تاريخ ابن الوردي

 (بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)

(ذكر وُصُول ملكشاه إِلَى حلب)

كَانَ ابْن الحتيتي قد كَاتب السُّلْطَان فِي أَمر حلب فَسَار إِلَيْهَا من أصفهان فِي جُمَادَى الْآخِرَة فَملك فِي طَرِيقه حران وأقطعها لمُحَمد بن شرف الدولة مُسلم بن قُرَيْش، وَسَار إِلَى الرها وَهِي بيد الرّوم من حِين اشتروها من ابْن عطير فحصرها وملكها، وَسَار إِلَى قلعة جعبر وَاسْمهَا الدوسرية ثمَّ عرفت بجعبر لطول ملك جعبر إِيَّاهَا وَبهَا صَاحبهَا سَابق الدّين جعبر الْقشيرِي شَيخا أعمى فأمسكه وَأمْسك ولديه، وَكَانَا يخيفان السَّبِيل، ثمَّ ملك منبج وقارب حلب فَرَحل أَخُوهُ تتش عَن حلب على الْبَريَّة إِلَى دمشق، وَوصل السُّلْطَان إِلَى حلب وتسلمها وتسلم القلعة من سَالم بن مَالك بن بدران الْعقيلِيّ على أَن يعوضه بقلعة جعبر فَسلم السُّلْطَان إِلَيْهِ قلعة جعبر وَبقيت فِي يَده وَيَد أَوْلَاده إِلَى أَن أَخذهَا مِنْهُم نور الدّين بن زنكي وَلما نزل ملكشاه بحلب أرسل إِلَيْهِ الْأَمِير نصر بن عَليّ بن منقذ الْكِنَانِي صَاحب شيزر بِالطَّاعَةِ وَسلم إِلَيْهِ اللاذقية وَكفر طَابَ وأفامية فَترك السُّلْطَان قَصده وَأقر عَلَيْهِ شيزر وَسلم السُّلْطَان حلب إِلَى قيم الدولة أقسنقر ورحل إِلَى بَغْدَاد.
وفيهَا: فِي ربيع الأول توفّي بهاء الدولة أَبُو كَامِل مَنْصُور بن دبيس بن عَليّ بن مزِيد الْأَسدي صَاحب الْحلَّة والنيل وَغَيرهمَا، وَكَانَ فَاضلا شَاعِرًا وَاسْتقر مَكَانَهُ ابْنه صَدَقَة ولقب سيف الدولة.
ملك يُوسُف بن تاشفين غرناطة وانقراض دولة الصناهجة

فِيهَا عدى الْبَحْر يُوسُف بن تاشفين أَمِير الْمُسلمين من سبتة إِلَى الجزيرة الخضراء بِسَبَب اسْتِيلَاء الفرنج على بِلَاد الأندلس وَاجْتمعَ إِلَيْهِ مثل الْمُعْتَمد بن عباد وَغَيره من مُلُوك الأندلس، وقاتلوا الأذفونش جدا فَانْهَزَمَ الفرنج وَقتل مِنْهُم مَا لَا يُحْصى، وَجمع من رُؤْسهمْ تل أذنوا عَلَيْهِ، وَملك يُوسُف غرناطة من صَاحبهَا عبد الله بن بلكين بن باديس بن حيوس بن ماكس بن بلكين بن زيزى الصنهاجي، وَأول من حكم من الصناهجة فِي غرناطة زاوى بن بلكين ثمَّ تَركهَا وَعَاد إِلَى إفريقية سنة عشر وَأَرْبَعمِائَة فَملك غرناطة ابْن أَخِيه حيوس بن ماكس بن بلكين إِلَى أَن توفّي سنة تسع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة، وَولي بعده ابْنه باديس إِلَى أَن توفّي، وَولي بعده ابْن أَخِيه عبد الله بن بلكين إِلَى أَن أَخذهَا مِنْهُ يُوسُف بن تاشفين فِي هَذِه السّنة، ثمَّ عبر يُوسُف بن تاشفين الْبَحْر إِلَى سبته وَأخذ مَعَه عبد الله

(2/3)


صَاحب غرناطة وأخاه غنما إِلَى مراكش فَكَانَت غرناطة أول مَا ملكه يُوسُف من الأندلس.
وفيهَا: سَار ملكشاه عَن حلب وَدخل بَغْدَاد فِي ذِي الْحجَّة وَهُوَ أول قدومه بَغْدَاد، ثمَّ خرج إِلَى الصَّيْد فصاد فرطا ثمَّ عَاد إِلَى بَغْدَاد وَاجْتمعَ بالخليفة الْمُقْتَدِي وَأقَام بهَا إِلَى صفر سنة ثَمَانِينَ وَعَاد إِلَى أصفهان.
وفيهَا: أقطع ملكشاه مُحَمَّد بن مُسلم بن قُرَيْش الرحبة وأعمالها وحران وسروج والرقة والخابور، وَزَوْجَة اخته زليخا بنت ألب أرسلان.
وفيهَا: كَانَت زلازل عَظِيمَة.
وفيهَا: توفّي الشريف أَبُو نصر الزَّيْنَبِي العباسي نقيب الهاشميين مُحدث عالي الْإِسْنَاد.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَانِينَ وَسنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا توفّي الْملك الْمُؤَيد إِبْرَاهِيم بن مَسْعُود بن مَحْمُود بن سبكتكين صَاحب غزنة وَكَانَ ملكه سنة إِحْدَى وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة، كَانَ حسن السِّيرَة حازماً، وَملك بعده ابْنه مَسْعُود زوج بنت السُّلْطَان ملكشاه.
وفيهَا: جمع أقسنقر صَاحب حلب عساكره وَسَار إِلَى قلعة شيزر، وصاحبها نصر بن عَليّ بن منقذ وضيق عَلَيْهِ وَنهب الربض ثمَّ صَالحه ابْن منقذ فَعَاد عَنهُ.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا سَار السُّلْطَان بجيوش لَا تحصى وَعبر جيحون إِلَى بخارا، وَملك مَا على طَرِيقه من الْبِلَاد، ثمَّ ملك بخارا ثمَّ سَمَرْقَنْد، وَأسر صَاحبهَا أَحْمد خَان وأكرمه، ثمَّ سَار إِلَى كاشغر فَبلغ إِلَى يوزكند وَأرْسل إِلَى ملك كاشغر يَأْمُرهُ بِالْخطْبَةِ وَالسِّكَّة لَهُ فَأجَاب وَحضر إِلَيْهِ فَعَظمهُ وَأَعَادَهُ إِلَى ملكه وَعَاد إِلَى خُرَاسَان.
وفيهَا عمرت مَنَارَة جَامع حلب: قَامَ بعملها القَاضِي أَبُو الْحسن بن الخشاب، وَكَانَ بحلب بَيت نَار قديم ثمَّ صَار أتون حمام فَبنى بحجارته المأذنة فسعى بِهِ إِلَى أقسنقر وَقيل هَذِه الْحِجَارَة لبيت المَال فَأحْضرهُ أقسنقر وحدثه فِي ذَلِك، فَقَالَ ابْن الخشاب: يَا مَوْلَانَا إِنِّي عملت بِهَذِهِ الْحِجَارَة معبدًا للْمُسلمين وكتبت عَلَيْهِ اسْمك فَإِن رسمت غرمت ثمنهَا فَأَجَابَهُ أقسنقر إِلَى إتْمَام ذَلِك وَلَا يغرم شَيْئا.
وفيهَا: توفّي عَاصِم بن مُحَمَّد الْحسن الْبَغْدَادِيّ الْكَرْخِي مطبوع كيس حسن النّظم، فَمِنْهُ:
(مَاذَا على متلون الْأَخْلَاق ... لَو زارني فأبثه أشواقي)

(وأبوح بالشكوى إِلَيْهِ تذللاً ... وأفض ختم الدمع من آماقي)

(أسر الْفُؤَاد وَلم يرق لموثق ... مَا ضره لَو من بِالْإِطْلَاقِ)

(2/4)


(إِن كَانَ قد لسبت عقارب صُدْغه ... قلبِي فَإِن رضابه درياقي)

ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا توفّي فَخر الدولة أَبُو نصر مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن جهير بالموصل فِي الْمحرم ومولده بالموصل سنة ثَمَان وَتِسْعين وثلاثمائة وتنقل فخدم بركَة بن الْمُقَلّد حَتَّى قبض على أَخِيه قرواش ثمَّ وزر لمعز الدولة ثَمَان بن صَالح بن مرداس، ثمَّ وزر لنصر الدولة أَحْمد بن مَرْوَان صَاحب ديار بكر، ثمَّ لوَلَده ثمَّ وزر للخليفة بِبَغْدَاد ثمَّ صَار مَعَ السُّلْطَان ملكشاه فَأخذ لَهُ ديار بكر من بني مَرْوَان.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا تولى عميد الدولة بن فَخر الدولة بن جهير وزارة الْخَلِيفَة الْمُقْتَدِي.
وفيهَا: ملك عَسْكَر أَمِير الْمُسلمين وأميرهم شير بن أبي بكر مرسية من صَاحبهَا أبي عبد الله بن طَاهِر ثمَّ شاطبة ودانية ثمَّ بلنسية وَقد أخلتها الفرنج وعمرها الْعَسْكَر ثمَّ حصروا أشبيلية وَبهَا صَاحبهَا الْمُعْتَمد بن عباد فملكوها أَيْضا وَأَرْسلُوا صَاحبهَا إِلَى أَمِير الْمُسلمين فحبسه بأغمات حَتَّى مَاتَ، ثمَّ ملكوا بطليوس من صَاحبهَا عمر بن الْأَفْطَس وَقتلُوا عمر بن الْأَفْطَس وابنيه الْفضل وَالْعَبَّاس صبرا وَلم يتْركُوا من مُلُوك الأندلس سوى بِلَاد بني هود فَإِن صَاحبهَا المستعين بِاللَّه كَانَ يهادي أَمِير الْمُسلمين يُوسُف بن تاشفين فرعاه لذَلِك حَتَّى أَنه أوصى ابْنه عَليّ بن يُوسُف عِنْد مَوته بترك التَّعَرُّض إِلَى بِلَاد بني هود.
وفيهَا: ملك رجاز ملك الفرنج جَمِيع بِلَاد صقلية، وَمَات رجاز قبل سنة تسعين وَتَوَلَّى ابْنه وسلك طَريقَة مُلُوك الْمُسلمين فِي الجنائب والحجاب وَغير ذَلِك، وأسكن فِي الجزيرة الفرنج مَعَ الْمُسلمين وَأكْرم الْمُسلمين وقربهم.
وفيهَا: فِي رَمَضَان وصل السُّلْطَان ملكشاه إِلَى بَغْدَاد وَوصل إِلَيْهِ أَخُوهُ تتش من دمشق وأقسنقر من حلب وَغَيرهم واحتفل هُوَ وَالنَّاس بالميلاد بِبَغْدَاد وَوصف الشُّعَرَاء تِلْكَ اللَّيْلَة فَأَكْثرُوا.
وفيهَا: أَمر ملكشاه بِعَمَل الْجَامِع الْمَعْرُوف بِجَامِع السُّلْطَان بِبَغْدَاد وَعمل قبلته بهْرَام منجمه، وَغَيره من أَصْحَاب الرصد، وابتدأ وامرأؤه بِعَمَل مسَاكِن لينزلوها إِذا قَامُوا فَتَفَرَّقُوا عَن قريب قتلا وموتاً.
وفيهَا: توفّي الْأَمِير أرتق بن أكسك التركماني جد أَصْحَاب ماردين مَالِكًا للقدس مُنْذُ قدم إِلَى تتش كَمَا مر واستقرت الْقُدس لِوَلَدَيْهِ إبل غَازِي وسقمان ابْني أرتق إِلَى أَن أَخذهَا مِنْهُمَا الْأَفْضَل أَمِير الجيوش فسارا إِلَى الشرق.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا نزل أقسنقر مساعداً تتش بِأَمْر ملكشاه على حمص فَملك تتش حمص وَأمْسك صَاحبهَا خلف بن ملاعب وولديه ثمَّ ملك تتش عرقة ثمَّ أفامية.

(2/5)


وفيهَا: فِي رَمَضَان بِالْقربِ من نهاوند وَقد انْصَرف نظام الْملك من عِنْد ملكشاه إِلَى خيمة حرمه وثب على نظام الْملك صبي ديلمي فِي صُورَة مستعط وضربه بسكين فَقضى عَلَيْهِ بتدبير من ملكشاه، ثمَّ قتل الصَّبِي، وَذَلِكَ بعد وَحْشَة بَين ملكشاه وَبَين نظام الْملك، فَركب السُّلْطَان وَسكن شوشة الْعَسْكَر ومولده سنة ثَمَان وَأَرْبَعمِائَة.
وَمَات ملكشاه بعده بِخَمْسَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا بِبَغْدَاد، وَكَانَت أَيَّام ملكشاه أَيَّام عدل، بنى الْجَامِع الْمَذْكُور، وَعمل المصانع بطرِيق مَكَّة، وَكَانَ يتَصَدَّق بِعَدَد كل وَحش يصيده بِدِينَار.
وَأما نظام الْملك فَإِنَّهُ كَانَ من أَبنَاء الدهاقين بطوس مَاتَت أمه فَكَانَ أَبوهُ يطوف بِهِ على المراضع فيرضعنه حسبَة.
ثمَّ نَشأ وَتعلم الْعَرَبيَّة واشتغل بِالْأَعْمَالِ السُّلْطَانِيَّة وَعلا حَتَّى وزر لطغرل بك وَلما ملك ألب أرسلان كَانَ نظام الْملك مَعَ ابْنه ملكشاه إِلَى أَن ملك ملكشاه فَبلغ مَا لم يبلغهُ وَزِير وَقرب الْعلمَاء وَبنى مدارس الْأَمْصَار وَأسْقط المكوس وَحمى الأشعرية من اللَّعْن الَّذِي أَمر بِهِ عميد الْملك الْكِنْدِيّ، وأوصافه حَسَنَة رَحمَه الله تَعَالَى.
" وَلما مَاتَ ملكشاه " أخفت زَوجته ترْكَان خاتون مَوته وَفرقت الْأَمْوَال فِي الْأُمَرَاء وسارت بهم إِلَى أصفهان واستحلفتهم لولدها مَحْمُود وعمره أَربع سِنِين وشهور، وخطب لَهُ بِبَغْدَاد وَغَيرهَا ودبر الْأَمر بَين يَديهَا تَاج الْملك وَأما أَخُوهُ بركيا روق فهرب من أصفهان خوفًا من ترْكَان خاتون وانضم إِلَيْهِ النظامية بغضاً لتاج الدولة لسعيه فِي قتل نظام الْملك فَأرْسلت عسكراً إِلَى بركيا روق النظامية فَاقْتَتلُوا قرب يزدجرد فَانْهَزَمَ عسكرها وتبعهم بركيا روق وحصرهم بأصفهان وَأخذ تَاج الْملك من عَسْكَر الخاتون أَسِيرًا وَأَرَادَ الْإِحْسَان إِلَيْهِ فَقتله النظامية.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا خرج الْحُسَيْن بن نظام الْملك إِلَى بركيا روق وَهُوَ محاصر أصفهان فاستوزره ولقبه عز الْملك وفيهَا طلب تتش السلطنة بعد أَخِيه ملكشاه وَاتفقَ مَعَه أقسنقر صَاحب حلب، وخطب لَهُ ياغي سِنَان صَاحب أنطاكية وبوزان صَاحب الرها وَفتح مَعَه أقسنقر نَصِيبين عنْوَة، وَملك الْموصل وقاتله إِبْرَاهِيم بن قُرَيْش أَخُو مُسلم فَأسر إِبْرَاهِيم وَجَمَاعَة من أُمَرَاء الْعَرَب وقتلهم صبرا، واستناب على الْموصل عَليّ بن مُسلم بن قُرَيْش وَأمه ضيفة عمَّة تتش وَطلب الْخطْبَة لَهُ بِبَغْدَاد فتوقفوا عَنْهَا ثمَّ سَار فاستولى على ديار بكر وَسَار إِلَى أذربيجان وَكَانَ بركيا روق قد استولى على كثير مِنْهَا فَسَار بركيا روق إِلَى عَمه تتش ليمنعه فخلى أقسنقر تتش وَلحق بركيا روق فضعف تتش لذَلِك وَعَاد إِلَى الشَّام وفيهَا ملك عَسْكَر الْمُسْتَنْصر الْعلوِي صور.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا فِي رَابِع عشر الْمحرم خطب لبركيا روق بِبَغْدَاد.
وفيهَا: توفّي الْخَلِيفَة الْمُقْتَدِي بِأَمْر الله أَبُو الْقَاسِم بن مُحَمَّد الذَّخِيرَة بن الْقَاسِم فَجْأَة وعمره

(2/6)


ثَمَان ثَلَاثُونَ سنة وَثَمَانِية أشهر وَأَيَّام، وخلافته تسع عشرَة سنة وَثَمَانِية أشهر، وَأدْركت أمه أرجوان خِلَافَته وخلافه المستظهر بِاللَّه ابْنه، وَخِلَافَة المسترشد بِاللَّه ابْن ابْنه وَكَانَ الْمُقْتَدِي قوي النَّفس عَظِيم الهمة، وَكَانَ بركيا روق لما توفّي الْمُقْتَدِي بِبَغْدَاد فَبَايع " للمستظهر بِاللَّه " أبي الْعَبَّاس أَحْمد وَهُوَ ثامن عشرهم، وعمره إِذن سِتّ عشرَة سنة وشهران.
" مقتل أقسنقر ": لما عَاد تتش من أذربيجان أَكثر الجموع وَجمع أقسنقر وأمده بركيا روق بالأمير كربغا وقاتلوا تتش عِنْد نهر سبعين قَرِيبا من تل سُلْطَان عَن حلب سِتَّة فراسخ فَصَارَ بعض عَسْكَر أقسنقر مَعَ تتش وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ وَثَبت أقسنقر، فَأسر فَقَالَ لَهُ تتش: لَو ظَفرت بِي مَا كنت صنعت؟ قَالَ: كنت أَقْتلك فَقتله صبرا وَسَار إِلَى حلب فملكها وَأسر بوزان وَقَتله وَأسر كربغا وأرسله إِلَى حمص وسجنه بهَا، وَاسْتولى على حران والرها ثمَّ على الْبِلَاد الجزرية وديار بكر وخلاط وَسَار إِلَى أذربيجان فملكها ثمَّ هَمدَان وَأرْسل يطْلب الْخطْبَة بِبَغْدَاد فَأُجِيب وَبلغ بركيا روق اسْتِيلَاء عَمه على أذربيجان فَسَار إِلَى إربل وَمِنْهَا إِلَى بلد سرخاب بن بدر الْكرْدِي إِلَى أَن أقرب من عَسْكَر عَمه تتش وَلم يكن مَعَ بركيا روق غير ألف رجل وَمَعَ عَمه خَمْسُونَ ألفا فكبست فرقة مِنْهُم بركيا روق فهرب إِلَى أَصْبَهَان وَكَانَت ترْكَان خاتون قد مَاتَت فَدخل أَصْبَهَان وَبهَا أَخُوهُ مَحْمُود فاحتاط عَلَيْهِ جمَاعَة من عَسْكَر مَحْمُود وَأَرَادُوا أَن يسلموه فلحق مَحْمُودًا جدري مَاتَ مِنْهُ سلخ شَوَّال مِنْهَا فَفرج الله بذلك لبركيا روق، ثمَّ جدر بركيا روق وعوفي وَاجْتمعت عَلَيْهِ العساكر.
وفيهَا: توفّي بِمصْر أَمِير الجيوش بدر الجمالي وَقد جَاوز الثَّمَانِينَ، وَقَامَ بعد فِي الرُّجُوع إِلَى قَوْله بِمصْر ابْنه الْأَفْضَل.
وفيهَا ثامن ذِي الْحجَّة توفّي " الْمُسْتَنْصر بِاللَّه " أَبُو تَمِيم معد بن أبي الْحسن عَليّ بن الظَّاهِر بن الْحَاكِم وخلافته سِتُّونَ سنة وَأَرْبَعَة أشهر وعمره سبع وَسِتُّونَ وَلَقي شَدَائِد أخرج فِيهَا أَمْوَاله إِلَّا سجادة يجلس عَلَيْهَا وَهُوَ صابر وَولي بعده ابْنه أَبُو الْقَاسِم أَحْمد المستعلي بِاللَّه.
وفيهَا: توفّي أَمِير مَكَّة مُحَمَّد بن أبي هَاشم الْحُسَيْنِي وَقد جَاوز سبعين سنة وتولاها بعده ابْنه قَاسم بن أبي هَاشم.
وفيهَا: فِي رَمَضَان توفيت ترْكَان خاتون زَوْجَة ملكشاه وَلم يكن بَقِي مَعهَا غير قَصَبَة أَصْبَهَان.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا نَهَضَ القواد بسمرقند وقبضوا ملكهم أَحْمد خَان وَأَقَامُوا خصوماً ادعوا عَلَيْهِ عِنْد الْقُضَاة بالزندقة فَأنْكر فَشهد عَلَيْهِ بذلك جمع فأفتوا بقتْله فخنق وَجلسَ ابْن عَمه مَسْعُود مَكَانَهُ.
وفيهَا: سَار بركيا روق لما عوفي من الجدري بالعساكرمن أَصْبَهَان إِلَى عَمه تتش واقتتلوا قرب الرّيّ فَانْهَزَمَ عَسْكَر تتش وَثَبت هُوَ فَقتل فِي صفر مِنْهَا، واستقامت السلطنة لبركيا روق وَالله يحكم لَا معقب لحكمه.

(2/7)


" فَأَما رضوَان " بن تتش فَبَلغهُ قتل أَبِيه قرب هيت مُتَوَجها للاستيلاء على الْعرَاق فَرجع إِلَى حلب وَبهَا من جِهَة وَالِده أَبُو الْقسم حسن بن عَليّ الْخَوَارِزْمِيّ، ولحقه جمَاعَة من قواد أَبِيه ثمَّ لحقه بحلب أَخُوهُ دقاق وَكَانَ حَاضرا مقتل أَبِيه وَكَانَ مَعَ رضوَان أَيْضا أَخَوَاهُ الصغيران أَبُو طَالب وبهرام وَكلهمْ مَعَ أبي الْقسم الْخَوَارِزْمِيّ كالضيوف وَهُوَ المستولي على الْبَلَد، ثمَّ كبس رضوَان أَبَا الْقسم الْخَوَارِزْمِيّ لَيْلًا واحتاط عَلَيْهِ وَطيب قلبه وخطب لرضوان بحلب وَكَانَ مَعَ رضوَان ياغي سِنَان بن مُحَمَّد التركماني صَاحب أنطاكية، ثمَّ سَار رضوَان بِمن مَعَه إِلَى ديار بكر للاستيلاء عَلَيْهَا وَقصد سروج فسبقه إِلَيْهَا سقمان بن أرتق وَمنع رضوَان عَنْهَا فَسَار رضوَان فاستولى على الرها وَأطلق قلعتها لياغي سِنَان الْمَذْكُور، ثمَّ اخْتلف عَسْكَر رضوَان بَين ياغي سِنَان وَجَنَاح الدولة وَكَانَ جنَاح الدولة زوج أم رضوَان من أكبر القواد فَعَاد رضوَان إِلَى حلب وَسَار ياغي سِنَان إِلَى أنطاكية وَمَعَهُ أَبُو الْقسم الْخَوَارِزْمِيّ وَدخل حلب، وَأما دقاق فكاتبه ساوتكين الْخَادِم الْوَالِي بقلعة دمشق يستدعيه سرا ليملكه دمشق، فجد دقاق فِي السّير إِلَيْهِ سرا فملكه دمشق وَوصل إِلَيْهِ طغتكين فِي جمَاعَة من خَواص تتش كَانَ طغتكين مَعَ تتش فِي الْوَقْعَة وَأسر ثمَّ خلص فَأكْرمه دقاق لكَونه زوج أمه ثمَّ قتل دقاق وطغتكين ساوتكين الْخَادِم ثمَّ جَاءَهُم ياغي سِنَان من أنطاكية وَمَعَهُ أَبُو الْقَاسِم الْخَوَارِزْمِيّ فَجعله وزيراً لدقاق.
وفيهَا: توفّي الْمُعْتَمد بن عباد صَاحب أشبيلة وَغَيرهَا من الأندلس مسجوناً بأغمات دخل عَلَيْهِ فِي السجْن بنوه وَبنَاته يهنونه يَوْم عيد وعَلى بَنَاته أطمار كَأَنَّهَا كسوف وَهن أقمار وأقدامهن حافية وآثار نعمتهن عَافِيَة، فَقَالَ الْمُعْتَمد:
(فِيمَا مضى كنت بالأعياد مَسْرُورا ... فجاءك الْعِيد فِي أغمات مأسوراً)

(ترى بناتك فِي الأطمار جائعة ... يغزلن للنَّاس مَا يملكن قطميراً)

(يطأن فِي الطين والأقدام حافية ... كَأَنَّهَا لم تطَأ مسكاً وكافوراً)

(قد كَانَ دهرك إِن تَأمره ممتثلاً ... فردك الدَّهْر مَنْهِيّا ومأموراً)

(من بَات بعْدك فِي ملك يسر بِهِ ... فَإِنَّمَا بَات بالأحلام مغروراً)

وَللَّه قَول أبي بكر بن اللبانة يرثيه بقصيدة مِنْهَا:
(لكل شَيْء من الْأَشْيَاء مِيقَات ... وللمنى من مناياهن غايات)

(والدهر فِي صفة الحرباء منغمس ... ألوان حالاته فِيهَا استحالات)

(وَنحن من لعب الشطرنج فِي يَده ... وَرُبمَا قمرت بالبيدق الشَّاة)

(من كَانَ بَين الندى والبأس أنصله ... هندية وعطاياه هنيدات)

(رَمَاه من حَيْثُ لم تستره سابغة ... دهر مصيباته نبل مصيبات)

(لهفي على آل عباد فَإِنَّهُم ... أهلة مَا لَهَا فِي الْأُفق هالات)

(تمسكت بعرى اللَّذَّات ذاتهم ... يَا بئس مَا جنت اللَّذَّات والذات)

(2/8)


(فجعت مِنْهَا بِإِخْوَان ذَوي ثِقَة ... فَأتوا وللدهر فِي الإخوان آفَات)

(واعتضت فِي آخر الصَّحرَاء طَائِفَة ... لغاتهم فِي جَمِيع الْكتب ملغاة)

يَعْنِي البربر ابْن تاشفين وَعَسْكَره.
وفيهَا: ترك الْغَزالِيّ تدريس النظامية لِأَخِيهِ وتزهد وَقصد الشَّام والقدس ثمَّ عَاد.
وفيهَا: توفّي أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي نصر فتوح بن عبد الله بن حميد الْحميدِي الأندلسي من ميورقة مُصَنف الْجمع بَين الصَّحِيحَيْنِ ثِقَة فَاضل مولده قبل عشْرين وَأَرْبَعمِائَة سمع بالمغرب ومصر وَالشَّام وَالْعراق وَكَانَ نزهاً.
وفيهَا: توفّي عَليّ بن عبد الْغَنِيّ الْمقري الضَّرِير الحضري القيرواني الشَّاعِر مدح الْمُعْتَمد وَغَيره، وَتُوفِّي بطنجة، وَله من قصيدة:
(يَا ليل الصب مَتى غده ... أقيام السَّاعَة موعده)

(رقد السَّمَاء فَأَرقهُ ... أَسف للبين يردده)

(هاروت يعنعن فن السحر ... إِلَى عَيْنَيْك ويسنده)

(وَإِذا أغمدت اللحظ قتلت ... فَكيف وَأَنت تجرده)

ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة.
ذكر ملك كربوغا الْموصل

كَانَ تتش قد حبس كربوغاً بحمص لما قتل أقسنقر وَاسْتمرّ حَتَّى أرسل بركيا روق يَأْمر رضوَان صَاحب حلب بِإِطْلَاقِهِ فَأَطْلقهُ وَأطلق أَخَاهُ التونتاش، وَاجْتمعَ على كروغا البطالون وَقصد نَصِيبين، وَبهَا شرف الدولة مُحَمَّد بن مُسلم بن قُرَيْش فطلع مُحَمَّد إِلَى كربوغا واستحلفه ثمَّ غدر بِهِ كربوغا وَقبض عَلَيْهِ وَملك نَصِيبين وَقصد الْموصل، وَقتل فِي طَرِيقه مُحَمَّد بن مُسلم بن قُرَيْش الْمُسِيء وَحصر الْموصل وَبهَا عَليّ بن مُسلم أَخُو مُحَمَّد من حِين استنابه بهَا تتش فهرب عَليّ إِلَى صدقه بن مزِيد بالحلة، وتسلم كربوغا الْموصل بعد حِصَار تِسْعَة أشهر، ثمَّ قتل كربوغاً أَخَاهُ التونتاش ثَالِث يَوْم أَخذ الْموصل، وَأحسن كربوغاً السِّيرَة فِيهَا.
وفيهَا: استولى عَسْكَر خَليفَة مصر على الْقُدس فِي شعْبَان من إيل غَازِي، وسقمان ابْني أرتق.
ثمَّ دخلت سنة تسعين وَأَرْبَعمِائَة مقتل أرسلان أرغون: كَانَ للسُّلْطَان ملكشاه أَخ اسْمه أرسلان أرغون فَسَار بعد موت ملكشاه وَاسْتولى على خُرَاسَان وَكَانَ مهيباً، فَدخل عَلَيْهِ غُلَام لَهُ خَالِيا فَأنْكر عَلَيْهِ تَأَخره عَن الْخدمَة، فَاعْتَذر الْغُلَام فَلم يقبل عذره فَوَثَبَ على أرسلان أرغون فَقتله بسكين فِي الْمحرم مِنْهَا فَسَار بركيا روق فاستولى على خُرَاسَان وأقيمت لَهُ الْخطْبَة وَرَاء النَّهر وَسلم خُرَاسَان إِلَى أَخِيه السُّلْطَان سنجر بن ملكشاه وَجعل وزيره أَبَا الْفَتْح عَليّ بن الْحُسَيْن الطغرائي.
" ابْتِدَاء دولة بَيت خوارزم شاه ": أَوَّلهمْ مُحَمَّد خوارزم شاه بن أنوش تكين كَانَ أنوش

(2/9)


تكين مَمْلُوكا لرجل من غرشستان وَلذَلِك قيل لَهُ أنوش تكين غرشه فَاشْتَرَاهُ بلكابك أَمِير من السلجوقية فعلا أنوش تكين بِحسن طَرِيقَته وَصَارَ مقدما وَولد لَهُ خوارزم شاه، وَنَشَأ عَارِفًا أديباً، وَتقدم بالعناية الأزلية، فَلَمَّا قدم الْأَمِير داذ الحبشي إِلَى خُرَاسَان وَهُوَ من أُمَرَاء بركيا روق، كَانَ قد أرْسلهُ بركيا روق لصلاح خُرَاسَان من فتْنَة من الأتراك قتل فِيهَا نَائِب خوارزم، فسكن داذ الْفِتْنَة وَاسْتعْمل مُحَمَّد بن أنوش تكين على خوارزم ولقبه خوارزم شاه، فصرف مُحَمَّد همته إِلَى معدلة ينشرها ومكرمه يَفْعَلهَا، وَقرب أهل الْعلم وَالدّين، فَعظم ذكره وَأقرهُ السُّلْطَان سنجر على خوارزم، وَعظم عِنْده، ثمَّ ولي بعده ابْنه أتسز فَأَفَاضَ الْعدْل، وفيهَا سَار رضوَان من حلب ليَأْخُذ دمشق من ابْن أَخِيه دقاق، وَمَعَهُ ياغي سِنَان صَاحب أنطاكية، وَجَنَاح الدولة فَلم ينالوا من دمشق غَرضا وارتحل رضوَان إِلَى الْقُدس فَلم يملكهَا وتراجعت عساكره فَرجع إِلَى حلب ثمَّ سَار ياغي سِنَان عَن رضوَان إِلَى دقاق، وَحسن لَهُ قصد أَخِيه رضوَان وَأخذ حلب مِنْهُ فَالْتَقَيَا على قنسرين فَانْهَزَمَ دقاق وَعَسْكَره وَعَاد رضوَان منصوراً، ثمَّ اتفقَا على أَن يخْطب لرضوان بِدِمَشْق قبل دقاق.
وفيهَا: خطب الْملك رضوَان للمستعلي بِأَمْر الله الْعلوِي بِمصْر أَربع جمع ثمَّ قطعهَا وَأعَاد الْخطْبَة العباسية خوف الْعَاقِبَة.
وفيهَا: قتلت الباطنية أرغش النظامي بِالريِّ، وَكَانَ قد عظم حَتَّى تزوج بنت ياقوتي عَم بركيا روق.
وفيهَا: قتلت الباطنية أَيْضا الْأَمِير برسق من أَصْحَاب طغرل بك أول شجنة السلجوقية بِبَغْدَاد.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا حصر الفرنج أنطاكية لسبعة أشهر وَظهر لياغي سِنَان شجاعة عَظِيمَة ثمَّ هجموها عنْوَة وَخرج ياغي سِنَان لَيْلًا مَرْعُوبًا فَلَمَّا أصبح ووعى على نَفسه أَخذ يتلهف على أَهله وَالْمُسْلِمين، وغشى عَلَيْهِ حَتَّى عجز عَن الرّكُوب فَتَرَكُوهُ وَمر بِهِ أرمني يقطع الْخشب فَقطع رَأسه وَحمله إِلَى الفرنج بأنطاكية، وَوضع الفرنج السَّيْف فِي أنطاكية فِي الْمُسلمين ونهبوا وَبلغ كربوغاً صَاحب الْموصل فعل الفرنج بأنطاكية فَجمع عسكره وَسَار إِلَى مرج دابق وجاءه دقاق من دمشق وطغتكين أتابك وجناج الدولة صَاحب حمص زوج أم رضوَان فَارق رضوَان وَملك حمص وَغَيرهم من الْأُمَرَاء وَالْعرب، ثمَّ حصروا أنطاكية والفرنج بهَا فطلبوا من كربوغا أَن يُطْلِقهُمْ، فَامْتنعَ ثمَّ أَسَاءَ كربوغا السِّيرَة فِيمَن اجْتمع مَعَه وتكبر فخبثت نياتهم لَهُ وضاق الْأَمر بالفرنج وَقل قوتهم فَخَرجُوا من أنطاكية وقاتلوا الْمُسلمين فهرب الْمُسلمُونَ وتقوت الفرنج بالقوت وَالسِّلَاح وَسَار الفرنج إِلَى المعرة فاستولوا عَلَيْهَا فَقتلُوا فِيهَا مَا يزِيد على مائَة ألف إِنْسَان وَسبوا وَأَقَامُوا بالمعرة أَرْبَعِينَ يَوْمًا.
قلت: وَفِي ذَلِك يَقُول بعض المعربين وَمَا أحسن مَا جَاءَت تورية الْإِثْنَيْنِ وَالْخَمِيس والأحد.

(2/10)


(معرة الأذكياء قد حردت ... عَنَّا وَحقّ المليحة الحرد)

(فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ كَانَ موعدهم ... فَمَا نجى من خميسهم أحد)

وَالله أعلم، ثمَّ سَارُوا فَصَالحهُمْ أهل حمص.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة.
ذكر ملك الفرنج بَيت الْمُقَدّس

كَانَ تتش قد أقطع بَيت الْمُقَدّس للأمير أرتق ثمَّ لِوَلَدَيْهِ إيلغازي وسقمان إِلَى أَن استولى عَلَيْهَا عَسْكَر خَليفَة مصر بالأمان سنة تسع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة فَسَار سقمان وإيلغازي فَأَقَامَ سقمان بِبَلَد الرها وإيلغازي بالعراق، وَاسْتمرّ الْقُدس للمصريين إِلَى أَن حصره الفرنج نيفاً وَأَرْبَعين يَوْمًا وملكوه يَوْم الْجُمُعَة لسبع بَقينَ من شعْبَان من هَذِه السّنة، وَقتل الفرنج فِي الْمُسلمين أسبوعاً، وَقتلُوا فِي الْمَسْجِد الْأَقْصَى فَوق سبعين ألفا فيهم أَئِمَّة وعلماء وَعباد وزهاد مِمَّن جاور لشرف الْموضع، وغنموا مَا لَا يحصر وَاخْتلف الْمُلُوك السلجوقية فَتمكن الفرنج من الْبِلَاد وللمظفر الأبيوردي فِي ذَلِك شعر مِنْهُ:
(مزجنا دِمَاء بالدموع السواجم ... فَلم تبْق منا عرضة للمراجم)

(وَكَيف تنام الْعين ملْء جفونها ... على هبوات أيقظت كل نَائِم)

(وَإِخْوَانكُمْ بِالشَّام يضحى مقيلهم ... ظُهُور المذاكي أَو بطُون القشاعم)

(تسومهم الرّوم الهوان وَأَنْتُم ... تجرون ذيل الْخَفْض فعل المسالم)

(وَكم من دِمَاء قد أبيحت وَمن دمي ... توارى حَيَاء حسنها بالمعاصم)

(أنرضى صَنَادِيد الأعاريب بالأذى ... وتقضى على ذَلِك كماة الْأَعَاجِم)

(فليتهم إِذْ لم يذودوا حمية ... عَن الدّين ضنوا غيرَة بالمحارم)

وفيهَا: قصد مُحَمَّد بن ملكشاه أَخَاهُ لِأَبِيهِ بركيا روق بِالريِّ فَسَار عَنهُ بركيا روق فَوجدَ مُحَمَّد بن زبيدة خاتون أم أَخِيه بركيا روق فَأخذ خطها بِمَال ثمَّ خنقها وَاجْتمعَ إِلَيْهِ هركواس شحنة بَغْدَاد وكربوغا صَاحب الْموصل، وَطلب الْخطْبَة بِبَغْدَاد فَخَطب لَهُ بهَا سَابِع عشر ذِي الْحجَّة مِنْهَا.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا دخل بركيا روق بَغْدَاد وَأعَاد الْخطْبَة لَهُ فِي صفر، ثمَّ قَاتل أَخَاهُ مُحَمَّدًا رَابِع رَجَب عِنْد النَّهر الْأَبْيَض قرب هَمدَان، فَانْهَزَمَ بركيا روق وَأعَاد مُحَمَّد الْخطْبَة لَهُ بِبَغْدَاد، وَسَار بركيا روق إِلَى الرّيّ وَقصد بجماعته خُرَاسَان وَاجْتمعَ مَعَ الْأَمِير داذ واقتتل مَعَ أَخِيه سنجر فَانْهَزَمَ بركيا روق إِلَى جرجان ثمَّ دامغان.
وفيهَا: جمع ابْن الدانشمند أَي معلم التركمان وَهُوَ كمشتكين بن طيلو صَاحب ملطية وسيواس وأوقع بالفرنج قرب ملطية وَأسر ملكهم.
وفيهَا: توفّي أَبُو عِيسَى يحيى بن عِيسَى بن جزلة الطَّبِيب صَاحب الْمِنْهَاج فِي الْمُفْردَات كَانَ نَصْرَانِيّا فَأسلم، ورد فِي رسَالَته على النَّصَارَى وَبَين عوار مَذْهَبهم وَأقَام

(2/11)


الْحجَّة على الدّين الْحق وَذكر فِيهَا النُّصُوص من التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل فِي ظُهُور النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَله كتاب تَقْوِيم الْأَبدَان وَغَيره، ووقف كتبه وَجعلهَا فِي مشْهد أبي حنيفَة.
ابْتِدَاء دولة بني شاهر من مُلُوك خلاط

فِيهَا استولى سقمان القطبي التركي وَيُسمى سكمان على خلاط كَانَ مَمْلُوكا لإسماعيل صَاحب مَدِينَة مرند من أذربيجان، ولقب إِسْمَاعِيل قطب الدّين وَكَانَ من بنير سلجوق، وَلذَلِك قيل لسكمان القطبي، وَنَشَأ سكمان شهماً كَافِيا، وَكَانَت خلاط لبني مَرْوَان وظلموا واشتهر عدل سقمان، فاتفق أهل خلاط وكاتبوه فجَاء وفتحوها لَهُ وسلموها إِلَيْهَا، وَاسْتمرّ بهَا حَتَّى توفّي سنة سِتّ وَخَمْسمِائة وملكها بعده ابْنه ظهير الدّين إِبْرَاهِيم.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة: ثمَّ إِن بركيا روق بعد هزيمته الْمَذْكُورَة من إخْوَته اجْتمع عَلَيْهِ أَصْحَابه بخوزستان، ثمَّ أَتَى عَسْكَر مكرم فَكثر جمعه ثمَّ سَار إِلَى هَمدَان فلحق بِهِ الْأَمِير إياز فِي خَمْسَة آلَاف فَارس، ثمَّ قَاتل أَخَاهُ مُحَمَّدًا فِي ثَالِث جُمَادَى مِنْهَا طول النَّهَار فَانْهَزَمَ مُحَمَّد وَعَسْكَره وَأسر مؤيد الْملك بن نظام الْملك وَزِير مُحَمَّد فعاقبه على فعله بوالدته، وَقَتله بِيَدِهِ. وَعمر مؤيد الْملك خَمْسُونَ سنة تَقْرِيبًا، ثمَّ سَار بركيا روق إِلَى الرّيّ، وَأما مُحَمَّد فقصد خُرَاسَان وَجمع مَعَ أَخِيه سنجر الجموع وتحالفا وقصدا بركيا روق بِالريِّ فَسَار بركيا روق إِلَى بَغْدَاد وَضَاقَتْ أَمْوَاله فَطلب من الْخَلِيفَة مَالا فَحمل إِلَيْهِ خمسين ألف دِينَار، وَمد يَده فِي مَال الرّعية وَمرض مَرضا شَدِيدا، وَأما مُحَمَّد وسنجر فاستوليا على بِلَاد أخيهما بركيا روق، ثمَّ دخلا بَغْدَاد وَهُوَ مَرِيض قد أيس مِنْهُ فَسَار إِلَى جِهَة وَاسِط وَوصل السُّلْطَان مُحَمَّد وسنجر بَغْدَاد فَشَكا إِلَيْهِمَا الْخَلِيفَة المستظهر سوء سيرة بركيا روق وخطب لمُحَمد ثمَّ كَانَ مَا سَيذكرُ.
ملك ابْن عمار مَدِينَة جبلة

كَانَ القَاضِي أَبُو عبيد الله بن مَنْصُور عرف بِابْن صليحة قد استولى على جبلة وحاصره الفرنج فَأرْسل إِلَى طغتكين أتابك دقاق صَاحب دمشق يطْلب مِنْهُ من يتسلم مِنْهُ جبلة ويحفظها، فَأرْسل إِلَيْهَا طغتكين ابْنه تَاج الْملك بورى فتسلمها وأساء السِّيرَة، فكاتب أَهلهَا أَبَا عَليّ بن مُحَمَّد بن عمار صَاحب طرابلس فَأرْسل عسكراً فَاجْتمعُوا وقاتلوا بورى، فَانْهَزَمَ أَصْحَابه، وَملك ابْن عمار جبلة وَأسر بورى فَأحْسن إِلَيْهِ ابْن عمار وسيره إِلَى أَبِيه طغتكين، وَأما القَاضِي ابْن صليحة فقصد بأَهْله دمشق ثمَّ بَغْدَاد وَبهَا بركيا روق وَقد ضَاقَتْ يَده فَطلب من ابْن صليحة مَالا فَحمل إِلَيْهِ جملَة طائلة.
أَخْبَار الباطنية ... وهم الإسماعيلية

أول عظمهم بعد السُّلْطَان ملكشاه، وملكوا قلاعاً مِنْهَا قلعة أَصْبَهَان مستجدة بناها ملكشاه، وَسبب بنائها أَن كَلْبا هرب مِنْهُ فِي الصَّيْد وَمَعَهُ رَسُول الرّوم فَصَعدَ الْكَلْب إِلَى

(2/12)


مَوضِع القلعة فَقَالَ الرَّسُول: لَو كَانَ هَذَا الْموضع ببلادنا لبنينا عَلَيْهِ قلعة، فبناها السُّلْطَان وتواردت عَلَيْهَا النواب حَتَّى ملكهَا الباطنية وَعظم ضررهم بِسَبَبِهَا، كَانَ يُقَال قلعة يدل عَلَيْهَا كلب وَيُشِير بهَا كَافِر لَا بُد وَأَن يكون آخرهَا إِلَى شَرّ، وملكوا قلعة ألموت فِي نواحي قزوين أرسل بعض مُلُوك الديلم عقَابا فَنزل على مَوضِع ألموت فَرَآهُ حصيناً فبناه قلعة وسماها الراموت مَعْنَاهُ بِلِسَان الديلم تَعْلِيم الْعقَاب وَذَلِكَ الْموضع وَمَا يجاوره يُسمى طالقان، وَكَانَ الْحسن بن الصَّباح شهماً مهندساً حيسوباً ساحراً، وَطَاف الْبِلَاد ثمَّ استغوى أهل ألموت وَملكه وملكوا أَيْضا قلعة طبس وقهستان ثمَّ قلعة رستمكوه قرب أبهر سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة ثمَّ قلعة خالنجان على خَمْسَة فراسخ من أصفهان، ثمَّ قلعة أردهن ملكهَا أَبُو الْفتُوح ابْن أُخْت الْحسن بن الصَّباح وملكوه قلعة كرد كوه وقلعة الطنبور وقلعة حلاوخان بَين فَارس وخوزستان، وامتدوا إِلَى اغتيال الأكابر فَعظم صيتهم وخافهم النَّاس فتتبعهم بركيا روق وَقتل كل من عرف مِنْهُم.
وفيهَا ملك الفرنج سورج من ديار الجزيرة قتلا وسبياً وأرسوف بساحل عكا وقيسارية.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا " توفّي المستعلي " بِأَمْر الله أَبُو الْقَاسِم أَحْمد بن الْمُسْتَنْصر الْعلوِي خَليفَة مصر لسبع عشرَة خلت من صفر ومولده فِي الْعشْرين من شعْبَان سنة سبع وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة، وخلافته سبع سِنِين وَنَحْو شَهْرَيْن، كَانَ مُدبر دولته الْأَفْضَل بن بدر الجمالي.
وبويع لِابْنِهِ الْآمِر بِأَحْكَام الله أبي عَليّ الْمَنْصُور، وعمره خمس سِنِين وَشهر وَأَيَّام، وَقَامَ بتدبير دولته الْأَفْضَل بن بدر الجمالي.
وفيهَا: تقَابل بركيا روق وَأَخُوهُ مُحَمَّد عِنْد الرّيّ فِي جُمَادَى الأول وَهُوَ المصاف الرَّابِع، فَانْهَزَمَ مُحَمَّد، ونهبت خزانته وَمضى فِي نفر يسير إِلَى أَصْبَهَان ثمَّ سَار بركيا روق فحصر مُحَمَّدًا بأصبهان، وَعدم الْقُوت بهَا إِلَى عَاشر ذِي الْحجَّة فهرب مُحَمَّد مِنْهَا مستخفياً وحرض بركيا روق على تَحْصِيله فَلم يظفر بِهِ، ثمَّ سَار بركيا روق عَن أصفهان إِلَى هَمدَان فِي ثامن عشر ذِي الْحجَّة مِنْهَا.
" وفيهَا مَاتَ كربوغا " بخوى من أذربيجان بَعثه إِلَيْهَا بركيا روق وَاسْتولى على الْموصل مُوسَى التركماني عَامل كربوغا على حصن كيفا وَكَانَ شمس الدولة جكرمش التركي صَاحب جَزِيرَة ابْن عمر فقصد الْموصل وَاسْتولى على تصيبين فِي طَرِيقه فَخرج مُوسَى التركماني من الْموصل لقتاله فغدر بمُوسَى عسكره وصاروا مَعَ جكرمش، فَعَاد مُوسَى إِلَى الْموصل وحصره جكرمش بهَا طَويلا فاستعان مُوسَى بسقمان وَهُوَ فِي ديار بكر وَأَعْطَاهُ حصن كيفا فاستمر الْحصن لسقمان وَأَوْلَاده إِلَى آخر وَقت فَسَار سقمان إِلَيْهِ، فَرَحل جكرمش عَن الْموصل وَخرج مُوسَى ليلقى سقمان فَوَثَبَ على مُوسَى جمَاعَة من أَصْحَابه فَقَتَلُوهُ عِنْد قربَة

(2/13)


كواثا وَدفن على تل هُنَاكَ إِلَى الْآن يعرف بتل مُوسَى، وَرجع سقمان إِلَى حصن كيفا ثمَّ عَاد جكرمش صَاحب الجزيرة إِلَى الْموصل وحصرها ثمَّ تسلمها صلحا وَأحسن السِّيرَة فِيهَا.
وفيهَا: سَار صنجيل الفرنجي فِي جمع قَلِيل وَحصر حصن ابْن عمار بطرابلس، ثمَّ صولح على مَال حملوه إِلَيْهِ، ثمَّ فتح صنجيل أنطرسوس وَقتل بهَا الْمُسلمين، ثمَّ حصر حصن الأكراد فَجمع جنَاح الدولة صَاحب حمص الْعَسْكَر ليسير إِلَيْهِ، فَوَثَبَ باطني على جنَاح الدولة بالجامع فَقتله، وَبلغ ذَلِك صنجيل، فنازل حمص وَملك أَعمالهَا.
وفيهَا: قتل الْمُؤَيد بن مُسلم بن قُرَيْش أَمِير بني عقيل، قَتله بَنو نمير عِنْد هيت.
وفيهَا: توفّي مَنْظُور بن عمَارَة الْحُسَيْنِي أَمِير الْمَدِينَة، وَقَامَ ابْنه مقَامه، وهم من ولد المهنا.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة: فِي جُمَادَى الْآخِرَة كَانَ المصاف الْخَامِس بَين الْأَخَوَيْنِ بركيا روق وَمُحَمّد ابْني ملكشاه فَانْهَزَمَ عَسْكَر مُحَمَّد أَيْضا وَذَلِكَ على بَاب خوى، وَسَار بركيا روق إِلَى جبل كثير العشب فَأَقَامَ أَيَّامًا ثمَّ سَار إِلَى زنجان وَسَار مُحَمَّد إِلَى أرجيش على أَرْبَعِينَ فرسخاً من مَوضِع الْوَقْعَة من أَعمال خلاط ثمَّ سَار إِلَى خلاط.
وفيهَا: ملك دقاق بن تتش الرحبة وقررها وَعَاد إِلَى دمشق.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا استولى بلك بن بهْرَام بن أرتق وَهُوَ ابْن أخي سقمان وإيل غَازِي على عانة والحديثة من بني يعِيش بن عِيسَى بعد مَا ملك الفرنج مِنْهُ سروج.
وفيهَا: فِي صفر أغارت الفرنج على قلعة جعير والرقة فساقوا الْمَوَاشِي وأسروا من وجدوا، وَكَانَت الرقة وقلعة جعبر لسالم بن مَالك بن بدران سلمهَا إِلَيْهِ ملكشاه كَمَا مر لما تسلم مِنْهُ حلب.
وفيهَا: فِي ربيع الأول اصْطلحَ بركيا روق وَمُحَمّد بالتراسل وحلفا على أَن لَا يذكر بركيا روق فِي بِلَاد مُحَمَّد وَأَن تكون الْمُكَاتبَة بَين وزيريهما وَلكُل مِنْهُمَا بِلَاد مُسَمَّاة ووصلت الرُّسُل إِلَى المستظهر بِالصُّلْحِ فَخَطب بِبَغْدَاد لبركيا روق وَكَانَ شحنته بِبَغْدَاد إبلغاري بن أرتق.
وفيهَا: سَار صنجيل الفرنجي من الْبَحْر وحاصر طرابلس برا وبحراً وَانْصَرف خاسئاً وحاصر جبيل وتسلمها بالأمان، ثمَّ حاصر عكا برا وبحراً وواليها زهر الدولة نبا من جِهَة خَليفَة مصر فَملك الفرنج عكا بِالسَّيْفِ بعد قتال شَدِيد، وفعلوا بِأَهْلِهَا الْأَفْعَال الشنيعة، وهرب نبا إِلَى الشَّام ثمَّ إِلَى مصر، هَذَا وملوك الشَّام مشتغلون بِقِتَال بَعضهم بَعْضًا، وقصدت الفرنج حران فَاجْتمع جكرمش وسقمان وَمَعَهُ التركمان وتحالفا والتقيا مَعَ الفرنج على نهر البلخ، فَانْهَزَمَ الفرنج وَأسر ملكهم القومص.

(2/14)


وفيهَا: فِي رَمَضَان توفّي دقاق بن تتش بن ألب أرسلان بن دَاوُد بن مِيكَائِيل بن سلجوق صَاحب دمشق فَخَطب طغتكين الأتابك بِدِمَشْق لِابْنِ دقاق طِفْل عمره سنة ثمَّ قطع خطبَته وخطب ليلتاش بن تتش عَم الطِّفْل فِي ذِي الْحجَّة ثمَّ أعَاد خطْبَة الطِّفْل وَاسْتقر طغتكين فِي دمشق.
وفيهَا: سَار صَدَقَة بن مزِيد صَاحب الْحلَّة فاستولى على وَاسِط وَضمن البطيحة لمهذب الدولة بن أبي الْخَيْر بِخَمْسِينَ ألف دِينَار.
وفيهَا: توفّي أَمِير الدولة أَبُو سعد بن موصلايا فَجْأَة وَقد أضرّ، وَكَانَ بليغاً خدم الْخُلَفَاء خمْسا وَسِتِّينَ سنة وَكَانَ نَصْرَانِيّا فَأسلم سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة ترقى حَتَّى نَاب عَن الوزارة وَكَانَ يتَصَدَّق ووقف ملكه على وُجُوه الْبر.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا فِي ربيع الأول توفّي السُّلْطَان بركيا روق بن ملكشاه بالسل والبواسير، سَار من أصفهان إِلَى بَغْدَاد فقوي مَرضه فِي يزدجرد، فخلف الْعَسْكَر لِابْنِهِ ملكشاه وعمره أَربع سِنِين وَثَمَانِية أشهر، وَجعل أياز أتابكه وَأمرهمْ بِالْمَسِيرِ إِلَى بَغْدَاد وَتُوفِّي بيزدجرد وَنقل فَدفن بأصبهان فِي تربته وعمره خمس وَعِشْرُونَ سنة وَتسَمى بالسلطنة اثْنَتَيْ عشرَة سنة وأربعمة أشهر، وقاسى حروباً وَخِلَافًا ورخاء وَشدَّة، وملكاً وزواله، وَلما صفى ملكه كدره الْمَوْت، وَكَانَ كلما خطب لَهُ بِبَغْدَاد وَقع فِيهَا الغلاء، وَكَانَ كثير التجاوز، وَدخل أياز وَمَعَهُ ملكشاه بن بركيا روق بَغْدَاد سَابِع عشر ربيع الآخر مِنْهَا، وخطب لملكشاه بجوامع بَغْدَاد.
وَلما بلغ مُحَمَّدًا موت أَخِيه بركيا روق قصد بَغْدَاد وَنزل بالجانب الغربي، وَبَقِي ملكشاه وأياز بالشرقي، وَجمع أياز الْعَسْكَر لقِتَال مُحَمَّد، ثمَّ أَشَارَ على أياز وزيره بِالصُّلْحِ وَمَشى بَينهمَا وَحضر الكيا الهراس مدرس النظامية وَالْفُقَهَاء وحلفوا مُحَمَّدًا لاياز والأمراء الَّذين مَعَه، وَحضر أياز بملكشاه عِنْد مُحَمَّد فَأكْرمه وَصَارَت السلطنة لمُحَمد فِي جمادي الأولى مِنْهَا وَعمل أياز دَعْوَة عَظِيمَة فِي ثامن جمادي الْآخِرَة للسُّلْطَان مُحَمَّد فِي دَاره بِبَغْدَاد فَحَضَرَ إِلَيْهِ وَقدم لَهُ أياز أَمْوَالًا، وَفِي ثَالِث عشر جمادي الأخرة طلب السُّلْطَان أيازا ورتب لَهُ فِي الدهليز جمَاعَة فَقَتَلُوهُ وعمره فَوق أَرْبَعِينَ وَهُوَ من مماليك ملكشاه، وَكَانَ شجاعاً ذَا مُرُوءَة وَأمْسك الصفي وزيره، وَقتل فِي رَمَضَان وعمره سِتّ وَثَلَاثُونَ وَكَانَ من بَيت رياسة بهمدان.
" وفيهَا توفّي سقمان " بن أرتق بن أكسك بالخوانيق فِي القرينين وَحمل فِي تَابُوت فَدفن بحصن كيفا كَانَ مُتَوَجها إِلَى دمشق باستدعاء طغتكين ليجعله مُقَابل الفرنج بِحكم مرض طغتكين وَقَامَ ابْنه إِبْرَاهِيم مَوْضِعه، كَانَ لَهُ حصن كيفا وماردين أما ملكه لحصن كيفا فَتقدم، وَأما ملكه لماردين فَهُوَ أَنه وهب ماردين وأعمالها السُّلْطَان بركيا روق لإِنْسَان مغن، وَوَقع حَرْب بَين كربوغا وسقمان وَكَانَ مَعَ سقمان ابْن أَخِيه ياقوتي وعماد الدّين زنكي وَهُوَ

(2/15)


إِذْ ذَاك صبي فَانْهَزَمَ سقمان وَأسر ابْن أَخِيه ياقوتي فحبسه كربوغا صَاحب الْموصل بماردين إِلَى أَن سَأَلت زَوْجَة أرتق كربوغا فِي إِطْلَاق ابْن ابْنهَا ياقوتي فَأَطْلقهُ فأعجب ياقوتي ماردين فَأرْسل يَقُول للْمُغني: إِن أَذِنت لي سكنت فِي ربض قلعتك وحميتها من المفسدين، فَأذن لَهُ بالْمقَام فِي الربض فَأَقَامَ بهَا ياقوتي وَجعل يُغير من خلاط إِلَى بَغْدَاد وَمَعَهُ حفاظ قلعة ماردين وَهُوَ يحسن إِلَيْهِم فاطمأنوا إِلَيْهِ وَسَار مرّة وَنزل مَعَه أَكْثَرهم فقبضهم وقيدهم وأتى إِلَى بَاب قلعة ماردين وَقَالَ لأهلهم: إِن سلمتم القلعة إِلَيّ وَإِلَّا ضربت أَعْنَاقهم فامتنعوا فَضرب عنق وَاحِد فسلموها إِلَيْهِ وَأقَام بهَا وَجمع جمعا وَقصد نَصِيبين ولحقه مرض أعجزه فَحمل حَتَّى ركب الْفرس وأصابه سهم فَسقط ياقوتي وَمَات مِنْهُ، ثمَّ ملك ماردين بعده أَخُوهُ على مُطيعًا لجكرمش صَاحب الْموصل واستخلف على ماردين من أَصْحَابه شخصا اسْمه عَليّ أَيْضا، فَجهز هَذَا عَليّ يَقُول لسقمان: إِن ابْن أَخِيك يُرِيد أَن يسلم ماردين إِلَى جكرمش، فَسَار سقمان وتسلم ماردين، وَعوض ابْن أَخِيه عَنْهَا بجبل جور، واستقرت ماردين وحصن كيفا لسقمان إِلَى أَن سَار إِلَى دمشق وَمَات بالقرينين فَصَارَت ماردين لِأَخِيهِ إيلغازي بن أرتق واستقرت لوَلَده إِلَى يَوْمنَا هَذَا وَهُوَ سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة.
وفيهَا: نهبت الباطنية الْحجَّاج فِي جوَار الرّيّ، وهم حجاج الْهِنْد وَمَا وَرَاء النَّهر وخراسان وقتلوهم سحرًا.
وفيهَا: تقَاتل الْملك رضوَان بن تتش صَاحب حلب وفرنج أنطاكية عِنْد يبرين فَانْهَزَمَ الْمُسلمُونَ وَقتل مِنْهُم وَأسر، وملكت الفرنج أرتاح.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد عَليّ بن الْحسن بن أبي صقر الشَّافِعِي، تفقه على أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَغلب عَلَيْهِ الشّعْر. فَمن قَوْله لما كبر:
(ابْن أبي الصَّقْر افتكر ... وَقَالَ فِي حَال الْكبر)

(وَالله لَوْلَا بولة ... تحرقني وَقت السحر)

(لما ذكرت أَن لي ... مَا بَين فَخذي ذكر)
وولادته فِي نَحْو سنة سبع وَأَرْبَعمِائَة.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا سَار سيف الدولة صَدَقَة ابْن مزِيد من الْحلَّة فَملك الْبَصْرَة اتِّصَال بن ملاعب بِملك أفامية واستيلاء بِملك أفامية الفرنج عَلَيْهَا: كَانَ خلف بن ملاعب الْكلابِي صَاحب حمص وَأَصْحَابه يقطعون الطَّرِيق، فَعظم الضَّرَر بِهِ فَأخذ تتش صَاحب دمشق مِنْهُ حمص وتقلبت بخلف الْأَحْوَال إِلَى أَن أَقَامَ بِمصْر وَاتفقَ أَن مُتَوَلِّي أفامية من جِهَة رضوَان بن تتش صَاحب حلب كَانَ شِيعِيًّا فكاتب خلفاء مصر ليرسلوا من يسلم إِلَيْهِ أفامية فَطلب ابْن ملاعب ذَلِك فَأَرْسلُوهُ وتسلم أفامية وقلعتها، فَلَمَّا اسْتَقر خلع طَاعَة المصريين وَأقَام بهَا يقطع الطَّرِيق فاتفق قَاضِي أفامية وَجَمَاعَة مِنْهَا وكاتبوا رضوَان ليرسل جمعا يكبسون أفامية بِاللَّيْلِ ويسلموها إِلَيْهِم فَفعل رضوَان ذَلِك فأصعد القَاضِي

(2/16)


وجماعته المبعوثين بالحبال إِلَى القلعة فَقتلُوا ابْن ملاعب وَبَعض أَوْلَاده وهرب الْبَعْض واستولوا على قلعة أفامية، ثمَّ سَار إِلَيْهَا الفرنج وحاصروها وملكوا الْبَلَد والقلعة، وَقتلُوا القَاضِي الْمَذْكُور.
حَال طرابلس مَعَ الفرنج

كَانَ صنجيل قد ملك جبلة ثمَّ حصر طرابلس وَبنى بقربها حصناً وَبنى تَحْتَهُ ربضاً، وَيعرف بحصن صنجيل، فَخرج الْملك أَبُو عَليّ بن عمار صَاحب طرابلس وأحرق الربض، فانهدم بعض السقوف الْمُحْتَرِقَة بصنجيل فَمَرض عشرَة أَيَّام وَمَات وَنقل إِلَى الْقُدس. قلت:
(نقلوا صنجيل من نَار إِلَى نَار تضرم ... قَبره إِن كَانَ فِي الْقُدس فَفِي وَادي جَهَنَّم)

وَالله أعلم.
ودام الْحَرْب بَين أهل طرابلس وَبَين الفرنج خمس سِنِين وصبر صَاحبهَا ابْن عمار عَظِيما وَقلت بهَا الأقوات وافتقرت الْأَغْنِيَاء.
ثمَّ دخلت سنة خَمْسمِائَة: فِيهَا توفّي يُوسُف بن تاشفين أَمِير الْمُسلمين ملك الْمغرب والأندلس، كَانَ حسن السِّيرَة، طلب من المستظهر التَّقْلِيد فَأرْسلهُ إِلَيْهِ وَهُوَ باني مراكش، وَملك بعده ابْنه عَليّ وتلقب بأمير الْمُسلمين أَيْضا.
" وفيهَا قتل فَخر الْملك " أَبُو المظفر عَليّ بن نظام الْملك يَوْم عَاشُورَاء، وَكَانَ أكبر أَوْلَاد نظام الْملك وزر لبركيا روق ثمَّ لِأَخِيهِ سنجر وَقتل صَائِما بنيسابور وَرَأى فِي الْمَنَام الْحُسَيْن بن عَليّ يَقُول: عجل إِلَيْنَا وَليكن إفطارك عندنَا، فَقَالَ لأَصْحَابه: قد اشْتغل فكري وَلَا محيد عَن قَضَاء الله، فَقَالُوا: الصَّوَاب أَن لَا تخرج الْيَوْم فَأَقَامَ يَوْمه يُصَلِّي وَيقْرَأ وَتصدق بِشَيْء كثير وَخرج الْعَصْر يُرِيد دَار النِّسَاء فَسمع صياح متظلم شَدِيد الحرقة فَأحْضرهُ وَقَالَ: وَمَا حالك؟ فَدفع إِلَيْهِ رقْعَة فَبينا فَخر الْملك يَتَأَمَّلهَا إِذْ ضربه بسكين فَقتله وَأمْسك الباطني وَحمل إِلَى السُّلْطَان سنجر فقرره فَأقر على جمَاعَة كذبا فَقتل هُوَ وَالْجَمَاعَة.
وفيهَا: ملك صَدَقَة بن مَنْصُور بن مزِيد قلعة تكريت سلمهَا إِلَيْهِ كيقباذ بن هزارسب الديلمي، وَكَانَت لبني معن بُرْهَة ثمَّ تنقلت حَتَّى صَارَت لأقسنقر صَاحب حلب، ثمَّ لكوهر آيين ثمَّ لمجد الْملك البلاساني فولى عَلَيْهَا كيقباذ حَتَّى سلمهَا لصدقة.
وفيهَا: أقطع السُّلْطَان مُحَمَّد جاولي سقاو والموصل والأعمال الَّتِي بيد جكرمش فَخرج جكرمش لقتاله فِي محفة مفلوجاً فَانْهَزَمَ عَسْكَر جكرمش وَأسر فِي محفته ثمَّ حصر جاولي الْموصل وَكَانَ قد أَقَامَ أَصْحَاب جكرمش زنكي بن جكرمش وَملك الْموصل وَله إِحْدَى عشرَة سنة وَطَاف جاولي بجكرمش حول الْموصل أَسِيرًا وَهُوَ يَأْمُرهُم بِتَسْلِيم الْبَلَد فَلم يقبلُوا مِنْهُ وَمَات جكرمش فِي تِلْكَ الْحَال وعمره نَحْو سِتِّينَ، وَهُوَ الَّذِي على سور

(2/17)


الْموصل وحصنها، وَكَاتب أهل الْموصل قليج أرسلان بن سُلَيْمَان بن قطلمش السلجوقي صَاحب بِلَاد الرّوم يستدعونه فقصد الْموصل فَلَمَّا وصل نَصِيبين رَحل جاولي عَن الْموصل خوفًا إِلَى الرحبة وتسلم قليج أرسلان الْموصل فِي الْخَامِس وَالْعِشْرين من رَجَب مِنْهَا، واستخلف ابْنه ملك شاه بهَا وعمره إِحْدَى عشرَة سنة، وَأقَام مَعَه مُدبرا، وَقصد جلولي وَكَانَ قد اجْتمع إِلَى جاولي رضوَان أَمِير حلب وَغَيره فَاقْتَتلُوا فِي عشرى ذِي الْقعدَة على الخابور وَقَاتل قليج أرسلان بِنَفسِهِ وَانْهَزَمَ عكسره فاضطر قليج أرسلان إِلَى الْهَرَب فَألْقى بِنَفسِهِ فِي الخابور فغرق وَظهر بعد أَيَّام فَدفن بالشمسانية من قرى الخابور، ثمَّ تسلم جاولي الْموصل بالأمان وَسَار ملك شاه بن قليج أرسلان إِلَى السُّلْطَان مُحَمَّد.
وفيهَا: حاصر السُّلْطَان مُحَمَّد قلعة الباطنية بِالْقربِ من أَصْبَهَان الَّتِي بناها ملك شاه بأشارة رَسُول الرّوم وَاسْمهَا شاه دز وَطَالَ الْحصار وَنزل بَعضهم بالأمان وَبَقِي صَاحبهَا أَحْمد بن عبد الْملك بن عطاش مَعَ جمَاعَة يسيرَة فزحف السُّلْطَان فَقتله وَقتل جمَاعَة من الباطنية وملكها وخربها.
وفيهَا: توفّي الْأَمِير سرخاب بن بدر بن مهلهل بن أبي الشول الْكرْدِي، وأمواله لَا تحصى، وَقَامَ ابْنه أَبُو مَنْصُور مقَامه، وَبقيت الْإِمَارَة فيهم مائَة وَثَلَاثِينَ سنة.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي رَجَب " قتل سيف الدولة صَدَقَة " بن مَنْصُور بن دبيس بن مزِيد الْأَسدي أَمِير الْعَرَب فِي مقاتلته للسُّلْطَان مُحَمَّد وَحمل رَأسه إِلَى مُحَمَّد، وَعمر صَدَقَة تسع وَخَمْسُونَ، وإمارته إِحْدَى وَعِشْرُونَ سنة، وَقتل من أَصْحَابه فَوق ثَلَاثَة آلَاف، وَكَانَ متشيعاً وَهُوَ الَّذِي بنى الْحلَّة بالعراق، قَالَ الْمُؤلف رَحمَه الله: تقدم ذكر الْحلَّة قبل وجود صَدَقَة فَكيف يكون هُوَ الَّذِي بناها وَكَانَ قد اتَّسع جاهه واستجار بِهِ الْكِبَار. اجْتهد فِي نصح السُّلْطَان مُحَمَّد حَتَّى جاهر بركيا روق بالعداوة، ثمَّ فسد مَا بَينه وَبَين مُحَمَّد لحماية صَدَقَة كل من خَافَ من مُحَمَّد وَمِنْهُم أَبُو دلف سرخاب بن كيخسرو صَاحب ساوة استجار بِصَدقَة، وَطَلَبه مُحَمَّد فَلم يُسلمهُ إِلَيْهِ، فقاتله مُحَمَّد، فَقتل صَدَقَة وَأسر إبنه دبيس وسرخاب.
قلت: ولصدقة صنف الشريف أَبُو يعلى مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن الهبارية العباسي كتاب الصادح والباغم على صفة كليلة ودمنة ألفي بَيت وأرسله إِلَيْهِ مَعَ ابْنه فَأعْطَاهُ لكل بَيت دِينَارا، وَمِنْه:
(وَضعته مخترعا مَعْنَاهُ ... لملك مَا خَابَ من رجاه)

(بَحر الندا رب الأيادي والمنن ... شمس العلى صدر الْهدى أبي الْحسن)

(الْأَسدي المزيدي صَدَقَة ... وَمن إِذا كذب مدح صدقه)

(وَلم تزل حلتهم معَاذًا ... لكل من يهرب من بغدادا)

وَهِي حَسَنَة فِي بَابهَا وتشتمل على أَمْثَال وَحكم وَالله أعلم.

(2/18)


وفيهَا: توفّي تَمِيم بن الْمعز باديس صَاحب إفريقية، وَكَانَ ذكياً حَلِيمًا ينظم الشّعْر، وعاش تسعا وَسبعين سنة، وولايته سِتّ وَأَرْبَعُونَ سنة وَكسر، خلف مائَة ابْن وَسِتِّينَ بِنْتا.
وَملك بعده ابْنه يحيى وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَأَرْبَعين سنة وَسِتَّة أشهر، وفيهَا توجه فَخر الْملك أَبُو عَليّ بن عماد من طرابلس إِلَى بَغْدَاد مستنفراً لما حل بطرابلس وبالشام من الفرنج، وَاجْتمعَ بالخليفة المستظهر وبالسلطان مَحْمُود فَلم يحصل مِنْهُمَا غَرَض فَعَاد وَأقَام بِدِمَشْق عِنْد طغتكين وأقطعه الزبداني وَدخل أهل طرابلس تَحت طَاعَة خَليفَة مصر وَخَرجُوا عَن ابْن عمار.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَخَمْسمِائة: فِيهَا أرسل السُّلْطَان مَحْمُود عسكراً مَعَ مودود بن الطغتكين، فحصروا الْموصل وتسلمها مودود فِي صفر، وهرب مِنْهَا جاولي إِلَى الرحبة قبل وصولهم، ثمَّ لحق بالسلطان مُحَمَّد قرب أصفهان وَمَعَهُ كنفه فَأَمنهُ.
وفيهَا: تولى مُجَاهِد الدّين بهروز شحنكية بَغْدَاد وَعمر دَار ملكهَا بِأَمْر السُّلْطَان مُحَمَّد وَأحسن إِلَى النَّاس.
وفيهَا: فِي فصح النَّصَارَى نزل بَنو منقذ من شيراز للتفرج على عيد النَّصَارَى فثار جمَاعَة باطنية وملكوا قلعة شيرز، وبادر أهل الْمَدِينَة الباشورة فأصعدتهم النِّسَاء من الطاقات وأدركتهم بَنو منقذ وقاتلوهم فَلم يسلم من الباطنية أحد.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة توفّي فَجْأَة الْخَطِيب أَبُو زَكَرِيَّا يحيى بن عَليّ التبريزي إِمَام فِي اللُّغَة قَرَأَ على الشَّيْخ أبي الْعلَا المعري؛ سَافر إِلَيْهِ من تبريز، وَسمع الحَدِيث من الْفَقِيه سليم الرَّازِيّ بصور، وَمن غَيره.
وروى عَنهُ أَبُو مَنْصُور موهوب بن أَحْمد الجواليقي، وَتخرج عَلَيْهِ خلق وَشرح الحماسة وديوان المتنبي وديوان سقط الزندلابي الْعلَا، وَله إِعْرَاب الْقُرْآن فِي أَربع مجلدات، ومقدمة عزيزة الْوُجُود فِي النَّحْو، وتآليفه حَسَنَة مفيدة، وَقَرَأَ على ابْن بابشاذ بِمصْر، وَعَاد إِلَى بَغْدَاد وتوطنها حَتَّى مَاتَ، ومولده سنة إِحْدَى وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة.
قلت: وَمِمَّنْ قَرَأَ على التبريزي الْأَدَب الشَّيْخ مُحي الدّين عبد الْقَادِر الجيلي أعَاد الله علينا من بركته، فَأَبُو الْعلَا المعري شيخ عبد الْقَادِر فِي الْأَدَب وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي أَبُو الفوارس الْحسن بن عَليّ الخازن الْمَشْهُور بجودة الْخط، وَله شعر حسن.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي حادي عشر ذِي الْحجَّة " ملك الفرنج طرابلس " حصروها برا وبحراً من أول رَمَضَان فَأرْسل خَليفَة مصر إِلَيْهَا أسطولاً فَرده الْهَوَاء ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا، فملكوها وَقتلُوا وَسبوا، وَكَانَ بعض أَهلهَا قد طلبُوا الْأمان وقصدوا دمشق قبل فتحهَا.

(2/19)


ثمَّ دخلت سنة أَربع وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي ربيع الآخر ملك الفرنج صيدا بالأمان، وفيهَا سَار فرنج أنطاكية وملكوا حصن الأثارب بِالْقربِ من حلب بِالسَّيْفِ وَقتلُوا مِنْهُ الفي رجل وأسروا البَاقِينَ. ثمَّ ملكوا زردنا فَفَعَلُوا كَذَلِك وقصدوا منبج وبالس فوجدوهما خاليتين، فعادوا وَصَالح رضوَان بحلب الفرنج على اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ ألف دِينَار يحملهَا إِلَيْهِم مَعَ خيل وَثيَاب، وبذلت أَصْحَاب الْبِلَاد للفرنج الْأَمْوَال وخافوهم وصالحهم أهل صور على سَبْعَة آلَاف دِينَار وَابْن منقذ صَاحب شيزر على أَرْبَعَة آلَاف دِينَار، وعَلى الْكرْدِي صَاحب حماه ألفي دِينَار.
وفيهَا: توفّي الكيا الهراسي الطَّبَرِيّ أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ مولده سنة خمسين وَأَرْبَعمِائَة من طبرستان، وتفقه بنيسابور على إِمَام الْحَرَمَيْنِ. ثمَّ ولي تدريس نظامية بَغْدَاد، وَكَانَ حسن الصُّورَة جَهورِي الصَّوْت، والكيا بِالْفَارِسِيَّةِ الْكَبِير الْمُقدم.
وفيهَا: وَقيل سنة إِحْدَى عشرَة وَخَمْسمِائة قصد بردويل الفرنجي مصر وأحرق الفرما وجامعها ومساجدها، وَمِنْهَا عَاد إِلَى الشَّام مَرِيضا فَهَلَك قبل وُصُوله الْعَريش، فشق أَصْحَابه بَطْنه ورموا حشوته هُنَاكَ، وَهِي ترْجم إِلَى الْيَوْم، ودفنوا جثته بقمامة، والسبخة بالرمل منسوبة إِلَيْهِ، وَكَانَ هُوَ صَاحب بَيت الْمُقَدّس وعكا وعدة بِلَاد من السَّاحِل.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَخَمْسمِائة: فِيهَا جهز السُّلْطَان مُحَمَّد عسكراً فِيهِ صَاحب الْموصل مودود وَغَيره لقِتَال الفرنج بِالشَّام ونزلوا على الرها فَلم يملكوها ووصلوا حلب فخافهم رضوَان وغلق الْأَبْوَاب دونهم فَسَارُوا إِلَى المعرة ثمَّ افْتَرَقُوا وَلم يحصل بهم غَرَض.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة توفّي زين الدّين حجَّة الْإِسْلَام أَبُو حَامِد مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد الْغَزالِيّ الطوسي اشْتغل بطوس ثمَّ على إِمَام الْحَرَمَيْنِ بنيسابور وأكرمه نظام الْملك وفوض إِلَيْهِ تدريس النظامية بِبَغْدَاد سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة، وَفِي سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة ترك الْكل وتزهد وَحج وَأقَام بِدِمَشْق ثمَّ بالقدس، واجتهد فِي الْعِبَادَة ثمَّ قصد مصر وَأقَام بالإسكندرية ثمَّ عَاد إِلَى وَطنه بطوس، وَكتبه مَشْهُورَة مفيدة مِنْهَا الْبَسِيط والوسيط وَالْوَجِيز وَالْخُلَاصَة والمنخول والمنخل فِي علم الجدل وَغَيره، ومولده سنة خمسين وَأَرْبَعمِائَة وطوس مدينتان من خُرَاسَان إِحْدَاهمَا طابران وَالْأُخْرَى نوقان، وَالْغَزالِيّ نِسْبَة إِلَى الغزال والعجم كَذَلِك ينسبون إِلَى الْقصار قصاري وَإِلَى الْعَطَّار عطاري وَتَخْفِيف الزَّاي وتشديدها من الْغَزالِيّ مَشْهُور.
قلت: وَمَا أحسن قَول الْقَائِل:
(بدر تمّ أضحى بسيط غرامي ... فِيهِ يروي عَن طرفه الْغَزالِيّ)

وَالله أعلم:
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَخَمْسمِائة: فِيهَا توفّي بسيل الأرمني صَاحب بِلَاد الأرمن فقصدها صَاحب أنطاكية الفرنجي ليملكها فَمَاتَ فِي الطَّرِيق وملكها سرخال.

(2/20)


وفيهَا: توفّي قراجة صَاحب حمص وَقَامَ بعده ابْنه قرجان.
وفيهَا: توفّي سقمان أَو سكمان القطبي صَاحب خلاط وَقَامَ بعده ابْنه ظهير الدّين إِبْرَاهِيم إِلَى أَن توفّي سنة إِحْدَى وَعشْرين وَخَمْسمِائة فتولاها أَخُوهُ أَحْمد بن سقمان عشرَة أشهر وَتُوفِّي فحكمت والدتهما اينابح خاتون بنت أركماز على وزن أقحوان، واستبدت بِالْأَمر وَمَعَهَا ولد وَلَدهَا سقمان بن إِبْرَاهِيم بن سقمان وعمره سِتّ سِنِين فقصدت إعدامه لتنفرد بالمملكة فخنقها كبراء الدولة، لسوء نِيَّتهَا فِيهِ سنة ثَمَان وَعشْرين وَخَمْسمِائة، واستقل ابْنهَا شاهر بن سقمان فِي الْملك حَتَّى توفّي سنة تسع وَسبعين وَخَمْسمِائة.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَخَمْسمِائة: فِيهَا اجْتمع الْمُسلمُونَ، وَفِيهِمْ مودود صَاحب الْموصل وتميرك صَاحب سنجار وإياز بن إيلغازي وطغتكين صَاحب دمشق وَاجْتمعت الفرنج وَفِيهِمْ بغدوين صَاحب الْقُدس وجوسلين صَاحب الْجَيْش واقتلوا قرب طبرية ثَالِث عشر الْمحرم فَهزمَ الله الفرنج وَقتل مِنْهُم كثير وَدخل الْمُسلمُونَ دمشق منصورين فِي ربيع الأول وَصلى مودود وظغتكين الْجُمُعَة وخرجا يتمشيان فِي صحن الْجَامِع فَوَثَبَ باطني على مودود بن التونتكين وضربه بسكين، وَقتل الباطني وَأخذ رَأسه وَحمل مودود إِلَى دَار طغتكين وَكَانَ صَائِما واجتهدوا بِهِ أَن يفْطر فَأبى وَمَات من يَوْمه رَحمَه الله وَكَانَ خيرا عادلاً وَدفن بتربة دقاق ثمَّ نقل إِلَى بَغْدَاد فَدفن بجوار أبي حنيفَة ثمَّ نقل إِلَى أَصْبَهَان.
قلت:
(غزا وَصلى صَائِما عاكفاً ... وكمل الظَّاهِر بالباطني)

(ثَلَاث حفرات تملت بِهِ ... يَا شرف الْمسكن بالساكن)
وَالله أعلم.
وفيهَا توفّي الْملك رضوَان بن تتش بن ألب أرسلان بن دَاوُد بن مِيكَائِيل بن سلجوق صَاحب حلب، وملكها بعده ابْنه ألب أرسلان الْأَخْرَس، وَهُوَ ابْن سِتّ عشرَة سنة قتل رضوَان قبل مَوته أَخَوَيْهِ وَكَانَ يَسْتَعِين بالباطنية فِي كثير من أُمُوره لقلَّة دينه، وَاسْتولى على أُمُور الْأَخْرَس لُؤْلُؤ الْخَادِم وَسمي أخرس لتمتمة وحبسة فِي كَلَامه وَأمه ابْنة ياغي سِنَان صَاحب أنطاكية، وبمجرد ولَايَته قتلت الباطنية بحلب ونهبوا.
وفيهَا: توفّي إِسْمَاعِيل بن أَحْمد بن الْحُسَيْن الْبَيْهَقِيّ الإِمَام ابْن الإِمَام ببيهق ومولده سنة ثَمَان وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد الأبيوردي الأديب الْأمَوِي بأصبهان وَللَّه قَوْله:
(تنكر لي دهري وَلم يدر أنني ... أعز وأهوال الزَّمَان تهون)

(وظل يريني الْخطب كَيفَ اعتداؤه ... وَبت أريه الصَّبْر كَيفَ يكون)

(2/21)


وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْحُسَيْن بن عمر وكنيته أَبُو بكر الشَّاشِي الْفَقِيه الشَّافِعِي.
تفقه بِبَغْدَاد على أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وعَلى أبي نصر الصّباغ وصنف للمستظهر بِاللَّه كتاب المستظهري ومولده سنة سبع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَخَمْسمِائة: فِيهَا ولي السُّلْطَان مُحَمَّد أقسنقر البرسقي الْموصل لقتل مودود رَحمَه الله وَأمر الْأُمَرَاء بِالْمَسِيرِ صُحْبَة البرسقي لقِتَال الفرنج، وَجرى بَين البرسقي وإيلغازي وأرتق صَاحب ماردين قتال انتصر فِيهِ إيلغازي، ثمَّ خَافَ إيلغازي من السُّلْطَان، فاتفق بِدِمَشْق مَعَ طغتكين، وكاتبا الفرنج، واعتضدا بهم، ثمَّ عَاد إيلغازي إِلَى جِهَة بِلَاده فَلَمَّا خرج من حمص فِي جمَاعَة قَليلَة خرج قرجان بن قراجة صَاحب حمص وأسرة مُدَّة ثمَّ تحَالفا وَأطْلقهُ.
وفيهَا: فِي شَوَّال توفّي الْملك عَلَاء الدولة أَبُو سعد مَسْعُود بن إِبْرَاهِيم بن مَسْعُود ابْن مَحْمُود بن سبكتكين صَاحب غزته وَملك فِي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَملك بعده ابْنه ارسلان شاه وَأمْسك إخْوَته إِلَّا بهْرَام شاه فَإِنَّهُ هرب واستجار بالسلطان سنجر ابْن ملك شاه صَاحب خُرَاسَان فشفع فِيهِ فَلم يقبل مِنْهُ فَسَار سنجر إِلَى غزنة واقتتلوا قتالاً عَظِيما فَانْهَزَمَ أرسلان شاه وَعَسْكَره وَاسْتولى سنر على غزته وَأخذ أَمْوَالًا وَقرر السلطنة لبهرام شاه وَأَن يخْطب للسُّلْطَان مُحَمَّد ثمَّ للْملك سنجر ثمَّ للسُّلْطَان بهْرَام شاه الْمَذْكُور ثمَّ عَاد سنجر إِلَى بِلَاده وَكَانَ أرسلان شَاة قد هرب إِلَى هندستان فَجمع جمعا وَعَاد إِلَى غزنة فاستنجد بهْرَام شاه لسنجر ثَانِيًا فَأرْسل لَهُ عسكرا فهرب أرسلان شاه بِلَا قتال وتبعوه فأمسكوه فخنقه بهْرَام شاه وَدَفنه بتربة أَبِيه بغزنة فِي سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَخَمْسمِائة، وعمره سبع وَعِشْرُونَ سنة. وفيهَا قتل تَاج الدولة ألب أرسلان الْأَخْرَس صَاحب حلب ابْن رضوَان بن تتش السلجوقي، قَتله غلمانه بقلعة حلب وَأَقَامُوا أَخَاهُ سُلْطَان شاه بتدبير لُؤْلُؤ الْخَادِم.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَخَمْسمِائة: فِيهَا أرسل السُّلْطَان مُحَمَّد عسكراً ضخماً لقِتَال طغتكين صَاحب دمشق وإيلغازي صَاحب ماردين فعبروا من الرقة وقصدوا حلب فعصت عَلَيْهِم ثمَّ فتحُوا حماه عنْوَة ونهبوها ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ سلموها إِلَى قرجان بن قراجة صَاحب حمص وَأقَام الْعَسْكَر بحماه وَاجْتمعَ بأفامية إيلغازي وظغتكين وملوك الفرنج صَاحب أنطاكية وَصَاحب طرابلس وَغَيرهم وَأَقَامُوا بأفامية ينتظرون تفرق الْمُسلمين فَأَقَامَ عَسْكَر الْمُسلمين إِلَى الشتَاء فَتفرق الفرنج وَسَار ظغتكين إِلَى دمشق وإيلغازي إِلَى ماردين ثمَّ فتح الْمُسلمُونَ كفر طَابَ وَقتلُوا من بهَا من الفرنج وَسَارُوا إِلَى المعرة وَهِي للفرنج، ثمَّ سَارُوا إِلَى حلب فكبسهم صَاحب أنطاكية فِي الطَّرِيق فَانْهَزَمُوا وَقتلت الفرنج فِي الْمُسلمين ونهبوهم وهرب من سلم مِنْهُم إِلَى بِلَاده.

(2/22)


وفيهَا: استولى الفرنج على رفنيه وَكَانَت لطغتكين ثمَّ سَار طغتكين من دمشق واسترجعها وَقتل من بهَا من الفرنج.
وفيهَا: توفّي يحيى بن تَمِيم بن الْمعز بن باديس صَاحب إفريقية يَوْم عيد الْأَضْحَى فَجْأَة وَتَوَلَّى ابْنه عَليّ. وَعمر يحيى اثْنَتَانِ وَخَمْسُونَ سنة وولايته ثَمَان سِنِين وَخَمْسَة أشهر وَخلف ثَلَاثِينَ ولدا.
وفيهَا: دخل السُّلْطَان مُحَمَّد بَغْدَاد فجاءة طفتكين من دمشق يترضاه فَرضِي عَنهُ ورده إِلَى دمشق.
وفيهَا: أَخذ السُّلْطَان مُحَمَّد الْموصل وَمَا مَعهَا من أقسنقر البرسقي وأقطعها للأمير جيوش بك وبقى البرسقي فِي الرحبة وَهِي اقطاعه.
ثمَّ دخلت سنة عشر وَخَمْسمِائة: فِيهَا مَاتَ جلولي بن سقاوو بِفَارِس ولاه إِيَّاهَا مُحَمَّد بعد أَخذ الْموصل.
وفيهَا: وَقيل سنة سِتّ عشرَة وَخَمْسمِائة توفّي بمروروذ أَبُو مُحَمَّد الْحُسَيْن بن مَسْعُود بن مُحَمَّد الْفراء الْبَغَوِيّ الْفَقِيه الْمُحدث الْمُفَسّر بَحر الْعُلُوم لَهُ التَّهْذِيب فِي الْفِقْه والمصابيح فِي الحَدِيث وَالْجمع بَين الصَّحِيحَيْنِ.
قلت: وَله شرح السّنة فِي الحَدِيث، ومعالم التَّنْزِيل فِي التَّفْسِير وَكَانَ لَا يلقى الدَّرْس إِلَّا على طَهَارَة وَالله أعلم.
وَالْفراء: نِسْبَة إِلَى عمل الْفراء، وَالْبَغوِيّ: نِسْبَة إِلَى بَلْدَة بغشور من خُرَاسَان. ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى عشرَة وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي الرَّابِع وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة " توفّي السُّلْطَان مُحَمَّد " السلجوقي؛ ابْتِدَاء مَرضه من شعْبَان ومولده ثامن عشر شعْبَان سنة أَربع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة فعمره سِتّ وَثَلَاثُونَ سنة وَأَرْبَعَة أشهر وَسِتَّة أَيَّام، قطعت خطبَته مَرَّات وَلَقي مشاق وَعدل، وَأطلق المكوس فِي بِلَاده، وعهد بِالْملكِ إِلَى وَلَده مَحْمُود وعمره إِذْ ذَاك يزِيد على أَربع عشرَة سنة، وَلما عهد إِلَيْهِ اعتنقه وَقَبله وَبكى كل مِنْهُمَا وَجلسَ مَحْمُود على تخت السلطنة يَوْم مَاتَ أَبوهُ بالتاج والسوارين، وخطب لَهُ يَوْم الْجُمُعَة الثَّامِن وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة.
وفيهَا قتل لُؤْلُؤ الْخَادِم مستولياً على حلب وعَلى أُمُور الْأَخْرَس بن رضوَان ثمَّ على أُمُور سُلْطَان شاه بن رضوَان سَار لُؤْلُؤ من حلب ليجتمع بسالم بن مَالك الْعقيلِيّ صَاحب قلعة جعبر وَنزل سبول فَوَثَبَ أَصْحَابه الأتراك وصاحوا أرنب أرنب وقتلوه بالنشاب ونهبوا خزانته وعادوا إِلَى حلب فاستعاد أهل حلب مِنْهُم المَال وَأقَام بأتابكية سُلْطَان شاه شمس الْخَواص يارقطاش شهر ثمَّ اجْتمعت كبراء الدولة وعزلوه وولوا أَبَا الْمَعَالِي بن الملحي الدِّمَشْقِي ثمَّ عزلوه وصادروه ثمَّ خَافُوا من الفرنج فَسَلمُوا الْبَلَد إِلَى

(2/23)


إيلغازي صَاحب ماردين فَدَخلَهَا وَسلمهَا إِلَى ابْنه تمرتاش وَعَاد إيلغازي إِلَى ماردين.
وفيهَا: جَاءَ سيل غرق سنجار وخلقاً من أَهلهَا، وَهدم الْمنَازل، وَمن العجيب أَن مهداً فِيهِ طِفْل علقه السَّيْل فِيهَا بشجرة زيتون، وَنقص المَاء عَنهُ فَسلم الطِّفْل.
وفيهَا: هجم الفرنج ربض حماه وَقتلُوا فَوق الْمِائَة وعادوا.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَخَمْسمِائة: فِيهَا عزل السُّلْطَان مَحْمُود بهروز عَن شحنكية بَغْدَاد وولاها أقسنقر البرسقي، وَسَار بهروز إِلَى تكريت وَهِي أقطاعه.
وفيهَا: سَار دبيس بن صَدَقَة إِلَى الْحلَّة بِإِذن السُّلْطَان مَحْمُود وَكَانَ اعتقله من حِين قتل أَبَاهُ فاجتمعت عَلَيْهِ الْعَرَب والأكراد.
وفيهَا: فِي سادس عشر ربيع الآخر توفّي المستظهر بِاللَّه أَحْمد بن الْمُقْتَدِي بِأَمْر الله عبد الله بن الذَّخِيرَة مُحَمَّد بن الْقَائِم وعمره إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ سنة وَسِتَّة أشهر وَأَيَّام، وخلافته أَربع وَعِشْرُونَ سنة وَثَلَاثَة أشهر وَأحد عشر يَوْمًا، وَمن نَادِر الِاتِّفَاق أَنه لما توفّي السُّلْطَان ألب أرسلان توفّي بعده الْقَائِم، وَلما توفّي ملك شاه توفّي بعده الْمُقْتَدِي وَلما توفّي مُحَمَّد توفّي بعده المستظهر.
قلت:
(تبع الْخَلَائق فِي الْوَفَاة مُلُوكهمْ ... فكأنهم كَانُوا على ميعاد)
وَالله أعلم.
" وبويع بعده ابْنه المسترشد بِاللَّه " وَهُوَ تَاسِع عشرهم أَبُو مَنْصُور فضل، أَخذ الْبيعَة لَهُ القَاضِي أَبُو الْحسن الدَّامغَانِي.
وفيهَا: توفّي أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى بن عبد الْوَهَّاب بن مَنْدَه الْأَصْفَهَانِي الْمُحدث ذُو التصانيف الْحَسَنَة، وَأَبُو الْفضل أَحْمد بن مُحَمَّد الخازن أديب لَهُ شعر حسن.
وفيهَا: قتل أرسلان شاه بن مَسْعُود السبكتكيني، قَتله أَخُوهُ بهْرَام شاه بن مَسْعُود، وَملك غزته كَمَا مر.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاثَة عشرَة وَخَمْسمِائة: فِيهَا قَاتل السُّلْطَان سنجر ابْن أَخِيه السُّلْطَان مَحْمُودًا بِالريِّ قرب ساوه فَانْهَزَمَ مَحْمُود وَنزل سنجر فِي خيامه ثمَّ اصطلحا على أَن يخْطب لسنجر وَبعده لمحمود وأضاف سنجر الرّيّ إِلَى مَا بِيَدِهِ وَقدم مَحْمُود إِلَى عَمه سنجر بِالريِّ فَأكْرمه.
وفيهَا: قَاتل إيلغازي بن أرتق الفرنج بِأَرْض حلب عِنْد عفرين فِي نصف ربيع الأول فَهَزَمَهُمْ وَقتل مِنْهُم كثيرا، وَمِمَّنْ قتل سرخال صَاحب أنطاكية وَفتح عقيب الْوَقْعَة الأثارب وزردنا فَقَالَ بعض الشُّعَرَاء فِيهِ:
(قل مَا تشَاء فقولك المقبول ... وَعَلَيْك بعد الْخَالِق التعويل)

(2/24)


(إستبشر الْقُرْآن حِين نصرته ... وَبكى لفقد رِجَاله الْإِنْجِيل)

قلت: وَهَذَا الشّعْر لَا يُعجبنِي فَإِن إنجيل عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَا يبكي لفقد الْكفَّار الْمُشْركين. وَمَا أحسن قَول بَعضهم فِي كسرة النَّصَارَى ونصرة الْمُسلمين:
(يبكي من الْمِنْبَر الصَّلِيب كَمَا ... يضْحك للمصحف الأناجيل)
وَيُمكن تَأْوِيل الْبَيْت الْمَذْكُور وَلَكِن لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه وَالله أعلم.
وفيهَا: سَار جوسلين بالفرنج صَاحب تل بَاشر ليكبس بني ربيعَة بِبَلَد دمشق وأميرهم مر بن ربيعَة، وَتَأَخر جوسلين فضل عَن عسكره وأوقعوا بالعرب فنصر الله الْعَرَب وَقتلُوا من الفرنج وأسروا خلقا.
وفيهَا: أعَاد السُّلْطَان سنجر شحنة لبغداد.
وفيهَا ظهر قبر إِبْرَاهِيم الْخَلِيل وابنيه إِسْحَاق وَيَعْقُوب عَلَيْهِم السَّلَام بِالْقربِ من بَيت الْمُقَدّس ورآهم خلق كثير لم تبل أجسامهم وَعِنْدهم فِي المغارة قناديل من ذهب وَفِضة، قَالَه حَمْزَة بن أَسد التَّمِيمِي فِي تَارِيخه.
ثمَّ دخلت سنة أَربع عشرَة وَخَمْسمِائة: فِيهَا اقتتل مَسْعُود ومحمود ابْنا السُّلْطَان مُحَمَّد عِنْد عقبَة إستراباذ فِي منتصف ربيع الأول وَاشْتَدَّ الْقِتَال فَانْهَزَمَ مَسْعُود وَعَسْكَره ثمَّ اختفى فِي جبل وَبعث يطْلب من مَحْمُود الْأمان فَأَمنهُ فَقدم وَخرج مَحْمُود بالعسكر لتلقيه واعتنقه وبكيا ووفى لَهُ وأكرمه ثمَّ قدم جيوش بك أتابك مَسْعُود فَأحْسن إِلَيْهِ مَحْمُود أَيْضا.
وَكَانَ دبيس بن صَدَقَة سَبَب الْخلف بَينهمَا ليعلو شَأْنه كَمَا علا أَبوهُ بالخلف بَين بركيا روق وَمُحَمّد أَخِيه، فَلَمَّا بلغ دبيساً انهزام مَسْعُود نهب وأفسد، فكاتبه مَحْمُود فَمَا الْتفت فقصده السُّلْطَان مَحْمُود، فهرب دبيس عَن الْحلَّة إِلَى إيلغازي بماردين، ثمَّ اتّفق الْحَال على إِن يرْهن أَخَاهُ منصوراً وَيعود إِلَى الْحلَّة.
وفيهَا: خرج الكرج وملكوا تفليس بِالسَّيْفِ وَقتلُوا فِي الْمُسلمين ونهبوا نهباً عَظِيما.
وفيهَا: التقى إيلغازي والتركمان الفرنج عِنْد دانيث البقل من بلد سرمين وَجرى قتال شَدِيد فَانْهَزَمَ الفرنج.