تاريخ ابن الوردي

(أَخْبَار الطائع لله)

وبويع الطائع لله وَهُوَ رَابِع عشرهم أَبُو بكر عبد الْكَرِيم بن الْمفضل الْمُطِيع لله بن جَعْفَر المقتدر بن المعتضد أَحْمد.
وفيهَا: جرت حروب بَين الْمعز وَبَين القرامطة، ثمَّ انْهَزَمت القرامطة وَقتل مِنْهُم خلق كثير وَأرْسل فِي أَثَرهم عشرَة آلَاف فسارت القرامطة إِلَى الحساء والقطيف، ثمَّ أرسل الْمعز الْقَائِد ظَالِم بن مرهوب الْعقيلِيّ إِلَى دمشق فَعظم وَكَثُرت جموعه، ثمَّ وَقع بَينه وَبَين أهل دمشق فتن دَامَت إِلَى سنة أَربع وَسِتِّينَ وثلثمائة وأحرق بعض دمشق.
وفيهَا: انحدر سبكتكين بالطائع والمطيع مخلوعا بالأتراك إِلَى وَاسِط فَمَاتَ الْمُطِيع بدير العاقول وَمَات سبكتكين أَيْضا فحملا إِلَى بَغْدَاد، وَقدم الأتراك عَلَيْهِم أفتكين أكبرهم، وقاربوا وَاسِط وَبهَا بختيار فَقَاتلهُمْ نَحْو خمسين يَوْمًا وَالظفر للأتراك، وَأرْسل بختيار إِلَى ابْن عَمه عضد الدولة بِفَارِس رسائل متتابعه بالإسراع إِلَيْهِ وَكتب إِلَيْهِ الْبَيْت الْمَشْهُور:
(فَإِن كنت مَأْكُولا فَكُن خير آكل ... وَإِلَّا فأدركني وَلما أمزق)

فَسَار عضد الدولة إِلَيْهِ، وَخرجت السّنة وَالْحَال كَذَلِك.
وفيهَا: انْتهى تَارِيخ ثَابت بن قُرَّة وابتداؤه من خلَافَة المقتدر سنة خمس وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَسِتِّينَ وثلثمائة: فِيهَا سَار عضد الدولة بعساكر فَارس لما ذَكرْنَاهُ وقارب وَاسِط فَرجع أفتكين والأتراك إِلَى بَغْدَاد، وَسَار عضد الدولة من الْجَانِب الشَّرْقِي وَأمر بختيار أَن يسير من الْجَانِب الغربي وَخرجت الأتراك من بَغْدَاد وقاتلوا عضد الدولة فَهَزَمَهُمْ وَقتل مِنْهُم كثيرا فِي رَابِع عشر جُمَادَى مِنْهَا وَدخل بَغْدَاد، وَكَانُوا قد أخذُوا الْخَلِيفَة مَعَهم إِلَى وَاسِط فَرده عضد الدولة إِلَى بَغْدَاد، فوصل الْخَلِيفَة فِي الْمسَاء ثامن رَجَب مِنْهَا.

(1/288)


وَلما اسْتَقر عضد الدولة بِبَغْدَاد شغبت الْجند على بختيار يطْلبُونَ أَرْزَاقهم وَلَا مَال مَعَه، فَأمره عضد الدولة فاستعفى من الإمرة عَجزا وأغلق بَابه وَصرف كِتَابه وحجابه وَأشْهد عضد الدولة عَلَيْهِ بذلك، ثمَّ قبض عضد الدولة على بختيار وَإِخْوَته فِي السَّادِس وَالْعِشْرين من جُمَادَى، وَاسْتقر عضد الدولة بِبَغْدَاد وَعظم الْخَلِيفَة وَحمل إِلَيْهِ مَالا عَظِيما.
وَكَانَ الْمَرْزُبَان بن بختيار مُتَوَلِّيًا بِالْبَصْرَةِ، وَلما بلغه قبض وَالِده كتب إِلَى ركن الدولة جده يشكو ذَلِك، فَألْقى ركن الدولة نَفسه إِلَى الأَرْض وَترك الطَّعَام حَتَّى مرض وَأنكر على عضد الدولة عَظِيما، فَأرْسل عضد الدولة يسْأَل أَبَاهُ فِي أَن يعوض بختيار بِبَعْض فَارس فَأَرَادَ ركن الدولة قتل الرَّسُول وتهدده بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ إِن لم يعد بختيار إِلَى ملكه، فاضطر عضد الدولة إِلَى إِخْرَاج بختيار من الْحَبْس وأعادوه إِلَى ملكه وَرجع إِلَى فَارس فِي شَوَّال مِنْهَا.
وفيهَا: أنهزم أفتكين التركي مولى معز الدولة من بختيار عِنْد قدوم عضد الدولة حَسْبَمَا ذكرنَا، وَسَار إِلَى حمص ثمَّ إِلَى دمشق وأميرها زبان الْخَادِم عَن الْمعز الْعلوِي، فاتفق أفتكين مَعَ الدماشقة وأخرجوا زبان وَقَطعُوا خطْبَة الْمعز فِي شعْبَان وولوا أفتكين، فعزم الْمعز على قِتَاله فاتفق موت الْمعز كَمَا سَيَأْتِي، وَتَوَلَّى ابْنه الْعَزِيز فَجهز الْقَائِد جوهرا فَحَضَرَ أفتكين بِدِمَشْق، فاستنجد أفتكين بالقرامطة، فَلَمَّا قربوا رَحل جَوْهَر إِلَى جِهَة مصر فَتَبِعَهُ أفتكين والقرامطة وتبعهم خلق فَلَحقُوا جوهرا قرب الرملة فَدخل عسقلان ضعفا عَنْهُم فحصروه، فعاين الْهَلَاك هُوَ وَأَصْحَابه من الْجُوع فبذل لأفتكين ليمن عَلَيْهِ ويطلقه فَرَحل أفتكين عَنهُ.
وَسَار جَوْهَر إِلَى مصر وَأعلم الْعَزِيز بِالْحَال، فَسَار الْعَزِيز بِنَفسِهِ إِلَى الشَّام وَوصل الرملة فقاتله أفتكين والقرامطة قتالا شَدِيدا فنصر الْعَزِيز وَقتل وَأسر كثيرا وَجعل لمن يحضر أفتكين مائَة ألف دِينَار، وَطلب أفتكين فِي هزيمته بَيت صَاحبه مفرج بن دَغْفَل الطَّائِي، فَأسرهُ مفرج فِي بَيته وَأعلم الْعَزِيز بِهِ، فَأعْطَاهُ الْجعل وأحضر أفتكين فَأَطْلقهُ الْعَزِيز وَأطلق أَصْحَابه وأنعم عَلَيْهِ وَصَحبه إِلَى مصر وَبَقِي عِنْده بِمصْر مُعظما حَتَّى مَاتَ بهَا.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَسِتِّينَ وثلثمائة: فِيهَا توفّي الْمعز لدين اللَّهِ أَبُو تَمِيم الْعلوِي الْحُسَيْنِي بِمصْر فِي سَابِع عشر جُمَادَى الأولى، وَولد بالمهدية حادي عشر رَمَضَان سنة تسع عشرَة وثلثمائة فعمره خمس وَأَرْبَعُونَ سنة وَسِتَّة أشهر تَقْرِيبًا وَكَانَ فَاضلا لَكِن كَانَ يعْمل بأقوال المنجمين وأخفى الْعَزِيز مَوته وأظهره فِي عيد النَّحْر مِنْهَا وَبَايَعَهُ النَّاس.
وفيهَا: أَو فِي تلوها فتح أَبُو الْقَاسِم بن الْحسن بن عَليّ بن أبي الْحُسَيْن أَمِير صقلية مَدِينَة مسينا ثمَّ كنته وقعلة جلوى، وَبث سراياه فِي نواحي فلوريه وغنم وسبى.
وفيهَا: خطب للعزيز بِمَكَّة وَتُوفِّي ثَابت بن سِنَان بن قره الصابي.
وفيهَا: أَو فِي تلوها توفّي أَبُو بكر مُحَمَّد بن عَليّ بن إِسْمَاعِيل الْقفال الشَّاشِي الشَّافِعِي، لم يكن وَرَاء النَّهر فِي عصره مثله، رَحل إِلَى الْعرَاق وَالشَّام والحجاز وَأخذ الْفِقْه

(1/289)


عَن ابْن سُرَيج وروى عَن الطَّبَرِيّ، وروى عَنهُ الْحَاكِم بن مندة وَكثير، والتقريب الَّذِي ينْقل عَنهُ فِي النِّهَايَة والوسيط والبسيط، وَذكره الْغَزالِيّ فِي الْبَاب الثَّانِي من كتاب الرَّهْن من تصنيف الْقَاسِم بن الْقفال الْمَذْكُور لَكِن قَالَ الْغَزالِيّ: أَبُو الْقَاسِم وَهُوَ سَهْو وَهَذَا غير تقريب سليم الرَّازِيّ. والشاشي: نِسْبَة إِلَى مَدِينَة شاش وَرَاء نهر سيحون، والقفال غير أبي بكر الشَّاشِي صَاحب الْعُمْدَة والمستظهري
وفيهَا: فِي الْمحرم توفّي ركن الدولة الْحسن بن بويه، واستخلف على ممالكه ابْنه عضد الدولة وَعمر عضد الدولة فَوق سبعين وإمارته أَربع وَأَرْبَعين وَلَقَد أُصِيب بِهِ الدّين وَالدُّنْيَا لاستكمال خلال الْخَيْر فِيهِ، وَعقد لِابْنِهِ فَخر الدولة على هَمدَان وأعمال الْجَبَل، ولابنه مؤيد الدولة على أَصْبَهَان وجعلهما تَحت حكم عضد الدولة.
وفيهَا: سَار عضد الدولة بعد وَفَاة وَالِده إِلَى الْعرَاق، فَخرج بختيار وقاتله بالأهواز وخامر أَكثر عَسْكَر بختيار عَلَيْهِ، فَانْهَزَمَ بختيار إِلَى وَاسِط وَبعث عضد الدولة عسكرا استولى على الْبَصْرَة، ثمَّ سَار بختيار إِلَى بَغْدَاد وَسَار عضد الدولة إِلَى نواحي الْبَصْرَة وقررها، وَاسْتمرّ الْحَال كَذَلِك حَتَّى خرجت السّنة.
وفيهَا: " ابْتِدَاء دولة آل سبكتكين بغزنة " كَانَ سبكتكين من غلْمَان أبي إِسْحَاق بن التكين صَاحب جَيش غزنة السامانية وَقدمه لعقله وشجاعته، فَلَمَّا مَاتَ أَبُو إِسْحَاق من غير ولد ولى الْعَسْكَر سبكتكين لكماله، فَعظم وغزا الْهِنْد على بست وقصدار.
وفيهَا مَاتَ مَنْصُور بن نوح بن نصر بن أَحْمد بن إِسْمَاعِيل بن أَحْمد بن أَسد بن سامان صَاحب خُرَاسَان وَمَا وَرَاء النَّهر فِي نصف شَوَّال ببخارا وولايته نَحْو خمس عشرَة سنة، وَولي بعده ابْنه نوح وعمره نَحْو ثَلَاث عشرَة سنة.
وفيهَا: مَاتَ قَاضِي قُضَاة الأندلس مُنْذر بن سعيد البلوطي فَقِيه خطيب شَاعِر ذُو دين متين.
وفيهَا: قبض عضد الدولة على أبي الْفَتْح بن العميد وَزِير أبي عضد الدولة وسمل إِحْدَى عَيْنَيْهِ وَقطع أَنفه، وَكَانَ أَبُو الْفَتْح لَيْلَة قبض قد هيأ مَجْلِسا للأنس والندماء والالات الذهبية وَالطّيب وَشَرِبُوا، وَعمل شعرًا غَنِي لَهُ بِهِ وَهُوَ:
(دَعَوْت المنى ودعوت العلى ... فَلَمَّا أجابا دَعَوْت الْقدح)

(وَقلت لأيام شرخ الشَّبَاب ... إِلَيّ فَهَذَا أَوَان الْفَرح)

(إِذا بلغ الْمَرْء آماله ... فَلَيْسَ لَهُ بعْدهَا مقترح)

فَقبض عَلَيْهِ من سحر تِلْكَ اللَّيْلَة.
وفيهَا توفّي الحكم بن عبد الرَّحْمَن الْأمَوِي صَاحب الأندلس وإمارته خمس عشرَة سنة وَخَمْسَة أشهر وعمره ثَلَاث وَسِتُّونَ سنة وَسَبْعَة أشهر، كَانَ فَقِيها عَالما بالتاريخ وَغَيره، وبويع بعده ابْنه الْمُؤَيد هِشَام وَهُوَ ابْن عشر سِنِين، وَتَوَلَّى حجبه وتنفيذ أمره أَبُو عَامر

(1/290)


مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن أبي عَامر مُحَمَّد بن الْوَلِيد بن مزِيد الْمعَافِرِي القحطاني وتلقب أَبُو عَامر الْمَنْصُور واستبد بِالْأَمر وَمنع أحدا أَن يرى الْمُؤَيد.
وأصل أبي عَامر من الجزيرة الخضراء من الأندلس من قربَة طوشر واشتغل بالعلوم فِي قرطبة، وَكَانَ شرِيف النَّفس فَبلغ معالي الْأُمُور وَجمع الْفُضَلَاء وَبَلغت غَزَوَاته نيفا وَخمسين، وَمن نَادِر الِاتِّفَاق: إِن صاعد بن الْحسن اللّغَوِيّ أهْدى إِلَيْهِ أيلا مربوطا بِحَبل وامتدح الْمَنْصُور بِأَبْيَات وَكَانَ الْمَنْصُور قد أرسل عسكرا لغزو الفرنج وَاسم ملكهم إِذْ ذَاك غرسيه بن شاتجه، وَمن جملَة الأبيات:
(عبد نشلت بضبعة وغرسته ... فِي نعْمَة أهْدى إِلَيْك بأيل)

(سميته غرسية وبعثته ... فِي حبله ليتاح فِيهِ تفألي)

(فلئن قبلت فَتلك أَسْنَى نعْمَة ... أسدي بهَا ذِي منحة وتطول)

فأحضر الْعَسْكَر غرسية أَسِيرًا ذَلِك الْيَوْم، وَبَقِي الْمَنْصُور على مَنْزِلَته حَتَّى توفّي وَسَيَأْتِي.
وفيهَا: عَاد شرِيف إِلَى ملك حلب، فَإِنَّهُ وصل إِلَى شرِيف بن سيف الدولة وَهُوَ بحماه بارقطاش مولى أَبِيه من حصن برزويه وخدمه وَعمر لَهُ حمص بعد خراب الرّوم وتقوى بكجور مولى قرعويه ونائبه وَقبض على قرعويه بحلب وحبسه بالقلعة وَاسْتولى على حلب، فكاتب أَهلهَا أَبَا الْمَعَالِي شريفا فَجَاءَهُمْ وَأنزل بكجور بالأمان وولاه حمص وَاسْتقر أَبُو الْمَعَالِي بحلب.
وفيهَا: توفّي بهستون بن وشمكير بجرجان، وَاسْتولى عَلَيْهَا وعَلى طبرستان أَخُوهُ قَابُوس.
وفيهَا: توفّي يُوسُف بن الْحسن الجبائي القرمطي صَاحب هجر ومولده سنة ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَولى بعده سِتَّة نفر شركَة وَسموا السَّادة.
ثمَّ دخلت سنّ سِتّ وَسِتِّينَ وثلثمائة: فِيهَا خرج يانس بن شمشقيق ملك الرّوم فِي جيوش عَظِيمَة من النَّصْرَانِيَّة كَانَ جنَاح الجيوش فِي عِقَاب الروج والاخر فِي الغرزل من علاة معمرة النُّعْمَان وَنزل على أفاميه، ثمَّ رَحل فَفتح بعلبك وَأسر أَهلهَا وَكَانُوا تحَصَّنُوا فِي الملعب، وحاصر طرابلس ثمَّ انْصَرف عَنْهَا.
وفيهَا: مَاتَ يانس ملك الرّوم بَين اللاذقية وأنطاكية بالسم سمته زَوجته يفانو خافته على ولديها من أرمانوس قبل تقفور فَأرْسلت إِلَيْهِ سقية كَمَا تقدم.
وفيهَا: ولي الرّوم الْملك بسيل.
ثمَّ دخلت سنّ سبع وَسِتِّينَ وثلثمائة: فِيهَا استولى عضد الدولة على الْعرَاق وَغَيره، وخلع على بختيار ووعده بِأَيّ ولَايَة أَرَادَ، وَقتل عضد الدولة ابْن بَقِيَّة وَزِير بختيار وصلبه، ورثاه أَبُو الْحسن الْأَنْبَارِي بقصيدة مِنْهَا:

(1/291)


(علو فِي الْحَيَاة وَفِي الْمَمَات ... بِحَق أَنْت إِحْدَى المعجزات)

(كَأَن النَّاس حولك حِين قَامُوا ... وُفُود نداك أَيَّام الصَّلَاة)

(مددت يَديك نحوهم اقتفاء ... لمدهما إِلَيْهِم فِي الهبات)

(وَلما ضَاقَ بطن الأَرْض عَن أَن ... يضم علاك من بعد الممات)

(أصاروا الجو قبرك واستنابوا ... عَن الأكفان ثوب السافيات)

(لعظمك فِي النُّفُوس تبيت ترعى ... بحراس وحفاظ ثِقَات)

(وتشعل عنْدك النيرَان لَيْلًا ... كَذَلِك كنت أَيَّام الْحَيَاة)

ثمَّ سَار بختيار نَحْو الشَّام وَمَعَهُ حمدَان بن نَاصِر الدولة وأطعمه حمدَان فِي ملك الْموصل من أَخِيه أبي ثَعْلَب، فَأرْسل أَبُو ثَعْلَب يَقُول لبختيار: إِن سلمت إِلَيّ أخي حمدَان قَاتَلت مَعَك أَخَاك عضد الدولة، فغدر بختيار بحمدان وَسلمهُ إِلَى أَخِيه أبي ثَعْلَب فحبسه.
وَسَار أَبُو ثَعْلَب بعساكره مَعَ بختيار نَحْو عضد الدولة، فَخرج من بَغْدَاد نَحْوهمَا والتقوا بقصر الجص من نواحي تكريت ثامن عشر شَوَّال مِنْهَا فهزمهما عضد الدولة وَأمْسك بختيار فَقتله ثمَّ قصد الْموصل فملكها.
وهرب أَبُو ثَعْلَب إِلَى ميافارقين، فَأرْسل عضد الدولة فِي طلبه جَيْشًا إِلَى ميافارقين فهرب أَبُو ثَعْلَب إِلَى بدليس، وَتَبعهُ الْعَسْكَر فهرب نَحْو الرّوم فَلحقه الْعَسْكَر واقتتتلوا، فنصر أَبُو ثَعْلَب وَسَار إِلَى حصن زِيَاد وَيعرف الْآن بخرت برت، ثمَّ إِلَى آمد وَأقَام بهَا.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن قريعة الْبَغْدَادِيّ قَاضِي السندية وَغَيرهَا من أَعمال بَغْدَاد من عجائب الدُّنْيَا فِي سرعَة البديهة يُجيب عَن كل مَا يسْأَل عَنهُ بأفصح لفظ وأملح سجع، اخْتصَّ بِصُحْبَة الْوَزير المهلبي وَكَانَ الرؤساء يلاعبونه بالمسائل المضحكة فيجيب بِلَا توقف كتب إِلَيْهِ بَعضهم: مَا يَقُول القَاضِي وَفقه اللَّهِ فِي يَهُودِيّ زنا بنصرانية فَولدت ولدا جِسْمه للبشر وَوَجهه للبقر وَقد قبض عَلَيْهَا؟ فَكتب سَرِيعا،: هَذَا من أعدل الشُّهُود على الْيَهُود بِأَنَّهُم أشربوا الْعجل فِي صُدُورهمْ فَخرج من أيورهم وَأرى ان يناط باليهودي رَأس الْعجل ويصلب على عنق النَّصْرَانِيَّة السَّاق مَعَ الرجل ويسحبا على الأَرْض وينادي عَلَيْهِمَا: ظلمات بَعْضهَا فَوق بعض وَالسَّلَام.
والسند قَرْيَة على نهر عِيسَى بَين بَغْدَاد والأنبار إِلَيْهَا سندواني فرقا بَينهَا وَبَين بِلَاد السَّنَد.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وثلثمائة: فِيهَا فتح أَبُو الْوَفَاء مقدم عَسْكَر عضد الدولة ميافارقين بالأمان وَسمع أَبُو ثَعْلَب بِفَتْحِهَا فَسَار عَن رمد نَحْو الرحبة ثمَّ سَار عَسْكَر عضد الدولة مَعَ أبي الْوَفَاء ففتحوا آمد وَاسْتولى عضد الدولة على ديار بكر، ثمَّ على ديار مُضر والرحبة، ثمَّ اسْتخْلف أَبُو الْوَفَاء على الْموصل وَعَاد إِلَى بَغْدَاد.
أما أَبُو ثَعْلَب فَسَار إِلَى دمشق، وَكَانَ قد تغلب على دمشق قسام وَهُوَ شخص كَانَ يَثِق

(1/292)


إِلَيْهِ أفتكين ويقدمه فاستولى قسام على دمشق وَكَانَ يخْطب بهَا للعزيز صَاحب مصر، فَلَمَّا وصل أَبُو ثَعْلَب إِلَى دمشق قَاتله قسام وَمنعه من دمشق فَسَار أَبُو ثَعْلَب إِلَى طبرية.
وفيهَا توفّي القَاضِي أَبُو سعيد الْحسن بن عبد اللَّهِ السيرافي شَارِح كتاب سِيبَوَيْهٍ فَاضل فَقِيه نحوي منطقي مهندس وعمره أَربع وَثَمَانُونَ سنة، وَولي بعده أَبُو مُحَمَّد مَعْرُوف الحكم بالجانب الشَّرْقِي من بَغْدَاد.
قلت: قَرَأَ السيرافي الْقُرْآن على أبي بكر بن مُجَاهِد واللغة على ابْن دُرَيْد والنحو على ابْن السراج وَكَانَ يقرىء عدَّة فنون، وَكَانَ معتزليا وَلم يظْهر مِنْهُ شَيْء نزها عفيفا يَأْكُل من نسخ يَده، وَكَانَ كثيرا مَا ينشد:
(اسكن إِلَى سكن تسر بِهِ ... ذهب الزَّمَان وَأَنت مُنْفَرد)

(ترجو غَدا وغد كحامله ... فِي الْحَيّ لَا يَدْرُونَ مَا تَلد)

وَكَانَ بَينه وَبَين أبي الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ صَاحب الأغاني مَا جرت الْعَادة بِهِ بَين الْفُضَلَاء من التنافس، فَقَالَ فِيهِ أَبُو الْفرج:
(لست صَدرا وَلَا قَرَأت على ... صدر وَلَا علمك البكي بشافي)

(لعن اللَّهِ كل نَحْو وَشعر ... وعروض يَجِيء من سيرافي)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنّ تسع وَسِتِّينَ وثلثمائة: فِيهَا سَار أَبُو تغلب من طبرية حَسْبَمَا ذكرنَا إِلَى الرملة فِي الْمحرم مِنْهَا وَهُنَاكَ دَغْفَل بن مفرج الطَّائِي وَالْفضل بن قواد الْعَزِيز فِي عَسْكَر جهزه الْعَزِيز إِلَى الشَّام، فَسَارُوا لقِتَال أبي تغلب وَلَيْسَ مَعَه سوى سَبْعمِائة رجل من غلمانه وغلمان أَبِيه، فَانْهَزَمَ أَبُو تغلب وتبعوه وأسروه فَقتله دَغْفَل وَبعث بِرَأْسِهِ إِلَى الْعَزِيز بِمصْر، وَكَانَ مَعَه أُخْته جميلَة وَزَوجته بنت عَمه سيف الدولة فحملها بَنو عقيل إِلَى حلب وَبهَا ابْن سيف الدولة، فَترك أُخْته عِنْده وَأرْسل جميلَة بنت نَاصِر الدولة إِلَى بَغْدَاد فاعتقلت فِي حجرَة فِي دَار عضد الدولة.
وفيهَا: توفّي عمرَان بن شاهين صَاحب البطيحة فِي الْمحرم فَجْأَة، كَانَ من أهل الجامدة فجنى جنايات وَخَافَ من السُّلْطَان فهرب إِلَى البطيحة وَأقَام بَين الْقصب وَالْآجَام يَأْكُل من السّمك وطيور يتصيدها، فَاجْتمع إِلَيْهِ صيادون ولصوص فاستفحل أمره وَاتخذ لَهُ معاقل على التلال بالبطيحة وَغلب على تِلْكَ النواحي سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وثلثمائة فِي أَيَّام معز الدولة، فَأرْسل معز الدولة لقتاله عسكرا مَرَّات فَلم يظفر بِهِ وَمَات معز الدولة وَعَسْكَره محاصر عمرَان، وَتَوَلَّى بختيار فَأمر بِرُجُوع الْعَسْكَر عَنهُ، ثمَّ جرت بَينهمَا حروب فَلم يظفر بختيار بِهِ.
وَلما مَاتَ عمرَان ولي مَكَانَهُ ابْنه الْحسن، فطمع فِيهِ عضد الدولة وَأرْسل إِلَيْهِ عسكرا ثمَّ صَالحه على مَال يحملهُ لعضد الدولة كل سنة.
وفيهَا: سَار عضد الدولة إِلَى بِلَاد أَخِيه فَخر الدولة عَليّ لوحشة جرت بَينهمَا، فهرب

(1/293)


مِنْهُ وَلحق بشمس الْمَعَالِي قَابُوس بن وشكمير فَأكْرمه غَايَة، وَملك عضد الدولة بِلَاد أَخِيه فَخر الدولة وَهِي هَمدَان والري وَمَا بَينهمَا، ثمَّ سَار إِلَى بِلَاد حسبويه الْكرْدِي فاستولى عَلَيْهَا، وَلحق عضد الدولة فِي هَذَا السّفر صرع فكتمه وَكثر نسيانه فَلَا يذكر الشَّيْء إِلَّا بعد جهد وكتم ذَلِك أَيْضا:
قلت:
(مواعظ الدَّهْر لأبنائه ... مَا بَين مَفْهُوم ومنطوق)

(كم طامع من دهره بالصفا ... والدهر لَا يصفو لمخلوق)
وَالله أعلم.
وفيهَا: أرسل عضد الدولة جَيْشًا إِلَى الأكراد الهكارية من عمل الْموصل فأوقع بهم وحاصرهم، فتركوا قلاعهم ونزلوا مَعَ الْعَسْكَر إِلَى الْموصل.
وفيهَا: تزوج الطائع ابْنة عضد الدولة.
قلت: وفيهَا: زَاد سعد الدولة أَبُو الْمَعَالِي بن سيف الدولة الْأَذَان حَيّ على خير الْعَمَل وَمُحَمّد وَعلي خير الْبشر.
وفيهَا: توفّي ثَابت بن إِبْرَاهِيم الْحَرَّانِي الحاذق فِي الطِّبّ.
ثمَّ دخلت سنة سبعين وثلثمائة: فِيهَا توفّي الأحدب المزور كتب على خطوط النَّاس فَلَا يشك الْمَكْتُوب عَنهُ أَنه خطه، وَكَانَ عضد الدولة يُوقع بِخَطِّهِ بَين الْمُلُوك الَّذين يُرِيد الْإِيقَاع بَينهم بِمَا يَقْتَضِيهِ الْحَال.
وفيهَا: ورد على عضد الدولة من الْيمن هَدِيَّة فِيهَا قِطْعَة عنبر وَزنهَا سِتَّة وَخَمْسُونَ رطلا بالبغدادي.
وفيهَا: توفّي الْأَزْهَرِي أَبُو مَنْصُور مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْأَزْهَر بن طَلْحَة اللّغَوِيّ الْفَقِيه الشَّافِعِي، لَهُ التَّهْذِيب عشر مجلدات وَغَيره، ومولده سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَسبعين وثلثمائة: فِيهَا استولى عضد الدولة على بِلَاد جرجان وطبرستان وَأجلى عَنْهَا قَابُوس وَمَعَهُ فَخر الدولة أَخُو عضد الدولة لِأَنَّهُ طلب مِنْهُ أَخَاهُ فَلم يُسلمهُ إِلَيْهِ.
وفيهَا: قبض عضد الدولة على القَاضِي المحسن بن عَليّ التنوخي الْحَنَفِيّ وَكَانَ يُطلق لِسَانه فِي الشَّافِعِي رَحْمَة اللَّهِ عَلَيْهِ.
وفيهَا: أطلق عضد الدولة أَبَا إِسْحَاق الصابي وَكَانَ قبض عَلَيْهِ سنة سبع وَسِتِّينَ بِسَبَب أَنه كَانَ ينصح فِي المكاتبات لمخدومه بختيار.
قلت: وَهَذَا عَجِيب:
(فَلَيْسَ نصح الْفَتى لصَاحبه ... من الصِّفَات الَّتِي يذم بهَا)
وَالله أعلم.

(1/294)


وفيهَا: أرسل عضد الدولة القَاضِي أَبَا بكر مُحَمَّد بن الطّيب الْأَشْعَرِيّ بن الباقلاني إِلَى ملك الرّوم فِي جَوَاب رِسَالَة.
وفيهَا: توفّي أَبُو بكر أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل الْإِسْمَاعِيلِيّ الْفَقِيه الشَّافِعِي الْجِرْجَانِيّ، وَالْإِمَام مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد اللَّهِ الْفَقِيه الشَّافِعِي الْمروزِي عَالم بِالْحَدِيثِ وَغَيره وروى صَحِيح البُخَارِيّ عَن الْفربرِي.
قلت: وفيهَا: قبض عضد الدولة على جميلَة بنت نَاصِر الدولة بن حمدَان لما عَادَتْ من الرملة بعد قتل أَخِيهَا أبي تغلب ونادى عَلَيْهَا وَهِي على جمل: هَذِه قبيحة أُخْت أبي مغلوب، وغرقها فِي دجلة وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وثلثمائة: فِيهَا بعث الْعَزِيز بِاللَّه من مصر جَيْشًا مَعَ بكتكين إِلَى الشَّام فوصل فلسطين وَقد استولى عَلَيْهَا مفرج بن الْجراح فَاقْتَتلُوا فَانْهَزَمَ ابْن الْجراح ثمَّ سَار بكتكين إِلَى دمشق فقاتله قسام الْمُتَوَلِي عَلَيْهَا، فغلبه بكتكين وَملك دمشق وَأمْسك قساما وأرسله إِلَى الْعَزِيز فاستقر بِدِمَشْق وزالت مِنْهَا الْفِتَن.
وفيهَا: فِي ثامن شَوَّال توفّي عضد الدولة فناخسرو بن ركن الدولة وَحسن بن بويه بمعاودة الصرع مرّة بعد أُخْرَى وَحمل إِلَى مشْهد عَليّ بن أبي طَالب رَضِي اللَّهِ عَنهُ فَدفن بِهِ وولايته بالعراق خمس سِنِين وَنصف وعمره سبع وَأَرْبَعُونَ، وَلما احْتضرَ لم ينْطَلق لِسَانه إِلَّا بِتِلَاوَة: {مَا أغْنى عني ماليه. هلك عني سلطانية} . وَكَانَ عَاقِلا فَاضلا سائسا مهيبا، وَبنى على مَدِينَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سورا وَله شعر مِنْهُ أَبْيَات مِنْهَا بَيت لم يفلح بعده وَهِي:
(لَيْسَ شرب الكأس إِلَّا فِي الْمَطَر ... وغناء من جوَار فِي السحر)

(غانيات سالبات للنهى ... ناعمات فِي تضاعيف الْوتر)

(عضد الدولة وَابْن ركنها ... ملك الْأَمْلَاك غلاب الْقدر)

وَكَانَ محبا لأهل الْعُلُوم فقصده الْعلمَاء وصنف لَهُ الْإِيضَاح فِي النَّحْو وَالْحجّة فِي الْقرَاءَات والملكي فِي الطِّبّ والتاجي فِي تَارِيخ الديلم وَغير ذَلِك، وَلما توفّي بَايع القواد ابْنه كاليجار المزربان على الْإِمَارَة ولقبوه صمصام الدولة، وَكَانَ أَخُوهُ شرف الدولة شيربك بكرمان وَسمع بِمَوْت أَبِيه فَسَار وَملك فَارس وَقطع خطْبَة أَخِيه صمصام الدولة.
وفيهَا: قتل أَبُو الْفرج مُحَمَّد بن عمرَان بن شاهين أَخَاهُ الْحسن صَاحب البطيحة وَاسْتولى عَلَيْهَا.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسبعين وثلثمائة: فِيهَا توفّي مؤيد الدولة بويه بن ركن الدولة حسن بن بويه بالخوانيق، كَانَ قد زَاده أَخُوهُ عضد الدولة على مملكة اخيهما فَخر الدولة، وعاش مؤيد الدولة ثَلَاثًا وَأَرْبَعين وَكَانَ أَخُوهُ فَخر الدولة عَليّ مَعَ قَابُوس كَمَا ذكرنَا، فَلَمَّا مَاتَ مؤيد الدولة اتّفق قواد عسكره على طَاعَة فَخر الدولة وَكَتَبُوا إِلَيْهِ، فَعَاد ملكه والْمنَّة لله بِلَا قتال وَذَلِكَ فِي رَمَضَان مِنْهَا، ووصلت إِلَى فَخر الدولة الْخلْع من الْخَلِيفَة والعهد بِالْولَايَةِ.

(1/295)


وفيهَا: كتب بكجور مولى قرعويه الَّذِي قبض على قرعويه وَملك حلب ثمَّ أَخذهَا مِنْهُ شرِيف بن سيف الدولة إِلَى الْعَزِيز بِمصْر يسْأَله ولَايَة دمشق فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك وَكتب إِلَى بكتكين عَامله بِدِمَشْق أَن يُسَلِّمهَا إِلَى بكجور ويحضر بكتكين إِلَى مصر، فسلمها إِلَى بكجور فِي رَجَب وأساء بكجور فِيهَا السِّيرَة.
وفيهَا: اتّفق كبراء عَسْكَر عمرَان بن شاهين فَقتلُوا أَبَا الْفرج مُحَمَّد بن عمرَان لسوء سيرته وَأَقَامُوا أَبَا الْمَعَالِي بن الْحسن بن شاهين صَغِيرا يدبر أمره المظفر بن على الْحَاجِب وَهُوَ أكبر قواد جده عمرَان، ثمَّ أَزَال المظفر الْحَاجِب أَبَا الْمَعَالِي وسيره وَأمه إِلَى وَاسِط واستقل المظفر بِملك البطيحة وانقرض بَيت عمرَان بن شاهين.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة توفّي يُوسُف بن بلكين بن زيزي أَمِير أفريقية وَتَوَلَّى ابْن الْمَنْصُور وَأرْسل إِلَى الْمعز هَدِيَّة عَظِيمَة قيمتهَا ألف ألف دِينَار.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَسبعين وثلثمائة: فِيهَا ولي أَبُو طريف عليان بن ثمال الخفاجي حماية الْكُوفَة وَهِي أول إِمَارَة بني ثمال.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْفَتْح مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الْموصِلِي الْحَافِظ الْمَشْهُور.
وفيهَا: توفّي بميافارقين الْخَطِيب أَبُو يحيى عبد الرَّحِيم بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن نَبَاته إِمَام فِي الْعُلُوم الْأَدَب مَا عمل مثل خطبه، وخطب أَيْضا بحلب وَبهَا اجْتمع بالمتنبي عِنْد سيف الدولة، وَكَانَ الْخَطِيب رجلا صَالحا رأى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْمَنَام فَقَالَ: مرْحَبًا يَا خطيب الخطباء كَيفَ تَقول كَأَنَّهُمْ لم يَكُونُوا للعيون قُرَّة وَلم يعدوا فِي الْأَحْيَاء مرّة؟ فَقَالَ الْخَطِيب تتمتها الْمعرفَة، فأدناه رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وتفل فِي فِيهِ، فَبَقيَ بعْدهَا ثَلَاثَة أَيَّام لم يطعم طَعَاما وَلَا يشتهيه وَيُوجد من فِيهِ مثل رَائِحَة الْمسك وَلم يَعش بعْدهَا إِلَّا يسرا، ومولده سنة خمس وَثَلَاثِينَ وثلثمائة.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَسبعين وثلثمائة: فِيهَا قصدت القرامطة الْكُوفَة مَعَ نفرين من السِّتَّة الَّذين تسموا بالسادة فملكوها ونهبوا، فَجهز صمصام الدولة إِلَيْهِم جَيْشًا فَانْهَزَمَ القرامطة وَكثر الْقَتْل فيهم وانخرقت هيبتهم.
وَحكى ابْن الْأَثِير والعهدة على النَّاقِل أَنه خرج فِي هَذِه السّنة من الْبَحْر بعمان طَائِر أكبر من الْفِيل ووقف على تل هُنَاكَ وَصَاح بِصَوْت عَال ولسان فصيح: قد قرب، قَالَهَا ثَلَاث مَرَّات ثمَّ غاص فِي الْبَحْر، فعل ذَلِك ثَلَاثَة أَيَّام وَلم ير بعد ذَلِك.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسبعين وثلثمائة: فِيهَا سَار شرف الدولة شيربك بن عضد الدولة من الأهواز فَملك وَاسِط، وَأَشَارَ أَصْحَاب صمصام الدولة عَلَيْهِ بِالْمَسِيرِ إِلَى الْموصل أَو غَيرهَا فَأبى وَركب بخواصه وَحضر عِنْد أَخِيه شرف الدولة مستأمنا فَلَقِيَهُ وَطيب قلبه، فَلَمَّا خرج من عِنْده غدر بِهِ شرف الدولة وَقبض عَلَيْهِ وَسَار حَتَّى دخل بَغْدَاد فِي رَمَضَان

(1/296)


وصمصام الدولة معتقل مَعَه، وَكَانَت إِمَارَة صمصام الدولة بِبَغْدَاد ثَلَاث سِنِين، ثمَّ أعتقله بقلعة بِفَارِس.
وفيهَا: توفّي المظفر الْحَاجِب صَاحب البطيحة، ووليها ابْن أَخِيه أَبُو الْحسن عَليّ بن نصر بِعَهْد من المظفر وَوصل تَقْلِيده من بَغْدَاد ولقب مهذب الدولة فَأحْسن وساس.
وفيهَا: توفّي بِبَغْدَاد أَبُو عَليّ الْحسن بن أَحْمد بن عبد الْغفار الْفَارِسِي النَّحْوِيّ صَاحب الْإِيضَاح وَقد جَاوز التسعين، وَقيل كَانَ معتزليا، ولد فِي مَدِينَة فسا واشتغل بببغداد وَأقَام مُدَّة بحلب عِنْد سيف الدولة، ثمَّ أَقَامَ بِفَارِس وَصَحب عضد الدولة وَله التَّذْكِرَة وَكتاب الْمَقْصُور والممدود وَالْحجّة فِي الْقرَاءَات والعوامل الْمِائَة والمسائل الحلبيات.
قلت: وَكَانَ أَبُو عَليّ يغبط من يَقُول الشّعْر وَقَالَ: مَا أعلم أَن لي شعرًا إِلَّا ثَلَاثَة أَبْيَات فِي الشيب وَهِي قَوْله:
(خضبت الشيب لما كَانَ عَيْبا ... وخضب الشيب أولى أَن يعابا)

(وَلم أخضب مَخَافَة هجر خل ... وَلَا عَيْبا خشيت وَلَا عتابا)

(وَلَكِن المشيب بدا ذَمِيمًا ... فصيرت الخضاب لَهُ عقَابا)

قلت: وقذ ذكرت بِهَذَا بَيْتَيْنِ لي فِي الشيب وهما:
(بِاللَّه يَا معشر أَصْحَابِي ... اغتنموا فضلي وآدابي)

(فالشيب قد حل برأسي وَقد ... أقسم لَا يرحل إِلَّا بِي)
وبيتين لي أَيْضا فِيهِ وهما:
(الشيب سَوط عَذَاب ... هام النِّسَاء بقذفه)

(يَكْفِي مشيبي عَيْبا ... إِنِّي رضيت بنتفه)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَسبعين وثلثمائة وَسنة ثَمَان وَسبعين وثلثمائة:: فِيهَا سير الْعَزِيز عسكرا مَعَ الْقَائِد مِنْبَر الْخَادِم إِلَى دمشق ليعزل بكجور عَنْهَا ويتولاها فقاتله عِنْد داريا فَانْهَزَمَ بكجور وَدخل الْبَلَد وَطلب الْأمان فَأَمنهُ فَسَار بكجور إِلَى الرقة فاستولى عَلَيْهَا، وَأحسن مِنْبَر السِّيرَة بِدِمَشْق.
وفيهَا: فِي الْمحرم أهْدى الصاحب بن عباد إِلَى فَخر الدولة بن ركن الدولة حسن دِينَارا وَزنه ألف مِثْقَال مَكْتُوبًا عَلَيْهِ:
(وأحمر يَحْكِي الشَّمْس شكلا وَصُورَة ... فأوصافها مُشْتَقَّة من صِفَاته)

(فَإِن قيل دِينَار فقد صدق اسْمه ... وَإِن قيل ألف فَهُوَ بعض سماته)

(بديع وَلم يطبع على الدَّهْر مثله ... وَلَا ضربت أضرابه لسراته)

(وَصَارَ إِلَى شاهان شاه انتسابه ... على أَنه مستصغر لعفاته)

(1/297)


(يخبر أَن يبْقى سنينا كوزنه ... لتستبشر الدُّنْيَا بطول حَيَاته)

وفيهَا: توفّي أَبُو حَامِد مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن إِسْحَاق الْحَاكِم النَّيْسَابُورِي ذُو التصانيف.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَسبعين وثلثمائة: فِيهَا أرسل شرف الدولة مُحَمَّد الشِّيرَازِيّ الْفراش فسمل عَيْني أَخِيه صمصام الدولة فِي القلعة الَّتِي حبس بهَا.
وفيهَا: فِي مستهل جُمَادَى الْآخِرَة توفّي الْملك شرف الدولة شيربك بالاستسقاء وَدفن بمشهد عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ، وإمارته بالعراق سنتَانِ وَثَمَانِية أشهر وعمره ثَمَان وَعِشْرُونَ سنة وَخَمْسَة أشهر، فاستقر مَوْضِعه أَخُوهُ أَبُو نصر بهاء الدولة واسْمه خاشاذ وخلع عَلَيْهِ الطائع وقلده السلطنة.
وفيهَا: افْتتن الأتراك والديلم واقتتلوا خَمْسَة أَيَّام وبهاء الدولة فِي راره يراسلهم فِي الصُّلْح، وَبعد اثْنَتَيْ عشر يَوْمًا صَار بهاء الدولة مَعَ الأتراك فَأجَاب الديلم إِلَى الصُّلْح، وَمِنْهَا أخذت الأتراك فِي الْقُوَّة والديلم فِي الضعْف.
وفيهَا: هرب أَبُو الْعَبَّاس الْقَادِر أَحْمد بن الْأَمِير إِسْحَاق بن المقتدر إِلَى البطيحة فاحتمى فِيهَا، وَسَببه: أَن الْأَمِير إِسْحَاق وَالِده لما توفّي جرى بَين ابْنه أَحْمد الْمُسَمّى فِيمَا بعد بالقادر وَبَين أُخْت لَهُ مُنَازعَة على ضَيْعَة وَكَانَ الطائع قد مرض وشفي فسعت بأخيها إِلَى الطائع وَقَالَت: إِن أخي لَهُ شرع فِي طلب الْخلَافَة عِنْد مرضك فَتغير عَلَيْهِ الطائع وَأرْسل ليقبضه فهرب، فَأكْرمه مهذب الدولة صَاحب البطيحة.
وفيهَا: اسْتَأْذن أَبُو طَاهِر إِبْرَاهِيم وَأَبُو عبد اللَّهِ الْحُسَيْن ابْنا نَاصِر الدولة بن حمدَان بهاء الدولة فِي الْمسير إِلَى الْموصل وَكَانَا قبله فِي خدمَة أَخِيه شرف الدولة بن عضد الدولة فَأذن لَهما بهاء الدولة فِي ذَلِك، فسارا إِلَى الْموصل فقاتلهما الْعَامِل بهَا، وَاجْتمعَ إِلَيْهِمَا المواصلة فطردا الْعَامِل وَاسْتقر بالموصل.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْعَبَّاس السّلمِيّ النقاش من متكلمي الأشعرية.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَانِينَ وثلثمائة: فِيهَا طمع باد صَاحب ديار بكر فِي ابْني نَاصِر الدولة الْمَذْكُورين فقصدهما وَجرى بَينهم قتال قتل فِيهِ باد وَحمل رَأسه إِلَيْهِمَا وبإدخال أبي عَليّ بن مَرْوَان فَسَار أَبُو عَليّ ابْن أُخْته إِلَى حصن كيفا وَبِه زَوْجَة خَاله باد وَأَهله فَقَالَ لامْرَأَة خَاله: قد أنقذني خَالِي إِلَيْك فِي مُهِمّ، فأصعدته فأعلمها بقتل خَاله وأطمعها فِي التَّزَوُّج بهَا فوافقته على ملك الْحصن وَغَيره، وَنزل أَبُو عَليّ بن مَرْوَان وَملك بِلَاد خَاله حصنا حصنا، وَجَرت بَينه وَبَين ابْني نَاصِر الدولة حروب.
ثمَّ مضى أَبُو عَليّ بن مَرْوَان إِلَى مصر وتقلد من الْخَلِيفَة الْعَزِيز بِاللَّه الْعلوِي ولَايَة حلب وَتلك النواحي وَعَاد إِلَى مَكَانَهُ من ديار بكر، وَأقَام بِتِلْكَ الديار إِلَى أَن اتّفق بعض

(1/298)


أهل آمد مَعَ شيخهم عبد الْبر فَقتلُوا أَبَا عَليّ الْمَذْكُور عِنْد خُرُوجه من بَاب الْبَلَد بالسكاكين تولى قَتله ابْن دمنة من آمد وَاسْتولى عبد الْبر شيخ آمد عَلَيْهِ وَزوج ابْن دمنة بابنته، فَوَثَبَ ابْن دمنة فَقتل عبد الْبر أَيْضا وَاسْتولى على آمد.
وَكَانَ لأبي عَليّ أَخ لقبه ممهد الدولة بن مَرْوَان، فَلَمَّا قتل أَبُو عَليّ سَار ممهد الدولة فَملك ميافارقين وَغَيرهَا من بِلَاد أَخِيه، فَعمل شروة وَهُوَ من أكَابِر الْعَسْكَر دَعْوَة لممهد الدولة وَقَتله فِيهَا، وَاسْتولى شروة على غَالب بِلَاد بني مَرْوَان وَذَلِكَ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعمِائَة.
وَكَانَ ممهد الدولة قد حبس أَخَاهُ الآخر أَبَا نصر أَحْمد، وَكَانَ قد حَبسه أَيْضا أَخُوهُ أَبُو عَليّ بِسَبَب مَنَام وَهُوَ أَنه رأى أَن الشَّمْس فِي حجره وَقد أَخذهَا مِنْهُ أَخُوهُ أَبُو نصر فحبسه لذَلِك، فَلَمَّا قتل ممهد الدولة أخرج أَبُو نصر من الْحَبْس وَاسْتولى على أرزن، هَذَا كُله وأبوهم مَرْوَان بَاقٍ أعمى مُقيم بأرزن عِنْد قبر وَلَده أبي عَليّ، وَلما اسْتَقر أَبُو نصر خرجت الْبِلَاد عَن طَاعَة شروة وَاسْتولى أَبُو نصر على سَائِر بِلَاد ديار بكر ودامت أَيَّامه وَحسنت سيرته، وَبَقِي كَذَلِك من سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعمِائَة إِلَى ثَلَاث وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَسَيَأْتِي.
وفيهَا: ملك أَبُو الذواد الْموصل وَهُوَ مُحَمَّد بن الْمسيب بن رَافع بن الْمُقَلّد بن جَعْفَر أَمِير بني عقيل وَقتل أَبَا طَاهِر بن نَاصِر الدولة بن حمدَان وَأَوْلَاده وعدة من قواده بعد قتال بَينهمَا وَاسْتقر أَبُو الذواد بالموصل.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى ثَمَانِينَ وثلثمائة: فِيهَا قبض بهاء الدولة على الطائع لله أبي بكر عبد الْكَرِيم بن الْمفضل الْمُطِيع لله بن المعتضد بن الْمُوفق بن المتَوَكل لطمع بهاء الدولة فِي مَال الطائع، وَلما أَرَادَ ذَلِك أرسل إِلَى الطائع وَسَأَلَهُ الْأذن ليجدد الْعَهْد بِهِ، فَجَلَسَ الطائع على كرْسِي وَدخل بعض الديلم على صُورَة مقبل ليده فَجَذَبَهُ عَن سَرِيره والخليفة يَقُول: إِنَّا لله وَأَنا إِلَيْهِ رَاجِعُون، وَحمل إِلَى دَار بهاء الدولة وَأشْهد عَلَيْهِ بِالْخلْعِ، فخلافته سبع عشرَة سنة وَثَمَانِية أشهر وَأَيَّام، وَلما تولى الْقَادِر حمل إِلَيْهِ الطائع فَبَقيَ عِنْده مكرما إِلَى أَن توفّي الطائع سنة ثَلَاث وَتِسْعين وثلثمائة لَيْلَة الْفطر ومولده سنة سبع عشرَة وثلثمائة، وَلم يكن للطائع فِي ولَايَته من الحكم مَا يسْتَدلّ بِهِ على حَاله.
وَكَانَ فِيمَن حضر لقبض الطائع الشريف الرضي فبادر بِالْخرُوجِ من دَار الْخلَافَة وَقَالَ فِي ذَلِك أبياتا مِنْهَا:
(أمسيت أرْحم من قد كنت أغبطه ... لقد تقَارب بَين الْعِزّ والهون)

(ومنظر كَانَ بالسراء يضحكني ... يَا قرب مَا عَاد بالضراء يبكيني)

(هَيْهَات أغتر بالسلطان ثَانِيَة ... قد ضل عِنْدِي ولاج السلاطين)

(1/299)


(أَخْبَار الْقَادِر بِاللَّه)

وبويع الْقَادِر بِاللَّه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن الْأمين إِسْحَاق بن المقتدر بن المعتضد وَهُوَ خَامِس عشرهم بالخلافة وخطب لَهُ ثَالِث عشر رَمَضَان، وَلما خلع الْمُطِيع كَانَ قَادر بالبطيحة كَمَا تقدم فَأرْسل إِلَيْهِ بهاء الدولة خَواص أَصْحَابه ليحضره وَخرج بهاء الدولة والأعيان لملتقاه وَدخل دَار الْخلَافَة ثَانِي عشر رَمَضَان وَلما توجه من البطيحة من عِنْد ممهد الدولة حمل إِلَيْهِ مهذب الدولة أَمْوَالًا كَثِيرَة.
وفيهَا: سَار بكجور الْمخْرج من دمشق إِلَى الرقة كَمَا ذكرنَا إِلَى قتال سعد الدولة بن سيف الدولة بحلب واقتتلا شَدِيدا وهرب بكجور وَأَصْحَابه ثمَّ أسر بكجور وَحمل إِلَى سعد الدولة فَقتله وَلَقي بكجور عَاقِبَة بغية على مَوْلَاهُ، ثمَّ سَار سعد الدولة إِلَى الرقة وَبهَا أَوْلَاد بكجور وأمواله فحصرها، فاستأمنوا فَأَمنَهُمْ وَحلف أَن لَا يتَعَرَّض إِلَيْهِم وَلَا إِلَى مَالهم، وسلموا إِلَيْهِ الرقة فغدر بهم وَقبض على أَوْلَاد بكجور وَأخذ مَالهم الْكثير.
وَعَاد سعد الدولة إِلَى حلب فَلحقه فالج فِي جَانِبه الْيَمين، فأحضر الطَّبِيب وَمد إِلَيْهِ يَده الْيُسْرَى فَقَالَ الطَّبِيب: يَا مَوْلَانَا هَات الْيُمْنَى، فَقَالَ سعد الدولة: مَا تركت لي الْيَمين يَمِينا، وَمَات بعد ثَلَاثَة أَيَّام فِي هَذِه السّنة وعهد إِلَى وَلَده أبي الْفضل وَجعل مَوْلَاهُ لُؤْلُؤ يدبر أمره.
وفيهَا: نَازل بسيل ملك الرّوم حمص فَفَتحهَا ونهبها، ثمَّ نهب شيزر، ثمَّ حصر طرابلس مُدَّة وَعَاد إِلَى الرّوم.
وفيهَا: توفّي الْقَائِد جَوْهَر معزولا عَن وظيفته.
قلت: وفيهَا جَاءَت زَلْزَلَة عَظِيمَة بِدِمَشْق هدمت دورا كَثِيرَة على أَهلهَا وَسَقَطت قَرْيَة دومة وَهلك جَمِيع أَهلهَا فِيمَا ذكر وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ ثَمَانِينَ وثلثمائة: فِيهَا شغب الْجند على بهاء الدولة بِسَبَب اسْتِيلَاء أبي الْحسن بن الْمعلم على الْأُمُور، فَسلم ابْن الْمعلم للجند فَقَتَلُوهُ.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث ثَمَانِينَ وثلثمائة: فِيهَا استولى بغراخان على بخارا وَكَانَ لَهُ كاشغر وبلاد صاغون إِلَى حد الصين، فقصد بخارا وَجرى بَينه وَبَين الْأَمِير الرضى نوح بن مَنْصُور الساماني حروب انتصر فِيهَا بغراجان وَخرج نوح مستخفيا فَعبر النَّهر إِلَى أمل الشط وَأقَام نوح بهَا وَلحق بِهِ أَصْحَابه، وَصَارَ يَسْتَدْعِي أَبَا عَليّ بن سيمجور صَاحب جَيش خُرَاسَان فَلم يَأْته وَعصى عَلَيْهِ، وَمرض بغراجان فِي بخارا فَرجع إِلَى بِلَاده فَمَاتَ فِي الطَّرِيق، وَكَانَ دينا حسن السِّيرَة وبادر الْأَمِير نوح إِلَى بخارا وَاسْتقر فِي ملك آبَائِهِ.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَثَمَانِينَ وثلثمائة: فِيهَا اتّفق أَبُو عَليّ بن سيمجور صَاحب جَيش خُرَاسَان وفائق على حَرْب نوح، فَكتب نوح إِلَى سبكتكين وَهُوَ بغزنة يُعلمهُ بِالْحَال وولاه

(1/300)


خُرَاسَان، فَسَار سبكتكتين عَن غزنة وَمَعَهُ ابْنه مَحْمُود إِلَى نَحْو خُرَاسَان وَسَار نوح من بخارا فَاجْتمعُوا وقصدوا ابْن سيجمور وفائقا واقتتلوا بنواحي هراة، فَانْهَزَمَ ابْن سيجمور وَأَصْحَابه وتبعهم عَسْكَر نوح وسبكتكين يقتلُون، ثمَّ اسْتعْمل نوح على خُرَاسَان مَحْمُود بن سبكتكين.
وفيهَا: توفّي عبيد اللَّهِ بن مُحَمَّد بن نَافِع الصَّالح بَقِي سبعبن سنة لَا يسْتَند إِلَى شَيْء، وَأَبُو الْحسن عَليّ بن عِيسَى النَّحْوِيّ الرماني ومولده سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَله تَفْسِير كَبِير، وَمُحَمّد بن الْعَبَّاس بن أَحْمد الْقَزاز وَكتب كثيرا وخطه حجَّة نقلا وضبطا، وَأَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن هِلَال الْكَاتِب الصابي وَهُوَ ابْن إِحْدَى وَتِسْعين سنة زمن وَضَاقَتْ أُمُوره، وَكَانَ كَاتب معز الدولة ثمَّ كتب لبختيار، وَكَانَت تصدر عَنهُ مكاتبات إِلَى عضد الدولة تؤلمه فحقد عَلَيْهِ، وَلما ملك بَغْدَاد حبس الصابي ثمَّ أطلقهُ وَأمره أَن يصنف لَهُ كتابا فِي أَخْبَار الدولة الديلمية فصنف الْكتاب التاجي.
وَنقل إِلَى عضد الدولة عَنهُ أَن رجلا دخل عَلَيْهِ وَهُوَ يؤلف فِي التاجي فَسَأَلَهُ عَمَّا يفعل، فَقَالَ: أباطيل أنمقها وأكاذيب ألفقها، فحرك ذَلِك حقد عضد الدولة فَأَبْعَده وَحرمه.
جهد معز الدولة على الصابي ليسلم فَأبى، وَكَانَ يحفظ الْقُرْآن، ورثاه الشريف الرضي فليم فِي ذَلِك فَقَالَ: إِنَّمَا رثيت فضيلته.
قلت: وَله فِي عبد لَهُ أسود كَانَ يهواه اسْمه يمن:
(قد قَالَ يمن وَهُوَ أسود للَّذي ... ببياضه استعلى علو الخاتن)

(مَا فَخر وَجهك بالبياض وَهل ترى ... إِن قد أفدت بِهِ مزِيد محَاسِن)

(وَلَو أَن مني فِيهِ خالا زانه ... وَلَو أَن مِنْهُ فِي خالا شانني)

وَله فِيهِ:
(لَك وَجه كَأَن يمناي ... خطته بِلَفْظ تمله آمالي)

(فِيهِ معنى من البدور وَلَكِن ... نفضت صبغها عَلَيْهِ اللَّيَالِي)

(لم يشنك السوَاد بل زِدْت حسنا ... إِنَّمَا يلبس السوَاد الموَالِي)

(فبمالي أفديك إِن لم تكن لي ... وبروحي أفديك إِن كنت مَالِي)

وَأول مرثية الشريف الرضي فِيهِ:
(أَرَأَيْت من حملُوا على الأعواد ... أَرَأَيْت كَيفَ خبا ضِيَاء النادي)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَثَمَانِينَ وثلثمائة: فِيهَا عَاد أَبُو عَليّ بن سيمجور إِلَى خُرَاسَان وَقَاتل مَحْمُود بن سبكتكين وَأخرجه عَنْهَا، ثمَّ سَار سبكتكين وَابْنه مَحْمُود بالعساكر واقتتلوا مَعَ أبي عَليّ بطوس فهزموه، فَقَالَ بعض الشُّعَرَاء عَن ابْن سيمجور:

(1/301)


(عصى السُّلْطَان فابتدرت إِلَيْهِ ... رجال يقلعون أَبَا قبيس)

(وصير طوس معقلة فَكَانَت ... عَلَيْهِ طوس أشأم من طويس)

ثمَّ أَن أَبَا عَليّ طلب الْأمان من نوح فَأَمنهُ، وجاءه أَبُو عَليّ إِلَى بخارا فحبسه نوح حَتَّى مَاتَ فِي الْحَبْس.
وفيهَا: مَاتَ الصاحب أَبُو الْقَاسِم إِسْمَاعِيل بن عباد وَزِير فَخر الدولة عَليّ بن بويه بِالريِّ وَنقل فَدفن بأصبهان، كَانَ أوحد زَمَانه علما وتدبيرا وكرما أول من لقب بالصاحب من الوزراء صحب الْفضل بن العميد فَقيل لَهُ صَاحب ابْن العميد ثمَّ أطلق عَلَيْهِ هَذَا اللقب لما تولى الوزارة وَصَارَ علما عَلَيْهِ ثمَّ سمي بِهِ كل من ولي الوزارة وَكَانَ أَولا وزيرا لمؤيد الدولة وَبعده لفخر الدولة، وَله الْمُحِيط فِي اللُّغَة وَالْكَافِي فِي الرسائل وَكتاب الْإِمَامَة يتَضَمَّن فَضَائِل عَليّ وَصِحَّة إِمَامَة من تقدمه رَضِي اللَّهِ عَنْهُم وَكتاب الوزراء وَله النّظم الْجيد؛ ولد فِي ذِي الْقعدَة سنة سِتّ وَعشْرين وثلثمائة بأصطخر وَقيل بطالقان قزوين، وَعباد أَبوهُ وَزِير ركن الدولة، وَتُوفِّي سنة أَربع أَو خمس وَثَمَانِينَ وثلثمائة.
وفيهَا: توفّي الإِمَام أَبُو الْحسن عَليّ بن عمر بن أَحْمد الدَّارَقُطْنِيّ الْحَافِظ إِمَام فَقِيه شَافِعِيّ حفظ كثيرا من دواوين الشُّعَرَاء مِنْهَا ديوَان السَّيِّد الْحِمْيَرِي فنسب لذَلِك إِلَى التَّشَيُّع، وَخرج من بَغْدَاد إِلَى مصر وَأقَام عِنْد أبي الْفضل جَعْفَر وَزِير كافور واستفاد مِنْهُ ثروة وعلومه كَثِيرَة وَلَا سِيمَا عُلُوم الحَدِيث ومولده فِي ذِي الْقعدَة سنة سِتّ وثلثمائة ووفاته بِبَغْدَاد، ونسبته إِلَى دَار الْقطن محلّة كَبِيرَة بِبَغْدَاد.
وفيهَا: توفّي أَبُو مُحَمَّد يُوسُف بن الْحسن بن عبد اللَّهِ بن الْمَرْزُبَان السيرافي الْفَاضِل ابْن الْفَاضِل كمل كتاب الْإِقْنَاع تصنيف وَالِده وَشرح أَبْيَات كتاب سِيبَوَيْهٍ وَشرح إصْلَاح الْمنطق، وسيراف فرضة فَارس وَلَيْسَ بهَا زرع وَلَا ضرع وَمَال أَهلهَا كثير وَمِنْهَا يَنْتَهِي الْإِنْسَان إِلَى حصن عمَارَة على الْبَحْر من امْنَعْ الْحُصُون وَقيل: صَاحبهَا هُوَ الجلندي الَّذِي كَانَ يَأْخُذ كل سفينة غصبا.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وثلثمائة: فِيهَا لليلتين بَقِيَتَا من رَمَضَان توفّي الْعَزِيز بِاللَّه بن الْمعز بن الْمَنْصُور الْعلوِي الفاطمي صَاحب مصر وعمره اثْنَان وَأَرْبَعُونَ سنة وَثَمَانِية أشهر برز إِلَى بلبيس لغزو الرّوم فَمَاتَ بهَا بعدة أمراض مِنْهَا القولنج وخلافته إِحْدَى وَعِشْرُونَ سنة وَخَمْسَة أشهر وَنصف ومولده بالمهدية، ولى كِتَابَته نَصْرَانِيّا اسْمه عِيسَى بن نسطورس، واستناب بِالشَّام يَهُودِيّا اسْمه مِيشَا فاستطالت النَّصَارَى وَالْيَهُود بسببهما، فَعمل أهل مصر قَرَاطِيس صُورَة امْرَأَة وَمَعَهَا قصَّة فِي طَرِيق الْعَزِيز فَأَخذهَا الْعَزِيز فَإِذا فِيهَا: بِالَّذِي أعز الْيَهُود بميشا وَالنَّصَارَى بِعِيسَى بن نسطورس وأذل الْمُسلمين بك إِلَّا كشفت عَنَّا، فَقبض على النَّصْرَانِي وصادره.
وَلما مَاتَ بُويِعَ ابْنه الْحَاكِم بِأَمْر اللَّهِ أَبُو عَليّ مَنْصُور بعده أَبِيه وعمره إِحْدَى عشرَة

(1/302)


سنة، وَقَامَ بتدبير ملكه أرجوان الْخصي الْأَبْيَض خَادِم أَبِيه فضبطه إِلَى أَن كبر الْحَاكِم فَقتل أرجوان.
وفيهَا: مَاتَ أَبُو ذواد بن الْمسيب أَمِير الْموصل، ووليها أَخُوهُ الْمُقَلّد.
وفيهَا: توفّي مَنْصُور بن يُوسُف بلكين بن زيزي الصنهاجي أَمِير إفريقية وَكَانَ ملكا كَرِيمًا شجاعا، ووليها ابْنه باديس.
وفيهَا: توفّي أَبُو طَالب مُحَمَّد بن عَليّ بن عَطِيَّة الْمَكِّيّ صَاحب قوت الْقُلُوب صنفه وقوته إِذْ ذَاك عروق البردي، صَالح مُجْتَهد فِي الْعِبَادَة من أهل الْجبَال وَسكن مَكَّة فنسب إِلَيْهَا وَنسب إِلَيْهِ تَخْلِيط قبل مَوته وَمَات بِبَغْدَاد.

(ابْتِدَاء دولة بني حَمَّاد مُلُوك بجاية)

ثمَّ دخلت سنة سبع وَثَمَانِينَ وثلثمائة: فِيهَا ابْتِدَاء دولة بني حَمَّاد فِي بجاية فَإِن باديس بن مَنْصُور بن بلكين صَاحب إفريقية عقد فِي صفر مِنْهَا الْولَايَة لِعَمِّهِ حَمَّاد بن بلكين على أُشير فاتسعت ولَايَة حَمَّاد وَعظم وَجمع العساكر وَالْأَمْوَال.
وَفِي سنة خمس وَأَرْبَعمِائَة أظهر الْخلاف على ابْن أَخِيه باديس وخلعه واقتتلا فِي أول جُمَادَى سنة سِتّ وَأَرْبَعمِائَة فَانْهَزَمَ حَمَّاد هزيمَة شنيعة بعد قتال شَدِيد بَين الْفَرِيقَيْنِ والتجأ إِلَى قلعة مغلية، ثمَّ نهب دكمه وَنقل مِنْهَا الزَّاد إِلَى مغيلة وتحصن بهَا وباديس بِقُرْبِهِ محاصر لَهُ إِلَى أَن توفّي باديس فَجْأَة نصف لَيْلَة الْأَرْبَعَاء آخر ذِي الْقعدَة سنة سِتّ وَأَرْبَعمِائَة.
وَتَوَلَّى الْمعز بن باديس، وَاسْتمرّ حَمَّاد على الْخلف مَعَه حَتَّى اقتتلا فِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعمِائَة عِنْد نيني مَوضِع، فَانْهَزَمَ حَمَّاد شنيعا فَلم يعد حَمَّاد إِلَى قتال بعْدهَا واصطلح مَعَ الْمعز على أَن يقْتَصر حَمَّاد على مَا بِيَدِهِ وَهُوَ عمل ابْن عَليّ وَمَا وَرَاءه من أُشير وتاهرت، وَاسْتقر للقائد ابْن حَمَّاد المسيلة وطبنة ومرسى الدَّجَاج وزواوة ومقرة ودكمة وَغَيرهَا، وَبَقِي حَمَّاد وَابْنه كَذَلِك حَتَّى مَاتَ حَمَّاد منتصف سنة تسع عشرَة وَأَرْبَعمِائَة.
وَاسْتقر فِي الْملك بعده ابْنه الْقَائِد حَتَّى توفّي سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة.
فَملك بعده ابْنه محسن بن الْقَائِد فأساء وخبط وَقتل فِي أَعْمَامه، فقاتله ابْن عَمه بلكين وَملك مَوْضِعه فِي ربيع الأول سنة سبع وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة وَبَقِي حَتَّى غدر ببلكين الْمَذْكُور النَّاصِر بن علناس بن حَمَّاد وَأخذ مِنْهُ الْملك فِي رَجَب سنة أَربع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة.
وَاسْتقر النَّاصِر بن علناس حَتَّى توفّي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة.
وَملك بعده ابْنه الْمَنْصُور بن النَّاصِر إِلَى أَن توفّي سنة ثَمَان وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة.
وَملك بعده ابْنه باديس بن الْمَنْصُور يَسِيرا وَتُوفِّي.
وَملك بعده أَخُوهُ الْعَزِيز بِاللَّه بن الْمَنْصُور إِلَى أَن توفّي.

(1/303)


وَملك بعده ابْنه يحيى بن الْعَزِيز إِلَى أَن سَار عبد الْمُؤمن من الْمغرب الْأَقْصَى وَملك بجاية.
قَالَ ابْن الْأَثِير: وَكَانَ ذَلِك فِي سنة سبع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة، وَآخر من ملك مِنْهُم يحيى بن الْعَزِيز بن الْمَنْصُور بن النَّاصِر بن علناس بن حَمَّاد بن بلكين وانقرضت دولتهم فِي السّنة الْمَذْكُورَة، وجمعناه ليسهل.
وفيهَا: مَاتَ الرضى الْأَمِير نوح بن مَنْصُور بن نوح بن نصر بن أَحْمد بن إِسْمَاعِيل بن أَحْمد بن أَسد بن سامان فِي رَجَب واختل ملكهم بِمَوْتِهِ، وَقَامَ بعده ابْنه أَبُو الْحَارِث مَنْصُور.
وفيهَا: مَاتَ سبكتكين فِي شعْبَان وَلما طَال مَرضه انْتقل من بَلخ إِلَى غزنة فَمَاتَ فِي الطَّرِيق فَنقل وَدفن بغزنة وَمُدَّة ملكه عشرُون سنة وَكَانَ خيرا عادلا وعهد إِلَى ابْنه إِسْمَاعِيل وَكَانَ مَحْمُودًا أكبر مِنْهُ فقاتله بعد سَبْعَة أشهر، فَانْهَزَمَ إِسْمَاعِيل وانحصر فِي قلعة غزنة فأنزله مَحْمُود بالأمان وَأحسن إِلَيْهِ.
وفيهَا: توفّي فَخر الدولة أَبُو الْحسن عَليّ بن ركن الدولة أبي عَليّ الْحسن بن بويه بقلعة طبرك فِي شعْبَان، وملكوا بعده ابْنه مجد الدولة أَبَا طَالب رستم وعمره أَربع سِنِين ووالدته تدبر الْملك.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْوَفَاء مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن المهندس الحاسب البوزجاني ومولده فِي رَمَضَان سنة ثَمَان وَعشْرين وثلثمائة ببوزجان بَلْدَة بَين هراة ونيسابور قدم الْعرَاق.
وفيهَا: توفّي الْحسن بن إِبْرَاهِيم بن الْحسن من ولد سُلَيْمَان بن زولاق مصري الأَصْل لَهُ فِي التَّارِيخ مصنفات وَله كتاب خطط مصر وَكتاب قُضَاة مصر.
وفيهَا: توفّي أَبُو احْمَد الْحسن بن عبد اللَّهِ بن سعيد العسكري تصانيفه كَثِيرَة فِي اللُّغَة والأمثال وَغَيرهمَا، من عَسْكَر مكرم مَدِينَة من كور الأهواز، ومولده فِي شَوَّال سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ، وَأخذ عَن ابْن دُرَيْد وَله أَيْضا كتاب فِي الْمنطق وَكتاب الزواجر وَكتاب الْمُخْتَلف والمؤتلف وَكتاب الحكم والأمثال.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وثلثمائة: فِيهَا فِي ذِي الْحجَّة قتل صمصام الدولة قَتله أَبُو كاليجار الْمَرْزُبَان بن عضد الدولة بن بويه لشغب الديلم عَلَيْهِ، وَعمر صمصام الدولة خمس وَثَلَاثُونَ سنة وَسَبْعَة أشهر وولايته بِفَارِس تسع سِنِين وَثَمَانِية أَيَّام، وَفِي تارخ ابْن أبي الدَّم أَن صمصام الدولة لما خرج من الاعتقال وَملك فِي سنة ثَمَانِينَ وثلثمائة كَانَ أعمى من حِين سمل وَاسْتمرّ حَتَّى قتل فِي هَذِه السّنة وَهُوَ أعمى.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن الْحسن بن المظفر الْحَاتِمِي إِمَام الْأَدَب واللغة وَله الرسَالَة الحاتمية فِي المتنبي، وَنسب إِلَى جده حَاتِم.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَمَانِينَ وثلثمائة: فِيهَا اتّفق أَعْيَان الْعَسْكَر مَعَ بكتورون وفائق وخلعوا مَنْصُور بن نوح وسمله بكتورون فأعماه وَلم يراقب اللَّهِ فِيهِ وَلَا إِحْسَان موَالِيه

(1/304)


وَأَقَامُوا أَخَاهُ عبد الْملك صَغِيرا، وَمُدَّة ملك مَنْصُور سنة وَسَبْعَة أشهر، وَكتب مَحْمُود بن سبكتكين يلوم بكتورون وفائقا، وقاتلهما أَشد قتال فانهمزما وتبعهما مَحْمُود يقتل فِي عَسْكَرهمْ حَتَّى أبعد، وَاسْتولى مَحْمُود على ملك خُرَاسَان وَقطع مِنْهَا خطْبَة السامانية.
وفيهَا: انقرضت دولة السامانية، فَإِن مَحْمُود بن سبكبكين لما ملك خُرَاسَان وَقطع خطبتهم اتّفق ببخارا بكتورون وفائق مَعَ عبد الْملك بن نوح وشرعوا يجمعُونَ العساكر فاتفق موت فائق وَكَانَ هُوَ الْمشَار إِلَيْهِ فضعفت بؤوسهم بِمَوْتِهِ وَبلغ ذَلِك أيلك خَان فَسَار فِي جمع من الأتراك إِلَى بخارا وَأظْهر الْمَوَدَّة وَالْحمية لعبد الْملك فظنوه صَادِقا، وَخرج إِلَيْهِ بكتورون وَغَيره فَقبض عَلَيْهِم وَسَار حَتَّى دخل بخارا عَاشر ذِي الْقعدَة مِنْهَا، ثمَّ قبض على عبد الْملك بن نوح وحبسه حَتَّى مَاتَ فِي الْحَبْس وَحبس مَعَه أَخَاهُ منصورا الَّذِي سلموه وَبَاقِي بني سامان، وانقرضت دولتهم بعد مَا انتشرت وطبقت كثيرا من الأَرْض وَكَانَت من أحسن الدول سيرة وعدلا فسبحان من لَا يَزُول ملكه، وَابْتِدَاء ولايتهم سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وانقراضها فِي هَذِه السّنة.
ثمَّ دخلت سنة تسعين وثلثمائة: فِيهَا وَقيل سنة خمس وَسبعين وثلثمائة توفّي أَبُو الْحُسَيْن أَحْمد بن فَارس بن زَكَرِيَّا اللّغَوِيّ إِمَام فِي عُلُوم شَتَّى وَله الْمُجْمل فِي اللُّغَة وَوضع الْمسَائِل الْفِقْهِيَّة وَهِي مائَة فِي المقامة الطيبية، وَكَانَ بهمذان وَعَلِيهِ اشْتغل البديع الهمذاني.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَتِسْعين وثلثمائة: فِيهَا قتل حسام الدولة الْمُقَلّد بن الْمسيب بن رَافع بن الْمُقَلّد بن جَعْفَر بن عمر بن مهنا من ولد ربيعَة بن عَامر بن صعصعة بن مُعَاوِيَة بن بكر بن هوزان الْعقيلِيّ وَكَانَ الْمُقَلّد أَعور، وَأَخُوهُ أَبُو ذواد مُحَمَّد هُوَ أول من استولى مِنْهُم على الْموصل وملكها فِي سنة ثَمَانِينَ وثلثمائة حَسْبَمَا تقدم، ثمَّ ملكهَا بعده أَخُوهُ الْمُقَلّد الْمَذْكُور سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَاسْتمرّ حَتَّى قَتله هَذِه السّنة مماليكه الأتراك بالأنبار وَقد كَانَ عظم شَأْنه، وَقَامَ بعده ابْنه قرواش.
وفيهَا: توفّي أَبُو عبد اللَّهِ الْحُسَيْن بن الْحجَّاج الشَّاعِر بطرِيق النّيل وَنقل إِلَى بَغْدَاد مجوني خليع تولى حسبَة بَغْدَاد مُدَّة، وَهُوَ من كبار الشِّيعَة وَأوصى أَن يدْفن عِنْد مشْهد مُوسَى بن جَعْفَر وَأَن يكْتب على قَبره: " وكلبهم باسط ذِرَاعَيْهِ بالوصيد ". والنيل: بَلْدَة بَين بَغْدَاد والكوفة حفر نهرها الْحجَّاج الثَّقَفِيّ ومخرجه من الْفُرَات وَسَماهُ النّيل:
قلت: وَمِمَّا رثاه بِهِ الشريف الرضي:
(نعوه على حسن ظَنِّي بِهِ ... فَللَّه مَاذَا نعى الناعيان)

(1/305)


(رَضِيع وَلَاء لَهُ شُعْبَة ... من الْقلب مثل رَضِيع اللبان)

(وَمَا كنت أَحسب أَن الزَّمَان ... يفل مضَارب ذَاك اللِّسَان)

(بكيتك للشرد السائرات ... تعْتق ألفاظها بالمعان)

(ليبك الزَّمَان طَويلا عَلَيْك ... فقد كنت خفَّة روح الزَّمَان)

وَبعد مَوته رَآهُ بعض أَصْحَابه فَسَأَلَهُ عَن حَاله فأنشده:
(أفسد سوء مذهبي ... فِي الشّعْر حسن مذهبي)

(لم يرض مولَايَ عَليّ ... سبي لأَصْحَاب النَّبِي)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وثلثمائة: فِيهَا غزا السُّلْطَان مَحْمُود بن سبكتكين بِلَاد الْهِنْد فغنم وسبى وَأسر، وَعَاد إِلَى غزنة سالما.
وفيهَا: اقتتتل قرواش الْمُقَلّد وعسكر بهاء الدولة، فانتصر قرواش ثمَّ انْكَسَرَ.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن جَعْفَر الشَّافِعِي الْمَعْرُوف بِابْن الدقاق صَاحب الْأُصُول.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَتِسْعين وثلثمائة: فِيهَا ملك يَمِين الدولة السُّلْطَان مَحْمُود بن سبكتكين سجستان من صَاحبهَا خلف بن أَحْمد، وَبَقِي خلف فِي الجوزجان بعد ذَلِك أَربع سِنِين ثمَّ نَقله يَمِين الدولة إِلَى جردين واحتاط عَلَيْهِ هُنَاكَ حَتَّى مَاتَ سنة تسع وَتِسْعين، كَانَ خلف مَشْهُورا بِطَلَب الْعلم وَله تَفْسِير من أكبر الْكتب.
وفيهَا: توفّي الْمَنْصُور أَبُو عَامر مُحَمَّد أَمِير الأندلس وَكَانَ قد أَكثر الضَّبْط والغزوات حَسْبَمَا تقدم وَلم يكن للمؤيد خَليفَة الأندلس مَعَه من الْأَمر شَيْء، وَتَوَلَّى بعده ابْنه مَرْوَان عبد الْملك وتلقب بالمظفر وساس وغزا سبع سِنِين فوفاته سنة أَرْبَعمِائَة، وَقَامَ بعد المظفر أَخُوهُ عبد الرَّحْمَن بن الْمَنْصُور بن أبي عَامر الْمَذْكُور وتلقب بالناصر، فخلط واضطربت أُمُوره أَرْبَعَة أشهر فَخرج على الْمُؤَيد ابْن عَمه مُحَمَّد بن هِشَام كَمَا سَيَأْتِي، فَخلع هِشَام وَقتل عبد الرَّحْمَن وصلب.
وفيهَا: كثر بِبَغْدَاد المفسدون.
وفيهَا: اسْتعْمل الْحَاكِم على دمشق أَبَا مُحَمَّد الْأسود، وَلما اسْتَقر بِدِمَشْق شهر شخصا مغربيا ونادى عَلَيْهِ: هَذَا جَزَاء من يحب أَبَا بكر وَعمر، ثمَّ أخرجه من دمشق.
وفيهَا: توفّي بِبَغْدَاد أَبُو الْفَتْح بن عُثْمَان بن جني النَّحْوِيّ بالموصل مُصَنف اللمع والخصائص وسر الصِّنَاعَة وَغَيرهَا.
قلت: أَبوهُ جني مَمْلُوك رومي لِسُلَيْمَان بن فَهد بن أَحْمد الْأَزْدِيّ الْموصِلِي وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بقوله:
(فَإِن أصبح بِلَا نسب ... فعلمي فِي الورى نسبي)

(1/306)


(على أَنِّي أؤول إِلَى ... قروم سادة نجب)

(قياصرة إِذا نطقوا ... أرم الدَّهْر ذُو الْخطب)

(أولاك دَعَا النَّبِي لَهُم ... كفى شرفا دُعَاء نَبِي)

وَشرح ديوَان المتنبي وَكَانَ قد قَرَأَ الدِّيوَان على المتنبي، وَفِي شَرحه سَأَلَ شخص المتنبي عَن قَوْله:
(باد هَوَاك صبرت أَن لم تصبرا ... )

وَكَانَ من حَقه لم تصبر، فَقَالَ المتنبي: لَو كَانَ أَبُو الْفَتْح هَا هُنَا لأجابك، يعنيني. وَهَذَا الْألف بدل نون التوكيد الْخَفِيفَة أَصْلهَا: لم تصبرن فقلبت للْوَقْف ألفا كَقَوْل الْأَعْشَى:
(وَلَا تعبد الشَّيْطَان وَالله فاعبدا ... )

وَقيل: الْألف هُنَا للتثنية فقد يُخَاطب الْمُفْرد بذلك، فَالْأولى الاستشهاد على قلب النُّون ألفا بقول الشَّاعِر:
(فَمن يَك لم يثأر بأعراض قومه ... فَإِنِّي وَرب الراقصات لأثأرا)

إِذْ يتَعَيَّن فِي هَذِه الْألف قَلبهَا عَن نون التوكيد الْخَفِيفَة وَلَا تكون للتثنية هُنَا أصلا. وَذكر ابْن الْمُهَذّب المعري فِي تَارِيخه: أَن ابْن جني توفّي فِي سنة تسعين وثلثمائة وَهُوَ أصح لقرب عَهده بذلك وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي القَاضِي بن عبد الْعَزِيز الْجِرْجَانِيّ بِالريِّ، إِمَام فَاضل ذُو فنون، والوليد بن بكر بن مخلد الأندلسي الْمَالِكِي فَقِيه مُحدث، وَأَبُو الْحسن مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ السلَامِي الشَّاعِر الْبَغْدَادِيّ وَله فِي عضد الدولة:
(فبشرت آمالي بِملك هُوَ الورى ... وَدَار هِيَ الدُّنْيَا وَيَوْم هُوَ المعمر)

وَله فِي الدرْع:
(يَا رب سابغة حبتني نعْمَة ... كافأتها بالسوء غير مُفند)

(أضحت تصون عَن المنايا مهجتي ... وظللت أبذلها لكل مهند)

قلت: وَقد ذكرت بِهَذَا بَيْتَيْنِ لي فِي الدرْع وهما:
(زردية حلقاتها ... ترنو إِلَيْنَا بالحدق)

(فتجل لابس سردها ... عَن ذكر عنتر فِي الْخلق)
وَالله أعلم.
قلت: وفيهَا هدم لُؤْلُؤ الْكَبِير السيفي مُدبر دولة أبي الْفَضَائِل سعيد بن سعد الدولة أبي الْمَعَالِي شرِيف بن سيف الدولة بن حمدَان حصن كفر روما وحصن عَار وحصن أروح خشيَة أَن يقْصد فِيهَا، وَالله أعلم.

(1/307)


ثمَّ دخلت سنة أَربع وَتِسْعين وثلثمائة: فِيهَا استولى أَبُو الْعَبَّاس بن وَاصل على البطيحة، وَهُوَ رجل تنقل فِي خدم النَّاس ثمَّ خدم مهذب الدولة صَاحب البطيحة فَتقدم عِنْده حَتَّى جهز مَعَه جَيْشًا، فاستولى على الْبَصْرَة وسيراف وغنم أَمْوَالًا وقويت نَفسه وخلع طَاعَة مخدومه مهذب الدولة، ثمَّ قَصده وهزمه عَن البطيحة وَاسْتولى على بِلَاد مهذب الدولة على عظمها وَنهب مَال مهذب الدولة، وَقصد مهذب الدولة بَغْدَاد فَمَا مكن من دُخُولهَا، وَهَذَا خلاف مَا اعْتَمدهُ مهذب الدولة مَعَ الْقَادِر لما هرب إِلَيْهِ فَإِن مهذب الدولة بَالغ فِي إكرام الْقَادِر.
وفيهَا: قلد بهاء الدولة الشريف أَبَا أَحْمد الموسري وَالِد الرضي نقابة العلويين بالعراق والمظالم وَقَضَاء الْقُضَاة وَكتب عَهده بذلك من شيراز ولقبه ذَا المناقب فَامْتنعَ الْخَلِيفَة من تَقْلِيده قَضَاء الْقُضَاة وأمضى مَا سواهُ.
قلت: قد تقدم فِي مَوَاضِع من هَذَا الْكتاب مَا يدل على أَن بني بويه كَانُوا من المتوغلين فِي التَّشَيُّع، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَتِسْعين وثلثمائة: فِيهَا خرج أهل البطيحة عَن طَاعَة النَّائِب الَّذِي استنابه ابْن وَاصل بهَا وَسَار هُوَ نَحْو الْبَصْرَة، فَأرْسل عميد الجيوش وَهُوَ أَمِير الْعرَاق من جِهَة بهاء الدولة عسكرا فِي السفن مَعَ مهذب الدولة إِلَى البطيحة فسر أهل الْبِلَاد بِهِ وتسلم ولايتها من جِهَة بهاء الدولة ليحمل لَهُ كل سنة خمسين ألف دِينَار واشتغل عَنهُ ابْن وَاصل بِحَرب غَيره.
وفيهَا: فتح السُّلْطَان مَحْمُود بن سبكتكين مَدِينَة بهاطبة من الْهِنْد وَهِي حَصِينَة عالية السُّور وَرَاء المولتان.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَتِسْعين وثلثمائة: فِيهَا فتح السُّلْطَان مَحْمُود المولتان وهرب مِنْهُ بيدا ملك الْهِنْد إِلَى القلعة كالنجار، فحصره حَتَّى صَالحه على مَاله وألبس ملك الْهِنْد خلعته وَشد منطقته على كره.
وفيهَا: قلد الشريف الرضي نقابة الطالبين ولقب بالرضي وَأَخُوهُ بالمرتضى فعل ذَلِك بهاء الدولة.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن مُحَمَّد بن يحيى بن مندة الْأَصْفَهَانِي صَاحب التصانيف.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَتِسْعين وثلثمائة: فِيهَا: اقتتل بهاء الدولة وَأَبُو الْعَبَّاس بن وَاصل، فَانْهَزَمَ ابْن واصلب وَأسر وَحمل إِلَيْهِ فَأمر بقتْله قبل وُصُوله إِلَيْهِ وطيف بِرَأْسِهِ بخوزستان، وَقَتله بِوَاسِطَة فِي صفر.
وفيهَا: خرج على الْحَاكِم أموي من ولد هِشَام بن عبد الْملك يُسمى أَبَا ركوة يحمل

(1/308)


ركوة على كتفه وَأمر بِالْمَعْرُوفِ، فَكثر جمعه وَملك برقه وَهزمَ جَيْشًا جهزه إِلَيْهِ الْحَاكِم وغنم مِنْهُ وتقوى وَاسْتولى على الصَّعِيد، فأحضر الْحَاكِم عَسَاكِر الشَّام واستخدم عَسَاكِر وأرسلهم مَعَ أبي الْفضل بن عبد اللَّهِ إِلَى أبي ركوة فتقاتلوا عَظِيما، ثمَّ انْكَسَرَ أَبُو ركوة وَأسر فَقتله الْحَاكِم وصلبه وطيف بِهِ.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَتِسْعين وثلثمائة: فِيهَا سَار السُّلْطَان مَحْمُود فأوغل فِي الْهِنْد وغزا وَفتح.
وفيهَا: اسْتعْملت وَالِدَة مجد الدولة بن فَخر الدولة وَكَانَ إِلَيْهَا الحكم أَبَا جَعْفَر بن شهريار الْمَعْرُوف بِابْن كاكويه على أصفهان فَعظم شَأْنه، كَانَ ابْن خَال هَذِه الْمَرْأَة، وكاكويه هُوَ الْخَال بِالْفَارِسِيَّةِ.
وفيهَا: توفّي عبد الْوَاحِد بن نصر بن مُحَمَّد الببغا الشَّاعِر.
قلت: وَمن شعره:
(يَا سادتي هَذِه روحي تودعكم ... إِذْ كَانَ لَا الصَّبْر بثنيها وَلَا الْجزع)

(قد كنت أطمع فِي روح الْحَيَاة لَهَا ... فَالْآن إِذْ بنتم لم يبْق لي طمع)

(لَا عذب اللَّهِ اللَّهِ روحي بِالْبَقَاءِ فَمَا ... أظنها بعدكم بالعيش تنْتَفع)
وَله:
(وكأنما نقشت حوافر خيله ... للناظرين أهلة فِي الجلمد)

(وَكَأن طرف الشَّمْس مطروف وَقد ... جعل الْغُبَار لَهُ مَكَان الإثمد)
وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي البديع أَبُو الْفضل أَحْمد بن الْحُسَيْن الهمذاني صَاحب المقامات وعَلى منوالها نسج الحريري.
قلت: وهيهات، فقد وَقع للبديع مَا لم يصل الحريري إِلَى غباره، غير أَن مقامات الحريري مجموعها أحسن فللبديع مُفْرَدَات لَا تلْحق وَقد اعْترف الحريري فِي خطبَته بفضله، وروى عَن ابْن فَارس وَسكن هراة، وَمن نثره: المَاء إِذا طَال مكثه ظهر خبثه، وَإِذا سكن مَتنه تحرّك نَتنه، وَكَذَلِكَ الصَّيف يسمج لقاؤه إِذا طَال ثواؤه، ويثقل ظله إِذا انْتهى مَحَله.
وَله من تَعْزِيَة: الْمَوْت خطب قد عظم حَتَّى هان، وَمَسّ قد خشن حَتَّى لَان، وَالدُّنْيَا قد تنكرت حَتَّى صَار الْمَوْت أخف خطوبها، وجنت حَتَّى صَار أَصْغَر ذنوبها، فَلْتنْظرْ يمنة هَل ترى إِلَّا محنة، ثمَّ أنظر يسرة هَل ترى إِلَّا حسرة.
وَمن كَلَامه: إِن أَبَا الْحسن لَو أوحشني مَا استوحشت، وَلَو استوحشت لأوحشت، وَلَو أوحشت لأفحشت، وَمن وطىء الْعَقْرَب أوجعته، وَمن قرص الْحَيَّة لسعته، وَإِذا قَالَت

(1/309)


الْحَيَّة دَعْنِي فَلَا تلسعني، فَمَا سَأَلت شططا، وَهَذَا خطب لَا يَدْفَعهُ قلم رطب.
وَمِنْه: إِن وجدت الْحَال كَمَا تركت فدار الشمل جَامِعَة، وَإِن تَغَيَّرت كَمَا عهِدت فأرض اللَّهِ وَاسِعَة.
وَمِنْه: أَن الهمذاني إِذا رَضِي بِأَن يهدم وَلَا يخْدم، فَإِن الْعُبُودِيَّة لَا تعدم.
وَمِنْه: أَن رَأَيْت السَّيْل يسيل بِي فَلَا تنذرني، وَإِن رَأَيْته يغرقني فَلَا تنقذني، وَإِن عاودتني بعْدهَا بشفقاتك الْبَارِدَة رَجَعَ شُؤْم شفقتك على عنفقتك، وأعذر من أنذر وَالسَّلَام.
وَمن شعره:
(وَكَانَ يحكيك صَوت المزن منسكبا ... لَو كَانَ طلق الْمحيا يمطر الذهبا)

(والدهر لَو لم يخن وَالشَّمْس لَو نطقت ... وَاللَّيْث لَو لم يصد وَالْبَحْر لَو عذبا)

مَاتَ رَحمَه اللَّهِ بالسكتة وَعجل دَفنه فأفاق فِي الْقَبْر وَسمع صَوته بِاللَّيْلِ، ونبش عَنهُ فوجدوه قد قبض على لحيته وَمَات من هول الْقَبْر وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي أَبُو نصر إِسْمَاعِيل بن حَمَّاد الْجَوْهَرِي صَاحب الصِّحَاح، وَهُوَ من فاراب من مدن التّرْك وَتسَمى الْيَوْم أطرار، وَله خطّ مَنْسُوب عَال وَقدم نيسابور فَتوفي بهَا، وَكتابه الصِّحَاح يصف فَضله.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَتِسْعين وثلثمائة: فِيهَا قتل أَبُو عَليّ بن ثمال الخفاجي وَكَانَ الْحَاكِم الْعلوِي ولاه الرحبة ثمَّ صَارَت إِلَى صَالح بن مرداس الْكلابِي صَاحب حلب.
وفيهَا: توفّي عَليّ بن عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد بن يُونُس الْمصْرِيّ صاحبح الزيج الحاكمي كَبِير فِي أَربع مجلدات، ذكر أَن أَبَا الْحَاكِم أَمر بِعَمَلِهِ.
ثمَّ دخلت سنة أَرْبَعمِائَة: فِيهَا عَاد يَمِين الدولة السُّلْطَان مَحْمُود وغزا الْهِنْد وغنم وَعَاد.