تاريخ ابن الوردي
الْحَوَادِث بِالْيمن
كَانَ قد تملك الْيمن الْمعز إِسْمَاعِيل سيف الْإِسْلَام بن طغتكين بن
أَيُّوب، وَكَانَ مخبطاً فَادّعى أَنه قرشي أموي وَلبس الخضرة وخطب
لنَفسِهِ بالخلافة فقاتلته جمَاعَة من مماليك أَبِيه فانتصر، ثمَّ
قَتَلُوهُ وَأَقَامُوا أَخَاهُ النَّاصِر صَغِيرا وَقَامَ بأتابكيته
سيف الدّين سنقر مَمْلُوك أَبِيه.
ثمَّ مَاتَ سنقر بعد أَربع سِنِين، وَتزَوج الْأَمِير غَازِي بن
جِبْرِيل أم النَّاصِر وَقَامَ بأتابكيته، ثمَّ سم النَّاصِر فِي فقاع
وتملك الْيمن، ثمَّ قَتله جمَاعَة من الْعَرَب لقَتله النَّاصِر وخلت
الْيمن عَن سُلْطَان فتغلبت أم النَّاصِر على زبيد وجمعت الْأَمْوَال
إنتظاراً لوصول بعض بني أَيُّوب لتتزوج بِهِ وتملكه الْبِلَاد.
وَكَانَ للمظفر تَقِيّ الدّين عمر بن شاهنشاه بن أَيُّوب ولد اسْمه سعد
الدّين شاهنشاه، وَكَانَ لَهُ ولد اسْمه تمتكين فَخرج سُلَيْمَان بن
شاهنشاه بن عمر فَقِيرا وَأرْسلت أم النَّاصِر بعض غلمانها إِلَى
مَكَّة فِي موسم الْحَاج ليأتيها بأخبار مصر وَالشَّام فَوجدَ
سُلَيْمَان فَأحْضرهُ إِلَى الْيمن فخلعت عَلَيْهِ، وملكته الْيمن،
فَمَلَأ الْيمن جوراً وأطرحها وَلم يرعها، وَكتب إِلَى
(2/117)
السُّلْطَان الْعَادِل عَم جده كتابا
أَوله: إِنَّه من سُلَيْمَان وَإنَّهُ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
فاستقل عقله، ثمَّ كَانَ مِنْهُ مَا سَيذكرُ.
وفيهَا: حاصر الْملك الْأَشْرَف صَاحب ماردين بِأَمْر أَبِيه الْعَادِل
ثمَّ صَالح الظَّاهِر بَينهمَا على أَن يحمل صَاحب ماردين مائَة ألف
وَخمسين ألف دِينَار وعَلى السِّكَّة وَالْخطْبَة لَهُ ويجيبه مَتى
طلبه.
وفيهَا: سَار الْمَنْصُور مُحَمَّد بن الْعَزِيز من مصر بِوَالِديهِ
وَأَهله فَأَقَامَ بحلب عَنهُ عَمه الظَّاهِر بعد أَن أخرجه الْعَادِل
من مصر.
وفيهَا: رابط الْمَنْصُور ببارين الفرنج وأنجده صَاحب بعلبك وَصَاحب
حمص، وَاتَّفَقُوا فِي ثَالِث رَمَضَان فَانْهَزَمَ الفرنج فَقتل فيهم
وَأسر، وَفِيه يَقُول بهاء الدّين أسعد بن يحيى السنجاري:
(مَا لَذَّة الْعَيْش إِلَّا صَوت معمعة ... ينَال فِيهَا المنى بالبيض
والأسل)
(يَا أَيهَا الْملك الْمَنْصُور نصح فَتى ... لم يلوه عَن وَفَاء
كَثْرَة العذل)
(اعزم فَلَا تتْرك الدُّنْيَا بِلَا ملك ... وجد فالملك مُحْتَاج إِلَى
رجل)
ثمَّ اجْتمع الفرنج من حصن الأكراد والمرقب والسواحل والتقوا مَعَ
الْملك الْمَنْصُور ببارين أَيْضا ثَانِيًا فانهزمت الفرنج هزيمَة
شنيعة وَأسر فيهم وَقتل، وَفِيه يَقُول سَالم بن سَعَادَة الْحِمصِي:
(أَمر اللواحظ أَن تفوق أسهماً ... ريم برامة مَا رنا حَتَّى رما)
(فتانة بِالسحرِ بل قتالة ... مَا جَار قاضيهن حَتَّى حكما)
(أَصبَحت فِيهَا مغرماً بِمُحَمد ... لما غَدا بالأريحية مغرما)
وَمِنْهَا:
(وشننت منتقماً بساحل بحرها ... جَيْشًا حكى الْبَحْر الخضم عرمرما)
(أسدلت فِي الأفاق من هبواته ... لَيْلًا وأطلعت الأسنة أنجماً)
وفيهَا: ولد الْملك المظفر تَقِيّ الدّين مَحْمُود بن الْمَنْصُور
مُحَمَّد صَاحب حماه من ملكة خاتون بنت الْملك الْعَادِل أبي بكر بن
أَيُّوب وَسمي عمر ثمَّ سمي مَحْمُودًا، ولد بقلعة حماه ظهر
الثُّلَاثَاء رَابِع عشر رَمَضَان.
قلت: وفيهَا ماجت النُّجُوم بِبَغْدَاد، وتطايرت شبه الْجَرَاد، ودام
ذَلِك إِلَى الْفجْر، وضج الْخلق بالابتهال إِلَى الله تَعَالَى؛ ذكره
الذَّهَبِيّ، وَالله أعلم.
وفيهَا: انتزع الْعَادِل من الْأَفْضَل رَأس عين وسروج وقلعة نجم وَترك
لَهُ سميساط فَقَط، فتوجهت أم الْأَفْضَل؛ وَمن حماه توجه مَعهَا
القَاضِي زين الدّين بن هندي لتشفع فِي الْأَفْضَل عِنْد الْعَادِل
فَعَادَت خائبة. قَالَ فِي الْكَامِل: عُوقِبَ الْبَيْت الصلاحي بِمَا
فعله صَلَاح الدّين لما خرجت إِلَيْهِ نسَاء بَيت الأتابك وفيهن بنت
نور الدّين يشفعن فِي إبْقَاء الْموصل
(2/118)
على عز الدّين مَسْعُود فخيبهن ثمَّ نَدم،
فَجرى للأفضل بن صَلَاح الدّين مَعَ عَمه مثله، وَهَذِه بِتِلْكَ
فَأَقَامَ الْأَفْضَل بسميساط، وَقطع خطْبَة عَمه الْعَادِل، وخطب
للسُّلْطَان سُلَيْمَان بن قلج أرسلان السلجوقي صَاحب الرّوم.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى توفّي غياث الدّين أَبُو الْفَتْح
مُحَمَّد بن سَام بن الْحُسَيْن الغوري صَاحب غزنة وَغَيرهَا.
وَكَانَ أَخُوهُ شهَاب الدّين بطوس عَازِمًا على قصد خوارزم، وَلم يحسن
شهَاب الدّين الْخلَافَة على مَحْمُود ابْن أَخِيه الَّذِي تلقب غياث
الدّين بلقب أَبِيه وَلَا على غَيره من أَهله وَقبض على زَوْجَة أَخِيه
غياث الدّين، وَكَانَت مغنية وضربها وصادرها وَلم تنهزم لغياث الدّين
راية قطّ مَعَ الدهاء وَحسن العقيدة والخط، وَنسخ مصاحف بِخَطِّهِ
لمدارسه وَصَارَ شافعياً.
وفيهَا: استولى الكرج على دوين من أذربيجان نهباً وقتلاً فوبخت
الْأُمَرَاء أَبَا بكر بن البهلوان صَاحب أذربيجان على تَشَاغُله
عَنْهَا بالشرب فَلم يلْتَفت.
وفيهَا: توفيت زمرد أم الإِمَام النَّاصِر وَكَانَت كَثِيرَة
الْمَعْرُوف.
قلت: وفيهَا توفّي الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْقرشِي فِي
السَّادِس من ذِي الْحجَّة وَدفن بجبانة ماملا ظَاهر بَيت الْمُقَدّس
ومولده قريب من سنة أَربع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة بالأندلس، وَله
كرامات خارقة وأنفاس صَادِقَة.
وَمن كَلَامه: من لم يراع حُقُوق الإخوان بترك حُقُوقه حرم بركَة
الصُّحْبَة.
وَمِنْه: من لم يكن لَهُ مقَام فِي التَّوَكُّل كَانَ نَاقِصا فِي
توحيده.
وَمِنْه: من ملك الْأَشْيَاء وَلم تملكه تصرف فِيهَا بالخلافة واسترقها
بِالْحُرِّيَّةِ.
وَمِنْه: من عَلامَة الْوَلِيّ إِذا طَال عمره كثر عمله، وَإِذا كثر
فقره زَاد سخاؤه، وَإِذا زَاد علمه كثر تواضعه.
وَمِنْه: الْفقر سر لَا يُعلمهُ إِلَّا الْأَنْبِيَاء وَبَعض الصديقين.
وَمِنْه: من صدق بِهَذَا الْأَمر فَهُوَ ولي، وَمن أدْرك مِنْهُ مقَاما
أَو نَالَ مِنْهُ حَالا فَهُوَ بدل.
عبر يَوْمًا على عَرصَة الْعِنَب فاتصل بِهِ أَنِين بعض الْأَحْمَال
فَوقف وزايد فِي الْحمل وَدفع فِيهِ إِنْسَان أَكثر من قِيمَته،
وَكَانَ يعصر الْخمر فَاشْتَرَاهُ الشَّيْخ وَدفع ثَوْبه فِي قِيمَته
فسكن أنينه ومناقبه مَجْمُوعَة مَشْهُورَة، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة سِتّمائَة: والعادل بِدِمَشْق.
وفيهَا: هادن صَاحب حماه الفرنج.
وفيهَا: نَازل ابْن الأون ملك الأرمن أنطاكية فَتحَرك الظَّاهِر بحلب
إِلَى حارم فَرَحل اللعين على عقبه.
(2/119)
وفيهَا: خطب قطب الدّين مُحَمَّد بن زنكي
بن مودود صَاحب سنجار للعادل ببلاده فصعب على ابْن عَمه أرسلان شاه بن
مَسْعُود صَاحب الْموصل فاستولى على نَصِيبين وَهِي لقطب الدّين،
فاسنتجد بالأشرف بن الْعَادِل فَسَار إِلَيْهِ وَاجْتمعَ مَعَه أَخُوهُ
الْملك الأوحد صَاحب ميافارقين، والتقوا ببوشره، فَانْهَزَمَ صَاحب
الْموصل وَدخل الْموصل بأَرْبعَة أنفس فَقَط، وَهَذِه الْوَقْعَة أول
سَعَادَة الْأَشْرَف بن الْعَادِل فَلم تنهزم راية لَهُ بعْدهَا،
واستقرت بِلَاد قطب الدّين عَلَيْهِ واصطلحوا أول سنة إِحْدَى
وسِتمِائَة.
وفيهَا: قصد الفرنج بَيت الْمُقَدّس فَأَقَامَ الْعَادِل قبالتهم
بِالطورِ إِلَى آخر السّنة.
وفيهَا: استولت الفرنج على قسطنطينية وَكَانَت بيد الرّوم من قديم ثمَّ
استعادتها الرّوم من الفرنج سنة سِتِّينَ وسِتمِائَة.
وفيهَا: توفّي السُّلْطَان ركن الدّين سُلَيْمَان بن قلج أرسلان بن
مَسْعُود السلجوقي سُلْطَان الرّوم وغدر بأَخيه صَاحب أنكورية - وَهِي
أنقرة - قبل مَرضه بِخَمْسَة أَيَّام، وَكَانَ يحسن إِلَى الفلاسفة
ويقدمهم، وَملك بعده ابْنه قلج أرسلان صَغِيرا فَم يستثبت أمره فَكَانَ
مَا سَيذكرُ.
وفيهَا: كسر ملك الغورية شهَاب الدّين خوارزم شاه بن تكش فأنجدته الخطا
فَهزمَ شهَاب الدّين، وشاع قتل شهَاب الدّين فاختلفت مَمْلَكَته ثمَّ
ظهر وَوصل غزنة، فاستقرت الْأَحْوَال.
وفيهَا: قتل ككجا مَمْلُوك البهلوان ملك الرّيّ وهمدان والجبل، قَتله
خوشداشه أيدغمش مَمْلُوكا لبهلوان وتملك مَوْضِعه وَأقَام أيدغمش ابْن
استاذه أزبك بن البهلوان فِي الْملك صُورَة، وَالْحكم لأيدغمش.
وفيهَا: استولى رجل اسْمه مَحْمُود بن مُحَمَّد الْحِمْيَرِي على ظفار
ومرباط وَغَيرهمَا من حضر موت.
وفيهَا: استولى أسطول الفرنج على فوة من ديار مصر فنهبوها خَمْسَة
أَيَّام.
وفيهَا: زلزلت مصر وَالشَّام والجزيرة وَالروم وصقلية وقبرس وَالْعراق
وَخَربَتْ صور.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وسِتمِائَة: فِيهَا هادن الْعَادِل الفرنج وَسلم
إِلَيْهِم يافا، وَنزل عَن مناصفات لد والرملة، وَأعْطى العساكر
دستوراً وَسَار إِلَى مصر وَأقَام بدار الوزارة.
وفيهَا: أغارت الفرنج ووصلوا إِلَى الرقيطا قرب حماه فامتلأوا كسباً
وأسروا شهَاب الدّين بن البلاغي، وَكَانَ فَقِيها شجاعاً تولى بر حماه
مرّة وسلمية أُخْرَى فهرب من طرابلس وَتعلق بجبال بعلبك وَوصل إِلَى
حماه ثمَّ وَقعت الْهُدْنَة بَين الْمَنْصُور صَاحب حماه وَبَين
الفرنج.
وفيهَا: بعد الْهُدْنَة توجه الْمَنْصُور إِلَى مصر مستشعراً من
الْعَادِل فَأكْرمه شهوراً وخلع عَلَيْهِ وَعَاد.
(2/120)
وفيهَا: ملك السُّلْطَان غياث الدّين
كيخسرو بن قلج أرسلان بِلَاد الرّوم، وَكَانَ لما تغلب أَخُوهُ ركن
الدّين سُلَيْمَان على الْبِلَاد هرب كيخسرو إِلَى الظَّاهِر بحلب،
ثمَّ سَار إِلَى قسطنطينية فاكرمه صَاحبهَا وَأقَام بهَا إِلَى أَن
مَاتَ سُلَيْمَان، وَتَوَلَّى ابْنه أرسلان، فَجَاءَهُ كيخسرو وأزال
ابْن أَخِيه وَملك وَاسْتقر وفيهَا كَانَت الْحَرْب بَين الْأَمِير
قَتَادَة الْحُسَيْنِي أَمِير مَكَّة حرسها الله تَعَالَى وَبَين
الْأَمِير سَالم بن قَاسم أَمِير الْمَدِينَة على ساكنها أفضل
الصَّلَاة وَالسَّلَام سجالاً.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وسِتمِائَة: والعادل بِمصْر.
ذكر قتل شهَاب الدّين ملك الغورية
وفيهَا: فِي أول شعْبَان قتل شهَاب الدّين أَبُو المظفر مُحَمَّد بن
سَام بن الْحُسَيْن الغوري ملك غزنة وَبَعض خُرَاسَان بعد عوده من
لهاوور بمنزل يُقَال لَهُ دميك قبل الْعشَاء وثب عَلَيْهِ فِي خركاهه
جمَاعَة وَقد تفرق النَّاس لأماكنهم فَقَتَلُوهُ بالسكاكين قيل
إسماعيلية وَقيل من الكوكر من الْجبَال - كَانَ قد فتك فيهم ثمَّ قتل
الحرس أُولَئِكَ، وَكَانَ غازياً عادلاً، ثمَّ سَار صَاحب باميان بهاء
الدّين سَام بن شمس الدّين مُحَمَّد بن مَسْعُود عَم غياث الدّين وشهاب
الدّين ليتملك غزنة فَمَاتَ بهاء الدّين فِي الطَّرِيق فعهد إِلَى
ابْنه عَلَاء الدّين مُحَمَّد، فَدَخلَهَا وَمَعَهُ أَخُوهُ جلال
الدّين وتملكها فَسَار تَاج الدّين يلدز مقطع كرمان مَمْلُوك غياث
الدّين وَهزمَ عَن غزنة عَلَاء الدّين مُحَمَّدًا وأخاه جلال الدّين
وَاسْتولى يلذر عَلَيْهَا فَسَار عَلَاء الدّين وجلال الدّين ابْنا
بهاء الدّين سَام إِلَى باميان وجمعا وعادا إِلَى غزنة وانتصرا وهزما
يلدز إِلَى كرمان وَاسْتقر عَلَاء الدّين مُحَمَّد بن سَام وَمَعَهُ
بعض الْعَسْكَر فِي ملك غزنة، وَعَاد أَخُوهُ جلال الدّين بباقي
الْعَسْكَر إِلَى باميان، ثمَّ إِن يلدز بلغه ذَلِك فَجمع من كرمان
وَغَيرهَا وَسَار إِلَى غزنة، فاستنجد عَلَاء الدّين أَخَاهُ جلال
الدّين وَحصر يلدز غزنة وَبهَا عَلَاء الدّين، وَسَار جلال الدّين
فَلَمَّا قَارب غزنة لقِيه يلدز واقتتلا فَانْهَزَمَ عَسْكَر جلال
الدّين وَأخذ أَسِيرًا فَأكْرمه يلدز واحترمه، وَعَاد فَحَضَرَ عَلَاء
الدّين بغزنة وَعِنْده بغزنة هندوخان بن ملكشاه بن خوارزم شاه تكش
فاستنزلهما يلدز بالأمان وتسلم غزنة.
وَأما غياث الدّين مَحْمُود بن غياث الدّين مُحَمَّد ملك الغورية
فَإِنَّهُ لما قتل عَمه شهَاب الدّين كَانَ فِي بست فَسَار وتملك
فيروزكوه وَجلسَ فِي دست أَبِيه وتلقب بألقابه فَأحْسن وَعدل، وَلما
اسْتَقر يلدز بغزنة وَأسر جلال الدّين وعلاء الدّين كتب إِلَى غياث
الدّين مَحْمُود بن غياث الدّين مُحَمَّد بن سَام بن الْحُسَيْن
بِالْفَتْح وَأرْسل إِلَيْهِ الْأَعْلَام وَبَعض الأسرى.
وفيهَا: توفّي مجير الدّين طاشتكين أَمِير الْحَاج وَكَانَ قد ولاه
الْخَلِيفَة خوزستان وَكَانَ خيرا صَالحا وَكَانَ يتشيع تشيعاً حسنا.
(2/121)
وفيهَا: تزوج أَبُو بكر بن البهلوان بنت
ملك الكرج لاشتغاله باللهو عَن التَّدْبِير فَكف الكرج عَنهُ لذَلِك.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وسِتمِائَة: فِيهَا نَازل الْعَادِل فِي طَرِيقه
إِلَى الشَّام عكا فَصَالحه أَهلهَا على إِطْلَاق الأسرى، ثمَّ وصل
دمشق ثمَّ سَار وَنزل بِظَاهِر حمص على بحيرة قدس، وَجَاءَت العساكر من
الْجِهَات، وَلما خرج رَمَضَان سَار ونازل حصن الأكراد وَفتح برج أعناز
وَأخذ مِنْهُ سِلَاحا ومالاً وَخَمْسمِائة رجل ثمَّ نصب على طرابلس
المجانيق، وعاث الْعَسْكَر فِي بلادها وَقطع قناتها، وَعَاد فِي آخر
ذِي الْحجَّة إِلَى بحيرة قدس.
وفيهَا: أرسل غياث الدّين مَحْمُود بن غياث الدّين مُحَمَّد ملك
الغورية يستميل يلدز مَمْلُوك أَبِيه المستولي على غزنة فَلم يجبهُ
يلدز وَطلب يلدز من غياث الدّين أَن يعتقهُ فأحضر الشُّهُود وَأعْتقهُ
وَأرْسل مَعَ عتاقته هَدِيَّة عَظِيمَة، وَكَذَلِكَ أعتق أيبك المستولي
على الْهِنْد وَأهْدى لَهُ فَقبل كل مِنْهُمَا ذَلِك، وخطب لَهُ أيبك
ببلاده من الْهِنْد دون يلدز وَخرج بعض العساكر عَن طَاعَة يلدز لعدم
طَاعَته لغياث الدّين.
وفيهَا: فِي ثَالِث شعْبَان ملك غياث الدّين كيخسرو صَاحب الرّوم
أنطالية - بِاللَّامِ - مَدِينَة للروم على سَاحل الْبَحْر.
وفيهَا: قبض عَسْكَر خلاط على صَاحبهَا ابْن بكتمر لكَونه قبض على
أتابكه قتلغ، وملكوا بلبان مَمْلُوك شاهرمن بن سقمان صَاحب خلاط كَمَا
مر سنة أَربع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وسِتمِائَة: والعادل على بحيرة قدس، ثمَّ هادن
صَاحب طرابلس وَنزل إِلَى دمشق.
وفيهَا: ملك الأوحد أَيُّوب بن الْعَادِل خلاط من بلبان كَمَا مر سنة
أَربع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة فَسَار الأوحد من ميافارقين وَملك موش،
ثمَّ قَاتله بلبان فَانْهَزَمَ بلبان واستنجد بمغيث الدّين طغرل بك شاه
بن قلج أرسلان السلجوقي صَاحب أرزن الرّوم فهزما الأوحد، ثمَّ غدر طغرل
بك شاه ببلبان فَقتله ليملك بِلَاده فَلم يسلمُوا إِلَيْهِ خلاط وَلَا
مناز كرد فَرجع إِلَى بِلَاده، وَكَاتب أهل خلاط الأوحد فَسَار
إِلَيْهِم وملكها وبلادها بعد يأسه مِنْهَا، وَاسْتقر فِيهَا، وَلما
اسْتَقر الْعَادِل بِدِمَشْق وصل إِلَيْهِ التشريف من الإِمَام
النَّاصِر صُحْبَة الشَّيْخ شهَاب بن السهروردي فَبَالغ الْملك
الْعَادِل فِي إكرام الشَّيْخ وتلقاه إِلَى القيصر وَوصل من صَاحِبي
حماه وحلب ذهب لينشر على الْعَادِل إِذا لبس الخلعة فَكَانَ يَوْمًا
مشهوداً والخلعة جُبَّة أطلس أسود بطراز مَذْهَب وعمامة سَوْدَاء بطراز
مَذْهَب وطوق ذهب مجوهر يطوق بِهِ، وَسيف قرَابه ملبس ذَهَبا يُقَلّد
بِهِ، وحصان أَشهب بركاب ذهب وَنشر على رَأسه علم أسود مَكْتُوب فِيهِ
بالبياض اسْم الْخَلِيفَة، ثمَّ خلع رَسُول الْخَلِيفَة على كل وَاحِد
من الْملك الْأَشْرَف والمعظم ابْني الْعَادِل وعَلى الْوَزير صفي
الدّين بن شكر، وقرىء تَقْلِيده بالبلاد الَّتِي
(2/122)
تَحت حكمه، وخوطب الْملك الْعَادِل فِيهِ
شاهنشاه ملك الْمُلُوك خَلِيل أَمِير الْمُؤمنِينَ، ثمَّ توجه الشَّيْخ
شهَاب بِالْبرِّ إِلَى مصر، فَفعل نَظِير مَا فعل بِدِمَشْق من
الاحتفال، ثمَّ عَاد الشَّيْخ إِلَى بَغْدَاد مكرماً مُعظما.
وفيهَا: اهتم الْعَادِل بعمارة قلعة دمشق، وألزم كلا من أهل بَيته ببرج
مِنْهَا.
وفيهَا: كاتبت مُلُوك مَا وَرَاء النَّهر مثل ملك سَمَرْقَنْد وَملك
بخارا خوارزم شاه يَشكونَ مَا يلقونه من الخطا ويبذلون لَهُ السِّكَّة
وَالْخطْبَة فِي بِلَادهمْ إِن دفع الخطا فَعبر عَلَاء الدّين مُحَمَّد
خوارزم شاه بن تكش نهر جيحون وَقَاتل الخطا دفعات وَالْحَرب سِجَال،
وَاتفقَ فِي بعض الوقعات أَن عَسْكَر خوارزم انهزم وَأسر خوارزم شاه
وَأسر مَعَه شخص اسْمه فلَان بن شهَاب الدّين مَسْعُود وَلم يعرفهما
الخطائي الَّذِي أسرهما، فَقَالَ ابْن مَسْعُود لخوارزم شاه: دع الْملك
وَقل إِنَّك غلامي واخدمني لتخلص فَفعل ذَلِك وَشرع بخدمه حَتَّى فِي
نزع خفه فَسَأَلَ الخطائي ابْن مَسْعُود من أَنْت؟ فَقَالَ: أَنا فلَان
فَقَالَ: لَوْلَا أَخَاف من الخطا أطلقتك، فَقَالَ ابْن مَسْعُود:
أخْشَى أَن يَنْقَطِع خبري عَن أَهلِي وأشتهي أَن يعلمُوا بحياتي
حَتَّى لَا يتقاسموا مَالِي، وأشتهي أبْعث بغلامي هَذَا مَعَ رَسُولك
ليصدقوه، فَأجَاب إِلَى ذَلِك وَرَاح خوارزم شاه مَعَ ذَلِك الشَّخْص
حَتَّى قرب من خوارزم، فَرجع الخطائي وَاسْتقر خوارزم شاه فِي ملكه،
وتراجع إِلَيْهِ عسكره.
قلت: لقد كتم خوارزم شاه سره فكتم وخدم من هُوَ دونه، فخدم وأذل نَفسه
فعز ودقق الْحِيلَة فِي المحز، شعر:
(ملك ويخدم سوقه ... عقلا ومكراً مفرطاً)
(لَوْلَا أَتبَاع صَوَابه ... مَا فَازَ من أسر الخطا)
وَالله أعلم.
وَكَانَ أَخُوهُ عَليّ شاه بن تكش نَائِبه بخراسان، فَلَمَّا بلغه عدم
أَخِيه مَعَ الْخَطَأ طلب السلطنة وَجَرت بخراسان فتن، فَلَمَّا عَاد
خوارزم شاه خَافَ أَخُوهُ عَليّ شاه فلحق بغياث الدّين مَحْمُود ملك
الغورية فَأكْرمه وَجعله عِنْده بفيروزكوه.
قتل غياث الدّين مَحْمُود وَعلي شاه: وَلما بلغ خوارزم شاه فعل أَخِيه
أرسل عسكراً لقِتَال غياث الدّين مَحْمُود الغوري إِلَى فيروزكوه
ومقدمهم أَمِير ملك فَأرْسل مَحْمُود يبْذل الطَّاعَة فَأَمنهُ أَمِير
ملك فَخرج إِلَيْهِ مَحْمُود وَمَعَهُ عَليّ شاه فَقبض عَلَيْهِمَا
وَكتب إِلَى خوارزم شاه بذلك، فَأمره بِقَتْلِهِمَا فَقَتَلَهُمَا فِي
يَوْم وَاحِد، واستقامت خُرَاسَان كلهَا لخوارزم شاه وَذَلِكَ فِي سنة
خمس وسِتمِائَة.
ومحمود هَذَا آخر مُلُوك الغورية، كَانَ كَرِيمًا عادلاً ودولتهم من
أحسن الدول، ثمَّ أَن خوارزم شاه عبر النَّهر إِلَى الخطا، وَكَانَت
التتر وَرَاء الخطا فِي حُدُود الصين، وَكَانَ ملكهم
(2/123)
حِينَئِذٍ يُقَال لَهُ كشلي خَان وَبَينه
وَبَين الخطا عَدَاوَة متحكمة فَأرْسل كل وَاحِد من كشلي خَان وَمن
الخطا يسْأَل خوارزم شاه أَن يكون مَعَه على خَصمه فأجابهما بالمغلطة
ينْتَظر مَا يكون مِنْهُمَا فَلَمَّا وَقع بَين كشلي خَان والخطا انتصر
كشلي خَان وَقتل فيهم، وفتك فيهم أَيْضا خوارزم شاه فَلم يبْق من الخظا
إِلَّا مستسلم أَو معتصم بالجبال.
ثمَّ دخلت سنة خمس وسِتمِائَة: والعادل وولداه الْأَشْرَف والمعظم
بِدِمَشْق.
وفيهَا: توجه الْأَشْرَف مُوسَى بن الْعَادِل من دمشق إِلَى بِلَاده
الشرقية وتلقاه بحلب صَاحبهَا الْملك الظَّاهِر وأنزله بالقلعة،
وَبَالغ فِي إكرامه وإقاماته، وَقدم لَهُ من التحف والنقد وَالْخَيْل
وَالْبِغَال وَالْخلْع لَهُ ولأصحابه شَيْئا فرطا، ثمَّ سَار
الْأَشْرَف إِلَى بِلَاده.
وفيهَا: أجْرى الْملك الظَّاهِر الْقَنَاة من جيلان إِلَى حلب بأموال
عَظِيمَة وَبَقِي الْبَلَد يجْرِي المَاء فِيهِ.
وفيهَا: وصل غياث الدّين كيخسرو بن قلج أرسلان السلجوقي صَاحب الرّوم
إِلَى مرعش لقصد بِلَاد ابْن الأون الأرمني وأنجده الظَّاهِر فعاث
كيخسرو فِي بِلَاد الأرمن وَنهب وَفتح حصن قرقوس.
وفيهَا: قتل معز الدّين سنجر شاه بن غَازِي بن مودود بن زنكي بن أقسنقر
صَاحب جَزِيرَة ابْن عمر؛ كَانَ ظَالِما قتالاً قطاعاً للأنوف والألسنة
والآذان واللحى، وتعدى ظلمه إِلَى أَوْلَاده وحريمه وَحبس ابنيه
مَحْمُودًا ومودوداً فِي قلعة وَحبس ابْنه غازياً بدار فِي الْمَدِينَة
وبالدار هوَام فاصطاد غَازِي حَيَّة مِنْهَا وأرسلها إِلَى أَبِيه فِي
منديل ليرق لَهُ فازداد قسوة، فاحتال غَازِي حَتَّى هرب وَله شخص
يَخْدمه فقرر مَعَه أَن يُسَافر وَيظْهر إِنَّه غَازِي بن معز الدّين
سنجر شاه ليأمنه أَبوهُ، فَمضى ذَلِك الشَّخْص إِلَى الْموصل فَأعْطى
شَيْئا وسافر مِنْهَا واتصل الْخَبَر بسنجر شاه فاطمأن وتوصل غَازِي
حَتَّى دخل دَار أَبِيه واختفى عِنْد بعض سراري أَبِيه وَعلم بِهِ
جمَاعَة مِنْهُم وكتموه بغضاً فِي سنجر شاه فَشرب سنجر شاه يَوْمًا
بِظَاهِر الْبَلَد واقترح على المغنين الْأَشْعَار الفراقية وَهُوَ
يبكي، وَدخل دَاره سَكرَان إِلَى المحضية الَّتِي ابْنه مختف عِنْدهَا،
وَدخل الخلا فهجم عَلَيْهِ ابْنه غَازِي فَضَربهُ بسكين أَربع عشر
ضَرْبَة وذبحه وَتَركه وَدخل الْحمام وَقعد يلْعَب مَعَ الْجَوَارِي،
فَلَو قدر الله أَنه أحضر الْجند واستحلفهم لوقته لتم أمره، وَلَكِن
اطْمَأَن فَجمع أستاذ الدَّار النَّاس وهجم على غَازِي فَقتله وَحلف
الْعَسْكَر لِأَخِيهِ مَحْمُود بن سنجر شاه، وتلقب معز الدّين بلقب
أَبِيه، وَوصل معز الدّين مَحْمُود وَاسْتقر بالجزيرة وغرق جواري
أَبِيه فِي دجلة ثمَّ قتل أَخَاهُ مودوداً.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وسِتمِائَة: فِيهَا سَار الْعَادِل من دمشق إِلَى
حران وَوصل إِلَى بهَا الْملك الصَّالح مَحْمُود بن مُحَمَّد بن قرا
أرسلان الأرتقي صَاحب آمد، وحصن كيفا وَسَار الْعَادِل فنازل سنجار
وَبهَا صَاحبهَا قطب الدّين مُحَمَّد بن عماد الدّين زنكي بن مودود بن
(2/124)
زنكي فحاصرها طَويلا، وخامرت العساكر
عَلَيْهِ وَنقض الظَّاهِر صَاحب حلب الصُّلْح مَعَه، فَرَحل عَن سنجار
إِلَى حران وَاسْتولى على نَصِيبين والخابور.
وفيهَا: توفّي الْملك الْمُؤَيد نجم الدّين مَسْعُود بن صَلَاح الدّين.
وفيهَا: توفّي الإِمَام فَخر الدّين مُحَمَّد بن عمر خطيب الرّيّ ابْن
الْحُسَيْن بن الْحسن بن عَليّ التَّيْمِيّ الْبكْرِيّ الطبرستاني
الأَصْل الرَّازِيّ المولد الْفَقِيه الشَّافِعِي، صَاحب التصانيف
الْمَشْهُورَة، ومولده سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة، وَمَعَ
فضائله كَانَت لَهُ الْيَد الطُّولى فِي الْوَعْظ بالعربي وبالعجمي،
ويلحقه فِيهِ وجد وبكاء، وَكَانَ أوحد فِي المعقولات وَالْأُصُول، قصد
الْكَمَال السَّمْعَانِيّ، ثمَّ عَاد إِلَى الرّيّ إِلَى الْمجد الجيلي
واشتغل عَلَيْهِمَا وسافر إِلَى خوارزم وَمَا وَرَاء النَّهر، وَجَرت
الْفِتْنَة الَّتِي ذكرت واتصل بشهاب الدّين الغوري صَاحب غزنة وَحصل
لَهُ مِنْهُ مَال طائل ثمَّ حظي فِي خُرَاسَان عِنْد السُّلْطَان
خوارزم شاه بن تكش، وشدت إِلَيْهِ الرّحال وقصده ابْن عنين ومدحه
بقصائد.
وَمن شعره فَخر الدّين:
(نِهَايَة إقدام الْعُقُول عقال ... وَأكْثر سعي الْعَالمين ضلال)
(وأرواحنا فِي وَحْشَة من جسومنا ... وَحَاصِل دُنْيَانَا أَذَى ووبال)
(وَلم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أَن جَمعنَا فِيهِ قيل
وَقَالُوا)
(وَكم قد رَأينَا من رجال ودولة ... فبادوا جَمِيعًا مُسْرِعين وزالوا)
(وَكم من جبال قد علت شرفاتها ... رجال فبادوا وَالْجِبَال جبال)
وفيهَا: فِي سلخ ذِي الْحجَّة توفّي مجد الدّين أَبُو السعادات
الْمُبَارك بن مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم الْمَعْرُوف بِابْن الْأَثِير
أَخُو غز الدّين عَليّ مؤلف الْكَامِل فِي التَّارِيخ، وَكَانَ عَالما
بالفقه والأصولين والنحو والْحَدِيث واللغة وكتابته مفلقة ومولده سنة
أَربع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة.
وفيهَا: توفّي الْمجد الْمُطَرز النَّحْوِيّ الْخَوَارِزْمِيّ، لَهُ
فِي النَّحْو تصانيف حَسَنَة.
ثمَّ دخلت سنة سبع وسِتمِائَة: فِيهَا عَاد الْعَادِل من الْبِلَاد
الشرقية إِلَى دمشق.
وفيهَا: حصر الكرج الْملك الأوحد بن الْملك الْعَادِل بخلاط وَشرب ملك
الكرج فَحسن لَهُ السكر التَّقَدُّم إِلَى خلاط فِي عشْرين فَارِسًا
وَخرج الْمُسلمُونَ إِلَيْهِ فتقطر وَأسر فَرد على الأوحد عدَّة قلاع
وبذل خَمْسَة آلَاف أَسِيرًا وَمِائَة ألف دِينَار وهادن ثَلَاثِينَ
سنة وَشرط تَزْوِيج ابْنَته من الأوحد وَأطلق.
وفيهَا: توفّي نور الدّين أرسلان شاه بن عز الدّين مَسْعُود بن مودود
بن زنكي صَاحب الْموصل فِي آخر رَجَب بِمَرَض طَوِيل، وَملك سبع عشرَة
سنة وَأحد عشر شهرا.
(2/125)
وَكَانَ أسمر حسن الْوَجْه قد أسْرع
إِلَيْهِ الشيب، شَدِيد الهيبة، قَلِيل الصَّبْر، وَملك بعده ابْنه
الْملك القاهر عز الدّين مَسْعُود وَهُوَ ابْن عشر سِنِين وَدبره بدر
الدّين لُؤْلُؤ مَمْلُوك أَبِيه وأستاذ دَاره، وَهُوَ الَّذِي ملك
الْموصل، ولأرسلان شاه ولد آخر أَصْغَر من القاهر اسْمه زنكي ملكه
أَبوهُ قلعتي الْعقر وسوس قرب الْموصل.
وفيهَا: وَردت رسل الْخَلِيفَة النَّاصِر لدين الله إِلَى مُلُوك
الْأَطْرَاف أَن يشْربُوا لَهُ كأس الفتوة، ويلبسوا لَهَا سراويلها
وَأَن ينتسبوا إِلَيْهِ فِي رمي البندق ويجعلوه قدوتهم فِيهِ
قلت: وَكَانَ بعض الْفُضَلَاء قد استفتى فِي هَذِه الفتوة بِمصْر
وَالشَّام، وَأخذ بتحريمها خطوط الْعلمَاء الْأَعْلَام، فَمنهمْ من
أجَاب على جاري الْعَادة وَمِنْهُم من أجَاب بنثر أبدعه ونظم أجاده
وأحضرها بعد ذَلِك إِلَيّ فامتنعت من الْكِتَابَة عَلَيْهَا لقصوري
فألح عَليّ فَكتبت مَا صورته:
أما بعد: حمداً لله الَّذِي من اتبع مَا أنزلهُ قبل وَمن خَالف كِتَابه
وَسنة نبيه خذل، وَالصَّلَاة على رَسُوله مُحَمَّد الَّذِي شَرِيعَته
هِيَ الفتوة حَقًا، وطريقته هِيَ الْمُرُوءَة صدقا، وعَلى آله أهل
الرأفة والإشفاق وَصَحبه الْمَأْخُوذ عَنْهُم مَكَارِم الْأَخْلَاق فقد
غاضني حَتَّى هاضني وأحنقني حَتَّى خنقني مَا أحدثه أهل الْجَهْل
والابتداع، وَسكت عَنهُ الْعلمَاء حَتَّى شاع فِي الرعاع وذاع، وَهِي
الْبِدْعَة الَّتِي يجب إخفاء رسمها، والمنكرة الْمَعْرُوفَة بالفتوة
وَهِي ضد اسْمهَا، وَكَيف لَا وَقد عكف عَلَيْهَا أَتبَاع الضَّلَالَة
ودعا إِلَيْهَا الحمقى وَأهل البطالة يجمعُونَ لَهَا الجموع والأنباط،
ويحضرها المرد وَأهل اللواط، فَمنهمْ من يتصابى على سنة وَمِنْهُم من
يمشي على بَطْنه وَمِنْهُم قوم إِذا الشَّرّ أبدى ناجذيه طاروا
إِلَيْهِ وَإِن تنحنح ذُو سطوة أجابوه بسكين وقرؤا التكاثر عَلَيْهِ
إِن اضمرت كلمة الْحق ظَهَرُوا وَإِن بني علم الْإِيمَان على الْفَتْح
استتروا مَا أحقهم بِنَفْي الْجِنْس وَمَا أولاهم بِالْكَسْرِ وجعلهم
كأمس.
شعر:
(جنائز مَجْمُوعَة ... بعهم كَبيع الْمُفلس)
(لَا قبض فِي صرفهم ... مَا هم خِيَار الْمجْلس)
كَبِيرهمْ العَاصِي يزِيد تيها على ابْن الْفُرَات وَهُوَ عِنْد
الشَّرِيعَة صَغِير ويتصدر - فيهم بِغَيْر علم وَلَا هدى وَلَا كتاب
مُنِير يلْبِسهُمْ لِبَاس شَرّ ولباس التَّقْوَى ذَلِك خير، ويشد التكة
بِيَدِهِ وَرُبمَا حل بِهِ عقيدة الْغَيْر خُصُوصا إِذا كَانَ اللابس
نقي خد فَتلك راية فَرح الْجَمَاعَة وَالطَّرِيق إِلَى مَا قد يُوجب
الْحَد ويسقيهم مَاء لَهُ بالملح مزاج بئس الشَّرَاب، وَلَو كَانَ
عذباً فراتاً فَكيف وَهُوَ ملح أجاج يشقيهم بِمَا يسقيهم ويطغيهم بِمَا
يعطيهم فيضلون بالبدعة جمعا وهم يحسبون أَنهم يحسنون صنعا ويمد لَهُم
خوانًا يجمع فَاسِقًا، وخواناً جمع ثمنه من الششم والأنزروت والقرعة
والقمار وَضرب التخوت والزبل والكنس والحجامة والدبغ والحوك والنجامة،
وَمن الزفورية والطرقية وَسَائِر الْحَرْف الدنية بعدا لَهَا من بِدعَة
سفلى
(2/126)
وَطَرِيقَة غير مثلى جمعهَا لكَونه لَا
يعقل غير سَالم، وفاعلها وَإِن كَانَ فَاعِلا مجرور على وَجهه
بِالْأَمر الْجَازِم مَا سمعنَا بِمِثْلِهَا فِي أمة وَلَا ساعد
عَلَيْهَا أحد من الْأَئِمَّة.
شعر:
(وَمَا كفى مَا أَتَوْهُ ... من الضلال الْجَلِيّ)
(حَتَّى أضافوه جهلا ... إِلَى الإِمَام عَليّ)
أقسم بِاللَّه أغْلظ يَمِين إِن مبيحها يكذب وَيَمِين، الشَّيْطَان
بغروره دلاه فَاشْترط شُرُوطًا لَيست فِي كتاب الله، فوقوف كَبِيرهمْ
لعِلَّة لَا لله، ودعوته إِلَى الْبَاطِل فِي الْجُمْلَة حَيا كميت
كَاذِبًا على آل الْبَيْت.
شعر:
(لَيْسَ الْفَتى كل الْفَتى عندنَا ... إِلَّا الَّذِي يُنْهِي عَن
الْفُحْش)
(يَأْتِي إِلَى الْإِسْلَام من بَابه ... وَيتبع الْحق بِلَا غش)
لَيْسَ الْفَتى من ضرب بالسكين وَالسيف، الْفَتى من أطْعم الْمِسْكِين
والضيف، لَيْسَ الْفَتى من عصب لأَصْحَابه وعشرائه، الْفَتى من جعل
الْحق بَين عَيْنَيْهِ وَالْبَاطِل من وَرَائه، لَيْسَ الْفَتى من
أَقَامَ الشنائع وَشهر على الْأمة السِّلَاح، الْفَتى من دقق الذرائع
وسهر فِي جمع الْكَلِمَة والإصلاح، لَيْسَ الْفَتى من كَانَ من أهل
اللياط، الْفَتى من أَخذ بالورع وَالِاحْتِيَاط، لَيْسَ الْفَتى من
قَالَ بِالشَّاهِدِ، الْفَتى من يُحَاسب نَفسه ويجاهد فَإِن قَالَ
أحدهم أَنا أَقْْضِي دين الْمَدِين وأجبر المكسور وأعين الْمِسْكِين
وأحمل الثّقل وَأطلق الْمَحْبُوس وأفك المعتقل قُلْنَا خصصت بِهِ رفاقك
وعشائرك وَتركت بَقِيَّة النَّاس وَرَاءَك، وَلَو سلم فقد أهملت وَاجِب
الْمَنْدُوب وَأَنت بكذبك على عَليّ بن أبي طَالب مَطْلُوب.
شعر:
(كذبت على آل النَّبِي بجرأة ... ورحت لأفعال الْحَرَام موجها)
(وأبديت مَعْرُوفا تضمن مُنْكرا ... كمطعمة الْأَيْتَام من كد فرجهَا)
فَإِن احْتج للفتوة بأخذها عَن الْخَلِيفَة قُلْنَا: إِن صَحَّ فبدعة
أحدثت كتقبيل العتبة الشَّرِيفَة، وَإِنَّمَا يَصح الِاقْتِدَاء
بالخلفاء الرَّاشِدين الَّذين أَخذ عَنْهُم أَئِمَّة الدّين فَلَا تحرم
نَفسك الْجنَّة بمخالفة الْكتاب وَالسّنة، وَتب إِلَى رَبك من هَذِه
الْجَهَالَة فَإِن كل محدثة بِدعَة وكل بِدعَة ضَلَالَة.
أتزعم أَن الْإِسْلَام نَاقص وَهَذِه تَتِمَّة وَالله سُبْحَانَهُ قد
أكمل لنا ديننَا وَأتم علينا النِّعْمَة.
فَالْوَاجِب علينا أَن تزجر وتهجر وَالْمُنكر عَلَيْك يُؤجر، والراضي
بِهَذِهِ الْبِدْعَة كفاعلها أعاننا الله على إِزَالَة أزلها
وَإِبْطَال باطلها، فَإِنَّهَا طَريقَة مذمومة وفعلة مُحرمَة
مَسْمُومَة، كم أفتى بتحريمها عَالم، وكما قَالَ بضعفها ولي، وَلَو صحت
عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ لكَانَتْ فِي الْقُوَّة كجلمود صَخْر حطه
السَّيْل من علا وَلَوْلَا خوف التَّطْوِيل لذكرت مَا عَلَيْهَا من
دَلِيل
(2/127)
سَمَّاهَا بعض شياطين الْإِنْس فتوة قصر
الله عمره فَلَا حول وأضعفه فَلَا قُوَّة، وَالله أعلم.
وفيهَا: سَار الْعَادِل من مقَامه بِدِمَشْق إِلَى مصر.
وفيهَا: توفّي فَخر الدّين جهاركس كَبِير الصلاحية.
وفيهَا: توفّي الْملك الأوحد أَيُّوب بن الْعَادِل فَسَار أَخُوهُ
الْأَشْرَف وَملك خلاط على مَا بِيَدِهِ من الشرق فَعظم ولقب شاهرمن.
وفيهَا: وَقتل غياث الدّين كيخسرو صَاحب الرّوم قَتله ملك الأشكري
وَملك بعده ابْنه كيكاوس كَمَا مر.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وسِتمِائَة: فِيهَا قبض الْمُعظم عِيسَى بن
الْعَادِل على عز الدّين أُسَامَة صَاحب قلعتي كَوْكَب وعجلون بِأَمْر
أَبِيه وحبسه فِي الكرك إِلَى أَن مَاتَ بهَا، وتسلم الحصنين من
غلْمَان أُسَامَة بحصار، وَخَربَتْ كَوْكَب، وَعفى أَثَرهَا، وانقرضت
الصلاحية بأسامة هَذَا، وَملك الْمُعظم بِلَاد جهاركس وَهِي بانياس
وَمَا مَعهَا لِأَخِيهِ شقيقه الْعَزِيز بن الْعَادِل، وَأعْطى صرخد
مَمْلُوكه أيبك المعظمي.
وفيهَا: عَاد الْعَادِل إِلَى الشَّام وَأعْطى ابْنه المظفر غَازِي
الرها مَعَ ميافارقين.
وفيهَا: أرسل الظَّاهِر القَاضِي بهاء الدّين بن شَدَّاد فاستعطف
الْعَادِل وخطب ابْنَته ضيفة خاتون للظَّاهِر فَزَوجهَا مِنْهُ
وتصافيا.
وفيهَا أظهر الكيا جلال الدّين حسن صَاحب الألموت من ولد الصَّباح
شَعَائِر الْإِسْلَام وَكتب بِهِ إِلَى قلاع الإسماعيلية بالعجم
وَالشَّام.
وفيهَا: توفّي أَبُو حَامِد مُحَمَّد بن يُونُس بن مَنْعَة الْفَقِيه
الشَّافِعِي بالموصل وَكَانَ إِمَامًا فَاضلا حسن الْأَخْلَاق.
قلت: وَله الْمُحِيط فِي الْجمع بَين الْمُهَذّب والوسيط وَشرح
الْوَجِيز، وعقيدة وتعليقة فِي الْخلاف لم تتمّ، وَولي خطابة الْموصل
مَعَ تدريس العزية والنورية والزينية والنقشية والعلائية، وَولي قَضَاء
الْموصل ثمَّ انْفَصل عَنهُ وَتقدم عِنْد نور الدّين أرسلان شاه،
وَسَار عَنهُ رَسُولا إِلَى بَغْدَاد مَرَّات وَإِلَى الْعَادِل، وناظر
فِي ديوَان الْخلَافَة فِي شِرَاء الْكَافِر العَبْد الْمُسلم سنة سِتّ
وَتِسْعين وَخَمْسمِائة، وَنقل نور الدّين الْمَذْكُور من مَذْهَب أبي
حنيفَة إِلَى مَذْهَب الشَّافِعِي وَلَيْسَ فِي بَيت أتابك شَافِعِيّ
سواهُ مَعَ كثرتهم وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي القَاضِي السعيد هبة الله بن جَعْفَر بن سنا الْملك
السَّعْدِيّ الْمصْرِيّ فَاضل متنعم وافر السَّعَادَة، وَله نظم فائق
مدح توران شاه أَخا السُّلْطَان صَلَاح الدّين بقصيدة مطْلعهَا:
(تقنعت لَكِن بالحبيب المعمم ... وَفَارَقت لَكِن كل عَيْش مذمم)
فهجن هَذَا المطلع وعيب.
(2/128)
وَله:
(لَا الْغُصْن يحكيك وَلَا الجؤذر ... حسنك مِمَّا أَكْثرُوا أَكثر)
(يَا باسماً أهْدى لنا ثغره ... عقدا وَلَكِن كُله جَوْهَر)
(قَالَ لي اللاحي أما تستمع ... فَقلت يَا لاحي أما تبصر)
قلت: وَأخذ الحَدِيث عَن السلَفِي، وَاخْتصرَ كتاب الْحَيَوَان للجاحظ
وَسَماهُ روح الْحَيَوَان، وَله ديوَان شعر، وديوان موشحات سَمَّاهُ
دَار الطّراز ورسائل. وَمَا أحسن قَوْله:
(وَلَو أبْصر النظام جَوْهَر ثغرها ... لما شكّ فِيهَا أَنه الْجَوْهَر
الْفَرد)
(وَمن قَالَ أَن الخيزرانة قدها ... فَقولُوا لَهُ إياك أَن يسمع
الْقد)
وَله من رِسَالَة فِي نقص النّيل بديعة: وَأما أَمر المَاء فَإِنَّهُ
نضبت مشارعه وتقطعت أَصَابِعه وَتيَمّم العمود لصَلَاة الاسْتِسْقَاء،
وهم المقياس من الضعْف بالاستلقاء، وَبلغ القَاضِي السعيد عَن أبي
المكارم هبة الله بن وَزِير بن مقلد الْكَاتِب الشَّاعِر أَنه هجاه
فَأحْضرهُ وأدبه وَشَتمه، فَكتب إِلَيْهِ نشو الْملك أَبُو الْحسن
عَليّ بن مفرج المعري الأَصْل، الْمصْرِيّ الدَّار والوفاة،
الْمَعْرُوف بِابْن المنجم الشَّاعِر الْمَشْهُور:
(قل للسعيد أدام الله نعْمَته ... صديقنا ابْن وَزِير كَيفَ تظلمه)
(صفعته إِذْ غَدا يهجوك منتقماً ... فَكيف من بعد هَذَا ظللت تشتمه)
(هجو بهجو وَهَذَا الصفع فِيهِ رَبًّا ... وَالشَّرْع مَا يَقْتَضِيهِ
بل يحرمه)
(فَإِن تقل مَا لهجو عِنْده ألم ... فالصفع وَالله أَيْضا لَيْسَ
يؤلمه)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة تسع وسِتمِائَة: فِيهَا فِي الْمحرم عقد الْملك
الظَّاهِر على ضيفة خاتون بنت الْعَادِل، وَالصَّدَاق خَمْسُونَ ألف
دِينَار، واحتفل الظَّاهِر لملتقاها بالنفائس. وفيهَا: عمر الْعَادِل
قلعة الطّور
وفيهَا: حاصر طغرل بك شاه صَاحب أرزن ابْن أَخِيه سُلْطَان الرّوم
كيكاوس بسيواس فاستنجد بالأشرف فخاف طغرل بك ورحل عَنهُ.
ثمَّ دخلت سنة عشر وسِتمِائَة: فِيهَا قتل كيكاوس عَمه طغرل بك شاه
وَأخذ بِلَاده، وَذبح أَكثر أمرائه، وَقصد أَخِيه عَلَاء الدّين كيقباد
فشفعوا فِيهِ فعفى عَنهُ.
وفيهَا: فِي رَمَضَان توفّي بحلب فَارس الدّين مَيْمُون القصري آخر
الْأُمَرَاء الصلاحية، ينتسب إِلَى قصر الْخُلَفَاء بِمصْر أَخذه
مِنْهُ صَلَاح الدّين.
وفيهَا: ولد للظَّاهِر من ضيفة خاتون بنت الْعَادِل ابْنه الْعَزِيز
غياث الدّين مُحَمَّد.
وفيهَا: قتل منكلي من البهلوانية أيدغمش الْغَالِب على مملكة هَمدَان
وَالْجِبَال، مَمْلُوك البهلوان أَيْضا هرب مِنْهُ أيدغمش إِلَى
الْخَلِيفَة ثمَّ عَاد فَقتله وَملك مَكَانَهُ.
(2/129)
وفيهَا: فِي شعْبَان توفّي ملك الْمغرب
النَّاصِر بن يَعْقُوب الْمَنْصُور بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن وتملكه
نَحْو سِتّ عشرَة سنة.
كَانَ أسيل الخد دَائِم الإطراق كثير الصمت للثغة لِسَانه، وَملك بعده
ابْنه الْمُسْتَنْصر أَبُو يَعْقُوب يُوسُف.
وفيهَا: وَقيل فِي الَّتِي قبلهَا توفّي عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ بن
خروف النَّحْوِيّ الأندلسي الأشبيلي شرح كتاب سِيبَوَيْهٍ وجمل الزجاجي
فأجاد.
قلت: وَتخرج على أبي طَاهِر النَّحْوِيّ الأندلسي، الْمَعْرُوف بالخدر،
وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي عِيسَى بن عبد الْعَزِيز الْجُزُولِيّ بمراكش إِمَام فِي
النَّحْو لَهُ فِيهِ مُقَدّمَة القانون أَتَى فِيهَا بالعجائب، واعتنى
بهَا فضلاء، وَكلهَا رموز، يعْتَرف أَكثر الْفُضَلَاء بالقصور عَنْهَا،
قدم مصر على ابْن بري النَّحْوِيّ، ثمَّ عَاد إِلَى الْمغرب، ونسبته
إِلَى جزولة بِضَم الْجِيم بطن من البربر وَتسَمى كزولة أَيْضا، وَشرح
مقدمته فأغرب وَأفَاد.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى عشرَة وسِتمِائَة: فِيهَا توفّي دلدرم بن ياروق
صَاحب تل بَاشر فوليها ابْنه فتح الدّين.
وفيهَا: توفّي الشَّيْخ عَليّ بن أبي بكر الْهَرَوِيّ وتربته
مَعْرُوفَة بحلب، كَانَ لَهُ يَد فِي الشعبذة والسيمياء والحيل، وَتقدم
عِنْد الظَّاهِر وَدَار أَكثر المعمورة.
قلت: وَله كتاب الإشارات فِي معرفَة الزيارات والخطب الهروية، وَبنى
تربته على قدر الْكَعْبَة شرفها الله تَعَالَى وَهِي فِي مدرسة بناها
لَهُ الظَّاهِر وَقد كتب الشَّيْخ على بَاب كل بَيت مِنْهَا مَا يَلِيق
بِهِ حَتَّى كتب على بَاب الميضأة بَيت المَال فِي بَيت المَاء، وَالله
أعلم.
وفيهَا: أسرت التركمان ملك الأشكري قَاتل غياث الدّين كيخسرو فَحمل
إِلَى ابْنه كيكاوس فبذل فِي نَفسه أَمْوَالًا وَسلم إِلَى كيكاوس
قلاعاً وبلاداً لم تَملكهَا الْمُسلمُونَ قطّ.
وفيهَا: عَاد الْعَادِل من الشَّام إِلَى مصر.
وفيهَا: توفّي ركن الدّين عبد السَّلَام بن عبد الْوَهَّاب بن الشَّيْخ
عبد الْقَادِر الجيلي بِبَغْدَاد، وَكَانَ قد أتهم بالفلسفة فاعتقل
ثمَّ شفع فِيهِ وَالِده فَأخْرج وَعَاد إِلَى ولاياته حَتَّى مَاتَ.
وفيهَا: فِي شَوَّال توفّي عبد الْعَزِيز بن مَحْمُود بن الأخصر وَله
سبع وَثَمَانُونَ سنة من فضلاء الْمُحدثين.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْ عشرَة وسِتمِائَة: فِيهَا بعث الْكَامِل بن
الْعَادِل ابْنه الْملك المسعود يُوسُف الْمَعْرُوف بأقسيس إِلَى
الْيمن فِي جَيش فاستولى على الْيمن وظفر بِسُلَيْمَان الَّذِي أطرح
زَوجته الَّتِي ملكته وَبعث بِهِ إِلَى مصر فَأجرى لَهُ الْكَامِل مَا
يقوم بِهِ إِلَى أَن خرج فَقتل شَهِيدا فِي المنصورة.
(2/130)
وفيهَا: توفّي الْأَمِير عَليّ بن الإِمَام
النَّاصِر فأحزن أَبَاهُ ورثته الشُّعَرَاء.
وفيهَا: قصدت العساكر من بَغْدَاد وَغَيرهَا منكلي صَاحب هَمدَان
وأصبهان والري فَانْهَزَمَ وَقتل فِي ساوه، وَتَوَلَّى بعده أغملش أحد
المماليك البهلوانية أَيْضا.
وفيهَا: فِي شعْبَان ملك خوارزم شاه بن تكش غزنة من يلدز الْمُقدم ذكره
فهرب يلدز إِلَى لهاوور من الْهِنْد وَاسْتولى عَلَيْهَا، ثمَّ سَار
عَن لهاوور ليستولي على بعض الْهِنْد الدَّاخِل تَحت حكم قطب الدّين
أيبك خشداشه فاقتتلا فَقتل يلدز، وَكَانَ محسنا إِلَى الرّعية. وفيهَا:
توفّي الْوَجِيه الْمُبَارك بن أبي الْأَزْهَر سعيد بن الدهان
النَّحْوِيّ الضَّرِير قَرَأَ على ابْن الْأَنْبَارِي وَغَيره، كَانَ
حنبلياً فَصَارَ حنفياً ثمَّ شافعياً فَقَالَ فِيهِ أَبُو البركات زيد
التكريتي:
(أَلا مبلغ عني الْوَجِيه رِسَالَة ... وَإِن كَانَ لَا تجدي إِلَيْهِ
الرسائل)
(تمذهبت للنعمان بعد ابْن حَنْبَل ... وفارقته إِذْ أعوزتك المآكل)
(وَمَا اخْتَرْت رَأْي الشَّافِعِي تديناً ... ولكنما تهوى الَّذِي
هُوَ حَاصِل)
(وَعَما قَلِيل أَنْت لَا شكّ صائر ... إِلَى مَالك فافطن لما أَنا
قَائِل)
قلت: وَهَذَا غير ابْن الدهان الْمَعْرُوف بالحمصي، فَذَلِك أَبُو
الْفرج عبد الله بن أسعد بن عَليّ بن عِيسَى المنعوت بالمهذب بن الدهان
الْفَقِيه الشَّاعِر الَّذِي من شعره السائر:
(يضحى يجانبني مجانبة العدا ... ويبيت وَهُوَ إِلَى الصَّباح نديم)
(ويمر بِي يخْشَى الوشاة وَلَفظه ... شتم وملء جفونه تَسْلِيم)
وَتُوفِّي بحمص سنة إِحْدَى وَهُوَ الْأَصَح، وَقيل: اثْنَتَيْنِ
وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث عشرَة وسِتمِائَة: فِيهَا فِي ثَالِث عشر جمادي
الْآخِرَة توفّي الْملك الظَّاهِر غَازِي، وعمره أَربع وَأَرْبَعُونَ
سنة وَكسر، وَملكه لحلب من حِين وَهبهَا لَهُ أَبوهُ إِحْدَى
وَثَلَاثُونَ سنة، كَانَ مقدما على سفك الدِّمَاء، ثمَّ أقصر عَنهُ.
وَملك بعده ابْنه الصَّغِير الْملك الْعَزِيز بِعَهْد من أَبِيه وعمره
سنتَانِ وَأشهر ودبر أُمُوره شهَاب الدّين طغرل بك الْخَادِم فَأحْسن
السياسة، وَكَانَ عمره الصَّالح أَحْمد أخي الْعَزِيز اثْنَتَيْ عشرَة
سنة، وَأوصى الظَّاهِر لَهُ بِالْملكِ بعد الْعَزِيز وَأخرج الظافر
المشمر قبل مَوته إِلَى إقطاعه كفر سود، وَعلم الدّين قَيْصر
الظَّاهِرِيّ إِلَى حارم نَائِبا.
وفيهَا: توفّي تَاج الدّين زيد بن الْحسن بن زيد الْكِنْدِيّ
النَّحْوِيّ اللّغَوِيّ، وَله الْإِسْنَاد العالي فِي الحَدِيث
والفنون، انْتقل إِلَى دمشق وَهُوَ بغدادي المولد والمنشأ.
قلت: كتب إِلَيْهِ أَبُو شُجَاع الدهان الفرضي:
(يَا زيد زادك رَبِّي من مواهبه ... نعمى يقصر عَن إِدْرَاكهَا الأمل)
(2/131)
(لَا غير الله حَالا قد حباك بهَا ... مَا
دَار بَين النُّحَاة الْحَال وَالْبدل)
(النَّحْو أَنْت أَحَق الْعَالمين بِهِ ... أَلَيْسَ بِاسْمِك فِيهِ
يضْرب الْمثل)
وامتدحه الشَّيْخ علم الدّين السخاوي بقوله:
(لم يكن فِي عصر عَمْرو مثله ... وَكَذَا الْكِنْدِيّ فِي آخرعصر)
(فهما زيد وَعَمْرو إِنَّمَا ... بنى النَّحْو على زيد وَعَمْرو)
وَمن شعر أبي الْيمن زيد الْكِنْدِيّ الْمَذْكُور:
(دع المنجم يكبو فِي ضلالته ... إِن ادّعى علم مَا يجْرِي بِهِ الْفلك)
(تفرد الله بِالْعلمِ الْقَدِيم فَلَا ... الْإِنْسَان يشركهُ فِيهِ
وَلَا الْملك)
(أعد للرزق من إشراكه شركا ... لبئست الخلتان الشّرك والشرك)
ومولده سنة عشْرين وَخَمْسمِائة، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة أَربع عشرَة وسِتمِائَة: والعادل بِمصْر وَقد وصل الفرنج
من الْبَحْر إِلَى عكا فِي جمع عَظِيم فجَاء الْعَادِل إِلَى نابلس
واندفع قدامهم إِلَى عقبَة أفِيق لكثرتهم فوصلت غارتهم إِلَى نوى من
السوَاد وانبثوا فَقتلُوا وغنموا عَظِيما وعادوا إِلَى مرج عكا،
والعادل بمرج الصفر، وحصروا الطّور ثمَّ رحلوا عَنهُ وَخرجت السّنة وهم
بعكا.
وفيهَا: سَار خوارزم شاه عَلَاء الدّين مُحَمَّد بن تكش فَملك بِلَاد
الْجَبَل وَغَيرهَا.
فَمِنْهَا: ساوه وقزوين وزنجان وأبهر وهمدان وأصبهان وقم وقاشان،
وأطاعه أزبك بن البهلوان صَاحب أذربيجان وأران، وخطب لَهُ وَسَار
ليدْخل بَغْدَاد فكاد الثَّلج يُهْلِكهُمْ فَرَجَعُوا إِلَى خُرَاسَان،
وَقطع مِنْهَا خطْبَة الإِمَام النَّاصِر سنة خمس عشرَة وسِتمِائَة،
وَكَذَلِكَ قطعت خطْبَة الإِمَام النَّاصِر فِيمَا وَرَاء النَّهر.
ثمَّ دخلت سنة خمس عشرَة وسِتمِائَة: والعادل بمرج الصفر والفرنج بعكا،
ثمَّ سَار الفرنج إِلَى دمياط فَنزل كَامِل بن الْعَادِل من مصر إِلَى
قبالتهم مُدَّة أَرْبَعَة أشهر، ثمَّ اجْتمعت عَسَاكِر الشَّام
وَغَيرهَا عِنْد الْكَامِل فَأخذ فِي قتال الفرنج ودفعهم عَن دمياط.
وفيهَا: توفّي الْملك القاهر عز الدّين مَسْعُود بن أرسلان شاه بن
مَسْعُود بن مودود بن زنكي بن أقسنقر صَاحب الْموصل لثلاث بَقينَ من
ربيع الأول وَملكه سبع سِنِين وَتِسْعَة أشهر، وانقرض بِمَوْتِهِ
ملكهم، وَله إبنان أكبرهما أرسلان شاه وعمره نَحْو عشر سِنِين، فأوصى
بِالْملكِ لَهُ بتدبير مَمْلُوكه بدر الدّين لُؤْلُؤ فَجعل بدر الدّين
لُؤْلُؤ السِّكَّة وَالْخطْبَة للمذكور ودبر المملكة أحسن تَدْبِير.
ذكر قصد ملك الرّوم حلب
لما جلس الْعَزِيز وَهُوَ طِفْل فِي مملكه حلب استدعى كيكاوس صَاحب
الرّوم الْملك الْأَفْضَل صَاحب سميساط واتفقا أَن يفتح حلب وبلادها
ويسلمها إِلَى الْأَفْضَل ثمَّ يفتح الْبِلَاد.
(2/132)
الشرقية الَّتِي بيد الْأَشْرَف بن
الْعَادِل ويتسلمها كيكاوس وَسَار إِلَى حلب وَوصل رعبان وَسلمهَا
إِلَى الْأَفْضَل فمالت إِلَيْهِ قُلُوب أهل الْبِلَاد لذَلِك ثمَّ فتح
تل بَاشر وَبهَا ابْن دلدرم وَأَخذهَا كيكاوس لنَفسِهِ، فَتغير خاطر
الْأَفْضَل وَأهل الْبِلَاد لذَلِك، وَوصل الْأَشْرَف بن الْعَادِل
إِلَى حلب للدَّفْع عَنْهَا، وَوصل إِلَيْهِ بهَا الْأَمِير مَانع بن
جديثة أَمِير الْعَرَب فِي جمع عَظِيم.
وَكَانَ كيكاوس قد تسلم منبج لنَفسِهِ وَنزل الْأَشْرَف بجموعه وَادي
بزاعة وَانْقطع بعض عكسره مَعَ مُقَدّمَة عَسْكَر كيكاوس، وانهزمت
مُقَدّمَة عَسْكَر كيكاوس وَأسر بَعْضهَا، وَبلغ ذَلِك كيكاوس بمنبج
فولى مُنْهَزِمًا، وَتَبعهُ الْأَشْرَف يتخطف أَطْرَافهم، ثمَّ
اسْترْجع الْأَشْرَف تل بَاشر ورعبان وَغَيرهمَا، وَتوجه الْأَفْضَل
إِلَى سميساط وَلم يطْلب بعْدهَا ملكا، وَعَاد الْأَشْرَف إِلَى حلب
وَقد بلغه وَفَاة أَبِيه.
ذكر وَفَاة الْملك الْعَادِل
كَانَ بمرج الصفر وَأرْسل الْعَسْكَر إِلَى ابْنه الْكَامِل بِمصْر،
ثمَّ نزل بفالقين عِنْد عقبَة أفِيق، فَمَرض وَتُوفِّي بهَا فِي سَابِع
جُمَادَى الْآخِرَة مِنْهَا، ومولده سنة أَرْبَعِينَ وَخَمْسمِائة
فعمره خمس وَسَبْعُونَ، وَملكه لدمشق ثَلَاث وَعِشْرُونَ سنة، ولمصر
تسع عشرَة سنة.
كَانَ يقظاً عَاقِلا حَلِيمًا مَاكِرًا صبوراً، واتسع ملكه وَكثر
أَوْلَاده وَرَأى فيهم مَا لَا رَآهُ ملك فِي أَوْلَاده، وَقد أَجَاد
شرف الدّين بن عنين حَيْثُ يَقُول فِيهِ:
(مَاذَا على طيف الْأَحِبَّة لَو سرى ... وَعَلَيْهِم لَو سامحوني
بالكرا)
وَمِنْهَا:
(الْعَادِل الْملك الَّذِي أسماؤه ... فِي كل نَاحيَة تشرف منبرا)
(مَا فِي أبي بكر لمعتقد الْهدى ... شكّ يريب بِأَنَّهُ خير الورى)
(بَين الْمُلُوك الغابرين وَبَينه ... فِي الْفضل مَا بَين الثريا
وَالثَّرَى)
(نسخت خلائقه الحميدة مَا أَتَى ... فِي الْكتب عَن كسْرَى الْمُلُوك
وقيصرا)
(لَا تسمعن بِحَدِيث ملك غَيره ... يرْوى فَكل الصَّيْد فِي جَوف
الفرا)
(وَله الْمُلُوك بِكُل أَرض مِنْهُم ... ملك يجر إِلَى الأعادي عسكرا)
(من كل وضاح الجبين تخاله ... بَدْرًا فَإِن شهد الوغى فغضنفرا)
وَخلف الْعَادِل سِتَّة عشر ابْنا وَمَات وَالْكل غائبون، ثمَّ حضر
ابْنه الْمُعظم عِيسَى من نابلس وكتم مَوته وَأَعَادَهُ فِي محفة إِلَى
دمشق واحتوى على جواهره وسلاحه وخيله وَغَيرهَا، فِي دمشق أظهر مَوته
وَحلف النَّاس وَجلسَ للعزاء وَكتب إِلَى الْمُلُوك بِمَوْتِهِ.
وَكَانَ فِي خزانَة الْعَادِل لما توفّي سَبْعمِائة ألف دِينَار، وَبلغ
الْكَامِل موت أَبِيه وَهُوَ فِي قتال الفرنج، فاختلفت العساكر
عَلَيْهِ فَتَأَخر عَن مَنْزِلَته وطمعت الفرنج ونهبت بعض الأثقال،
وعزم عماد الدّين أَحْمد بن سيف الدّين عَليّ بن أَحْمد المشطوب.
(2/133)
وَكَانَ مقدما عَظِيما فِي الأكراد
الهكارية على خلع الْكَامِل وَاخْتلف الْعَسْكَر حَتَّى عزم الْكَامِل
عَن اللحوق بِالْيمن وَبلغ ذَلِك الْمُعظم عِيسَى بن الْعَادِل فَسَار
من الشَّام إِلَيْهِ، وَنفى ابْن المشطوب من الْعَسْكَر إِلَى الشَّام
فانتظم أَمر الْكَامِل وقوى الفرنج مضايقة دمياط وَضعف أَهلهَا لفتنة
ابْن المشطوب.
وفيهَا: توفّي عَليّ بن نصر بن هَارُون النَّحْوِيّ الْحلِيّ الملقب
بِالْحجَّةِ قَرَأَ على ابْن الخشاب وَغَيره.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد وَقيل أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد العميدي
الْحَنَفِيّ السَّمرقَنْدِي الملقب ركن الدّين إِمَام فِي الْخلاف
خُصُوصا الجست وطريقته فِيهِ مَشْهُورَة، وَشَرحهَا جمَاعَة مِنْهُم
القَاضِي شمس الدّين أَحْمد بن خَلِيل بن سَعَادَة الْجُوَيْنِيّ
الشَّافِعِي قَاضِي دمشق وَبدر الدّين الطَّوِيل المراغي، وللعميدي
أَيْضا الْإِرْشَاد واشتغل عَلَيْهِ خلق مِنْهُم نظام الدّين أَحْمد بن
مَحْمُود بن أَحْمد الْحَنَفِيّ الحصيري الَّذِي قَتله التتر أول
خُرُوجهمْ سنة سِتّ عشرَة وسِتمِائَة.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ عشرَة وسِتمِائَة: والأشراف بِظَاهِر حلب يدبر
جندها وأقطاعها، والكامل بِمصْر يُقَاتل الفرنج وهم محدقون بدمياط،
وَكتب الْكَامِل متواترة إِلَى إخْوَته بالنجدة لَهُ.
وفيهَا: توفّي نور الدّين أرسلان شاه بن القاهر مَسْعُود بن أرسلان شاه
بن مَسْعُود بن مودود بن زنكي بن أقسنقر، وَكَانَ بِهِ قُرُوح، وَلَا
يزَال مَرِيضا فَأَقَامَ بدر الدّين بعده أَخَاهُ نَاصِر الدّين
مَحْمُود بن القاهر وعمره نَحْو ثَلَاث سِنِين وَهُوَ آخر من خطب لَهُ
من بَيتهمْ بالسلطنة وَأَبوهُ آخر من اسْتَقل مِنْهُم بِالْملكِ ثمَّ
مَاتَ هَذَا الصَّبِي بعد مُدَّة، واستقل بدر الدّين لُؤْلُؤ بِالْملكِ
ومدت مدَّته فِي السَّعَادَة إِلَى أَن توفّي بالموصل بعد أَخذ التتر
بَغْدَاد.
وفيهَا: توفّي صَاحب سنجار قطب الدّين مُحَمَّد بن زنكي بن مودود بن
زنكي بن أقسنقر فملكها بعده ابْنه عماد الدّين شاهنشاه شهوراً ثمَّ وثب
عَلَيْهِ أَخُوهُ مَحْمُود فذبحه وَملك سنجار، ومحمود هَذَا آخر من ملك
سنجار مِنْهُم.
وفيهَا: خرب الْمُعظم أسوار الْقُدس، وَكَانَت قد حصنت إِلَى الْغَايَة
رأى تغلب الفرنج على دمياط وقوتهم وخشي على الْقُدس، وانتقل من الْقُدس
عَالم عَظِيم لما خرب.
وفيهَا: هجم الفرنج دمياط وَقتلُوا وأسروا من بهَا، وَجعلُوا الْجَامِع
كَنِيسَة وطمعوا فِي الديار المصرية، فَحِينَئِذٍ بنى الْملك الْكَامِل
المنصورة عِنْد مفترق الْبَحْرين الْآخِذ أَحدهمَا إِلَى دمياط،
وَالْآخر إِلَى أشمون طناج ونزلها بعساكره.
وفيهَا: كَانَ ظُهُور التتر وفتكهم فِي الْمُسلمين وَلم ينكب
الْمُسلمُونَ بأعظم مِمَّا نكبوا فِيهَا، فَمن ذَلِك مُصِيبَة دمياط
وَمِنْه ظُهُور التتر وتملكهم فِي الْمدَّة الْقَرِيبَة أَكثر بِلَاد
الْإِسْلَام وَسَفك دِمَائِهِمْ، وَسبي حريمهم وذراريهم، ومنذ ظهر
الْإِسْلَام مَا فَجعلُوا بِمِثْلِهَا.
(2/134)
وفيهَا: خَرجُوا على عَلَاء الدّين
مُحَمَّد خوارزم شاه بن تكش، وعبروا نهر سيحون وَمَعَهُمْ ملكهم جنكيز
خَان لَعنه الله فاستولى على بخارا رَابِع ذِي الْحجَّة بالأمان،
وحاصروا القلعة وملكوا وَقتلُوا كل من بهَا ثمَّ قتلوا أهل الْبَلَد
عَن آخِرهم.
وَاعْلَم أَن مملكة الصين متسعة دورها سِتَّة أشهر وانقسمت قَدِيما
سِتَّة أَجزَاء كل جُزْء مسيرَة شهر يَتَوَلَّاهُ خَان وَهُوَ بلغتهم
الْملك نِيَابَة عَن خَانَهُمْ الْأَعْظَم وَكَانَ خَانَهُمْ الْكَبِير
الَّذِي عاصر خوارزم شاه مُحَمَّد بن تكش يُسمى الطرخان ورث الْخَانِية
كَابِرًا عَن كَابر بل كَافِرًا عَن كَافِر وَمن عَادَة خَانَهُمْ
الْأَعْظَم الْإِقَامَة بطوغاج وَهِي وَاسِطَة الصين، وَكَانَ من
زمرتهم فِي عصر الْمَذْكُور شخص يُسمى دوشي خَان أحد خانات الْأَجْزَاء
السِّتَّة وَكَانَ متزوجاً عمَّة جنكيز خَان اللعين وقبيلة جنكيزخان
اللعين هِيَ الْمَعْرُوفَة بقبيلة التمرجي سكان البراري ومشتاهم يُسمى
أرغون وهم المشهورون بَين التّرْك بِالشَّرِّ والغدر لم تَرَ مُلُوك
الصين إرخاء عنانهم لفسادهم وطغيانهم، فاتفق أَن دوشي خَان زوج عمَّة
جنكيزخان مَاتَ فزار جنكيز خَان عمته معزيا لَهَا، وَكَانَ الخانان
المجاوران لعمل دوشي خَان يُسمى أَحدهمَا كشلو خَان وَالْآخر فلَان
خَان، وَكَانَا يليان مَا يتاخم أَعمال دوشي خَان المتوفي من
الْجِهَتَيْنِ فَأرْسلت امْرَأَة دوشي خَان إِلَى كشلي خَان والخان
الآخر ينعي إِلَيْهَا زَوجهَا دوشي خَان وَإنَّهُ لم يخلف ولدا، وَأَنه
كَانَ حسن الْجوَار لَهما وَأَن ابْن أَخِيهَا جنكيز خَان إِن أقيم
مقَامه، يحذو حَذْو المتوفي فِي معاضدتهما فأجابا إِلَى ذَلِك،
وَتَوَلَّى جنكيز خَان مَا كَانَ لدوشي خَان من الْأُمُور بمعاضدة
الخانين الْمَذْكُورين فَلَمَّا انهى الْأَمر إِلَى الخان الْأَعْظَم
الطرخان أنكر تَوْلِيَة جنكيز خَان واستحقره وَأنكر على الخانين
اللَّذين فعلا ذَلِك فخلعوا طَاعَة الطرخان وانضم إِلَيْهِم
عَشَائِرهمْ وقاتلوا الطرخان فهزموه وتمكنوا من بِلَاده، ثمَّ صَالحهمْ
وأبقوه على بعض بِلَاده واشترك جنكيز خَان والخانان الْآخرَانِ فِي
الْأَمر، فَمَاتَ الْوَاحِد واستقل جنكيز خَان وكشلو خَان بِالْأَمر،
ثمَّ مَاتَ كشلو خَان وَقَامَ ابْنه وَتسَمى كشلو خَان أَيْضا مقَامه
فاستضعفه جنكيز خَان لصغره وأخل بالقواعد الَّتِي كَانَت بَينه وَبَين
أَبِيه ففارقه كشلو خَان لذَلِك وعاداه فَجرد جنكيز خَان جَيْشًا مَعَ
وَلَده دوشي خَان وَسَار فقاتل كشلو خَان، فَانْهَزَمَ كشلو خَان
وَتَبعهُ دوشي خَان وَقَتله وَعَاد بِرَأْسِهِ إِلَى جنكيز خَان
فَانْفَرد جنكيز خَان بالمملكة.
ثمَّ إِن جنكيز خَان راسل خوارزم شاه مُحَمَّد بن تكش فِي الصُّلْح
فَلم يَنْتَظِم فَجمع عساكره وَقَاتل خوارزم شاه مُحَمَّد فَانْهَزَمَ
خوارزم شاه وَاسْتولى جنكيز خَان على بِلَاد مَا وَرَاء النَّهر، ثمَّ
تبع خوارزم شاه وَهُوَ هارب بَين يَدَيْهِ حَتَّى دخل بَحر طبرستان
ثمَّ استولى جنكيز خَان على الْبِلَاد ثمَّ كَانَ من هَذَا وَهَذَا مَا
سَيذكرُ.
وفيهَا: حلف الْملك الْمَنْصُور صَاحب حماه النَّاس لوَلَده الْملك
المظفر مَحْمُود وَجعله ولي عَهده، وجرد مِنْهُ عسكراً والطواشي مرشداً
والمنصوري نجدة للكامل بِمصْر فَأكْرمه الْكَامِل وأنزله فِي الميمنة
منزلَة أَبِيه وجده فِي الْأَيَّام الناصرية، وَبعد توجه المظفر
(2/135)
مَاتَت والدته ملكة خاتون بنت الْملك
الْعَادِل، فَلبس الْمَنْصُور الْحداد على زَوجته.
قَالَ ابْن وَاصل: رَأَيْته وَأَنا ابْن اثْنَتَيْ عشرَة سنة
يَوْمئِذٍ، وَقد لبس ثوبا أَزْرَق، وعمامة زرقاء، وَفِي ذَلِك يَقُول
حسام الدّين خشتر بن الجندي الْكرْدِي قصيدة مِنْهَا:
(الطّرف فِي لجة وَالْقلب فِي سعر ... لَهُ دُخان زفير طَار بالشرر)
وَمِنْهَا فِي لبس الْمَنْصُور الْحداد عَلَيْهَا:
(مَا كنت أعلم أَن الشَّمْس قد غربت ... حَتَّى رَأَيْت الدجى ملقى على
الْقَمَر)
(لَو كَانَ من مَاتَ يفدى قبلهَا لفدى ... أم المظفر آلَاف من الْبشر)
وفيهَا: توفّي الْملك الْغَالِب عز الدّين كيكاوس بن كيخسرو بن قلج
أرسلان بن مَسْعُود بن قلج أرسلان صَاحب الرّوم بالسل، وَملك بعده
أَخُوهُ كيقباد وَكَانَ قد حَبسه أَخُوهُ كيكاوس فَأخْرجهُ الْجند
وملكوه.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْبَقَاء عبد الله بن الْحُسَيْن بن عبد الله
العكبري الضَّرِير النَّحْوِيّ اللّغَوِيّ الحاسب الْحَنْبَلِيّ صحب
ابْن الخشاب وَغَيره.
قلت: لقبه محب الدّين، وَتُوفِّي بِبَغْدَاد، ومولده سنة ثَمَان
وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة، اشْتهر اسْمه وَبعد صيته وَهُوَ حَيّ شرح
إِيضَاح الْفَارِسِي وديوان المتنبي ومقامات الحريري والخطب النباتية
ولمع ابْن جني ومفصل الزَّمَخْشَرِيّ وَله إِعْرَاب الْقُرْآن
الْعَظِيم وإعراب الحَدِيث وإعراب شعر الحماسة وَغَيرهَا وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْحسن عَليّ بن الْقَاسِم بن عَليّ بن الْحسن
الدِّمَشْقِي الْحَافِظ بن الْحَافِظ بن الْحَافِظ الْمَعْرُوف بِابْن
عَسَاكِر أَكثر من سَماع الحَدِيث بخراسان وَعَاد إِلَى بَغْدَاد
وجرحته الحرامية فِي الطَّرِيق، وَدخل بَغْدَاد جريحاً وَمَات بهَا.
ثمَّ دخلت سنة سبع عشرَة وسِتمِائَة: ودمياط للفرنج والكامل مرابط
بالمنصورة والأشرف فِي حران، وَقد أقطع عماد الدّين أَحْمد بن المشطوب
رَأس عين فَجمع ابْن المشطوب جمعا، وَخرج على الْأَشْرَف وَحسن لصَاحب
سنجار مَحْمُود بن قطب الدّين الْخُرُوج عَن طَاعَة الْأَشْرَف أَيْضا
فحصره بدر الدّين لُؤْلُؤ بتل أعفر، وَأَخذه بالأمان ثمَّ قبض عَلَيْهِ
وَأعلم الْأَشْرَف بِقَبْضِهِ على ابْن المشطوب فسر بذلك وَاسْتمرّ
ابْن المشطوب فِي الْحَبْس، ثمَّ سَار الْأَشْرَف فاستولى على دنيسر
وَقصد سنجار فَأَتَتْهُ رسل صَاحبهَا مَحْمُود بن قطب ليعطيه الرقة عوض
سنجار فَسلم إِلَى الْأَشْرَف الرقة وَسلم إِلَى مَحْمُود الرقة،
وَكَانَ ذَلِك لسعادة الْأَشْرَف فَإِن أَبَاهُ الْعَادِل نَازل سنجار
بِجمع عَظِيم طَويلا فَمَا ملكهَا وملكها الْأَشْرَف بِأَهْوَن سعي،
ثمَّ سَار الْأَشْرَف فوصل الْموصل فِي تَاسِع جُمَادَى الأولى فَكَانَ
يَوْمًا مشهوداً.
وَكتب إِلَى مظفر الدّين صَاحب إربل ليعيد صهره عماد الدّين زنكي على
بدر الدّين لُؤْلُؤ القلاع الَّتِي استولى عَلَيْهَا فَأَعَادَهَا
إِلَى الْعمادِيَّة، وَاسْتقر الصُّلْح بَين الْأَشْرَف وَبَين مظفر
(2/136)
الدّين كوكبوري صَاحب إربل، وعماد الدّين زنكي بن أرسلان شاه صَاحب
الْعقر وسوس والعمادية، وَبدر الدّين لُؤْلُؤ صَاحب الْموصل ثمَّ عَاد
الْأَشْرَف إِلَى سنجار فِي أَوَائِل رَمَضَان وَسلم بدر الدّين
لُؤْلُؤ قلعة بلعفر إِلَى الْأَشْرَف، وَنقل الْأَشْرَف ابْن المشطوب
مُقَيّدا إِلَى جب فِي حران حَتَّى مَاتَ سنة تسع عشرَة وسِتمِائَة
وَلَقي بغي خُرُوجه مرّة بعد أُخْرَى.
وفيهَا: توفّي الْملك الْمَنْصُور صَاحب حماه مُحَمَّد بن تَقِيّ
الدّين عمر بن شاهنشاه بن أَيُّوب بقلعة حماه فِي ذِي الْقعدَة بالحمى،
وورم الدِّمَاغ وَكَانَ شجاعاً يحب الْعلمَاء، وَورد إِلَيْهِ مِنْهُم
جمَاعَة مثل السَّيْف الْآمِدِيّ، وصنف لَهُ مصنفات مثل الْمِضْمَار
فِي التَّارِيخ وطبقات الشُّعَرَاء، وَبنى الجسر بحماه خَارج بَاب حمص،
وَكَانَ لَهُ بعد أَبِيه حماه والمعرة وسلمية ومنبج وقلعة نجم، وَلما
فتح بارين من يَد ابْن الْمُقدم ألزمهُ عَمه الْعَادِل بردهَا عَلَيْهِ
فَعوضهُ بمنبج وقلعة نجم لقرب بارين مِنْهُ، وَله شعر وَله مَعَ الفرنج
حروب رَحمَه الله تَعَالَى. |