تاريخ ابن الوردي
(أَخْبَار الْقَائِم بِأَمْر اللَّهِ)
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة توفّي الْقَادِر بِاللَّه أَبُو الْعَبَّاس
أَحْمد بن الْأَمِير إِسْحَاق بن المقتدر وعمره سِتّ وَثَمَانُونَ سنة
وَعشرَة أشهر وخلافته إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ سنة وَأشهر.
وَلما مَاتَ تولى ابْنه الْقَائِم بِأَمْر اللَّهِ سادس عشرهم أَبُو
جَعْفَر عبد اللَّهِ بِعَهْد أَبِيه ومبايعته لَهُ فجددت الْبيعَة،
وَأرْسل الْقَائِم أَبَا الْحسن الْمَاوَرْدِيّ إِلَى الْملك أبي
كاليجار فَبَايعهُ لَهُ وخطب لَهُ ببلاده.
وفيهَا: سَارَتْ الرّوم وَمَعَهُمْ حسان بن مفرج الطَّائِي وَهُوَ
مُسلم هرب إِلَيْهِم من الْأُرْدُن من عَسْكَر الظَّاهِر الْعلوِي
جَاءَ مَعَ الرّوم وعَلى رَأسه علم فِيهِ صَلِيب وكبسوا أفامية وملكوا
قلعتها وأسروا وغنموا وَسبوا.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا نهب الْجند
دَار جلال الدولة وأخرجوه من بَغْدَاد وَكَتَبُوا إِلَى كاليجار
يستدعونه فَتَأَخر، وَكَانَ جلال الدولة قد خرج إِلَى عكبرا، ثمَّ
اتَّفقُوا وَعَاد جلال الدولة إِلَى بَغْدَاد.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا قبض مَسْعُود بن
مَحْمُود على شهر نوش صَاحب ساوة وقم ونواحيها، آذَى حجاج خُرَاسَان
كثيرا فَقَبضهُ عَسْكَر مَسْعُود بأَمْره وصلبه على سور ساوة.
وفيهَا: توفّي أَحْمد بن الْحسن الميمندي وَزِير السُّلْطَان مَحْمُود
وَابْنه مَسْعُود. قَالَ الْمُؤلف رَحمَه اللَّهِ تَعَالَى: يَنْبَغِي
تَحْقِيق ذَلِك، فَإِنَّهُ ورد أَن مَحْمُودًا قتل وزيره الْمَذْكُور.
(1/329)
قلت: وفيهَا أَخذ الْحَاج بتبوك وَمَات
أَكْثَرهم جوعا وعطشا وَكثير من أَعْيَان حلب مِنْهُم أَحْمد بن أبي
جَرَادَة وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي القَاضِي ابْن السمال وعمره خمس وَتسْعُونَ.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا فتح السُّلْطَان
مَسْعُود قلعة سرستي وَمَا جاورها من الْهِنْد وَهِي حَصِينَة قَصدهَا
أَبوهُ مرَارًا فَلم يقدر عَلَيْهَا، فطم مَسْعُود خندقها بِالشَّجَرِ
وقصب السكر وَفتحهَا قتلا وسبيا.
وفيهَا: توفّي بدران بن الْمُقَلّد صَاحب نَصِيبين فقصد وَلَده قُرَيْش
عَمه قرواشا فَأقر عَلَيْهِ حَاله وَمَاله وَولَايَة نَصِيبين.
قلت: وَفِي قُرَيْش الْمَذْكُور يَقُول الْأَمِير أَبُو الْفَتْح
الْحسن بن عبد اللَّهِ بن أبي حَصِينَة المعري وأنفذها إِلَيْهِ
جَوَابا عَن إِحْسَان وَصله من ابْتِدَاء من قصيدة طَوِيلَة:
(أَبَت عبراته إِلَّا انهمالا ... عَشِيَّة أزمع الْحَيّ ارتحالا)
(أجدك كلما هموا بنأي ... ترقرق مَاء عَيْنك ثمَّ سالا)
(تقاضينا مواعد أم عَمْرو ... فظنت أَن تنيل وَأَن تنالا)
(وَسَار خيالها الساري إِلَيْنَا ... فَلَو علمت لعاقبت الخيالا)
وَمِنْهَا:
(إِذا وصلت ركائبنا قُريْشًا ... فقد وصلت بِنَا الْبَحْر الزلالا)
(فَتى لَو مد نَحْو الجو باعا ... وهم بِأَن ينَال الشهب نالا)
(إِذا انتسب ابْن بدران وجدنَا ... مناسبه الْعلية لَا تَعَالَى)
(تطول بهَا إِذا ذكرت معد ... وتكسب كل قيسي جمالا)
(أيا علم الْهدى نجوى محب ... يحبكم اعتقادا لَا انتحالا)
(مننت فَلم تجشمني عناءا ... وجدت فَلم تكلفني سؤالا)
(إِذا عدم الزَّمَان مسيبيا ... فساق اللَّهِ للدنيا الوبالا)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا انحل أَمر
الْخلَافَة والسلطنة بِبَغْدَاد وَأخذ العيارون فِي النهب بِلَا مَانع،
وَالسُّلْطَان جلال الدولة لَا يمتثل لَهُ أَمر والخليفة كَذَلِك،
وَقطعت الْعَرَب الطرقات.
وفيهَا: وصلت الرّوم إِلَى ولَايَة حلب فَقَاتلهُمْ صَاحبهَا شبْل
الدولة نصر بن صَالح بن مرداس فَهَزَمَهُمْ وتبعهم إِلَى عزاز فَقتل
وغنم.
قلت: وَكَانَ اسْم ملك الرّوم أرمانوس، وَالصَّحِيح الَّذِي قَالَه
ابْن الْمُهَذّب المعري فِي تَارِيخه: إِن خُرُوج أرمانوس كَانَ سنة
إِحْدَى وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة وَكَانُوا سِتّمائَة ألف وَخرج
(1/330)
فِي شهر تموز وَمَعَهُ ملك البلغار وَملك
الروس والألمان والخزر والأرمن والبلجيك والفرنج وغنم الْمُسلمُونَ
مِنْهُم مَا لَا يُحْصى وأسرت جمَاعَة من اولاد مُلُوكهمْ، وَفِي ذَلِك
يَقُول الْأَمِير أَبُو الْفَتْح الْحسن بن عبد اللَّهِ بن أبي
حَصِينَة المعري من قصيدة طَوِيلَة وأنشده إِيَّاهَا بِظَاهِر قنسرين:
(ديار الْحَيّ مقفرة يباب ... كَأَن رَسُول دمنتها كتاب)
(نأت عَنْهَا الربَاب بَات يهمى ... عَلَيْهَا بعد ساكنها الربَاب)
(تعاتبني أُمَامَة فِي التصابي ... وَكَيف بِهِ وَقد فَاتَ الشَّبَاب)
(نضا مني الصِّبَا ونضوت مِنْهُ ... كَمَا ينضو من الْكَفّ الخضاب)
وَمِنْهَا:
(إِلَى نصر وَأي فَتى كنصر ... إِذا حلت بمغناه الركاب)
(أمنتهك الصَّلِيب غَدَاة ظلت ... خطاما فيهم السمر الصلاب)
(جنودك لَا يُحِيط بِهن وصف ... وجودك لَا يحصله حِسَاب)
(وذكرك كُله ذكر جميل ... وفعلك كُله فعل عُجاب)
(وأرمانوس كَانَ أَشد بَأْسا ... وَحل بِهِ على يدك الْعَذَاب)
(أَتَاك يجر بحرا من حَدِيد ... لَهُ فِي كل نَاحيَة عباب)
(إِذا سَارَتْ كتائبه بِأَرْض ... تزلزلت الأباطح والهضاب)
(فَعَاد وَقد سلبت الْملك عَنهُ ... كَمَا سلبت عَن الْمَيِّت
الثِّيَاب)
(فَمَا أدناه من خير مَجِيء ... وَلَا أقصاه عَن شَرّ ذهَاب)
(فَلَا تسمع بطنطنة الأعادي ... فَإِنَّهُم إِذا طنوا ذُبَاب)
(وَلَا ترفع لمن عاداك رَأْسا ... فَإِن اللَّيْث تنبحه الْكلاب)
وَالله أعلم.
وفيهَا: نهبت خفاجة الْكُوفَة.
وفيهَا: توفّي أَحْمد بن كُلَيْب الشَّاعِر وَكَانَ يهوى أسلم بن
أَحْمد بن سعيد فَمَاتَ كمدا فِيهِ، وَله فِيهِ:
(وأسلمني فِي هَوَاهُ ... أسلم هَذَا الرشا)
(غزال لَهُ مقلة ... يصيد بهَا من يشا)
(وشى بَيْننَا حَاسِد ... سيسأل عَمَّا وشا)
(وَلَو شَاءَ أَن يرتشي ... على الْوَصْل روحي ارتشى)
ثمَّ دخلت سنة سبع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا منتصف شعْبَان
توفّي الظَّاهِر أَبُو الْحسن عَليّ بن الْحَاكِم الْعلوِي بِمصْر
وعمره ثَلَاث وَثَلَاثُونَ وخلافته خمس عشرَة سنة وَتِسْعَة أشهر
وَأَيَّام، كَانَ لَهُ مصر وَالشَّام وإفريقية كَانَ حسن السِّيرَة
منصفا، وَولي بعده ابْنه أَبُو تَمِيم
(1/331)
معد ولقب بالمنتصر بِاللَّه، ومولده سنة
عشْرين وَأَرْبَعمِائَة.
وفيهَا: فتح ابْن وثاب وَابْن عَطِيَّة السويداء عنْوَة بعسكر نصر
الدولة بن مَرْوَان، وَكَانَ الرّوم قد أَحْدَثُوا عمارتها وَاجْتمعَ
إِلَيْهَا أهل الْقرى الْمُجَاورَة لَهَا.
وفيهَا: قتل يحيى الأرنسي بن عَليّ بن حمود، وَتَوَلَّى أَخُوهُ باديس
وتلقب بالمتأيد بمالقه حَتَّى توفّي سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ
وَأَرْبَعمِائَة، ثمَّ ملك الْقَاسِم بن مُحَمَّد ابْن عَم إِدْرِيس
مُدَّة ثمَّ ترك الْملك وتزهد، فَملك بعده الْحسن بن يحيى بن عَليّ بن
حمود وتلقب بالمستنصر إِلَى ان توفّي، فَملك بعده أَخُوهُ إِدْرِيس بن
يحيى وتلقب بالعالي وَفَسَد تَدْبيره حَتَّى أَدخل أَوْلَاد الأراذل
على حريمه، فَخلع وبويع ابْن عَمه مُحَمَّد بن إِدْرِيس بن عَليّ بن
حمود وتلقب بالمهدي وسجن العالي، وَبَقِي الْمهْدي حَتَّى توفّي سنة
خمس وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة وَهُوَ آخر مُلُوكهمْ بِتِلْكَ
الْبِلَاد وانقرضوا سنة خمس وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة.
وَفِي خلَافَة الْمهْدي قَامَ مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن حمود من بني
عَمه بالجزيرة الخضراء وتلقب بالمهدي أَيْضا وَاجْتمعَ البربر عَلَيْهِ
ثمَّ افْتَرَقُوا فَمَاتَ بعد قَلِيل، فَقَامَ بالجزيرة الخضراء ابْنه
الْقَاسِم وَهُوَ آخر مُلُوكهمْ بهَا.
وفيهَا: توفّي رَافع بن الْحُسَيْن بن معن وَكَانَ حازما شجاعا قطعت
يمناه فِي عربدة شرب، وَمن شعره:
(لَهَا ريقة أسْتَغْفر اللَّهِ أَنَّهَا ... ألذ وأشهى فِي النُّفُوس
من الْخمر)
(وصارم طرف لَا يزَال جفْنه ... وَلم أر سَيْفا قطّ فِي جفْنه يفري)
(فَقلت لَهَا والعيس تحدج بالضحى ... أعدي لفقدي مَا اسْتَطَعْت من
الصَّبْر)
(أَلَيْسَ من الخسران أَن لياليا ... تمر بِلَا وصل وتحسب من عمري)
وفيهَا: وَقيل سنة سبع وَثَلَاثِينَ: توفّي أَبُو إِسْحَاق الشَّيْخ
أَحْمد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الثَّعْلَبِيّ وَيُقَال: الثعالبي،
أوحد فِي التَّفْسِير وَله العرائس فِي قصَص الْأَنْبِيَاء صَحِيح
النَّقْل روى عَن جمَاعَة.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا توفّي أَبُو
الْقَاسِم عَليّ بن الْحُسَيْن بن مكرم صَاحب عمان، وَولي ابْنه.
وفيهَا: توفّي مهيار الشَّاعِر كَانَ مجوسيا فَأسلم سنة أَربع
وَتِسْعين وثلثمائة.
وَصَحب الشريف الرضي فَقَالَ لَهُ أَبُو الْقَاسِم بن برهَان: يَا
مهيار انْتَقَلت بِإِسْلَامِك ... ... من زَاوِيَة إِلَى زَاوِيَة
قَالَ: كَيفَ؟ قَالَ: لِأَنَّك كنت مجوسيا فصرت تحب أَصْحَاب النَّبِي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَمن شعره:
(نقضتم عهوده فِي أَهله ... وجرتم عَن سنَن المراسم)
(1/332)
(وَقد شهدتم مقتل ابْن عَمه؟ ... خير مصل
بعده وصائم)
(وَمَا اسْتحلَّ بَاغِيا أمامكم ... يزِيد بالطف من ابْن فاطم)
(وَهَا إِلَى الْيَوْم الضبا خاضبة ... من دمهم مناسر القشاعم)
قلت: وَله أَيْضا:
(إِذا استوحشت عَيْني أنست بِأَن أرى ... نَظَائِر تصبيني إِلَيْهَا
وأشباها)
(وأعتنق الْغُصْن الرطيب لقدها ... وأرشف ثغر الكاس أَحْسبهُ فاها)
(دَعوه ونجدا إِنَّهَا شَأْن قلبه ... فَلَو أَن نجدا تلعة مَا تعداها)
(وهبكم منعتم أَن يَرَاهَا بِعَيْنِه ... فَهَل تمْنَعُونَ الْقلب أَن
يتمناها)
وَاسم أَبِيه مرزويه وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْحُسَيْن أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد
الْقَدُورِيّ الْحَنَفِيّ ومولده سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وثلثمائة،
انْتَهَت إِلَيْهِ رياسة الْحَنَفِيَّة بالعراق وَله كتاب الْقُدُور
وَلَا نعلم لم نسب إِلَى الْقُدُور.
قلت: وَمَا أحسن قَول بعض الْمُتَأَخِّرين فِي مليح طباخ:
(رب طباخ مليح ... أهيف الْقد غرير)
(مالكي أصبح لَكِن ... شغلوه بالقدور)
وَهُوَ شَبيه بقوله:
(أَقُول لَهُ بيسرى وَهُوَ ضبي ... يصيد الْأسد فِيهَا أَي صيد)
(بلادك أَيْن قَالَ من السويدا ... فَقلت لصاحبي هَذَا سويدي)
وَمَعْلُوم أَن فِي قَوْله: بلادك أَيْن نظر حَيْثُ لم يقل أَيْن
بلادك، لِأَن الِاسْتِفْهَام لَهُ صدر الْكَلَام، وَكَذَا فِي قَوْله:
سويدي نِسْبَة إِلَى السويدا، وَالْقِيَاس سويداوي وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي الرئيس أَبُو عَليّ الْحُسَيْن بن عبد اللَّهِ بن سينا
البُخَارِيّ وَالِده من بَلخ وَسكن بخارا أَيَّام الْأَمِير نوح ثمَّ
تزوج امْرَأَة بقرية أفشنة وَبهَا ولد الرئيس وَأَخُوهُ، وَختم الرئيس
الْقُرْآن وَهُوَ ابْن عشر سِنِين وَقَرَأَ الْحِكْمَة على أبي عبد
اللَّهِ التاتلي وَحل إقليدس والمجسطي والطب وَهُوَ ابْن ثَمَانِي
عشرَة، ثمَّ انْتقل من بخارا إِلَى جرجانية وَغَيرهَا وَفِي جوزجان
اتَّصل بِهِ أكبر أَصْحَابه أَبُو عبد اللَّهِ الْجوزجَاني، ثمَّ
اتَّصل بِخِدْمَة مجد الدولة بن بويه بِالريِّ، ثمَّ خدم قَابُوس بن
وشمكير، ثمَّ قصد عَلَاء الدولة بن كاكويه وَتقدم عِنْده، ثمَّ مرض
بالصرع والقولنج وَترك الحمية وَمضى إِلَى همذان مَرِيضا وَمَات بهَا
عمره ثَمَان وَخَمْسُونَ، وكفره الْغَزالِيّ فِي كِتَابه المنقذ من
الضلال، وَكفر الفارابي أَيْضا:
قلت: قَالَ فِي المنقذ من الضلال: إِن مَجْمُوع مَا غَلطا فِيهِ من
الإلهيات يرجع إِلَى عشْرين أصلا يجب تكفيرهما فِي ثَلَاثَة مِنْهَا
وتبديعهما فِي سَبْعَة عشر. أما الْمسَائِل الثَّلَاث فقد خالفا فِيهَا
كَافَّة الإسلاميين.
(1/333)
الأولى: قَالَا إِن الأجساد لَا تحْشر
وَإِنَّمَا المثاب والمعاقب هِيَ الْأَرْوَاح.
الثَّانِيَة: قَوْلهمَا إِن اللَّهِ يعلم الكليات دون الجزئيات.
الثَّالِثَة: قَوْلهمَا بقدم الْعَالم، وإعتقادهما هَذَا كفر صَرِيح
نَعُوذ بِاللَّه مِنْهُ.
قَالَ ابْن خلكان رَحمَه اللَّهِ: ثمَّ أَن ابْن سينا لما أيس من
الْعَافِيَة ترك المداواة واغتسل وَتَابَ وَتصدق بِمَا مَعَه على
الْفُقَرَاء ورد الْمَظَالِم على من عرفه وَأعْتق مماليكه وَجعل يخْتم
فِي كل ثَلَاثَة أَيَّام ختمة ثمَّ مَاتَ بهمذان يَوْم الْجُمُعَة من
رَمَضَان وَالله أعلم وَله مائَة مُصَنف.
وَقَالَ فِي الْمقَالة الأولى من الْفَنّ الْخَامِس من طبيعيات
الشِّفَاء: وَقد صَحَّ عِنْدِي بالتواتر مَا كَانَ بِبِلَاد جوزجان فِي
زَمَاننَا من أَمر حَدِيد ثقله يزن مائَة وَخمسين منا نزل من الْهَوَاء
فنشب فِي الأَرْض ثمَّ نبا نبوة الكرة الَّتِي يَرْمِي بهَا الْحَائِط
ثمَّ عَاد فنشب فِي الأَرْض وَسمع النَّاس لذَلِك صَوتا عَظِيما هائلا،
فَلَمَّا تفقدوا أمره ظفروا بِهِ وَحَمَلُوهُ إِلَى وَالِي جوزجان ثمَّ
كَاتبه سُلْطَان خُرَاسَان مَحْمُود بن سبكتكين يرسم بإنفاذه أَو
إِنْفَاذ قِطْعَة مِنْهُ، فَتعذر نَقله لثقله فحاولوا كسر قِطْعَة
مِنْهُ فَمَا كَانَت الْآلَات تعْمل فِيهِ إِلَّا بِجهْد وَكَانَت كل
آلَة تعْمل فِيهِ تنكسر، لكِنهمْ فصلوا مِنْهُ آخر الْأَمر شَيْئا
فأنفذوه إِلَيْهِ ورام أَن يطبع مِنْهُ سَيْفا فَتعذر عَلَيْهِ، وَحكي
أَن جملَة ذَلِك الْجَوْهَر كَانَ ملتئما من أَجزَاء جاورسية صغَار
مستديرة الْتَصق بَعْضهَا بِبَعْض، قَالَ: وَهَذَا الْفَقِيه عبد
الْوَاحِد الْجوزجَاني صَاحِبي شَاهد ذَلِك كُله.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا هادن
الْمُسْتَنْصر الْعلوِي الرّوم على أَن يطلقوا خَمْسَة آلَاف أَسِير
ويمكنوا من عمَارَة قمامة الَّتِي خربها الْحَاكِم، وفعلوا ذَلِك.
وفيهَا: توفّي أَبُو مَنْصُور عبد الْملك بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل
الثعالبي النَّيْسَابُورِي صَاحب التصانيف مِنْهَا: يتيمة الدَّهْر فِي
محَاسِن أهل الْعَصْر، ومولده سنة خمسين وثلثمائة.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا توفّي أَبُو عَليّ
الْحُسَيْن الرخجي كَانَ وَزِير بني بويه، ثمَّ عطل وَتقدم الوزراء
عاطلا.
قلت: وفيهَا توفّي الشَّيْخ أَبُو الْمجد مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن
سُلَيْمَان أَخُو أبي الْعَلَاء المعري، وَقدم أَبُو الْعَلَاء
الشَّيْخ أَبَا صَالح مُحَمَّد بن الْمُهَذّب للصَّلَاة عَلَيْهِ
وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي أَبُو نعيم أَحْمد بن عبد اللَّهِ الْأَصْبَهَانِيّ
الْحَافِظ، وَأَبُو الْفَتْح الْحسن بن جَعْفَر الْعلوِي أَمِير
مَكَّة، وَالْفضل بن مَنْصُور بن الظريف الفارقي الْأَمِير الشَّاعِر.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا ملك
الْملك أَبُو كاليجار الْبَصْرَة.
(أَخْبَار عمان)
لما توفّي أَبُو الْقَاسِم بن مكرم صَاحب عمان ولي ابْنه أَبُو
الْجَيْش وَقدم صَاحب جَيش أَبِيه عَليّ بن هطال، وَكَانَ لأبي
الْجَيْش أَخ يُقَال لَهُ الْمُهَذّب يُنكر على أَخِيه قِيَامه لِابْنِ
(1/334)
هطال فَعمل ابْن هطال دَعْوَة للمهذب وسقاه
حَتَّى سكر فَقَالَ لَهُ ابْن هطال: إِن أخرجت أَخَاك وملكتك مَا
تُعْطِينِي؟ فوعده بعظيم، فَأخذ ابْن هطال خطه بذلك وَأصْبح عرف
أَخَاهُ أَن الْمُهَذّب يسْعَى فِي الْملك وَأرَاهُ خطه فَقتل أَبُو
الْجَيْش الْمُهَذّب، وَبعده بِقَلِيل مَاتَ أَبُو الْجَيْش، فَطلب
ابْن هطال أَخَاهُ الصَّغِير أَبَا مُحَمَّد ليجعله فِي الْملك فَلم
تفعل أمه، فاستولى ابْن هطال على عمان وأساء السِّيرَة، فَبلغ ذَلِك
أَبَا كاليجار فأعظمه وجهز إِلَيْهِ جَيْشًا وَخرج النَّاس عَن طَاعَته
فَقتله خَادِم لَهُ وقرواش، وَاسْتقر الْأَمر لأبي مُحَمَّد بن أبي
الْقَاسِم بن مكرم فِي هَذِه السّنة.
وفيهَا: توفّي شيب بن وثاب النميري صَاحب الرقة وسروج وحران.
وفيهَا: توفّي أَبُو نصر موسكان كَاتب إنْشَاء مَسْعُود وَأَبِيهِ
مَحْمُود بن سبكتكين كَاتب مفلق.
(ابْتِدَاء ملك السلجوقية وَسِيَاق أخبارهم)
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة وفيهَا: توطد
ملك طغرلبك وأخيه دَاوُد ابْني مِيكَائِيل بن سلجوق بن دقاق وَكَانَ
دقاق شهما من مقدمي الأتراك، وَنَشَأ ابْنه سلجوق وَعَلِيهِ أَمَارَات
النجابة فقدمه بيغو ملك التّرْك وتقوى وَخَافَ من بيغو فَدخل بِكُل من
أطاعه من دَار الْحَرْب إِلَى دَار الْإِسْلَام لسعادته وسعادة وَلَده،
وَأقَام بنواحي جند - بجيم مَفْتُوحَة وَنون سَاكِنة - بليدَة وَرَاء
بخارا وَصَارَ يَغْزُو التّرْك الْكفَّار. وَكَانَ لسلجوق من
الْبَنِينَ أرسلان وَمِيكَائِيل ومُوسَى، وَتُوفِّي سلجوق بجند وعمره
مائَة وَسبع سِنِين، وَبَقِي أَوْلَاده على مَا كَانَ أبوهم عَلَيْهِ
من غَزْو كفار التّرْك فَقتل مِيكَائِيل فِي الْغُزَاة شَهِيدا، وَخلف
من الْبَنِينَ بيغو وطغرلبك وجعروبك دَاوُد.
ثمَّ نزلُوا على فرسخين من بخارا فأساء أَمِير بخارا جوارهم فالتجأوا
إِلَى بغراخان ملك التركستان وَاسْتقر الْأَمر بَين طغرلبك وأخيه
دَاوُد أَن لَا يجتمعا عِنْد بغراخان حذرا من غدره بهما واجتهد على
اجْتِمَاعهمَا فَلم يفعلا فَقبض على طغرلبك وَأرْسل عسكرا إِلَى أَخِيه
دَاوُد فَاقْتَتلُوا فَانْهَزَمَ عَسْكَر بغراخان، وَقصد دَاوُد مَوضِع
أَخِيه طغرلبك وخلصه وَأَقَامَا بجند حَتَّى انْقَضتْ الدولة
السامانية.
وَملك أيلك خَان بخارا فَعظم عِنْده أرسلان بن سلجوق، سَار أيلك خَان
عَنْهَا وَبَقِي ببخارا عَليّ تكين وَمَعَهُ أرسلان بن سلجوق حَتَّى
عبر مَحْمُود بن سبكتكين نهر جيحون وَقصد سنجاراً فهرب عَليّ تكين من
بخارا وَدخل أرسلان وجماعته الْمَفَازَة والرمل، فكاتب السُّلْطَان
مَحْمُود أرسلان واستماله إِلَى أَن قدم فَقبض عَلَيْهِ وَنهب
خركاواته.
وَأَشَارَ أرسلان الخازن على السُّلْطَان مَحْمُود بتغريق السلجوقية
جمَاعَة أرسلان فِي جيحون فأبي، فَأَشَارَ بِقطع إبهاماتهم ليبطل
ورميهم بالنشاب فأبي، وعبرهم نهر جيحون وفرقهم فِي نواحي خُرَاسَان
بخراج عَلَيْهِم، فجارت الْعمَّال عَلَيْهِم فانفصل مِنْهُم جمَاعَة
إِلَى
(1/335)
أَصْبَهَان وحاربوا عَلَاء الدولة بن
كاكويه وَسَارُوا إِلَى أذربيجان.
وَهَؤُلَاء كَانُوا جمَاعَة أرسلان بن سلجوق وَصَارَ اسمهم هُنَاكَ
التّرْك الغزية وَبِذَلِك سميت جمائعهم كلهَا.
وَسَار طغرلبك وأخواه دَاوُد وبيغو من خُرَاسَان إِلَى بخارا فَقتل
عَسْكَر عَليّ تكين خلقا من جمائعهم، فاضطروا إِلَى الْعود إِلَى
خُرَاسَان فعبروا جيحون وخيموا بِظَاهِر خوارزم سنة سِتّ وَعشْرين
وَأَرْبَعمِائَة، وَاتَّفَقُوا مَعَ خوارزم شاه هردن بن الطنطاس
وعاهدهم، ثمَّ غدر بهم وكبسهم فَقتل فيهم كثيرا وَنهب وسبى، فَسَارُوا
عَنهُ إِلَى جِهَة مرو، فَأرْسل إِلَيْهِم مَسْعُود بن السُّلْطَان
مَحْمُود جَيْشًا فَهَزَمَهُمْ واقتتل الْجَيْش على الْغَنِيمَة.
ثمَّ عَادوا فوجدوا الْعَسْكَر مُخْتَلفا مقتتلا فأوقعوا بعسكر
مَسْعُود وهزمزهم واستردوا مَا أَخذ لَهُم فهابتهم قُلُوب الْعَسْكَر،
فاستمالهم السُّلْطَان مَسْعُود فأظهروا الطَّاعَة وَأَرْسلُوا يسألونه
إِطْلَاق عمهم أرسلان الَّذِي قَبضه السُّلْطَان مَحْمُود فَأحْضرهُ
مَسْعُود إِلَيْهِ ببلخ وأستقدمهم فامتنعوا فَأَعَادَ حَبسه وعادت
الْحَرْب بَينهم، وهزموا عَسْكَر مَسْعُود مرّة بعد أُخْرَى وقووا
واستولوا على غَالب خُرَاسَان واستنابوا فِي النواحي وخطب لطغرلبك فِي
نيسابور، وَسَار دَاوُد إِلَى هراة وهربت عَسَاكِر مَسْعُود وتقدموا
خُرَاسَان إِلَى غزنة.
وأعلموا مَسْعُود بتفاقم الْأَمر فقصدهم مَسْعُود بعساكره وخيوله
فَكلما تَبِعَهُمْ رحلوا عَنهُ، وَطَالَ البيكار على عسكره وَقل
الْقُوت، وَكَانَ لعسكر خُرَاسَان ثَلَاث سِنِين فِي البيكار، وَنزل
الْعَسْكَر فِي الْحر بِمَنْزِلَة قَليلَة المَاء فافتتنوا وتخلى
الْعَسْكَر عَن مَسْعُود ضجرا وَاخْتلفُوا، فَعَادَت السلجوقيه
عَلَيْهِم فانهزمت عَسَاكِر مَسْعُود وَثَبت مَسْعُود فِي جمع ثمَّ
انهزم وغنم السلجوقيه مَا لَا يحصر وَقسم دَاوُد ذَلِك بَين أَصْحَابه
وآثر على نَفسه.
وعادت السلجوقيه فاستولوا على خُرَاسَان وخطب لَهُم على منابرها فِي
آخر سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَسَيَأْتِي بَاقِي
خبرهم.
قبض مَسْعُود وَقَتله: وهرب مَسْعُود وَعَسْكَره من بَين أَيدي
السلجوقية من خُرَاسَان فوصل غزنة فِي شَوَّال سنة إِحْدَى
وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة، وَقبض على مقدم عسكره سياوش وعَلى عدَّة
من الْأُمَرَاء، وجهز ابْنه مودود إِلَى بَلخ ليرد عَنْهَا دَاوُد
السلجوقي فِي سنة اثنيتن وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة. وَسَار
مَسْعُود ليشن بِبِلَاد الْهِنْد على عَادَة وَالِده وَعبر سيحون فنهب
أنوشتكين أحد قواد عسكره بعض الخزائن وَاجْتمعَ إِلَيْهِ جمع، وألزم
مُحَمَّدًا أَخا مَسْعُود بِالْقيامِ بِالْأَمر فَقَامَ على كره،
وَبَقِي مَسْعُود فِي جمَاعَة من الْعَسْكَر والتقى الْفَرِيقَانِ فِي
منتصف ربيع الآخر سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ واقتتلوا شَدِيدا،
فَانْهَزَمَ مَسْعُود وجماعته وتحصن مَسْعُود فِي رِبَاط فحصروه
(1/336)
فَخرج إِلَيْهِم، فَأرْسلهُ أَخُوهُ
مُحَمَّد إِلَى قلعة كيدي وَحمل مَعَ مَسْعُود أَهله وَأَوْلَاده وَأمر
بإكرامه وصيانته.
وَلما اسْتَقر مُحَمَّد بن مَحْمُود بن سبكتكين فِي الْملك فوض أَمر
دولته إِلَى وَلَده أَحْمد وَكَانَ فِيهِ خبط وهوج فَقتل عَمه مَسْعُود
بن مَحْمُود فِي قلعة كيدي بِغَيْر علم أَبِيه، ثمَّ شقّ ذَلِك على
أَبِيه وساءه، وَكَانَ مَسْعُود كثير الصَّدَقَة تصدق مرّة فِي
رَمَضَان بِأَلف ألف دِرْهَم وَكَانَ يحسن إِلَى الْعلمَاء وصنفوا لَهُ
التصانيف الْحَسَنَة، وَكَانَ عَظِيم الْملك حسن الْخط ملك أصفهان
والري وطبرستان وجرجان وخراسان وخوارزم وبلاد الران وكرمان وسجستان
والسند والرخج وغزنة وبلاد الْغَوْر وأطاعه أهل الْبر وَالْبَحْر.
وَلما قتل مَسْعُود كَانَ ابْنه مودود فِي حَرْب السلجوقيه بخراسان
وبلغه فَعَاد مجدا إِلَى غزنة وَقَاتل عَمه مُحَمَّدًا، فَانْهَزَمَ
مُحَمَّد وَقبض مودود على مُحَمَّد وَابْنه أَحْمد وأنوشتكين الَّذِي
نهب الخزائن وَأقَام مُحَمَّدًا، فَقَتلهُمْ وَكَانَ أنوشتكين خَصيا من
بَلخ، وَقتل جَمِيع أَوْلَاد مُحَمَّد خلا عبد الرَّحِيم وَقتل كل
دَاخل فِي الْقَبْض على أَبِيه، وَدخل مودود غزنة فِي ثَالِث عشرى
شعْبَان مِنْهَا وَملك مودود غزنة وَأحسن وَثَبت فِي الْملك، وارسله
ملك التّرْك بِمَا وَرَاء النَّهر بالانقياد والمتابعة.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا فِي
الْمحرم توفّي عَلَاء الدولة أَبُو جَعْفَر بن شهريار الْمَعْرُوف
بِابْن كاكويه كَانَ شجاعا ذَا رَأْي، وَأقَام بأصبهان بعده ابْنه ظهير
الدّين أَبُو مَنْصُور فرامرز أكبر أَوْلَاده، وَسَار ابْنه كرشاسف بن
عَلَاء الدولة فَأَقَامَ بهمذان وَأَخذهَا لنَفسِهِ.
وفيهَا: ملك السُّلْطَان طغرلبك جرجان وطبرستان.
وفيهَا: أَمر الْمُنْتَصر الْعلوِي أهل دمشق بِالْخرُوجِ عَن طَاعَة
الدزبري، فقصد الدزبري حماه فعصى عَلَيْهِ أَهلهَا، فكاتب مُحَمَّد بن
منقذ الكفرطابي فَحَضَرَ إِلَيْهِ فِي نَحْو ألفي رجل فاحتمى بِهِ،
وَسَار إِلَى حلب وَأقَام بهَا مُدَّة، وَتُوفِّي الدزبري فِي نصف
جُمَادَى الْآخِرَة من هَذِه النسة، واسْمه أنوشتكين ونسبته إِلَى دزبر
بن رويثم الديلمي، وَفَسَد بِمَوْتِهِ الشَّام وَزَالَ النظام وَخرجت
الْعَرَب بنواحي الشَّام فَخرج صَاحب الرحبة أَبُو علوان ثمال ولقبه
معز الدولة بن صَالح بن مرداس إِلَى حلب فملكها.
وفيهَا: سير أَبُو كاليجار من فَارس عسكرا فَملك صحار مَدِينَة عمان.
وفيهَا: توفّي الْعَادِل أَبُو مَنْصُور بهْرَام وَزِير أبي كاليجار
ومولده سنة سِتّ وَسِتِّينَ وثلثمائة، وَكَانَ حسن السِّيرَة وَبنى
دَار الْكتب بفيروزأباد وَجعل فِيهَا سَبْعَة آلَاف مُجَلد.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا ملك
السُّلْطَان طغرلبك خوارزم وَهزمَ عَنْهَا المستولي عَلَيْهَا شاه ملك
بن عَليّ، وَبعدهَا استولى طغرلبك على بلد الْجَبَل فِيهَا أَيْضا.
(1/337)
وفيهَا: حصلت وَحْشَة بَين جلال الدولة
والخليفة الْقَائِم بِسَبَب الجوالي كَانَت الْعَادة أَن تحمل الجوالي
إِلَى الْخُلَفَاء فَأَخذهَا جلال الدولة، فَأرْسل الْقَائِم إِلَيْهِ
أَبَا الْحسن الْمَاوَرْدِيّ لذَلِك فَلم يلْتَفت إِلَيْهِ، فعزم
الْقَائِم على مُفَارقَة بَغْدَاد فَلم يتم لَهُ ذَلِك.
وفيهَا: خرج بِمصْر رجل اسْمه سكين يشبه الْحَاكِم فَادّعى أَنه هُوَ،
وَتَبعهُ من يعْتَقد رَجْعَة الْحَاكِم وقصدوا دَار الْخَلِيفَة،
فارتاع أهل الدَّار ثمَّ ارْتَابُوا فصلبوا أَصْحَابه.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا فِي شعْبَان
توفّي جلال الدولة أَبُو طَاهِر بن بويه بِبَغْدَاد بورم كبده ومولده
سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وثلثمائة بِبَغْدَاد وَملكه سِتّ عشرَة سنة
وَاحِد عشر شهرا، وَكَانَ ابْنه بواسط فكاتبه الْجند فِيمَا يحملهُ
إِلَيْهِم فَلم يَنْتَظِم لَهُ أَمر، فقصد نصر الدولة بن مَرْوَان
وَتُوفِّي عِنْده بميافارقين سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة.
فَلَمَّا لم يَنْتَظِم لِابْنِ جلال الدولة أَمر كَاتب أَبُو كاليجار
الْجند بِبَغْدَاد فاستقرت بَغْدَاد لأبي كاليجار بن بويه، وخطبوا لَهُ
فِي صفر سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة.
وفيهَا: أَعنِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة فتح عَسْكَر
مودود بن مَسْعُود حصونا من الْهِنْد.
وفيهَا أسلم من التّرْك خَمْسَة آلَاف خركاه وَلم يتَأَخَّر عَن
الْإِسْلَام سوى الخطا والتتر وهم بنواحي الصين.
وفيهَا: ترك شرف الدولة ملك التّرْك لنَفسِهِ بِلَاد بلاساغون وكاشغر
وَأعْطى أَخَاهُ أرسلان تكين كثيرا من بِلَاد التّرْك وَأعْطى أَخَاهُ
بغراجان أطرار وأسبيجاب وَأعْطى عَمه طغان فرغانة بأسرها وَأعْطى عَليّ
تكين بخارا وسمرقند وقنع من أَهله بِالطَّاعَةِ لَهُ.
وفيهَا: قطع الْمعز بن باديس بإفريقية خطْبَة العلويين وخطب للقائم
العباسي ووصلته خلع الْقَائِم وأعلامه على طَرِيق الْقُسْطَنْطِينِيَّة
فِي الْبَحْر.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا خطب لأبي
كاليجار بِبَغْدَاد وخطب لَهُ أَبُو الشوك ببلاده بن مزِيد ببلاده
وَنصر الدولة بن مَرْوَان بديار بكر، وَدخل أَبُو كاليجار بَغْدَاد فِي
رَمَضَان مِنْهَا وزينت لَهُ.
وفيهَا: توفّي المرتضى أَخُو الرضي ومولده سنة خمس وَخمسين وثلثمائة
وَولي نقابة العلويين بعده عدنان بن الرضي.
وفيهَا: توفّي القَاضِي أَبُو عبد اللَّهِ بن الْحُسَيْن الصَّيْمَرِيّ
شيخ الْحَنَفِيَّة ومولده سنة إِحْدَى وَخمسين وثلثمائة.
وفيهَا: مَاتَ أَبُو الْحُسَيْن مُحَمَّد بن عَليّ الْبَصْرِيّ
المعتزلي المُصَنّف.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا أَخذ
إِبْرَاهِيم نيال أَخُو طغرلبك هَمدَان من كرشاسف بن كاكويه والدينور
من أبي الشوك والصيمرة.
(1/338)
وفيهَا: توفّي أَبُو الشوك فَارس بن
مُحَمَّد بن عناز بقلعة السيروان، فغدر الأكراد بِابْنِهِ سعدي وصاروا
مَعَ مهلهل بن مُحَمَّد أخي أبي الشوك.
وفيهَا: قتل عِيسَى بن مُوسَى الهذباني صَاحب إربل قَتله ابْنا أَخِيه
وملكا قلعلة إربل، وَبلغ أَخَاهُ سلار وَهُوَ نَازل عِنْد قرواش صَاحب
الْموصل لوحشة كَانَت بَينه وَبَين أَخِيه عِيسَى، فَسَار بِهِ قرواش
وَملكه إربل وَعَاد قرواش إِلَى الْموصل.
وفيهَا: عَم الوباء فِي الْخَيل.
وفيهَا: توفّي أَحْمد بن يُوسُف المنازي وزر لأبي نصر أَحْمد بن
مَرْوَان الْكرْدِي صَاحب ديار بكر وَترسل إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة
وَكَانَ من أَعْيَان الْفُضَلَاء ووقف كتبا كَثِيرَة على جَامع
ميافارقين وجامع آمد، واجتاز مرّة بوادي بزاعا فأعجبه فَقَالَ فِيهِ:
(وقانا لفحة الرمضاء وَاد ... سقَاهُ مضاعف الْغَيْث العميم)
(نزلنَا دوحه فحنا علينا ... حنو المرضعات على الفطيم)
(وأرشفنا على طما زلالا ... أرق من المدامة للنديم)
(يُرَاعِي الشَّمْس أَنى قابلتنا ... فيحجبها وَيَأْذَن للنسيم)
(يروع حصاه حَالية العذارى ... فتلمس جَانب العقد النظيم)
قلت: ولي فِيهِ:
(إِن وَادي الْبَاب قد أذكرني ... جنَّة المأوى فَللَّه الْعجب)
(فِيهِ دوح يحجب الشَّمْس إِذا ... قَالَ للنسمة جوزي بأدب)
(فَهِيَ تغوي عذب البان أما ... تعذب الغي كَمَا تغوي العذب)
(طيره معربة فِي لحنها ... تطرب الْحَيّ كَمَا تحيي الطَّرب)
(مرجه مبتسم مِمَّا بَكت ... سحب فِي ذيلها الطّيب انسحب)
(فِيهِ روضات أَنا صب بهَا ... مِثْلَمَا أصبح فِيهِ المَاء صب)
(نهره إِن قَابل الشَّمْس ترى ... فضَّة بَيْضَاء فِي نهر ذهب)
وَبَين الْقَوْلَيْنِ بون بعيد وَقد يُقَابل الذَّهَب بالحديد وَالله
أعلم.
والمنازي - بِفَتْح الْمِيم - نِسْبَة إِلَى منازجرد بِزِيَادَة جِيم
مَكْسُورَة عِنْد خرت برت غير مناز كرد من عمل خلاط، والوادي
الْمَذْكُور بَين بزاعا وَالْبَاب.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا ملك مهلهل
بن مُحَمَّد بن عناز أَخُو أبي الشوك قرميسين والدينور.
وفيهَا: توفّي الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد اللَّهِ بن يُوسُف بن
مُحَمَّد بن حيوية الْجُوَيْنِيّ وَالِد إِمَام الْحَرَمَيْنِ تفقه على
أبي الطّيب سهل بن مُحَمَّد الصلعوكي وَله فِي الْمَذْهَب وَجه وَله
علم بالأدب وَغَيره، وَهُوَ من بني سِنْبِسٍ بطن من طَيء.
(1/339)
قلت: قَالَ الشَّيْخ الْحَافِظ أَبُو صَالح
الْمُؤَذّن: لما غسلت الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد ولففته فِي الْكَفَن
رَأَيْت يَده الْيُمْنَى إِلَى الْإِبِط زهراء منيرة من غير سوء وَهِي
تتلألأ تلألؤ الْقَمَر فتحيرت فِي نَفسِي وَقلت: هَذِه من بَرَكَات
فَتَاوِيهِ، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا استولى
عَسْكَر كاليجار على البطيحة وهرب صَاحبهَا أَبُو نصر بن الْهَيْثَم
إِلَى زيرب.
وفيهَا: أكل أهل الْعرَاق الْميتَة من الغلا.
وفيهَا: توفّي الْمُطَرز عبد الْوَاحِد بن مُحَمَّد الشَّاعِر، وَأَبُو
الْخطاب الجيلي الشَّاعِر.
ثمَّ دخلت سنة أَرْبَعِينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا توفّي الْملك أَبُو
كاليجار الْمَرْزُبَان بن سُلْطَان الدولة بن بهاء الدولة بن عضد
الدولة بن ركن الدولة بن بويه رَابِع جُمَادَى الأولى بِمَدِينَة جناب
من كرمان سَار إِلَيْهَا لخُرُوج عَامله بهْرَام الديلمي عَن طَاعَته
وعاش أَرْبَعِينَ سنة وشهورا وَملكه بالعراق أَربع سِنِين وشهران،
ونهبت الأتراك الخزائن وَالسِّلَاح وَالدَّوَاب من الْعَسْكَر لمَوْته،
وَكَانَ مَعَه ابْنه أَبُو مَنْصُور فلاستون فَعَاد إِلَى شيزار
فملكها.
وَوصل مَوته إِلَى ابْنه عبد الرَّحِيم أبي نصر خسرو فَيْرُوز
بِبَغْدَاد، فاستحلف الْجند وَملك بَغْدَاد وَأرْسل إِلَى شيراز عسكرا
قبض أَخَاهُ أَبَا مَنْصُور فلاستون وَأمه فِي شَوَّال مِنْهَا وخطب
للْملك الرَّحِيم بشيراز، ثمَّ دخل خوزتان فَلَقِيَهُ جندها وأطاعوه
حَتَّى كرشاسف بن عَلَاء الدولة صَاحب هَمدَان وَكَانَ عِنْد كاليجار
لما أَخذ إِبْرَاهِيم نيال أَخُو طغرلبك هَمدَان.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن غيلَان الْبَزَّار رَاوِي
الْأَحَادِيث الغيلانيات أخرجهَا الدَّارَقُطْنِيّ من أَعلَى الحَدِيث
وَأحسنه.
قلت: وفيهَا كتب سيف الدولة مقلد بن كَامِل بن مرداس الْكلابِي وَهُوَ
نَازل بِكفْر طَابَ فِي جمع من الْعَرَب إِلَى واليه بمعرة النُّعْمَان
أبي الْمَاضِي خَليفَة ابْن جيهان أَن يخرب سور معرة النُّعْمَان
ويهدمه كُله إِلَّا برج وحيده وبرج بني الحجال ومواضع قَليلَة لعناية
وَقعت بهَا وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا جمع
فلاستون بن أبي كاليجار جمعا بعد أَن خلص من الاعتقال وَاسْتولى على
بِلَاد فَارس.
وفيهَا: جرت بَين طغرلبك وأخيه إِبْرَاهِيم نيال وَحْشَة أدَّت إِلَى
قتال فَانْهَزَمَ إِبْرَاهِيم نيال وَعصى بقلعة سرماج، فحصره طغرلبك
وأنزله قهرا.
وفيهَا: أرسل ملك الرّوم إِلَى طغرلبك هَدِيَّة وَطلب المعاهدة
فَأَجَابَهُ وَعمر مَسْجِد الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَأقَام فِيهِ
الصَّلَاة وَالْخطْبَة لطغرلبك ودان لَهُ النَّاس.
وفيهَا: أطلق طغرلبك أَخَاهُ نيال وَتَركه مَعَه
وفيهَا: توفّي السُّلْطَان مودود بن مَسْعُود بن مَحْمُود بن سبكتكين
صَاحب غزنة بغزنة
(1/340)
وعمره تسع وَعِشْرُونَ سنة وَملك تسع
سِنِين وَعشرَة أشهر، وَملك بعده عَمه عبد الرشيد بن مَحْمُود بن
سبكتكين وَكَانَ فِي حبس ابْن أَخِيه ولقب شمس دين اللَّهِ سيف الدولة.
وفيهَا: ملك البساسيري كَبِير الأتراك بِبَغْدَاد الأنبار وَعدل وَأحسن
وَقرر الْقَوَاعِد وَعَاد إِلَى بَغْدَاد.
وفيهَا: ملك عَسْكَر العلويين بِمصْر حلب من يَد ثمال بن صَالح بن
مرداس كَمَا تقدم.
وفيهَا: وَقعت الْفِتْنَة بِبَغْدَاد بَين ... ... . و ... ... . .
وَشرع ... ... فِي بِنَاء سور يُحِيط بالكرخ ... ... ... فِي بِنَاء
سور على سوق القلابين، وَأذن كل حزب بِمُقْتَضى مَذْهَبهم.
وفيهَا: توفّي أَبُو بكر مَنْصُور بن جلال الدولة وَله شعر حسن.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا حاصر
طغرلبك أَبَا مَنْصُور عَلَاء الدولة بن كاكويه بأصبهان طَويلا
وَأَخذهَا بالأمان ودخلها فِي الْمحرم سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين
وَأَرْبَعمِائَة، وَطَابَتْ لَهُ وَنقل إِلَيْهَا مَاله بِالريِّ من
سلَاح وذخائر.
وفيهَا استولى أَبُو كَامِل بركَة بن الْمُقَلّد على أَخِيه قرواش
وَتصرف فِي المملكة ولقب زعيم الدولة.
وفيهَا: أرسل الْمُسْتَنْصر الْعلوِي يُنكر على الْمعز بن باديس خطبَته
بإفريقية للعباسيين فَأَغْلَظ باديس فِي الْجَواب - فاتفق
الْمُسْتَنْصر ووزيره الْحسن بن عَليّ اليازرودي - ويازرود من أَعمال
الرملة - على إرْسَال قبيلتي زغبة ورياح من الْمغرب وجهزهم بالأموال
فاستولوا على برقة، وَسَار إِلَيْهِم الْمعز فهزموه وَسَارُوا فَقطعُوا
أَشجَار إفريقية وحصروا المدن وَعظم بلَاء أهل إفريقية، ثمَّ جمع
الْمعز ثَلَاثِينَ ألف فَارس والتقى مَعَهم فهزموه وَدخل القيروان
مهزوما، ثمَّ اهتم عَظِيما ولقيهم فهزموه ووصلت الْعَرَب إِلَى
القيروان وحاصروا ونهبوا إِلَى سنة تسع وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة
فانتقل الْمعز إِلَى المهدية فِي رَمَضَان سنة تسع وَأَرْبَعين
وَأَرْبَعمِائَة، وَنهب الْعَرَب القيروان.
وفيهَا: سَار مهلهل بن مُحَمَّد بن عناز أَخُو أبي الشوك إِلَى
السُّلْطَان طغرلبك فأقره على بِلَاده وَمِنْهَا السيروان ودقوقا
وشهرزور، والصامغان وَكَانَ سرخاب بن مُحَمَّد أَخُو مهلهل مَحْبُوسًا
عِنْد طغرلبك فَأَطْلقهُ لَهُ.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا أفتتن ... .
. و ... ... ... وأحرق ضريح قبر ... ... وقبر زبيدة وقبور بني بويه
وَمَا حولهَا، وَقتل أهل الكرخ مدرس الْحَنَفِيَّة أَبَا سعد
السَّرخسِيّ وأحرقوا دور الْفُقَهَاء واقتتل أهل بَاب الطاق وسوق يحيى
والأساكفة.
وفيهَا: توفّي أَبُو كَامِل زعيم الدولة بركَة بن الْمُقَلّد بن
الْمسيب بتكريت
قلت: ورثاه الْأَمِير أَبُو الْفَتْح الْحسن بن عبد اللَّهِ بن أبي
حَصِينَة المعري بقصيدة طَوِيلَة مِنْهَا:
(1/341)
(من عَظِيم الْبلَاء موت الْعَظِيم ...
لَيْتَني مت قبل موت الزعيم)
(يَا جفوني سحي دَمًا أَو فحمي ... صحن خدي بعبرة كالحميم)
(بعد خرق من الْمُلُوك كريم ... مَا زمَان أودى بِهِ بكريم)
(جعفري النّصاب من صفوة الصفوة ... فِي الْفَخر والصميم الصميم)
(يَا أَبَا كَامِل برغمي أَن يشقيك ... سُكْنى التُّرَاب بعد النَّعيم)
(أوتبيت الْقُصُور خَالِيَة مِنْك ... وَمن وَجهك الوضي الوسيم)
(وانقراض الْكِرَام من شيم الدَّهْر ... وَمن عَادَة الزَّمَان
اللَّئِيم)
(قد بَكت حسرة عَلَيْهِ المذاكي ... وَشَكتْ فَقده بَنَات الرسيم)
(تَشْتَكِي غيبَة الزعيم إِلَى اللَّهِ ... فتشكي إِلَى رؤوف رَحِيم)
وَالله أعلم.
وَاجْتمعَ الْعَرَب وكبراء الدولة على إِقَامَة ابْن أَخِيه قُرَيْش بن
بدران الْمُقَلّد وَكَانَ بدران صَاحب نَصِيبين ثمَّ صَارَت لقريش
بعده، وَكَانَ قرواش تَحت الاعتقال مُنْذُ اعتقله أَخُوهُ بركَة مَعَ
الْقيام برواتبه فَلَمَّا تولى قُرَيْش نقل عَمه قرواشا إِلَى قلعة
الجراحية من عمل الْموصل فاعتقله بهَا.
وفيهَا: وَقت الْعَصْر ظهر بِبَغْدَاد كَوْكَب بذؤابه، غلب على نور
الشَّمْس وَسَار سيرا بطيئا ثمَّ انقض.
وفيهَا: وصل رَسُول طغرلبك إِلَى الْخَلِيفَة بالهدايا.
وفيهَا: عَاد طغرلبك عَن أَصْبَهَان إِلَى الرّيّ.
وفيهَا: توفّي كرشاف بن عَلَاء الدولة بن كاكويه بالأهواز،
اسْتَخْلَفَهُ فِيهَا أَبُو مَنْصُور بن أبي كاليجار.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا قتل عبد
الرشيد بن مَحْمُود بن سبكتكين صَاحب غزنة قَتله الْحَاجِب طغرلبك
طَمَعا فِي الْملك، حصره بقلعة غزنة حَتَّى سلمه أهل القلعة إِلَيْهِ
فَقتله، وَتزَوج طغرلبك بنت السُّلْطَان مَسْعُود كرها، ثمَّ قَتله
كبراء الدولة فرخزاد بن مَسْعُود بن مَحْمُود بن سبكتين كَانَ
مَحْبُوسًا فِي قلعة فأحضر وبويع لَهُ، وَقَامَ بِالْأَمر بَين
يَدَيْهِ خرخيز وَكَانَ أَمِيرا على الْأَعْمَال الْهِنْدِيَّة فَقدم
وتتبع غُرَمَاء عبد الرشيد فَقَتلهُمْ.
وفيهَا: مستهل رَجَب توفّي مُعْتَمد الدولة أَبُو منيع قرواش بن
الْمُقَلّد بن الْمسيب الْعقيلِيّ صَاحب الْموصل مَحْبُوسًا بقلعة
الجراحية وَحمل فَدفن بتل تَوْبَة من مَدِينَة نِينَوَى شَرْقي
الْموصل، وَقيل: قَتله قُرَيْش ابْن أَخِيه، وَكَانَ قرواش عَاقِلا
لكنه جمع بَين الْأُخْتَيْنِ فليم فِي ذَلِك فَقَالَ: وَأي شَيْء
عندنَا حَلَال. وَله شعر حسن فَمِنْهُ:
(لله در النائبات فَإِنَّهَا ... صدأ اللئام وصيقل الْأَحْرَار)
(1/342)
(مَا كنت إِلَّا زبرة فطبعتني ... سَيْفا
وَأطلق صرفهن غراري)
قلت: ورثاه الْأَمِير أَبُو الْفَتْح بن أبي حَصِينَة المعري بقصيدة
نفيسة مِنْهَا:
(أمثل قرواش يَذُوق الردى ... يَا صَاح مَا أوقح وَجه الْحمام)
(حاشا لذاك الْوَجْه أَن يعرف الْبُؤْس ... وَأَن يحثى عَلَيْهِ
الرغام)
(وللجبين الصَّلْت أَن يسلب ... الْبَهْجَة أَو يعْدم حسن الوسام)
(يَا أَسف النَّاس على ماجد ... مَاتَ فَقَالَ النَّاس مَاتَ
الْكِرَام)
(غير بعيد يَا بعيد المدى ... وَلَا ذميم يَا وَفِي الذمام)
(زلت فَلَا الْقصر بهي وَلَا ... بابك معمور كثير الزحام)
(وَلَا الْخيام الْبيض مَنْصُوبَة ... بوركت يَا ناصب تِلْكَ الْخيام)
(قبحا لدينا حطمت أَهلهَا ... وآخذتهم باكتساب الحطام)
(تَأْخُذ مَا تُعْطِي فَمَا بالنا ... نكثر فِيمَا لَا يدون الْخِصَام)
(يَا قبر قرواش سقيت الحيا ... وَلَا تعدتك غوادي الرهام)
(قضى وَلم أقض على أَثَره ... إِنِّي لمن معروفه ذُو احتشام)
(أَقُول شعرًا والجوى شاغلي ... يَا عجبا كَيفَ استقام الْكَلَام)
وَالله أعلم.
وفيهَا: قبض عِيسَى بن خَمِيس على أَخِيه أبي غشام صَاحب تكريت وسجنه
بهَا وَاسْتولى عَلَيْهَا.
وفيهَا: زلزلت خوزستان وَغَيرهَا عَظِيما، وانفرج من ذَلِك جبل كَبِير
قريب من أرجان فَظهر فِي وَسطه مَبْنِيَّة بالآجر والجص فتعجب النَّاس،
وزلزلت خُرَاسَان واشتدت ببيهق وَخرب سور قصبتها وَبَقِي خرابا حَتَّى
عمره نظام الْملك سنة أَربع وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة، ثمَّ خربه
أرسلان أرغو، ثمَّ عمره مجد الْملك البلساني.
وفيهَا: افْتتن ... ... ... و ... ... . . بِبَغْدَاد، وكتبت ... ...
... على مَسَاجِدهمْ: مُحَمَّد وَعلي خير الْبشر.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا عَاد أَبُو
مَنْصُور فلاستون بن أبي كاليجار وَأخذ شيراز من أَخِيه أبي سعد وخطب
فِيهَا لطغرلبك ولأخيه الْملك الرَّحِيم ولنفسه بعدهمَا.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا سَار طغرلبك
إِلَى أذربيجان وَقصد تبريز فأطاعه صَاحبهَا وهسوذان وخطب لَهُ وَحمل
لَهُ مَا أرضاه وَكَذَلِكَ أَصْحَاب تِلْكَ النواحي، ثمَّ سَار إِلَى
أرمينية وَقصد ملازكرد وَهِي للروم وحصرها فَلم يملكهَا، وَعبر فغزا
فِي الرّوم وَنهب وَقتل وَأسر وَأثر فيهم آثَار.
وفيهَا: حصلت الوحشة بَين البساسيري وَبَين الْقَائِم.
(1/343)
ثمَّ دخلت سنة سبع أَرْبَعِينَ
وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا قتل الْأَمِير أَبُو حَرْب سُلَيْمَان بن نصر
الدولة بن مَرْوَان صَاحب الجزيرة قَتله عبيد اللَّهِ بن أبي طَاهِر
البشنوي الْكرْدِي غيلَة.
وفيهَا: قصد جمَاعَة من السّنة دَار الْخَلِيفَة يطْلبُونَ أَن يُؤذن
لَهُم أَن يأمروا بِالْمَعْرُوفِ فَأذن لَهُم وَزَاد شرهم، ثمَّ
اسْتَأْذنُوا فِي نهب دَار البساسيري وَهُوَ غَائِب بواسط فَأذن لَهُم
فنهبوها وأحرقوها، وَأمر الْخَلِيفَة الْملك الرَّحِيم بإبعاد
البساسيري فَفعل وَقدم الْملك الرَّحِيم من وَاسِط إِلَى بَغْدَاد،
وَسَار البساسيري إِلَى جِهَة دبيس بن مزِيد لمصاهرة بَينهمَا.
وفيهَا: سَار طغرلبك حَتَّى نزل حلوان فَعظم الأرجاف بِبَغْدَاد وبذل
قواد بَغْدَاد لَهُ الطَّاعَة وَالْخطْبَة بِأَمْر الْخَلِيفَة فَخَطب
لَهُ لثمان بَقينَ من رَمَضَان مِنْهَا.
ثمَّ اسْتَأْذن طغرلبك فِي دُخُول بَغْدَاد، فحلفته الرُّسُل للخليفة
الْقَائِم وَالْملك الرَّحِيم فَحلف لَهما، وَدخل بَغْدَاد وَنزل
بِبَاب الشماسية فنهب بعض السوقة بعض عَسْكَر طغرلبك واتصل نهب
الْعَامَّة إِلَى وطاقات طغرلبك، فَركب عسكره وتقاتلوا فانهزمت
الْعَامَّة، فألح طغرلبك فِي حُضُور الْملك الرَّحِيم عِنْده إِن كَانَ
برئيا فألزمه الْقَائِم أَن يخرج إِلَيْهِ هُوَ وكبار القواد وهم فِي
أَمَان الْخَلِيفَة فَخَرجُوا إِلَيْهِ، فَقبض طغرلبك على الْملك
الرَّحِيم وعَلى القواد، فَأرْسل الْقَائِم إِلَى طغرلبك فِي أَمرهم
فَشَكا من عدم حرمته وَأَمَانَة وَأطلق الْبَعْض، وَاسْتمرّ
الْبَاقُونَ وَالْملك الرَّحِيم فِي الاعقتال.
الْملك الرَّحِيم هَذَا آخر مُلُوك الْعرَاق من بني بويه، وَأول من
استولى مِنْهُم على الْعرَاق وبغداد معز الدولة أَحْمد بن بويه، ثمَّ
ابْنه بختيار، ثمَّ ابْن عَمه عضد الدولة بن فناخسروا بن ركن الدولة
حسن بن بويه، ثمَّ ابْنه صمصام الدولة أَبُو كاليجار الْمَرْزُبَان،
ثمَّ أَخُوهُ شرف الدولة شيربك بن عضد الدولة، ثمَّ أَخُوهُ بهاء
الدولة أَبُو نصر بن عضد الدولة، ثمَّ ابْنه سُلْطَان الدولة أَبُو
شُجَاع بن بهاء الدولة، ثمَّ أَخُوهُ مشرف الدولة بن بهاء الدولة، ثمَّ
أَخُوهُ جلال الدولة أَبُو ظَاهر بن بهاء الدولة، ثمَّ ابْن أَخِيه
أَبُو كاليجار الْمَرْزُبَان بن سُلْطَان الدولة ابْن بهاء الدولة،
ثمَّ ابْنه الْملك الرَّحِيم خسرو فَيْرُوز بن كاليجار بن سُلْطَان
الدولة ابْن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن عضد الدولة بن ركن الدولة بن
بويه وَهُوَ آخِرهم.
وفيهَا: وَقعت الْفِتْنَة بَين الشَّافِعِيَّة والحنابلة بِبَغْدَاد،
أَنْكَرُوا على الشَّافِعِيَّة الْجَهْر بالبسملة والقنوت فِي الصُّبْح
والترجيع فِي الْأَذَان.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا تزوج
الْقَائِم بنت دَاوُد أخي طغرلبك.
وفيهَا: وَقعت حَرْب بَين عبيد الْمعز بن باديس وَبَين عبيد ابْنه
تَمِيم بالمهدية فانتصر عبيد تَمِيم وأخرجوا عبيد الْمعز من المهدية.
(ابْتِدَاء دولة الملثمين)
الملثمون من عدَّة قبائل ينتسبون إِلَى حمير، وَأول مَسِيرهمْ من
الْيمن فِي أَيَّام أبي بكر
(1/344)
رَضِي اللَّهِ عَنهُ سيرهم إِلَى جِهَة
الشَّام وانتقلوا إِلَى مصر، ثمَّ إِلَى الْمغرب مَعَ مُوسَى بن نصير
وتوجهوا مَعَ طَارق إِلَى طنجة، وأحبوا الِانْفِرَاد فَدَخَلُوا
الصَّحرَاء واستوطنوها، فَلَمَّا كَانَت هَذِه السّنة توجه مِنْهُم
جَوْهَر من قَبيلَة جدالة إِلَى إفريقية ليحج، فَلَمَّا عَاد استصحب
مَعَه فَقِيها من القيروان اسْمه عبد اللَّهِ بن ياسين الكزولي ليعلم
تِلْكَ الْقَبَائِل دين الْإِسْلَام فَإِنَّهُ لم يبْق فيهم غير
الشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَاة فِي بَعضهم.
فَتوجه عبد اللَّهِ بن ياسين مَعَ جَوْهَر حَتَّى أَتَيَا قَبيلَة
لمتونة وَمِنْهَا يُوسُف بن تاشفين أَمِير الْمُسلمين ودعوهم إِلَى
الْعَمَل بالشريعة، فَقَالَت لمتونة: أما الصَّلَاة وَالصَّوْم
وَالزَّكَاة فقريب وَأما قتل الْقَاتِل وَقطع السَّارِق ورجم الزَّانِي
فَلَا نلتزمه.
فَمضى جَوْهَر وَعبد اللَّهِ بن ياسين إِلَى جدالة قَبيلَة جَوْهَر
فَدَعَاهُمْ عبد اللَّهِ بن ياسين ودعا الْقَبَائِل حَولهمْ إِلَى
الشَّرِيعَة فَأجَاب أَكْثَرهم وَامْتنع أقلهم، فَأمر المجيبين
بِقِتَال الْمُخَالفين فجعلوه أَمِيرهمْ فَامْتنعَ وَقَالَ لجوهر:
أَنْت الْأَمِير، فَقَالَ أخْشَى من تسلط قبيلتي على النَّاس فَيكون
وزر ذَلِك عَليّ، ثمَّ اتفقَا على أبي بكر بن عمر رَأس قَبيلَة لمتونة
فَإِنَّهُ مُطَاع، فعرضا على أبي بكر ذَلِك فَقبل وَعقد الْبيعَة
وَسَماهُ ابْن ياسين أَمِير الْمُسلمين وَاجْتمعَ إِلَيْهِ كل من حسن
إِسْلَامه، وحرضهم عبد اللَّهِ على الْجِهَاد وَسَمَّاهُمْ المرابطين،
فَقتلُوا من أهل الْبَغي وَالْفساد وَمِمَّنْ لم يجب إِلَى الشَّرِيعَة
نَحْو أَلفَيْنِ، فدانت لَهُم قبائل الصَّحرَاء وقووا وتفقه مِنْهُم
جمَاعَة على عبد اللَّهِ.
وَلما استبد أَبُو بكر بن عَمْرو وَعبد اللَّهِ بن ياسين بِالْأَمر
دَاخل جوهرا الْحَسَد فَأخذ فِي إِفْسَاد الْأَمر فعقد لَهُ مجْلِس
وَحكم عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ لكَونه شقّ الْعَصَا وَأَرَادَ محاربة أهل
الْحق، فصلى جَوْهَر رَكْعَتَيْنِ وَأظْهر السرُور بِالْقَتْلِ طلبا
للقاء اللَّهِ تَعَالَى فَقَتَلُوهُ.
ثمَّ جرى بَين المرابطين وَبَين أهل السوس قتال فَقتل عبد اللَّهِ بن
ياسين الْفَقِيه.
ثمَّ سَار المرابطون إِلَى سجلماسة فَقَاتلُوا أَهلهَا، فانتصر
المرابطون وملكوها وَقتلُوا صَاحبهَا.
وَلما ملك أَبُو بكر بن عمر سجلماسة اسْتعْمل عَلَيْهَا يُوسُف بن
تاشفين اللمتوني من بني عَم أبي بكر بن عمر سنة ثَلَاث وَخمسين
وَأَرْبَعمِائَة، ثمَّ اسْتخْلف أَبُو بكر على سجلماسة ابْن أَخِيه،
وَبعث يُوسُف بن تاشفين بِجَيْش من المرابطين إِلَى السوس فَفتح على
يَدَيْهِ وَكَانَ دينا حازما داهية.
وَاسْتمرّ الْأَمر كَذَلِك إِلَى ان توفّي أَبُو بكر بن عمر سنة
اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة فاجتمعت طوائف المرابطين
وملكوا يُوسُف بن تاشفين عَلَيْهِم ولقبوه أَمِير الْمُسلمين، ثمَّ
افْتتح الْمغرب حصنا حصنا وَكَانَ غالبها لزناتة، ثمَّ قصد مَوضِع
مراكش وَهُوَ قاع صفصف فَبنى فِيهِ مراكش واتخذها مقرّ ملكه، وَملك
الْبِلَاد الْمُتَّصِلَة بالمجاز مثل سبته وطنجة وسلا.
وَيُقَال للمرابطين: الملثمون تلثموا كالعرب فَلَمَّا ملكوا ضيقوا
اللثام ليتميزوا، وَقيل: إِن قَبيلَة لمتونة أَغَارُوا على عَدو
وألبسوا نِسَاءَهُمْ لبس الرِّجَال ولثموهن فقصد بعض
(1/345)
اعدائهم بُيُوتهم فظنوا النِّسَاء رجَالًا
لأجل اللثام فَلم يقدموا عَلَيْهِنَّ، وَاتفقَ مَجِيء رِجَالهنَّ
فأوقعوا بهم، فتبركوا باللثام وسنوه فسموا الملثمين.
وفيهَا: رَحل طغرلبك عَن بَغْدَاد فِي عَاشر ذِي الْقعدَة لثقل وَطْأَة
عسكره على الرّعية، أَقَامَ بِبَغْدَاد ثَلَاثَة عشر شهرا وأياما لم
يلق الْخَلِيفَة فِيهَا، وَتوجه طغرلبك إِلَى نَصِيبين ثمَّ إِلَى ديار
بكر وَهِي لِابْنِ مَرْوَان.
وفيهَا: توفّي أميرك الْبَيْهَقِيّ الْكَاتِب وَكَانَ من رجال
الدُّنْيَا.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا عَاد طغرلبك
إِلَى بَغْدَاد بعد أَن استولى على الْموصل وأعمالها وَسلمهَا إِلَى
اخيه إِبْرَاهِيم نيال، وَلما قَارب طغرلبك القفص تَلقاهُ كبراء
بَغْدَاد مثل عميد الْملك وزيره بهَا وَرَئِيس الرؤساء وَقصد
الِاجْتِمَاع بالخليفة الْقَائِم، فَجَلَسَ لَهُ الْخَلِيفَة وَعَلِيهِ
الْبردَة على سَرِير عَال من الأَرْض نَحْو سَبْعَة أَذْرع وَحضر
طغرلبك فِي جماعته وَحضر أَعْيَان بَغْدَاد وكبراء الْعَسْكَر وَذَلِكَ
يَوْم السبت لخمس بَقينَ من ذِي الْقعدَة مِنْهَا، فَقبل طغرلبك
الأَرْض وَيَد الْخَلِيفَة ثمَّ جلس على كرْسِي، ثمَّ قَالَ لَهُ
الْخَلِيفَة مَعَ رَئِيس الرؤساء: أَن الْخَلِيفَة قد ولاك جَمِيع مَا
ولاه اللَّهِ تَعَالَى من بِلَاده، ورد إِلَيْك مُرَاعَاة عبَادَة،
فَاتق اللَّهِ فِيمَا ولاك، واعرف نعْمَته عَلَيْك. وخلع على طغرلبك
وَأعْطى الْعَهْد، فَقبل الأَرْض وَيَد الْخَلِيفَة ثَانِيًا وَانْصَرف
فَبعث إِلَى الْخَلِيفَة خمسين ألف دِينَار وَخمسين مَمْلُوكا من
الأتراك بخيولهم وسلاحهم وقماشهم.
وفيهَا: قبض الْمُسْتَنْصر بِمصْر على وزيره اليازرودي الْحُسَيْن بن
عبد اللَّهِ وَكَانَ قَاضِيا فِي الرملة حنفيا ثمَّ ولي الوزارة، وَلما
قبض وجد لَهُ مكاتبات إِلَى بَغْدَاد.
وفيهَا توفّي الشَّيْخ أَبُو الْعَلَاء أَحْمد بن عبد اللَّهِ بن
سُلَيْمَان بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن دَاوُد بن المطهر بن زِيَاد
بن ربيعَة بن الْحَارِث بن ربيعَة بن أنور بن أسحم بن أَرقم بن
النُّعْمَان بن عدي بن غطفان بن عَمْرو بن شُرَيْح بن جذيمة بن تيم
اللَّهِ بن أَسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمرَان بن الحاف بن قضاعة
المعري التنوخي، قَالَ ابْن خلكان فِي تَارِيخه: كَانَ عَلامَة عصره
رَحمَه اللَّهِ قَرَأَ النَّحْو واللغة على أَبِيه بالمعرة وعَلى
مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن سعد النَّحْوِيّ بحلب وَله التصانيف
الْمَشْهُورَة والرسائل المأثورة وَله من النّظم لُزُوم مَا لَا يلْزم
خمس مجلدات وَسقط الزند وَشَرحه بِنَفسِهِ وَسَماهُ ضوء السقط، وبلغنا
أَن لَهُ كتابا سَمَّاهُ الأيك والغصون وَهُوَ الْمَعْرُوف
بِالْهَمْزَةِ والردف يُقَارب مائَة جُزْء فِي الْأَدَب.
قَالَ ابْن خلكان: وَحكى لي من وقف على المجلد الأول بعد الْمِائَة من
كتاب الْهمزَة والردف وَقَالَ: لَا أعلم مَا كَانَ يعوزه بعد هَذَا،
وَكَانَ متضلعا من فنون الْأَدَب وَأخذ عَنهُ أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن
المحسن التنوخي والخطيب أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى التبريزي وَغَيرهمَا.
وَكَانَت وِلَادَته يَوْم الْجُمُعَة عِنْد مغيب الشَّمْس لثلاث بَقينَ
من ربيع الأول سنة ثَلَاث
(1/346)
وَسِتِّينَ وثلثمائة بالمعرة وَعمي من
الجدري سنة سبع وَسِتِّينَ غشى يمنى عَيْنَيْهِ بَيَاض وَذَهَبت
الْيُسْرَى جملَة.
وَلما فرغ من تصنيف كتاب اللامع العزيزي فِي شرح شعر المتنبي وقرىء
عَلَيْهِ أَخذ الْجَمَاعَة فِي وَصفه فَقَالَ أَبُو الْعَلَاء:
كَأَنَّمَا نظر المتنبي إِلَيّ بلحظ الْغَيْب حَيْثُ يَقُول:
(أَنا الَّذِي نظر الْأَعْمَى إِلَى أدبي ... وأسمعت كلماتي من بِهِ
صمم)
وَاخْتصرَ ديوَان أبي تَمام حبيب وَشَرحه وَسَماهُ ذكرى حبيب، وديوان
البحتري وَسَماهُ عَبث الْوَلِيد، وديوان المتنبي وَسَماهُ معجز
أَحْمد، وَتكلم على غَرِيب أشعارهم ومعانيها ومآخذهم من غَيرهم وَمَا
أَخذ عَلَيْهِم وَتَوَلَّى الِانْتِصَار لَهُم والنقد فِي بعض
الْمَوَاضِع عَلَيْهِم والتوجيه فِي أَمَاكِن لحظاتهم.
وَدخل بَغْدَاد سنة ثَمَان وَتِسْعين وثلثمائة، ودخلها ثَانِيًا سنة
تسع وَتِسْعين وَأقَام بهَا سنة وأبعة أشهر، ثمَّ رَجَعَ إِلَى المعرة
وَلزِمَ منزله وَشرع فِي التصنيف وَكَانَ يملي على بضع عشرَة محبرة فِي
فنون من الْعُلُوم وَأخذ عَنهُ النَّاس وَسَار إِلَيْهِ الطّلبَة من
الْآفَاق وَكَاتب الْعلمَاء والوزراء وَأهل الأقدار، وسمى نَفسه رهين
المحبسين للزومه منزله ولذهاب عَيْنَيْهِ، وَمكث خمْسا وَأَرْبَعين سنة
لَا يَأْكُل اللَّحْم تدينا، وَعمل الشّعْر وَهُوَ ابْن إِحْدَى عشرَة
سنة وَمن شعره فِي اللُّزُوم:
(لَا تَطْلُبن بآله لَك رُتْبَة ... قلم البليغ بِغَيْر حَظّ مغزل)
(سكن السَّمَاء كَانَ السَّمَاء كِلَاهُمَا ... هَذَا لَهُ رمح وَهَذَا
أعزل)
وَتُوفِّي لَيْلَة الْجُمُعَة ثَالِث وَقيل: ثَانِي ربيع الأول، وَقيل:
ثَالِث عشرَة مِنْهَا وَأوصى أَن يكْتب على قَبره هَذَا الْبَيْت:
(هَذَا جناه أبي عَليّ ... وَمَا جنيت على أحد)
وَلما توفّي قرىء على قَبره سَبْعُونَ مرثية، وَمِمَّنْ رثاه تِلْمِيذه
أَبُو الْحسن عَليّ بن همام بقوله:
(إِن كنت لم ترق الدِّمَاء زهادة ... فَلَقَد أرقت الْيَوْم من جفني
دَمًا)
(سيرت ذكرك فِي الْبِلَاد كَأَنَّهُ ... مسك فسامعه يضمخ أَو فَمَا)
(وَأرى الحجيج إِذا أَرَادوا لَيْلَة ... ذكراك أخرج فديَة من أحرما)
هَذَا خُلَاصَة مَا قَالَه القَاضِي شمس الدّين بن خلكان فِي تَارِيخه.
قلت: وَقَول تِلْمِيذه: لم ترق الدِّمَاء زهادة، يدْفع قَول من قَالَ
إِنَّه لم يرق الدِّمَاء فلسفة وَنسبه إِلَى رَأْي الْحُكَمَاء،
وتلميذه أعرف بِهِ مِمَّن هُوَ غَرِيب يَرْجُمهُ بِالْغَيْبِ، وماذا
على من ترك اللَّحْم وَهُوَ من أعظم الشَّهَوَات خمْسا وَأَرْبَعين سنة
زهادة، وَقد قَالَ الْمَكِّيّ فِي قوت الْقُلُوب: إِبَاحَة حَلَال
الدُّنْيَا حسن والزهد فِيهِ أحسن، وَلما أَتَى رَسُول اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أهل قبَاء بشرية من لبن مشوبة
بِعَسَل وضع الْقدح من يَده وَقَالَ: " أما إِنِّي لست أحرمهُ وَلَكِن
(1/347)
أتركه تواضعا لله تَعَالَى "، وَأتي عمر بن
الْخطاب رَضِي اللَّهِ عَنهُ بِشَربَة من مَاء بَارِد وَعسل فِي يَوْم
صَائِف فَقَالَ: اعزلوا عني حِسَابهَا. وَقد نهى النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن التنعم، وَكتب الرقَاق وَغَيرهَا
مشحونة بترك السّلف الصَّالح للشهوات والملاذ الفانية رَغْبَة فِي
النَّعيم الْبَاقِي.
ورثاه أَيْضا الْأَمِير أَبُو الْفَتْح الْحسن بن عبد اللَّهِ بن أبي
حَصِينَة المعري بقصيدة طَوِيلَة مِنْهَا:
(الْعلم بعد أبي الْعَلَاء مضيع ... وَالْأَرْض خَالِيَة الجوانب بلقع)
(أودي وَقد مَلأ الْبِلَاد غرائبا ... تسري كَمَا تسري النُّجُوم
الطّلع)
(مَا كنت أعلم وَهُوَ يودع فِي الثرى ... أَن الثرى فِيهِ الْكَوَاكِب
تودع)
(جبل ظَنَنْت وَقد تزعزع رُكْنه ... أَن الْجبَال الراسيات تزعزع)
(وَعَجِبت أَن تسع المعرة قَبره ... ويضيق بطن الأَرْض عَنهُ الأوسع)
(لَو فاضت المهجات يَوْم وَفَاته ... مَا استكثرت فِيهِ فَكيف الأدمع)
(تتصرم الدُّنْيَا وَيَأْتِي بعده ... امم وَأَنت بِمثلِهِ لَا تسمع)
(لَا تجمع المَال العتيد وجد بِهِ ... من قبل تَركك كل شَيْء تجمع)
(وَإِن أستطعت فسر بسيرة أَحْمد ... تَأْمِين خديعة من يغر ويخدع)
(رفض الْحَيَاة وَمَات قبل مماته ... مُتَطَوعا بابر مَا يتَطَوَّع)
(عين تسهد للعفاف وللمتقى ... أبدا وقلب للمهيمن يخشع)
(شيم تجمله فهن لمجده ... تَاج وَلَكِن بالثناء يرصع)
(جَادَتْ ثراك أَبَا الْعَلَاء غمامة ... كندي يَديك ومزنه لَا يقْلع)
(مَا ضيع الباكي عَلَيْك دُمُوعه ... إِن الدُّمُوع على سواك تضيع)
(قصدتك طلاب الْعُلُوم وَلَا أرى ... للْعلم بَابا بعد بابك يقرع)
(مَاتَ النهى وتعطلت أَسبَابه ... وَقضى التأدب والمكارم أجمع ... )
فَانْظُر إِلَى مَا رثاه أَيْضا بِهِ هَذَا الرجل وَوَصفه بِهِ من تقاه
ورفضه للحياة وَمَوته قبل الْمَوْت وتطوعه وَهُوَ أَيْضا أعلم بِهِ من
الْأَجَانِب.
وَبِالْجُمْلَةِ: فقد ألف الصاحب كَمَال الدّين بن العديم رَحمَه
اللَّهِ تَعَالَى فِي مناقبه كتابا سَمَّاهُ كتاب الْعدْل والتحري فِي
دفع الظُّلم والتجري على أبي الْعَلَاء المعري وَقَالَ فِيهِ: إِنَّه
اعْتبر من ذمّ أَبَا الْعَلَاء وَمن مدحه، فَوجدَ كل من ذمه لم يره
وَلَا صَحبه وَوجد من لقِيه هُوَ المادح لَهُ، وَهَذَا دَلِيل لما
قلته.
وصنف بعض الْأَعْلَام فِي مناقبه كتابا وَسَماهُ دفع المعرة عَن شيخ
المعرة، وَفِي هذَيْن الْكِتَابَيْنِ فُصُول من نَوَادِر ذكائه وإجابه
دُعَائِهِ والاعتذار عَن طعن أعدائه، وَأَنا كنت أتعصب لَهُ لكَونه من
المعرة، ثمَّ وقفت لَهُ على كتاب اسْتغْفر واستغفري فأبغضته وازددت
عَنهُ نفرة، وَنظرت لَهُ فِي كتاب لُزُوم مَا لَا يلْزم فَرَأَيْت
التبري مِنْهُ أحزم، فَإِن هذَيْن الْكِتَابَيْنِ يدلان
(1/348)
على أَنه كَانَ لما نظمها عَالما حائرا
ومذبذبا نافرا، يقر فيهمَا أَن الْحق قد خفى عَلَيْهِ وَيَوَد لَو ظفر
بِالْيَقِينِ فَأَخذه بكلتا يَدَيْهِ كَمَا قَالَ فِي مرثية أَبِيه:
(طلبت بَقينَا من جُهَيْنَة عَنْهُم ... وَلم تُخبرنِي يَا جهين سوى
ظن)
(فَإِن تعهديني لَا أَزَال مسائلا ... فَإِنِّي لم أعْط الصَّحِيح
فأستغني)
ثمَّ وقفت لَهُ على كتاب ضوء السقط الَّذِي أملاه على الشَّيْخ أبي عبد
اللَّهِ مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ الْأَصْبَهَانِيّ الَّذِي
لَازم الشَّيْخ إِلَى أَن مَاتَ ثمَّ أَقَامَ بحلب يروي عَنهُ كتبه،
فَكَانَ هَذَا الْكتاب عِنْدِي مصلحا لفساده، موضحا لرجوعه إِلَى الْحق
وَصِحَّة أعتقاده، فَإِنَّهُ كتاب يحكم بِصِحَّة إِسْلَامه مأولا،
ويتلوا لمن وقف عَلَيْهِ بعد كتبه الْمُتَقَدّمَة وللآخرة خير لَك من
الأولى، فَلَقَد ضمن هَذَا الْكتاب مَا يثلج الصَّدْر ويلذ السّمع ويقر
الْعين وَيسر الْقلب وَيُطلق الْيَد وَيثبت الْقدَم من تَعْظِيم رَسُول
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خير بريته، والتقرب
إِلَى اللَّهِ بمدائح الْأَشْرَاف من ذُريَّته، وتبجيل الصَّحَابَة
وَالرِّضَا عَنْهُم، وَالْأَدب عِنْد ذكر مَا يلتقي مِنْهُم، وإيراد
محَاسِن من التَّفْسِير، وَالْإِقْرَار بِالْبَعْثِ والإشفاق من
الْيَوْم العسير وتضليل من أنكر الْمعَاد، وَالتَّرْغِيب فِي أذكار
اللَّهِ والأوراد، والخضوع للشريعة المحمدية وتعظيمها، وَهُوَ خَاتمه
كتبه والأعمال بخواتيمها، وَقد يعْذر من ذمه واستحل شَتمه، فَإِنَّهُ
عول على مبادىء أمره وأوسط شعره، ويعذر من أحبه وَحرم سبه، فَإِنَّهُ
اطلع على صَلَاح سره وَمَا صَار إِلَيْهِ فِي آخر عمره من الْإِنَابَة
الَّتِي كَانَ أَهلهَا، وَالتَّوْبَة الَّتِي تجب مَا قبلهَا، وَكَانَ
يَقُول رَحمَه اللَّهِ: أَنا شيخ مَكْذُوب عَلَيْهِ.
وَلَقَد أغرت بِهِ حساده وَزِير حلب فَجهز لإحضاره خمسين فَارِسًا
ليَقْتُلهُ فأنزلهم أَبُو الْعَلَاء فِي مجْلِس لَهُ بالمعرة، فَاجْتمع
بَنو عَمه إِلَيْهِ وتألموا لذَلِك، فَقَالَ: إِن لي رَبًّا يَمْنعنِي،
ثمَّ قَالَ كلَاما مِنْهُ مَا لم يفهم وَقَالَ: الضيوف الضيوف الْوَزير
الْوَزير، فَوَقع الْمجْلس على الْخمسين فَارِسًا فماتوا، وَوَقع
الْحمام على الْوَزير بحلب فَمَاتَ، فَمن النَّاس من زعم أَنه قَتلهمْ
بدعائه وتهجده، وَمِنْهُم من زعم أَنه قَتلهمْ بسحره ورصده.
وَوضع أَبُو طَاهِر الْحَافِظ السلَفِي كتابا فِي أخباتر أبي
الْعَلَاء، وَقَالَ فِيهِ مُسْندًا عَن القَاضِي أبي الطّيب
الطَّبَرِيّ رَحمَه اللَّهِ: كتبت إِلَى أبي الْعَلَاء المعري حِين
وافى بَغْدَاد وَقد كَانَ نزل فِي سويقه غَالب:
(وَمَا ذَات در لَا يحل لحالب ... تنَاوله وَاللَّحم مِنْهَا مُحَلل)
(لمن شَاءَ فِي الْحَالين حَيا وَمَيتًا ... وَمن رام شرب الدرج فَهُوَ
مضلل)
(إِذا طعنت فِي السن فاللحم طيب ... وآكله عِنْد الْجَمِيع معقل)
(وخرقانها للْأَكْل فِيهَا كزازة ... فَمَا لحصيف الرَّأْي فِيهِنَّ
مأكل)
(وَمَا يجتني مَعْنَاهُ إِلَّا مبرز ... عليم بأسرار الْقُلُوب مُحَصل)
فَأَجَابَنِي وأملى عَليّ الرَّسُول فِي الْحَال:
(1/349)
(جوابان عَن هَذَا السُّؤَال كِلَاهُمَا
... صَوَاب وَبَعض الْقَائِلين مضلل)
(فَمن ظَنّه كرما فَلَيْسَ بكاذب ... وَمن ظَنّه نخلا فَلَيْسَ يجهل)
(لحومهما الأعناب الرطب الَّذِي ... هُوَ الْحل والدر الرَّحِيق
المسلسل)
(وَلَكِن ثمار النّخل وَهِي رطيبة ... تمر وغض الْكَرم يجنى فيؤكل)
(يكلفني القَاضِي الْجَلِيل مسائلا ... هِيَ النَّجْم قدرا بل أعز
وأطول)
(وَلَو لم أجب عَنْهَا لَكُنْت بجهلها ... جَدِيرًا وَلَكِن من يودك
مقبل)
قَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب: فأجبته عَنهُ وَقلت:
(أثار ضميري من يعز نَظِيره ... من النَّاس طرا سَابق الْفضل مكمل)
(وَمن قلبه كتب الْعُلُوم بأسرها ... وخاطره فِي حِدة النَّار مشعل)
(تساوى لَهُ سر الْمعَانِي وجهرها ... ومعظلها باد لَدَيْهِ مفصل)
(وَلما أثار الخبء فار معينه ... أَسِيرًا بأنواع الْبَيَان يكبل)
(وقر بِهِ من كل فهم بكشفه ... وإيضاحه حَتَّى رَآهُ الْمُغَفَّل)
(وأعجب مِنْهُ نظمه الدّرّ مسرعا ... ومرتجلا من غير مَا يتمهل)
(فَيخرج من بَحر ويسمو مَكَانَهُ ... جلالا إِلَى حَيْثُ الْكَوَاكِب
تنزل)
(فهنأه اللَّهِ الْكَرِيم بفضله ... محاسنة والعمر فِيهَا مطول)
فأملى أَبُو الْعَلَاء على الرَّسُول مرتجلا:
(أَلا أَيهَا القَاضِي الَّذِي بدهاته ... سيوف على أهل الْخلاف تسلل)
(فُؤَادك معمور من الْعلم آهل ... وَجدك فِي كل الْمسَائِل مقبل)
(فَإِن كنت بَين النَّاس غير ممول ... فَأَنت من الْفَهم المصون ممول)
(إِذا أَنْت خاطبت الْخُصُوم مجادلا ... فَأَنت وهم مثل الحمائم أجدل)
(كَأَنَّك من فِي الشَّافِعِي مُخَاطب ... وَمن قلبه تملي فَمَا تتمهل)
(وكبف يرى علم ابْن إِدْرِيس دارسا ... وَأَنت بإيضاح الْهدى متكفل)
(تفضلت حَتَّى ضَاقَ ذرعي بشكر مَا ... فعلت وكفي من جوابك أجمل)
(لِأَنَّك فِي كنه الثريا فصاحة ... وَأَعْلَى وَمن يَبْغِي مَكَانك
أَسْفَل)
(فعذري فِي أَنِّي أَجَبْتُك واثقا ... بِفَضْلِك وَالْإِنْسَان يسهو
وَيذْهل)
(وأخطأت فِي إِنْفَاذ رقعتك الَّتِي ... هِيَ الْمجد لي مِنْهَا أخير
وَأول)
(وَلَكِن عداني أَن أروم احتفاظها ... رَسُولك وَهُوَ الْفَاضِل
المتفضل)
(وَمن حَقّهَا أَن يصبح الْمسك غامرا ... لَهَا وَهِي فِي أَعلَى
الْمَوَاضِع تجْعَل)
(فَمن كَانَ فِي أشعاره متمثلا ... فَأَنت امْرُؤ فِي الْعلم وَالشعر
أمثل)
(تجملت الدُّنْيَا بأنك فَوْقهَا ... وَمثلك حَقًا من بِهِ بتجمل)
فشهادة أبي الطّيب فِي الشَّيْخ مُقَدّمَة على شَهَادَة الْغَيْر وَحسن
الظَّن وخصوصا بالعلماء
(1/350)
قد دلّ عَلَيْهِ الْقُرْآن والْحَدِيث
وَهُوَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَير، وَكَانَ شَيخنَا عبس حسن العقيدة
فِيهِ، واعترف الطَّبَرِيّ لَهُ ومدحه يَكْفِيهِ:
(شَهَادَة الطَّبَرِيّ الحبر كَافِيَة ... أَبَا الْعَلَاء فَقل مَا
شِئْت أَو فذر)
(من أغمد السَّيْف عَنهُ كَانَ فِي دعة ... وَمن نضى السَّيْف قابلناه
بالطبري)
وَقَالَ لي يَوْمًا بعض أَصْحَابِي من الْأُمَرَاء ذَوي الْفَهم كَيفَ
كَانَ أَبُو الْعَلَاء فِي اعْتِقَاد الْبَعْث فَأَنْشَدته قَوْله:
(فيا وطني إِن فَاتَنِي مِنْك سَابق ... من الدَّهْر فلينعم لساكنك
البال)
(وَإِن أستطع فِي الْحَشْر آتِك زَائِرًا ... وهيهات لي يَوْم
الْقِيَامَة أشغال)
وَبَلغنِي أَن بَعضهم زعم أَن أَبَا الْعَلَاء كَانَ يُنكر النبوات،
فَهَذَا مَرْدُود بقول أبي الْعَلَاء:
(عجبت وَقد جزت الصراة رفلة ... وَمَا خضلت مِمَّا تسربلت أذيال)
(أعمت إِلَيْنَا فعال ابْن مَرْيَم ... فعلت وَهل يُعْطي النُّبُوَّة
مكسال)
وَقَوله فِي شرِيف:
(يَا ابْن الَّذِي بِلِسَانِهِ وَبَيَانه ... هدى الْأَنَام وَنزل
التَّنْزِيل)
(عَن فَضله نطق الْكتاب وبشرت ... بقدومه التوارة وَالْإِنْجِيل)
وَقَوله فِي الشريف أبي إِبْرَاهِيم الْعلوِي الموسوي:
(يَا ابْن مستعرض الصُّفُوف ببدر ... ومبيد الجموع من غطفان)
(أحد الْخَمْسَة الَّذين هم الْأَغْرَاض ... من كل منطق والمعاني)
(والشخوص الَّذِي خُلِقْنَ ضِيَاء ... قبل خلق المريخ وَالْمِيزَان)
(قبل أَن تخلق السَّمَاوَات ... أَو تُؤمر أفلاكهن بالدوران)
(وَافق اسْم ابْن أَحْمد اسْم ... رَسُول اللَّهِ لما توَافق المعنيان)
(يَا أَبَا إِبْرَاهِيم قصر عَنْك الشّعْر ... لما وصفت بِالْقُرْآنِ)
(أشْرب الْعَالمُونَ حبك طبعا ... فَهُوَ فرض فِي سَائِر الْأَدْيَان)
وَقَوله:
(أيدفع معجزات الرُّسُل قوم ... وفيك وَفِي بديهتك اعْتِبَار)
وَقد طَالَتْ هَذِه التَّرْجَمَة فَإِنِّي رَأَيْت الْمُؤلف سامحه
اللَّهِ غض من الشَّيْخ فَأَحْبَبْت أَن أنبه على ذَلِك، وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي أَبُو عُثْمَان إِسْمَاعِيل بن عبد الرَّحْمَن
الصَّابُونِي مقدم أَصْحَاب الحَدِيث بخراسان فَقِيه يعرف علوما، وأياز
غُلَام مَحْمُود بن سبكتكين، وَله مَعَ مَحْمُود أَخْبَار مَشْهُورَة،
وَأَبُو أَحْمد عدنان بن الرضي نقيب العلوبين.
(1/351)
(ذكر الْخطْبَة بالعراق للمستنصر الْعلوِي
وَمَا كَانَ إِلَى قتل البساسيري)
ثمَّ دخلت سنة خمسين وَأَرْبَعمِائَة فِيهَا: سَار إِبْرَاهِيم نيال
إِلَى هَمدَان، وَسَار طغرلبك فِي أثر أَخِيه أَيْضا إِلَى هَمدَان
وَتَبعهُ أتراك بَغْدَاد، فوصل البساسيري بَغْدَاد وَمَعَهُ قُرَيْش بن
بدران الْعقيلِيّ فِي مِائَتي فَارس وَمَعَهُ أَرْبَعمِائَة غُلَام،
وخطب البساسيري بِجَامِع الْمَنْصُور للمستنصر بِاللَّه الْعلوِي
خَليفَة مصر وَأذن بحي على خير الْعَمَل، ثمَّ عبر عسكره إِلَى
الزَّاهِر وخطب بِالْجمعَةِ الْأُخْرَى من وُصُوله للمصري بِجَامِع
الرصافة.
وَجرى بَينه وَبَين مخالفيه حروب فِي أثْنَاء الْأُسْبُوع وَنهب
البساسيري الْحَرِيم وَدخل الْبَاب النوبي، فَركب الْخَلِيفَة
الْقَائِم بِالسَّوَادِ والبردة وَبِيَدِهِ سيف وعَلى رَأسه اللِّوَاء
وَحَوله زمرة من العباسيين والخدم بِالسُّيُوفِ المسللة، وسرى النهب
إِلَى بَاب الفردوس فَرجع الْقَائِم وَصعد المنظرة وَمَعَهُ رَئِيس
الرؤساء فَقَالَ لقريش بن بدران: يَا علم الدّين أَمِير الْمُؤمنِينَ
يستذم بذمامك وذمام رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- وذمام الْعَرَب على نَفسه وَمَاله وَأَهله وَأَصْحَابه، فَأعْطى
قُرَيْش مخصرته ذماما، فَنزل الْقَائِم وَرَئِيس الرؤساء إِلَى قُرَيْش
وسارا مَعَه
فَأرْسل البساسيري يذكر قُريْشًا بِمَا عاهده عَلَيْهِ من الْمُشَاركَة
فِي الْأَمر، ثمَّ اتفقَا على أَن يتسلم البساسيري رَئِيس الرؤساء
لِأَنَّهُ عدوه.
وَبَقِي الْخَلِيفَة عِنْد قُرَيْش ونهبت دَار الْخلَافَة وحريمها
أَيَّامًا، ثمَّ سلم قُرَيْش الْخَلِيفَة إِلَى ابْن عَمه مهاوش،
فَسَار مهاوش والخليفة فِي هودج إِلَى حَدِيثه عانة فَنزل بهَا وَسَار
أَصْحَاب الْخَلِيفَة إِلَى طغرلبك.
وَركب البساسيري يَوْم النَّحْر بألوية خَليفَة مصر وَأحسن وَلم يتعصب
لمَذْهَب، وأفرد البساسيري لوالدة الْقَائِم دَارا بجاريتين وجراية،
وأحضر رَئِيس الرؤساء من الْحَبْس وَقد ألبسوه طرطورا استهزاء بِهِ
وطافوا بِهِ إِلَى النجمي وَهُوَ يقْرَأ: {قل اللَّهُمَّ مَالك الْملك
تؤتي الْملك من تشَاء وتنزع الْملك مِمَّن تشَاء وتعز من تشَاء وتذل من
تشَاء} . وبصق أهل الكرخ فِي وَجهه، ثمَّ ألبس جلد ثَوْر وَجعلت قرونه
على رَأسه وَفِي فكه كلابان من حَدِيد وصلب فَمَاتَ آخر النَّهَار.
وَكتب البساسيري يعلم الْعلوِي بِمصْر بِالْخطْبَةِ لَهُ، وَكَانَ
وَزِير مصر ابْن أخي أبي الْقَاسِم المغربي مِمَّن هرب من البساسيري
فبرد فعله وخوفه من عاقبته فَعَادَت أجوبته بعد مُدَّة بِخِلَاف مَا
أمله، ثمَّ سَار البساسيري إِلَى وَاسِط وَالْبَصْرَة فملكهما.
وَأما طغرلبك: فَكَانَ قد خرج عَلَيْهِ أَخُوهُ إِبْرَاهِيم قبل هَذِه
مرَارًا وَيَعْفُو عَنهُ وَفِي هَذِه السّنة خرج عَلَيْهِ فَأسرهُ
طغرلبك وخنقه بِوتْر ثمَّ سَار إِلَى الْعرَاق لرد الْخَلِيفَة
الْقَائِم إِلَى خِلَافَته، فَلَمَّا قَارب بَغْدَاد انحدر مِنْهَا خدم
البساسيري وَأَوْلَاده فِي دجلة سنة إِحْدَى وَخمسين، وَوصل طغرلبك
بَغْدَاد واستقدم مهاوشا صُحْبَة الْخَلِيفَة فَأرْسل الْخيام
الْعَظِيمَة والآلات لتلقي الْقَائِم، وَوصل الْخَلِيفَة النهروان
رَابِع وَعشْرين ذِي الْقعدَة، وَخرج طغرلبك
(1/352)
لتلقيه وَاعْتذر لَهُ عَن تَأَخره بِقِتَال
أَخِيه إِبْرَاهِيم وبوفاة أَخِيه دَاوُد بخراسان، وَسَار الْخَلِيفَة
ووقف طغرلبك فِي الْبَاب النوبي مَكَان الْحَاجِب وَأخذ بلجام بغلة
الْخَلِيفَة إِلَى دَاره يَوْم الْإِثْنَيْنِ لخمس بَقينَ من ذِي
الْقعدَة سنة إِحْدَى وَخمسين.
ثمَّ توجه جَيش طغرلبك لقِتَال البساسيري فِي ثامن ذِي الْحجَّة، فهزمت
أَصْحَاب البساسيري وَقتل البساسيري وَبعث طغرلبك بِرَأْسِهِ إِلَى
الْخَلِيفَة فعلق وَأخذت أَمْوَال البساسيري ونساؤه وَأَوْلَاده.
والبساسيري: أَصله مَمْلُوك تركي لبهاء الدولة بن بويه واسْمه أرسلان
نِسْبَة إِلَى بسا بِفَارِس الَّتِي مِنْهَا سَيّده.
وفيهَا: - أَعنِي سنة خمسين وَأَرْبَعمِائَة - توفّي شهَاب الدولة
أَبُو الفوارس بن مَنْصُور بن الْحُسَيْن الْأَسدي صَاحب الجزيرة،
وَاجْتمعت عشيرته على ابْنه صَدَقَة.
وفيهَا: توفّي الْملك الرَّحِيم أَبُو نصر خسرو فَيْرُوز آخر مُلُوك
بني بويه بقلعة الرّيّ مسجونا.
وفيهَا: توفّي القَاضِي أَبُو الطّيب الطَّبَرِيّ الْفَقِيه
الشَّافِعِي الثِّقَة الصَّحِيح الِاعْتِقَاد وَله مائَة وسنتان
وَكَانَ صَحِيح الْحَواس والأعضاء يناظر ويفتي ويستدرك وَدفن عِنْد
الإِمَام أَحْمد.
وفيهَا: توفّي قَاضِي الْقُضَاة أَبُو الْحُسَيْن عَليّ بن مُحَمَّد بن
حبيب الْمَاوَرْدِيّ وَله الْحَاوِي وَغَيره وعمره سِتّ وَثَمَانُونَ،
أَخذ الْفِقْه عَن أبي حَامِد الإسفرايني وَغَيره، وَله تَفْسِير
الْقُرْآن والنكت والعيون وَالْأَحْكَام السُّلْطَانِيَّة وقانون
الوزارة وَنسبَة الْمَاوَرْدِيّ: إِلَى بيع الماورد على غير قِيَاس.
وفيهَا: زلزل الْعرَاق والموصل سَاعَة، فخربت وأهلكت كثيرا.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا توفّي الْملك
فرخزاد بن مَسْعُود بن مَحْمُود بن سبكتكين صَاحب غزنة بالقولنج، وَملك
بعده أَخُوهُ إِبْرَاهِيم فَأحْسن وغزا الْهِنْد وَفتح حصونا وَصَالح
دَاوُد بن مِيكَائِيل بن سلجوق صَاحب خُرَاسَان.
وفيهَا: فِي رَجَب توفّي دَاوُد الْمَذْكُور أَخُو طغرلبك وعمره
سَبْعُونَ سنة وَهُوَ يُقَاتل آل سبكتكين، وَملك بعده ابْنه ألب
أرسلان، وَكَانَ لداود من الْبَنِينَ ألب أرسلان وياقوتي وفاروت بك
وَسليمَان، فَتزَوج طغرلبك بِأم سُلَيْمَان امْرَأَة أَخِيه.
وفيهَا: قدم طغرلبك بَغْدَاد وَأعَاد الْخَلِيفَة وَقتل البساسيري
كَمَا ذكرنَا.
وفيهَا: توفّي عَليّ بن مَحْمُود بن إِبْرَاهِيم الزوزي الْمَنْسُوب
إِلَيْهِ رِبَاط الزوزي. قبالة جَامع الْمَنْصُور بِبَغْدَاد.
قلت: وفيهَا تسلم الْأَمِير أَبُو الْفَتْح الْحسن بن عبد اللَّهِ بن
أبي حَصِينَة المعري من بَين
(1/353)
يَدي الْخَلِيفَة الْمُسْتَنْصر الْعلوِي
صَاحب مصر السّجل بتأميره وَذَلِكَ فِي ربيع الآخر، فعلا قدره وَعظم
شَأْنه، وَكَانَ سَبَب شهرته وتقدمه أَنه وَفد إِلَى حَضْرَة
الْمُسْتَنْصر رَسُولا من قبل الْأَمِير تَاج الدولة بن مرداس سنة سبع
وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة ومدح الْمُسْتَنْصر بقوله:
(طهر الْهدى وتجمل الْإِسْلَام ... وَابْن الرَّسُول خَليفَة وَإِمَام)
(مستنصر بِاللَّه لَيْسَ يفوتهُ ... طلب وَلَا يعتاص عَنهُ مرام)
(حاط الْعباد وَبَات يسهر عينه ... وعيون سكان الْبِلَاد نيام)
(قصر الإِمَام أبي تَمِيم كعبة ... وَيَمِينه ركن لَهَا ومقام)
(لَوْلَا بَنو الزهراء مَا عرف التقي ... فِينَا وَلَا تبع الْهدى
الأقوام)
(يَا آل أَحْمد ثبتَتْ أقدامكم ... وتزلزلت بعدكم الْأَقْدَام)
(لَسْتُم وغيركم سَوَاء أَنْتُم ... للدّين أَرْوَاح وهم أجسام)
(يَا آل طه حبكم وولاؤكم ... فرض وَإِن عذل الوشاة ولاموا)
وَهِي طَوِيلَة، ومدحه سنة خمسين وَأَرْبَعمِائَة ثمَّ أنْجز لَهُ وعده
بالتأمير فَقَالَ فِيهِ قصيدة مِنْهَا:
(أما الإِمَام فقد وَفِي بمقاله ... صلى الْإِلَه على الإِمَام وَآله)
(لذنا بجانبه فَعم بفضله ... وببذله وبعفوه وبماله)
(لَا خلق أكْرم من معد شِيمَة ... محمودة فِي قَوْله وفعاله)
(فاقصد أَمِير الْمُؤمنِينَ فَمَا ترى ... بؤسا وَأَنت مظلل بظلاله)
(زَاد الإِمَام على البحور بفضله ... وعَلى البدور بحسنة وجماله)
(وعَلى سَرِير الْملك من آل الْهدى ... من لَا تمر الفاحشات بِبَالِهِ)
(النَّصْر والتأييد فِي أَعْلَامه ... وَمَكَارِم الْأَخْلَاق فِي
سرباله)
(مستنصر بِاللَّه ضَاقَ زَمَانه ... عَن شُبْهَة وَنَظِيره ومثاله)
وَكَانَ الَّذِي كتب لَهُ سجل التأمير وسعى فِي مَصَالِحه ونهض فِيهِ
هُوَ الشَّيْخ الْأَجَل أَبُو عَليّ صَدَقَة بن إِسْمَاعِيل بن فَهد
الْكَاتِب بِحَضْرَة الْمُسْتَنْصر، فَشكر الْأَمِير أَبُو الْفَتْح
سَعْيه فِي قصيدة مِنْهَا قَوْله:
(قد كَانَ صبري عيل فِي طلب العلى ... حَتَّى استندت إِلَى ابْن
إسماعيلا)
(فظفرت بالخطر الْجَلِيل وَلم يزل ... يحوي الْجَلِيل من اسْتَعَانَ
جَلِيلًا)
(لَوْلَا الْوَزير أَبُو عَليّ لم أجد ... أبدا إِلَى الشّرف الْعلي
سَبِيلا)
(إِن كَانَ ريب الدَّهْر قبح مَا مضى ... عِنْدِي فقد صَار الْقَبِيح
جميلا)
(وَأجل مَا جلّ الرِّجَال صلَاتهم ... للراغبين الْعِزّ والتبجيلا)
(الْيَوْم أدْركْت الَّذِي أَنا طَالب ... والأمس كَانَ طلابه تعليلا)
وَلَوْلَا التَّطْوِيل لذكرت من شعر الْأَمِير أبي الْفَتْح
الْمَذْكُور كثيرا، فَإِنَّهُ السهل الْمُمْتَنع سَلس القياد عذب
الْأَلْفَاظ حسن السبك لطيف الْمَقَاصِد عري عَن الحشو نَالَ رَحمَه
اللَّهِ
(1/354)
التأمير الَّذِي مَاتَ المتنبي بحسرته ورحل
إِلَى كافور بِسَبَبِهِ، وَتُوفِّي الْأَمِير أَبُو الْفَتْح بسروج
منتصف شعْبَان سنة سبع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا ملك
مَحْمُود بن نصر بن صَالح بن مرداس حلب كَمَا مر.
قلت: وَفِي مَحْمُود هَذَا يَقُول ابْن أبي حَصِينَة من قصيدة:
(كفي ملامك فالتبريح يَكْفِينِي ... أَو جربي بعض ماألقي ولوميني)
(برمل يبرين أَصْبَحْتُم فَهَل علمت ... رمال يبرين أَن الشوق يبرين)
(أَهْوى الحسان وَخَوف الله يردعني ... عَن الْهوى والعيون النجل
تغويني)
(مَا بَال أَسمَاء تلويني مواعدها ... أكل ذَات جمال ذَات تلوين)
(كَانَ الشَّبَاب إِلَى هِنْد يقربنِي ... وشاب رَأْسِي فَصَارَ
الْيَوْم يقصيني)
(يَا هِنْد أَن سَواد الرَّأْس يصلح ... للدنيا وَأَن بَيَاض الرَّأْس
للدّين)
(لست امْرَءًا غيبَة الْأَحْرَار من شيمي ... وَلَا النميمة من طبعي
وَلَا ديني)
(دَعْنِي وحيداً أعاني الْعَيْش منفرداُ ... فبعض معرفتي فِي النَّاس
تكفيني)
(مَا ضرني ودفاع الله يعصمني ... من بَات يهدمني وَالله يبنيني)
(وَمَا أُبَالِي وَصرف الدَّهْر يسخطني ... وسيب نعماك يَا ابْن
السَّيْل يرضيني)
(أَبَا سَلامَة عش واسلم حَلِيف على ... وسؤدد بشعاع النَّجْم مقرون)
(أَشْقَى عداكم وأهوى أَن أدين لكم ... وللعدا دينهم فِيكُم ولي ديني)
وَالله أعلم.
وفيهَا: توفيت وَالِدَة الْقَائِم بِاللَّه الأرمنية الأَصْل،
وَاسْمهَا قطر الندى.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاثَة وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا توفّي الْمعز
بن باديس صَاحب إفريقية بِضعْف الكبد وَمُدَّة ملكه سبع وَأَرْبَعُونَ
سنة، كَانَ عمره لما ملك إِحْدَى عشرَة سنة وَقيل: ثَمَان وَملك بعده
ابْنه تَمِيم.
وفيهَا: توفّي قُرَيْش بن بدران بن الْمُقَلّد بن الْمسيب صَاحب
الْموصل ونصيبين بنصيبين، وَقَامَ بعده ابْنه شرف الدولة أَبُو المكارم
مُسلم.
وفيهَا: توفّي نصر الدولة أَبُو نصر أَحْمد بن مَرْوَان الْكرْدِي
صَاحب ديار بكر وعمره نَيف وَثَمَانُونَ وإمارته اثْنَتَانِ
وَخَمْسُونَ سنة، وتنعم بِمَا لم يسمع بِمثلِهِ اشْترى بعض مغنياته
بِخَمْسَة آلَاف دِينَار وَملك خَمْسمِائَة سَرِيَّة وتوابعهن
وَخَمْسمِائة خَادِم وآلات مجْلِس يزِيد على مِائَتي ألف دِينَار وَعلم
طباخيه بِمصْر، ووزر لَهُ أَبُو الْقَاسِم المغربي وفخر الدولة بن
جهير، وقصده الشُّعَرَاء وَالْعُلَمَاء، وَملك بعده ابْنه نصر
ميافارقين وَابْنه الآخر سعيد آمد.
وفيهَا: توفّي شكر الْعلوِي الْحُسَيْنِي أَمِير مَكَّة، وَمن شعره
الْحسن قَوْله:
(1/355)
(قوض خيامك عَن أَرض تضام بهَا ... وجانب
الذل أَن الذل يجْتَنب)
(وارحل إِذا كَانَ فِي الأوطان منقصة ... فالمندل الرطب فِي أوطانه
حطب)
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا تزوج طغرلبك بنت
الْخَلِيفَة الْقَائِم وَكَانَ العقد فِي شعْبَان بِظَاهِر تبريز، توكل
فِي تَزْوِيجهَا عَن أَبِيهَا عميد الْملك.
وفيهَا: استوزر الْقَائِم فَخر الدولة أَبَا نصر بن جهير.
وفيهَا: توفّي القَاضِي أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سَلامَة بن جَعْفَر
الْقُضَاعِي الْفَقِيه الشَّافِعِي صَاحب كتاب الشهَاب وَكتاب الأنباء
عَن الْأَنْبِيَاء وتواريخ الْخُلَفَاء وَكتاب خطط مصر، قضى بِمصْر عَن
العلويين وأرسلوه إِلَى الرّوم، وقضاعة من حمير وَقيل: هُوَ معد بن
عدنان.
قلت: وفيهَا عمر الْمُسلمُونَ حصن المرقب بساحل جبلة وباعوه للروم
بِمَال عَظِيم وقبضوه، وَجَاء من الرّوم نَحْو من ثلثمِائة رجل
ليتسلموه فَقتلُوا مِنْهُم وأسروا البَاقِينَ وفدوهم بِمَال كثير،
وَكَانَ بَيْعه للروم حِيلَة نصبها الْمُسلمُونَ فتمت وَللَّه الْحَمد.
وفيهَا: جَاءَت يرقة وتبعتها صَيْحَة سقط لَهَا النَّاس لوجوههم،
وَمَاتَتْ بهَا طيور كَثِيرَة بالمعرة.
وفيهَا: هم أهل معرة النُّعْمَان فِي عمل السُّور عَلَيْهَا ونصبوا
عَلَيْهِ المناجيق والعجل يجر الْحِجَارَة وَالْجمال تحمل من شبيث
وَغَيره، وَكَانَ الْأَمِير أَبُو الْمَاضِي خَليفَة بن جهان ينْفق
عَلَيْهِ من مَاله وجاهه حَتَّى كمل فِي شهور سنة خمس وَخمسين
وَأَرْبَعمِائَة وَالله أعلم.
أَخْبَار الْيمن من تَارِيخ عمَارَة
ثمَّ دخلت سنة خمس وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة فِيهَا: تَكَامل الْيمن
لعَلي بن القَاضِي مُحَمَّد بن عَليّ الصليحي، وَكَانَ القَاضِي
مُحَمَّد سنياً مُطَاعًا فِي رجال حزاز وهم أَرْبَعُونَ ألفا، فتعلم
ابْنه على التَّشَيُّع وَأخذ أسرار الدعْوَة من عَامر بن عبد الله
الرواحي الْيَمَانِيّ أكبر دعاة الْمُسْتَنْصر خَليفَة مصر وَصَارَ
عَليّ بن مُحَمَّد دَلِيلا لحجاج الْيمن على طَرِيق الطَّائِف وبلاد
السرو وَبَقِي كَذَلِك سِنِين.
وَفِي سنة تسع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة ثار بستين رجلا وَصعد إِلَى
رَأس مشار أَعلَى ذرْوَة من جبال حران، واستفحل أمره شَيْئا فَشَيْئًا
حَتَّى كمل لَهُ ملك الْيمن فِي هَذِه السّنة، فولى على زبيد أسعد بن
شهَاب بن عَليّ الصليحي أَخا زَوجته أَسمَاء وَابْن عَمه، وَبَقِي
عَليّ مَالِكًا لليمن حَتَّى حج فقصده بَنو نجاح وقتلوه بَغْتَة هجماً
فِي قَرْيَة أم الدهيم وبئر أم معبد فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاث
وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة فَحِينَئِذٍ اسْتَقَرَّتْ التهائم لبني نجاح،
وَصَنْعَاء لِأَحْمَد بن عَليّ الصليحي الْمَذْكُور الْملك المكرم.
ثمَّ جمع المكرم الْعَرَب وَقصد سعيد بن نجاح بزبيد وقاتله وهزمه إِلَى
جِهَة دهلك،
(1/356)
وَملك المكرم زبيد سنة خمس وَسبعين
وَأَرْبَعمِائَة، ثمَّ ملكهَا ابْن نجاح سنة تسع وَسبعين
وَأَرْبَعمِائَة، ثمَّ قتل المكرم سعيداً سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ
وَأَرْبَعمِائَة.
ثمَّ ملك جياش أَخُو سعيد، وَبَقِي المكرم لَهُ صنعاء حَتَّى مَاتَ سنة
أَربع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة.
وَتَوَلَّى بعده ابْن عَمه أَبُو حمير سبأ بن أَحْمد بن المظفر بن
عَليّ الصليحي فِي سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة إِلَى أَن
مَاتَ سنة خمس وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة وَهُوَ آخر مُلُوك الصليحيين.
وَبعده أرسل من مصر عَليّ بن إِبْرَاهِيم بن نجيب الدولة سنة ثَلَاث
عشرَة وَخَمْسمِائة وَقَامَ بالدعوة والمملكة الَّتِي كَانَت بيد سبأ.
ثمَّ وصل إِلَى جبال الْيمن رَسُول خَليفَة مصر وَقبض على ابْن نجيب
الدولة بعد سنة عشْرين وَخَمْسمِائة، وانتقل الْملك والدعوة إِلَى آل
الزريع بن الْعَبَّاس بن المكرم وهم أهل عدن من هَمدَان بن جشم،
وَبَنُو المكرم هَؤُلَاءِ يعْرفُونَ بآل الذِّئْب، وَكَانَت عدن لزريع
بن الْعَبَّاس بن المكرم ولعمه مَسْعُود بن المكرم فقتلا على زبيد مَعَ
الْملك الْمفضل فولي بعدهمَا ولداهما أَبُو السُّعُود بن زُرَيْع
وَأَبُو المغارات بن مَسْعُود إِلَى أَن مَاتَا، وَولي بعدهمَا
مُحَمَّد بن أبي الغارات، ثمَّ أَخُوهُ عَليّ، ثمَّ سبأ بن أبي
السُّعُود بن زُرَيْع وَبَقِي حَتَّى توفّي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ
وَخَمْسمِائة، ثمَّ تولى بعده ابْنه الْأَعَز بن سبأ وَكَانَ مقَام
عَليّ بالدملوه فَمَاتَ بالسل فَملك أَخُوهُ الْمُعظم مُحَمَّد بن سبأ،
ثمَّ ابْنه عمرَان بن مُحَمَّد بن سبأ، وَتُوفِّي مُحَمَّد بن سبأ فِي
سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة، وَتُوفِّي عمرَان بن مُحَمَّد
فِي شعْبَان سنة سِتِّينَ وَخَمْسمِائة، وَخلف عمرَان ابْنَيْنِ صغيرين
مُحَمَّدًا وَأَبا السُّعُود.
وَمِمَّنْ ولي من الصليحيين الملكة الْحرَّة سيدة بنت أَحْمد بن
جَعْفَر بن مُوسَى الصليحي ولدت سنة أَرْبَعِينَ وَأَرْبَعمِائَة
وربتها أَسمَاء بنت شهَاب، وَتَزَوجهَا ابْن أَسمَاء أَحْمد المكرم سنة
إِحْدَى وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة وطالت مُدَّة الْحرَّة ولاها
زَوجهَا فِي حَيَاته فَقَامَتْ بِالْأَمر وَالْحَرب واشتغل هُوَ
بِالْأَكْلِ وَالشرب، وَمَات زَوجهَا وَتَوَلَّى ابْن عَمه سبأ وَهِي
فِي الْملك، وَمَات سبأ وَتَوَلَّى ابْن نجيب الدولة فِي أَيَّامهَا
واستمرت بعده حَتَّى توفيت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة.
وَمِمَّنْ كَانَ لَهُ شركَة فِي الْملك الْملك الْمفضل أَبُو البركات
بن الْوَلِيد الْحِمْيَرِي صَاحب التعكر، وَكَانَ الْمفضل يحكم بَين
يَدي الْحرَّة يحتجب حَتَّى لَا يُرْجَى لقاؤه ثمَّ يظْهر للقوي
والضعيف حَتَّى توفّي سنة أَربع وَخَمْسمِائة.
وَملك بعده بِلَاده ومعاقله ابْنه مَنْصُور يُقَال لَهُ: الْمَنْصُور،
من حِين وَفَاته إِلَى سنة سبع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة، فَابْتَاعَ
مُحَمَّد بن سبأ بن أبي السُّعُود مِنْهُ المعاقل الَّتِي كَانَت
للصليحيين بِمِائَة ألف دِينَار وعدتها ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ حصناً
وبلداً وَبَقِي الْمَنْصُور لنَفسِهِ حَتَّى توفّي بعد أَن ملك نَحْو
ثَمَانِينَ سنة، وَسَيَأْتِي بَاقِي أَخْبَار الْيمن.
(1/357)
وفيهَا: أَعنِي سنة خمس وَخمسين
وَأَرْبَعمِائَة: قدم طغرلبك بَغْدَاد وَدخل بابنة الْخَلِيفَة، وثقلوا
على النَّاس بِالْإِخْرَاجِ من الدّور والتعرض إِلَى الْحَرِيم.
وفيهَا: سَار طغرلبك بعد دُخُوله بابنة الْخَلِيفَة إِلَى بلد الْجَبَل
فوصل إِلَى الرّيّ فَمَرض وَتُوفِّي ثامن رَمَضَان مِنْهَا وعمره
سَبْعُونَ تَقْرِيبًا وَكَانَ عقيماً، واستقرت السلطنة بعده لِابْنِ
أَخِيه ألب أرسلان بن دَاوُد بن مِيكَائِيل بن سلجوق.
وفيهَا: دخل الصليحي صَاحب الْيمن مَكَّة مَالِكًا لَهَا، فَأحْسن وجلب
الأقوات.
وفيهَا: زلزل الشَّام فخرب سور طرابلس.
وفيهَا: ولى الْمُسْتَنْصر بَدْرًا أَمِير الجيوش دمشق، ثمَّ ثارت
الْجند ففارقها.
وفيهَا: توفّي سعيد بن نصر الدولة بن أَحْمد بن مَرْوَان صَاحب آمد
وديار بكر.
قلت: وفيهَا توفّي بالمعرة أَبُو الْحُسَيْن بن عَليّ بن الْفضل بن
جَعْفَر بن عَليّ بن الْمُهَذّب التنوخي المعري، قَرَأَ الْقُرْآن
الْعَظِيم للسبعة وليعقوب الْحَضْرَمِيّ وَأبي جَعْفَر وَشَيْبَة
ثَمَانِيَة وَعشْرين رِوَايَة وَلَقي شُيُوخ الْقُرَّاء بحلب وَغَيرهَا
وَقَرَأَ عَلَيْهِ خلق، وَكَانَ مُفَسرًا خَطِيبًا شَاعِرًا رَحمَه
الله، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا قبض ألب أرسلان
على عميد الْملك الْوَزير أبي نصر مَنْصُور بن مُحَمَّد الكندري وَزِير
عَمه طغرلبك سعى بِهِ نظام الْملك وَزِير ألب أرسلان وَحبس فِي مرو
الروذ، ثمَّ قَتله بعد سنة وَقطع رَأسه ونقلت جثته إِلَى كندر فَدفن
عِنْد أَبِيه وَكَانَ عمره نيفاً وَأَرْبَعين، وَكَانَ خَصيا لِأَن
طغرلبك أرْسلهُ ليخطب لَهُ امْرَأَة فَتَزَوجهَا هُوَ فخصاه.
وَكَانَ عميد الْملك كثير الوقيعة فِي الإِمَام الشَّافِعِي، خَاطب
طغرلبك فِي لعن الرافضة على المنابر بخراسان فَأذن لَهُ بذلك، فَأمر
بلعنهم وأضاف إِلَيْهِم الأشعرية، فَأَنف من ذَلِك أَئِمَّة خُرَاسَان
مِنْهُم أَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي وَأَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ
وَأقَام بِمَكَّة أَربع سِنِين فَسُمي إِمَام الْحَرَمَيْنِ.
وَمن الْعجب: أَن ذكر عميد الْملك وأنثييه دفنت بخوارزم لما خصي،
وَدَمه سفح بمرو، وَجَسَده دفن بكندر، وَرَأسه إِلَّا قحفه دفن
بنيسابور، وقحفه نقل إِلَى كرمان لِأَن نظام الْملك كَانَ هُنَاكَ:
قلت:
(مَا لعميد ملكهم ... من عَاصِم أَو نَافِع)
(وكل ذَا يَا مالكي ... بطعنه فِي الشَّافِعِي)
وَالله أعلم.
وفيهَا: ملك ألب أرسلان قلعة جيلان، ثمَّ حاصر عَمه بيغو فِي هراة
وملكها وَأكْرم
(1/358)
عَمه، ثمَّ ملك صغانيان عنْوَة وَأسر
صَاحبهَا مُوسَى.
وفيهَا: أَمر ألب أرسلان بِعُود بنت الْخَلِيفَة إِلَى بَغْدَاد،
وَكَانَت قد سَارَتْ إِلَى طغرلبك بِغَيْر رِضَاء الْخَلِيفَة.
وفيهَا: اقتتل ألب أرسلان وقطلومش قرب الرّيّ، فَوجدَ قطلومش مَيتا بعد
هزيمَة عسكره فَبكى عَلَيْهِ ألب أرسلان لأجل الْقَرَابَة وَالرحم
وَسَلاهُ نظام الْملك وَدخل ألب أرسلان الرّيّ فِي الْمحرم مِنْهَا.
وقطلومش السلجوقي: هُوَ جد الْمُلُوك بقونية وأقصرا وملطية إِلَى
أَيَّام التتر وَسَيَأْتِي، وَكَانَ قطلومش قد أتقن علم النُّجُوم.
وفيهَا: شاع بِبَغْدَاد وَالْعراق وخوزستان وَغَيرهَا أَن أكراداً
تصيدوا فَرَأَوْا فِي الْبر خياماً سَوْدَاء فِيهَا لطم وعويل وَقَائِل
يَقُول: مَاتَ سيدوك ملك الْجِنّ وَأي بلد لم يلطم أَهله قلع أَصله،
فَصدق ذَلِك السفلة وَخرج رِجَالهمْ وَنِسَاؤُهُمْ يلطمون.
قَالَ ابْن الْأَثِير: وَجرى بالموصل كَذَلِك وَنحن بهَا سنة سِتّمائَة
أصَاب النَّاس وجع الْحلق، فشاع أَن امْرَأَة من الْجِنّ اسْمهَا أم
عنقود مَاتَ ابْنهَا، وَمن لَا يعْمل مأتماً أَصَابَهُ هَذَا الْمَرَض،
فَكَانَ النِّسَاء والأوباش يلطمون على عنقود وَيَقُولُونَ:
(يَا أم عنقود اعذرينا ... قد مَاتَ عنقود وَمَا درينا)
وَإِلَى الْآن يَقع النَّاس فِي هَذَا الهذيان.
وفيهَا: مَاتَ أَبُو الْقَاسِم بن عَليّ بن برهَان الْأَسدي
النَّحْوِيّ الْمُتَكَلّم لَهُ اخْتِيَار فِي الْفِقْه مَشى فِي
الْأَسْوَاق مَكْشُوف الرَّأْس وَلم يقبل من أحد شَيْئا؛ مَال إِلَى
مَذْهَب مرجئة الْمُعْتَزلَة واعتقد أَن الْكفَّار لَا يخلدُونَ فِي
النَّار، وَجَاوَزَ الثَّمَانِينَ.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا جَاوز ألب أرسلان
جيحون إِلَى جند وصيران وهما عِنْد بخارا وقبر جده سلجوق بجند فَخرج
صَاحب جند إِلَى طَاعَته فأقره على مَكَانَهُ، وَوصل إِلَى كركنج
خوارزم وَسَار مِنْهَا إِلَى مرو.
وفيهَا: ابْتَدَأَ نظام الْملك بعمارة الْمدرسَة النظامية بِبَغْدَاد.
قلت: وفيهَا أقطعت معرة النُّعْمَان للْملك هَارُون بن خَان ملك
التّرْك فِيمَا وَرَاء نهر جيحون أَخذهَا حَربًا وخراجا، وَوصل
إِلَيْهَا مَعَه ترك وَدَيْلَم وكرد وكرج نَحْو ألف رجل مَعَ حاشيتهم
وأتباعهم وتعففوا فِيهَا عَن الأذية حَتَّى سقوا دوابهم المَاء
بِثمنِهِ وَنزل بالمصلى، وَجعل فِي حصن المعرة بعض حجابه، وَأقَام
يَسِيرا ثمَّ نقل إِلَى حلب وَعوض عَن المعرة بِمَال، قدم هَذَا إِلَى
الشَّام مغاضبا لِأَبِيهِ، وَولي المعرة بعده الْأَمِير فَارس الدولة
يانس الصَّالِحِي وَالله أعلم. ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَخمسين
وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا أقطع ألب أرسلان شرف الدولة مُسلم بن قرواش بن
بدران صَاحب الْموصل الأنبار وهيت مَعَ الْموصل.
(1/359)
وفيهَا: توفّي أَبُو بكر أَحْمد بن
الْحُسَيْن بن عَليّ الْبَيْهَقِيّ الخسروجردي الشَّافِعِي إِمَام فِي
الحَدِيث وَالْفِقْه زاهد بنيسابور وَنقل إِلَى بيهق وبيهق قرى مجتمعة
على عشْرين فرسخاً من نيسابور، وَهُوَ من خسروجرد قَرْيَة من بيهق رَحل
فِي طلب الحَدِيث إِلَى الْعرَاق وَالْجِبَال والحجاز، وَهُوَ أول من
جمع نُصُوص الشَّافِعِي فِي عشرات مجلدات، وَمن تصانيفه السّنَن
الْكَبِير وَالسّنَن الصَّغِير وَدَلَائِل النبوّة، قَالَ إِمَام
الْحَرَمَيْنِ: مَا من شَافِعِيّ الْمَذْهَب إِلَّا وَللشَّافِعِيّ
عَلَيْهِ منّة إِلَّا أَحْمد الْبَيْهَقِيّ فَإِن لَهُ على الشَّافِعِي
منّة، لِأَنَّهُ كَانَ اكثر النَّاس نصرا لمَذْهَب الشَّافِعِي،
وَكَانَ قانعاً من الدُّنْيَا بِالْقَلِيلِ رَحْمَة الله تَعَالَى.
وفيهَا: توفّي أَبُو يعلى مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن الْحسن الْفراء
الْحَنْبَلِيّ وعنة انْتَشَر مَذْهَب أَحْمد، وَله كتاب الصِّفَات
فِيهِ كل عَجِيبَة وَيدل على التجسيم الْمَحْض، كَانَ ابْن التَّيْمِيّ
الْحَنْبَلِيّ يَقُول: لقد خرى ابو يعلى الْفراء على الْحَنَابِلَة
خرية لَا يغسلهَا المَاء.
وفيهَا: توفّي الْحَافِظ أَبُو الْحسن عَليّ بن اسماعيل ابْن سَيّده
المرسي إِمَام فِي اللُّغَة لَهُ الْمُحكم وَغَيره وَكَانَ ضريراً،
توفّي بدانية من شَرق الأندلس وعمره نَحْو سِتِّينَ.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا فِي ذِي الْقعدَة
تمت النظامية وتقرّر لتدريسها الشَّيْخ ابو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ،
وَاجْتمعَ النَّاس فَتَأَخر الشَّيْخ فَإِنَّهُ سمع أَن أرْضهَا
مَغْصُوبَة فدرس بهَا يُوسُف بن الصّباغ صَاحب الشَّامِل عشْرين
يَوْمًا ثمَّ ألحوا على الشَّيْخ حَتَّى درّس بهَا.
قلت: وَابْن الصّباغ الْمَذْكُور هُوَ أَبُو نصر عبد السَّيِّد بن
مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد، وَأما كَون اسْمه يُوسُف فَلَا نعرفه
وَالله أعلم.
وفيهَا: كَانَ بالبلاد سوى الرّوم غلاء عَظِيم وَمَوْت لَا سِيمَا بحلب
فَإِنَّهُ مَاتَ بهَا فِي شهر رَجَب خَاصَّة زهاء أَرْبَعَة آلَاف،
وَمَات جمَاعَة من ساداتها وَالله اعْلَم.
ثمَّ دخلت سنة سِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة فِيهَا: زلزلت فلسطين ومصر
حَتَّى طلع المَاء من رُؤُوس الْآبَار وردم عَالم عَظِيم وَزَالَ
الْبَحْر عَن السحال مسيرَة يَوْم فالتقط النَّاس من أرضة، فَعَاد
المَاء وَأهْلك خلقا.
قلت: وفيهَا: فتح الله على الْمُسلمين حصن أرتاح وَقد اجْتمع إِلَيْهِ
من أهل النَّصْرَانِيَّة مَا حوله وَقتل من رِجَاله نَحْو ثَلَاثَة
آلَاف حاصره الْملك هَارُون بن خَان خَمْسَة أشهر، وَهُوَ فتح عَظِيم
فَإِن أَعماله كَانَت بِمِقْدَار أَعمال الشَّام من الْفُرَات إِلَى
العَاصِي إِلَى أفامية إِلَى بَاب انطاكيا إِلَى الأثارب، وأحصى قوم
بطرابلس فِي مجْلِس القَاضِي ابْن عمار أَن المفقودين من الرّوم فِي
هَذِه السّنة إِلَى شهر رَمَضَان فِي الدَّرْب إِلَى أفامية قتلا
وأسراً ثلثمِائة ألف، ذكره ابْن الْمُهَذّب.
وفيهَا - أَعنِي سنة سِتِّينَ -: فِي أيار جَاءَت رعدة عَظِيمَة
بالمعرة غشي من صَوتهَا على كثير من الرِّجَال وَالصبيان وَالنِّسَاء،
وَجَاء بعْدهَا سَحَاب عَظِيم معظمه على جبل بني عليم
(1/360)
وَفِيه برد فَقلع الشّجر وَجرى مِنْهُ سيل
فِي وَادي شنان الَّذِي فِيهِ الْعين فَكَانَت من الْجَبَل القبلي
إِلَى الْجَبَل الشمالي وغطى شجر الْجَوْز وَأخذ صَخْرَة يعجز عَن
قَلبهَا خَمْسُونَ رجلا وَمضى بهَا فَلم يعرف لَهَا ذَلِك الْوَقْت
مَوضِع، وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي الشَّيْخ ابو مَنْصُور عبد الْملك بن يُوسُف من أَعْيَان
الزهاد.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا وَقعت
فتْنَة بَين المغاربة والمشارقة بِدِمَشْق فَضربت دَار جوَار الْجَامِع
بالنَّار فاتصلت النَّار بالجامع وعظمت فدثرت محاسنه وزالت اعماله
النفيسة.
قلت: وفيهَا أَخذ ملك الرّوم حصن منبج وشحنة رجَالًا وعدّة، ثمَّ وقف
على عزاز سَاعَة ثمَّ رَحل عَنْهَا , وسلط الله عَلَيْهِ وعَلى من
مَعَه الغلاء والقلة وَمَات مِنْهُم خلق كثير فَرجع حافلاً.
وفيهَا: جمع قطبان أنطاكيا وقسها الْمَعْرُوف بالبخت جموعاً وطلع إِلَى
حصن أشعوبا من قرى المعرة بِعَمَلِهِ عَملهَا لَهُم قوم يعْرفُونَ ببني
ربيع من أهل جوزف ففتحوه وَقتلُوا وأسروا رِجَاله وواليه بنادراً
التركي، فَبلغ الْخَبَر الْأَمِير عز الدولة مَحْمُود بن نَاصِر بن
صَالح وَهُوَ يسير فِي ميدان حلب، فَسَار إِلَيْهِ وَلم يدْخل الْبَلَد
وَمَعَهُ نَحْو خمسين ألفا من التّرْك وَالْعرب وَأَخذه من النَّصَارَى
وَقتل مِنْهُم أَلفَيْنِ وَسَبْعمائة نفس، وَهَذَا الْحصن كَانَ قد
عمره حُسَيْن بن كَامِل بن حُسَيْن بن سُلَيْمَان بن الدوح الْعمريّ
المرثدي الْكلابِي وَمَعَهُ جمَاعَة من المعرة وَكفر طَالب وضياعهما
فِي سنة سِتّ وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وأكمل عِمَارَته فِي مُدَّة
يسيرَة فتعجب النَّاس لسرعة عِمَارَته. ثمَّ فِي سنة إِحْدَى
وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة اقْترض عز الدولة مَحْمُود من الرّوم
أَرْبَعَة عشر ألف دِينَار وَرهن وَلَده نصرا عَلَيْهَا وعَلى هدم
الْحصن الْمَذْكُور، فَجمع النَّاس من المعرة وَكفر طَالب على هَدمه،
وَللَّه قَول من قَالَ:
(وهدّوا بِأَيْدِيهِم حصنهمْ ... وأعينهم حزنا تَدْمَع)
(عجبت لسرعة بُنْيَانه ... وَلَكِن تخريبه أسْرع)
وَالله اعْلَم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا غلت مصر
حَتَّى أكل بعض النَّاس بَعْضًا ونزح من الْقدر، وَاحْتَاجَ
الْمُسْتَنْصر فباغ ثَمَانِينَ ألف قِطْعَة بلور كبار وخمسا وَسبعين
ألف قِطْعَة من الديباج وَأحد عشر ألف قزاغند وَعشْرين ألف سيف محلى
وَوصل من ذَلِك مَعَ التُّجَّار إِلَى بَغْدَاد.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا قطع مَحْمُود
بن نصر بن صَالح بن مرداس بحلب خطْبَة الْمُسْتَنْصر وخطب للقائم
العباسي.
(1/361)
وفيهَا: سَار ملك الرّوم أرمانوس بجموع من
الرّوم والجركس والروس وَوصل ملاز كرد، فَسَار إِلَيْهِ ألب أسلان
وَسَأَلَ الْهُدْنَة فَامْتنعَ ملك الرّوم فَاقْتَتلُوا، فَانْهَزَمَ
الرّوم وَقتل مِنْهُم مَا لَا يُحْصى وَأسر أرمانوس، ثمَّ أطلقهُ ألب
أرسلان على هدنة وَمَال وَأسرى.
قلت: وَحمل ألب أرسلان ملك الرّوم بازيا وَخرج يتصيد ممتهنا لَهُ بذلك،
ثمَّ أعْتقهُ وجهز مَعَه جَيْشًا عَظِيما من التّرْك فَإِن الرّوم
ملكوا عَلَيْهِم غَيره وَوَقعت بَين الأول وَالْآخر حروب وَالله أعلم.
وفيهَا: قصد أتسزين أبق الْخَوَارِزْمِيّ من أكبر أُمَرَاء ملكشاه بن
ألب أرسلان الشَّام، وَأخذ الرملة والقدس من المصريين وَحصر دمشق وَلم
يملكهَا.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْقَاسِم عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن أَحْمد
الفوراني الشَّافِعِي وَله الْإِبَانَة.
قلت: أَخذ عَن الْقفال الشَّاشِي وصنف فِي الْفُرُوع وَالْأُصُول
وَالْخلاف والجدل والملل والنحل وَله فِي الْمَذْهَب الْوُجُوه الجيدة
وطبق الأَرْض بالتلامذة، وَقيل: كَانَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَهُوَ
شَاب يحضر حلقته والفوراني لَا ينصفه لكَونه شَابًّا فَبَقيَ فِي نَفسه
فَمَتَى، قَالَ فِي النِّهَايَة: وَقَالَ بعض المصنفين كَذَا وَغلظ فِي
كَذَا وَنَحْوه، فمراده الفوراني - بِضَم الْفَاء - أَو القَاضِي
الْمَاوَرْدِيّ وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْوَلِيد أَحْمد بن عبد الله بن أَحْمد بن غَالب
بن زيدون الأندلسي الْقُرْطُبِيّ من أَبنَاء فُقَهَاء قرطبة وانتقل
وخدم المعتضد بن عباد صَاحب أشبيلية ووزر لَهُ، وَمن شعره الْفَائِق:
(بيني وَبَيْنك مَا لَو شِئْت لم يضع ... سرا إِذا ذاعت الْأَسْرَار لم
يذع)
(يَا بَائِعا حَظه مني وَلَو بذلت ... لي الْحَيَاة بحظي مِنْهُ لم
أبع)
(يَكْفِيك أَنَّك لَو حملت قلبِي مَا ... لم تستطعه قُلُوب النَّاس
يسْتَطع)
(ته أحتمل واستطل أَصْبِر وعزأهن ... وول أقبل وَقل أسمع ومرأطع)
ونونيته الْمَشْهُورَة مِنْهَا:
(تكَاد حِين تناجيكم ضمائرنا ... يقْضِي علينا الأسى لَوْلَا تأسينا)
وَله الرسَالَة الزيدونية، وَشَرحهَا الشَّيْخ جمال الدّين مُحَمَّد بن
نَبَاته الْمصْرِيّ فِي مجلدين.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة توفّي بِبَغْدَاد الْخَطِيب أَبُو بكر أَحْمد
بن عَليّ بن ثَابت الْبَغْدَادِيّ إِمَام زَمَانه، وَمِمَّنْ حمل
جنَازَته الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وَله تَارِيخ
بَغْدَاد ينبىء عَن اطلَاع عَظِيم كَانَ من الْحفاظ المتحرين فَقِيها
غلب عَلَيْهِ الحَدِيث والتاريخ، مولده فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة
اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وثلثمائة، وَهُوَ حَافظ الشرق وَأَبُو عمر
يُوسُف بن عبد الْبر صَاحب الِاسْتِيعَاب حَافظ الغرب وَمَاتَا فِي
هَذِه السّنة وَلَا عقب للخطيب وصنف أَكثر من سِتِّينَ كتابا ووقف
جَمِيع كتبه.
(1/362)
وَابْن عبد الْبر هَذَا هُوَ: يُوسُف بن
عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الْبر بن عَاصِم النميري الْقُرْطُبِيّ،
كَانَ موفقا معانا فِي التَّأْلِيف وَتَوَلَّى قَضَاء أشبونة وسنترين
وصنف لمَالِكهَا المظفر بن الْأَفْطَس كتاب بهجة الْمجَالِس فِي
ثَلَاثَة أسفار فِيهِ محَاسِن تصلح للمحاضرة، مِنْهَا أَن النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رأى فِي مَنَامه أَنه دخل
الْجنَّة وَرَأى فِيهَا عذقا مدلى فأعجبه وَقَالَ: لمن هُوَ؟ فَقيل:
لأبي جهل، فشق ذَلِك عَلَيْهِ وَقَالَ: مَا لأبي جهل وَالْجنَّة وَالله
لَا يدخلهَا أبدا، فَلَمَّا أَتَاهُ عِكْرِمَة بن أبي جهل مُسلما فَرح
بِهِ وَتَأَول ذَلِك العذق عِكْرِمَة ابْنه.
وَمِنْهَا: عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد الصَّادِق: أَن النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رأى كَأَن كَلْبا أبقع يلغ فِي دَمه،
فَكَانَ شمر بن ذِي الجوشن قَاتل الْحُسَيْن كَانَ ابرص فتفسرت
رُؤْيَاهُ بعد خمسين سنة.
وَمِنْهَا: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ
لأبي بكر الصّديق: يَا أَبَا بكر رَأَيْت كَأَنِّي وَأَنت نرقى دَرَجَة
فسبقتك بمرقاتين وَنصف، فَقَالَ: يَا رَسُول الله يقبضك الله إِلَى
رَحمته وأعيش بعْدك سنتَيْن وَنصف.
وَمِنْهَا: أَن بعض أهل الشَّام قصّ على عمر بن الْخطاب رَضِي الله
عَنهُ قَالَ: رَأَيْت كَأَن الشَّمْس وَالْقَمَر اقتتلا وَمَعَ كل
وَاحِد مِنْهُم فريق من النُّجُوم، فَقَالَ عمر: مَعَ أَيهمَا كنت؟
قَالَ: مَعَ الْقَمَر، قَالَ: مَعَ الْآيَة الممحوّة وَالله لَا توليت
لي عملا، فَقَالَ الرَّائِي الْمَذْكُور فِي صفّين وَكَانَ مَعَه
مُعَاوِيَة.
وَمِنْهَا: أَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا رَأَتْ ثَلَاثَة أقمار
سقطن فِي حُجْرَتهَا فَقَالَ لَهَا أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ: يدْفن
فِي بَيْتك ثَلَاثَة من خِيَار أهل الأَرْض، فَلَمَّا دفن النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهَا: هَذَا أحد أقمارك.
توفّي ابْن عبد الْبر بشاطبة، وَله المصنفات الجليلة كالتمهيد
والاستذكار وسيرة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
والاستيعاب وَغير ذَلِك.
وفيهَا: توفيت كَرِيمَة بنت أَحْمد بن مُحَمَّد المرمزية راوية صَحِيح
البُخَارِيّ بِمَكَّة عالية الْإِسْنَاد.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا فِي رَجَب
توفّي القَاضِي أَبُو طَالب بن مُحَمَّد بن عمار قَاضِي طرابلس
مستولياً عَلَيْهَا، وَقَامَ بعده ابْن أَخِيه جلال الْملك أَبُو
الْحسن فَأحْسن الضَّبْط.
(ذكر مقتل السُّلْطَان ألب أرسلان مُحَمَّد)
ثمَّ دخلت سنة خمس وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة فِيهَا: سَار ألب أرسلان
وَعقد على جيحون جِسْرًا وعبره فِي نَيف وَعشْرين يَوْمًا بزائد عَن
مِائَتي ألف فَارس، ومدّ لما عبره سماطاً فِي بَلْدَة فربر وَلها حصن
فأحضر إِلَيْهِ مستحفظ الْحصن وأسمه يُوسُف الْخَوَارِزْمِيّ مَعَ
غلامين يحفظانه وَكَانَ قد ارْتكب جريمة فِي أَمر الْحصن، فَأمر ألب
أرسلان فَضربت لَهُ أَرْبَعَة أوتاد.
(1/363)
وَقَالَ: شدوا أَطْرَافه إِلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ يُوسُف: يَا مخنث
مثلي يقتل هَذِه القتلة، فَغَضب السُّلْطَان وَأخذ الْقوس وَقَالَ
للغلامين: خلياه ورماه بِسَهْم فأخطأه وَلم يكن يُخطئ سَهْمه، فَوَثَبَ
يُوسُف على السُّلْطَان بسكين فَقَامَ السُّلْطَان عَن السدة فَوَقع
على وَجهه فَضَربهُ يُوسُف بالسكين، ثمَّ جرح شخصا آخر كَانَ وَاقِفًا
على رَأس السُّلْطَان اسْمه سعد الدولة، فَضرب بعض الفراشين يُوسُف
بمزربة على رَأسه فَقتله ثمَّ قطعته الأتراك، فَقَالَ السُّلْطَان:
صعدت أمس على تل فارتجت الأَرْض تحتي من عظم الْجَيْش فَقلت فِي نَفسِي
أَنا ملك الدُّنْيَا وَمَا يقدر اُحْدُ على، فعجزني الله بأضعف خلقه،
وَأَنا أسْتَغْفر الله وأستقليه من ذَلِك الخاطر.
جرح فِي سادس ربيع الأول وَتُوفِّي فِي عاشره وعمره أَرْبَعُونَ سنة
وشهور وَمُدَّة ملكه مذ خطب لَهُ بالسلطنة إِلَى وَفَاته تسع وَسِتَّة
سِنِين وَسِتَّة أشهر وَأَيَّام، وَأوصى بالسلطنة لِابْنِهِ ملكشاه
وَكَانَ مَعَه فَحلف لَهُ الْعَسْكَر وَاسْتقر فِي السلطنة، وَكَانَ
المستولي على الْأَمر نظام الْملك وَزِير ألب أرسلان.
وَعَاد ملكشاه بالعسكر من وَرَاء النَّهر إِلَى خُرَاسَان فَأرْسل
إِلَى بَغْدَاد والأطراف فَخَطب لَهُ فِيهَا، وَاسْتمرّ نظام الْملك
وزيرا نَافِذ الْأَمر.
ثمَّ خرج عَم ملكشاه فاروت بك صَاحب كرمان عَن طَاعَته فاقتتلا،
فَانْهَزَمَ فاروت بك وأسره وخنقه وَأقر كرمان على أَوْلَاده، وَلما
انتصر ملكشاه كثرت أذية الْعَسْكَر ففوض الْأَمر إِلَى نظام الْملك
وَحلف لَهُ وَزَاد على إقطاعه طوس وَغَيرهَا ولقبه ألقابا مِنْهَا:
أتابك أَصْلهَا أطابك مَعْنَاهُ الْوَالِد الْأَمِير، فَأحْسن نظام
الْملك السياسة وَالتَّدْبِير. |