلم أشغار بن شيرويه ومرداويج كَمَا تقدم ملك مَا كَانَ بن كالي الديلمي طبرستان وَكَانَ أَوْلَاد بويه الثَّلَاثَة من عسكره متقدمين عِنْده، فَلَمَّا استولى مرداويج على مَا كَانَ بيد مَا كَانَ بن كالي من طبرستان، سَار مَا كَانَ عَن طبرستان وَاسْتولى على الدامغان.
ثمَّ انهزم مَا كَانَ بن كالي وَعَاد إِلَى نيسابور مُنْهَزِمًا وَأَوْلَاد بويه الثَّلَاثَة مَعَه لَا يفارقونه، فَلَمَّا رَأَوْا ضعفه عَن مقاتله مرداويج قَالُوا: نَحن مَعنا جمَاعَة وَأَنت مضيق وَالأَصَح أَن نُفَارِقك لتخف مؤنتك فَإِذا صلح أَمرك عدنا إِلَيْك. فَأذن لَهُم، ففارقوه وَلَحِقُوا بمردوايج وَمَعَهُمْ جمَاعَة من قواد مَا كَانَ، فَأحْسن إِلَيْهِم مرداويج وقلد عماد الدولة عَليّ بن بويه كرج فقوى بهَا وَكثر جمعه، ثمَّ أطلق مرداويج لجَماعَة من قواده مَالا على كرج، فَلَمَّا وصلوا لقبضه أحسن إِلَيْهِم عَليّ بن بويه واستمالهم حَتَّى أوجبوا طَاعَته، وَبلغ ذَلِك مرداويج فاستوحش من ابْن بويه.
ثمَّ قصد ابْن بويه الْمَذْكُور أصفهان وَبهَا ابْن ياقوت فَاقْتَتلُوا، فَانْهَزَمَ ابْن ياقوت وَاسْتولى ابْن بويه على أصفهان وَكَانَ أَصْحَابه تِسْعمائَة وعسكر ابْن ياقوت عشرَة آلَاف، فَعظم بذلك فِي عُيُون النَّاس، وَبَقِي مرداويج يراسل ابْن بويه ويلاطفه وَابْن بويه يعْتَذر وَلَا يحضر إِلَيْهِ.
وَأقَام ابْن بويه بأصفهان شَهْرَيْن وجبى أموالها وارتحل إِلَى أرجان وَكَانَ قد هرب إِلَيْهَا أَبُو بكر بن ياقوت فَانْهَزَمَ من ابْن بويه بِغَيْر قتال، فاستولى ابْن بويه على أرجان فِي ذِي الْحجَّة سنة عشْرين وثلثمائة، ثمَّ وَصَارَ ابْن بويه إِلَى التوبيدخان وَاسْتولى عَلَيْهَا فِي ربيع الآخر من سنة إِحْدَى وَعشْرين وثلثمائة، ثمَّ أرسل عماد الدولة أَخَاهُ ركن الدولة إِلَى كازرون وَغَيرهَا من أَعمال فَارس فاستخرج أموالها، ثمَّ كَانَ مِنْهُم مَا سَيَأْتِي.
وفيهَا: توفّي أَبُو بكر مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن دُرَيْد اللّغَوِيّ فِي شعْبَان ومولده سنة ثَلَاث وَعشْرين ومائتتين، أَخذ الْعلم عَن أبي حَاتِم السجسْتانِي وَأبي الْفضل الرياشي وَغَيرهمَا، وَله تصانيف مِنْهَا مقصورته وَكتاب الجمهرة وَكتاب الْخَيل. قَالَ ابْن شاهين: كُنَّا ندخل على ابْن دُرَيْد فنستحي مِنْهُ مِمَّا نرى من العيدان الْمُعَلقَة وَالشرَاب الْمُصَفّى، وعاش ثَلَاثًا وَتِسْعين.

(1/255)


قلت: ورثاه جحظة الْبَرْمَكِي فَقَالَ:
(فقدت بِابْن دُرَيْد كل فَائِدَة ... لما غَدا ثَالِث الْأَحْجَار والترب)

(وَكنت أبْكِي لفقد الْجُود مُنْفَردا ... فصرت أبْكِي لفقد الْجُود وَالْأَدب)

وَمرض بالفالج مرَّتَيْنِ مَاتَ فِي الثاينة، وَكَانَ يتألم من دُخُول الدَّاخِل وَإِن لم يصل إِلَيْهِ، حَتَّى قَالَ تِلْمِيذه أَبُو عَليّ القالي: أَظُنهُ عُوقِبَ بقوله:
(مارست من لوهوت الأفلاك من ... جَوَانِب الجو عَلَيْهِ مَا شكا)
وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي أَبُو هَاشم بن أبي عَليّ الجبائي الْمُتَكَلّم المعتزلي ومولده سنة سبع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، أَخذ عَن أَبِيه واجتهد حَتَّى فاقه. قَالَ أَبُو هَاشم: كَانَ أبي أكبر مني باثنتي عشرَة سنة. وَمَات أَبُو هَاشم وَابْن دُرَيْد فِي يَوْم وَاحِد بِبَغْدَاد فَقَالَ النَّاس: الْيَوْم دفن علم الْكَلَام وَعلم اللُّغَة.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن يُوسُف بن مطر الْفربرِي ومولده سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَهُوَ الَّذِي رُوِيَ صَحِيح البُخَارِيّ عَنهُ، وَكَانَ قد سَمعه من البُخَارِيّ عشرات أُلُوف، مَنْسُوب إِلَى فربر، براءين قَرْيَة ببخارا قَالَه ابْن الْأَثِير، وَقَالَ ابْن خلكان: فربر بَلْدَة على طرف جيحون.
وفيهَا: توفّي بِمصْر أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن مُحَمَّد بن سَلامَة الْأَزْدِيّ الطَّحَاوِيّ الْفَقِيه الْحَنَفِيّ انْتَهَت إِلَيْهِ رياسة أَصْحَاب أبي حنيفَة بِمصْر، وَكَانَ شافعيا وَكَانَ يقْرَأ على خَاله الْمُزنِيّ فَقَالَ لَهُ يَوْمًا: وَالله لَا جَاءَ مِنْك شَيْء، فَغَضب واشتغل على مَذْهَب أبي حنيفَة، وبرع وصنف كتبا مفيدة مِنْهَا: أَحْكَام الْقُرْآن وَاخْتِلَاف الْعلمَاء ومعاني الْآثَار وتاريخ كَبِير، وولادته سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ.
قلت: وَلما صنف مُخْتَصره قَالَ: رحم اللَّهِ ابا إِبْرَاهِيم - يَعْنِي الْمُزنِيّ خَاله - لَو كَانَ حَيا لكفر عَن يَمِينه، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وثلثمائة: فِيهَا استولى عماد الدولة بن بويه على شيزار.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى خلع القاهر لغدره بطريف السنكري، وحنثه فِي الْيَمين بالأمان للَّذين قَتلهمْ. وَكَانَ ابْن مقلة مستترا من القاهر ويغري القواد بِهِ وَيظْهر تَارَة بزِي عجمي وَتارَة بزِي مكدي، وَأعْطى منجما مائَة دِينَار ليقول للقواد: إِن عَلَيْهِم قطعا من القاهر، وَأعْطى معبر منامات مائَة دِينَار حَتَّى عبر لسيما الْقَائِد مناما كَذَلِك، فاستوحشوا من القاهر وحضروا إِلَيْهِ وَقد بَات يشرب أَكثر ليلته وَأَحْدَقُوا بِالدَّار، فَاسْتَيْقَظَ مخمورا فهرب إِلَى سطح حمام فتبعوه وأحضروه إِلَى حبس طريف السنكري فحبسوه مَكَان طريف وسلموا عَيْنَيْهِ، وأخرجوا طريفا. وخلافته سنة وَاحِدَة وَسِتَّة أشهر وَثَمَانِية أَيَّام.

(1/256)


(أَخْبَار الراضي بِاللَّه أَحْمد بن المقتدر)

وَلما قبضوا على القاهر كَانَ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن المقتدر ووالدته محبوسين فأخرجوه واجلسوه على سَرِير القاهر وسلموا عَلَيْهِ بالخلافة ولقبوه الراضي بِاللَّه، وبويع الراضي بِاللَّه يَوْم الْأَرْبَعَاء لست خلون من جُمَادَى الأولى مِنْهَا. وَأَشَارَ سِيمَا الْقَائِد بوزارة ابْن مقلة فاستوزروه، وراودوا القاهر وَهُوَ أعمى مَحْبُوس أَن يشْهد عَلَيْهِ بِالْخلْعِ فَامْتنعَ.
وفيهَا: وَفَاة الْمهْدي عبيد اللَّهِ الْعلوِي الفاطمي بالمهدية فِي ربيع الأول وأخفى وَلَده الْقَائِم ألو الْقَاسِم مُحَمَّد مَوته سنة لتدبير كَانَ لَهُ، وعاش الْمهْدي ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سنة وولايته أَربع وَعِشْرُونَ سنة وَشهر وَعِشْرُونَ يَوْمًا، ثمَّ أظهر ابْنه وَفَاته واستقرت ولَايَته.
وفيهَا: قتل مُحَمَّد بن عَليّ الشلمغاني، وشلمغان قَرْيَة بنواحي وَاسِط. وَذَلِكَ أَنه أحدث مذهبا مَدَاره على الْحُلُول والتناسخ ... ... . وَقيل: أَنه تبعه على ذَلِك الْحُسَيْن بن الْقَاسِم بن عبيد اللَّهِ الَّذِي وزر للمقتدر، وَأَبُو جَعْفَر وَأَبُو عَليّ ابْنا بسطَام، وَإِبْرَاهِيم بن إبي عون، وَأحمد بن مُحَمَّد بن عَبدُوس.
وَكَانَ الشلمغاني وَأَصْحَابه مستترين فَظهر فِي شَوَّال مِنْهَا فأمسكه الْوَزير ابْن مقلة، فَأنْكر الشلمغاني مذْهبه وَكَانَ أَصْحَابه يَعْتَقِدُونَ فِيهِ الإلهية، وأحضره الْوَزير عِنْد الراضي وَأمْسك مَعَه ابْن أبي عون وَابْن عَبدُوس، فأمروهما بصفع الشلمغاني فامتنعا فأكرها، فصفعه ابْن عَبدُوس، وَأما ابْن أبي عون فارتعدت يَده فَقبل لحية الشمغاني وَرَأسه وَقَالَ: إلهي وسيدي ورازقي، فَقَالُوا للشلمغاني: أما قلت إِنَّك لم تدع الإلهية؟ فَقَالَ: مَا ادعيتها قطّ وَمَا عَليّ من قَول ابْن أبي عون عني مثل هَذَا، ثمَّ صرفا.
وأحضر الشلمغاني مرَارًا بِحُضُور الْفُقَهَاء، وَآخر الْأَمر: أَن الْفُقَهَاء أفتوا بِإِبَاحَة دَمه، فصلب هُوَ وَابْن أبي عون فِي ذِي الْقعدَة مِنْهَا وأحرقا، وَفِي مذْهبه قبائح وكفريات أعرضنا عَن ذكرهَا، وأشبهوا فِي ترك الصَّلَاة وجماع الْمَحَارِم وَنَحْوهمَا النصرية.
وفيهَا: قتل إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق النوبختي، قَتله القاهر قبل أَن يخلع، والنوبختي أَشَارَ باستخلافه.
وفيهَا: فتح الدمستق ملطية بالأمان بعد حِصَار وَأخرج أَهلهَا وأوصلهم إِلَى مأمنهم فِي مستهل جُمَادَى الْآخِرَة، وَفعل الرّوم الْأَفْعَال القبيحة بِالْمُسْلِمين وَصَارَت أَكثر الْبِلَاد فِي أَيْديهم.
وفيهَا: توفّي أَبُو نعيم الْفَقِيه الْجِرْجَانِيّ الأستراباذي، وَأَبُو عَليّ مُحَمَّد الروذاري الصُّوفِي، وَأَبُو الْحُسَيْن النساج بن عبد اللَّهِ الصُّوفِي من سامراء من الأبدال، وَمُحَمّد بن عَليّ بن جَعْفَر الْكِنَانِي الصُّوفِي من أَصْحَاب الْجُنَيْد.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَعشْرين وثلثمائة: فِيهَا قتل مرداويج الديلمي كَانَ قد تجبر

(1/257)


وَعمل لأَصْحَابه كراسي فضَّة ولنفسه تاجا مرصعا على صفة تَاج كسْرَى، وَفِي لَيْلَة الميلاد من هَذِه السّنة أَمر أَن تجمع الأحطاب مِثَال الْجبَال والتلال وَخرج إِلَى ظَاهر أصفهان لذَلِك، وَجمع مَا يزِيد عَن ألفي غراب ليعْمَل فِي أرجلها النفط، وَأمر بِعَمَل سماط عَظِيم فِيهِ ألف فرس وألفا رَأس بقر وَمن الْغنم والحلواء كثير، فَلَمَّا اسْتَوَى ذَلِك وَرَآهُ احتقره وَغَضب على أهل دولته فَلَمَّا انْقَضى السماط وانقادت النيرَان وَأصْبح ليدْخل أصفهان اجْتمع الْجند للْخدمَة وَكثر صَهِيل الْخَيل حول خيمته، فاغتاظ لذَلِك وَقَالَ: لمن هَذِه الْخَيل الْقَرِيبَة؟ قَالُوا: للأتراك، فَأمر أَن تُوضَع سُرُوجهَا على ظُهُور الأتراك ويدخلوا الْبَلَد كَذَلِك، فَفعل بهم فَكَانَ لَهُ منظر قَبِيح، وازداد الأتراك حنقا عَلَيْهِ.
ورحل إِلَى أصفهان وَهُوَ غَضْبَان فَأمر صَاحب حرسه أَن لَا يتبعهُ فِي ذَلِك الْيَوْم وَلم يَأْمر أحدا غير ليجمع الحرش وَدخل الْحمام، فانتهزت الأتراك الفرصة وهجموا فَقَتَلُوهُ فِي الْحمام. ومرداويج - بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الرَّاء وَفتح الدَّال الْمُهْمَلَتَيْنِ ثمَّ ألف وواو ممالة وياء مثناة تَحت وجيم - فارسية مَعْنَاهَا: مُعَلّق الرِّجَال.
وفيهَا: عظم أَمر الْحَنَابِلَة على النَّاس حَتَّى كبسوا دور القواد والعامة فَإِن وجدوا نبيذا أراقوه وَإِن وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آله اللَّهْو، واعترضوا فِي البيع وَالشِّرَاء وَفِي مشي الرِّجَال مَعَ الصّبيان وَنَحْو ذَلِك، فنهاهم صَاحب الشرطة عَن ذَلِك وَأمرهمْ أَن لَا يُصَلِّي مِنْهُم إِمَام إِلَّا إِذا جهر بِبسْم اللَّهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم، فَلم يفد فيهم، فَكتب الراضي توقيعا ينهاهم فِيهِ ويبوبخهم باعتقاد التَّشْبِيه، فَمِنْهُ: أَنكُمْ تَارَة تَزْعُمُونَ أَن صُورَة وُجُوهكُم القبيحة السمجة على مِثَال رب الْعَالمين وهيئتكم على هَيئته وتذكرون لَهُ الشّعْر القطط والصعود إِلَى السَّمَاء وَالنُّزُول إِلَى الدُّنْيَا وَغير ذَلِك وَآخره وأمير الْمُؤمنِينَ يقسم عَظِيما إِن لم تنتهوا ليستعملن السَّيْف فِي رِقَابكُمْ وَالنَّار فِي مَنَازِلكُمْ.
وفيهَا: تولى الأخشيد مصر، وَهُوَ مُحَمَّد بن طغج بن جف من جِهَة الراضي بِاللَّه، وَكَانَ الأخشيد قبل ذَلِك قد تولى مَدِينَة الرملة سنة سِتّ عشرَة وثلثمائة من جِهَة المقتدر وَأقَام بهَا إِلَى سنة ثَمَان عشرَة وثلثمائة، فوردت كتب المقتدر بولايته دمشق فَسَار إِلَيْهَا وتولاها، والمتولى حِينَئِذٍ مصر أَحْمد بن كيغلغ. فَلَمَّا تولى الراضي عزل ابْن كغليغ وولاها الأخشيد وَضم إِلَيْهِ الشَّام، فاستقر بِمصْر يَوْم الْأَرْبَعَاء لسبع بَقينَ من رَمَضَان مِنْهَا.
وفيهَا: قتل أَبُو الْعَلَاء بن حمدَان، وَذَلِكَ أَن نَاصِر الدولة الْحسن بن عبد اللَّهِ بن حمدَان كَانَ أَمِير الْموصل وديار ربيعَة، وَكَانَ أول من تولى مِنْهُم وَالِد نَاصِر الدولة عبد اللَّهِ أَبُو الهيجاء ولاه عَلَيْهَا المكتفي وَقتل أَبُو الهيجاء بِبَغْدَاد فِي المدافعة عَن القاهر، وَلما قبض عَلَيْهِ وَكَانَ ابْنه نَاصِر الدولة نَائِبا عَنهُ بالموصل اسْتمرّ بهَا إِلَى هَذِه السّنة، فضمن عَمه أَبُو الْعَلَاء بن حمدَان مَا بيد ابْن أَخِيه من ديوَان الْخَلِيفَة بِمَال يحملهُ.
وَسَار أَبُو الْعَلَاء إِلَى الْموصل فَقتله ابْن أَخِيه نَاصِر الدولة، فَأرْسل الْخَلِيفَة عسكرا مَعَ

(1/258)


ابْن مقلة إِلَى قتال نَاصِر الدولة فهرب نَاصِر الدولة، فَأَقَامَ ابْن مقلة بالموصل مُدَّة ثمَّ عَاد إِلَى بَغْدَاد، فَعَاد نَاصِر الدولة إِلَى الْموصل وَكتب إِلَى الْخَلِيفَة يسْأَله الصفح وَضمن الْموصل بِمَال يحملهُ فَأُجِيب.
وفيهَا: أرسل الْقَائِم الْعلوِي صَاحب الْمغرب جَيْشًا من إفريقية فِي الْبَحْر، فَفتح جنوة وأوقعوا بِأَهْل سردانية، وعادوا سَالِمين.
وفيهَا: استولى عماد الدّين بن أصفهان وتنازع مَعَ شمكير فِي تِلْكَ الْبِلَاد وَهِي أصفهان وهمدان وقم وقاشان وكرج والري وكنلور وقزوين وَغَيرهَا.
وفيهَا: فِي جمادي الْآخِرَة شغب الْجند بِبَغْدَاد ونقبوا دَار الْوَزير فهرب هُوَ وَابْنه إِلَى الْجَانِب الغربي، ثمَّ راضياهم.
وفيهَا: توفّي إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن عَرَفَة نفطويه النَّحْوِيّ الوَاسِطِيّ، وَله مصنفات، وَهُوَ من ولد الْمُهلب بن أبي صفرَة، ولد سنة ارْبَعْ وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَفِيه يَقُول الشَّيْخ مُحَمَّد بن يزِيد بن عَليّ الْمُتَكَلّم:
(من سره أَن لَا يرى فَاسِقًا ... فليجتهد أَن لَا يرى نفطويه)

(أحرقه اللَّهِ بِنصْف اسْمه ... وصير الْبَاقِي نواحا عَلَيْهِ)

قلت: وفيهَا: عملت قبْلَة الْمَسْجِد الْجَامِع بمعرة النُّعْمَان بالرخام والفصوص والجص، عمل ذَلِك اخوان من دمشق اسْم أَحدهمَا متوكل، وَلم يزل كَذَلِك إِلَى أَن أحرق تغفور ملك الرّوم الْجَامِع الْمَذْكُور وَأكْثر الدّور بعد أَن فتحهَا فِي سنة سبع وَخمسين وثلثمائة، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَعشْرين وثلثمائة: فِيهَا قبض الحجرية والمظفر بن ياقوت على الْوَزير ابْن مقلة بدار الْخلَافَة، وأعلموا بذلك الْخَلِيفَة فَاسْتَحْسَنَهُ، وَامْتنع عَليّ بن عِيسَى أَن يَلِي فوزروا أَخَاهُ عبد الرَّحْمَن بن عِيسَى، ثمَّ قبضوا عَلَيْهِ وولوا الوزارة أَبَا جَعْفَر مُحَمَّد بن قَاسم الْكَرْخِي.
وفيهَا: قطع ابْن راتق حمل وَاسِط وَالْبَصْرَة، وَقطع الْبَرِيد، فَضَاقَ مَال بَغْدَاد وَعجز أَبُو جَعْفَر فعزلوه وَكَانَت ولَايَته ثَلَاثَة أشهر وَنصفا واستوزروا سُلَيْمَان بن الْحسن، وراسل الْخَلِيفَة مُحَمَّد بن راتق يستقدمه من وَاسِط واستماله خوفًا مِنْهُ ليقوم بالأمور، وقلده إِمَارَة الْجَيْش وَأمر أَن يخْطب لَهُ على الْمِنْبَر وَكَانَ ابْن راتق قد امسك الساجية قبل دُخُوله بَغْدَاد فاستوحشت الحجرية مِنْهُ.
وَبَطلَت بِابْن راتق وزارة بَغْدَاد وَنظر فِي الْأُمُور كلهَا، وتغلبت الْعمَّال على الْأَطْرَاف وَلم يبْق للخليفة غير بَغْدَاد وأعمالها وَالْحكم فِيهَا لِابْنِ راتق وَلَيْسَ للخليفة حكم.
وَأما الْأَطْرَاف: فَكَانَت الْبَصْرَة لِابْنِ راتق الْمَذْكُور، وخوزستان بيد البريدي، وَفَارِس

(1/259)


بيد عماد الدولة بن بويه، وكرمان بيد عَليّ بن مُحَمَّد بن إلْيَاس، والري وأصبهان والجبل بيد ركن الدولة بن بويه ويدوشمكير بن زِيَاد أخي مرداويج يتنازعان عَلَيْهَا، والموصل وديار بكر وديار مصر وَرَبِيعَة بيد بني حمدَان ومصر وَالشَّام بيد الأخشيد مُحَمَّد بن طغج، وَالْمغْرب وإفريقية بيد الْقَائِم الْعلوِي بن الْمهْدي، والأندلس بيد عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الْأمَوِي النَّاصِر، وخراسان وَمَا وَرَاء النَّهر بيد نصر بن أَحْمد الساماني، وطبرستان وجرجان بيد الديلم، والبحرين واليمامة بيد أبي طَاهِر القرمطي.
وفيهَا: استقدم مُحَمَّد بن راتق الْفضل بن جَعْفَر بن الْفُرَات عَامل خراج مصر وَالشَّام، فَقدم وَتَوَلَّى الوزارة لِابْنِ راتق والخليفة.
وفيهَا: قلد الْخَلِيفَة مُحَمَّد بن طغج مصر وأعمالها مَعَ مَا بِيَدِهِ من الشَّام بعد عزل أَحْمد بن كيغلغ.
وفيهَا: ولد عضد الدولة أَبُو شُجَاع فناخسرو بن ركن الدولة الْحسن بن بويه بأصبهان.
وفيهَا: توفّي جحظة الْبَرْمَكِي من ولد يحيى بن خَالِد بن برمك، كَانَ يعرف علوما.
وفيهَا: توفّي عبد اللَّهِ بن أَحْمد بن مُحَمَّد الْمُغلس الْفَقِيه الظَّاهِرِيّ صَاحب التصانيف، وَعبد اللَّهِ بن مُحَمَّد الْفَقِيه الشَّافِعِي النَّيْسَابُورِي ومولده سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، كَانَ إِمَامًا وجالس الرّبيع والمزني وَيُونُس أَصْحَاب الشَّافِعِي.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَعشْرين وثلثمائة: فِيهَا أَشَارَ مُحَمَّد بن راتق على الراضي بالميسر مَعَه إِلَى وَاسِط فَفعل، وَأمْسك ابْن راتق بعض الأجناد الحجرية وَأجَاب ابْن البريدي إِلَى مَا طلب مِنْهُ فَعَاد الراضي وَابْن راتق، ثمَّ نكث أَبُو عبد اللَّهِ بن البريدي، فَأرْسل ابْن راتق عسكرا مَعَ بجكم وقاتلوه، فَانْهَزَمَ ابْن البريدي إِلَى عماد الدولة بن بويه وطمعه فِي الْعرَاق وَفِي الْخَلِيفَة.
وفيهَا: ظلم سَالم بن رَاشد عَامل صقيلة من جِهَة الْقَائِم وأساء السِّيرَة فعصت عَلَيْهِ جرجيت من صقلية وَكتب إِلَى الْخَلِيفَة بذلك، فَجهز إِلَيْهِ عسكرا وحاصروا جرجيت فأنجدهم ملك الْقُسْطَنْطِينِيَّة ودام الْحصار إِلَى سنة تسع وَعشْرين، فَسَار بعض أَهلهَا وَنزل الْبَاقُونَ بالأمان فاخذ كبارهم فِي مركب ليقدموا على الْقَائِم، ثمَّ خرق الْمركب فَغَرقُوا.
وفيهَا: توفّي عبد اللَّهِ بن مُحَمَّد الخزار النَّحْوِيّ مُصَنف فِي علم الْقُرْآن.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَعشْرين وثلثمائة: فِيهَا سَار معز الدولة بِأَمْر أَخِيه عماد الدولة بن بويه إِلَى الأهواز وَتلك الْبِلَاد فاستولى عَلَيْهَا، وَسَببه: مسير ابْن البريدي إِلَى عماد الدولة - كَمَا قُلْنَا -.
وفيهَا: فِي نصف شَوَّال قطعت يَمِين أبي عَليّ مُحَمَّد بن الْعلي بن الْحُسَيْن بن مقلة،

(1/260)


وَسَببه أَنه سعى فِي الْقَبْض على ابْن راتق وَإِقَامَة بجكم مَوْضِعه، فَعلم بِهِ ابْن راتق فحبسه الراضي لأجل ابْن راتق، وَفِي الآخر قطعُوا يَده وبرأ فسعى فِي الوزارة وَشد الْقَلَم على يَده المقطوعة وَكتب وَكَانَ يَدْعُو عَلَيْهِم، فَقطع ابْن راتق لِسَانه وضيق عَلَيْهِ فِي الْحَبْس، ثمَّ لحقه الذرب من غير خَادِم يَخْدمه فقاسى شدَّة حَتَّى مَاتَ فِي شَوَّال سنة ثَمَان وَعشْرين وثلثمائة وَدفن بدار الْخلَافَة، ثمَّ نبش وَسلم إِلَى أَهله فدفنوه فِي دَاره، ثمَّ نقل إِلَى دَار أُخْرَى.
وَالْعجب: وزارته ثَلَاث مَرَّات، للمقتدر والقاهر الراضي، وسافر ثَلَاث مَرَّات مرَّتَيْنِ إِلَى شيزار وَمرَّة فِي وزارته إِلَى الْموصل، وَدفن ثَلَاث مَرَّات.
قلت: وَفِي ذَلِك يَقُول ابْن مقلة نواحا على يَده: خدمت بهَا الْخُلَفَاء وكتبت بهَا الْقُرْآن الْكَرِيم دفعتين تقطع كَمَا تقطع أَيدي اللُّصُوص، وَأنْشد:
(مَا سئمت الْحَيَاة وَلَكِن توثقت ... بأيمانهم فَبَانَت يَمِيني)

(بِعْت ديني لَهُم بدنياي حَتَّى ... حرموني دنياهم بعد ديني)

(وَلَقَد حطت مَا اسْتَطَعْت بجهدي ... حفظ أَرْوَاحهم فَمَا حفظوني)

(لَيْسَ بعد الْيَمين لَذَّة عَيْش ... يَا حَياتِي بَانَتْ يَمِيني فبيني)

قلت: وَبعد مَوته استعرضوا خزانَة الرؤوس وَذَلِكَ فِي آخر أَيَّام الراضي وَكَانَت قد امْتَلَأت فرموها كلهَا فِي دجلة، وَكَانَ بَعْضهَا فِي أسفاط وَبَعضهَا فِي صناديق رصاص، ووجدوا فِي الْجُمْلَة سفطا فِيهِ رَأس وَيَد ورقعة فِيهَا مَكْتُوب هَذَا رَأس أبي الْجمال، الْحُسَيْن بن الْقَاسِم بن عبد اللَّهِ بن سُلَيْمَان بن وهب وَهَذِه الْيَد الَّتِي مَعَ الرَّأْس يَد الْوَزير أبي عَليّ بن مقلة وَهِي الْيَد الَّتِي وَقعت بِقطع هَذَا الرَّأْس، وَالله أعلم.
وَله أَلْفَاظ منقولة مِنْهَا: إِنِّي إِذا أَحْبَبْت تهالكت، وَإِذا أبغضت أهلكت وَإِذا رضيت آثرت، وَإِذا غضِبت أثرت، وَمِنْهَا: يُعجبنِي من يَقُول الشّعْر تأدبا لَا تكسبا، وَيتَعَاطَى الْغناء تطربا لَا تطلبا.
وَالصَّحِيح: أَن صَاحب الْخط الْمليح هُوَ أَخُوهُ أَبُو عبد اللَّهِ الْحسن بن عَليّ بن مقلة المتوفي سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وثلثمائة، وَالله أعلم.
وفيهَا: غرَّة ذِي الْقعدَة سَار بجكم من وَاسِط إِلَى بَغْدَاد، وجهز ابْن راتق إِلَيْهِ عسكرا من بَغْدَاد فَهَزَمَهُمْ بجكم، فهرب ابْن راتق إِلَى عكبرا واستتر، وَدخل بجكم بَغْدَاد ثَالِث عشر ذِي الْقعدَة فَجعله الراضي أَمِير الْأُمَرَاء، وَكَانَت مُدَّة ابْن راتق سنة وَعشرَة أشهر وَسِتَّة عشر يَوْمًا. كَانَ بجكم مَمْلُوكا لوزير ماكان الديلمي فَأَخذه مِنْهُ، ثمَّ فَارقه وَلحق بمرداويج فَكَانَ من قَتله مرداويج، ثمَّ اتَّصل بِخِدْمَة ابْن راتق حَتَّى كتب على رايته الراتقي وَاسْتولى من جِهَة ابْن راتق على الأهواز وطرد ابْن البريدي، وَلما استولى ابْن بويه على الأهواز سَار بجكم إِلَى وَاسِط حَتَّى جرى مَا جرى.
قلت: وانتقم اللَّهِ تَعَالَى لِابْنِ مقلة من ابْن راتق، فَصَارَ عدوه بجكم بِحكم مَوْضِعه ثمَّ

(1/261)


قتل ابْن راتق كَمَا سَيَأْتِي. وَمِمَّا قلت فِي هَذَا الْمَعْنى وَالنّصف الثَّانِي من الْبَيْت الأول للمتنبي ضمنته فَقلت:
(وَكم مقلة سحت لكف ابْن مقلة ... يدا لَا تُؤدِّي شكرها الْيَد والفم)

(بِهِ كدر الرَّحْمَن عَيْش ابْن راتق ... وَأصْبح فِي بَغْدَاد يحكم بجكم)
وَالله أعلم.
وفيهَا: فَسدتْ أَحْوَال القرامطة وافتتنوا واقتتلوا فاستقروا فِي هجر.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَعشْرين وثلثمائة: فِيهَا سَار بجكم والراضي إِلَى الْموصل فهرب نَاصِر الدولة بن حمدَان، ثمَّ حمل مَالا وَاسْتقر الصُّلْح مَعَه، وَظهر ابْن راتق مَعَ جمَاعَة بِبَغْدَاد قبل وُصُول الْخَلِيفَة إِلَيْهَا فخافه الْخَلِيفَة وبجكم، ثمَّ اسْتَقر الْحَال على أَن ولوه حران والرها وقنسرين والعواصم فاستولى عَلَيْهَا.
وفيهَا: عصى أُميَّة بن إِسْحَاق على عبد الرَّحْمَن الْأمَوِي بشنيرين وأنجده الجلالقة وهزموا الْمُسلمين، ثمَّ الْتَقَوْا ثَانِيًا فانهزمت الجلالقة وَقتل مِنْهُم كثير، ثمَّ أَمن عبد الرَّحْمَن أُمِّيّه.
وفيهَا: توفّي عبد الرَّحْمَن بن أبي حَاتِم الرَّازِيّ صَاحب الْجرْح وَالتَّعْدِيل، وَعُثْمَان بن خطاب أَبُو الدُّنْيَا الْأَشَج الَّذِي يُقَال أَنه لَقِي عليا رَضِي اللَّهِ عَنهُ وَله صحيفَة يروي عَنهُ وَلَا يَصح، وَقد رَوَاهَا كثير من الْمُحدثين على علم مِنْهُم بضعفها.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن جَعْفَر بِمَدِينَة يافا، وَله التصانيف كاعتدال الْقُلُوب وَغَيره.
وفيهَا: توفّي الكعبي المعتزلي أَبُو الْقَاسِم عبد اللَّهِ بن أَحْمد بن مَحْمُود صَاحب الْمقَالة.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَعشْرين وثلثمائة: فِيهَا استولى ابْن راتق على الشَّام وطرد بَدْرًا نَائِب الأخشيد وَبلغ الْعَريش يُرِيد مصر، فَخرج إِلَيْهِ الأخشيد وَجرى قتال شَدِيد آخِره انهزام ابْن راتق إِلَى دمشق، ثمَّ جهز الأخشيد إِلَى ابْن راتق جَيْشًا مَعَ اخيه واقتتلوا فَانْهَزَمَ عَسْكَر الأخشيد وَقتل أَخُوهُ، فَأرْسل ابْن راتق يعزي الأخشيد فِي أَخِيه وَيَقُول أَنه لم يقتل بأَمْري، وَأرْسل وَلَده مُزَاحم وَقَالَ: إِن أَحْبَبْت فَاقْتُلْ وَلَدي بِهِ، فَخلع الأخشيد على مُزَاحم وَأَعَادَهُ إِلَى أَبِيه، واستقرت مصر للأخشيد وَالشَّام لِابْنِ راتق.
وفيهَا: قتل السنكري بالثغر.
وفيهَا: توفّي الكليني بالنُّون وَهُوَ من أَئِمَّة الإمامية، وَمُحَمّد بن أَحْمد شنوذ الْمقري بالشاذ من مَشَايِخ الصُّوفِيَّة.
قلت: وَمنعه ابْن مقلة من إقراء الشاذ وَكتب عَلَيْهِ بذلك سجلا، فَدَعَا عَلَيْهِ بِقطع الْيَد فَقدر اللَّهِ ذَلِك، وَالله اعْلَم.

(1/262)


وفيهَا: توفّي أَبُو بكر مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن الْأَنْبَارِي صَاحب كتاب الْوَقْف والابتداء ثِقَة مولده سنة إِحْدَى وَسبعين وَمِائَتَيْنِ.
وفيهَا: توفّي أَبُو عمر أَحْمد بن عبد ربه بن حبيب الْقُرْطُبِيّ مولى هِشَام بن عبد الرَّحْمَن الدَّاخِل من الْعلمَاء المكثرين وَكتابه العقد الفريد من الْكتب النفيسة، ومولده سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ.
وفيهَا: سقط ثلج عَظِيم فِي آذار، وَفِيه قَالَ الصنوبري:
(تأنق ذَا الرَّوْض فِي نسجه ... وَأغْرب آذار فِي ثلجة)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَعشْرين وثلثمائة: فِيهَا فِي نصف ربيع الأول مَاتَ الراضي بِاللَّه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن المقتدر بن المعتضد بالاستسقاء وعمره اثْنَتَانِ وَثَلَاثُونَ سنة. وَمن شعره الْجيد:
(يصفر وَجْهي إِذا تَأمله ... طرفِي فيحمر وَجهه خجلا)

(حَتَّى كَأَن الَّذِي بوجنته ... من دم قلبِي إِلَيْهِ قد نقلا)
وَله:
(كل صفو إِلَى كدر ... كل أَمن إِلَى حذر)

(أَيهَا الآمن الَّذِي ... تاه فِي لجة الْغرَر)

(ابْن من كَانَ قبلنَا ... درس الْعين والأثر)

(در در المشيب من ... واعظ ينذر الْبشر)

وَكَانَ رَحمَه اللَّهِ شَيخا يحب الأدباء والفضلاء، ونادمه سِنَان بن ثَابت الصابي الطَّبِيب، وَكَانَ الراضي أسمر خَفِيف العارضين أمه ضلوم أم ولد، وَهُوَ آخر خَليفَة لَهُ شعر يدون وَآخر خَليفَة خطب كثيرا على منبره وَإِن كَانَ غَيره خطب فنادر وَآخر خَليفَة جَالس الجلساء وَآخر خَليفَة كَانَت جرايته وخزائنه ومطابخه وأموره على تَرْتِيب الْخُلَفَاء الْمُتَقَدِّمين.