بِدِمَشْق إِلَى مذْهبه وأعانه وَزِير بوري
طَاهِر بن سعد المزدغاني وَسلم إِلَى بهْرَام قلعة بانياس فَعظم
بهْرَام وَملك بِالشَّام عدَّة حصون بالجبال، وَقَاتل أهل وَادي
التيم فَقتل بهْرَام وَقَامَ مقَامه بقلعة بانياس رجل مِنْهُم
يُسمى إِسْمَاعِيل، وَأقَام الْوَزير المزدغاني عوض بهْرَام
بِدِمَشْق رجلا اسْمه أَبُو الوفا وَعظم أَبُو الوفا حَتَّى صَار
الحكم لَهُ بِدِمَشْق، فكاتب الفرنج ليسلم إِلَيْهِم دمشق ويعوضوه
بصور وَجعلُوا موعدهم يَوْم الْجُمُعَة ليجعل أَصْحَابه على بَاب
الْجَامِع، وَعلم بوري بذلك فَقتل المزدغاني وَأمر النَّاس فثاروا
بالإسماعيلية فَقتل بِدِمَشْق سِتَّة آلَاف إسماعيلي، وَوصل الفرنج
إِلَى الميعاد وحصروا دمشق فَلم يظفروا بِشَيْء، وَاشْتَدَّ
الشتَاء فرحلوا كالمنهزمين وتبعهم بوري بالعسكر فَقتلُوا عدَّة
كَثِيرَة، وَسلم إِسْمَاعِيل الباطني قلعة بانياس إِلَى الفرنج
وَصَارَ مَعَهم.
وفيهَا: ملك زنكي حماة فَإِن سونج بن بوري كَانَ نَائِب أَبِيه
بحماة وَكَانَ قد سَار زنكي من الْموصل إِلَى الشَّام، وَعبر
الْفُرَات واستنجد ببوري على الفرنج فَأمر بوري سونج بِالْمَسِيرِ
من حماة إِلَى زنكي فغدر زنكي بسونج وارتكب أمرا شنيعاً من
الْقَبْض عَلَيْهِ، وَنهب عسكره وخيامه، واعتقله فِي جمَاعَة من
مقدمي عسكره بحلب، وَسَار من وقته فَملك حماة لخلوها من الْجند.
ثمَّ حاصر حمص مُدَّة وَكَانَ قد غدر أَيْضا بصاحبها قرجان بن
قراجة وَقبض عَلَيْهِ وأحضره صحبته إِلَى حمص، وَأمره أَن يَأْمر
ابْنه وَعَسْكَره بِتَسْلِيم حمص فَأَمرهمْ فَلم يلتفتوا إِلَيْهِ،
فَلَمَّا يأس زنكي مِنْهَا عَاد إِلَى الْموصل بسونج وأمراء دمشق
واستمرهم معتقلين وبذل لَهُ بوري أَمْوَالًا فِي ابْنه سونج فَلم
يتَّفق حَال.
وفيهَا ملك الفرنج: القدموس.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْفَتْح أسعد بن أبي نصر الشَّافِعِي مدرس
النظامية، وطريقته مَشْهُورَة فِي الْخلاف، وَكَانَ لَهُ قبُول
عَظِيم عِنْد الْخَلِيفَة وَالنَّاس.
وفيهَا: توفّي الشريف حَمْزَة بن هبة الله بن مُحَمَّد الْعلوِي
الْحُسَيْنِي النَّيْسَابُورِي سمع الحَدِيث الْكثير وَرَوَاهُ جمع
بَين شرف النَّفس وَالنّسب وَالتَّقوى، وَكَانَ زيدي الْمَذْهَب،
ومولده سنة تسع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَعشْرين وَخَمْسمِائة: فِيهَا اشْتَدَّ ضَرَر
الفرنج بحصن الأثارب على الْمُسلمين حَتَّى قاسموا أهل حلب على
أَعمالهَا الغربية حَتَّى طاحون الغربية، فَسَار عماد الدّين زنكي
من الْموصل ونازله، وَجمع الفرنج وقصدوه، فَترك الْحصار وَقَاتلهمْ
أَشد قتال، فَانْهَزَمَ الفرنج وَأسر كثير من فرسانهم وَقتل كثيرا،
ثمَّ عَاد زنكي فَأخذ الأثارب عنْوَة وَقتل وَأسر كل من فِيهِ،
وَجعل الْحصن دكاً إِلَى الْآن.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة (توفّي الْآمِر) بِأَحْكَام الله
مَنْصُور بن المستعلي بن الْمُسْتَنْصر الْعلوِي صَاحب مصر وثب
عَلَيْهِ فِي المنتزه الباطنية فَقَتَلُوهُ وولايته تسع
وَعِشْرُونَ سنة
(2/34)
وَخَمْسَة أشهر وَخَمْسَة عشر يَوْمًا،
وعمره أَربع وَثَلَاثُونَ سنة، وَهُوَ الْعَاشِر من ولد الْمهْدي،
وَهُوَ الْعَاشِر من الْخُلَفَاء العلويين، وَلما قتل لم يكن لَهُ
ولد فولي ابْن عَمه الْحَافِظ عبد الْمجِيد بن أبي الْقَاسِم بن
الْمُسْتَنْصر صُورَة نَائِب عَسى أَن يظْهر للْآمِر حمل واستوزر
أَبَا عَليّ أَحْمد بن الْأَفْضَل بن بدر الجمالي فتغلب على
الْحَافِظ وَنقل مَا بِالْقصرِ إِلَى دَاره وَاسْتمرّ كَذَلِك
إِلَى أَن قتل أَبُو عَليّ كَمَا سَيَأْتِي.
وفيهَا: كَانَ الرصد بِالدَّار السُّلْطَانِيَّة شَرْقي بَغْدَاد،
تولاه البديع الأسطرلابي وَلم يتم.
وفيهَا: ملك السُّلْطَان مَسْعُود قلعة ألموت.
وفيهَا توفّي إِبْرَاهِيم بن عُثْمَان بن مُحَمَّد الْغَزِّي،
وَدفن ببلخ، وَهُوَ من غَزَّة، ومولده سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين،
وَهُوَ من الشُّعَرَاء المجيدين، لَهُ قصيدة فِي مدح التّرْك
مِنْهَا:
(أمط عَن الدُّرَر الزهر اليواقيتا ... وَاجعَل لحج تلاقينا
مواقيتا)
(فِي فتية من جيوش التّرْك مَا تركت ... للرعد كراتهم صَوتا وَلَا
صيتًا)
(قوم إِذا قوبلوا كَانُوا مَلَائِكَة ... حسنا وَإِن قوتلوا
كَانُوا عفاريتا)
ثمَّ ترك الشّعْر وَقَالَ:
(قَالُوا هجرت الشّعْر قلت ضَرُورَة ... بَاب البواعث والدواعي
مغلق)
(خلت الْبِلَاد فَلَا كريم يرتجى ... مِنْهُ النوال وَلَا مليح
يعشق)
(وَمن الْعَجَائِب أَنه لَا يَشْتَرِي ... ويخان فِيهِ مَعَ الكساد
وَيسْرق)
قلت: وَله وَقد كبر وَضعف:
(طول حَيَاة مَا لَهَا طائل ... نغض عِنْدِي كل مَا يشتهى)
(أَصبَحت مثل الطِّفْل فِي ضعفه ... تناسب المبدأ والمنتهى)
وَللَّه قَوْله:
(خُذ مَا صفا لَك فالحياة غرور ... والدهر يعدل تَارَة ويجور)
(هُوَ مذنب وعلاك من حَسَنَاته ... كالنار محرقة وفيهَا النُّور)
(بَادر فَإِن الْوَقْت سيف قَاطع ... والعمر جَيش والشباب أَمِير)
وَقَوله:
(قَالُوا نزلت فَقلت الدَّهْر أقسم بِي ... لَا وَجه للرفع فِي
الْمَجْرُور بالقسم)
وَقَوله:
(أما الخيال فَمَا قبلت مِنْهُ فَمَا ... بل كَانَ حظي من إلمامه
ألما)
(وافى عبوساً فَمَا استوفيت رُؤْيَته ... باللحظ حَتَّى تلاه
الْفجْر مُبْتَسِمًا)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَعشْرين وَخَمْسمِائة " أسر دبيس بن صَدَقَة ":
سَببه مسيره من
(2/35)
الْعرَاق إِلَى صرخد فَإِن صَاحب صرخد
الحصني توفّي، فاستولت سريته إِلَى قلعتها بِمَا فِيهَا، واستدعت
دبيساً للتزوج بِهِ اسْتِدَامَة للجاه، فضل الدَّلِيل بدبيس فَنزل
بناس من كلب شَرْقي الغوطة، فَحَمَلُوهُ إِلَى بوري صَاحب دمشق فِي
شعْبَان مِنْهَا فحبسه بوري، وَبلغ ذَلِك زنكي فَأرْسل يَطْلُبهُ
مِنْهُ وَيُطلق عوضه ابْنه سونج وَأَصْحَابه حَسْبَمَا مر،
فَأَجَابَهُ بوري إِلَى ذَلِك وَأطلق زنكي الْمَذْكُورين وتسلم
دبيساً، فأيقن دبيس بِالْهَلَاكِ لِكَثْرَة مَا وَقع مِنْهُ فِي حق
زنكي، فعامله زنكي بِخِلَاف ظَنّه، وأكرمه وَحمل إِلَيْهِ
الْأَمْوَال وَالسِّلَاح وَالدَّوَاب، وَقدمه على نَفسه، وَبعث
المسترشد الْخَلِيفَة يطْلب مِنْهُ دبيساً مَعَ سديد الدولة بن
الْأَنْبَارِي وَأبي بكر بن بشر الْجَزرِي، فَأَمْسَكَهُمَا زنكي
وأوقع بِابْن بشر مَكْرُوها، ثمَّ شفع المسترشد فِي ابْن
الْأَنْبَارِي فَأَطْلقهُ، وَاسْتمرّ دبيس عِنْد زنكي، وَسَيَأْتِي
بَاقِي خَبره.
وفيهَا: فِي شَوَّال (توفّي السُّلْطَان مَحْمُود) بن مُحَمَّد بن
ملك شاه ابْن ألب أرسلان بن دَاوُد بن مِيكَائِيل بن سلجوق بهمدان،
وعمره نَحْو سبع وَعشْرين سنة، وَكسر، فاجلس وزيره أَبُو الْقَاسِم
النساباذي ابْنه دَاوُد بن مَحْمُود فِي السلطنة وَصَارَ أتابكه
أقسنقر الأحمديلي، وَكَانَ حَلِيمًا عَاقِلا.
وفيهَا: وَثَبت الباطنية على تَاج الْمُلُوك بوري بن طغتكين صَاحب
دمشق فجرحوه جرحين برأَ أَحدهمَا وتنسر الآخر فأضعفه.
وفيهَا: توفّي حَمَّاد بن مُسلم الرحي الدباس الزَّاهِد
الْمَشْهُور لَهُ كرامات وَسمع الحَدِيث، وَله تلاميذ كَثِيرُونَ
وَلَا مبالاة بثلب أبي الْفرج ابْن الْجَوْزِيّ لَهُ.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَعشْرين وَخَمْسمِائة: فِيهَا قتل أَبُو عَليّ
بن الْأَفْضَل الجمالي وَزِير الْحَافِظ الْعلوِي كَانَ قد حجر على
الْحَافِظ حَتَّى خطب لنَفسِهِ خَاصَّة، وَقطع من الْأَذَان حَيّ
على خير الْعَمَل فنفرت الشِّيعَة مِنْهُ وقتلته المماليك فِي لعب
الكرة، ونهبت دَاره، وَخرج الْحَافِظ من الاعتقال وَنقل مَا فِي
دَار أبي عَليّ إِلَى الْقصر، وبويع الْحَافِظ يَوْم قَتله واستوزر
أَبَا الْفَتْح يانس الحافظي، وَمَات يانس بعد قَلِيل فاستوزر ابْن
الْحسن نَفسه وخطب لَهُ بِولَايَة الْعَهْد.
ثمَّ قتل الْحسن سنة تسع وَعشْرين وَخَمْسمِائة فَإِنَّهُ تغلب على
الْأَمر، وصادر النَّاس، فسمه أَبوهُ، واستوزر بهْرَام
النَّصْرَانِي فتحكم وَاسْتعْمل الأرمن على النَّاس وَسَيَأْتِي.
وفيهَا: طلب مَسْعُود أَخذ السلطنة من ابْن أَخِيه دَاوُد بن
مَحْمُود، وَكَذَلِكَ طلب سلجوق بن مُحَمَّد صَاحب فَارس السلطنة،
وَقدم سلجوق بَغْدَاد وَاتفقَ مَعَ الْخَلِيفَة، واستنجد مَسْعُود
بزنكي فَسَار إِلَى بَغْدَاد لقِتَال الْخَلِيفَة وسلجوق، فقاتله
قراجة أتابك سلجوق، فَانْهَزَمَ زنكي إِلَى تكريت وَكَانَ الدزدار
بهَا نجم الدّين أَيُّوب فَأَقَامَ لَهُ المعابر فَعبر عماد الدّين
زنكي وَسَار إِلَى بِلَاده وَهَذَا سَبَب اتِّصَال نجم الدّين
أَيُّوب بزنكي، ثمَّ وَقع الِاتِّفَاق على أَن السلطنة لمسعود
وَولَايَة الْعَهْد السلجوق وعادوا إِلَى بَغْدَاد وَنزل مَسْعُود
بدار
(2/36)
السُّلْطَان وسلجوق بدارالشحنكية، وَكَانَ
اجْتِمَاعهم فِي جُمَادَى الأولى مِنْهَا ثمَّ أقبل سنجر من
خُرَاسَان وَمَعَهُ طغرل بك ابْن أَخِيه السُّلْطَان مُحَمَّد لأخذ
السلطنة من مَسْعُود، وَجرى المصاف بَينه وَبَين مَسْعُود وسلجوق،
فَانْهَزَمَ مَسْعُود، ثمَّ أَمن سنجر مسعوداً فَحَضَرَ عِنْده
وَقَبله وعاتبه وَأَعَادَهُ إِلَى كنجة، وأجلس الْملك طغرل بك فِي
السلطنة، وخطب لَهُ ثمَّ عَاد سنجر إِلَى خُرَاسَان.
وفيهَا: سَار زنكي وَمَعَهُ دبيس بن صَدَقَة فقاتل الْخَلِيفَة
بحصن البرامكة فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من رَجَب فَهزمَ زنكي
ميمنة الْخَلِيفَة وَحمل الْخَلِيفَة بِنَفسِهِ وَبَقِيَّة
الْعَسْكَر فَانْهَزَمَ دبيس ثمَّ زنكي.
وفيهَا: توفّي تَاج الْمُلُوك بوري بِسَبَب جرح الباطنية حَسْبَمَا
مر فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من رَجَب، وإمارته أَربع سِنِين
وَكسر، ووصى بِالْملكِ لِابْنِهِ شمس الْمُلُوك إِسْمَاعِيل، ووصى
ببعلبك وأعمالها لوَلَده شمس الدولة مُحَمَّد، ثمَّ استولى
مُحَمَّد على حصني الرَّأْس واللبوة فكاتب إِسْمَاعِيل أَخَاهُ
مُحَمَّدًا فِي إعادتهما فَأبى فافتتحهما إِسْمَاعِيل وقررهما
وَحصر أَخَاهُ ببعلبك وَملك الْمَدِينَة وَحصر القلعة فَسَأَلَهُ
مُحَمَّد الصفح فَأَجَابَهُ وَأبقى عَلَيْهِ بعلبك وَعَاد إِلَى
دمشق.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَعشْرين وَخَمْسمِائة: فِيهَا سَار شمس
الْمُلُوك إِسْمَاعِيل بن بوري فِي غَفلَة، وَفتح مَدِينَة بانياس
بِالسَّيْفِ، ثمَّ قلعتها بالأمان من أَيدي الفرنج.
وفيهَا: جرى بَين مَسْعُود وَمَعَهُ ابْن أَخِيه دَاوُد وَبَين
أَخِيه طغرل بك قتالاً شَدِيدا انهزم فِيهِ طغرل بك وَاسْتولى
مَسْعُود على الباطنية وطرد طغرل بك حَتَّى إِلَى الرّيّ فاقتتلا
ثَانِيًا فَانْهَزَمَ طغرل بك أَيْضا وَأسر جمَاعَة من أمرائه.
وفيهَا: حصر الْخَلِيفَة المسترشد الْموصل ثَلَاثَة أشهر، وَكَانَ
زنكي قد خرج مِنْهَا إِلَى سنجار، ثمَّ عَاد الْخَلِيفَة وَلم يظفر
بهَا.
وفيهَا: حاصر إِسْمَاعِيل بن بوري حماه وَهِي لزنكي من حِين غدر
بسونج، وَقَاتل من بهَا يَوْم عيد الْفطر وَعَاد لم يملكهَا، ثمَّ
بكر وزحف من جنباتها فملكها عنْوَة وَأمن أَهلهَا وَحصر القلعة
وَلم تكن حَصِينَة لِأَن تَقِيّ الدّين عمر ابْن أخي النَّاصِر
صَلَاح الدّين قطع جبلها فِيمَا بعد، وعملها على هيئتها الْآن،
فعجز النَّائِب عَن حفظهَا فسلمها إِلَى إِسْمَاعِيل وَمَا بهَا من
ذخائر فِي شَوَّال مِنْهَا، ثمَّ حاصر قلعة شيزر فصانعه صَاحبهَا
بِمَال فَعَاد عَنْهَا.
وفيهَا: اجْتمع التركمان إِلَى نَحْو طرابلس فَخرج فرنجها واقتتلوا
فَانْهَزَمَ الفرنج وَسَار القومص صَاحب طرابلس وَمن مَعَه
وانحصروا فِي حصن بعرين، وحصرهم التركمان فِيهِ، ثمَّ هرب القومص
من الْحصن فِي عشْرين فَارِسًا وَجمع الفرنج وقصدوا التركمان
فَعَادَت التركمان عَنْهُم.
وفيهَا: اشترت الإسماعيلية حصن القدموس من صَاحبه ابْن عمرون.
(2/37)
وفيهَا: فِي ربيع الآخر وثب على شمس
الْمُلُوك إِسْمَاعِيل بعض مماليك جده طغتكين بِسيف فَلم يعْمل
فِيهِ وقبضوا الواثب فَقَالَ: أردْت إراحة الْمُسلمين من ظلمك،
وَأقر من الضَّرْب على جمَاعَة فَقَتلهُمْ من غير تَحْقِيق وَقتل
مَعَ ذَلِك الشَّخْص أَخَاهُ سونج بن بوري، فنفرت الْقُلُوب من
إِسْمَاعِيل بقتل أَخِيه.
وفيهَا: توفّي عَليّ بن يعلى بن عوض الْهَرَوِيّ الْوَاعِظ أَكثر
من سَماع الحَدِيث، وَله ذكر بخراسان.
وفيهَا: توفّي أَبُو فليتة أَمِير مَكَّة فوليها أَبُو الْقَاسِم.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَعشْرين وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي الْمحرم
سَار شمس الْمُلُوك صَاحب دمشق وتغلب على حصن الشقيف وَأَخذه من
الضَّحَّاك بن جندل رَئِيس وَادي التيم فَعظم على الفرنج وَرفعت
الْهُدْنَة بَينهم وَبَين شمس الْمُلُوك.
وفيهَا: استولى عماد الدّين زنكي على قلاع الأكراد الحميدية
مِنْهَا الْعقر وشوش، ثمَّ على قلاع الهكارية وكواشي.
وفيهَا: أوقع ابْن الدانشمند صَاحب ملطية بفرنج الشَّام فَقتل
مِنْهُم كثيرا.
وفيهَا: اصْطلحَ الْخَلِيفَة وعماد الدّين زنكي.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَعشْرين وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي الْمحرم
مَاتَ السُّلْطَان طغرل بك بن السُّلْطَان مُحَمَّد بعد هزيمته من
أَخِيه مَسْعُود، وَقد استولى على بِلَاد الْجَبَل ومولده سنة
ثَلَاث وَخَمْسمِائة فِي الْمحرم.
وَكَانَ خيرا عَاقِلا وَبلغ أَخَاهُ ذَلِك فَسَار نَحْو هَمدَان
وَأَقْبَلت العساكر إِلَيْهِ فاستولى على هَمدَان وأطاعته
الْبِلَاد جَمِيعًا.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر قتل شمس الْمُلُوك إِسْمَاعِيل صَاحب دمشق،
ومولده سنة سِتّ وَخَمْسمِائة. وَقيل: كرهت أمة ظلمه الرّعية
فَوَافَقت على قَتله، وَقيل: اتهمت بشخص من أَصْحَاب أَبِيه اسْمه
يُوسُف بن فَيْرُوز فخافته فسر قَتله النَّاس، وَملك بعده أَخُوهُ
شهَاب الدّين مَحْمُود بن بوري، وَحلف لَهُ النَّاس.
وفيهَا: بعد قتل شمس الْمُلُوك حاصر زنكي دمشق فَلم يجد فِيهَا
مطعماً فَعَاد إِلَى بِلَاده.
وفيهَا: كَانَت الْحَرْب بَين الْخَلِيفَة المسترشد وَبَين
السُّلْطَان مَسْعُود فِي عَاشر رَمَضَان فَصَارَ غَالب عَسْكَر
الْخَلِيفَة مَعَ مَسْعُود وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ وَأسر
الْخَلِيفَة وَسَار مَسْعُود من هَمدَان إِلَى مراغة فِي شَوَّال
لقِتَال ابْن أَخِيه دَاوُد بن مَحْمُود وَأنزل الْخَلِيفَة فِي
خيمة مُنْفَرِدَة، وَاتفقَ وُصُول السُّلْطَان سنجر فَركب مَسْعُود
والعساكر لتلقيه فَوَثَبت الباطنية على المسترشد فِي الْخَيْمَة
فَقَتَلُوهُ ومثلوا بِهِ وجدعوا أَنفه وَأُذُنَيْهِ فِي يَوْم
الْأَحَد سَابِع عشر ذِي الْقعدَة وعمره
(2/38)
ثَلَاث وَأَرْبَعُونَ، وَأم المسترشد أم
ولد، وَكَانَ فصيحاً حسن الْخط شجاعاً.
" فبويع ابْنه الراشد بِاللَّه " وَهُوَ الثَّلَاثُونَ مِنْهُم
أَبُو جَعْفَر مَنْصُور بن المسترشد فضل بن المستظهر مَعَ عهد سبق
من أَبِيه وَذَلِكَ فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة
مِنْهَا، وَكتب مَسْعُود إِلَى بَغْدَاد بذلك فَحَضَرَ بيعَته أحد
وَعِشْرُونَ من أَبنَاء الْخُلَفَاء.
وفيهَا: قتل السُّلْطَان مَسْعُود دبيس بن صَدَقَة بِظَاهِر خوي،
وَكَانَ ابْنه صَدَقَة بالحلة فَلَمَّا بلغه الْخَبَر اجْتمع
عَلَيْهِ عَسْكَر أَبِيه.
وفيهَا: استولى الفرنج على جَزِيرَة جربه من أَعمال إفريقية، وهرب
أسر من بهَا من الْمُسلمين.
وفيهَا: صَالح الْمُسْتَنْصر بن هود الفرنج على تَسْلِيم حصن زوطه
من الأندلس إِلَى صَاحب طليطلة الفرنجي.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة فِيهَا: فِي ربيع الأول
تسلم شهَاب الدّين مَحْمُود بن بوري صَاحب دمشق حمص وقلعتها من
أَوْلَاد الْأَمِير قرجان لضجرهم من كَثْرَة تعرض زنكي إِلَيْهَا
وعوضهم بتدمر، فتابع زنكي الغارات عَلَيْهَا إِلَى أَن صَالحه
مَحْمُود بن بوري، فَكف زنكي حِينَئِذٍ عَنْهَا، وفيهَا سَارَتْ
عَسَاكِر زنكي الدّين بحلب وحماه ومقدمهم أسوار نَائِب زنكي بحلب
إِلَى الفرنج فِي نواحي اللاذقية، وأوقعوا بالفرنج وامتلأوا كسباً
وأسراً وعادوا.
خلع الراشد وَولَايَة المقتفي
وَهُوَ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ مِنْهُم: كَانَ الراشد قد اتّفق
مَعَ زنكي وَغَيره على خلاف السُّلْطَان مَسْعُود وَطَاعَة دَاوُد
بن السُّلْطَان مَحْمُود، فَجمع مَسْعُود العساكر وَحصر بَغْدَاد
نيفاً وَخمسين يَوْمًا فَلم يظفر بهم، فارتحل إِلَى النهروان، ثمَّ
وصل طرنطاي بسفن كَثِيرَة فَعَاد مَسْعُود إِلَى بَغْدَاد وَعبر
إِلَى غربي دجلة وَاخْتلف عَسْكَر بَغْدَاد فَعَاد الْملك دَاوُد
إِلَى بِلَاد أذربيجان فِي ذِي الْقعدَة، وَسَار الْخَلِيفَة
الراشد مَعَ عماد الدّين زنكي إِلَى الْموصل فَسَار مَسْعُود إِلَى
بَغْدَاد، وَاسْتقر بهَا فِي منتصف ذِي الْقعدَة، وَجمع الْقُضَاة
والأكابر وخلع الراشد لكَونه عاهده أَن لَا يقاتله، وَمَتى خَالف
فقد خلع نَفسه، فَكَانَت خلَافَة الراشد أحد عشر شهرا وَأحد عشر
يَوْمًا، ثمَّ بَايع المقتفي لأمر الله مُحَمَّد بن المستظهر،
والمقتفي عَم الراشد هُوَ والمسترشد ابْنا المستظهر وليا
الْخلَافَة، وَكَذَا السفاح والمنصور أَخَوان، وَكَذَا الْمهْدي
والرشيد أَخَوان، وَكَذَلِكَ الواثق والمتوكل.
وَأما ثَلَاثَة ولوا الْخلَافَة: فالأمين والمأمون والمعتصم
أَوْلَاد الرشيد، وَكَذَا المقتفي والمقتدر والقاهر بَنو المعتضد،
والراضي والمتقي والمطيع بَنو المقتدر، وَأما أَرْبَعَة ولوها:
فالوليد، وَسليمَان، وَيزِيد، هِشَام بَنو عبد الْملك لَا يعرف
غَيرهم، وَعمل بخلع الراشد محضراً أرْسلهُ إِلَى الْموصل.
(2/39)
وَزَاد المقتفي فِي أقطاع زنكي وألقابه،
وَحكم بالمحضر قَاضِي الْقُضَاة الزَّيْنَبِي بالموصل، وخطب
للمقتفي فِي الْموصل فِي رَجَب سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا عزل
الْحَافِظ وزيره بهْرَام النَّصْرَانِي الأرمني لتوليته الأرمن،
ثمَّ ترهب بهْرَام، واستوزر الْحَافِظ مَكَانَهُ رضوَان بن
الوكخشي، وَكَانَ أكبر الآنفين من تَوْلِيَة بهْرَام، ولقب رضوَان
الْملك الْأَفْضَل فَهُوَ أول وَزِير للمصريين لقب بِالْملكِ، ثمَّ
وجد الْحَافِظ على رضوَان فهرب مِنْهُ، وَفِي الآخر قَتله وَلم
يستوزر بعده.
وفيهَا: نَازل زنكي حمص وَبهَا صَاحبهَا معِين الدّين أنز أقطعه
إِيَّاهَا مَحْمُود بن بوري فَإِن أنز مَمْلُوك جده فَمَا ظفر بهَا
زنكي فارتحل عَنْهَا فِي الْعشْرين من شَوَّال إِلَى بعرين
وحصرالفرنج بقلعتها، وَجمع الفرنج وجاؤوه ليدفعوه عَنْهَا،
فَاقْتَتلُوا شَدِيدا فَانْهَزَمَ الفرنج وَدخل كثير من مُلُوكهمْ
الهاربين إِلَى حصن بارين، فعاود زنكي الْحصار لَهُم فطلبوا
الْأمان فقرر عَلَيْهِم تَسْلِيم الْحصن، وَخمسين ألف دِينَار
يحملونها إِلَيْهِ فَأَجَابُوا فَأَطْلَقَهُمْ وتسلم الْحصن
وَالذَّهَب.
وَكَانَ زنكي فِي مُدَّة مقَامه على بارين قد فتح المعرة وكفرطاب
أخذهما من الفرنج وَحضر أهل المعرة وطلبوا تَسْلِيم أملاكهم
الَّتِي كَانَ قد أَخَذتهَا الفرنج، فَطلب كتب أملاكهم فَذكرُوا
أَنَّهَا عدمت فكشف من ديوَان حلب على الْخراج وَأَفْرج عَن كل ملك
كَانَ عَلَيْهِ الْخراج لأَصْحَابه.
قلت: وَفِي تَارِيخ ابْن خلكان أَن الفرنج ملكوا معرة النُّعْمَان
فِي الْمحرم سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة، واستمرت
بأيدي الفرنج إِلَى أَن فتحهَا عماد الدّين زنكي بن أقسنقر سنة تسع
وَعشْرين وَخَمْسمِائة، وَمن على أَهله بأملاكهم والتفاوت بَين
التاريخين يسير لكنه مُخْتَلف، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي
الْمحرم ملك زنكي حصن المجدل من صَاحب دمشق وراسله مستحفظ بانياس
وأطاعه، وحاصر حمص ثمَّ رَحل عَنْهَا إِلَى سلميه لنزول الرّوم على
حلب كَمَا سَيَأْتِي.
ثمَّ عَاد ونازل حمص فتسلم الْمَدِينَة والقلعة وَأرْسل زنكي وخطب
أم شهَاب الدّين مَحْمُود صَاحب دمشق وَتَزَوجهَا وَهِي زمرد خاتون
بنت جاولي الَّتِي قتلت ابْنهَا إِسْمَاعِيل وَهِي الَّتِي بنت
الْمدرسَة المطلة على وَادي الشقرا ظَاهر دمشق، وحملت إِلَيْهِ فِي
رَمَضَان تزَوجهَا طَمَعا فِي دمشق فَمَا خَابَ أمله أعرض عَنْهَا.
قلت: وعوقبت بِالْحَاجةِ إِلَى أَن تزوجت بباقلاني فَكَانَ إِذا
غضب عَلَيْهَا لطمها فَتَقول لَهُ: لَو عَرفتنِي مَا لطمتني،
وَالله أعلم.
(2/40)
فعل ملك الرّوم بِالشَّام
خرج ملك الرّوم من بِلَاده سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة
فاشتغل بِقِتَال الأرمن وَصَاحب أنطاكية وَغَيره.
وَفِي هَذِه السّنة وصل إِلَى الشَّام وحاصر بزاعة وملكها بالأمان
وَهِي بَين حلب ومنبج فِي نصف الطَّرِيق فِي الْخَامِس
وَالْعِشْرين من رَجَب، ثمَّ غدر بِأَهْلِهَا فَقتل وسبى وَأسر،
وَتَنصر قاضيها وَنَحْو أَرْبَعمِائَة نفس خوفًا من الْقَتْل، ثمَّ
رَحل عَنْهَا بعد عشرَة أَيَّام بِمن مَعَه من الفرنج إِلَى حلب
وَنزل على قونق وَجرى بَينه وَبَين أهل حلب قتال كثير فَقتل من
الرّوم بطرِيق عَظِيم فعادوا خاسرين وَبعد ثَلَاثَة أَيَّام رحلوا
إِلَى الأثارب وملكوها وَتركُوا بهَا سَبَايَا بزاعة، وَعِنْدهم من
الرّوم من يحفظهم، وَسَار ملك الرّوم بمجموعة نَحْو شيزر فَخرج
أسوار نَائِب زنكي بحلب بِمن عِنْده وأوقع بالروم فِي الأثارب
وقتلهم واستفلت أسرى بزاعة وسباياها، وَنصب ملك الرّوم على شيرز
ثَمَانِيَة عشر منجنيقاً فاستنجد صَاحب شيزر أَبُو العساكر
سُلْطَان بن عَليّ بن مقلد بن نصر بن منقذ الْكِنَانِي زنكي فَسَار
زنكي وَنزل على العَاصِي بَين حماة وشيزر، فَكَانَ زنكي كل يَوْم
يركب فِي عسكره ويشرفون على الرّوم، وَيُرْسل السَّرَايَا
فَيَأْخُذُونَ كل مَا ظفروا بِهِ مِنْهُم إِلَى أَرْبَعَة وَعشْرين
يَوْمًا ثمَّ رحلوا عَنْهَا خائبين، وتبعهم زنكي فظفر بِكَثِير من
المتخلفين مِنْهُم. وَفِيه يَقُول مُسلم بن خضر بن قسيم
الْحَمَوِيّ:
(بعزمك أَيهَا الْملك الْعَظِيم ... تذل لَك الصعاب وتستقيم)
(ألم تَرَ أَن كلب الرّوم لما ... تبين أَنه الْملك الرَّحِيم)
(وَقد نزل الزَّمَان على رِضَاهُ ... ودان لخطبه الْخطب الجسيم)
(فحين رميته بك عَن خَمِيس ... تَيَقّن فَوت مَا أَمْسَى يروم)
(كَأَنَّك فِي العجاج شهَاب نور ... توقد وَهُوَ شَيْطَان رجيم)
(أَرَادَ بَقَاء مهجته فولى ... وَلَيْسَ سوى الْحمام لَهُ حميم)
مقتل الراشد
ثمَّ أَن الراشد بعد خلعه وذهابه مَعَ زنكي إِلَى الْموصل سَار
إِلَى مراغة، وَاتفقَ مَعَ الْملك دَاوُد بن مَحْمُود وملوك تِلْكَ
الْأَطْرَاف على قتال السُّلْطَان مَسْعُود رَجَاء الْعود إِلَى
الْخلَافَة، فَسَار إِلَيْهِم مَسْعُود واقتتلوا فَانْهَزَمَ
دَاوُد وَغَيره، وَبَقِي مَسْعُود وَحده لاشتغال أَصْحَابه
بِالْكَسْبِ فَحمل عَلَيْهِ الأميران يوزا بِهِ وَعبد الرَّحْمَن
طغايرك، فَانْهَزَمَ مَسْعُود مِنْهُمَا، وَقبض يوزا بِهِ على
جمَاعَة من أمرائه وعَلى صَدَقَة بن دبيس صَاحب الْحلَّة ثمَّ
قَتلهمْ أجميعن، والراشد إِذْ ذَاك بهمدان، وَسَار الْملك دَاوُد
إِلَى فَارس، وَبَقِي الراشد وَحده فَسَار إِلَى أصفهان، فَفِي
الْخَامِس وَالْعِشْرين وثب عَلَيْهِ نفر من الخراسانية الَّذين
مَعَه فَقَتَلُوهُ وَهُوَ
(2/41)
يُرِيد القيلولة وَهُوَ من أثر مرض، وَدفن
بشهرستان وجلسوا لعزائه فِي بَغْدَاد يَوْمًا وَاحِدًا.
وفيهَا: ملك تمرتاش صَاحب ماردين قلعة الهناخ من ديار بكر من آخر
مُلُوك بني مَرْوَان.
وفيهَا: قتل السُّلْطَان مَسْعُود البخشي شحنة بَغْدَاد.
وفيهَا: زلزل الشَّام وَالْعراق وَغَيره فَهَلَك خلق بالخراب
والردم.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وخسمائة: فِيهَا فِي الْمحرم
سَار سنجر بجموعه إِلَى خوارزم شاه أتسز بن مُحَمَّد أنوش تكين
فتقاتلا بخوارزم، فَانْهَزَمَ أتسز خوارزم شاه، وَاسْتولى سنجر على
خوارزم واستناب بهَا وَعَاد إِلَى مرو فِي جُمَادَى الآخر مِنْهَا
وَبعد عوده استولى عَلَيْهَا أتسز.
وفيهَا: فِي شَوَّال (قتل شهَاب الدّين مَحْمُود) بن بوري بن
طغتكين صَاحب دمشق قَتله على فرَاشه ثَلَاثَة من خَواص غلمانه
وهربوا من القلعة فنجى أحدهم وصلب الِاثْنَان، واستدعى معِين
الدّين أنز أَخَاهُ جمال الدّين مُحَمَّد بن بوري وَكَانَ صَاحب
بعلبك وَملكه دمشق.
وفيهَا فِي ذِي الْقعدَة: حاصر زنكي بعلبك وَنصب عَلَيْهَا
أَرْبَعَة عشر منجنيقاً ثمَّ أَمن الْمَدِينَة وتسلمها، ثمَّ أَمن
القلعة وتسلمها، ثمَّ غدر بهم فَأمر بهم فصلبوا فاستقبح النَّاس
ذَلِك، مِنْهُ وحذر، وَكَانَت بعلبك لمُعين الدّين أنز أعطَاهُ
إِيَّاهَا جمال الدّين مُحَمَّد لما ملك دمشق، وَكَانَ أنز قد تزوج
بِأم جمال الدّين مُحَمَّد صَاحب دمشق، وَله جَارِيَة يُحِبهَا
فأخرجها أنز إِلَى بعلبك، فَلَمَّا ملك زنكي بعلبك تزوج تِلْكَ
الْجَارِيَة وَدخل بهَا فِي حلب، وَبقيت حَتَّى قتل زنكي على قلعة
جعبر فأرسلها ابْنه نور الدّين مَحْمُود بن زنكي إِلَى أنز
فَكَانَت أعظم الْأَسْبَاب فِي مودتهما.
وفيهَا: توالت زلازل الشَّام وَخَربَتْ وَلَا سِيمَا فِي حلب فأنهم
فارقوا بُيُوتهم إِلَى الصَّحرَاء، ودامت من رَابِع صفر إِلَى
تَاسِع عشرَة.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا حصر زنكي
دمشق، وبذل لصَاحِبهَا جمال الدّين مُحَمَّد بعلبك وحمص فَلم
يأمنوه لغدره بِأَهْل بعلبك، نزل على داريا من ثَالِث عشر ربيع
الأول منازلاً لدمشق فَمَرض جمال الدّين مُحَمَّد بن بوري صَاحب
دمشق وَمَات فِي ثامن شعْبَان، فَشدد زنكي الْقِتَال طَمَعا لذَلِك
فَلم ينلها، وَأقَام معِين الدّين أنز فِي الْملك مجير الدّين أبق
بن مُحَمَّد بن بوري بن طغتكين، وَاسْتمرّ انز يدبر الدولة، ثمَّ
رَحل زنكي وَنزل غَدا من المرج وأحرق فِي قرى المرج وَعَاد إِلَى
بِلَاده.
وفيهَا: ملك زنكي شهرزور من صَاحبهَا قبجق بن أرسلان شاه
التركماني، وَبَقِي قبجق من عَسْكَر زنكي.
(2/42)
وفيهَا: قتلت الباطنية المقرب جوهراً من
كبراء عَسْكَر سنجر وَمن جملَة إقطاعه الرّيّ وقفُوا لَهُ فِي زِيّ
النِّسَاء.
وفيهَا: توفّي هبة الله بن الْحُسَيْن بن يُوسُف البديع
الأصطرلابي، لَهُ فِي الْآلَات الفلكية الْيَد الطُّولى، وَله شعر
جيد.
قلت مِنْهُ:
(أهدي لمجلسه الْكَرِيم وَإِنَّمَا ... أهدي لَهُ مَا حزت من
نعمائه)
(كالبحر يمطره السَّحَاب وَمَاله ... فضل عَلَيْهِ لِأَنَّهُ من
مَائه)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا وصل رَسُول
السُّلْطَان سنجر وَمَعَهُ بردة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، والقضيب أخذا من المسترشد وأعيدا إِلَى
المقتفي.
وفيهَا: ملك الإسماعيلية حصن مصياث بِالشَّام، تسلقوا على وَالِي
بني منقذ وقتلوه وملكوه.
وفيهَا: توفّي الْفَتْح بن مُحَمَّد بن عبيد الله بن خاقَان
قَتِيلا فِي فندق بمراكش، فَاضل فِي الْأَدَب، لَهُ قلائد العقبان
أَجَاد فِيهِ.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا كَانَ
المصاف الْعَظِيم بَين التّرْك الْكفَّار من الخطا وَبَين
السُّلْطَان سنجر، فَانْهَزَمَ عَسْكَر سنجر وأسرت زَوجته، وَكَانَ
خوارزم شاه مَعَ الْكفَّار لكَون سنجر قتل ابْنه، ثمَّ سَار خوارزم
شاه أتسز إِلَى خُرَاسَان وَنهب أَمْوَال سنجر وَغَيرهَا، واستقرت
دولة الخطا وَالتّرْك الْكفَّار بِمَا رواء النَّهر.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا فتح جَيش
زنكي قلعة أشب الْعَظِيمَة من أَيدي الأكراد الهكارية وخربوها،
وَبنى القلعة الْعمادِيَّة عوضهَا، وَكَانَ حصناً خراباً.
وفيهَا: حصرت فرنج الْبَحْر طرابلس الغرب ثمَّ عَادوا.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن الدانشمند صَاحب ملطية والثغر وَملك
بِلَاده الْملك مَسْعُود بن قلج أرسلان السلجوقي صَاحب قونية.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا كَانَ
الصُّلْح بَين السُّلْطَان مَسْعُود وزنكي.
وفيهَا: فتح زنكي طنزه وأسعرد وحيزان وحصن الدوق وحصن مطليس وحصن
باتسية وحصن ذِي القرنين وَأخذ من يَد الفرنج حملين والموزر وتل
موزر وَغَيرهَا من حصون جوسلين.
وفيهَا: حصر السُّلْطَان سنجر أتسز بخوارزم، فأطاعه أتسز، فَعَاد
عَنهُ سنجر.
وفيهَا: ملك زنكي عانة.
(2/43)
وفيهَا: قتل دَاوُد بن السُّلْطَان
مَحْمُود بن ملك شاه غيلَة وَلم يعرف قَاتله.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْقَاسِم مَحْمُود بن عمر بن مُحَمَّد بن عمر
الْخَوَارِزْمِيّ، الزَّمَخْشَرِيّ، ومولده فِي رَجَب سنة سبع
وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة، وزمخشر من قرى خوارزم إِمَام عصره غير
مدافع متظاهر بالإعتزال، حَنَفِيّ الْمَذْهَب افْتتح كشافه فِي
التَّفْسِير بِالْحَمْد لله الَّذِي خلق الْقُرْآن ثمَّ أصلح بعده
بِالْحَمْد لله الَّذِي أنزل الْقُرْآن، وَله الْمفصل فِي
النَّحْو، وَكم لَهُ من كتاب قدم بَغْدَاد وناظر بهَا وجاور
بِمَكَّة سِنِين فَسُمي جَار الله.
وَمن شعره يرثي شَيْخه أَبَا مُضر منصوراً:
(وقائلة مَا هَذِه الدُّرَر الَّتِي ... تساقط من عَيْنَيْك سمطين)
(فَقلت لَهَا الدّرّ الَّذِي كَانَ قد حَشا ... أَبُو مُضر أُذُنِي
تساقط من عَيْني)
وَله:
(فَإنَّا اقتصرنا بالذين تضايقت ... عيونهم وَالله يَجْزِي من
اقْتصر)
(مليح وَلَكِن عِنْده كل جفوة ... وَلم أر فِي الدُّنْيَا صفاء
بِلَا كدر)
قلت: وَقد أذكرني هَذَا بَيْتَيْنِ لي وهما:
(سل الله رَبك من فَضله ... إِذا عرضت حَاجَة مقلقة)
(وَلَا تقصد التّرْك فِي حَاجَة ... فأعينهم أعين ضيقَة)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا فتح زنكي
الرها من الفرنج بِالسَّيْفِ بعد حِصَار نَحْو شهر وسروج وَسَائِر
مَا بيد الفرنج شَرْقي الْفُرَات، وحاصر البيرة ثمَّ رَحل عَنْهَا
بِسَبَب قتل نَائِبه بالموصل نصير الدّين جقر، وَسبب قَتله أَن ألب
أرسلان بن السُّلْطَان مُحَمَّد بن مُحَمَّد السلجوقي كَانَ عِنْد
زنكي، وَكَانَ زنكي مُتَوَلِّيًا هَذِه الْبِلَاد الَّتِي بيد
الْملك ألب أرسلان وأتابكه وَلذَلِك قيل الأتابك زنكي، وَكَانَ جقر
يقوم بوظائف خدمَة ألب أرسلان بالموصل فَحسن بعض المناحيس لألب
أرسلان حَتَّى قتل جقر طَمَعا فِي أَخذ الْبِلَاد من زنكي، فاجتمعت
كبراء دولة زنكي، وأمسكوا ألب أرسلان فَترك زنكي البيرة لذَلِك
وخشي الفرنج بالبيرة من عوده فسلموها إِلَى نجم الدّين صَاحب
ماردين وَصَارَت للْمُسلمين.
وفيهَا: خرج أسطول الفرنج من صقلية إِلَى سَاحل إفريقية فملكوا
مَدِينَة برسك قتلا وسبياً.
ثمَّ دخلت سنة أَرْبَعِينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا هرب عَليّ بن دبيس
بن صَدَقَة من السُّلْطَان مَسْعُود فاستولى على الْحلَّة وتقوى.
وفيهَا: اعتقل الْخَلِيفَة المقتفي أَخَاهُ أَبَا طَالب وَغَيره من
أَقَاربه.
(2/44)
وفيهَا: ملك الفرنج شنترين وماجه ومارده
وأشبونه والمعاقل الْمُجَاورَة لَهَا من الأندلس.
وفيهَا: توفّي مُجَاهِد الدّين بهروز الْخصي الْأَبْيَض، حكم
بالعراق نيفاً وَثَلَاثِينَ سنة.
وفيهَا: توفّي الشَّيْخ أَبُو مَنْصُور موهوب بن أَحْمد الجواليقي
اللّغَوِيّ ومولده ذُو الْحجَّة سنة خمس وَسِتِّينَ
وَأَرْبَعمِائَة أَخذ عَن التبريزي وَأم بالمقتفي، كَانَ محققاً
يفكر، ثمَّ يَقُول، وَكم قَالَ: لَا أَدْرِي؛ أَخذ عَنهُ
الْكِنْدِيّ وَأَبُو الْبَقَاء، وَعبد الْوَهَّاب بن سكنبة.
وفيهَا: توفّي أَبُو بكر يحيى بن عبد الرَّحْمَن بن بَقِي الأندلسي
الْقُرْطُبِيّ الشَّاعِر، لَهُ الموشحات البديعة.
وَمن شعره:
(يَا أفتك النَّاس ألحاظاً وأطيبهم ... ريقاً مَتى كَانَ فِيك
الصاب وَالْعَسَل)
(فِي صحن خدك وَهُوَ الشَّمْس طالعة ... ورد يزينك فِيهِ الراح
والخجل)
(إِيمَان حبك فِي قلبِي يجدده ... من خدك الْكتب أَو من لحظك
الرُّسُل)
(إِن كنت تجْهَل إِنِّي عبد مملكة ... مرني بِمَا شِئْت آتيه
وأمتثل)
(لَو اطَّلَعت على قلبِي وجدت بِهِ ... من فعل عَيْنَيْك جرحا
لَيْسَ يندمل)
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا حصر
الفرنج طرابلس الغرب، وَفِي ثَالِث يَوْم أَرَادَت طَائِفَة من
أَهلهَا تأمير رجل من الملثمين طَائِفَة تقدم بني مطروح
فَاقْتَتلُوا فخلت الأسوار فانتهز الفرنج الفرصة وصعدوا بالسلاليم
وملكوها فِي الْمحرم وسفكوا ثمَّ أمنُوا من بَقِي وتراجع ناسها
وَحسن حَالهَا.
وفيهَا: حصر زنكي قلعة جعبر وصاحبها عَليّ بن مَالك بن سَالم بن
بدران بن الْمُقَلّد بن الْمسيب الْعقيلِيّ، وَحصر عسكره قلعة فنك
جَوَاز جَزِيرَة ابْن عمر وصاحبها حسام الدولة البشنوي، وَلما طَال
على زنكي منازلة قلعة جعبر أرسل مَعَ حسان البعلبكي الَّذِي كَانَ
صَاحب منبج يَقُول لصَاحب قلعة جعبر: من يخلصك مني؟ فَقَالَ لحسان:
يخلصني مِنْهُ الَّذِي خلصك من مَالك بن بهْرَام بن أرتق وَكَانَ
مَالك قد حصر منبج فَجَاءَهُ سهم فَقتله فَرجع حسان إِلَى زنكي
وَلم يُخبرهُ بذلك، وَاسْتمرّ زنكي منازلاً لقلعة جعبر فَوَثَبَ
عَلَيْهِ جمَاعَة من مماليكه فَقَتَلُوهُ فِي خَامِس ربيع الآخر
مِنْهَا لَيْلًا وهربوا إِلَى قلعة جعبر فَأعْلم أهل القلعة
الْعَسْكَر بقتْله فَدخل أَصْحَابه إِلَيْهِ وَبِه رَمق، وَكَانَ
عماد الدّين زنكي أسمر حسنا مليح الْعَينَيْنِ وخطه الشيب
وَجَاوَزَ السِّتين، وَدفن بالرقة؛ ملك الْموصل وَمَا مَعهَا
وَالشَّام خلا دمشق وَكَانَت الْأَعْدَاء مُحِيطَة بمملكته وَهُوَ
ينتصف مِنْهُم فَأخذ ابْنه نور الدّين مَحْمُود الْخَاتم من يَده
وَهُوَ قَتِيل، وَسَار فَملك حلب وَكَانَ صُحْبَة زنكي ألب أرسلان
السلجوقي فَركب يَوْم قتل زنكي وَاجْتمعت عَلَيْهِ العساكر فَحسن
لَهُ بعض أَصْحَاب زنكي الْأكل وَالشرب وَسَمَاع اللَّهْو فَسَار
ألب أرسلان إِلَى الرقة وانعكف على ذَلِك وَأرْسل أكَابِر
(2/45)
دولة زنكي إِلَى سيف الدّين غَازِي بن زنكي
يعلمونه بِالْحَال وَهُوَ بشهرزور، فَسَار وَملك الْموصل وبلادها،
ثمَّ تحرّك ألب أرسلان فحبسه غَازِي بالموصل.
قلت: كَانَ أَبُو الْحُسَيْن بن مُنِير يعير ابْن القيسراني
بِأَنَّهُ مَا صحب أحد إِلَّا نكب فغنى مغن عِنْد زنكي وَهُوَ على
قلعة جعبر قَول الشَّاعِر:
(ويلي فِي المعرض الغضبان إِذْ نقل ... الواشي إِلَيْهِ حَدِيثا
كُله زور)
(سلمت فازور يزوي قَوس حَاجِبه ... كأنني كأس خمر وَهُوَ مخمور)
فاستحسنها زنكي، وَسَأَلَ لمن هِيَ، فَقيل: لِابْنِ مُنِير، فَطلب
من حلب، فليلة وصل ابْن مُنِير قتل زنكي، فَقَالَ ابْن القيسراني:
هَذَا بِجَمِيعِ مَا كنت تبكتني بِهِ، وَالله أعلم.
وفيهَا: أرسل عبد الْمُؤمن بن عَليّ جَيْشًا فَملك من جَزِيرَة
الأندلس مَا فِيهَا من بِلَاد الْمُسلمين.
وفيهَا: بعد قتل زنكي قصد صَاحب دمشق مجير الدّين أبق حصن بعلبك
وحصره وَبِه نجم الدّين أَيُّوب بن ساري مستخفياً، فخاف أَن
أَوْلَاد زنكي لَا يُمكنهُم سرعَة إنجاده، فَسلم القلعة إِلَيْهِ
على أقطاع وَمَال وقرى، وانتقل أَيُّوب فسكن دمشق.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا دخل
نور الدّين مَحْمُود بن زنكي صَاحب حلب بِلَاد الفرنج فَفتح
مِنْهَا ارْتَاحَ بِالسَّيْفِ وحصن ماموله وكفرفوث وكفرلاثا.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا جهز رجاز
الفرنجي صَاحب صقلية مِائَتَيْنِ وَخمسين شينياً رجَالًا وسلاحاً
مقدمهم جرجي فأشرفوا على المهدية وَبهَا الْحسن بن عَليّ بن يحيى
بن تَمِيم بن الْمعز باديس صَاحب إفريقية، وَكَانَ الغلاء عَظِيما،
وَقد أكل بعض النَّاس بَعْضًا من سنة سبع وَثَلَاثِينَ، فاتفق
الْحسن بن عَليّ وأكابر الْبَلَد على أَن يرحلوا من المهدية بِمَا
خف حمله وَالرِّيح يمْنَع الأسطول من الْوُصُول.
ثمَّ دخل الفرنج المهدية ثُلثي النَّهَار بِلَا مَانع وَلَيْسَ
بهَا مِمَّن عزم على الْخُرُوج أحد، وَدخل جرجي قصر الْإِمَارَة
فَوَجَدَهُ مَمْلُوء الخزائن ذخائر وغرائب وحظايا الْحسن بن عَليّ،
وَسَار الْأَمِير حسن بأَهْله فَأَقَامَ عِنْد بعض أُمَرَاء
الْعَرَب، كَانَ يحسن إِلَيْهِ وَخَافَ من الطَّرِيق فانقبض عَن
الْمسير إِلَى الْخَلِيفَة بِمصْر، وَسَار إِلَى ملك بجاية يحيى بن
الْعَزِيز فَوكل يحيى بِهِ وبأولاده من يمنعهُم من التَّصَرُّف
وَلم يجْتَمع يحيى بهم وأنزلهم فِي جزائر بني مزغنان إِلَى أَن ملك
عبد الْمُؤمن بجاية سنة سبع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَجَمِيع
ممالك بني حَمَّاد فَأحْسن إِلَى الْأَمِير حسن إِلَى أَن فتح
المهدية فَأَقَامَ فِيهَا والياً من جِهَته وَأمره أَن يرجع إِلَى
رأى الْأَمِير حسن، وَكَانَ عدَّة من ملك من بني باديس من أريزي
إِلَى الْحسن تِسْعَة مُلُوك، ثمَّ بذل جرجي الْأمان لأهل المهدية
فتراجعوا من شدَّة الْجُوع.
وفيهَا: سَار ملك الألمان من وَرَاء الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَحصر
دمشق فِي جمع عَظِيم
(2/46)
وصاحبها مجير الدّين أبق بن مُحَمَّد بن
بوري بن طغتكين وَالْحكم إِنَّمَا هُوَ لمُعين الدّين أنز مَمْلُوك
جده طغتكين.
وَفِي سادس ربيع الأول زحفوا على دمشق وَنزل ملك الألمان بالميدان
الْأَخْضَر، وَسَار سيف الدّين غَازِي صَاحب الْموصل لينجد دمشق
وَمَعَهُ أَخُوهُ نور الدّين بعسكره فَلَمَّا وصلوا حمص فت ذَلِك
فِي أعضاد الفرنج وَأرْسل أنز إِلَى فرنج الشَّام يبْذل لَهُم قلعة
بانياس فتخلوا عَن الألمان فخافت الألمان فرحلوا عَن دمشق إِلَى
بِلَادهمْ وَسلم أنز قلعة بانياس إِلَى الفرنج حَسْبَمَا شَرط.
وفيهَا: هزم الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود الفرنج عِنْد يغري
فَقتل وَأسر وَأرْسل من الأسرى إِلَى أَخِيه سيف الدّين صَاحب
الْموصل.
وفيهَا: ملك الفرنج طرطوشة وقلاعها وحصون لارده من الأندلس.
وفيهَا: عَم الغلاء الْمَشَارِق وَالْمغْرب.
وفيهَا: فِي ربيع الأول قتل نور الدولة شاهنشاه بن أَيُّوب أَخُو
صَلَاح الدّين لِأَبَوَيْهِ قَتله الفرنج فِي المصاف فِي منازلتهم
لدمشق وَهُوَ أَبُو المظفر عمر صَاحب حماة وَأَبُو فرخ شاه صَاحب
بعلبك.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا توفّي سيف
الدّين غَازِي ابْن زنكي صَاحب الْموصل وولايته ثَلَاث سِنِين
وَشهر وَعِشْرُونَ يَوْمًا، ولد سنة خَمْسمِائَة، وَخلف ابْنا أحسن
نور الدّين تَرْبِيَته، وَتُوفِّي شَابًّا، وانقرض بِمَوْتِهِ عقب
غَازِي، وَكَانَ غَازِي حسن الصُّورَة كَرِيمًا يصنع لعسكره كل
يَوْم طَعَاما بكرَة وعشياً. وَهُوَ أول من حمل على رَأسه السنجق
فِي ركُوبه، وَأمر الْجند أَن يركبُوا بِالسُّيُوفِ فِي أوساطهم،
والدبوس تَحت ركبهمْ.
وَلما توفّي غَازِي كَانَ أَخُوهُ قطب الدّين مودود بن زنكي مُقيما
بالموصل، فاتفق الْوَزير جمال الدّين وأمير الجيوش زين الدّين على
تَمْلِيكه فحلفاه وحلفا لَهُ، واطاعته بِلَاد أَخِيه غَازِي.
ثمَّ تزوج الخاتون بنت تمرتاش صَاحب ماردين، مَاتَ عَنْهَا أَخُوهُ
غَازِي قبل الدُّخُول وَهِي أم أَوْلَاد قطب الدّين.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة (توفّي الْحَافِظ) الدّين الله بن
الْأَمِير أبي الْقَاسِم بن الْمُسْتَنْصر الْعلوِي صَاحب مصر
وخلافته عشرُون سنة إِلَّا خَمْسَة أشهر، وعمره نَحْو سبع وَسبعين،
وَمَا ولي مِنْهُم من لَيْسَ أَبوهُ خَليفَة غير الْحَافِظ
والعاضد.
وبويع بعده ابْنه الظافر بِأَمْر الله أَبُو مَنْصُور إِسْمَاعِيل
بن الْحَافِظ عبد الْمجِيد، واستوزر ابْن مصال وَبَقِي أَرْبَعِينَ
يَوْمًا، وَحضر من الْإسْكَنْدَريَّة الْعَادِل بن السلار فَأرْسل
الْعَادِل ربيبه بن أبي الْفتُوح بن يحيى بن تَمِيم بن الْمعز بن
باديس إِلَى ابْن مصال وَقد خرج فِي
(2/47)
طلب بعض المفسدين فَقتله الربيب وَعَاد
فاستقر الْعَادِل فِي الوزارة وَلم يكن للظافر الْخَلِيفَة مَعَه
حكم إِلَى أَن قَتله ربيبه عَبَّاس الْمَذْكُور وَتَوَلَّى
الوزارة.
وَكَانَ أَبُو الْفتُوح وَالِد عَبَّاس قد فَارق أَخَاهُ عَليّ بن
يحيى صَاحب إفريقية وَتُوفِّي بِمصْر فَتزَوج الْعَادِل بن السلار
أم الْعَبَّاس وَهُوَ مَعهَا صَغِير فَأحْسن تَرْبِيَته ثمَّ جازاه
بقتْله وَسَيَأْتِي ذكره.
وفيهَا: حصر الْعَادِل نور الدّين حصن حارم فَجمع الْبُرْنُس صَاحب
أنطاكية وقاتله فَانْهَزَمَ الفرنج وَقتل الْبُرْنُس.
قلت: وَفِي قتل الْبُرْنُس وَحمل رَأسه إِلَى حلب، وَأسر أَصْحَابه
يَقُول ابْن مُنِير الطرابلسي:
(أقوى الضلال وأقفرت عرصاته ... وَعلا الْهدى وتبلجت قسماته)
(وانتاش دين مُحَمَّد محموده ... من بعد مَا علت دَمًا عشراته)
(ردَّتْ على الْإِسْلَام عصر شبابه ... وثباته من دونه وثباته)
(صدم الصَّلِيب على صلابة عوده ... فتفرقت أَيدي سبا خشباته)
(وَسَقَى الْبُرْنُس وَقد تبرنس ذلة ... بِالروحِ مِمَّا قد جنت
غدراته)
(فانقاد فِي خطم الْمنية انفه ... يَوْم الْحطيم وأقصرت نزواته)
(فجلوته تبْكي الأصادق نحبه ... بِدَم إِذا ضحِكت لَهُ شماته)
(تمشي الْقَنَاة بِرَأْسِهِ وَهُوَ الَّذِي ... نظمت مدَار النيرين
قناته)
وَالله أعلم.
وَملك بعد الْبُرْنُس ابْنه بيمند وَهُوَ طِفْل، وَتَزَوَّجت أمه
بِرَجُل آخر وَتسَمى بالبرنس.
ثمَّ أَن نور الدّين غزاهم غَزْوَة أُخْرَى فَهَزَمَهُمْ وَقتل
وَأسر، وَأسر الْبُرْنُس الثَّانِي زوج أم بيمند فَتمكن بيمند فِي
ملك أنطاكية.
وفيهَا: كَانَت زَلْزَلَة عَظِيمَة.
وفيهَا: توفّي معِين الدّين أنز نَائِب صَاحب دمشق، وَإِلَيْهِ
ينْسب قصر معِين الدّين بالغور. وفيهَا: توفّي أَبُو المظفر يحيى
بن هُبَيْرَة وَزِير الْخَلِيفَة المقتفي يَوْم الْأَرْبَعَاء
رَابِع ربيع الآخر كَانَ قبل ذَلِك صَاحب ديوَان الزِّمَام.
وفيهَا: توفّي القَاضِي نَاصح الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن
الْحُسَيْن قَاضِي تستر وأرجان من أَعمالهَا.
وَمن شعره الْفَائِق:
(وَلما بلوت النَّاس أطلب عِنْدهم ... أَخا ثِقَة عِنْد اعْتِرَاض
الشدائد)
(2/48)
(فَلم أر فِيمَا سَاءَنِي غير شامت ...
وَلم أر فِيمَا سرني غير حَاسِد)
وَله:
(أعيناي كفا عَن فُؤَادِي فَإِنَّهُ ... من الْبَغي سعى اثْنَيْنِ
فِي قتل وَاحِد)
قلت: كَانَ يَنُوب عَن الْقُضَاة تَارَة بتستر، وَتارَة بعسكر مكرم
وَفِي ذَلِك يَقُول:
(وَمن النوائب انني ... فِي مثل هَذَا الشّغل نَائِب)
(وَمن الْعَجَائِب أَن لي ... صبرا على هذي الْعَجَائِب)
وأرجان تخفف راؤها وتشدد. وَله، ويروي للغزي مِمَّا يقْرَأ طرداً
وعكساً.
(مودته تدوم لكل هول ... وَهل كل مودته تدوم)
وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي القَاضِي عِيَاض بن مُوسَى بن عِيَاض السبتي بمراكش،
ومولده بسبته سنة سِتّ وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة، أحد الْأَئِمَّة
الْحفاظ الْمُحدثين الأدباء، وتآليفه وأشعاره شاهدة بذلك.
وَله: الْإِكْمَال شرح مُسلم. ومشارق الْأَنْوَار فِي غَرِيب
الحَدِيث.
قلت: وَله الشِّفَاء استقضى بسبتة طَويلا فَحَمدَ، ثمَّ ولي غرناطة
فَلم تطل مدَّته.
وَمن شعره:
(انْظُر إِلَى الزَّرْع وجاماته ... تحكي وَقد ماست أَمَام
الرِّيَاح)
(كَتِيبَة خضراء مهزومة ... شقائق النُّعْمَان فِيهَا جراح)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي الْمحرم
أخذت الْعَرَب الْحجَّاج بَين مَكَّة وَالْمَدينَة فَلم يسلم
مِنْهُم إِلَّا الْقَلِيل.
وفيهَا: حصر نور الدّين قلعة أفامية وتسلمها من الفرنج وحصنها
بِالرِّجَالِ والذخائر.
قلت: وَفِي ذَلِك يَقُول أَبُو الْحُسَيْن بن مُنِير الطرابلسي:
(أنشرت يَا مَحْمُود مِلَّة أَحْمد ... من بعد مَا شَمل البلى
آثارها)
(أدْركْت ثأرك فِي الْبُغَاة وَكنت ... يَا مُخْتَار أمة أَحْمد
مختارها)
وَالله أعلم.
وفيهَا: حاصر الأذفونش صَاحب طليطلة قرطبة ثَلَاثَة أشهر وَلم
يملكهَا.
وفيهَا: مَاتَ عَليّ بن دبيس بن صَدَقَة صَاحب الْحلَّة.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة: وفيهَا من الله
تَعَالَى على نور الدّين بأسر جوسلين، وَكَانَ من أَشْجَع الفرنج،
وَهزمَ نور الدّين مرّة، وَأسر وَقتل فِي أَصْحَابه حَتَّى أَخذ
سلَاح نور الدّين وأرسله إِلَى مَسْعُود بن فلج أرسلان صَاحب قونية
وآقسرا، وَقَالَ: هَذَا سلَاح زوج ابْنَتك، وسآتيك بعده بِمَا هُوَ
أعظم مِنْهُ، فبذل نور الدّين الوعود فِيهِ، فَأسرهُ
(2/49)
التركمان فصانعهم على مَال كثير
فَأَجَابُوهُ إِلَى إِطْلَاقه إِذا أحضر المَال، فَبلغ الْخَبَر
ابْن الداية نَائِب حلب فسير عسكراً فكبسول التركمان وأحضروه إِلَى
نور الدّين فَرَآهُ من أعظم الْفتُوح، وَأُصِيب بِهِ دين الصَّلِيب
كَافَّة.
قلت:
(لهجوا سِنِين بجوسلين فَإِنَّهُ ... قد كَانَ علجاً عَالِيا فِي
كفره)
(مَا وَحده أسروه إِذا أسروه بل ... أَسرُّوا الصَّلِيب بأسره فِي
أسره)
وَالله أعلم.
ثمَّ سَار نور الدّين بعد أسره وَملك قلاعه وبلاده وَهِي تل بَاشر
وعينتاب ودلوك وعزاز وتل خَالِد وقورس الراوندان وبرج الرصاص وحصن
البارة وَكفر سود وَكفر لاثا ومرعش ونهر الْجَوْز فِي مُدَّة
يسيرَة، وَبَقِي كلما فتح موضعا حصنه رجَالًا وذخائر.
قلت: وَفِي ذَلِك يَقُول أَبُو الْحُسَيْن بن مُنِير لنُور الدّين:
(طلعت عَلَيْك بجوسلين ذَرِيعَة ... لَا سحل أَنْشَأَهَا وَلَا
امرار)
(مَا زلت تنعم ثمَّ يكفر عاتياً ... وَالله يهدم مَا بنى
الْكفَّار)
(حَتَّى أتاح لِقَوْمِهِ مَا جَرّه ... لثمود من عقر الفصيل قدار)
وبذل جوسلين لنُور الدّين فِي فدائه أَمْوَالًا لَا تحصى
فَاسْتَشَارَ أمراءه فَلم يوافقوا على إِطْلَاقه فخالفهم وتسلم
المَال واطلقه فَمَاتَ قبل أَن يخرج من الشَّام وانتفع
الْمُسلمُونَ بِالْمَالِ وعد ذَلِك من كرامات نور الدّين، وَالله
أعلم.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا ملك عبد
الْمُؤمن بجاية وَأخذ من يحيى بن الْعَزِيز آخر مُلُوك بني حَمَّاد
جَمِيع ممالكهم، وَكَانَ يحيى مُولَعا بالصيد وَاللَّهْو
فَانْهَزَمَ وتحصن بقلعة قسطنطينة من بِلَاد بجاية، ثمَّ أَمنه عبد
الْمُؤمن وأرسله إِلَى بِلَاد الْمغرب وأجرى عَلَيْهِ شَيْئا
كثيرا.
وَقد ذكرنَا فِي تَارِيخ القيروان: أَن ملك عبد الْمُؤمن تونس
وإفريقية سنة أَربع وَخمسين وَخَمْسمِائة.
وفيهَا: فِي أول رَجَب توفّي السُّلْطَان مَسْعُود بهمذان ومولده
سنة اثْنَتَيْنِ وَخَمْسمِائة فِي ذِي الْقعدَة، وَمَات مَعَه
سَعَادَة الْبَيْت السلجوقي كَانَ مزاحا كَرِيمًا عفيفاً، وعهد
إِلَى ابْن أَخِيه ملك شاه بن مَحْمُود فَخَطب لَهُ، وَكَانَ
المتغلب على المملكة الْأَمِير خَاص بك، أَصله تركماني ثمَّ قبض
هَذَا على ملك شاه وسجنه وأحضر أَخَاهُ مُحَمَّد بن مَحْمُود من
خوزستان، فَتَوَلّى وَجلسَ على السرير، وَنوى خَاص بك إِمْسَاكه
وَالْخطْبَة لنَفسِهِ فبدره مُحَمَّد ثَانِي يَوْم صوله فَقتله
وَقتل زنكي الخزينة دَار وَألقى برأسيهما فَتفرق أصحابهما.
وفيهَا: جمعت الفرنج وقاتلت نور الدّين وَهُوَ محاصر دلوك فَعظم
الْقِتَال وَانْهَزَمَ الفرنج وَقتل فيهم وَأسر ثمَّ ملك دلوك.
(2/50)
وَمِمَّا مدح بِهِ فِي ذَلِك:
(أعدت بعصرك هَذَا الْجَدِيد ... فتوح النَّبِي وأعصارها)
(وَفِي تل بَاشر باشرتهم ... بزحف تسور أسوارها)
(وَإِن دالكتهم دلوك فقد ... شددت فصدقت أَخْبَارهَا)
قلت: وَهَذَا من قَول ابْن مُنِير أَيْضا وَهِي قصيدة طَوِيلَة
وَالله أعلم.