تاريخ ابن الوردي
(أَخْبَار الْمُعْتَمد على اللَّهِ أَحْمد
بن المتَوَكل)
وَلما قتل أخرجُوا أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن المتَوَكل من الْحَبْس
وبويع ولقب الْمُعْتَمد على اللَّهِ وَهُوَ خَامِس عشرهم، واستوزر عبيد
اللَّهِ بن يحيى بن خاقَان.
وفيهَا: ملك صَاحب الزنج الإبلة عنْوَة وَقتل وأحرقها وَكَانَت
مَبْنِيَّة بالساج فأسرعت النَّار فِيهَا، ثمَّ استولى على عبادان
بالأمان، ثمَّ على الأهواز بِالسَّيْفِ.
وفيهَا: عزل عِيسَى بن الشَّيْخ عَن الشَّام لما ذكرنَا وَعقد لعيسى
على أرمينية وَولى أماجور الشَّام، فَسَار وَاسْتولى عَلَيْهِ بعد قتال
بَينه وَبَين أَصْحَاب عِيسَى وانتصر عِيسَى وَاسْتقر.
وفيهَا: توفّي الإِمَام مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ
الْجعْفِيّ صَاحب الصَّحِيح الْمُتَّفق على الْأَخْذ مِنْهُ وَالْعَمَل
بِهِ، رَحل فِي طلب الحَدِيث إِلَى الْأَمْصَار، ومولده سنة أَربع
وَتِسْعين وَمِائَة لثلاث عشرَة خلت من شَوَّال.
قَالَ البُخَارِيّ: ألهمت حفظ الحَدِيث وَأَنا فِي الْكتاب ابْن عشر
سِنِين، فَلَمَّا بلغت ثَمَانِي عشرَة سنة صنفت قضايا الصَّحَابَة
وَالتَّابِعِينَ وأقاويلهم وصنفت كتاب التَّارِيخ إِذْ ذَاك عِنْد قبر
رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، قَالَ: وَخرجت
الصَّحِيح من زهاء سِتّمائَة ألف حَدِيث وَمَا أدخلت فِيهِ إِلَّا مَا
صَحَّ.
وَورد مرّة إِلَى بَغْدَاد فَعمد أهل الحَدِيث إِلَى مائَة حَدِيث
فقلبوا متونها وأسانيدها وَوَضَعُوا عشرَة أنفس فأورد وَاحِد بعد الآخر
الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة وَالْبُخَارِيّ يَقُول فِي كل حَدِيث
مِنْهَا: لَا أعرفهُ، فَلَمَّا فرغوا قَالَ: أما الحَدِيث الأول فَهُوَ
كَذَا وَأما الثَّانِي فَهُوَ كَذَا حَتَّى ذكرهَا عَن آخرهَا على
حَقِيقَتهَا متونا وأسانيد.
وَوَقع بَين البُخَارِيّ وَبَين خَالِد أَمِير بُخَارى وَحْشَة، فَدس
خَالِد من قَالَ: البُخَارِيّ يَقُول بِخلق الْأَفْعَال للعباد وبخلق
الْقُرْآن، فتبرأ البُخَارِيّ من ذَلِك وَعظم عَلَيْهِ فارتحل وَنزل
عِنْد بعض أَقَاربه بقرية خرتنك على فرسخين من سَمَرْقَنْد فَمَاتَ
بهَا لَيْلَة عيد الْفطر مِنْهَا.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَخمسين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا أخذت الزنج
الْبَصْرَة وخربوها وَقتلُوا من بهَا.
وفيهَا: ملك يَعْقُوب الصفار بَلخ ثمَّ كابل، وَأرْسل إِلَى
الْخَلِيفَة هَدِيَّة فِيهَا أصنام من تِلْكَ الْبِلَاد.
وفيهَا: قصد الْحسن بن زيد الْعلوِي صَاحب طبرستان وملكها.
وفيهَا: قتل مُحَمَّد بن خفاجة كَمَا تقدم، وَاسْتعْمل مُحَمَّد بن
أَحْمد الأغلبي على صقلية أَحْمد بن يَعْقُوب.
وفيهَا: توفّي الْعَبَّاس بن المفرج الرياشي اللّغَوِيّ.
(1/226)
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَخمسين
وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا أرسل الْمُعْتَمد أَخَاهُ الْمُوفق أَبَا أَحْمد
إِلَى قتال الزنج.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَخمسين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا ملك يَعْقُوب الصفار
نيسابور.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن مُوسَى بن شَاكر أحد الْإِخْوَة الثَّلَاثَة
الَّذين تنْسب إِلَيْهِم حيل بني مُوسَى، وَاسم إخْوَته أَحْمد
وَالْحُسَيْن خَاضُوا فِي الْعُلُوم الْقَدِيمَة وَغلب عَلَيْهِم
الهندسة والحيل والموسيقى.
وَبلغ الْمَأْمُون من كتب الْأَوَائِل: إِن درو الأَرْض أَرْبَعَة
وَعِشْرُونَ ألف ميل، فَأَرَادَ تَحْقِيق ذَلِك فَأمر بني مُوسَى
بتحريره، فسألوا عَن الْأَرَاضِي المستوية فَأخْبرُوا بصحراء سنجار
ووطأة الْكُوفَة، فَأرْسل الْمَأْمُون مَعَهم جمَاعَة يَثِق بأقوالهم
إِلَى صحراء سنجار، وحققوا القطب الشمالي وضربوا هُنَاكَ وتدا وربطوا
فِيهِ حبلا طَويلا وَمَشوا إِلَى الْجِهَة الشمالية على الاسْتوَاء من
غير انحراف حسب الْإِمْكَان، وَكلما فرغ حَبل نصبوا فِي الأَرْض وتدا
وربطوا فِيهِ حبلا آخر كفعلهم الأول، حَتَّى انْتَهوا كَذَلِك إِلَى
مَوضِع قد زَاد فِيهِ ارْتِفَاع القطب الشمالي الْمَذْكُور دَرَجَة
مُحَققَة ومسحوا ذَلِك الْقدر فَكَانَ سِتَّة وَسِتِّينَ ميلًا وثلثي
ميل.
ثمَّ وقفُوا عِنْد موقفهم الأول وربطوا فِي الوتد حبلا وَمَشوا إِلَى
جِهَة الْجنُوب من غير انحراف وفعلوا مَا شرحناه حَتَّى انْتَهوا إِلَى
مَوضِع قد انحط فِيهِ ارْتِفَاع القطب الشمالي دَرَجَة ومسحوا ذَلِك
الْقدر فَكَانَ سِتَّة وَسِتِّينَ ميلًا وثلثي ميل، ثمَّ عَادوا إِلَى
الْمَأْمُون وَأَخْبرُوهُ بذلك.
فَأَرَادَ الْمَأْمُون تَحْقِيق ذَلِك فِي مَوضِع آخر، فسيرهم إِلَى
أَرض الْكُوفَة وفعلوا كَمَا فَعَلُوهُ فِي أَرض سنجار فتوافق
الحسابان، ثمَّ ضربوا الأميال الْمَذْكُورَة فِي ثلثمِائة وَسِتِّينَ
وَهِي درج الْفلك فَكَانَ الْحَاصِل أَرْبَعَة وَعشْرين ألف ميل وَهُوَ
دور الأَرْض، فتحقق الْمَأْمُون صِحَة مَا نَقله من كتب الْأَوَائِل.
قَالَ الْمُؤلف رَحمَه اللَّهِ: كَذَا نَقله ابْن خلكان وَغَيره من
المؤرخين إِن الَّذِي وجد فِي أَيَّام الْمَأْمُون لحصة الدرجَة سِتَّة
وَسِتُّونَ ميلًا وَثلثا ميل، وَهُوَ غير صَحِيح فَإِن ذَلِك هُوَ
حِصَّة الدرجَة على رَأْي القدماء، وَأما فِي أَيَّام الْمَأْمُون
فَإِنَّهُ وجد حِصَّة الدرجَة سِتَّة وَخمسين ميلًا وَقد تحقق ذَلِك
فِي علم الْهَيْئَة.
ثمَّ دخلت سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا قتلت الْعَرَب منجور
وَالِي حمص، وَاسْتعْمل عَلَيْهَا بكتمر.
وفيهَا: توفّي ملك بن طوق التغلبي باني الرحبة بهَا.
وفيهَا: توفّي الْحسن بن عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ بن مُوسَى بن
جَعْفَر بن مُحَمَّد بن
(1/227)
عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ رَضِي
اللَّهِ عَنْهُم الْمَعْرُوف بالعسكري، وَقد تقدم.
وفيهَا: توفّي الْحسن بن الصّباغ الزَّعْفَرَانِي الْفَقِيه وَهُوَ من
اصحاب الشَّافِعِي البغداديين.
وفيهَا: توفّي حنين بن إِسْحَاق الطَّبِيب الْعَبَّادِيّ، نقل كتب
اليونان إِلَى الْعَرَبيَّة عَالما بهَا وعرب كتاب إقليدس وَكتاب
بطليموس المجسطي وأصلحهما والعبادي - بِكَسْر الْعين: نِسْبَة إِلَى
عباد الْحيرَة عدَّة بطُون من قبائل شَتَّى نَصَارَى نزلُوا الْحيرَة.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا اسْتعْمل نصر بن
أَحْمد بن أَسد بن سامان حداه بن خثمان بن طغان بن نوشزد بن بهْرَام
جوبين الْمَذْكُور فِي أَخْبَار كسْرَى برويز أَخَاهُ إِسْمَاعِيل على
بخارا.
(ابْتِدَاء أَمر السامانيين)
كَانَ لأسد بن سامان أَرْبَعَة بَنِينَ: نوح وَأحمد وَيحيى وإلياس
وَكَانَ فِي خُرَاسَان حِين استولى عَلَيْهَا الْمَأْمُون فأكرمهم
المامون اربعتهم وَقَدَّمَهُمْ واستعملهم، واستخلف لما رَجَعَ إِلَى
الْعرَاق فِي خُرَاسَان غَسَّان بن عباد، فولى غَسَّان أَحْمد بن أَسد
فرغانة فِي سنة أَربع وَمِائَتَيْنِ، وَيحيى بن أَسد الشاش مَعَ
أسروشنه والياس بن أَسد هراة، ونوح بن أَسد سَمَرْقَنْد، وَلما تولى
طَاهِر بن الْحُسَيْن خُرَاسَان أقرهم على الْأَعْمَال، ثمَّ مَاتَ نوح
ثمَّ مَاتَ الياس بهراة فاستقر على عمله ابْنه مُحَمَّد.
وَكَانَ لِأَحْمَد بن أَسد سَبْعَة بَنِينَ: نصر وَيَعْقُوب وَيحيى
وَأسد وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَحميد.
ثمَّ مَاتَ أَحْمد بن أَسد واستخلف ابْنه نصرا، وَكَانَ إِسْمَاعِيل بن
أَحْمد يخْدم أَخَاهُ نصرا فولاه نصر بخارا فِي هَذِه السّنة أَعنِي
سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ ثمَّ سعي بَين نصر وأخيه
إِسْمَاعِيل حَتَّى فسد مَا بَينهمَا واقتتلا سنة خمس وَسبعين
وَمِائَتَيْنِ فظفر إِسْمَاعِيل بأَخيه نصر، فَلَمَّا حمل إِلَيْهِ
ترجل لَهُ إِسْمَاعِيل وَقبل يَده ورده إِلَى مَوْضِعه. وَاسْتمرّ
إِسْمَاعِيل ببخارا وَكَانَ خيرا يحب أهل الْعلم، فدام ملكه وَملك
أَوْلَاده وطالت أيامهم وسيذكورن.
وفيهَا: عصى أهل برقة على أَحْمد بن طولون، فَجهز جَيْشًا حاصر برقة
وَفتحهَا وَقبض على جمع من رؤوسائهم.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن
الْأَغْلَب فِي جُمَادَى الأولى، وولايته عشر سِنِين وَخَمْسَة أشهر
وَنصف. وَتَوَلَّى إفريقية بعده أَخُوهُ إِبْرَاهِيم فَسَار إِلَى
صقلية وَفتح وجاهد فِي اللَّهِ حق جهاده، وَتُوفِّي بالذرب لَيْلَة
السبت لإحدى عشرَة بقيت من ذِي الْقعدَة سنة تسع وَثَمَانِينَ
وَمِائَتَيْنِ بصقلية وَحمل فِي تَابُوت إِلَى إفريقية وَدفن
بالقيروان، وَكَانَت ولَايَته خمْسا وَعشْرين سنة وَكَانَ لَهُ فظنة
عَظِيمَة وَتصدق بِكُل مَاله.
(1/228)
وفيهَا: توفّي الْحسن بن عبد الْملك بن أبي
الشَّوَارِب قَاضِي الْقُضَاة من ولد عتاب بن أسيد الَّذِي ولاه
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَكَّة، وَأسيد:
بِفَتْح الْهمزَة وَكسر السِّين.
وفيهَا: توفّي أَبُو يزِيد طيفور بن عِيسَى بن سروينان البسطامي
الزَّاهِد كَانَ سروينان مجوسيا فَأسلم.
قلت: وَله كرامات ومجاهدات، وَكَانَ يَقُول: وَلَو نظرتم إِلَى رجل
أعطي من الكرامات حَتَّى يرْتَفع فِي الْهَوَاء فَلَا تغتروا بِهِ
حَتَّى تنظروا كَيفَ تجدونه عِنْد الْأَمر وَالنَّهْي وَحفظ الْحُدُود
وَأَدَاء الشَّرِيعَة؛ وَكَانَ لَهُ أَخَوان زاهدان وَعلي وَالله
اعْلَم.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْحُسَيْن مُسلم بن الْحجَّاج النَّيْسَابُورِي
صَاحب الصَّحِيح رَحل إِلَى الْأَمْصَار لسَمَاع الحَدِيث. قَالَ
مُسلم: صنفت هَذَا الْمسند الصَّحِيح من ثلثمِائة ألف حَدِيث مسموعة.
وَلما قدم البُخَارِيّ نيسابور لَازمه مُسلم، وَلما وَقعت للْبُخَارِيّ
مَسْأَلَة خلق الْأَفْعَال انْقَطع النَّاس عَنهُ إِلَّا مُسلما. قَالَ
مُسلم للْبُخَارِيّ يَوْمًا: دَعْنِي أقبل رجليك يَا أستاذ الأستاذين
وَسيد الْمُحدثين وطبيب الحَدِيث.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا أرسل
الْخَبيث صَاحب الزنج جَيْشًا إِلَى جِهَة بطايح وَاسِط فَقتلُوا
وَسبوا وأحرقوا.
وفيهَا: مَاتَ عمر بن شبة.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا استولى
يَعْقُوب الصفار على الأهواز.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا مَاتَ أماجور
مقطع دمشق وَسَار أَحْمد بن طولون من مصر إِلَى دمشق، ثمَّ إِلَى حمص،
ثمَّ إِلَى حماه، ثمَّ إِلَى حلب فَملك ذَلِك كُله، ثمَّ سَار إِلَى
أنطاكية ودعا سِيمَا الطَّوِيل أَمِير أنطاكية إِلَى طَاعَته فَأبى،
فقاتله وَملك أنطاكية عنْوَة وَقَاتل سِيمَا حَتَّى قتل، ثمَّ أَرَادَ
الْمقَام بطرسوس فغلا سعرها فَعَاد مِنْهَا إِلَى الشَّام.
وفيهَا: خرج بالصين خارجي مَجْهُول النّسَب والإسم وَعظم جمعه وحاصر
مَدِينَة خانقوا من الصين وَهِي حَصِينَة وَلها نهر عَظِيم وعالم كثير
مُسلمُونَ ونصارى ويهود ومجوس وَغَيرهم فَفَتحهَا عنْوَة وَقتل مَا لَا
يُحْصى وَاسْتولى على كثير من بِلَاد الصين، ثمَّ عدم الْخَارِجِي فِي
حَرْب ملك الصين وَانْهَزَمَ جمعه.
وفيهَا: فرغ إِبْرَاهِيم الأغلبي من بِنَاء مَدِينَة رفادة وانتقل
إِلَيْهَا وسكنها وبدئها سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ.
وفيهَا: مَاتَت قبيحة أم المعتز.
وفيهَا: مَاتَ أَبُو إِبْرَاهِيم الْمُزنِيّ صَاحب الشَّافِعِي
قلت: قَالَ الشَّافِعِي: الْمُزنِيّ نَاصِر مذهبي، وَلما ولي القَاضِي
بكار قَضَاء مصر من بَغْدَاد وَكَانَ حَنَفِيّ الْمَذْهَب توقع
الِاجْتِمَاع بالمزني مُدَّة فَلم يتَّفق، فاجتمعا يَوْمًا فِي
جَنَازَة
(1/229)
فَقَالَ بكار لأحد أَصْحَابه: سل
الْمُزنِيّ شَيْئا حَتَّى أسمع كَلَامه، فَقَالَ ذَلِك الشَّخْص: يَا
أَبَا إِبْرَاهِيم قد جَاءَ فِي الْأَحَادِيث تَحْرِيم النَّبِيذ
وَجَاء تَحْلِيله فَلم قدمتم التَّحْرِيم على التَّحْلِيل؟ فَقَالَ
الْمُزنِيّ: لم يذهب أحد إِلَى أَن النَّبِيذ كَانَ حَرَامًا فِي
الْجَاهِلِيَّة ثمَّ حلل وَوَقع الِاتِّفَاق على أَنه كَانَ حَلَالا
فَهَذَا يعضد صِحَة الْأَحَادِيث بِالتَّحْرِيمِ. فَاسْتحْسن ذَلِك
مِنْهُ، وَهَذَا من الْأَدِلَّة القاطعة وَكَانَ فِي غَايَة الْوَرع
بلغ من احتياطه أَنه كَانَ يشرب فِي جَمِيع فُصُول السّنة فِي كوز
نُحَاس، فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ: بَلغنِي أَنهم يستعملون السرجين
فِي الكيزان وَالنَّار لَا تطهرها، وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي بِمصْر يُونُس بن عبد الْأَعْلَى بن مُوسَى أحد أَصْحَاب
الشَّافِعِي ومولده سنة سبعين وَمِائَة، وَكَانَ يروي للشَّافِعِيّ:
(مَا حك جِلْدك مثل ظفرك ... فتول أَنْت جَمِيع أَمرك)
(وَإِذا قصدت لحَاجَة ... فاقصد لمعترف بقدرك)
وَقَالَ: سَمِعت الشَّافِعِي يَقُول: رضَا النَّاس غَايَة لَا تدْرك
فَانْظُر مَا فِيهِ صَلَاح نَفسك فِي أَمر دينك ودنياك فالزمه. وَعبد
الرَّحْمَن مؤلف تَارِيخ مصر هُوَ ولد ولد يُونُس الْمَذْكُور.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا فِيهَا دخل الزنج
النعمانية وَسبوا وأحرقوها، ثمَّ سَارُوا إِلَى جرجرايا وَدخل أهل
السوَاد بَغْدَاد.
وفيهَا: مَاتَ يَعْقُوب بن اللَّيْث الصفار فِي تَاسِع عشر شَوَّال
بجندي سَابُور من كور الأهواز بالقولنج وَأبي الحقنة وأحضر رَسُولا
جَاءَ ليستميله من الْخَلِيفَة وَجعل عِنْده سَيْفا ورغيفا من الخشكار
وبصلا، وَقَالَ للرسول: قل للخليفة: إِن مت فقد استراح مني واسترحت
مِنْهُ وَإِن عوفيت فَلَيْسَ بيني وَبَينه إِلَّا هَذَا السَّيْف وَإِن
كسرني وأفقرني عدت إِلَى أكل هَذَا الْخبز والبصل؛ كَانَ يَعْقُوب قد
افْتتح الرخج وَقتل ملكهَا وَأسلم أَهلهَا، وَكَانَ ملكهَا يجلس على
سَرِير ذهب وَيَدعِي الإلهية، عمل يَعْقُوب أَولا وَصَحب رجلا من
سجستان مُتَطَوعا فِي قتال الْخَوَارِج اسْمه صَالح بن نصر
الْكِنَانِي، ثمَّ هلك وَتَوَلَّى مَكَانَهُ دِرْهَم بن الْحُسَيْن
فصحبه يَعْقُوب أَيْضا، وَكَانَ دِرْهَم غير ضَابِط لأمور الْعَسْكَر
فَاجْتمعُوا وملكوا يَعْقُوب فَلم ينازعه دِرْهَم وقوى يَعْقُوب كَمَا
تقدم.
وَقَامَ بعده أَخُوهُ عمر بن اللَّيْث وَكتب إِلَى الْخَلِيفَة
بِطَاعَتِهِ، فولاه الْمُوفق خُرَاسَان وأصفهان وسجستان والسند وكرمان
وسير إِلَيْهِ الْخلْع مَعَ الْولَايَة.
وفيهَا: توفّي إِبْرَاهِيم بن هاني بن إِسْحَاق النَّيْسَابُورِي
وَكَانَ من الأبدال.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا قتل أهل حمص
عاملهم عِيسَى الكرجي.
(1/230)
وفيهَا: اشْتغل الْمُوفق بِقِتَال صَاحب
الزنج مَعَ عجز الْخَلِيفَة الْمُعْتَمد واشتغاله بِغَيْر تَدْبِير
المملكة، فتغلبت القواد والأتراك على الْأَمر وَقل خوفهم فَاشْتَدَّ
الْأَمر على أهل بِلَاد الْخَلِيفَة.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا كَانَ بَين
الْمُوفق أخي الْخَلِيفَة وَبَين الْخَبيث صَاحب الزنج حروب يطول
شرحها، وكشف صَاحب الزنج عَن الأهواز وَاسْتولى عَلَيْهَا، ثمَّ سَار
الْمُوفق إِلَى مَدِينَة صَاحب الزنج وَكَانَ قد حصنها عَظِيما وسماها
المختارة فَخرج إِلَيْهَا أَكثر أَهلهَا وَضعف الْبَاقُونَ عَن حفظهَا
فسلموها بالأمان.
وفيهَا: ولي صقلية الْحسن بن الْعَبَّاس فَبَثَّ السَّرَايَا.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَسنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ:
فِيهَا خَالف لُؤْلُؤ غُلَام احْمَد بن طولون على مَوْلَاهُ، وَكَانَ
فِي يَد لُؤْلُؤ حمص وقنسرين وحلب وديار مُضر من الجزيرة، وَكَاتب
الْمُوفق فِي الْمصير إِلَيْهِ ثمَّ سَار إِلَيْهِ.
وفيهَا: أَمر الْمُعْتَمد بلعن أَحْمد بن طولون على المنابر لكَونه قطع
خطْبَة الْمُوفق وَأسْقط اسْمه من الطرر، وَإِنَّمَا أَمر الْمُعْتَمد
بذلك مكْرها لِأَن هَوَاهُ كَانَ مَعَ ابْن طولون لِأَن الْمُوفق
استولى على الْأَمر، وَقصد الْمُعْتَمد اللحوق بِابْن طولون بِمصْر
لينجده على أَخِيه الْمُوفق لاشتغال الْمُوفق بِقِتَال الزنج، فَأمْسك
إِسْحَاق بن كنداج عَامل الْموصل القواد الَّذين فِي صُحْبَة
الْمُعْتَمد وأرسلهم إِلَى بَغْدَاد، وَتقدم إِلَى الْمُعْتَمد
بِالْعودِ فَلم يُمكنهُ مُخَالفَته فَرجع إِلَى سامراء.
ثمَّ دخلت سنة سبعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا لليلتين خلتا من صفر قتل
صَاحب الزنج لَعنه اللَّهِ بعد أَن قتل غَالب أَصْحَابه وغرقوا وطيف
بِرَأْسِهِ على رمح وَاشْتَدَّ فَرح النَّاس، وَرجع الْمُوفق إِلَى
مَوْضِعه وَالرَّأْس بَين يَدَيْهِ وَأَتَاهُ من الزنج عَالم عَظِيم
فَأَمنَهُمْ، ثمَّ بعث الرَّأْس إِلَى بَغْدَاد. وَأَيَّام الْخَبيث
أَربع عشرَة سنة وَأَرْبَعَة أشهر وَسِتَّة أَيَّام.
وفيهَا: توفّي الْحسن بن زيد الْعلوِي صَاحب طبرستان فِي رَجَب وولايته
تسع عشرَة سنة وَثَمَانِية أشهر وَكسر، وَولي مَكَانَهُ أَخُوهُ
مُحَمَّد.
وفيهَا: توفّي أَحْمد بن طولون صَاحب مصر وَالشَّام بعد رُجُوعه من
طرطوس أكل بأنطاكية لبن جاموس فَأكْثر وأصابه تخمة واتصلت حَتَّى صَار
مِنْهَا ذرب حَتَّى مَاتَ، وإمارته نَحْو سِتّ وَعشْرين سنة، وَكَانَ
حازما عَاقِلا بنى قلعة يافا وَلم تكن وَالْجَامِع الْمَعْرُوف بِهِ
بَين مصر والقاهرة وَهُوَ عَظِيم، وَولي بعده ابْنه حمارويه.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن جَعْفَر الصَّاغَانِي، وَدَاوُد
بن عَليّ الْأَصْفَهَانِي إِمَام أَصْحَاب الطَّاهِر ومولده سنة
اثْنَتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ إِمَامًا مُجْتَهدا ورعا أَخذ هُوَ
وَأَصْحَابه بِظَاهِر الْآثَار وَالْأَخْبَار وأعرضوا عَن التاويل،
وَكَانَ لَا يرى الْقيَاس فِي الشَّرِيعَة ثمَّ اضْطر إِلَيْهِ
فَسَماهُ دَلِيلا، وَخَالف الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة فِي أَحْكَام
مِنْهَا: قَوْله الشّرْب خَاصَّة فِي آنِية الذَّهَب
(1/231)
وَالْفِضَّة حرَام وَيجوز الْأكل والتوضي
وَسَائِر الانتفاعات لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:
وَالَّذِي يشرب فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة إِنَّمَا يجرجر فِي
بَطْنه نَار جَهَنَّم ". وَكم لَهُ مثل ذَلِك.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَسبعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا جرت وقْعَة بَين
ابْن الْمُوفق وَهُوَ المعتضد وَبَين حمارويه بن أَحْمد بن طولون صَاحب
مصر آخرهَا هزيمَة المعتضد وَأَصْحَابه بَين دمشق والرملة وَانْهَزَمَ
حمارويه إِلَى حُدُود مصر وَثَبت عسكره وَلم يعلمُوا بهزيمته،
وَانْهَزَمَ المعتضد وَلم يعلم بهزيمة حمارويه.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَثَلَاث وَسبعين
وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا توفّي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الحكم بن
هِشَام الْأمَوِي صَاحب الأندلس سلخ صفر وعمره نَحْو خمسين سنة وولايته
أَربع وَثَلَاثُونَ سنة وَأحد عشر شهرا، وَله ثَلَاثَة وَثَلَاثُونَ
ابْنا، وبويع ابْنه الْمُنْذر بعد بِثَلَاث لَيَال.
وفيهَا: مَاتَ أَبُو دَاوُد سُلَيْمَان بن الْأَشْعَث السجسْتانِي
صَاحب كتاب السّنَن.
وفيهَا: توفّي خَالِد بن احْمَد الدوسي أَمِير خُرَاسَان، قصد الْحَج
فَقبض عَلَيْهِ الْمُعْتَمد فَمَاتَ فِي حَبسه، وَهُوَ أخرج
البُخَارِيّ من بخارا، فَدَعَا عَلَيْهِ فَأَدْرَكته الدعْوَة.
وفيهَا: توفّي الْحَافِظ مُحَمَّد بن يزِيد بن ماجة الْقزْوِينِي
مُصَنف كتاب السّنَن عَارِف بعلوم الحَدِيث وَمَا يتَعَلَّق بِهِ، رَحل
إِلَى الْعرَاق وَالشَّام ومصر والري لطلب الحَدِيث، وَله تَفْسِير
الْقُرْآن الْعَظِيم وتاريخ أحسن فِيهِ، وسننه أحسن الْكتب السِّتَّة،
ومولده سنة تسع وَمِائَتَيْنِ.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَخمْس وَسبعين
وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا قبض الْمُوفق على ابْنه المعتضد، وَأخرجه فِي
مرض الْمُوفق الَّذِي مَاتَ فِيهِ.
وفيهَا: توفّي أَبُو سعيد الْحُسَيْن بن الْحُسَيْن بن عبد اللَّهِ
الْبكْرِيّ النَّحْوِيّ اللّغَوِيّ صَاحب التصانيف.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا مَاتَ عبد الْملك بن
مُحَمَّد الرقاشِي، وَعبد اللَّهِ بن مُسلم بن قُتَيْبَة صَاحب كتاب
أدب الْكَاتِب.
قلت: وَعَن أبي الْعَلَاء المعري: أَن لِابْنِ قُتَيْبَة خَمْسَة
وَسِتِّينَ مصنفا، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَسبعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا مَاتَ يَعْقُوب بن
سُفْيَان النَّسَائِيّ الإِمَام وَكَانَ يتشيع.
وفيهَا: مَاتَ عريب الْمُغنيَة المأمونية.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسبعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا لثمان بَقينَ من
صفر توفّي الْمُوفق بِاللَّه أَبُو أَحْمد طَلْحَة بن المتَوَكل بداء
الْفِيل فِي رجله؛ قَالَ يَوْمًا وَقد أضجره ذَلِك: قد اشْتَمَل
(1/232)
ديواني على مائَة ألف مرتزق مَا فيهم
أَسْوَأ حَالا مني، وَكَانَ قد بُويِعَ لَهُ بالعهد بعد الْمُفَوض بن
الْمُعْتَمد فبويع بعد مَوته لِابْنِهِ أبي الْعَبَّاس بن المعتضد
بِولَايَة الْعَهْد بعد الْمُفَوض وَاجْتمعَ إِلَيْهِ أَصْحَاب أَبِيه
وجهاته.
وفيهَا: تحرّك بسواد الْكُوفَة قوم يسمون " القرامطة "، دعاهم إِلَى
دينه شخص اسْمه كرمينه وَتَفْسِيره بالنبطية: حمرَة الْعين ثمَّ خفف
فَقيل: قرمط، فَأَجَابَهُ من السوَاد والبادية قوم لَيْسَ لَهُم عقل
وَلَا دين، وَأخرج لَهُم كتابا بعض مَا فِيهِ: بِسم اللَّهِ الرَّحْمَن
الرَّحِيم يَقُول الْفرج بن عُثْمَان من قَرْيَة نصرانة إِنَّه
دَاعِيَة الْمَسِيح وَهُوَ عِيسَى وَهُوَ الْكَلِمَة وَهُوَ الْمهْدي
وَهُوَ أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة وَهُوَ جِبْرِيل وَإِن
الْمَسِيح تصور فِي جسم إِنْسَان وَقَالَ، إِنَّك الداعية وَإنَّك
النَّاقة وَإنَّك الدَّابَّة وَإنَّك يحيى بن زَكَرِيَّا وَإنَّك روح
الْقُدس، وعرفه أَن الصَّلَاة أَربع رَكْعَات رَكْعَتَانِ قبل طُلُوع
الشَّمْس وركعتان قبل غُرُوبهَا، وَأَن الْأَذَان فِي كل صَلَاة أَن
يَقُول الْمُؤَذّن: اللَّهِ أكبر ثَلَاث مَرَّات، أشهد أَن لَا إِلَه
إِلَّا اللَّهِ مرَّتَيْنِ أشهد أَن آدم رَسُول اللَّهِ، أشهد أَن
نوحًا رَسُول اللَّهِ، أشهد أَن إِبْرَاهِيم رَسُول اللَّهِ أشهد ان
عِيسَى رَسُول اللَّهِ، أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ، أشهد أَن
أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة رَسُول اللَّهِ، والقبلة بَيت
الْمُقَدّس.
قلت: وَفِي تَارِيخ ابْن الْمُهَذّب المعري: أَن قرمطا الْمَذْكُور أول
ظُهُوره كَانَ فِي سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَأَنه إِنَّمَا
سمي قرمطا لِأَنَّهُ كَانَ قَصِيرا وخطوه متقاربا لقصر رجلَيْهِ، وَإِن
قرمطا أظهر الزّهْد والورع وتسوق بِهِ على النَّاس مكيدة وخبثا، وَزعم
القرامطة أَنهم يدعونَ إِلَى مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بن
مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي اللَّهِ
عَنهُ، انْتهى. ثمَّ صدر من القرامطة مَا لم يصدر من الْكفَّار كَمَا
ستقف عَلَيْهِ فِي مَوَاضِع، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَسبعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا خلع الْمُعْتَمد
ابْنه جعفرا الْمُفَوض من ولَايَة الْعَهْد وَجعل المعتضد ابْن أَخِيه
ولي الْعَهْد بعده.
وفيهَا: توفّي الْمُعْتَمد على اللَّهِ أَحْمد لإحدى عشرَة لَيْلَة
بقيت من رَجَب بِبَغْدَاد أَكثر من الشَّرَاب وَالْأكل على الشط
فَمَاتَ لَيْلًا، وأحضر المعتضد الْقُضَاة والأعيان فرأوه، وَنقل إِلَى
سامراء فَدفن بهَا وعمره خَمْسُونَ سنة وَسِتَّة أشهر وخلافته ثَلَاث
وَعِشْرُونَ سنة وَسِتَّة أَيَّام. وَمن شعره لما تحكم على أمره
أَخُوهُ الْمُوفق حَتَّى احْتَاجَ إِلَى ثلثمِائة دِينَار فَلم يجدهَا:
(أَلَيْسَ من الْعَجَائِب أَن مثلي ... يرى مَا قل مُمْتَنعا عَلَيْهِ)
(وَتُؤْخَذ باسمه الدُّنْيَا جَمِيعًا ... وَمَا من ذَاك شَيْء فِي
يَده)
(أَخْبَار المعتضد بِاللَّه أَحْمد)
وصبيحة وَفَاة الْمُعْتَمد بُويِعَ للمعتضد بِاللَّه أبي الْعَبَّاس
أَحْمد سادس عشرهم ابْن الْمُوفق أبي أَحْمد طَلْحَة بن المتَوَكل.
(1/233)
وفيهَا: توفّي نصر بن أَحْمد الساماني،
فَقَامَ بِمَا كَانَ إِلَيْهِ من الْعَمَل بِمَا وَرَاء النَّهر
أَخُوهُ إِسْمَاعِيل.
وفيهَا: قدم الْحُسَيْن بن عبد اللَّهِ بن الْجَصَّاص من خمارويه
بِمصْر بِهَدَايَا عَظِيمَة بِسَبَب تَزْوِيج بنت خمارويه من المعتضد.
وفيهَا: توفّي أَبُو عِيسَى مُحَمَّد بن عِيسَى بن سُورَة
التِّرْمِذِيّ الضَّرِير السّلمِيّ بترمذ فِي رَجَب؛ حَافظ، من تصانيفه
الْجَامِع الْكَبِير فِي الحَدِيث، وَهُوَ تلميذ البُخَارِيّ وشاركه
فِي بعض شُيُوخه مثل قُتَيْبَة بن سعيد وَعلي بن حجر.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا توفّي الْمُفَوض
جَعْفَر بن الْمُعْتَمد.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا سَار
المعتضد إِلَى ماردين فهرب صَاحبهمَا حمدَان وخلى ابْنه بهَا فقاتله
المعتضد وَسلمهَا إِلَيْهِ.
وفيهَا: دخل طغج بن جف عَامل دمشق من قبل خمارويه من طرطوس إِلَى
الرّوم فَفتح وسبى.
وفيهَا: توفّي عبد اللَّهِ بن مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن أبي
الدُّنْيَا صَاحب التصانيف.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا أَمر
المعتضد بافتتاح الْخراج فِي النيروز المعتضدي رفقا بِالنَّاسِ وَهُوَ
فِي حزيران عِنْد ركون الشَّمْس فِي أَوَاخِر الجوزاء.
وفيهَا: قتل خمارويه بن أَحْمد بن طولون؛ ذبحه بعض خدمه على فرَاشه فِي
الْحجَّة بِدِمَشْق، نقل إِلَيْهِ أَن جواريه اتخذن طواشيه أَزْوَاجًا
فخافوه وقتلوه ثمَّ قتل مِنْهُم نَيف وَعِشْرُونَ، وبويع بعده جَيش
ابْنه وَكَانَ جَيش صَبيا.
وفيهَا: توفّي أَبُو حنيفَة أَحْمد بن دَاوُد الدينَوَرِي صَاحب كتاب
النَّبَات، والْحَارث بن أبي أُسَامَة وَله مُسْند، وَأَبُو العينا
مُحَمَّد بن الْقَاسِم الضَّرِير روى عَنهُ الْأَصْمَعِي شَاعِر ذكي
ظريف ذُو نَوَادِر، ومولده سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَمِائَة وكف بَصَره
وَهُوَ ابْن اربعين سنة، ولقب بِأبي العينا لِأَنَّهُ قَالَ لأبي زيد
الْأنْصَارِيّ كَيفَ تصغر عينا؟ فَقَالَ: عيينا يَا أَبَا العينا،
قَالَ يَوْمًا المتَوَكل: لَوْلَا أَنه ضَرِير لنادمته، فَقَالَ: إِن
أعفاني من رُؤْيَة الْأَهِلّة فَإِنِّي أصلح للمنادمة.
قلت: وَمن أجوبته السريعة: أَنه شكا إِلَى عبيد اللَّهِ بن سُلَيْمَان
بن وهب الْوَزير سوء الْحَال فَقَالَ: أَلَيْسَ قد كتبنَا إِلَى
إِبْرَاهِيم بن الْمُدبر فِي أَمرك؟ قَالَ: نعم قد كتبت إِلَى رجل قد
قصر من همته طول الْفقر وذل الْأسر - يَعْنِي أسر الزنج - ومعاناه
الدَّهْر فأخفق سعيي وخابت طلبتي، فَقَالَ عبيد اللَّهِ: أَنْت اخترته،
فَقَالَ: وَمَا عَليّ أَيهَا الْوَزير فِي ذَلِك وَقد اخْتَار النَّبِي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عبد اللَّهِ بن سعد بن أبي سرح
كَاتبا فَرجع إِلَى الْمُشْركين مُرْتَدا، وَاخْتَارَ عَليّ بن أبي
طَالب أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ حَاكما لَهُ فَحكم عَلَيْهِ.
(1/234)
وَصَارَ أَبُو العينا يَوْمًا إِلَى بَاب
صاعد بن مخلد فَاسْتَأْذن عَلَيْهِ فَقيل: هُوَ مَشْغُول بِالصَّلَاةِ،
فَقَالَ: لكل جَدِيد لَذَّة، وَكَانَ صاعد قبل الوزارة نَصْرَانِيّا،
وَالله اعْلَم.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا خلع طغج بن
جف أَمِير دمشق جَيش بن خمارويه بِدِمَشْق، وَاخْتلف جَيش جَيش
عَلَيْهِ لصباه وتقريبه الأرذال وتهديده لقواد أَبِيه فثاروا وقتلوه
ونهبوا دَاره ونهبوا مصر وأحرقوا وأقعدوا أَخَاهُ هَارُون بن خمارويه
فِي الْولَايَة. وَمُدَّة جَيش تِسْعَة أشهر.
وفيهَا: مَاتَ البحتري الشَّاعِر الْوَلِيد بن عبَادَة بمنبج، ومولده
سنة سِتّ وَمِائَتَيْنِ.
قلت: الصَّوَاب أَنه أَبُو عبَادَة بن عبيد بن يحيى بن شملال بن جَابر
بن مسلمة بن مسْهر بن الْحَارِث بن جشم بن أبي حَارِثَة بن جدي بن بدول
بن بحتر نسب إِلَى جده بحتر، ولد بمنبج وَتخرج بهَا، ثمَّ خرج إِلَى
الْعرَاق ومدح جمَاعَة من الْخُلَفَاء أَوَّلهمْ المتَوَكل، قَالَ: صرت
فِي أول أَمْرِي إِلَى أبي تَمام بحمص وَعرضت عَلَيْهِ شعري فَأقبل
عَليّ وَترك النَّاس وَقَالَ: كَيفَ حالك، فشكوت خلة، فَكتب إِلَى أهل
معرة النُّعْمَان وَشهد لي بالحذق وشفع لي إِلَيْهِم وَقَالَ: امتدحهم
فصرت إِلَيْهِم فأكرموني بكتابه ووظفوا لي أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم
فَكَانَت أول مَال أصبتها ذكره ابْن خلكان فِي تَارِيخه.
وَمَا أحسن قصيدته فِي المتَوَكل الَّتِي أَولهَا:
(أُخْفِي هوى لَك فِي الضلوع وأضمر ... وألام من كمد عَلَيْك واعذر)
وَمِنْهَا:
(بِالْبرِّ صمت وَأَنت أفضل صَائِم ... وبسنة اللَّهِ الرضية تفطر)
(فانعم بِيَوْم الْفطر عينا إِنَّه ... يَوْم أغر من الزَّمَان مشهر)
(أظهرت عز الْملك فِيهِ بجحفل ... لجب يحاط الدّين فِيهِ وينصر)
وَمِنْهَا:
(فالخيل تصهل والفوارس تدعى ... وَالْبيض تلمع والأسنة تزهر)
(وَالشَّمْس طالعة توقد فِي الضُّحَى ... طورا ويطفئها العجاج الأكدر)
(حَتَّى طلعت بِنور وَجهك فانجلى ... ذَاك الدجى وأنجاب ذَاك العثير)
(وافتتتن فِيك الناظرون فأصبع ... يومي إِلَيْك بهَا وَعين تنظر)
(ذكرُوا بطلعتك النَّبِي فهللوا ... لما طلعت من الصُّفُوف وَكَبرُوا)
(حَتَّى انْتَهَيْت إِلَى الْمصلى لابسا ... نور الْهدى يَبْدُو
عَلَيْك وَيظْهر)
(ومشيت مشْيَة خاشع متواضع ... لله لَا يزهى وَلَا يتكبر)
(فَلَو أَن مشتاقا تكلّف فَوق مَا ... فِي وَسعه لسعى إِلَيْك
الْمِنْبَر)
(أيدت من فصل الْخطاب بِحكمِهِ ... تنبي عَن الْحق الْمُبين وتخبر)
(ووقفت فِي برد النَّبِي مذكرا ... بِاللَّه تنذر تَارَة وتبشر)
وَالله أعلم.
(1/235)
وفيهَا: توفّي عَليّ بن الْعَبَّاس
الرُّومِي الشَّاعِر.
وفيهَا: أَمر المعتضد أَن يكْتب إِلَى الأقطار يرد الْفَاضِل من سِهَام
الْمَوَارِيث على ذَوي الْأَرْحَام وأبطل ديوَان الموارث.
وفيهَا: أَمر المعتضد بالسب والطعن فِي مُعَاوِيَة وَأَبِيهِ وَابْنه
على المنابر، ثمَّ خشِي من استطالة العلويين فَأمْسك عَنهُ.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا أخبر المنجمون
بغرق أَكثر الأقاليم بِسَبَب كَثْرَة الأمطار وَزِيَادَة الْأَنْهَار
فتحفظ النَّاس، فَقلت الأمطار وَغَارَتْ الْمِيَاه واستسقوا بِبَغْدَاد
مَرَّات.
وفيهَا: اخْتَلَّ حَال هَارُون بن خمارويه بن طولون بِمصْر وَاخْتلف
القواد عَلَيْهِ وانحل نظام مَمْلَكَته من جِهَة طغج بن جف.
وفيهَا: توفّي إِسْحَاق بن مُوسَى الإسفرايني الْفَقِيه الشَّافِعِي.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا فتح المعتضد آمد
بالأمان وَكَانَ صَاحبهَا مُحَمَّد بن أَحْمد بن عِيسَى بن الشَّيْخ،
ثمَّ سَار إِلَى قنسرين فتسلمها وتسلم العواصم من نواب هَارُون بن
خمارويه سَأَلَهُ هَارُون ذَلِك.
وفيهَا: مَاتَ إِبْرَاهِيم بن إِسْحَاق من أَعْيَان الْمُحدثين
بِبَغْدَاد.
قلت: وفيهَا توفّي عَليّ بن عبد الْعَزِيز الطرسوسي راوية أبي عبيد
الْقَاسِم، وَكَانَ بَين مَوْتهمَا سِتُّونَ سنة، كَمَا كَانَ بَين
وَفَاة الشَّافِعِي وراويته الْمُزنِيّ، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا ظهر
بِالْبَحْرَيْنِ أَبُو سعيد الجنابي من القرامطة وَكثر جمعه، وَقتل
جمَاعَة بالقطيف وبتلك الْقرى.
وفيهَا: توفّي الْمبرد أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن
يزِيد إِمَام النَّحْو واللغة وَله كتاب الْكَامِل وَالرَّوْضَة
والمقتضب وَغير ذَلِك، تأدب على أبي عُثْمَان وَغَيره وَأخذ عَنهُ
نفطويه وَغَيره، ومولده سنة سبع وَمِائَتَيْنِ، طلبه صَاحب الشرطة
للمنادمة فكرة ذَلِك فألح الرَّسُول فَأدْخل فِي غلاف مزملة فارغة
لتبريد المَاء فَدخل الرَّسُول فَلم يره، فَلَمَّا مضى الرَّسُول قَالَ
صَاحب الدَّار وَهُوَ أَبُو حَاتِم السجسْتانِي: الْمبرد الْمبرد،
فَصَارَ لقبا عَلَيْهِ:
قلت: وَفِيه وَفِي ثَعْلَب يَقُول أَبُو بكر الغلاف:
(ذهب الْمبرد وَانْقَضَت أَيَّامه ... وليذهبن أثر الْمبرد ثَعْلَب)
(بَيت من الْآدَاب أصبح نصفه ... خربا وَبَاقِي بَيتهَا سيخرب)
وَالله اعْلَم.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا استولى
إِسْمَاعِيل بن أَحْمد الساماني صَاحب مَا رواء النَّهر على خُرَاسَان
بعد قتال وَأسر أَمِير خُرَاسَان وَهُوَ عَمْرو بن الصفار، ثمَّ
(1/236)
أرْسلهُ إِلَى المعتضد بِبَغْدَاد فحبس
عَمْرو بهَا إِلَى أَن قتل سنة تسع وَثَمَانِينَ فِي الْحَبْس.
وفيهَا: سَار مُحَمَّد بن زيد الْعلوِي صَاحب طبرستان إِلَى خُرَاسَان
وَقد سمع أسر ابْن الصفار ليستولي عَلَيْهَا، فَجرى بَينه وَبَين
عَسْكَر إِسْمَاعِيل الساماني قتال ثمَّ انهزم عَسْكَر الْعلوِي وجرح
جراحات ثمَّ مَاتَ الْعلوِي مِنْهَا بعد أَيَّام، وَأسر ابْنه زيد فِي
الْوَقْعَة وَحمل إِلَى إِسْمَاعِيل الساماني فَأكْرمه ووسع عَلَيْهِ،
وَكَانَ مُحَمَّد بن زيد دينا فَاضلا شَاعِرًا حسن السِّيرَة رَحمَه
اللَّهِ تَعَالَى.
وفيهَا: مَاتَ عَليّ بن عبد الْعَزِيز الْبَغَوِيّ بِمَكَّة.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا حفر لُؤْلُؤ
وَالِي المعرة غُلَام وصيف بن صوار تكين أَمِير حمص خَنْدَقًا على معرة
النُّعْمَان وحاصره جهير بن مُحَمَّد التنوخي وَبَنُو كنَانَة وَطَالَ
الْقِتَال، ثمَّ انْصَرف وَلم يفتحها.
وَمن تَارِيخ ابْن الْمُهَذّب - وَهُوَ خلاف مَا قدمْنَاهُ - أَن
فِيهَا قتل أَبُو الْجَيْش خمارويه بن أَحْمد بن طولون قَتله خدامة على
فرَاشه بِدِمَشْق بِحَضْرَة دير مران، وَكَانَت قطر الندى بنت أبي
الْجَيْش قد تزَوجهَا المعتضد وزفت إِلَيْهِ مَعَ ابْن الْجَصَّاص
صَاحب المعتضد، فَقَالَ المعتضد لأَصْحَابه: أكرموها بشمع العنبر،
فَوجدَ فِي الخزانة أَربع شمعات عنبر فِي أَرْبَعَة أتوار فضَّة،
فَلَمَّا كَانَ وَقت الْعشَاء جَاءَت إِلَيْهِ وقدامها أَرْبَعمِائَة
وصيفة فِي يَد كل وَاحِدَة مِنْهُنَّ تور ذهب أَو فضَّة وفيهَا شمعة
عنبر، فَقَالَ المعتضد لأَصْحَابه: أطفئوا شمعنا واسترونا.
وَكَانَت إِذا جَاءَت إِلَى المعتضد يكرمها بطرح مخدة، فَجَاءَت
يَوْمًا فَلم يطْرَح لَهَا فَقَالَت: أعظم اللَّهِ أجر أَمِير
الْمُؤمنِينَ، قَالَ: فِي من؟ قَالَت: فِي عَبده خمارويه، قَالَ: أَو
قد سَمِعت بِمَوْتِهِ؟ قَالَت: لَا وَلَكِنِّي لما رَأَيْتُك تركت
إكرامي علمت أَنه قد مَاتَ أبي، وَكَانَ قد سمع بِمَوْتِهِ وكتمه
عَنْهَا، فَأمر أَن تطرح لَهَا المخدة فِي كل الْأَوْقَات، وَالله
أعلم.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا كَانَت حَرْب
بِالشَّام بَين طغج أَمِير دمشق وَبَين القرامطة.
وفيهَا: لثمان بَقينَ من ربيع الآخر توفّي المعتضد أَبُو الْعَبَّاس
أَحْمد بن طَلْحَة الْمُوفق وَدفن لَيْلًا فِي دَار مُحَمَّد بن
طَاهِر، ومولده فِي ذِي الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين
وَمِائَتَيْنِ، وخلافته تسع سِنِين وَتِسْعَة أشهر وَثَلَاثَة عشر
يَوْمًا، وَخلف من الذُّكُور عليا المكتفي وجعفرا المقتدر وَهَارُون
وَإِحْدَى عشر بِنْتا.
وَلما حضرت المعتضد الْوَفَاة أنْشد أبياتا مِنْهَا:
(وَلَا تأمنن الدَّهْر إِنِّي أمنته ... فَلم يبْق لي خلا وَلم يرع لي
حَقًا)
(قتلت صَنَادِيد الرِّجَال وَلم أدع ... عدوا وَلم أمْهل على ظَنّه
خلقا)
(1/237)
(وأخليت دَار الْملك من كل نَازع ...
فشردتهم غربا ومزقتهم شرقا)
(فَلَمَّا بلغت النَّجْم عزا ورفعة ... وَصَارَت رِقَاب الْخلق أجمع لي
رقا)
(رماني الردى سَهْما فأخمد جمرتي ... فها أَنا ذَا فِي حفرتي عَاجلا
ألْقى
قلت: وَقد ذكرت بِهَذَا بَيْتَيْنِ رأيتهما مكتوبين على قبر بهلوان
حسان صَاحب منبج بمنبج وهما:
(لقد غفلت صروف الدَّهْر عني ... وَبت من الْحَوَادِث فِي أَمَان)
(وكدت أنال فِي الشّرف الثريا ... وَهَا أَنا فِي التُّرَاب كَمَا
تراني)
وَالله أعلم.
وَكَانَ المعتضد شهما مهيبا عِنْد أَصْحَابه يكفون عَن الْمَظَالِم
خوفًا مِنْهُ وَكَانَ عفيفا وَفِيه شح، حكى القَاضِي ابْن إِسْحَاق
قَالَ: أطلت النّظر إِلَى أَحْدَاث روم صباح الْوُجُوه على رَأس
المعتضد، فَلَمَّا قُمْت أَمرنِي بالقعود فَجَلَست، فَلَمَّا تفرق
النَّاس قَالَ: يَا قَاضِي وَالله مَا حللت سراويلي على حرَام قطّ.
(أَخْبَار المكتفي بن المعتضد)
وَلما توفّي المعتضد بُويِعَ للمكتفي ابْنه وَهُوَ سَابِع عشرهم،
وَكَانَ بالرقة وبلغه الْخَبَر، أَخذ الْبيعَة على من عِنْده أَيْضا
وَدخل بَغْدَاد لثمان خلون من جمادي الأولى.
قلت: قَالَ ابْن الْمُهَذّب المعري فِي تَارِيخه: وَلم يل الْخلَافَة
بعد عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ من اسْمه عَليّ غير المكتفي، وَالله
أعلم.
وفيهَا: توفّي إِبْرَاهِيم بن أَحْمد الأغلبي وَقد ذكر من قبل، وَملك
ابْنه عبد اللَّهِ.
ثمَّ دخلت سنة تسعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا اشتدت شَوْكَة القرامطة
حَتَّى هزموا جَيش طغج أَمِير دمشق وحصروا دمشق، ثمَّ اجْتمعت
عَلَيْهِم العساكر وَقتلُوا مقدمهم يحيى الْمَعْرُوف بالشيخ، فَقَامَ
فِي القرامطة أَخُوهُ الْحُسَيْن وَتسَمى بِأَحْمَد وَأظْهر شامة
بِوَجْهِهِ وَزعم أَنَّهَا آيَته وَكثر جمعه فَصَالحه أهل دمشق على
مَال دفعوه، وَانْصَرف فغلب على حمص وخطبوا لَهُ على منابرها وَتسَمى
بالمهدي أَمِير الْمُؤمنِينَ، وعهد إِلَى ابْن عَمه عبد اللَّهِ ولقبه
المدثر وَزعم أَنه المدثر الَّذِي فِي الْقُرْآن.
ثمَّ سَار إِلَى حماه والمعرة وَغَيرهمَا وَقتل أَهلهَا حَتَّى
الْأَطْفَال وَالنِّسَاء، وَأخذ سلمية بالأمان وَقتل أَهلهَا حَتَّى
صبيان الْمكتب.
وَلما اشْتَدَّ أَمر القرمطي صَاحب الشامة خرج المكتفي من بَغْدَاد
وَنزل الرقة وَأرْسل إِلَيْهِ الجيوش.
قلت: قَالَ ابْن الْمُهَذّب المعري فِي تَارِيخه: إِن القرمطي قتل
بمعرة النُّعْمَان بضعَة عشر ألفا وَأقَام بهَا ينهب وَيحرق وَيقتل
خَمْسَة عشر يَوْمًا، وَالله أعلم.
(1/238)
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَتِسْعين
وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا وَاقعَة عَسَاكِر الْخَلِيفَة مَعَ صَاحب الشامة
القرمطي وَأَصْحَابه بمَكَان بَينه وَبَين حماه اثْنَا عشر ميلًا لست
خلون من الْمحرم، فانهزمت القرامطة وتبعهم الْعَسْكَر يَقْتُلُونَهُمْ،
وهرب صَاحب الشامة وَابْن عَمه المدثر وَغُلَام رومي فأمسكوا فِي
الْبَريَّة وأحضروا إِلَى المكتفي بالرقة فَسَار بهم إِلَى بَغْدَاد
وقتلهم وطيف بِرَأْس صَاحب الشامة. وَمن كتاب الشريف العابد: أَن
مَكَان هَذِه الْوَقْعَة هُوَ تمنع قَرْيَة فِي بلد المعرة على
الطَّرِيق الآخذة من حماه إِلَى حلب.
وفيهَا: بِبَغْدَاد توفّي أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن يحيى بن زيد
الْمَعْرُوف يثعلب إِمَام الْكُوفِيّين فِي النَّحْو واللغة ثِقَة
حجَّة صَالح، ومولده أول سنة مِائَتَيْنِ.
قلت: قَالَ أَبُو بكر بن مُجَاهِد الْمقري: قَالَ لي ثَعْلَب: يَا
أَبَا بكر اشْتغل أَصْحَاب الْقُرْآن بِالْقُرْآنِ ففازوا واشتغل
أَصْحَاب الحَدِيث بِالْحَدِيثِ ففازوا واشتغل أَصْحَاب الْفِقْه
بالفقه ففازوا واشتغلت أَنا بزيد وَعَمْرو فليت شعري مَاذَا يكون حَالي
فِي الْآخِرَة، فَانْصَرَفت من عِنْده فَرَأَيْت رَسُول اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تِلْكَ اللَّيْلَة فِي الْمَنَام
فَقَالَ لي: أقرىء أَبَا الْعَبَّاس عني السَّلَام وَقل لَهُ أَنْت
صَاحب الْعلم المستقيل قَالَ أَبُو عبد اللَّهِ الروذابادي العَبْد
الصَّالح: أَرَادَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن
الْكَلَام بِهِ يكمل وَالْخطاب بِهِ يجمل وَأَن جَمِيع الْعُلُوم
مفتقرة إِلَيْهِ، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة اثنيتن وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا انقرض ملك بني
طولون؛ بعث المكتفي جَيْشًا مَعَ مُحَمَّد بن سُلَيْمَان فاستولى على
دمشق، ثمَّ على مصر وصاحبها هَارُون بن خمارويه ففارقه غَالب قوادة
وَلَحِقُوا بعسكر الْخَلِيفَة، وَخرج هَارُون فمين بَقِي مَعَه وَجرى
بَينه وَبَين مُحَمَّد بن سُلَيْمَان وقعات، ثمَّ وَقع فِي عَسْكَر
هَارُون خُصُومَة فَاقْتَتلُوا فَركب هَارُون لتسكينهم فزرقة مغربي
بمزارق فَقتله، فَقَامَ عَمه شَيبَان بِالْأَمر وَطلب الْأمان فَأَمنهُ
مُحَمَّد بن سُلَيْمَان، ثمَّ هرب شَيبَان لَيْلًا وَاسْتولى مُحَمَّد
بن سُلَيْمَان على مصر، وَأمْسك بني طولون وَكَانُوا بضعَة عشر رجلا
واستصفى مَا لَهُم وقيدهم وَحَملهمْ إِلَى بَغْدَاد وَذَلِكَ فِي صفر
مِنْهَا.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا بعد توجه
مُحَمَّد بن سُلَيْمَان عَن مصر خرج الخلنجي الْخَارِجِي بِبِلَاد مصر
واستفحل أمره، فَسَار إِلَيْهِ أَحْمد بن كيغلغ عَامل دمشق، فطمعت
القرامطة فِي دمشق لغيبته فنهبوا فِيهَا وَقتلُوا ونهبوا طبرية ثمَّ
قصدُوا جِهَة الْكُوفَة، فسير المكتفي إِلَيْهِم عسكرا مَعَ المختصين
من قوادة مثل وصيف بن صوارتكين وَالْفضل بن مُوسَى بن بغا وَبشر
الْخَادِم الأفشيني وراتق الْجَزرِي، واقتتلوا وتمت الْهَزِيمَة على
عَسْكَر الْخَلِيفَة وَقتل مِنْهُم خلق وغنم القرامطة مِنْهُم شَيْئا
كثيرا فَتَقووْا بِهِ.
وفيهَا: توفّي عبد اللَّهِ بن مُحَمَّد الناشي الشَّاعِر، وَنصر بن
أَحْمد الْحَافِظ.
وفيهَا: توفّي الزنديق ابْن الراوندي أَحْمد بن يحيى بن إِسْحَاق
الْمُتَكَلّم، لَهُ فِي الْكفْر والإلحاد ومناقضة الشَّرِيعَة مصنفات
مِنْهَا: قضيب الذَّهَب والدامغ والفرند والزمردة، وَقد
(1/239)
أجَاب الْعلمَاء عَن معارضاته السمجة
الرَّكِيكَة، وَوضع كتابا للْيَهُود وَقَالَ لَهُم: قُولُوا عَن مُوسَى
بن عمرَان أَنه قَالَ لَا نَبِي بعدِي، وَقد أضربت عَن ذكر شَيْء من
هذيانه ونزهت عَنهُ هَذَا الْكتاب.
قلت: قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي المنتظم مَا مَعْنَاهُ: الأمل أَن
اللَّهِ تَعَالَى يعذبه يَوْم الْقِيَامَة أَشد من عَذَاب إِبْلِيس
لِأَن إِبْلِيس خَاطب اللَّهِ تَعَالَى بالأدب فَقَالَ: بعزتك، وَهَذَا
أَسَاءَ أدبه على اللَّهِ وَسَماهُ بِمَا هَذَا الملعون جدير بِهِ،
وَالْعجب أَن الْعَوام يَضْحَكُونَ لأقواله ويغفلون عَن كَونه سبّ
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي بعض مصنفاته فِي
عدَّة مَوَاضِع:
(أَلا يَا لَيْتَني مكنت مِنْهُ ... فَكنت فعلت فِيهِ مَا أَشَاء)
(فَإِن أبي ووالده وعرضي ... لعرض مُحَمَّد مِنْهُ وقاء)
وَالله أعلم.
وَمَات لَعنه اللَّهِ وَلعن محبه برحبة مَالك بن طوق، وَذكر أَن عمره
سِتّ وَثَلَاثُونَ سنة، وتاريخ وَفَاته عِنْد ابْن خلكان سنة خمس
وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَقيل: سنة خمسين وَمِائَتَيْنِ.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا أخذت القرامطة
الْحجَّاج من طَرِيق الْعرَاق وقتلوهم وهم عشرُون ألفا وَأخذُوا
مِنْهُم أَمْوَالًا عَظِيمَة وَكَانَ كَبِير القرامطة زكرويه، فَجهز
المكتفي عسكرا قَاتلهم، فَانْهَزَمَ القرامطة وَقتل مِنْهُم خلق وَأسر
اللعين زكرويه جريحا وَمَات بعد سِتَّة أَيَّام، وَقدم الْعَسْكَر
بِرَأْسِهِ إِلَى بَغْدَاد وطيف بِهِ.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن نصر الْمروزِي بسمرقند، وَله تصانيف
كَثِيرَة.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا فِي صفر توفّي
إِسْمَاعِيل بن أَحْمد الساماني الْمَذْكُور، وَأرْسل المكتفي
لِابْنِهِ أبي نصر أَحْمد التَّقْلِيد.
وفيهَا: لثنتي عشرَة لَيْلَة خلت من ذِي الْقعدَة توفّي المكتفي
بِاللَّه، وخلافته سِتّ سِنِين وَسِتَّة أشهر وَتِسْعَة عشر يَوْمًا
وعمره ثَلَاث وَثَلَاثُونَ سنة. كَانَ ربعَة جميلا رَقِيق السمرَة حسن
الْوَجْه وَالشعر وافر اللِّحْيَة، وَأمه حجج التركية أم ولد، وَطَالَ
مَرضه شهورا وَدفن بدار مُحَمَّد بن طَاهِر.
(أَخْبَار المقتدر بِاللَّه بن المعتضد)
وبويع المقتدر بِاللَّه أَبُو الْفضل جَعْفَر بن المعتضد بِاللَّه
وَهُوَ ثامن عشرهم يَوْم توفّي المكتفي وعمره يَوْم بُويِعَ ثَلَاث
عشرَة سنة، وَأمه شعب أم ولد.
وفيهَا: توفّي الْمُنْذر بن مُحَمَّد الْأمَوِي، فبويع يَوْم مَوته
بالأندلس لثلاث عشرَة بقيت من صفر.
وفيهَا: فِي الْمحرم توفّي أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن أَحْمد بن نصر
التِّرْمِذِيّ الْفَقِيه الشَّافِعِي الْمُحدث، روى عَن يحيى بن يزِيد
الْمصْرِيّ ويوسف بن عدي وَكثير بن يحيى، وروى عَنهُ
(1/240)
أَحْمد بن كَامِل الشَّافِعِي وَغَيره،
ومولده سنة مِائَتَيْنِ، وَقيل: سِتّ عشر وَمِائَتَيْنِ.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا خلع المقتدر، خلعه
القواد والقضاة، وبويع عبد اللَّهِ بن المعتز ولقب الراضي بِاللَّه،
وَجَرت بَين المريدين لهَذَا والمريدين للمقتدر حروب آخرهَا هزيمَة
ابْن المعتز واختفاؤه وتفرق أَصْحَابه ثمَّ أمسك ابْن المعتز وَحبس
لَيْلَتَيْنِ وخنق وَقَالُوا: مَاتَ حتف أَنفه وأخرجوه إِلَى أَهله.
وَولد ابْن المعتز لسبع بَقينَ من شعْبَان سنة سبع وَأَرْبَعين
وَمِائَتَيْنِ وَكَانَ فَاضلا شَاعِرًا بتشبيهاته يضْرب الْمثل، وَأخذ
عَن الْمبرد وثعلب، وَتَوَلَّى الْخلَافَة يَوْمًا وَاحِدًا فَقَالَ:
قد آن للحق أَن يَتَّضِح وللباطل أَن يفتضح. وَمن بليغ قَوْله: أنفاس
الْحَيّ خطاه إِلَى أَجله وَرُبمَا أورد الطمع وَلم يصدر، يشفيك من
الْحَاسِد أَن يغتم وَقت سرورك.
وَكَانَ آمنا فِي سربه منعكفا على طلب الْعلم وَالشعر، قد اشْتهر عِنْد
الْخُلَفَاء أَنه لم يؤهل نَفسه للخلافة، فاستراح إِلَى أَن حمله على
الْخلَافَة الَّذين خذلوه بعد بيعَته. ورثاه عَليّ بن مُحَمَّد بن بسام
فَقَالَ:
(لله دَرك من ملك بمضيعة ... ناهيك فِي الْعلم والآداب والحسب)
(مَا فِيهِ لَوْلَا وَلَا لَيْت فينقصه ... وَإِنَّمَا أَدْرَكته
حِرْفَة الْأَدَب)
وَقيل إِنَّه كَانَ يَنْوِي للطالبيين شرا فدعوا عَلَيْهِ.
وفيهَا: فِي مستهل رَمَضَان ولي أَبُو نصر زِيَادَة اللَّهِ إفريقية،
وَذَلِكَ أَن زِيَادَة اللَّهِ حَبسه أَبوهُ عبد اللَّهِ على شرب
الْخمر فاتفق مَعَ ثَلَاثَة من خدم أَبِيه الصقالبة على قتل أَبِيه
فَقَتَلُوهُ وَجَاءُوا بِرَأْسِهِ وَهُوَ فِي الْحَبْس، فَلَمَّا تولى
زِيَادَة اللَّهِ قَتلهمْ وانعكف على اللَّذَّات والمضحكين وأهمل
أُمُور المملكة وَقتل من الأغالبة من قدر عَلَيْهِ من أَعْمَامه
وَإِخْوَته.
وَفِي أَيَّام زِيَادَة اللَّهِ قوي أَمر أبي عبد اللَّهِ الشيعي
الْقَائِم بدعوة الدولة الفاطمية بالمغرب، فَأرْسل إِلَيْهِ زِيَادَة
اللَّهِ جَمِيع عسكره أَرْبَعِينَ ألفا مَعَ إِبْرَاهِيم من بني عَمه
فَهَزَمَهُمْ الشيعي فضعف زِيَادَة اللَّهِ، وَجمع الْأَمْوَال فَقدم
مصر وَبهَا النوشري عَاملا فَكتب النوشري بأَمْره إِلَى المقتدر.
ثمَّ سَار زِيَادَة اللَّهِ إِلَى الرقة، فَأمره المقتدر بِالْعودِ
إِلَى الْمغرب لقِتَال الشيعي وَكتب إِلَى النوشري عَامله بإمداد
زِيَادَة اللَّهِ بالعساكر وَالْأَمْوَال، فَقدم إِلَى مصر فَأمره
النوشري بِالْخرُوجِ إِلَى الحمامات ليخرج إِلَيْهِ مَا يخْتَار من
المَال وَالرِّجَال ومطلة النوشري، هَذَا وَزِيَادَة اللَّهِ ملازم
للهو وَسَمَاع الْغناء وَالْخمر وَطَالَ مقَامه هُنَاكَ، فَتفرق
أَصْحَابه وَمرض وَسَقَطت لحيته وأيس من النوشري، فَسَار ليقيم بالقدس
فَمَاتَ وَدفن بالرملة، وَلم يبْق من بني الْأَغْلَب أحد، وَكَانَت
مُدَّة ملكهم مائَة واثنتي عشرَة سنة تَقْرِيبًا. فسبحان الَّذِي لَا
يَزُول ملكه.
وفيهَا: ابْتِدَاء ملك العلويين بإفريقية وانقرضت دولتهم بِمصْر،
وَسَيَأْتِي أَوَّلهمْ أَبُو
(1/241)
مُحَمَّد عبيد اللَّهِ بن مُحَمَّد بن عبد
اللَّهِ بن مَيْمُون بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بن
مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب، وَقيل: هُوَ
عبيد اللَّهِ بن أَحْمد بن إِسْمَاعِيل الياني بن مُحَمَّد بن
إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ
بن أبي طَالب رَضِي اللَّهِ عَنْهُم.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي نسبه، فَمن قَالَ بإمامته قَالَ: نسبه صَحِيح،
وَمن العلويين من وَافق عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ الشريف الرضي:
(مَا مقَامي على الهوان وَعِنْدِي ... مقول صارم وأنف حمي)
(ألبس الذل فِي بِلَاد الأعادي ... وبمصر الْخَلِيفَة الْعلوِي)
(من أَبوهُ أبي ومولاه مولَايَ ... إِذا ضامني الْبعيد القصي)
(لف عرقي بِعَرَفَة سيدا النَّاس ... جَمِيعًا مُحَمَّد وَعلي)
وَقيل: نسبهم مَدْخُول، وَبَالغ قوم حَتَّى جعلُوا نسبهم فِي الْيَهُود
فَقَالُوا: لم يكن اسْم الْمهْدي عبيد اللَّهِ بل كَانَ اسْمه سعيد بن
أَحْمد بن عبد اللَّهِ القداح بن مَيْمُون بن ديصان.
وَقيل: عبيد اللَّهِ بن مُحَمَّد، وَقيل فِيهِ: سعيد بن الْحُسَيْن
وَأَن الْحُسَيْن الْمَذْكُور قدم سلمية فَجرى بِحَضْرَتِهِ حَدِيث
النِّسَاء فوصفوا لَهُ امْرَأَة يَهُودِيّ حداد بسلمية مَاتَ زَوجهَا،
فَتَزَوجهَا الْحُسَيْن بن مُحَمَّد الْمَذْكُور بن أَحْمد بن عبد
اللَّهِ القداح، وَكَانَ للْمَرْأَة ولد من الْيَهُودِيّ فَأَحبهُ
الْحُسَيْن وأدبه، وَمَات الْحُسَيْن وَلَا ولد لَهُ فعهد إِلَى ابْن
الْيَهُودِيّ الْحداد وَهُوَ الْمهْدي عبيد اللَّهِ وعرفه أسرار
الدعْوَة وَأَعْطَاهُ الْأَمْوَال والعلامات، فَدَعَا لَهُ الدعاة.
وَقد اخْتلف كَلَام المؤرخين وَكثر فِي قصَّة عبد اللَّهِ القداح بن
مَيْمُون بن ديصان، قَالُوا: ابْن ديصان الْمَذْكُور هُوَ صَاحب كتاب
الْمِيزَان فِي نصْرَة الزندقة، وَكَانَ يظْهر التَّشَيُّع لآل
الْبَيْت رَضِي اللَّهِ عَنْهُم، وَنَشَأ لميمون بن ديصان ولد اسْمه
عبد الله القداح كَانَ يعالج الْعُيُون بالقدح، وَتعلم من أَبِيه
مَيْمُون الْحِيَل وأطلعه أَبوهُ على أسرار الداعة لآل النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
ثمَّ سَار القداح وَقَامَ ابْنه أَحْمد، وَقيل مُحَمَّد مقَامه،
وَصَحبه رستم بن الْحُسَيْن بن حَوْشَب بن زَاذَان النجار من أهل
الْكُوفَة، فَأرْسل احْمَد إِلَى الشِّيعَة بِالْيمن يَدْعُو إِلَى
الْمهْدي من آل مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -،
فَسَار رستم إِلَى الْيمن ودعا الشِّيعَة فَأَجَابُوهُ.
وَكَانَ أَبُو عبد الله الشيعي الْحُسَيْن بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن
زَكَرِيَّا من صنعاء، وَقيل: من الْكُوفَة، وَسمع بقدوم ابْن حَوْشَب
إِلَى الْيمن وبدعوته، فَسَار أَبُو عبد اللَّهِ الشيعي علم صنعاء
إِلَى ابْن حَوْشَب وَكَانَ بعدن فصحبه واختص بِهِ وَكَانَ لأبي عبد
اللَّهِ الشيعي علم ودهاء، وَكَانَ قد أرسل ابْن حَوْشَب قبل ذَلِك
الدعاة إِلَى الْمغرب وَقد أَجَابَهُ أهل كتامة.
وَلما رأى ابْن حَوْشَب علم الشيعي ودهاه أرْسلهُ أرْسلهُ إِلَى
الْمغرب إِلَى أهل كتامة وَأرْسل. مَعَه جملَة من المَال، فَسَار
الشيعي إِلَى مَكَّة، وَلما قدم الْحَاج إِلَى مَكَّة اجْتمع بالمغاربة
من أهل كتامة فَرَآهُمْ محبين إِلَى مَا يخْتَار فَسَار مَعَهم إِلَى
كتامة فَقَدمهَا منتصف ربيع الأول سنة
(1/242)
ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَأَتَاهُ
الْبَرِيد من كل مَكَان وَعظم أمره وَكَانَ اسْمه عِنْدهم أَبَا عبد
اللَّهِ المشرقي، وَبلغ أمره إِلَى إِبْرَاهِيم بن أَحْمد الأغلبي
أَمِير إفريقية فاحتقره.
ثمَّ مضى الشيعي إِلَى مَدِينَة تاهرت فَعظم وأتته الْقَبَائِل من كل
مَكَان، وَبَقِي كَذَلِك حَتَّى تولى أَبُو مُضر زِيَادَة اللَّهِ آخر
بني الْأَغْلَب، وَكَانَ عَم زِيَادَة اللَّهِ وَيعرف بالأحول قبالة
الشيعي يقاتله، فَلَمَّا تولى زِيَادَة اللَّهِ قتل عَمه الْأَحول فصفت
الْبِلَاد للشيعي.
وَسبب اتِّصَال الْمهْدي عبيد اللَّهِ بِأبي عبد اللَّهِ الشيعي: أَن
الدعاة بالمغرب كَانُوا يدعونَ إِلَى مُحَمَّد وَالِد الْمهْدي وَكَانَ
بسليمة، فَلَمَّا توفّي أوصى إِلَى ابْنه عبيد اللَّهِ الْمهْدي وأطلعه
على حَال الدعاة، وشاع ذَلِك فِي أَيَّام المكتفي فَطلب عبيد اللَّهِ
فهرب وَهُوَ وَابْنه أَبُو الْقَاسِم مُحَمَّد الَّذِي ولي بعد
الْمهْدي وتلقب بالقائم وتوجها نَحْو الْمغرب، وَوصل عبيد اللَّهِ
الْمهْدي إِلَى مصر فِي زِيّ التُّجَّار وعامل مصر حِينَئِذٍ عِيسَى
النوشري وَقد كتب إِلَيْهِ الْخَلِيفَة يتطلب عبيد اللَّهِ الْمهْدي،
فجد الْمهْدي فِي الْهَرَب وَقدم طرابلس الغرب وَزِيَادَة اللَّهِ بن
الْأَغْلَب يتَوَقَّع عَلَيْهِ وَقد كتب إِلَى عماله بإمساكه مَتى
ظفروا بِهِ، فهرب من طرابلس وَلحق بسجلماسة فَأَقَامَ بهَا وصاحبها
يَوْمئِذٍ اليسع بن مدرار فهاداه الْمهْدي على أَنه تَاجر قد قدم فوصل
كتاب زِيَادَة اللَّهِ إِلَى اليسع يُعلمهُ أَن هَذَا الرجل هُوَ
الَّذِي يَدْعُو أَبُو عبد اللَّهِ الشيعي إِلَيْهِ فَقبض اليسع على
عبيد اللَّهِ الْمهْدي وحبسه بسجلماسة.
وَلما كَانَ من قتل زِيَادَة اللَّهِ عَمه الْأَحول وهرب زِيَادَة
اللَّهِ واستيلاء أبي عبد اللَّهِ الشيعي على إفريقية مَا قدمنَا ذكره
سَار أَبُو عبد اللَّهِ الشيعي من رقادة فِي رَمَضَان من هَذِه السّنة
أَعنِي سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَة إِلَى سجلماسة واستخلف الشيعي
أَخَاهُ أَبَا الْعَبَّاس وَأَبا زاكي على إفريقية، فَلَمَّا قرب من
سجلماسة خرج صَاحبهَا اليسع وقاتله فهرب اليسع لَيْلًا، وَدخل الشيعي
سجلماسة وَأخرج الْمهْدي وَولده من السجْن واركبهما وَمَشى هُوَ ورؤوس
الْقَبَائِل بَين أَيْدِيهِمَا وَأَبُو عبد اللَّهِ يُشِير إِلَى
الْمهْدي وَيَقُول للنَّاس: هَذَا مولاكم وَهُوَ يبكي من شدَّة
الْفَرح، حَتَّى وصل إِلَى فسطاطا قد نصب لَهُ، وَلما اسْتَقر الْمهْدي
فِيهِ أَمر بِطَلَب اليسع صَاحب سجلماسة فَأدْرك وأحضر بَين يَدَيْهِ
فَقتله.
وَأقَام الْمهْدي بسجلماسة أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَسَار إِلَى إفريقية،
وَوصل إِلَى رقادة فِي ربيع الآخر سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ
فدون الدَّوَاوِين وجبى الْأَمْوَال وَبعث الْعمَّال إِلَى سَائِر
بِلَاد الْمغرب، وَاسْتعْمل على جَزِيرَة صقلية الْحسن بن أَحْمد بن
أبي حفرير. وَزَالَ بالمهدي ملك بني الْأَغْلَب وَملك بني مدرار
أَصْحَاب مملكة سجلماسة وَآخرهمْ اليسع وَمُدَّة ملك بني مدرار مائَة
وَثَلَاثُونَ سنة، وَزَالَ ملك بني رستم من تاهرت ومدته مائَة
وَسِتُّونَ سنة.
وباشر الْمهْدي الْأُمُور بِنَفسِهِ، وَلم يبْق للشيعي وَلَا لِأَخِيهِ
حكم والفطام صَعب، فشرع أَبُو الْعَبَّاس أَخُو الشيعي ينْدَم أَخَاهُ
وَيَقُول: أخرجت الْأَمر عَنْك وَأَخُوهُ ينهاه عَن قَول مثل ذَلِك
إِلَى أَن أحنقه وَذَلِكَ يبلغ الْمهْدي، حَتَّى شرع يَقُول لرؤوس
الْقَبَائِل: لَيْسَ هَذَا
(1/243)
الْمهْدي الَّذِي دعوناكم إِلَيْهِ،
فطلبهما الْمهْدي وقتلهما فِي سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ، وَقيل
فِي غَيرهَا.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَسنة ثَمَان وَتِسْعين
وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا توفّي أَبُو الْقَاسِم الْجُنَيْد بن مُحَمَّد
الصُّوفِي إِمَام وقته، أَخذ الْفِقْه عَن أبي ثَوْر والتصوف عَن سري
السَّقطِي.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا قبض المقتدر على
وزيره أبي الْحسن بن الْفُرَات ونهبه وهتك حرمه، وَولى الوزارة أَبَا
عَليّ مُحَمَّد بن يحيى بن عبيد اللَّهِ بن خاقَان، وَكَانَ الخاقاني
ضجورا وتحكمت عَلَيْهِ أَوْلَاده فَكل مِنْهُم يسْعَى لمن يرتشي
مِنْهُ، فَكَانَ يولي الْعَمَل الْوَاحِد عدَّة من الْعمَّال فِي
الْأَيَّام القليلة حَتَّى ولى الْكُوفَة فِي عشْرين يَوْمًا سَبْعَة
عُمَّال فَقيل فِيهِ:
(وَزِير قد تَكَامل فِي الرقاعة ... يولي ثمَّ يعْزل بعد سَاعَة)
(إِذا أهل الرشا اجْتَمعُوا عَلَيْهِ ... فَخير الْقَوْم أوفرهم
بضَاعَة)
والخليفة مَعَ ذَلِك يتَصَرَّف على مُقْتَضى إِشَارَة النِّسَاء
والخدام، فَخرجت الممالك وطمع الْعمَّال فِي الْأَطْرَاف.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن أَحْمد بن كيسَان الْعَالم
بِنَحْوِ الْبَصرِيين والكوفيين، وَإِسْحَاق بن حنين الطَّبِيب.
ثمَّ دخلت سنة ثلثمِائة: فِيهَا عزل المقتدر الخاقاني عَن الوزارة
وولاها عَليّ بن عِيسَى.
وفيهَا: توفّي عبد اللَّهِ بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الحكم بن
هِشَام بن عبد الرَّحْمَن الدَّاخِل بن مُعَاوِيَة بن هِشَام بن عبد
الْملك بن مَرْوَان صَاحب الأندلس فِي ربيع الأول، وَكَانَ أَبيض أصهب
أَزْرَق ربعَة يخضب بِالسَّوَادِ وولايته خمس سِنِين وَأحد عشر شهرا،
وَله أحد عشر ابْنا أحدهم مُحَمَّد الْمَقْتُول قَتله أَبوهُ
الْمَذْكُور فِي حد وَهُوَ وَالِد عبد الرَّحْمَن النَّاصِر، وَلما
توفّي عبد اللَّهِ ولي ابْن ابْنه عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد
الْمَقْتُول وَنزل بِحَضْرَة أَعْمَامه وأعمام أَبِيه وَلم
يَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وثلثمائة: فِيهَا فِي جمادي الْآخِرَة قتل
السَّلمَانِي أَحْمد بن إِسْمَاعِيل صَاحب خُرَاسَان وَمَا وَرَاء
النَّهر ذبحه لَيْلًا غلمانه على سَرِيره فِي الصَّيْد وهربوا، فَحمل
وَدفن ببخارا، وظفروا ببعضهم فَقَتَلُوهُمْ. وَولى بعده ابْنه أَبُو
الْحسن نصر ابْن ثَمَانِي سِنِين.
وفيهَا: قتل كَبِير القرامطة أَبُو سعيد الْحسن بن بهْرَام الجنابي
قَتله خَادِم لَهُ صقلي فِي الْحمام واستدعى من كبرائهم أَرْبَعَة
وَاحِدًا بعد وَاحِد على لِسَان استاذه وقتلهم فَعَلمُوا بِهِ وقتلوه،
وَتَوَلَّى بعده بعهده ابْنه سعيد الْأَكْبَر فغلبه أَخُوهُ الْأَصْغَر
أَبُو طَاهِر سُلَيْمَان، وَكَانَ أَبُو سعيد مستوليا على هجر والأحساء
والقطيف وَسَائِر بِلَاد الْبَحْرين.
(1/244)
وفيهَا: بعث الْمهْدي جَيْشًا مَعَ ابْنه
أبي الْقَاسِم مُحَمَّد إِلَى ديار مصر فاستولى على الْإسْكَنْدَريَّة
والفيوم، فَبعث إِلَيْهِم المقتدر جَيْشًا فأجلاهم، فعادوا إِلَى
الْمغرب.
وفيهَا: توفّي القَاضِي أَبُو عبد اللَّهِ مُحَمَّد بن أَحْمد الْمقري
الثَّقَفِيّ.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن يحيى بن مندة الْحَافِظ، لَهُ تَارِيخ
أصفهان، ثِقَة من بَيت كَبِير خرج مِنْهُ عُلَمَاء.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وثلثمائة: فِيهَا قبض المقتدر على
الْحُسَيْن بن عبد اللَّهِ بن الْجَصَّاص الْجَوْهَرِي وَأخذ مِنْهُ
صنوفا قيمتهَا أَرْبَعَة آلَاف ألف دِينَار.
وفيهَا: أرسل الْمهْدي الْعلوِي جَيْشًا مقدمه حُبَاشَة فِي الْبَحْر
فاستولى على الْإسْكَنْدَريَّة، فَأرْسل المقتدر جَيْشًا مقدمه يُونُس
الْخَادِم، فَاقْتَتلُوا بَين مصر والإسكندرية أَربع مَرَّات انْهَزَمت
فِيهِ المغاربة وَقتل خلق وعادوا إِلَى بِلَادهمْ.
وفيهَا: انْتهى تَارِيخ أبي جَعْفَر الطَّبَرِيّ.
وفيهَا وَقيل فِي السّنة قبلهَا: توفّي عَليّ بن أَحْمد بن مَنْصُور
البسامي من أَعْيَان الشُّعَرَاء، كثير الهجاء هجا أَبَاهُ وَإِخْوَته
وَأهل بَيته، وَله فِي الْقَاسِم بن عبيد اللَّهِ وَزِير المعتضد:
(قل لأبي الْقَاسِم المرزي ... قابلك الدَّهْر بالعجائب)
(مَاتَ لَك ابْن وَكَانَ زينا ... وعاش ذُو الشين والمعائب)
(حَيَاة هَذَا كموت هَذَا ... فلست تَخْلُو من المصائب)
وَله فِي المتَوَكل لما هدم قبر الْحُسَيْن:
(بِاللَّه إِن كَانَت أُميَّة قد أَتَت ... قتل ابْن بنت نبيها
مَظْلُوما)
(فَلَقَد أَتَاهُ بَنو أَبِيه بِمثلِهِ ... هَذَا لعمرك قَبره مهدوما)
(أسفوا على أَن لَا يَكُونُوا شاركوا ... فِي قَتله فتتبعوه رميما)
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وثلثمائة: فِيهَا اخْتَار الْمهْدي مَوضِع
المهدية على السَّاحِل وَهِي جَزِيرَة مُتَّصِلَة بِالْبرِّ كَهَيئَةِ
الْكَفّ مُتَّصِلَة بزند، فبناها وَجعلهَا دَار ملكه بسور مُحكم وأبواب
وزن المصراع مائَة قِنْطَار وَقَالَ: الْآن أمنت على الفاطميات
بحصانتها.
وفيهَا: أغارت الرّوم على الثغور الجزرية فغنموا وَسبوا.
وفيهَا: توفّي أَبُو عبد الرَّحْمَن أَحْمد بن عَليّ بن شُعَيْب
النَّسَائِيّ صَاحب كتاب السّنَن بِمَكَّة وَدفن بَين الصَّفَا
والمروة، إِمَام حَافظ مُحدث رَحل إِلَى نيسابور ثمَّ الْعرَاق ثمَّ
إِلَى الشَّام ومصر وَعَاد إِلَى دمشق فامتحن فِي مُعَاوِيَة وَطلب
مِنْهُ أَن يروي شَيْئا من فضائله فَقَالَ: مَا يرضى مُعَاوِيَة أَن
يكون رَأْسا بِرَأْس حَتَّى يفضل، فَقيل: إِنَّه وَقع فِي حَقه
مَكْرُوه فَحمل إِلَى مَكَّة.
(1/245)
وفيهَا: توفّي أَبُو عَليّ مُحَمَّد بن عبد
الْوَهَّاب الجبائي المعتزلي.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وثلثمائة: فِيهَا توفّي النَّاصِر الْعلوِي صَاحب
طبرستان وعمره تسع وَسَبْعُونَ وَيُسمى الأطروش، وَهُوَ الْحسن بن
عَليّ بن الْحسن بن عمر بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي
اللَّهِ عَنْهُم، ملك طبرستان سنة إِحْدَى وثلثمائة.
وفيهَا: توفّي يُوسُف بن الْحُسَيْن بن عَليّ الرَّازِيّ صَاحب ذِي
النُّون الْمصْرِيّ وَهُوَ صَاحب قصَّة الْغَار مَعَه،
ثمَّ دخلت سنة خمس وثلثمائة: فِيهَا مَاتَ أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن
عُثْمَان العسكري الْمَعْرُوف بالسمان وبالمعري رَئِيس الإمامية، ادّعى
أَنه الْبَاب إِلَى الإِمَام المنتظر.
وفيهَا: قدم رَسُول ملك الرّوم إِلَى بَغْدَاد، فَلَمَّا استحضر عبىء
لَهُ الْعَسْكَر وصفت الدَّار بالأسلحة وأنواع الزِّينَة وَجُمْلَة
الْعَسْكَر المصفوف مائَة ألف وَسِتُّونَ ألفا مَا بَين رَاكب وواقف،
ووقفت الغلمان الحجرية بالزينة والمناطق المحلاة، ووقف الخدام الخصيان
كَذَلِك وَكَانُوا سَبْعَة آلَاف أَرْبَعَة آلَاف خَادِم أَبيض
وَثَلَاث آلَاف أسود، ووقف الْحجاب كَذَلِك وهم حِينَئِذٍ سَبْعمِائة
حَاجِب، وألقيت المراكب والزبازب فِي دجلة بأعظم زِينَة، وزينت دَار
الْخلَافَة فَكَانَت الستور الْمُعَلقَة عَلَيْهَا ثَمَانِيَة
وَثَلَاثِينَ ألف ستر مِنْهَا ديباج مَذْهَب اثْنَا عشر ألفا
وَخَمْسمِائة وَكَانَت الْبسط اثْنَيْنِ وَعشْرين ألفا، وَكَانَ
هُنَاكَ مائَة سبع مَعَ مائَة سِبَاع وَكَانَ فِي جملَة الزِّينَة
شَجَرَة من ذهب وَفِضة تشْتَمل على ثَمَانِيَة عشر غصنا، وعَلى الأغصان
والقضبان الطُّيُور والعصافير من الذَّهَب وَالْفِضَّة وَكَذَلِكَ
أوراق الشَّجَرَة من الذَّهَب وَالْفِضَّة والأغصان تتمايل بحركات
مَوْضُوعَة والطيور تصفر بحركات مرتبَة.
وَشَاهد الرَّسُول من العظمة مَا يطول شَرحه، وأحضر بَين يَدي المقتدر
وَصَارَ الْوَزير يبلغ كَلَامه إِلَى الْخَلِيفَة وَيرد الْجَواب عَن
الْخَلِيفَة.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وثلثمائة: فِيهَا جعل على شرطة بَغْدَاد يحجّ
الطولوني فَجعل فِي الأرباع فُقَهَاء تعْمل أَصْحَاب الشرطة بفتواهم،
فضعفت هَيْبَة السلطنة وطمعت العيارون وَأخذت ثِيَاب النَّاس فِي
الطّرق وَكَثُرت الْفِتَن.
وفيهَا: جهز الْمهْدي جَيْشًا كثيفا مَعَ ابْنه الْقَائِم إِلَى مصر،
فوصل الْإسْكَنْدَريَّة وَاسْتولى عَلَيْهَا، ثمَّ وصل الجيزة وَملك
الأشموفين وَكَثِيرًا من الصَّعِيد. وَبعث المقتدر مؤنسا الْخَادِم،
وَجَرت بَينه وَبَين الْقَائِم وقعات وَوصل إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة من
جِهَة إفريقية ثَمَانُون مركبا نجدة للقائم، وَأرْسل المقتدر خَمْسَة
وَعشْرين مركبا من طرطوس لقِتَال مراكب الْقَائِم، فالتقت المراكب
والمراكب على رشيد واقتتلوا واقتتلت العساكر فِي الْبر، فَهزمَ عَسْكَر
الْمهْدي ومراكبه وعادوا إِلَى إفريقية بعد أَن قتل مِنْهُم وَأسر.
(1/246)
وفيهَا: توفّي القَاضِي مُحَمَّد بن خلف بن
حبَان الضَّبِّيّ الْمَعْرُوف بِابْن وَكِيع عَالم بأخبار النَّاس،
لَهُ تصانيف حَسَنَة.
وفيهَا: فِي جمادي الأولى توفّي الإِمَام أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن
سُرَيج الْفَقِيه الشَّافِعِي من الْأَئِمَّة العظماء وَيُقَال لَهُ
الباز الْأَشْهب ولي قَضَاء شيراز وَله أَرْبَعمِائَة مُصَنف، وَمِنْه
أشتهر مَذْهَب الشَّافِعِي فِي الافاق حَتَّى قَالُوا فِي عصره: إِن
اللَّهِ أظهر عمر بن عبد الْعَزِيز على رَأس الْمِائَة من الْهِجْرَة
فأحيا كل سنة وأمات كل بِدعَة، ثمَّ من اللَّهِ على النَّاس بالشافعي
على رَأس الْمِائَتَيْنِ فأظهر السّنة وأخفى الْبِدْعَة، وَمن اللَّهِ
على رَأس الثلثمائة بِابْن سُرَيج فقوى كل سنة وَضعف كل بِدعَة؛ وجده
سُرَيج مَشْهُور بالصلاح.
ثمَّ دخلت سنة سبع وثلثمائة: فِيهَا انقرضت دولة الأدارسة العلويين
وتغلب عَلَيْهِم فضَالة بن حيوس، ثمَّ ظهر من الأدراسة حسن بن مُحَمَّد
بن الْقَاسِم بن إِدْرِيس ورام رد الدولة وَقد أخذت فِي الاختلال ودولة
الْمهْدي عبيد اللَّهِ فِي الإقبال فَملك عَاميْنِ، ثمَّ لم يتم لَهُ
مطلب وانقرضت دولتهم من جَمِيع الْمغرب الْأَقْصَى، وَحمل غَالب
الأدارسة إِلَى الْمهْدي وَولده إِلَّا من اختفى مِنْهُم فِي الْجبَال
إِلَى أَن سَار بعد الْأَرْبَعين وثلثمائة إِدْرِيس من ولد مُحَمَّد بن
الْقَاسِم بن إِدْرِيس فَأَعَادَ الْإِمَامَة لهَذَا الْبَيْت.
ثمَّ تغلب على بر العدوة عبد الْملك بن المصنور بن أبي عَامر وخطب فِي
تِلْكَ الْبِلَاد لبني أُميَّة، ثمَّ رَجَعَ عبد الْملك إِلَى الأندلس
فاضطربت دولته ببر العدوة، فتغلب بَنو أبي الْعَافِيَة الزناتيون على
فاس حَتَّى ظهر يُوسُف بن تاشفين أَمِير الْمُسلمين فاستولى على تِلْكَ
الْبِلَاد.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسنة تسع وثلثمائة: فِيهَا قتل الحلاج
الْحُسَيْن بن مَنْصُور قدم من خُرَاسَان إِلَى الْعرَاق ثمَّ إِلَى
مَكَّة وَأقَام سنة فِي الْحجر لَا يستظل بسقف يَصُوم الدَّهْر وَيفْطر
بِمَاء وَثَلَاث عضات من قرص، ثمَّ قدم بَغْدَاد متزهدا متصوفا يخرج
للنَّاس من فَاكِهَة الشتَاء فِي الصَّيف، وَفَاكِهَة الصَّيف فِي
الشتَاء، ويمد يَده فِي الْهَوَاء وَيُعِيدهَا مَمْلُوءَة دَرَاهِم
أحدية يسميها دَرَاهِم الْقُدْرَة، ويخبر النَّاس بِمَا أكلوه وَمَا
صنعوه فِي بُيُوتهم وَبِمَا فِي ضمائرهم فَاعْتقد قوم فِيهِ الْحُلُول.
وَاخْتلف قوم فِيهِ كالاختلاف فِي الْمَسِيح، وَقَالَ قوم: هُوَ ولي
اللَّهِ، وَقيل: مشعبذ، وَقيل: سَاحر.
وَالْتمس حَامِد بن الْعَبَّاس الْوَزير من المقتدر تَسْلِيمه
إِلَيْهِ، فَأمره بِتَسْلِيمِهِ فَكَانَ حَامِد يخرج الحلاج إِلَى
مَجْلِسه ويستنطقه فَلَا يظْهر مِنْهُ مَا تكرههُ الشَّرِيعَة وحامد
مجد فِي أمره ليَقْتُلهُ، ثمَّ رأى لَهُ كتابا حكى فِيهِ: إِن
الْإِنْسَان إِذا أَرَادَ الْحَج وَلم يُمكنهُ أفرد من دَاره بَيْتا
نظيفا من النَّجَاسَات وَلَا يدْخلهُ أحد وَإِذا حضرت أَيَّام الْحَج
طَاف حوله وَفعل مَا يَفْعَله
(1/247)
الْحَاج بِمَكَّة ثمَّ يجمع ثَلَاثِينَ
يَتِيما وَيعْمل أَجود طَعَام يُمكنهُ ويطعمهم فِي ذَلِك الْبَيْت
ويكسوهم وَيُعْطِي كل وَاحِد سَبْعَة دَرَاهِم فَيكون كمن حج.
فَأمر الْوَزير بِقِرَاءَة ذَلِك قُدَّام القَاضِي أبي عَمْرو، فَقَالَ
القَاضِي للحلاج: من أَيْن لَك هَذَا؟ قَالَ: من كتاب الْإِخْلَاص
لِلْحسنِ الْبَصْرِيّ، فَقَالَ لَهُ القَاضِي: كذبت يَا حَلَال الدَّم
قد سمعناه بِمَكَّة وَلَيْسَ فِيهِ هَذَا.
فَطلب الْوَزير خطّ القَاضِي بقوله: أَنْت حَلَال الدَّم فدافعه، ثمَّ
ألزمهُ الْوَزير فَكتب بِإِبَاحَة دَمه وَكتب بعده من حضر الْمجْلس،
فَقَالَ الحلاج: مَا يحل لكم دمي وديني الْإِسْلَام ومذهبي السّنة ولي
فِيهَا كتب مَوْجُودَة فَالله اللَّهِ فِي دمي: وَأرْسل الْوَزير
الْفَتَاوَى بذلك إِلَى المقتدر واستأذنه فِي قَتله فَأذن، فَضرب ألف
سَوط ثمَّ قطعت يَده ثمَّ رجله ثمَّ قتل وأحرق وَنصب رَأسه بِبَغْدَاد.
قلت: يُقَال أَن أَبَا الْعَبَّاس بن سُرَيج قَالَ عَنهُ: هَذَا رجل
خَفِي عَليّ حَاله وَمَا أَقُول فِيهِ شَيْئا.
وَفِي مشكاة الْأَنْوَار للغزالي فصل طَوِيل فِي حَاله يعْتَذر فِيهِ
عَمَّا صدر مِنْهُ من الْأَلْفَاظ مثل: أَنا الْحق وَمَا فِي الْجُبَّة
إِلَّا اللَّهِ، وَحملهَا على محامل حَسَنَة وأولها وَقَالَ: هَذَا من
شدَّة الوجد، وَجعله مثل قَول الْقَائِل.
أَنا من أَهْوى وَمن أَهْوى أَنا.
وَقَالَ السَّيِّد القطب الشَّيْخ محيي الدّين عبد الْقَادِر الجيلي
رَحمَه اللَّهِ تَعَالَى: عثر الحلاج قلم يكن فِي زَمَنه من يَأْخُذ
بِيَدِهِ، وَلَو كنت فِي زَمَنه لأخذت بِيَدِهِ، وَفِي كَلَام الشَّيْخ
عبد الْقَادِر أَيْضا فِي الحلاج مَا يدل على أَنه ولي اللَّهِ وَأَن
الْعلمَاء معذورون فِي أمره لتمسكهم بِظَاهِر الشَّرْع، وَذَلِكَ
قَوْله رَضِي اللَّهِ عَنهُ فِيهِ طَار وَاحِد من العارفين إِلَى أفق
الدَّعْوَى بأجنحة أَنا الْحق رأى روض الأبدية خَالِيا من الحسيس
والأنيس صفر بِغَيْر لغته تعريضا لحتفه ظهر عَلَيْهِ عِقَاب الْملك من
مكمن إِن اللَّهِ لَغَنِيّ عَن الْعَالمين أنشب فِي إهابه مخلب كل نفس
ذائقة الْمَوْت، قَالَ لَهُ شرع سُلَيْمَان الزَّمَان لم تَكَلَّمت
بِغَيْر لغتك لم ترنمت بلحن غير مَعْهُود من مثلك ادخل الْآن إِلَى قفص
وجودك ارْجع من طَرِيق عزة الْقدَم إِلَى مضيق ذلة الْحَدث قل بِلِسَان
اعترافك ليسمعك أَرْبَاب الدَّعَاوَى حسب الْوَاجِد إِفْرَاد الْوَاحِد
منَاط الطَّرِيق إِقَامَة وظائف حُرْمَة الشَّرْع.
وَكَانَ شَيخنَا الْعَارِف عبس السرجاوي الْجَعْفَرِي نفعنا اللَّهِ
ببركته يعْتَذر عَن الحلاج وَعَن الْعلمَاء الَّذين أفتوا فِيهِ
بِنَحْوِ ذَلِك، وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن سهل بن عَطاء من
كبار عُلَمَاء الصُّوفِيَّة ومشايخهم، وَإِبْرَاهِيم بن هَارُون
الْحَرَّانِي الطَّبِيب.
ثمَّ دخلت سنة عشرَة وثلثمائة: فِيهَا توفّي أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن
جرير الطَّبَرِيّ بِبَغْدَاد،
(1/248)
ومولده سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ
برمل طبرستان، حَافظ للْكتاب الْعَزِيز والقراءات مُجْتَهد لم يُقَلّد
أحدا فَقِيه عَارِف بأقاويل الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَله
التَّارِيخ الْمَشْهُور ابْتَدَأَ فِيهِ من أول الزَّمَان إِلَى آخر
سنة اثنيتين وثلثمائة وَكتاب فريد فِي التَّفْسِير وَكتب أصُول وفروع،
وصنف كتابا فِيهِ اخْتِلَاف الْفُقَهَاء وَلم يذكر فِيهِ أَحْمد بن
حَنْبَل، فَقيل لَهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ أَحْمد بن
حَنْبَل مُحدثا، فَاشْتَدَّ ذَلِك على الْحَنَابِلَة وَكَانُوا لَا
يُحصونَ كَثْرَة بِبَغْدَاد ورموه بالرفض تعصبا وتشنيعا عَلَيْهِ.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة توفّي أَبُو بكر مُحَمَّد بن السّري بن سهل
النَّحْوِيّ ابْن السراج نِسْبَة إِلَى عمل السُّرُوج أحد الْأَئِمَّة
الْمَشَاهِير، أَخذ عَن أبي الْعَبَّاس الْمبرد، وَأخذ عَنهُ أَبُو
سعيد السيرافي وَعلي بن عِيسَى الرماني وَنقل عَنهُ الْجَوْهَرِي وَله
مصنفات مَشْهُورَة، كَانَ يلثغ بالراء فيجعلها غينا.
قلت: وَمن شعره:
(ميزت بَين جمَالهَا وفعالها ... فَإِذا الملاحة بالخيانة لَا تفي)
(حَلَفت لنا أَن لَا تخون عُهُودنَا ... فَكَأَنَّهَا حَلَفت لنا أَن
لَا تفي)
(وَالله لَا كلمتها وَلَو أَنَّهَا ... كالبدر أَو كَالشَّمْسِ أَو
كالمكتفي)
وَبَلغت الأبيات إِلَى المكتفي فَقَالَ: لمن هِيَ؟ فَقيل: هِيَ لِعبيد
اللَّهِ بن طَاهِر، فَأعْطَاهُ ألف دِينَار، فَكَانَ شعر ذَلِك سَببا
لرزق هَذَا وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى عشرَة وثلثمائة: فِيهَا كبست القرامطة وأميرهم
أَبُو طَاهِر سُلَيْمَان بن أبي سعيد الجباني الْبَصْرَة لَيْلًا وعلوا
على سورها وَقتلُوا عاملها وَأَقَامُوا بهَا سَبْعَة عشر يَوْمًا
يقتلُون ويحملون الْأَمْوَال مِنْهَا.
وفيهَا: توفّي أَبُو مُحَمَّد أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن
الْجريرِي - بِضَم الْجِيم. من مشاهير مَشَايِخ الصُّوفِيَّة،
وَإِبْرَاهِيم بن السّري الزّجاج صَاحب كتاب مَعَاني الْقُرْآن،
وَمُحَمّد بن زَكَرِيَّا الرَّازِيّ الطَّبِيب كَانَ فِي شبابه يضْرب
بِالْعودِ والتحى فَقَالَ: كل غناء يخرج من بَين شَارِب ولحية لَا
يستحسن، ثمَّ درس الطِّبّ والفلسفة بعد الْأَرْبَعين وَعمر وَبلغ فِي
علومه الْغَايَة حَتَّى أُشير إِلَيْهِ فِي الطِّبّ، وَله الْحَاوِي
نَحْو ثَلَاثِينَ مجلدا والمنصوري نَافِع صنفه لبَعض الْمُلُوك
السامانية.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْ عشرَة وثلثمائة: فِيهَا أَخذ أَبُو طَاهِر
القرمطي الْحَاج وَأَمْوَالهمْ وَهلك أَكْثَرهم جوعا وعطشا.
وفيهَا: قبض المقتدر على وزيره ابْن الْفُرَات، ثمَّ ذبح هُوَ وَابْنه
المحسن وَعمر الْأَب إِحْدَى وَسَبْعُونَ سنة وَالِابْن ثَلَاث
وَثَلَاثُونَ سنة، واستوزر بعده الْقَاسِم الخاقاني.
وفيهَا: سَار أَبُو طَاهِر القرمطي، فَدخل الْكُوفَة بِالسَّيْفِ
وَأقَام سِتَّة أَيَّام يدْخل نَهَارا
(1/249)
وَيخرج إِلَى عسكره لَيْلًا، وَحمل مَا
أمكنه من الْأَمْوَال وَالثيَاب.
قلت: وفيهَا انْقَطع الْقطر إِلَّا النزر الْيَسِير وَسميت سنة
الْحَبْس لانْقِطَاع الْمَطَر إِلَّا قَرْيَة تسمى كفور، وَأما قرى
المعرة فَإِنَّهَا أخصبت خصبا مَا رَأَوْا مثله وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث عشرَة وثلثمائة: فِيهَا توفّي عبد اللَّهِ بن
مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز الْبَغَوِيّ وعمره مائَة وسنتان، وَعلي بن
مُحَمَّد بن بشار الزَّاهِد.
ثمَّ دخلت سنة أَربع عشرَة وثلثمائة: فِيهَا قلد المقتدر يُوسُف بن
الْحَاج نواحي الْمشرق وَبَعثه من أذربيجان إِلَى وَاسِط لمحاربة
القرامطة.
وفيهَا: استولى نصر بن أَحْمد الساماني على الرّيّ وَمرض ثمَّ سَار
عَنْهَا.
ثمَّ دخلت سنة خمس عشرَة وثلثمائة: فِيهَا وصلت القرامطة إِلَى
الْكُوفَة فَسَار إِلَيْهِم يُوسُف بن أبي الساج من وَاسِط بعسكر ضخم
نَحْو أَرْبَعِينَ ألفا وَكَانَت القرامطة ألفا وَخَمْسمِائة مِنْهُم
ثَمَانمِائَة راجل، فاحتقرهم ابْن أبي الساج وَقَالَ: صدرُوا الْكتب
إِلَى الْخَلِيفَة بالنصر فَهَؤُلَاءِ فِي يَدي، واقتتلوا فَقدر
اللَّهِ انهزام عَسْكَر الْخَلِيفَة وأسروا ابْن أبي الساج وَقَتله
أَبُو طَاهِر وَاسْتولى على الْكُوفَة وَنهب.
ثمَّ جهز المقتدر إِلَى القرامطة مؤنسا الْخَادِم فِي عَسَاكِر،
فَانْهَزَمَ أَكثر الْعَسْكَر قبل الْمُلْتَقى، ثمَّ الْتَقَوْا
فانهزمت عَسَاكِر الْخَلِيفَة، وَوَقع الجفيل فِي بَغْدَاد خوفًا من
القرامطة، ونهبوا الْبِلَاد الفراتية ثمَّ عَادوا إِلَى هجر بالغنائم.
وفيهَا: ظفر عبد الرَّحْمَن الناصري الْأمَوِي صَاحب الأندلس بِأَهْل
طليطلة بعد حصارها مُدَّة لخلافهم عَلَيْهِ وَخرب كثيرا مِنْهَا.
قلت: وفيهَا استدعي عَليّ بن عِيسَى الْوَزير إِلَى بَغْدَاد من مَكَّة
وَكَانَ نفي إِلَيْهَا، وَسبب نَفْيه: أَن أم مُوسَى وَفَاطِمَة
قهرمانتي المقتدر قَالَتَا لَهُ: وَقع بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم للمجيبة
ثِيَاب أَمِير الْمُؤمنِينَ، ثمَّ جاءتا فَقَالَتَا: وَقع بِعشْرَة
آلَاف دِرْهَم للمعممة، ثمَّ قَالَتَا: وَقع بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم
للمزررة، فَقَالَ لَهما: أَمِير الْمُؤمنِينَ مَقْطُوع الْيَد حَتَّى
لَا يقدر أَن يتزرر. ثمَّ قَالَتَا وَقع بِعشْرَة آلَاف للمبخرة،
فَقَالَ: لَو أخرج أَمِير الْمُؤمنِينَ يَده من تَحت ثِيَابه وَأخذ
المجمرة وفر على بَيت مَال الْمُسلمين عشرَة آلَاف دِرْهَم، ثمَّ
قَالَ:
(إِن بَيْتا تربه ... أم مُوسَى وَفَاطِمَة)
(لجدير بِأَن ترى ... ربة الْبَيْت لاطمة)
فَبلغ ذَلِك المقتدر فنفاه إِلَى مَكَّة.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ عشرَة وثلثمائة: فِيهَا نهبت القرامطة الرحبة
وَسبوا ثمَّ نهبوا ربض الرقة، ثمَّ نازلوا سنجار ثمَّ استأمنوا
فأمنوهم، ثمَّ نهبوا الْجبَال وَغَيرهَا وعادوا إِلَى هجر.
وفيهَا: عزل المقتدر عَليّ بن عِيسَى وَقبض عَلَيْهِ، وَولى الوزارة
عَليّ بن مقلة.
(1/250)
وفيهَا: خرج مرداويج على أستاذه أشغار بن
شيرويه الَّذِي كَانَ قد استولى على جرجان قبل بِسنة بعد أَن بَايع
أَكثر الْعَسْكَر فِي الْبَاطِن، فهرب أشغار فأدركه مرداويج وَقَتله،
وابتدأ أَمر مرداويج فِي ملك الْبِلَاد من هَذِه السّنة فَملك قزوين
ثمَّ الرّيّ وهمدان وكيلور والدينور ويزدجرد وقم وقاشان وأصفهان
وجرباذقان، وَعمل لَهُ سَرِير ذهب يجلس عَلَيْهِ وتقف عسكره صُفُوفا
بالبعد عَنهُ، وَلَا يخاطبه إِلَّا الْحجاب المرتبون لذَلِك، ثمَّ
استولى مرداويج على طبرستان.
وفيهَا: وصل الدمستق فِي جَيش كثير من الرّوم وَحصر خلاط ثمَّ صَالحهمْ
على أَن يقْلع مِنْبَر الْجَامِع وَيعْمل مَوْضِعه صليبا، فَأَجَابُوا
وفعلوا ذَلِك، وَفعل ببدليس كَذَلِك والدمستق اسْم للنائب على
الْبِلَاد الَّتِي شَرْقي خليج قسطنطينية.
وفيهَا توفّي يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الإِسْفِرَايِينِيّ،
وَله مُسْند مخرج على صَحِيح مُسلم، وكنيته أَبُو عوَانَة الْحَافِظ،
طَاف الْبِلَاد فِي طلب الحَدِيث وَسمع مُسلم بن الْحجَّاج وَغَيره.
ثمَّ دخلت سنة سبع عشرَة وثلثمائة: فِيهَا خلع المقتدر بِاللَّه، أنكر
القواد والجند اسْتِيلَاء النِّسَاء والخدام على الْأَمْوَال وانضم
إِلَى ذَلِك وَحْشَة مؤنس الْخَادِم مِنْهُ، فَحَمَلُوهُ ووالدته
وخالته وخواص جواريه إِلَى دَار مؤنس واعتقل بهَا، وَأشْهدُوا عَلَيْهِ
القَاضِي أَبَا عَمْرو بخلع نَفسه، ونهبت دَار الْخلَافَة،
وَاسْتَخْرَجُوا من قبر فِي تربة بنتهَا أم المقتدر سِتّمائَة ألف
دِينَار، وأحضروا أَخَاهُ مُحَمَّدًا المعتضد وَبَايَعُوهُ ولقبوه
القاهر بِاللَّه.
فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْإِثْنَيْنِ سَابِع عشر الْمحرم ثَالِث يَوْم
خلعه بكر النَّاس فملأوا دَار الْخلَافَة، وَلم يحضر مؤنس المظفر ذَلِك
الْيَوْم، وَحَضَرت الرجالة المصافية بِالسِّلَاحِ يطالبون بِحَق
الْبيعَة فارتفعت أَصْوَاتهم، فَخرج من عِنْد القاهر بازرك ليطيب
خواطرهم فَرَأى فِي أَيْديهم السيوف مسلولة فخافهم فَرجع، وتبعوه
فَقَتَلُوهُ فِي دَار الْخلَافَة وصرخوا مقتدر يَا مَنْصُور، وهجموا
على القاهر فهرب واختفى وتفرق النَّاس عَنهُ وَلم يبْق بدار الْخلَافَة
أحد.
ثمَّ قصدت الرجالة دَار مؤنس وطلبوا مِنْهُ المقتدر، فَأخْرجهُ وَسلمهُ
إِلَيْهِم فَحَمَلُوهُ على رقابهم حَتَّى أدخلوه دَار الْخلَافَة.
ثمَّ أرسل المقتدر خلف أَخِيه القاهر بالأمان وأحضره وَقَالَ: قد علمت
أَنه لَا ذَنْب لَك وَقبل بَين عَيْنَيْهِ وأمنه، فَشكر إحسانه، ثمَّ
حبس القاهر عِنْد أم المقتدر فأحسنت إِلَيْهِ، وَاسْتقر المقتدر
خَليفَة وسكنت الْفِتْنَة، وَكَانَ إِيثَار مؤنس إِعَادَة المقتدر
إِلَى الْخلَافَة وَإِنَّمَا خلعة مُوَافقَة للعسكر.
وفيهَا: وافى أَبُو طَاهِر القرمطي مَكَّة يَوْم التَّرويَة فنهب
الْحَاج بهَا وقتلهم حَتَّى فِي الْمَسْجِد الْحَرَام وداخل الْكَعْبَة
وَأخذ الْحجر الْأسود من الرُّكْن وَنَقله إِلَى هجر وَقتل أَمِير
مَكَّة ابْن محلب وَأَصْحَابه وَقلع بَاب الْبَيْت وأصعد رجلا ليقلع
الْمِيزَاب فَسقط فَمَاتَ،
(1/251)
وَطرح الْقَتْلَى فِي بِئْر زَمْزَم وَدفن
البَاقِينَ فِي الْمَسْجِد الْحَرَام وَحَيْثُ قتلوا، وَأخذ كسْوَة
الْبَيْت فَقَسمهَا بَين أَصْحَابه.
قلت: وَيُقَال: أَنه لما أَخذ الْحجر الْأسود قَالَ: هَذَا مغناطيس بني
آدم وَهُوَ يجرهم إِلَى مَكَّة وَأَرَادَ أَن يحول الْحَج إِلَى
الإحساء فَعَلَيهِ لعنة اللَّهِ، وَكَانَ يحكم التركي أَمِير بَغْدَاد
وَالْعراق فبذل لَهُم فِي رد الْحجر خمسين ألف دِينَار فَمَا فعلوا،
وَالله أعلم.
وفيهَا: وَقع بسببب تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {عَسى رَبك أَن يَبْعَثك
مقَاما مَحْمُودًا} بِبَغْدَاد فتْنَة عَظِيمَة بَين الْحَنَابِلَة
وَغَيرهم دخل فِيهَا الْجند والعامة وَقتل بَينهم كثير، قَالَ أَبُو
بكر الْمروزِي الْحَنْبَلِيّ: إِن معنى ذَلِك أَن اللَّهِ تَعَالَى
يقْعد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَه على
الْعَرْش، وَقَالَت الطَّائِفَة الْأُخْرَى: إِنَّمَا هِيَ
الشَّفَاعَة.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن جَابر بن سِنَان الْحَرَّانِي الأَصْل
البتاني الحاسب المنجم صَاحب الزيج الصابي لَهُ الأرصاد المتقنة،
ابْتَدَأَ بالرصد سنة ارْبَعْ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ إِلَى سنة سِتّ
وثلثمائة وَأثبت الْكَوَاكِب الثابته فِي زيجه لسنة تسع وَتِسْعين
وَمِائَتَيْنِ وزيجه نسختان الثَّانِيَة أَجود. والبتاني - بِفَتْح
الْبَاء الْمُوَحدَة وَقد تكسر - نِسْبَة إِلَى بتان نَاحيَة من عمل
حران.
وفيهَا: توفّي نصر بن أَحْمد بن نصر الْبَصْرِيّ الخبزرزي نِسْبَة
إِلَى بيع خبز الْأرز بَاعه بمربد الْبَصْرَة، الشَّاعِر الراوية
الأديب كَانَ أُمِّيا لَا يتهجى وَمن شعره:
(خليلي هَل أبصرتما أَو سمعتما ... بِأَفْضَل من مولى تمشى إِلَى عبد)
(أَتَى زائري من غير وعد وَقَالَ لي ... أَجلك من تَعْلِيق قَلْبك
بالوعد)
(فَمَا زَالَ نجم الْوَصْل بيني وَبَينه ... يَدُور بأفلاك السَّعَادَة
والسعد)
(فطورا على تَقْبِيل نرجس نَاظر ... وطورا على تَقْبِيل تفاحة الخد)
قلت: وَلَقَد صدق الخبزرزي فِي قَوْله:
(وَكَانَ الصّديق يزور الصّديق ... لشرب المدام وعزف الأغاني)
(فَصَارَ الصّديق يزور الصّديق ... لبث الهموم وشكوى الزَّمَان)
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان عشرَة وثلثمائة: فِيهَا استطالت الرجالة المصافية
بِإِعَادَة المقتتدر واقتتلوا هم والجند فهربت الرجالة إِلَى وَاسِط
واستولوا عَلَيْهَا، فَتَبِعهُمْ مؤنس الْخَادِم وَقتل مِنْهُم وشردهم
عَنْهَا.
وفيهَا: وَقيل فِي تلوها: توفّي أَبُو بكر بن الْحسن بن عَليّ بن
أَحْمد بن يسَار الْمَعْرُوف بِابْن العلاف الضَّرِير النهرواني وعمره
مائَة، وَهُوَ ناظم مراثي الهر الَّتِي مِنْهَا:
(يَا هر فارقتنا وَلم تعد ... وَكنت منا بمنزل الْوَلَد)
(وَكَانَ قلبِي عَلَيْك مرتعدا ... وَأَنت تنساب غير مرتعد)
(1/252)
(تدخل برج الْحمام متئدا ... وتبلغ الفرخ
غير متئد)
(صادوك غيظا عَلَيْك وانتقموا ... مِنْك وَزَادُوا وَمن يصد يصد)
(وَلم تزل للحمام مرتصدا ... حَتَّى سقيت الْحمام بالرصد)
(يَا من لذيذ الْفِرَاخ أوقعه ... وَيحك هلا قنعت بالغدد)
(لَا بَارك اللَّهِ فِي الطَّعَام إِذا ... كَانَ هَلَاك النُّفُوس فِي
الْمعد)
(كم دخلت لقْمَة حَشا شَره ... فأخرجت روحه من الْجَسَد)
(مَا كَانَ أَغْنَاك من تسلقك البرج ... وَلَو كَانَ جنَّة الْخلد)
قيل: كَانَ لَهُ قطّ، وَقيل: رثى بهَا ابْن المعتز موريا لخوفه من
المتقدر، وَقيل: هويت جَارِيَة عَليّ بن عِيسَى غُلَاما لأبي بكر بن
العلاف الْمَذْكُور فَفطن بهما عَليّ بن عِيسَى فَقَتَلَهُمَا، فرثاه
مَوْلَاهُ بِهَذِهِ.
ثمَّ دخلت سنة تسع عشرَة وثلثمائة: فِيهَا أرسل المقتدر عسكرا لقِتَال
مرداويج، قالتقوا بنواحي هَمدَان فَانْهَزَمَ عَسْكَر الْخَلِيفَة،
وَاسْتولى مرداويج على بِلَاد الْجَبَل جَمِيعًا وَبَلغت عساكره فِي
النهب إِلَى نواحي حلوان، ثمَّ أرسل مرداويج عسكرا فَملك أصفهان.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة تأكدت الوحشة بَين مؤنس والمقتدر.
ثمَّ دخلت سنة عشْرين وثلثمائة: فِيهَا سَار مؤنس مغاضبا للمقتدر
وَاسْتولى المقتدر على أقطاعه وأملاكه وأملاك أَصْحَابه، وَكتب إِلَى
بني حمدَان أُمَرَاء الْموصل بصد مؤنس عَن الْموصل وقتاله، فَجرى
بَينهم قتال فانتصر مؤنس وَاسْتولى على الْموصل وَاجْتمعت عَلَيْهِ
العساكر من كل جِهَة وَأقَام بالموصل تِسْعَة أشهر، وَسَار بالعسكر
إِلَى جِهَة بَغْدَاد فَقدم تكريت، ثمَّ سَار حَتَّى نزل بِبَاب
الشماسية.
وَرَأى المقتدر انعزال الْعَسْكَر عَنهُ فقصد النُّزُول إِلَى وَاسِط،
ثمَّ اتّفق مَعَ من بَقِي مَعَه على قتال مؤنس ومنعوه التَّوَجُّه
إِلَى وَاسِط فَخرج لقِتَال مؤنس كَارِهًا لقتاله، وَبَين يَدي المقتدر
الْفُقَهَاء والقراء مَعَهم الْمَصَاحِف منشورة وَعَلَيْهَا الْبردَة
فَوقف على تل، ثمَّ ألح عَلَيْهِ أَصْحَابه فَتقدم إِلَى الْقِتَال،
ثمَّ انْهَزَمت أَصْحَابه ولحقهم قوم من المغاربة، فَقَالَ: وَيحكم
أَنا الْخَلِيفَة، فَقَالُوا: قد عرفناك يَا سفلَة أَنْت خَليفَة
إِبْلِيس، فَضَربهُ وَاحِد بِسَيْفِهِ فَسقط إِلَى الأَرْض، وَذبح
المقتدر وَكَانَ عَظِيم الجثة وَرفعُوا رَأسه وهم يكبرُونَ ويلعنونه
وشلحوه حَتَّى سراويله ثمَّ دفن مَوْضِعه وعفي قَبره، وجاؤوا
بِالرَّأْسِ إِلَى مؤنس وَهُوَ بالراشدية وَلم يشْهد الْحَرْب فلطم
وَبكى.
وَخِلَافَة المقتدر أَربع وَعِشْرُونَ سنة وَأحد عشر شهرا وَسِتَّة عشر
يَوْمًا، وعمره ثَمَان وَثَلَاثُونَ سنة.
ثمَّ أَشَارَ مؤنس بِإِقَامَة أبي الْعَبَّاس بن المقتدر، فبحث أَبُو
يَعْقُوب إِسْحَاق بن إِسْمَاعِيل النوبختي عَن حتفه بظلفه - كَمَا
سَيذكرُ - وَقَالَ: هَذَا صبي، فَترك.
(1/253)
|