تاريخ ابن الوردي
(أَخْبَار الْمُؤَيد الْأمَوِي خَليفَة
الأندلس)
قد تقدم ولَايَة هِشَام الْمُؤَيد بن الحكم الْمُنْتَصر بن عبد
الرَّحْمَن النَّاصِر مَوضِع أَبِيه وَكَانَ عمر الْمُؤَيد لما ولي
الْخلَافَة سِنِين فدبر المملكة أَبُو عَامر مُحَمَّد بن أبي عَامر
والمؤيد مَحْجُوب، وَاسْتمرّ الْمُؤَيد خَليفَة إِلَى سنة وَتِسْعين
وثلثمائة، فَخرج عَلَيْهِ فِيهَا مُحَمَّد بن هِشَام بن عبد الْجَبَّار
بن عبد الرَّحْمَن النَّاصِر الْأمَوِي فِي جُمَادَى الْآخِرَة
وَبَايَعَهُ النَّاس بالخلافة وَحبس الْمُؤَيد فِي قرطبة، وتلقب
بالمهدي وَاسْتمرّ، فَخرج عَلَيْهِ سُلَيْمَان بن الحكم بن سُلَيْمَان
بن عبد الرَّحْمَن النَّاصِر، فهرب مُحَمَّد بن هِشَام بن عبد
الْجَبَّار الْمَذْكُور وَاسْتولى سُلَيْمَان على الْخلَافَة فِي
أَوَائِل شَوَّال من سنة أَرْبَعمِائَة.
ثمَّ جمع الْمهْدي مُحَمَّد بن هِشَام جمعا وَقصد سُلَيْمَان بقرطبة،
فهرب سُلَيْمَان وَعَاد الْمهْدي الْمَذْكُور إِلَى الْخلَافَة فِي نصف
شَوَّال من سنة أَرْبَعمِائَة.
ثمَّ جمع الْمهْدي مُحَمَّد بن هِشَام جمعا وَقصد سُلَيْمَان بقرطبة،
فهرب سُلَيْمَان وَعَاد الْمهْدي الْمَذْكُور إِلَى الْخلَافَة فِي نصف
شَوَّال مِنْهَا.
(1/310)
ثمَّ قبض أكَابِر الْعَسْكَر على الْمهْدي
الْمَذْكُور وأخرجوا الْمُؤَيد من الْحَبْس وأعادوه إِلَى الْخلَافَة
سَابِع ذِي الْحجَّة مِنْهَا وأحضر الْمهْدي وَقَتله، وَاسْتمرّ
الْمُؤَيد ودبر أمره وَاضح العامري ثمَّ قتل وَاضحا فكثرت عَلَيْهِ
الْفِتَن.
واتفقت البربر مَعَ سُلَيْمَان بن الحكم بن سُلَيْمَان بن عبد
الرَّحْمَن النَّاصِر وَحصر الْمُؤَيد بقرطبه وملكها مِنْهُ عنْوَة
وَأخرج الْمُؤَيد من الْقصر فَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ، وبويع
سُلَيْمَان بالخلافة منتصف شَوَّال سنة ثَلَاث وَأَرْبَعمِائَة وتلقب
بالمستعين بِاللَّه.
قلت: وفيهَا نزل أَبُو الْعَلَاء المعري إِلَى بَغْدَاد ليقْرَأ بهَا
الْعلم فَلم يُصَادف بهَا مثله، قَالَ الشَّيْخ أَبُو غَالب همام بن
الْفضل بن جَعْفَر بن عَليّ بن الْمُهَذّب فِي تَارِيخه: كَذَا حَدثنِي
أَبُو الْعَلَاء رَحمَه اللَّهِ، وَالله أعلم.
وفيهَا: بنى أَبُو مُحَمَّد بن سهلان سورا على مشْهد عَليّ رَضِي
اللَّهِ عَنهُ.
وفيهَا: توفّي النَّقِيب أَبُو أَحْمد الموسوي وَالِد الشريف الرضي
ومولده سنة أَربع وثلثمائة، وأضر فِي آخر عمره.
قلت: ورثاه الشَّيْخ أَبُو الْعَلَاء المعري بقصيدته الفائقة الَّتِي
أَولهَا:
(أودى فليت الحادثات كفاف ... مَال المسيف وَعَنْبَر المستاف)
(الطَّاهِر الْآبَاء وَالْأَبْنَاء والآراب ... والأثواب والآلاف)
(رغت الرعود وَتلك هدة ماجد ... جبل ثوى من آل عبد منَاف)
(بخلت فَلَمَّا كَانَ لَيْلَة فَقده ... سمح الْغَمَام بدمعه الذراف)
وَمِنْهَا:
(ويحق فِي رزء الْحُسَيْن تغير الْحر سين ... بله الدّرّ فِي الأصداف)
(هلا دفنتم سَيْفه فِي قَبره ... مَعَه فَذَاك لَهُ خَلِيل واف)
(إِن زَارَهُ الْمَوْتَى كساهم فِي البلى ... أَثوَاب أَبْلَج مكرم
الأضياف)
(وَالله أَن يخلع عَلَيْهِم حلَّة ... يبْعَث إِلَيْهِ بِمثلِهِ
أَضْعَاف)
(نبذت مَفَاتِيح الْجنان وَإِنَّمَا ... رضوَان بَين يَدَيْهِ للإتحاف)
(تكبيرتان حِيَال قبرك للفتى ... محسوبتان بِعُمْرَة وَطواف)
(لَو تقدر الْخَيل الَّتِي زايلتها ... عجفت بأيديها على الْأَعْرَاف)
(أبقيت فِينَا كوكبين سناهما ... فِي الصُّبْح والظلماء لَيْسَ بخاف)
(قدرين فِي الأرداء بل مطرين فِي ... الأجداء بل قمرين فِي الأسداف)
(ساور الرضي المرتضى وتقاسما ... باد على الْكِبْرِيَاء والأشراف)
(1/311)
(أَنْتُم ذَوُو النّسَب الْقصير فطولكم ...
باد على الكبراء والأشراف)
(مَا زاغ بَيتكُمْ الرفيع وَإِنَّمَا ... بالوجد أدْركهُ خَفِي زحاف)
وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْعَبَّاس النامي الشَّاعِر المصِّيصِي.
قلت: دخل أَبُو الْخطاب الحريري الشَّاعِر النَّحْوِيّ على النامي
فَوجدَ رَأسه كالثغامة بَيَاضًا وَفِيه شَعْرَة وَاحِدَة سَوْدَاء
فَكَلمهُ فِيهَا، فَقَالَ: نعم هَذِه بَقِيَّة شَبَابِي وَأَنا أفرح
بهَا ولي فِيهَا شعر، فَقلت: أنشدنيه فأنشدني:
(رَأَيْت فِي الرَّأْس شَعْرَة بقيت ... سَوْدَاء تهوى الْعُيُون
رؤيتها)
(فَقلت للبيض إِذْ تروعها ... بِاللَّه أَلا رحمت غربتها)
(فَقل لبث السَّوْدَاء فِي وَطن ... تكون فِيهِ الْبَيْضَاء ضَرَّتهَا)
وَمَا أحسن قَوْله:
(ويمضي عَلَيْك الدَّهْر فعلك للعلى ... وقولك للتقوى وكفك للرفد)
وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْفَتْح عَليّ بن مُحَمَّد البستي الشَّاعِر.
قلت: وَمَا أحسن قَوْله:
(تحمل أَخَاك على مَا بِهِ ... فَمَا فِي استقامته مطمع)
(وَإِنِّي لَهُ خلق وَاحِد ... وَفِيه طبايعه الْأَرْبَع)
وَقَوله:
(لقد هنت من طول الْمقَام وَمن يقم ... طَويلا يهن من بعد مَا كَانَ
مكرما)
(وَطول مقَام المَاء فِي مستقره ... يُغَيِّرهُ لونا وريحا ومطعما)
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى أَرْبَعمِائَة: فِيهَا سَار أيلك خَان ملك
التّرْك من سَمَرْقَنْد لقِتَال أَخِيه طغان خَان فَسقط عَلَيْهِ فِي
أزوكند ثلج مَنعه فَعَاد.
وفيهَا: خطب قرواش بن الْمُقَلّد أَمِير بني عقيل للْحَاكِم بالموصل
والأنبار والمداين والكوفة وَغَيرهَا، وَابْتِدَاء الْخطْبَة: الْحَمد
لله الَّذِي انجلت بنوره غَمَرَات الْغَضَب، وانهدت بعظمته أَرْكَان
النصب، وأطلع بقدرته شمس الْحق من الغرب. فَكتب بهاء الدولة إِلَى عميد
الجيوش يَأْمُرهُ بِحَرب قرواش فَسَار إِلَيْهِ، وَأرْسل قرواش يعْتَذر
وَقطع خطْبَة العلويين.
وفيهَا: احتربت بَنو مزِيد وَبَنُو دبيس، بِسَبَب أَن أَبَا
الْغَنَائِم مُحَمَّد بن مزِيد كَانَ مُقيما عِنْد بني دبيس بنواحي
خوزستان لمصاهرة بَينهم، فَقتل أَبُو الْغَنَائِم أحد وُجُوه بني دبيس
وَلحق بأَخيه أبي الْحسن بن مزِيد، فَسَار إِلَيْهِم أَبُو الْحسن بن
مزِيد واقتتلوا فَقتل أَبُو الْغَنَائِم وهرب أَخُوهُ أَبُو الْحسن.
(1/312)
وفيهَا: توفّي عميد الجيوش أبي عَليّ بن
أستاذ هُرْمُز أَمِير الْعَسْكَر من جِهَة بهاء الدولة بِبَغْدَاد
وولايته ثَمَان سِنِين وَأَرْبَعَة أشهر وَأَيَّام وعمره تسع
وَأَرْبَعُونَ وأستاذ هُرْمُز من حجاب عضد الدولة، وَكَانَ بهاء الدولة
قد أرسل عميد الجيوش لإِصْلَاح أَحْوَال بَغْدَاد وقمع المفسدين،
فَلَمَّا مَاتَ ولي مَوْضِعه بِبَغْدَاد فَخر الْملك أَبَا غَالب.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ أَرْبَعمِائَة:
(أَخْبَار صَالح بن مرداس وَولده)
أوردناه جملَة كَمَا فعلنَا فِي مَوَاضِع ليضبط بسهولة، قد تقدم ذكر
ملك أبي الْمَعَالِي شرِيف سعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدَان بحلب
إِلَى أَن توفّي مفلوجا وَهُوَ ملكهَا فأقيم ابْنه أَبُو الْفَضَائِل
مقَامه وَدبره لُؤْلُؤ أحد موَالِي سعد الدولة ثمَّ استولى أَبُو نصر
لُؤْلُؤ على أبي الْفَضَائِل وَأخذ مِنْهُ حلب وخطب بهَا للْحَاكِم
فلقبه الْحَاكِم مرتضى الدولة وَاسْتقر فِي ملك حلب، وَجرى بَينه
وَبَين صَالح بن مرداس الْكلابِي وَبني كلاب وَحْشَة وحروب كَانَت
بَينهم سجالا، وَكَانَ لِابْنِ لُؤْلُؤ غُلَام اسْمه فتح دزدار قلعة
حلب فَجرى بَينه وَبَين أستاذه ابْن لُؤْلُؤ وَحْشَة باطنة وَعصى
عَلَيْهِ بقلعة حلب وَكَاتب الْفَتْح الْحَاكِم بِمصْر، ثمَّ أَخذ من
الْحَاكِم صيدا وبيروت وَسلم حلب إِلَى نواب الْحَاكِم، فَسَار ابْن
لُؤْلُؤ إِلَى أنطاكية وَهِي للروم فَأَقَامَ مَعَهم.
وتنقلت حلب بأيدي نواب الْحَاكِم حَتَّى صَارَت بيد عَزِيز الْملك
الحمداني إِلَى أَن قتل الْحَاكِم وَولي الظَّاهِر لإعزاز دين اللَّهِ
الْعلوِي، فَتَوَلّى من جِهَة الظَّاهِر على حلب شخص يعرف بِابْن ثعبان
وَولي القلعة مَوْصُوف الْخَادِم، فقصدهما صَالح بن مرداس أَمِير بني
كلاب فَسلم إِلَيْهِ أهل حلب مَدِينَة حلب لسوء سيرة المصريين فيهم،
وَصعد ابْن ثعبان إِلَى القلعة وحصرها صَالح فَسلمت إِلَيْهِ أَيْضا
سنة أَربع عشرَة وَأَرْبَعمِائَة، وَاسْتقر لصالح ملك حلب وَمَا مَعهَا
من بعلبك إِلَى عانة سِتّ سِنِين.
وَفِي سنة عشْرين وَأَرْبَعمِائَة جهز الظَّاهِر الْعلوِي جَيْشًا
لقِتَال صَالح وَحسان وأمير طَيء وَكَانَ حسان مستوليا على الرملة
وَتلك الْبِلَاد، وَكَانَ اسْم مقدم عَسْكَر مصر أنوش تكين، فَسَار
صَالح من حلب إِلَى حسان واجتمعا على الْأُرْدُن عِنْد طبرية واقتتلوا
فَقتل صَالح وَولده الْأَصْغَر وأنفذ رأساهما إِلَى مصر، وَنَجَا ابْنه
أَبُو كَامِل نصر بن صَالح بن مرداس وَسَار فَملك حلب وتلقب بشبل
الدولة وَاسْتمرّ بهَا إِلَى سنة تسع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة
وَذَلِكَ فِي أَيَّام الْمُسْتَنْصر بِاللَّه الْعلوِي صَاحب مصر،
فجهزت العساكر من مصر إِلَى شبْل الدولة ومقدمهم الدزبري - بِكَسْر
الدَّال - وَهُوَ أنوش تكين ولقبه الدزبري، فَاقْتَتلُوا مَعَ شبْل
الدولة عِنْد حماه فِي شعْبَان سنة تسع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة فَقتل
شبْل الدولة وَملك الدزبري حلب فِي رَمَضَان مِنْهَا وَملك الشَّام
جَمِيعه وَعظم شَأْنه وَكثر مَاله، وَتُوفِّي الدزبري بحلب سنة ثَلَاث
وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة.
(1/313)
وَكَانَ لصالح بن مرداس ولد بالرحبة اسْمه
أَبُو علوان ثمال ولقبه معز الدولة وبلغه موت الدزبري فَسَار وتملك حلب
ثمَّ قلعتها فِي صفر سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَاسْتمرّ
إِلَى سنة أَرْبَعِينَ وَأَرْبَعمِائَة، فَأرْسل إِلَيْهِ المصريون
جَيْشًا فَهَزَمَهُمْ ثمَّ جَيْشًا فَهَزَمَهُمْ، ثمَّ صَالح ثمال
المصريين وَنزل لعم عَن حلب، فجهزوا الْحسن بن عَليّ ملهم ولقبوه مكين
الدولة فتسلم حلب من ثمال بن صَالح بن مرداس فِي سنة تسع وَأَرْبَعين
وَأَرْبَعمِائَة. وَسَار ثمال إِلَى مصر وَسَار أَخُوهُ عَطِيَّة بن
صَالح بن مرداس إِلَى الرحبة.
وَكَانَ لنصر بن صَالح الملقب شبْل الدولة الْمَقْتُول فِي حَرْب
الدزبري ولد اسْمه مَحْمُود فكاتبه أهل حلب وعصوا ابْن ملهم، فوصل
إِلَيْهِم مَحْمُود وَحصر هُوَ وَأهل حلب ابْن ملهم فِي جُمَادَى
الْآخِرَة سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة، فأنجد المصريون
ابْن ملهم بعسكر فَرَحل مَحْمُود هارا، وَقبض ابْن ملهم على جمَاعَة من
أهل حلب وَأخذ أَمْوَالهم، ثمَّ سَار الْعَسْكَر فِي أثر مَحْمُود
فَاقْتَتلُوا فَهَزَمَهُمْ مَحْمُود وَعَاد مَحْمُود إِلَى حلب فحاصرها
وَملك الْمَدِينَة والقلعة فِي شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين
وَأَرْبَعمِائَة وَأطلق ابْن ملهم ومقدم الْجَيْش وَهُوَ نَاصِر الدولة
نَاصِر الدولة بن حمدَان فسارا إِلَى مصر، وَاسْتقر مَحْمُود بن شبْل
الدولة نصر بن صَالح بن مرداس فِي حلب.
وَلما وصل ابْن ملهم وناصر إِلَى مصر، وَكَانَ ثمال بن صَالح بن مرداس
قد سَار إِلَى مصر كَمَا ذكرنَا جهز المصريون ثمالا بِجَيْش لقِتَال
ابْن أَخِيه مَحْمُود فوصل ثمال حلب وَهزمَ مَحْمُودًا، وتسلم ثمال حلب
فِي ربيع الأول سنة ثَلَاث وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة، ثمَّ توفّي ثمال
فِي حلب سنة أَربع وَخمسين فِي ذِي الْقعدَة. وَأوصى بحلب لِأَخِيهِ
عَطِيَّة الَّذِي سَار إِلَى الرحبة، فَملك عَطِيَّة حلب فِي السّنة
الْمَذْكُورَة.
وَكَانَ مَحْمُود بن شبْل الدولة لما هرب من عَمه ثمال من حلب سَار
إِلَى حران فَلَمَّا مَاتَ ثمال وَملك عَطِيَّة حلب جمع مَحْمُود عسكرا
وَسَار إِلَى حلب، فَهزمَ عَمه عَطِيَّة عَنْهَا إِلَى الرقة فملكها
عَطِيَّة، ثمَّ أخذت الرقة من عَطِيَّة فَسَار وَأقَام بالروم
بقسطنطينية حَتَّى مَاتَ بهَا.
وَملك مَحْمُود بن نصر بن صَالح حلب فِي رَمَضَان سنة أَربع وَخمسين
وَأَرْبَعمِائَة ثمَّ استولى على ارتاج من ايدي الرّوم فِي سنة
سِتِّينَ، وَتُوفِّي مَحْمُود فِي ذِي الْحجَّة سنة ثَمَان وَسِتِّينَ
وَأَرْبَعمِائَة مَالِكًا لحلب بهَا. وَملك بعده ابْنه نصر، ثمَّ قَتله
التركمان.
وَملك بعده أَخُوهُ سَابق بن مَحْمُود وَاسْتمرّ إِلَى سنة اثْنَتَيْنِ
وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة فَأخذ حلب مِنْهُ شرف الدولة مُسلم بن قُرَيْش
صَاحب الْموصل على مَا سَيذكرُ.
وفيهَا أَعنِي سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعمِائَة: كتب بِبَغْدَاد محْضر
بِأَمْر الْقَادِر يتَضَمَّن الْقدح فِي نسب العلويين خلفاء مصر، وَكتب
فِيهِ جمَاعَة من العلويين والقضاة والفضلاء وَأَبُو
(1/314)
عبد اللَّهِ بن النُّعْمَان فَقِيه
الشِّيعَة، " نُسْخَة الْمحْضر ": هَذَا مَا شهد بِهِ الشُّهُود أَن
معد بن إِسْمَاعِيل بن عبد الرَّحْمَن بن سعيد منتسب إِلَى ديصان بن
سعيد الَّذِي ينْسب إِلَيْهِ الديصانية وَأَن هَذَا الناجم بِمصْر هُوَ
مَنْصُور بن نزار الملقب بالحاكم حكم عَلَيْهِ اللَّهِ بالبوار والدمار
ابْن معد بن إِسْمَاعِيل بن عبد الرَّحْمَن بن سعيد لَا أسعده اللَّهِ،
وَأَن مَا تقدمه من سلفه الأرجاس الأنجاس عَلَيْهِم لعنة اللَّهِ ولعنة
اللاعنين أدعياء خوارج لَا نسب لَهُم فِي ولد عَليّ بن أبي طَالب رَضِي
اللَّهِ عَنهُ، وان مَا ادعوهُ من الانتساب إِلَيْهِ زور بَاطِل،
وَأَن، هَذَا الناجم فِي مصر هُوَ وسلفه كفار فساق زنادقة ملحدون
معطلون وللإسلام جاحدون أباحوا الْفروج وَأَحلُّوا الْخُمُور وَسبوا
الْأَنْبِيَاء وَادعوا الربوبية وَنَحْو ذَلِك وَآخره، وَكتب فِي ربيع
الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعمِائَة.
وفيهَا: اشْتَدَّ أَذَى خفاجة للحجاج وَقَطعُوا عَلَيْهِم الطَّرِيق.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا قتل شمس الدّين أَبُو
الْمَعَالِي قَابُوس بن وشمكير بن زِيَاد شدد على أَصْحَابه
فَاجْتمعُوا وحضروه وَأَقَامُوا ابْنه منوجهر مَوْضِعه طلبوه من جرجان
ثمَّ أتفق مَعَ ابيه وَانْقطع قَابُوس فِي قلعة يعبد اللَّهِ، فعاودوا
منوجهر فِي قَتله فَسكت فَمَضَوْا وَأخذُوا جَمِيع مَا عِنْد قَابُوس
من ملبوس فَمَاتَ بالبرد، وَكَانَ كثير الْفَضَائِل شَدِيد الْأَخْذ
قَلِيل الْعَفو يدْرِي النُّجُوم وَغَيرهَا، وَمن شعره:
(قل للَّذي بصروف الدَّهْر عيرنَا ... هَل عاند الدَّهْر إِلَّا من
لَهُ خطر)
(فَفِي السَّمَاء نُجُوم مَا لَهَا عدد ... وَلَيْسَ يكسف إِلَّا
الشَّمْس وَالْقَمَر)
قلت: وفيهَا ورد السّجل من الْحَاكِم يَأْمر فِيهِ بِصَلَاة
التَّرَاوِيح وَينْهى عَن لعن السّلف الصَّالح ويلعن فِيهِ من يلعنهم
رَضِي اللَّهِ عَنْهُم أَجْمَعِينَ، وَالله أعلم.
وفيهَا: مَاتَ الْملك التّرْك أيلك خَان، وَملك أَخُوهُ طغان خَان،
وَكَانَ المتوفي خيرا دينا.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة مَاتَ بهاء الدولة بن نصر خاشاذ بن عضد
الدولة بن بويه بتتابع الصرع مثل أَبِيه وَمَات وَهُوَ ملك الْعرَاق
وعمره اثْنَتَانِ وأ {بعون سنة وَتِسْعَة أشهر وَملكه أَربع
وَعِشْرُونَ سنة، وَولي مَوْضِعه ابْنه سُلْطَان الدولة أَبُو شُجَاع.
وفيهَا: توفّي القَاضِي أَبُو بكر بن الباقلاني مُحَمَّد بن الطّيب بن
مُحَمَّد بن جَعْفَر نَاصِر طَريقَة الْأَشْعَرِيّ ومؤيد مذْهبه، سكن
بَغْدَاد وصنف الْكثير فِي علم الْكَلَام، وَنسبَة الباقلاني إِلَى بيع
الباقلاء وَهِي شَاذَّة كالصنعاني.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا أوغل أَيْضا السُّلْطَان
مَحْمُود فِي الْهِنْد وغزا وَفتح وَعَاد إِلَى غزنة.
وفيهَا: نهبت خفاجة سَواد الْكُوفَة، فَقتل مِنْهُم الْعَسْكَر وَأسر.
(1/315)
وفيهَا: توفّي أَبُو سعيد الْإِصْطَخْرِي
من شُيُوخ الْمُعْتَزلَة وعمره فَوق الثَّمَانِينَ.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا كَانَت الحروب بَين أبي
الْحسن عَليّ بن مزِيد الْأَسدي وَبَين مُضر وَحسان ونبهان وطراد بن
دبيس، ثمَّ أَن مُضر هزم أَبَا الْحسن وَاسْتولى على حلله وامواله وهرب
أَبُو الْحسن إِلَى بلد النّيل.
وفيهَا: توفّي الْحَافِظ مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن مُحَمَّد بن
حَمْدَوَيْه بن نعمب الضَّبِّيّ الطهمازي الْمَعْرُوف بِابْن الْحَاكِم
النَّيْسَابُورِي إِمَام الحَدِيث فِي عصره والمؤلف فِيهِ مَا لم يسْبق
إِلَيْهِ، سَافر فِي طلب الحَدِيث وَبَلغت شُيُوخه الفين وَله الصحيحان
والأمالي وفضائل الشَّافِعِي، عرف أَبوهُ بالحاكم لتوليه الْقَضَاء
بنيسابور.
وفيهَا: قتل بعض عَامَّة الدينور قاضيهم أَبَا الْقَاسِم يُوسُف بن
أَحْمد بن كج الْفَقِيه الشَّافِعِي خوفًا مِنْهُ، وَله وَجه فِي
الْمَذْهَب وصنف كثيرا وَجمع بَين رياستي الْعلم وَالدُّنْيَا.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا توفّي باديس بن مَنْصُور
بن يُوسُف بلكين بن زيزى أَمِير أفريقية، ووليها بعده ابْنه الْمعز
وعمره ثَمَان وَوصل إِلَيْهِ التَّقْلِيد وَالْخلْع من الْحَاكِم
الْعلوِي ولقبه شرف الدولة والمعز حمل أهل الْمغرب على مَذْهَب مَالك
وَكَانُوا قبله حنفية.
غزا سُلْطَان الدولة بن بهاء الدولة نَائِبه بالعراق فَخر الْملك أَبَا
غَالب وَقَتله سلخ ربيع الأول مِنْهَا وعمره اثْنَتَانِ وَخَمْسُونَ
سنة وَأحد عشر شهرا وَمُدَّة ولَايَته بالعراق خمس سِنِين وَأَرْبَعَة
أشهر وَأَيَّام، وَوجد لَهُ ألف ألف دِينَار غير الْعرُوض وَغير مَا
نهب قَبضه بالأهواز، ثمَّ استوزر أَبَا مُحَمَّد الْحسن بن سهلان.
وفيهَا: توفّي الشريف الرضي مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن مُوسَى بن
إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن جَعْفَر الصَّادِق بن مُحَمَّد الباقر بن
عَليّ زيد العابدين بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي اللَّهِ
عَنْهُم الْمَعْرُوف بالموسوي، ذاكرة شَيْخه السيرافي يَوْمًا وَهُوَ
صبي فَقَالَ: رَأَيْت عمرا مَا عَلامَة النصب فِي عَمْرو؟ فَقَالَ
الرضي: بعض عَليّ - أَشَارَ إِلَى عَمْرو بن الْعَاصِ وبغضه لعَلي -،
فَعجب الْحَاضِرُونَ من ذهنه. ومولده سنة تسع وَخمسين وثلثمائة
بِبَغْدَاد.
قلت: وَلَو قَالَ بدل قَوْله بغض عَليّ: خفض عَليّ، لَكَانَ أبدع،
وَهُوَ أشعر الطالبيين على كَثْرَة شعرائهم المفلقين وَللَّه قَوْله:
(يَا صَاحِبي قفا لي واقضيا وطري ... وخبراني عَن نجد بأخبار)
(هَل روضت قاعة الوعساء أم مطرَت ... خميلة الطلح ذَات الشيح والغار)
(أم هَل أَبيت وَدَار دون كاظمة ... دَاري وسمار ذَاك الْحَيّ سماري)
(تضوع أَرْوَاح نجد من ثِيَابهمْ ... عِنْد الْقدوم لقرب لعهد
بِالدَّار)
وَالله أعلم.
(1/316)
وفيهَا: توفّي الشَّيْخ أَبُو حَامِد
الإِسْفِرَايِينِيّ إِمَام أَصْحَاب الشَّافِعِي وعمره إِحْدَى
وَسِتُّونَ سنة وَأشهر، قدم بَغْدَاد سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ ثلثمِائة
وَحضر مجالسه أَكثر من ثلثمِائة فَقِيه وطبق الأَرْض بالأصحاب، وَله
مصنفات مِنْهَا: التعليقة الْكُبْرَى فِي الْمَذْهَب، واسفرايين
بَلْدَة بنواحي نيسابور.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا غزا يَمِين الدولة مَحْمُود
الْهِنْد وَوصل إِلَى قشم وقنوج وَبلغ نهر كنك وَفتح بلادا وغنم وَعَاد
إِلَى غزنة.
(ذكر انْقِرَاض الْخلَافَة الأموية من الأندلس وتفرق ممالك الأندلس)
(وأخبار الدولة العلوية بهَا)
فِي هَذِه السّنة خرج على المستعين بِاللَّه سُلَيْمَان بن الحكم
الْأمَوِي خيران العامري من القواد من أَصْحَاب الْمُؤَيد وَسَار فِي
جمَاعَة كَثِيرَة من الْعَامِرِيين، وَكَانَ عَليّ بن حمود الْعلوِي
مستوليا على سبتة وَبَينه وَبَين الأندلس عدوة الْمجَاز، وَكَانَ
أَخُوهُ الْقَاسِم بن حمود على الجزيرة الخضراء، وَلما رأى عَليّ بن
مَحْمُود خُرُوج خيران على سُلَيْمَان عبر من سبتة إِلَى مالقة
وَاجْتمعَ إِلَيْهِ خيران وَغَيره من الخارجين على سُلَيْمَان
الْأمَوِي.
وَكَانَ أَمر هِشَام الْمُؤَيد الْخَلِيفَة الْأمَوِي قد اختفى من حِين
استولى ابْن عَمه سُلَيْمَان على قرطبة فِي سنة ثَلَاث وَأَرْبَعمِائَة
وَأخرج الْمُؤَيد من الْقصر فَلم يطلع للمؤيد على خبر، فَاجْتمع خيران
وَغَيره إِلَى عَليّ بن حمود بالمنكب وَهِي بَين المربة ومالقة سنة
سِتّ وَأَرْبَعمِائَة وَبَايَعُوا عَليّ بن حمود الْعلوِي على طَاعَة
الْمُؤَيد الْأمَوِي إِن ظهر خَبره، وَسَار إِلَى سُلَيْمَان بقرطبة
واقتتلوا، فَانْهَزَمَ سُلَيْمَان الْأمَوِي وَأسر وأحضر هُوَ
وَأَخُوهُ وأبوهما الحكم بن سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن النَّاصِر،
وَكَانَ الحكم متخليا عَن الْملك لِلْعِبَادَةِ.
وَملك عَليّ بن حمود الْعلوِي قرطبة ودخلها سنة سَبْعَة
وَأَرْبَعمِائَة، وَقصد القواد وَعلي بن حمود الْقصر طَمَعا فِي وجود
الْمُؤَيد فَلم يقعوا بِخَبَرِهِ، فَقتل عَليّ بن حمود سُلَيْمَان
وأباه وأخاه.
وَلما قدم الحكم للْقَتْل قَالَ لَهُ عَليّ بن حمود يَا شيخ قتلتم
الْمُؤَيد؟ فَقَالَ: وَالله مَا قَتَلْنَاهُ وَأَنه حَيّ يرْزق، فَقتله
سَرِيعا وَأظْهر موت الْمُؤَيد وَبَايع لنَفسِهِ وتلقب بالمتوكل على
اللَّهِ وَقيل: النَّاصِر لدين اللَّهِ، وَهُوَ: عَليّ بن حمود بن أبي
الْعَيْش مَيْمُون بن أَحْمد بن عَليّ بن عبد اللَّهِ بن عمر بن
إِدْرِيس بن إِدْرِيس بن عبيد اللَّهِ بن الْحسن بن الْحسن بن عَليّ بن
أبي طَالب رَضِي اللَّهِ عَنْهُم.
ثمَّ أَن خبران خرج عَن طَاعَته لِأَنَّهُ إِنَّمَا وَافقه طَمَعا فِي
وجود الْمُؤَيد بقصر قرطبة وإعادته إِلَى الْخلَافَة، وَسَار خيران عَن
قرطبة يطْلب أحدا من بني أُميَّة يقيمه فِي الْخلَافَة، وَبَايع أمويا
ولقبه المرتضى وَهُوَ: عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عبد الْملك بن
عبد الرَّحْمَن
(1/317)
النَّاصِر كَانَ فِي جيان مستخفيا،
وَاجْتمعَ إِلَى عبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور أهل شاطبة وبلنسيه وطرطوشه
مخالفين على عَليّ بن حمود.
فَلم يَنْتَظِم لعبد الرَّحْمَن أَمر، وَجمع عَليّ بن حمود جموعه
وقصدهم من قرطبة وبرز العساكر إِلَى ظَاهرهَا، وَدخل الْحمام ليخرج
ويسير فَوَثَبَ غلمانه وقتلوه فِي الْحمام فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان
وَأَرْبَعمِائَة وَهُوَ ابْن ثَمَان وَأَرْبَعين سنة وولايته سنة
وَتِسْعَة أشهر، فَدخلت العساكر الْبَلَد.
ثمَّ ولي بعده أَخُوهُ الْقَاسِم بن حمود أكبر من عَليّ بِعشْرين سنة
وتلقب بالمأمون، وَملك قرطبة وَغَيرهَا إِلَى سنة اثْنَتَيْ عشرَة
وَأَرْبَعمِائَة.
ثمَّ سَار الْقَاسِم من قرطبة إِلَى أشبيلية، فَخرج عَلَيْهِ ابْن
أَخِيه يحيى بن عَليّ بن حمود بقرطبة ودعا إِلَى نَفسه وخلع عَمه،
فَأَجَابُوهُ فِي مستهل جُمَادَى الأولى سنة اثْنَتَيْ عشرَة
وَأَرْبَعمِائَة وتلقب يحيى بالمعتلي، وَبَقِي بقرطبة حَتَّى سَار
إِلَيْهِ عَمه الْقَاسِم من أشبيلية فَخرج يحيى عَن قرطبة إِلَى مالقه
والجزيرة الخضراء فاستولى عَلَيْهِمَا سنة ثَلَاث عشرَة
وَأَرْبَعمِائَة فِي ذِي الْقعدَة وَدخل الْقَاسِم بن حمود قرطبة فِي
التَّارِيخ.
وَجرى بَين أهل قرطبة وَبَين الْقَاسِم قتال وأخرجوه عَن قرطبة وَبَقِي
بَينهم الْقِتَال نيفا وَخمسين يَوْمًا، ثمَّ هزموا الْقَاسِم وتفرق
عَنهُ عسكره وَسَار إِلَى شريش فقصده ابْن أَخِيه يحيى وأمسكه وحبسه
حَتَّى مَاتَ الْقَاسِم مَحْبُوسًا بعد موت يحيى.
وَلما جرى ذَلِك خرج أهل أشبيلية عَن طَاعَة الْقَاسِم وَابْن أَخِيه
يحيى وَقدمُوا عَلَيْهِم قَاضِي أشبيلية أَبَا الْقَاسِم مُحَمَّد بن
إِسْمَاعِيل بن عباد اللَّخْمِيّ وَبَقِي إِلَيْهِ أَمر أشبيلية،
وَكَانَت ولَايَة الْقَاسِم بن مَحْمُود بقرطبة إِلَى أَن أمسك وَحبس
ثَلَاثَة أَعْوَام وشهورا وَبَقِي مَحْبُوسًا حَتَّى مَاتَ سنة إِحْدَى
وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَقد أسن.
وَقدم أهل قرطبة عبد الرَّحْمَن بن هِشَام بن عبد الْجَبَّار بن عبد
الرَّحْمَن النَّاصِر ولقب بالمستظهر بِاللَّه وَهُوَ أَخُو الْمهْدي
مُحَمَّد بن هِشَام وبويع فِي رَمَضَان وقتلوه فِي ذِي الْقعدَة كل
ذَلِك فِي سنة أَربع عشرَة وَأَرْبَعمِائَة، فبويع بالخلافة مُحَمَّد
بن عبد الرَّحْمَن بن عبيد اللَّهِ بن عبد الرَّحْمَن النَّاصِر ولقب
بالمستكفي، ثمَّ خلع بعد سنة وَأَرْبَعَة أشهر فهرب وسم فِي الطَّرِيق
فَمَاتَ.
ثمَّ اجْتمع أهل قرطبة على طَاعَة يحيى بن عَليّ بن حمود الْعلوِي
وَكَانَ بمالقة يخْطب لَهُ بالخلافة، ثمَّ خَرجُوا عَن طَاعَته سنة
ثَمَان عشرَة وَأَرْبَعمِائَة وَبَقِي يحيى كَذَلِك مُدَّة، ثمَّ سَار
من مالقة إِلَى قرمونه وَأقَام بهَا محاصرا لأشبيلية، وَخرجت للْقَاضِي
ابْن عباد خيل وَكَمن بَعضهم فَركب يحيى لقتالهم فَقتل فِي المعركة فِي
الْمحرم سنة سبع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة.
(1/318)
وَلما خلع أهل قرطبة طَاعَة يحيى بَايعُوا
لهشام بن مُحَمَّد بن عبد الْملك بن عبد الرَّحْمَن النَّاصِر
الْأمَوِي ولقبوه بالمعتمد بِاللَّه سنة ثَمَان عشرَة وَأَرْبَعمِائَة
حَسْبَمَا ذكرنَا. وَجرى فِي أَيَّامه فتن وخلافات فِي الأندلس حَتَّى
خلع هِشَام الْمَذْكُور سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة،
وَسَار مخلوعا إِلَى سُلَيْمَان بن هود الجذامي فَأَقَامَ عِنْده
حَتَّى مَاتَ هِشَام سنة ثَمَان وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة.
ثمَّ أَقَامَ أهل قرطبة بعد هِشَام شخصا من ولد عبد الرَّحْمَن
النَّاصِر اسْمه أُميَّة وَقَالُوا لَهُ: نخشى عَلَيْك أَن تقتل وَأَن
السَّعَادَة قد ولت عَنْكُم يَا بني أُميَّة، فَقَالَ: بايعوني
الْيَوْم واقتلوني غَدا فَلم يَنْتَظِم أمره واختفى فَكَانَ آخر
الْعَهْد بِهِ.
ثمَّ اقتسم الأندلس أَصْحَاب الْأَطْرَاف والرؤساء، فَملك قرطبة أَبُو
الْحسن بن جهور من وزراء الدولة العامرية وَاسْتمرّ كَذَلِك حَتَّى
مَاتَ سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة، ووليها بعده ابْنه أَبُو
الْوَلِيد مُحَمَّد.
وَملك أشبيلية قاضيها أَبُو الْقَاسِم مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن عباد
اللَّخْمِيّ من ولد النُّعْمَان بن الْمُنْذر.
وَلما تقسمت الأندلس شاع ظُهُور الْمُؤَيد هِشَام بن الحكم من الاختفاء
وَأَنه سَار إِلَى قلعة رَبَاح فأطاعه أَهلهَا، فاستدعاه ابْن عباد
إِلَى أشبيلية فَسَار إِلَيْهِ وَقَامَ بنصره وَكتب بظهوره إِلَى ممالك
الأندلس، فَأجَاب أَكْثَرهم وخطبوا لَهُ وجددت بيعَته فِي الْمحرم سنة
تسع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة، وبقى الْمُؤَيد حَتَّى ولي المعتضد بن
عباد فأظهر موت الْمُؤَيد، وَالصَّحِيح أَن الْمُؤَيد لم يظْهر مُنْذُ
عدم من قرطبة فِي سنة ثَلَاث ورأبعمائة وَإِنَّمَا ذَلِك من تمويهات
ابْن عباد.
وَأما بطليوس: فَقَامَ بهَا سَابُور الْفَتى العامري وتلقب بالمنصور،
ووليها بعده أَبُو بكر مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن مسلمة بن الْأَفْطَس
وتلقب بالمظفر وَأَصله من بربر مكناسة لَكِن ولد أَبوهُ بالأندلس،
ووليها بعد مُحَمَّد ابْنه عمر وتلقب بالمتوكل واتسع ملكه وَقتل صبرا
مَعَ ولديه الْفضل وَالْعَبَّاس عِنْد تغلب أَمِير الْمُسلمين يُوسُف
بن تاشفين على الأندلس.
وَأما طليطلة: فوليها ابْن يعِيش، ثمَّ إِسْمَاعِيل بن عبد الرَّحْمَن
بن عَامر بن ذِي النُّون وتلقب بالظافر بحول اللَّهِ وَهُوَ من البربر،
ووليها بعده ابْنه يحيى، ثمَّ أخذت الفرنج طليطلة مِنْهُ سنة سبع
وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة وَاقْتصر هُوَ على بلنسية إِلَى أَن قَتله
القَاضِي بن جحاف الْأَحْنَف.
وَأما سرقسطة والثغر الْأَعْلَى: فَكَانَت بيد مُنْذر بن يحيى، ثمَّ
ابْنه يحيى ثمَّ سُلَيْمَان بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن هود الجذامي
وتلقب بالمستعين بِاللَّه، ثمَّ ابْنه أَحْمد ثمَّ ابْنه عبد الْملك،
ثمَّ ابْنه أَحْمد وتلقب بالمنتصر بِاللَّه وَعَلِيهِ انقرضت دولتهم
على رَأس الْخَمْسمِائَةِ فَصَارَت بِلَادهمْ كلهَا للملثمين.
(1/319)
وَأما طرطوشة: فوليها لَبِيب الْفَتى
العامري.
وَأما بلنسيه: فَكَانَت بيد الْمَنْصُور أبي الْحُسَيْن عبد الْعَزِيز
الْمعَافِرِي ثمَّ انضاف إِلَيْهِ المرية، ثمَّ ابْنه مُحَمَّد، ثمَّ
غدر بِهِ صهره الْمَأْمُون بن ذِي النُّون وَأخذ الْملك سنة سبع
وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة.
وَأما السهلة: فملكها عبود بن رزين الْبَرْبَرِي. وَأما دانية
والجزائر: فَصَارَت بيد الْمُوفق بن الْحُسَيْن مُجَاهِد العامري.
وَأما مرسية: فوليها بَنو طَاهِر واستقامت لعبد الرَّحْمَن مِنْهُم
إِلَى أَن أَخذهَا مِنْهُ المعتضد بن عباد، ثمَّ عصى بهَا نائبها
عَلَيْهِ، ثمَّ صَار للملثمين.
وأماس المرية: فملكها خيران العامري، ثمَّ زُهَيْر العامري واتسع ملكه
إِلَى شاطبة، ثمَّ قتل وَصَارَت مَمْلَكَته للمنصور بن عبد الْعَزِيز
بن عبد الرَّحْمَن الْمَنْصُور بن أبي عَامر، ثمَّ تنقلت حَتَّى صَارَت
للملثمين.
وَأما مالقه: فملكها بَنو عَليّ بن حمود الْعلوِي فَلم تزل للعلويين
يخْطب لَهُم فِيهَا بالخلافة إِلَى أَن أَخذهَا مِنْهُم باديس بن حيوس
صَاحب غرناطة.
وَأما غرناطة: فملكها حيوس بن ماكس الصنهاجي.
هَذِه تَفْرِقَة ممالك الأندلس.
ونظم أَبُو طَالب عبد الْجَبَّار الأندلسي من جَزِيرَة شقر أرجوزة فِي
فنون من الْعُلُوم، مِنْهَا فِي التَّارِيخ قَوْله:
(لما رأى أَعْلَام أهل قرطبة ... أَن الْأُمُور عِنْدهم مضطربة)
(وعدمت شاكلة للطاعة ... اسْتعْملت آراءها الْجَمَاعَة)
(فقدموا الشَّيْخ من آل جهور ... المكتني بالحزم والتدبر)
(ثمَّ ابْنه أَبَا الْوَلِيد بعده ... وَكَانَ يحذو فِي السداد قَصده)
(فجاهرت بجورها الجهارة ... وكل قطر حل فِيهِ فاقره)
(والثغر الْأَعْلَى قَامَ فِيهِ مُنْذر ... ثمَّ ابْن هود بعد فِيمَا
يذكر)
(وَابْن يعِيش ثار فِي طليطلة ... ثمَّ ابْن ذِي النُّون تصفى الْملك
لَهُ)
(وَفِي بطليوس انتزي سَابُور ... وَبعده ابْن الْأَفْطَس الْمَنْصُور)
(وثار فِي حمص بَنو عباد ... وَالْكذب والفتون فِي ازدياد)
(وثار فِي غرناطة حيوس ... ثمَّ ابْنه من بعده باديس)
(وَآل معن ملكوا المرية ... بسيرة محمودة مرضيه)
(وثار فِي شَرق الْبِلَاد الفتيان ... العامريون وَمِنْهُم خيران)
(ثمَّ زُهَيْر والفتى لَبِيب ... وَمِنْهُم مُجَاهِد اللبيب)
(1/320)
(سُلْطَانه رسى بمرسي دانيه ... ثمَّ غزا
حَتَّى إِلَى سردانية)
(ثمَّ أَقَامَت هَذِه الصقالبه ... لِابْنِ أبي عامرهم بشاطبه)
(وَجل مَا ملكهم بلنسيه ... وثار آل طَاهِر بمرسيه)
(ويلد الْبِنْت لآل قَاسم ... وَهُوَ حَتَّى الْآن فِيهَا حَاكم)
(وَابْن رزين جَاره فِي السهله ... أمْهل أَيْضا ثمَّ كل المهله)
(ثمَّ استمرت هَذِه الطوائف ... يخلفهم من آلهم خوالف)
وفيهَا أَعنِي سنة سبع وَأَرْبَعمِائَة: قتلت ... ... . بإفريقية،
فَإِن باديس الْمعز ركب فِي القيروان فاجتاز بِجَمَاعَة فَقيل لَهُ:
إِنَّهُم ... ... يسبون ... ... . و ... ...، فَقَالَ الْمعز: رَضِي
اللَّهِ عَن ... ... و ... ... . فثار بهم النَّاس وقتلوهم.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا مَاتَ طغان ملك تركستان
وكاشغر، وَلما كَانَ مَرِيضا سَارَتْ جيوش الصين من التّرْك والخطا
لقتاله فَدَعَا اللَّهِ أَن يعافيه ليقاتلهم ثمَّ يفعل بِهِ مَا شَاءَ
فَعُوفِيَ وَسَار فكسبهم وهم زهاء ثلثمِائة ألف خركاه وَقتل مِنْهُم
فَوق مِائَتي ألف رجل وَأسر نَحْو مائَة ألف وغنم مَا لَا يُحْصى
وَعَاد فَمَاتَ ببلاساغون عقيب وُصُوله وَكَانَ عادلا دينا.
وَهَذَا يلْتَفت إِلَى قصَّة سعد بن معَاذ الْأنْصَارِيّ رَضِي اللَّهِ
عَنهُ لما جرح فِي غَزْوَة الخَنْدَق وَسَأَلَ اللَّهِ أَن يحييه إِلَى
أَن يُشَاهد غَزْوَة بني قُرَيْظَة، فاندمل جرحه حَتَّى فرغ رَسُول
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من قتل بني قُرَيْظَة
وَسَبْيهمْ فَانْتقضَ جرح سعد وَمَات رَضِي اللَّهِ عَنهُ.
وَلما مَاتَ طغان خَان ملك أَخُوهُ أَبُو المظفر أرسلان خَان.
وفيهَا: فِي جمادي الأولى توفّي مهذب الدولة صَاحب البطيحة أَبُو
الْحسن عَليّ بن نصر ومولده سنة خمس وَثَلَاثِينَ وثلثمائة افتصد فورم
ساعده وَاشْتَدَّ مَرضه فَوَثَبَ ابْن أُخْته أَبُو مُحَمَّد عبد
اللَّهِ بن بني فَقبض على أَحْمد بن مهذب الدولة فأعلمت أمه مهذب
الدولة قبل مَوته فَقَالَ: أَي شَيْء أقدر أعمل وَأَنا على هَذِه
الْحَال وَمَات من الْغَد.
وَولي الْأَمر أَبُو مُحَمَّد الْمَذْكُور، وَضرب ابْن مهذب الدولة
فَمَاتَ بعد ثَلَاثَة أَيَّام من موت أَبِيه.
ثمَّ مَاتَ أَبُو مُحَمَّد بالذبحة بعد ثَلَاثَة أشهر فولى البطيحة
بعده الْحُسَيْن بن بكر الشرابي من خَواص مهذب الدولة، ثمَّ قبض
عَلَيْهِ سُلْطَان الدولة فِي سنة عشر وَأَرْبَعمِائَة وولاها صَدَقَة
بن فَارس المازياري.
وفيهَا: مَاتَ عَليّ بن مزِيد الْأَسدي وَصَارَ الْأَمِير بعده ابْنه
دبيس.
وفيهَا: طمعت الْعَامَّة فِي الديلم وَكثر العيارون والنهب بِبَغْدَاد.
وفيهَا: قدم سُلْطَان الدولة إِلَى بَغْدَاد وَضرب الطبل فِي أَوْقَات
الصَّلَوَات الْخمس، وَكَانَ جده عضد الدولة يَفْعَله فِي أَوْقَات
ثَلَاث صلوَات.
(1/321)
ثمَّ دخلت سنة تسع وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا
غزا يَمِين الدولة الْهِنْد على عَادَته فَقتل وغنم وَعَاد.
وفيهَا: مَاتَ عبد الْغَنِيّ بن سعيد الْحَافِظ الْمصْرِيّ صَاحب
المؤتلف والمختلف.
ثمَّ دخلت سنة عشر وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا توفّي وثاب بن سَابق
النميري صَاحب حران وَملك ابْنه شبيب.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى عشرَة وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا لثلاث بَقينَ من
شَوَّال فقد الْحَاكِم بِأَمْر اللَّهِ أَبُو عَليّ مَنْصُور بن
الْعَزِيز الْعلوِي صَاحب مصر خرج لَيْلًا يطوف على رسمه وَأصْبح عِنْد
قبر الفقاعي وَتوجه إِلَى شَرْقي حلوان وَمَعَهُ ركابيان فَأَعَادَ
أَحدهمَا مَعَ جمَاعَة من الْعَرَب ليوصلهم مَا أطلق لَهُم من بَيت
المَال، ثمَّ عَاد الركابي الآخر وَأخْبر أَنه خلف الْحَاكِم عِنْد
الْعين والمقصبة، فَخرج جمَاعَة من أَصْحَابه ليكشفوا خَبره فوجودوا
عِنْد حلوان حمَار الْحَاكِم فعادوا وَلم يشكوا فِي قَتله، وَكَانَ قد
تهدد أُخْته فاتفقت مَعَ بعض القواد وجهزوا عَلَيْهِ من قَتله. وعمره
سِتّ وَثَلَاثُونَ سنة وَتِسْعَة أشهر وولايته خمس وَعِشْرُونَ سنة
وَأَيَّام، وَكَانَ جوادا سفاكا للدماء تصدر عَنهُ أَفعَال متناقضة
يَأْمر بالشَّيْء ثمَّ ينْهَى عَنهُ.
وَولي بعده ابْنه الظَّاهِر لإعزاز دين اللَّهِ أَبُو الْحسن عَليّ
وبويع فِي السَّابِع من قبل أَبِيه وَهُوَ صبي، وجمعت عمته أُخْت
الْحَاكِم سِتّ الْملك النَّاس وأحسنت ووعدت ورتبت وباشرت الْملك
بِنَفسِهَا وقويت هيبتها وَعَاشَتْ بعد الْحَاكِم أَربع سِنِين.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة شغبت الْجند بِبَغْدَاد على سُلْطَان الدولة،
فَأَرَادَ الانحدار إِلَى وَاسِط فَقَالُوا: اجْعَل عندنَا ولدك أَو
أَخَاك مشرف الدولة، فاستخلف أَخَاهُ مشرف الدولة على الْعرَاق وَسَار
سُلْطَان الدولة عَن بَغْدَاد إِلَى الأهواز واستوزر فِي طَرِيقه ابْن
سهلان فاستوحش مشرف الدولة من ذَلِك.
وَأرْسل سُلْطَان الدولة وزيره ابْن سهلان ليخرج أَخَاهُ مشرف الدولة
من الْعرَاق، فَسَار إِلَيْهِ واقتتلا فانتصر مشرف الدولة وَأمْسك ابْن
سهلان وسمله وَلما بلغ ذَلِك سُلْطَان الدولة ضعفت نَفسه وهرب إِلَى
الأهواز فِي أَرْبَعمِائَة فَارس وَاسْتقر مشرف الدولة بن بهاء الدولة
فِي ملك الْعرَاق وَقطعت خطْبَة سُلْطَان الدولة وخطب لمشرف الدولة فِي
آخر الْمحرم سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَأَرْبَعمِائَة.
وفيهَا: فِي الْموصل قبض مُعْتَد الدولة قرواش بن الْمُقَلّد على وزيره
أبي الْقَاسِم المغربي ثمَّ أطلقهُ، وَقبض على سُلَيْمَان بن فَهد
وَكَانَ ابْن فَهد فِي حداثته بَين يَدي الصابي بِبَغْدَاد، ثمَّ صعد
الْموصل وخدم الْمُقَلّد بن الْمسيب وَالِد قرواش، ثمَّ نظر فِي ضيَاع
قرواش فظلم أَهلهَا، ثمَّ سخط قرواش عَلَيْهِ وحبسه ثمَّ قَتله. وَذكره
ابْن الزمكدم فِي أَبْيَات وَهِي:
(1/322)
(وليل كوجه البرقعيدي مظلم ... وَبرد
أغانيه وَطول قرونه)
(سريت ونومي عَن جفوني مشرد ... كعقل سُلَيْمَان بن فَهد وَدينه)
(على أولق فِيهِ الْتِفَات كَأَنَّهُ ... أَبُو جَابر فِي خبطه وجنونه)
(إِلَى أَن بدا ضوء الصَّباح كَأَنَّهُ ... سنا وَجه قرواش وضوء
جَبينه)
جلس قرواش لَيْلَة للشراب فِي الشتَاء وَعِنْده البرقعيدي مُغنِي قرواش
وَسليمَان بن فَهد وَأَبُو جَابر الْحَاجِب، فَأمر ابْن الزمكدم أَن
يمدح قرواشا ويهجوهم بديها فَقَالَ هَذِه الأبيات
وفيهَا: اجْتمع غَرِيب بن معن ودبيس بن عَليّ بن مزِيد وأتاهم عَسْكَر
من من بَغْدَاد وَجرى بَينهم وَبَين قرواش قتال، فَانْهَزَمَ قرواش
وامتدت يَد نواب السُّلْطَان إِلَى أَعماله فَأرْسل يسْأَل الصفح
عَنهُ.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر نشأت سَحَابَة بإفريقية شَدِيدَة الْبَرْق
والرعد فأمطرت حِجَارَة كَثِيرَة وأهلكت من أَصَابَت، حَكَاهُ ابْن
الْأَثِير.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا مَاتَ صَدَقَة
بن فَارس المازياري أَمِير البطيحة، وضمنها أَبُو نصر شيرزاد بن الْحسن
بن مَرْوَان فأمنت بِهِ الطّرق.
وفيهَا توفّي عَليّ بن هِلَال " ابْن البواب " الْجيد الْخط، وَقيل:
مَاتَ سنة ثَلَاث عشرَة، وَكَانَ عِنْده علم وقص بِجَامِع الْمَدِينَة
بِبَغْدَاد وَيُسمى ابْن الستري أَيْضا لِأَن أَبَاهُ كَانَ بوابا
يلازم ستر الْبَاب، وَشَيْخه فِي الْكِتَابَة مُحَمَّد بن أَسد بن
عَليّ الْقَارِي الْكَاتِب الْبَزَّاز الْبَغْدَادِيّ، وَدفن ابْن
البواب جوَار أَحْمد بن حَنْبَل.
وفيهَا: توفّي عَليّ بن عبد الرَّحْمَن الْفَقِيه الْبَغْدَادِيّ
الْمَعْرُوف بصريع الدلاء قَتِيل الغواشي ذِي الرقاعتين. وَمن مجونه
قَوْله.
(من فَاتَهُ الْعلم وأخطأه الْغنى ... فَذَاك وَالْكَلب على حَال سوا)
قلت: وَكَانَ بعض الْفُقَهَاء ينشده: وأحظاه الْغنى - بِالْحَاء
الْمُهْملَة والظاء الْمُعْجَمَة - وَهُوَ حسن وَإِن لم يرد ذَلِك
قَائِله. وَفِي تَارِيخ ابْن خلكان: أَنه عَليّ بن عبد الْوَاحِد،
وغالب ظَنِّي أَنه توفّي بِمصْر واجتاز بمعرة النُّعْمَان وَبهَا
الشَّيْخ أَبُو الْعَلَاء فَطلب مِنْهُ شرابًا وَمَا يَلِيق بِهِ،
فَأرْسل الشَّيْخ لَهُ نَفَقَة وَاعْتذر بِأَبْيَات مِنْهَا:
(تفهم يَا صريع الْبَين بشرى ... أَتَت من مُسْتَقل مستقيل)
(دعيت بصارع وتداركته ... مُبَالغَة فَرد إِلَى فعيل)
(كَمَا قَالُوا عليم إِذا أَرَادوا ... تناهي الْعلم فِي الله
الْجَلِيل)
(قد استحييت مِنْك فَلَا تَكِلنِي ... إِلَى شَيْء سوى عذر جميل)
(وَقد أنفذت مَا حَقي عَلَيْهِ ... قَبِيح الهجو أَو شتم الرَّسُول)
(وَذَاكَ على انفرادك قوت يَوْم ... إِذا أنفقت إِنْفَاق الْبَخِيل)
(وَإِن الْوَزْن وَهُوَ أتم وزن ... يُقَام صغاه بالحرف العليل)
(1/323)
(وَإِن يَك مَا بعثت بِهِ قَلِيلا ... فلي
حَال أقل من الْقَلِيل)
وَالله أعلم.
وفيهَا: قَالَه عمَارَة فِي تَارِيخ الْيمن - استولى نجاح على الْيمن
كَمَا مر ونجاح مولى مرجان ومرجان مولى حُسَيْن بن سَلامَة وحسين مولى
رشيد ورشيد مولى بني رقاد، ولنجاح أَوْلَاد مِنْهُم: سعيد الْأَحْوَال
وجياش ومعارك، وَملك نجاح الْيمن حَتَّى توفّي سنة اثنيتين وَخمسين
وَأَرْبَعمِائَة، قيل أهْدى لَهُ الصليحي جَارِيَة جميلَة فَسَمتْهُ.
ثمَّ ملك بعد نجاح بنوه وبنوهم، وَغلب عَلَيْهِم الصليحي كَمَا سَيذكرُ
فهرب بَنو نجاح إِلَى دهلك وجزائرها ثمَّ اقترفوا مِنْهَا، فَقدم جياش
متنكرا إِلَى زبيد وَأخذ مِنْهَا وَدِيعَة كَانَت لَهُ ثمَّ عَاد إِلَى
دهلك مُدَّة ملك الصليحي، وَقدم سعيد الْأَحْوَال إِلَى زبيد أَيْضا
بعد عود أَخِيه جياش عَنْهَا واستتر بهَا، واستدعى جياشا من دهلك وبشره
بِانْقِضَاء ملك الصليحي وَأَنه قد قرب أَوَانه فَجَاءَهُ جياش، وَظهر
حِينَئِذٍ سعيد بزبيد وسارا فِي سبعين رجلا من زبيد فِي تَاسِع ذِي
الْقعدَة سنة ثَلَاث وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة، وقصدا الصليحي وَكَانَ
فِي الْحَج فلحقاه عِنْد أم الدهيم وبئر أم معبد وقتلاه وأخاه عبد
اللَّهِ بن مُحَمَّد بَغْتَة فِي ثَانِي عشر ذِي الْقعدَة من السّنة
الْمَذْكُورَة وَمَعَهُ عَسْكَر لم يشعروا إِلَّا بِقَتْلِهِمَا وحز
سعيد رأسيهما، واحتاط على زَوْجَة الصليحي أَسمَاء بنت شهَاب وَعَاد
إِلَى زبيد، وَكَانَ لأسماء ابْن يُسمى الْملك المكرم أَحْمد بن عَليّ
الصليحي لَهُ بعض حصون الْيمن.
وَدخل سعيد بن نجاح وَأَخُوهُ جياش زبيد فِي أَوَاخِر سنة ثَلَاث
وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة، والرأسان أَمَام هودج أَسمَاء بنت شهَاب
وَأنزل أَسمَاء بدار فِي زبيد وَنصب الرأسين قبالتها، واستوثق الْأَمر
بتهامة لسَعِيد.
واستمرت أَسمَاء مأسورة إِلَى سنة خمس وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة،
فَأرْسلت خُفْيَة إِلَى ابْنهَا المكرم تسترجيه فَجمع المكرم جموعا
وَسَار من الْجبَال إِلَى زبيد وَقَاتل سعيدا قتالا شَدِيدا،
فَانْهَزَمَ سعيد إِلَى دهلك وَاسْتولى المكرم على زبيد وَأنزل رَأس
الصليحي وَرَأس أَخِيه فدفنها وَبنى عَلَيْهِمَا مشهدا، وَولى على زبيد
خَاله أسعد بن شهَاب، وَمَاتَتْ أَسمَاء بعد ذَلِك بِصَنْعَاء سنة سبع
وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة.
ثمَّ عَاد بَنو نجاح من دهلك وأخرجوا أسعد وملكوا زبيد سنة تسع وَسبعين
وَأَرْبَعمِائَة.
ثمَّ غلبهم المكرم وَملك زبيد وَقتل سعيدا سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ
وَأَرْبَعمِائَة وَقيل سنة ثَمَانِينَ، وَنصب رَأسه مُدَّة، وهرب جياش
إِلَى الْهِنْد وَعَاد بعد سِتَّة أشهر إِلَى زبيد فملكها فِي بقايا
سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ الْمَذْكُورَة، وَكَانَ قد اشْترى من
الْهِنْد جَارِيَة هندية فَولدت بزبيد ابْنه الفاتك، وَبَقِي المكرم
فِي الْجبَال يَشن الغارات على بِلَاد جياش لَا يقدر على غير ذَلِك.
(1/324)
وَلم يزل جياش مَالِكًا لتهامة من سنة
اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة إِلَى سنة ثَمَان وَتِسْعين
وَأَرْبَعمِائَة فَمَاتَ فِي أواخرها، وَقيل فِي سنة خَمْسمِائَة، وَله
بنُون مِنْهُم فاتك من الْهِنْدِيَّة وَمَنْصُور وَإِبْرَاهِيم.
فَتَوَلّى بعده ابْنه فاتك، وَخَالف عَلَيْهِ أَخُوهُ إِبْرَاهِيم،
ثمَّ مَاتَ فاتك سنة ثَلَاث وَخَمْسمِائة.
وَملك بعد ابْنه مَنْصُور دون الْبلُوغ، فقصده عَمه إِبْرَاهِيم وقاتله
فَمَا ظفر بطائل.
وثار فِي زبيد عَم الصَّبِي عبد الْوَاحِد بن جياش وَملك زبيد،
فَاجْتمع عبيد فاتك على مَنْصُور واستنجدوا وقصدوا زبيد وقهروا عبد
الْوَاحِد، وَاسْتقر مَنْصُور بن فاتك فِي الْملك بزبيد.
ثمَّ ملك بعده ابْنه فاتك بن مَنْصُور.
ثمَّ ملك بعده ابْن عَمه فاتك الْأَخير بن مُحَمَّد بن فاتك بن جياش بن
نجاح سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة، وَاسْتقر فاتك بن
مُحَمَّد فِي ملك الْيمن من السّنة الْمَذْكُورَة حَتَّى قَتله عبيده
سنة ثَلَاث وخميسين وَخَمْسمِائة وَهُوَ آخر مُلُوك الْيمن من بني نجاح
ثمَّ ملك الْيمن عَليّ بن مهْدي وَسَيَأْتِي.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث عشرَة وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا كَانَ الصُّلْح
بَين مشرف الدولة وأخيه سُلْطَان الدولة على أَن الْعرَاق لمشرف الدولة
وكرمان وَفَارِس لسلطان الدولة.
وفيهَا: استوزر مشرف الدولة أَبَا الْحسن بن الْحسن الرخجي ولقب مؤيد
الْملك، وَبنى المارستان بواسط بوقف عَظِيم، وَكَانَ يسْأَل الوزارة
فَيمْتَنع حَتَّى ألزم بهَا هَذِه السّنة.
وفيهَا: توفّي عَليّ بن عِيسَى الشكري شَاعِر السّنة نَاقض شعراء
الشِّيعَة وَأكْثر من مدح الصَّحَابَة رَضِي اللَّهِ عَنْهُم فَسُمي
بذلك.
وفيهَا: توفّي أَبُو عبد اللَّهِ بن الْمعلم فَقِيه الإمامية، ورثاه
المرتضى.
قلت: وفيهَا: كسر الْحجر الْأسود كَسره رجل أعجمي أشقر أَزْرَق فَقتل
مِمَّن يُشبههُ خلق عَظِيم، وَجعلت لَهُ ضبة فضَّة وَهِي بَيِّنَة
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة أَربع عشرَة وثلثمائة: فِيهَا استولى عَلَاء الدولة
أَبُو جَعْفَر بن كاكويه على همذان من يَد صَاحبهَا سَمَاء الدولة أبي
الْحسن بن شمس الدولة من بني بويه، ثمَّ ملك الدينور أَيْضا، ثمَّ ملك
سَابُور خواشت أَيْضا وقويت هيبته وَضبط الْملك.
وفيهَا: قبض مشرف الدولة على وزيره الرخجي، واستوزر أَبَا الْقَاسِم
الْحُسَيْن المغربي الَّذِي كَانَ وَزِير قرواش وَكَانَ أَبوهُ من
أَصْحَاب سيف الدولة بن حمدَان وَسَار إِلَى مصر فولد لَهُ أَبُو
الْقَاسِم الْمَذْكُور بهَا سنة سبعين وثلثمائة، ثمَّ قتل الْحَاكِم
أَبَاهُ فهرب أَبُو الْقَاسِم إِلَى الشَّام وتنقل فِي الخدم.
(1/325)
وفيهَا: غزا يَمِين الدولة الْهِنْد وَعَاد
غانما.
وفيهَا: توفّي القَاضِي عبد الْجَبَّار الْمُتَكَلّم المعتزلي وَقد
جَاوز التسعين.
ثمَّ دخلت سنة خمس عشرَة وَأَرْبَعمِائَة قلت: وفيهَا قبض أَسد الدولة
صَالح بن مرداس بحلب على القَاضِي أبي أُسَامَة وَدَفنه حَيا فِي
القلعة فَقَالَ بَعضهم فِي ذَلِك:
(وأد الْقُضَاة أَشد من ... وأد الْبَنَات عمى وغيا)
(أدفنت قَاضِي الْمُسلمين ... بقلعة الشَّهْبَاء حَيا)
وَالله أعلم.
وفيهَا: فِي شَوَّال توفّي سُلْطَان الدولة أَبُو شُجَاع بن بهاء
الدولة أبي نصر بن عضد الدولة بشيراز وعمره اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ سنة
وَأشهر، فاستولى أَخُوهُ قوام الدولة أَبُو الفوارس على مملكة فَارس،
وَكَانَ أَبُو كاليجار بن سُلْطَان الدولة بالأهواز فَسَار وَقَاتل
عَمه فَانْهَزَمَ عَمه، فاستولى أَبُو كاليجار على مملكة أَبِيه
بِفَارِس ثمَّ أخرجه عَمه أَبُو الفوارس عَنْهَا، ثمَّ ملكهَا أَبُو
كاليجار ثَانِيًا، وَهزمَ عَمه قوام الدولة وَملك شيراز وَاسْتقر فِي
ملك أَبِيه.
وفيهَا: توفّي عَليّ بن عبد اللَّهِ بن عبد الْغفار السمسماني
اللّغَوِيّ، وَكتب الْأَدَب الَّتِي عَلَيْهَا خطه مَرْغُوب فِيهَا.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ عشرَة وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا غزا يَمِين الدولة
الْهِنْد وأوغل وَفتح مَدِينَة الصَّنَم الْمُسَمّى بسومنات أعظم أصنام
الْهِنْد يحجون إِلَيْهِ وَوَقفه فَوق عشرَة آلَاف ضَيْعَة وَكَانَ قد
اجْتمع فِي بَيت الصَّنَم من الْجَوْهَر وَالذَّهَب مَا لَا يُحْصى
فغنم الْكل، وَكَانَ الصَّنَم صلبا فَأوقد عَلَيْهِ حَتَّى قدر على
كَسره كَانَ طوله خَمْسَة أَذْرع مِنْهَا ثَلَاثَة بارزة وذراعان فِي
الْبناء، وَأخذ بعض الصَّنَم مَعَه إِلَى غزنة وَجعله عتبَة الْجَامِع.
قلت: وفيهَا توفّي بسيل ملك الرّوم بن أرمانوس وَكَانَ فِيمَا يزْعم من
رَآهُ من الْمُسلمين مُسلما أَكثر إيمَانه وَحقّ مَا فِي صَدْرِي،
وَقيل أَنه كَانَ يعلق على صَدره تَحت ثِيَابه مُصحفا، وَبَقِي فِي
الْملك خمسين سنة وَالله أعلم.
وفيهَا: فِي ربيع الأولى توفّي مشرف الدولة بن بهاء الدولة وعمره
ثَلَاث وَعِشْرُونَ سنة وَسِتَّة أشهر وَملكه خمس سِنِين وَخَمْسَة عشر
يَوْمًا وَكَانَ عادلا.
وفيهَا قتل التهامي عَليّ بن مُحَمَّد الشَّاعِر صَاحب:
(حكم الْمنية فِي الْبَريَّة جاري ... مَا هَذِه الدُّنْيَا بدار
قَرَار ...
قلت: ولي فِي وَزنهَا قصيدة طَوِيلَة مِنْهَا:
(أَتَرَى أسر بدفن بنت قَائِلا ... اللَّهِ جَارك إِن دمعي جاري)
(فبنات نعش أنجم وكمالها ... بالنعش فاطلب مثله لجواري)
(أَقْسَمت مَا كَرهُوا الْبَنَات لبخلهم ... كَرهُوا الْبَنَات
كَرَاهَة الأصهار)
(1/326)
وَمِنْهَا:
(يَا رب أَمْرَد كالغزال لطرفه ... حكم الْمنية فِي الْبَريَّة جاري)
(ومعذر كالمسك نبت عذاره ... وَالْخَال فَهُوَ زِيَادَة الْعَطَّار)
(وبديعة إِن لم تكن شمس الضُّحَى ... فَالْوَجْه مِنْهَا طَابع
الأقمار)
(أَعرَضت إِعْرَاض التعفف عَنْهُم ... وَقطعت وصلهم وقر قراري)
(مَا ذَاك جهلا بالجمال وَإِنَّمَا ... لَيْسَ الْخَنَا من شِيمَة
الْأَحْرَار)
وَلَكِن أَيْن وَأَيْنَ وشتان بَين وَبَين وَالله أعلم.
وصل التهامي الْمَذْكُور إِلَى الْقَاهِرَة متخفيا وَمَعَهُ كتب من
حسان بن مفرج بن دعبل البدوي إِلَى بني قُرَّة فَعلم بِهِ وَحبس فِي
خزانَة البنود ثمَّ قتل مَحْبُوسًا.
قلت: ورؤي فِي الْمَنَام بِخَير بِسَبَب قَوْله فِي قصيدة فِي ابْنه
الَّذِي مَاتَ صَغِيرا:
(جَاوَرت أعدائي وجاور ربه ... شتان بَين جواره وجواري)
وَالله أعلم.
وتهامة: تطلق على مَكَّة وَلذَلِك قيل للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: تهامي، وَتطلق على الْبِلَاد الَّتِي بَين
الْحجاز وأطراف الْيمن.
ثمَّ دخلت سنة سبع عشرَة وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا صادرت الأتراك
بِبَغْدَاد النَّاس وطمع فِي الْعَامَّة بِمَوْت مشرف الدولة وخلو
بَغْدَاد من سُلْطَان.
وفيهَا: توفّي أَبُو بكر عبد اللَّهِ بن أَحْمد بن عبد اللَّهِ
الْفَقِيه الشَّافِعِي الْمَعْرُوف بالقفال وعمره تسعون سنة وتصانيفه
نافعة، وَتقدم ذكر الْقفال الشَّاشِي.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان عشرَة وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا سَار جلال الدولة
من الْبَصْرَة إِلَى بَغْدَاد استدعاه الْجند بِأَمْر الْخَلِيفَة
للنهب والفتن، فَدَخلَهَا ثَالِث رَمَضَان وتلقاه الْخَلِيفَة وَاسْتقر
بِبَغْدَاد ملكا.
وفيهَا: توفّي الْوَزير أَبُو الْقَاسِم المغربي وعمره سِتّ
وَأَرْبَعُونَ سنة.
وفيهَا: سقط بالعراق برد وزن الْبردَة رَطْل ورطلان بالبغدادي وأصغره
كالبيضة.
وفيهَا: نقضت الدَّار الَّتِي بناها عز الدولة بِبَغْدَاد وغرامتها ألف
ألف دِينَار فبذل فِي حكاكة سقف مِنْهَا ثَمَانِيَة آلَاف دِينَار.
وفيهَا: توفّي الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن
إِبْرَاهِيم بن مهْرَان الإِسْفِرَايِينِيّ ركن الدّين الْفَقِيه
الشَّافِعِي الْمُتَكَلّم الأصولي، أَخذ عَنهُ الْكَلَام عَامَّة
شُيُوخ نيسابور، صنف ورد على الْمُلْحِدِينَ وَبلغ الِاجْتِهَاد لتبحره
وَاخْتلف إِلَيْهِ الْقشيرِي وَأكْثر الْبَيْهَقِيّ من الرِّوَايَة
عَنهُ.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْقَاسِم بن طَبَاطَبَا الشريف أَحْمد بن
مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم
(1/327)
طبابا بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن
حسن بن حسن بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي اللَّهِ عَنْهُم نقيب
الطالبيين بِمصْر، كَانَ جده ألثغ قَالَ يَوْمًا: طَبَاطَبَا يُرِيد
قبا قبا. وَمن شعره:
(كَأَن نُجُوم اللَّيْل سَارَتْ نَهَارهَا ... فوافت عشَاء وَهِي أنضاء
أسفار)
(وَقد خيمت كي يستريح ركابهَا ... فَلَا فلك جَار وَلَا كَوْكَب ساري)
قلت: وصل أَسد الدولة صَالح بن مرداس صَاحب حلب إِلَى معرة النُّعْمَان
وَأمر بعتقال أكابرها، وَسبب ذَلِك أَن امْرَأَة صاحت فِي الْجَامِع
يَوْم الْجُمُعَة وَذكرت أَن صَاحب الماخور أَرَادَ أَن يغصبها
نَفسهَا، فنفر كل من بالجامع غير الأكابر وَالْقَاضِي فهدموا الماخور
وَأخذُوا خشبه ونهبوه، فَحَضَرَ صَالح واعتقلهم ثمَّ صادرهم، واستدعى
صَالح الشَّيْخ أَبَا الْعَلَاء بِظَاهِر المعرة، وَمِمَّا خاطبه بِهِ
مَوْلَانَا السَّيِّد الْأَجَل أَسد الدولة ومقدمها وناصحها كالنهار
الماتع اشْتَدَّ هجيرة وطاب إبراده وكالسيف الْقَاطِع لِأَن صفحه وخشن
حداه: خُذ الْعَفو وامر بِالْمَعْرُوفِ وَأعْرض عَن الْجَاهِلين،
فَقَالَ: قد وهبتهم لَك أَيهَا الشَّيْخ. فَقَالَ أَبُو الْعَلَاء بعد
ذَلِك:
(بعثت شَفِيعًا إِلَى صَالح ... وَذَاكَ من الْقَوْم رَأْي فسد)
(فَيسمع مني سجع الْحمام ... واسمع مِنْهُ زئير الْأسد)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة تسع عشرَة وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا فِي ذِي الْقعدَة
توفّي قوام الدولة أَبُو الفوارس بن بهاء الدولة صَاحب كرمان، فَسَار
ابْن أَخِيه أَبُو كاليجار لِابْنِ سُلْطَان الدولة صَاحب فَارس
فاستولى على كرمان، صفوا عفوا.
ثمَّ دخلت سنة عشْرين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا استولى يَمِين الدولة
مَحْمُود على الرّيّ وَقبض على مجد الدولة بن فَخر الدولة بن بويه
صَاحب الرّيّ لاشتغال مجد الدولة عَن الْملك بمعاشرة النِّسَاء والكتب،
فَشَكَاهُ الْجند إِلَيْهِ فَبعث عسكرا قبضوا عَلَيْهِ.
وفيهَا: قتل صَالح بن مرداس الْكلابِي صَاحب حلب كَمَا مر.
وفيهَا: توفّي منوجهر بن قَابُوس بن وشمكير بن زِيَاد وَملك ابْنه
أنوشروان.
قلت: وفيهَا نَهَضَ أهل الغرب من ضيَاع معرة النُّعْمَان وأفامية وَكفر
طَابَ إِلَى كفرتيل وَكَانَ أَهلهَا نَصَارَى فأرادوا قَتلهمْ، فامتنعت
النَّصَارَى أَيَّامًا وَأَكْثرُوا الْقَتْلَى فِي الْمُسلمين ثمَّ
رحلوا مِنْهَا سرا إِلَى بلد الرّوم فأعطوهم ضَيْعَة تعرف بنيكارين،
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا توفّي
السُّلْطَان مَحْمُود بن سبكتكين فِي ربيع الآخر ومولده فِي عَاشُورَاء
سنة سِتِّينَ وثلثمائة مَاتَ بالإسهال ودام بِهِ سِنِين وَكَانَ قوي
النَّفس لم يضع جنبه فِي مَرضه بل اسْتندَ إِلَى مخدة وَأوصى بِالْملكِ
لِابْنِهِ مُحَمَّد وَهُوَ أَصْغَر من مَسْعُود فَملك مُحَمَّد،
وَكَانَ أَخُوهُ مَسْعُود بأصبهان فَسَار نَحْو أَخِيه مُحَمَّد، فأتفق
(1/328)
الْكِبَار من الْعَسْكَر وقبضوا على مُحَمَّد وَحضر مَسْعُود فاستقر
فِي الْملك وَأطلق أَخَاهُ وَأحسن إِلَيْهِ، ثمَّ قبض على قابضي
مُحَمَّد الساعين لمسعود.
قلت: كافأهم اللَّهِ على فعلهم وَهَذِه عَاقِبَة الْغدر وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة اثنيتن وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا استولى عَسْكَر
السُّلْطَان مَسْعُود على التِّين ومكران.
(ذكر ملك الرّوم للرها)
كَانَ الرها لعطير من بني نمير فاستولى أَبُو نصر بن مَرْوَان صَاحب
ديار بكر على حران وجهز من قتل عطيرا، فَأرْسل. صَالح بن مرداسس يشفع
فِي ردهَا إِلَى ابْن عطير وَإِلَى ابْن شبْل نِصْفَيْنِ، فسلمها
إِلَيْهِمَا سنة سِتّ عشرَة وَأَرْبَعمِائَة واستمرت لَهما إِلَى هَذِه
السّنة، فراسل ابْن عطير ملك الرّوم وَبَاعه حِصَّته من الرها بِعشْرين
ألف دِينَار وعدة قرى، وَحضر الرّوم وتسلموا برج ابْن عطير فهرب
أَصْحَاب ابْن شبْل وَاسْتولى الرّوم على الْبَلَد وَقتلُوا الْمُسلمين
وخربوا الْمَسَاجِد. |