تاريخ ابن الوردي
حِصَار عكا
اجْتمع بصور أهل الْبِلَاد الَّتِي أَخذهَا السُّلْطَان بالأمان فَكثر
جمعهم حَتَّى صَارُوا لَا يُحصونَ، وَأَرْسلُوا إِلَى الْبَحْر
يَبْكُونَ ويستنجدون وصوروا صُورَة الْمَسِيح وَصُورَة عَرَبِيّ يضْرب
الْمَسِيح وَقد أدماه، وَقَالُوا هَذَا نَبِي الْعَرَب يضْرب الْمَسِيح
فَخرجت النِّسَاء من بُيُوتهنَّ وَوصل فِي الْبَحْر إفرنج لَا يُحصونَ
كَثْرَة، ونازلوا عكا فِي منتصف رَجَب مِنْهَا وَأَحَاطُوا بهَا من
الْبَحْر إِلَى الْبَحْر وَلم يبْق للْمُسلمين إِلَيْهَا طَرِيق فَسَار
السُّلْطَان وقاربهم وَقَاتلهمْ فِي مستهل شعْبَان وَبَاتُوا على
ذَلِك، وَأَصْبحُوا، فَحمل تَقِيّ الدّين صَاحب حماه من ميمنة
السُّلْطَان فأزالهم عَن موقفهم والتصق بالسور، وَانْفَتح الطَّرِيق
إِلَى الْمَدِينَة يدْخل الْمُسلمُونَ وَيخرجُونَ وَأدْخل السُّلْطَان
إِلَى عكا عسكراً نجدة مِنْهُم أَبُو الهيجاء السمين، وعاودوا
الْقِتَال وراوحوه إِلَى الْعشْرين من شعْبَان، ثمَّ كَانَت الْوَقْعَة
الْعَظِيمَة، وَحمل الفرنج على الْقلب فأزالوه وَقتلُوا حَتَّى بلغُوا
خيمة السُّلْطَان، وانحاز السُّلْطَان إِلَى جَانب وانضاف إِلَيْهِ
جمَاعَة، وَانْقطع مدد الفرنج، وَاشْتَغلُوا بِقِتَال الميمنة فَحمل
السُّلْطَان الَّذين خرقوا الْقلب وانعطف عَلَيْهِم الْعَسْكَر
فأفنوهم، فَكَانَت قتلاهم نَحْو عشرَة آلَاف إفرنجي، وَوصل المنهزمون
من الْمُسلمين إِلَى طبرية وَإِلَى دمشق، وجافت الأَرْض بعد هَذِه
الْوَقْعَة، وَمرض السُّلْطَان، وَحدث لَهُ قولنج، فانتقل من ذَلِك
الْموضع، ورحل عَن عكا رَابِع عشر رَمَضَان إِلَى الخروبة فانبسط
الفرنج فِي تِلْكَ الأَرْض وتمكنوا من عكا، وَوصل اسطول الْمُسلمين فِي
الْبَحْر مَعَ حسام الدّين لُؤْلُؤ فَأخذ بطسة كَبِيرَة للفرنج،
فَقَوِيت الْقُلُوب وَدخل بهَا عكا وَوصل الْعَادِل بعسكر مصر فازدادت
الْقُلُوب قُوَّة.
وفيهَا: توفّي بالخروبة الفقية عِيسَى من أَعْيَان عَسْكَر
السُّلْطَان؛ فَقِيه جندي شُجَاع من أَصْحَاب الشَّيْخ أبي الْقَاسِم
البرزي.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن يُوسُف بن مُحَمَّد بن فَايِد موفق الدّين
الإربلي الشَّاعِر من أعلم النَّاس بالعروض والعربية وَنقد الشّعْر
وَحل كتاب إقليدس، وَهُوَ شيخ أبي البركات بن المستوفي صَاحب تَارِيخ
إربل، أَقَامَ بِشَهْر زور، ثمَّ بِدِمَشْق، ومدح صَلَاح الدّين، ومدح
زين الدّين يُوسُف صَاحب إربل بقوله من قصيدة:
(2/99)
(رب دَار بالحمى طَال بلادها ... عكف الركب
عَلَيْهَا فبكاها)
(كَانَ لي فِيهَا زمَان وانقضى ... فسقى الله زماني وسقاها)
(قل لجيران مواثيقهم ... كلما احكمثها رثت قواها)
(كنت مشغوفاً بكم إِذْ كُنْتُم ... شَجرا لَا يبلغ الطير ذراها)
(فَإِذا مَا طمع أغري بكم ... عرض الْيَأْس لنَفْسي فثناها)
(فصبابات الْهوى أَولهَا ... طمع النَّفس وَهَذَا مُنْتَهَاهَا)
(لَا تظنوا لي إِلَيْكُم رَجْعَة ... كشف التجريب عَن عَيْني غطاها)
(إِن زين الدّين أولاني يدا ... لم تدع لي رَغْبَة فِيمَا سواهَا)
وَكَانَ أَبوهُ يتجر فِي اللآلىء من مغاص الْبَحْرين.
وفيهَا: توفّي مَحْمُود بن عَليّ بن أبي طَالب بن عبد الله
الْأَصْبَهَانِيّ الْمَعْرُوف بِالْقَاضِي صَاحب الطَّرِيقَة فِي
الْخلاف لَهُ التعليقة فِي الْخلاف عُمْدَة وَمن لم يدرس مِنْهَا
فلقصوره عَنْهَا، وَكَانَ متفنناً واعظاً حسنا.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا فِي صفر عَاد
السُّلْطَان عَن الخروبة إِلَى قتال الفرنج على عكا، وَقد عمِلُوا قرب
سورها ثَلَاثَة أبرجة طولهَا سِتُّونَ ذِرَاعا، خشبها من جزائر
الْبَحْر عملوها طَبَقَات مشحونة رجَالًا وسلاحاً، ولبسوها الْجُلُود
والطين وبالخل خوف النَّار فَأحرق الْمُسلمُونَ البرج الأول بِمن فِيهِ
ثمَّ الثَّانِي وَالثَّالِث، فانبسطت نفوس الْمُسلمين بعد الكآبة
وَجَاءَت العساكر الإسلامية من الْبِلَاد، وَخرج الْملك الألمان من
وَرَاء الْقُسْطَنْطِينِيَّة بِمِائَة ألف مقَاتل فأيس الْمُسلمُونَ من
الشَّام فَسلط على الألمان الغلاء والوباء فَهَلَك أَكْثَرهم فِي
الطَّرِيق، وَنزل ملكهم يغْتَسل فِي نهر بِبَلَد الأرمن فعرق
وَأَقَامُوا ابْنه مقَامه فرجه مِنْهُم طَائِفَة وَطَائِفَة اخْتَارَتْ
أَخا الْملك وَرَجَعُوا أَيْضا، وَوصل مَعَ ابْن ملك الألمان إِلَى عكا
تَقْديرا ألف فَارس وَكفى الله شرهم، وَبَقِي السُّلْطَان والفرنج
يتناوشون الْقِتَال إِلَى الْعشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة، فَخرجت
الفرنج من خنادقهم بالفارس والراجل، وأزالوا الْعَادِل عَن مَوْضِعه،
وَمَعَهُ عَسْكَر مصر، فعطف الْمُسلمُونَ وَقتلُوا من الفرنج خلقا،
فعادوا إِلَى خنادقهم، وَانْقطع السُّلْطَان لغص حصل لَهُ، ولولاه
لكَانَتْ الفيصلة.
وفيهَا: لما قوي الشتَاء وَالرِّيح أرْسلت الفرنج المحاصرة لعكا
مراكبهم إِلَى صور خوف الرّيح، فانفتحت الطَّرِيق إِلَى عكا فِي
الْبَحْر، وَأرْسل السُّلْطَان الْبَدَل إِلَيْهَا لَكِن الخارجون
مِنْهَا أَضْعَاف الداخلين فَوَقع تَفْرِيط.
وفيهَا: فِي ثامن شَوَّال توفّي زين الدّين يُوسُف بن زين الدّين على
كوجك صَاحب إربل، وَكَانَ مَعَ السُّلْطَان بعسكره، فأقطع أَخَاهُ مظفر
الدّين كوك بوري إربل، وأضاف إِلَيْهِ شهرزور وأعمالها، وارتجع مَا
كَانَ بيد مظفر الدّين وَهُوَ حران والرها، وَسَار مظفر الدّين إِلَى
إربل وملكها.
(2/100)
وفيهَا: حصر الْخَلِيفَة النَّاصِر
حَدِيثَة عانة وَفتحهَا.
وفيهَا: أقطع السُّلْطَان مَا كَانَ بيد مظفر الدّين وَهُوَ حران
والرها وسميساط والموزر الْملك المظفر تَقِيّ الدّين عمر زِيَادَة على
ميافارقين وحماه والمعرة وسلمية ومنبج وقلعة نجم وجبلة واللاذقية
وبلاطنس وبكراييل.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة:
ذكر اسْتِيلَاء الفرنج على عكا
وَاسْتمرّ حِصَار الفرنج عكا إِلَى هَذِه السّنة وَأَحَاطُوا بهَا من
الْبَحْر إِلَى الْبَحْر وخندقوا عَلَيْهِم فَلم يتَمَكَّن السُّلْطَان
من الْوُصُول إِلَيْهِم فَكَانُوا محاصرين وكالمحصورين فَإِن
السُّلْطَان خارجهم. وَاشْتَدَّ حصارهم لعكا، وَطَالَ وَضعف من بهَا
عَن حفظهَا وَعجز السُّلْطَان عَن الدّفع عَنْهَا، فَخرج الْأَمِير سيف
الدّين عَليّ بن المشطوب، وَطلب الْأمان من الفرنج على مَال وَأسرى
يقومُونَ بِهِ للفرنج فأجابوهم وصعدت أَعْلَام الفرنج على عكا يَوْم
الْجُمُعَة سَابِع عشر جُمَادَى الْآخِرَة مِنْهَا، واستولوا على
الْبَلَد بِمَا فِيهِ، وحبسوا الْمُسلمين فِي أَمَاكِن، وَقَالُوا:
إِنَّمَا نحبسهم ليقوموا بِالْمَالِ والأسرى وصليب الصلبوت، وَكَتَبُوا
إِلَى السُّلْطَان بذلك، فَحصل مَا أمكن من ذَلِك، وَطلب إِطْلَاق
الْمُسلمين فَأَبَوا، فَعلم غدرهم، وَاسْتمرّ أسرى الْمُسلمين بهَا،
ثمَّ قتل الفرنج من الْمُسلمين خلقا، وحبسوا البَاقِينَ، وقرروا
أمرهَا، ورحلوا نَحْو قيسارية، والمسلمون يسايرونهم ويتحفظون مِنْهُم،
ثمَّ سَارُوا إِلَى أرسوف فَوَقع مصَاف أزالوا فِيهِ الْمُسلمين عَن
موقفهم، ووصلوا إِلَى السُّوق فَقتلُوا من السوقية كثيرا، ثمَّ ملكوا
يافا خَالِيَة من الْمُسلمين، وَسَار السُّلْطَان فخرب عسقلان لِئَلَّا
يكون مثل عكا، ودكها إِلَى الأَرْض، وَثَانِي رَمَضَان رَحل عَنْهَا
إِلَى الرملة، فخرب حصنها، وَخرب كَنِيسَة لد وَسَار إِلَى الْقُدس
وَقرر أمره وَعَاد إِلَى مخيمه بالنطرون ثامن رَمَضَان، وتراسل الفرنج
وَالسُّلْطَان فِي الصُّلْح على أَن يتَزَوَّج الْعَادِل أُخْت ملك
الإنكلنار، وَيكون لَهُ الْقُدس ولزوجته عكا فَأنْكر القسيسون ذَلِك
إِلَّا إِن ينتصر الْعَادِل، فَلم يتَّفق حَال.
ثمَّ رَحل الفرنج من يافا إِلَى الرملة ثَالِث ذِي الْقعدَة، وَصَارَ
يَقع كل يَوْم بَين الْمُسلمين وَبينهمْ مناوشات، ولقوا من ذَلِك شدَّة
شَدِيدَة، وَأَقْبل الشتَاء وحالت الأوحال وضجرت العساكر،
فَأَعْطَاهُمْ الدستور وَسَار إِلَى الْقُدس لسبع بَقينَ من ذِي
الْقعدَة، وَنزل دَاخل الْبَلَد وحصنه وعمره وَنقل الْحِجَارَة
بِنَفسِهِ ليقتدى بِهِ فَكَانَ كَذَلِك.
وَفَاة الْملك المظفر
كَانَ المظفر تَقِيّ الدّين عمر بن شاهنشاه بن أَيُّوب سَار إِلَى
الْبِلَاد المرتجعة من كوك بوري وَرَاء الْفُرَات فامتد إِلَى مجاوريه،
وَاسْتولى على الشويدا وجاني والتقى مَعَ يكتمر صَاحب خلاط فَكَسرهُ
وحصره فِيهَا، وتملك مُعظم الْبِلَاد، ثمَّ نَازل ملازكرد وَهِي ليكتمر
(2/101)
وَفِي صحبته ابْنه الْملك الْمَنْصُور
مُحَمَّد بن المظفر فَعرض للمظفر مرض وتزايد حَتَّى توفّي يَوْم
الْجُمُعَة لإحدى عشرَة لَيْلَة بقيت من رَمَضَان مِنْهَا فأخفى
الْمَنْصُور وَفَاته وَوصل بِهِ حماه وَدَفنه بظاهرها، وَبنى إِلَى
جَانب تربته مدرسة مَشْهُورَة.
وَكَانَ للمظفر بَأْس وأدب وَشعر حسن، وَتُوفِّي لَيْلَة وَفَاته حسام
الدّين مُحَمَّد بن لاجين، وَأمه سِتّ الشَّام بنت أَيُّوب أُخْت
السُّلْطَان.
ثمَّ قرر السُّلْطَان للمنصور حماه وسلمية والمعرة ومنبج وقلعة نجم،
وأقطع الْبِلَاد الشرقية لِأَخِيهِ الْعَادِل، وَنزل الْعَادِل عَن
إقطاعه بِالشَّام خلا الكرك والشوبك والصلت والبلقا وَنصف خاصه بِمصْر،
وَالْتزم كل سنة ألف غرارة من الصَّلْت والبلقا للقدس.
وفيهَا: فِي شعْبَان قتل عُثْمَان قزل أرسلان بن إيلدكز، وَكَانَ قد
تغلب واعتقل السُّلْطَان طغرل بك بن أرسلان، ثمَّ تعصب على
الشَّافِعِيَّة بأصبهان وصلب من أعيانهم جمَاعَة، وَعَاد إِلَى
هَمدَان، وخطب لنَفسِهِ فَقتله على فرَاشه من لم يعرف.
وفيهَا: قدم معز الدّين قَيْصر شاه بن قلج أرسلان صَاحب الرّوم إِلَى
صَلَاح الدّين، وَسَببه أَن أَبَاهُ فرق مَمْلَكَته على أَوْلَاده
وَأعْطى ابْنه هَذَا ملطية فألزم بعض إخْوَته أَبَاهُ باسترجاع ملطية
فخاف من ذَلِك والتجأ إِلَى السُّلْطَان فَأكْرمه وزوجه بنت أَخِيه
الْعَادِل وَعَاد معز الدّين إِلَى ملطية فَتمكن.
وفيهَا: قتل أَبُو الْفَتْح يحيى بن حَنش بن أميرك شهَاب الدّين
السهروردي الفيلسوف بقلعة حلب، أَمر بخنقه الظَّاهِر غَازِي بِأَمْر
وَالِده، قَرَأَ الأصولين وَالْحكمَة على مجد الدّين الجيلي شيخ
الإِمَام فَخر الدّين.
وَكَانَ علمه أَكثر من عقله، فَأفْتى بِإِبَاحَة دَمه لسوء مذْهبه،
وشدد عَلَيْهِ زين الدّين ومجد الدّين ابْنا جهبل.
قَالَ السَّيِّد الْآمِدِيّ: قَالَ لي السهروري: لَا بُد أَن أملك
الأَرْض رَأَيْت فِي الْمَنَام كَأبي شربت مَاء الْبَحْر فَقلت:
لَعَلَّه اشتهار علمك.
وعاش ثمانياً وَثَلَاثِينَ سنة، وَله فِي الْحِكْمَة التلويحات
والتنقيحات والمشارع والمطارحات والهياكل وَحِكْمَة الْإِشْرَاق، وَنسب
إِلَى السيمياء.
وَمن شعره:
(أبدا تحن إِلَيْكُم الْأَرْوَاح ... ووصالكم ريحانها والراح)
(وَقُلُوب أهل ودادكم تشتاقكم ... وَإِلَى لذيذ لقائكم ترتاح)
(وارحمتنا للعاشقين تكلفوا ... ستر الْمحبَّة والهوى فضاح)
(وَإِذا هم كتموا تحدث عَنْهُم ... عِنْد الوشاة المدمع السحاح)
(لَا ذَنْب للعشاق إِن غلب الْهوى ... كتمانهم فنما الغرام وباحوا)
(2/102)
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ
وَخَمْسمِائة: فِيهَا شرع الفرنج فِي عمَارَة عسقلان وَالسُّلْطَان
بالقدس.
وفيهَا: قتلت الباطنية المركيس صَاحب صور فِي زِيّ الرهبان.
عقد الْهُدْنَة مَعَ الفرنج
وَسبب ذَلِك أَن ملك الإنكلتار مرض طَويلا وَطَالَ عَلَيْهِ ذَلِك
فكاتب الْعَادِل يسْأَله السَّعْي فِي الصُّلْح فَأبى السُّلْطَان ثمَّ
أجَاب لضجر العساكر فتهادنوا ثامن عشر شعْبَان وتحالفوا ثَانِي
وَعشْرين شعْبَان فَلم يحلف ملك الإنكلتار بل أعْطى يَده وَعَاهد
وَاعْتذر بِأَن الْمُلُوك لَا يحلفُونَ وَحلف الكندهري ابْن أَخِيه
وخليفته فِي السَّاحِل وَعُظَمَاء الفرنج، وَوصل ابْن الهنفري وباليان
والمقدمون وَأخذُوا يَد السُّلْطَان واستحلفوا الْعَادِل أَخَاهُ،
وَالْأَفْضَل وَالظَّاهِر ابنيه والمنصور والمجاهد شيركوه بن مُحَمَّد
بن شيركوه صَاحب حمص، والأمجد بهْرَام شاه بن فرخ شاه صَاحب بعلبك،
وَبدر الدّين دلدرم الياروقي صَاحب تل بَاشر، وَالسَّابِق عُثْمَان بن
الداية صَاحب شيزر، وسيق الدّين على بن المشطوب وَغَيرهم من المقدمين
الْكِبَار، وعقدت هدنة عَامَّة فِي الْبر وَالْبَحْر ثَلَاث سِنِين
وَثَلَاثَة أشهر أَولهَا أيلول الْمُوَافق لحادي وَعشْرين شعْبَان على
أَن يسْتَقرّ للفرنج يافا وقيسارية وحيفا وعكا وَتَكون عسقلان خراباً.
وَأدْخل السُّلْطَان بِلَاد الإسماعيلية فِي هدنته وَأدْخل الفرنج
صَاحب أنطاكية وطرابلس فِي هدنتهم وتناصفوا لد والرملة.
ثمَّ تفقد السُّلْطَان الْقُدس وَأمر بتشييد أسواره، وَزَاد وقف مدرسته
بالقدس، وتعرف قبل الْإِسْلَام بصند حنة قيل فِيهَا قبر حنة أم
مَرْيَم، ثمَّ صَارَت فِي الْإِسْلَام دَار علم.
ثمَّ ملك الفرنج الْقُدس سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة
وأعادوها كَنِيسَة كَمَا كَانَت، ثمَّ أَعَادَهَا السُّلْطَان مدرسة
وَولى القَاضِي بهاء الدّين بن شَدَّاد تدريسها ووقفها وعزم على
الْحَج، ثمَّ خشِي غدر الفرنج عَن الْقُدس لخمس مضين من شَوَّال إِلَى
نابلس، ثمَّ إِلَى بيسان، ثمَّ بَات بقلعة كَوْكَب، ثمَّ إِلَى طبرية
ولقيه بهَا الْأَمِير بهاء الدّين قراقوش الْأَسدي، وَقد خلص من الْأسر
بعكا ثمَّ لحق بِمصْر ثمَّ سَار السُّلْطَان إِلَى بيروت فَجَاءَهُ
بيمند صَاحب أنطاكية حادي عشر شَوَّال فَأكْرمه وفارقه فِي الْغَد
وَدخل السُّلْطَان دمشق لخمس بَقينَ من شَوَّال، وَفَرح بِهِ النَّاس
بعد غيبَة أَربع سِنِين، وَعدل وَأحسن وَأعْطى العساكر الدستور فودعه
ابْنه الظَّاهِر وداعاً لَا لِقَاء بعده فِي الدُّنْيَا، وَسَار إِلَى
حلب وبقى عِنْده بِدِمَشْق ابْنه الْأَفْضَل وَالْقَاضِي والفاضل.
وَيَوْم الْخَمِيس السَّادِس وَالْعِشْرين من شَوَّال مِنْهَا توفّي
الْأَمِير سيف الدّين عَليّ بن المشطوب بنابلس إقطاعه فَوقف
السُّلْطَان ثلث نابلس على مصَالح الْقُدس وأقطع الْبَاقِي لعماد
الدّين أَحْمد بن المتوفي ولأميرين مَعَه.
(2/103)
وفيهَا: فِي منتصف شعْبَان توفّي
السُّلْطَان قلج أرسلان بن مَسْعُود السلجوقي صَاحب الرّوم، وَملك سنة
إِحْدَى وَخمسين وَخَمْسمِائة، كَانَ مهيباً عادلاً عَارِفًا، وَولي كل
وَاحِد من بَينه الْعشْرَة قطراً من الرّوم وأكبرهم قطب الدّين ملك
شاه، وَتُوفِّي بعد أَبِيه، فاستقر كيسخرو بن قلج أرسلان فِي ملك قونيه
وَأثبت أَنه ولي عهد أَبِيه.
ثمَّ أَن ركن الدّين سُلَيْمَان أَخا كيخسرو قوي فَأخذ مِنْهُ قونية
فهرب كيخسرو إِلَى الشَّام مستنجداً بِالْملكِ الظَّاهِر صَاحب حلب.
ثمَّ مَاتَ ركن الدّين سُلَيْمَان سنة سِتّمائَة، وَملك بعده ابْنه قلج
أرسلان، فَرجع كيخسرو وَملك الرّوم جَمِيعًا إِلَى أَن قتل.
وَملك بعده: ابْنه عز الدّين كيكاوس ثمَّ توفّي كيكاوس وَملك بعده
السُّلْطَان عَلَاء الدّين كيقباد بن كيخسرو.
وَتُوفِّي عَلَاء الدّين سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة، وَملك
بعده ابْنه غياث الدّين كيخسرو بن عَلَاء الدّين وكسره التتر سنة
إِحْدَى وَأَرْبَعين وسِتمِائَة، وتضعضع حِينَئِذٍ ملك السلاطين
السلجوقية بالروم.
ثمَّ مَاتَ غياث الدّين كيخسرو بن عَلَاء الدّين كيقباد بن كيخسرو بن
قلج أرسلان بن مَسْعُود بن قلج أرسلان بن سُلَيْمَان بن قطلومش بن
أرسلان بن سلجوق، وانقرض بِمَوْتِهِ ملكهم فِي الْحَقِيقَة إِذْ لم يكن
لمن بعدهمْ مِنْهُم سوى الِاسْم، وَخلف كيخسرو ابْنَيْنِ هما ركن
الدّين وَعز الدّين فملكا مَعًا مديدة، ثمَّ انْفَرد ركن الدّين
بالسلطنة، وهرب عز الدّين إِلَى قسطنطينية، وتغلب على ركن الدّين معِين
الدّين البرواتاه، والبلاد فِي الْحَقِيقَة للتتر ثمَّ قتل البرواتاه
ركن الدّين وَأقَام ابْنا لركن الدّين يخْطب لَهُ صُورَة:
وفيهَا: غزا شهَاب الدّين الغوري الْهِنْد فغنم وَقتل مَا لَا يُحْصى.
وفيهَا: خرج السُّلْطَان طغرل بك بن أرسلان من الْحَبْس بعد قتل قزل
أرسلان بن إيلدكز.
وفيهَا: توفّي رَاشد الدّين سِنَان بن سُلَيْمَان بن مُحَمَّد أَبُو
الْحسن صَاحب دَعْوَة الإسماعيلية بقلاع الشَّام وَأَصله من
الْبَصْرَة.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة: فِيهَا لَيْلَة
الْأَرْبَعَاء الرَّابِع وَالْعِشْرين من صفر توفّي السُّلْطَان صَلَاح
الدّين وَحضر وَفَاته القَاضِي الْفَاضِل، وَوصل القَاضِي بهاء الدّين
بن شَدَّاد بعد وَفَاته، وغسله الدولعي خطيب دمشق، وَأخرج بعد ظهر
الْأَرْبَعَاء فِي تَابُوت مسجى بِثَوْب وكفنه الْفَاضِل من جِهَة حل،
وَصلى عَلَيْهِ النَّاس وَغشيَ النَّاس لمَوْته حزن لَا يُوصف وبكاء
لَا تمكن حكايته، وَدفن بقلعة دمشق فِي الدَّار الَّتِي مرض بهَا،
وَكَانَ الْأَفْضَل عَليّ قد حلف لَهُ قبل وَفَاة وَالِده عِنْد شده
مَرضه وَجلسَ للعزاء فِي القلعة، وَكتب
(2/104)
بوفاته إِلَى أَخِيه الْعَزِيز بِمصْر
وَإِلَى عَمه الْعَادِل أبي بكر بالكرك وَإِلَى أَخِيه الظَّاهِر
غَازِي بحلب.
قلت: وَكتب القَاضِي الْفَاضِل إِلَى الْملك الظَّاهِر غَازِي (بطاقة)
بديعة فِي تِلْكَ الْحَال الَّتِي يذهل فِيهَا الْإِنْسَان عَن نَفسه
مضمونها لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة إِن زَلْزَلَة
السَّاعَة شَيْء عَظِيم.
كتبت إِلَى مَوْلَانَا السُّلْطَان الْملك الظَّاهِر أحسن الله عزاءه
وجبر مصابه، وَجعل فِي الْخلف فِي السَّاعَة الْمَذْكُورَة، وَقد زلزل
الْمُسلمُونَ زلزالاً شَدِيدا وَقد حفرت الدُّمُوع المحاجر، وَبَلغت
الْقُلُوب الْحَنَاجِر، وَقد ودعت أَبَاك ومخدومي وداعاً لَا يلاقي
بعده، وَقبلت وَجهه عني وعنك وأسلمته إِلَى الله تَعَالَى مغلوب
الْحِيلَة ضَعِيف الْقُوَّة رَاضِيا عَن الله وَلَا حول وَلَا قُوَّة
إِلَّا بِاللَّه، وبالباب من الْجنُود المجندة والأسلحة المغمدة مَا لم
يدْفع الْبلَاء وَلَا ملك يرد الْقَضَاء وتدمع الْعين، ويخشع الْقلب،
وَلَا نقُول إِلَّا مَا يرضى الرب وَإِنَّا عَلَيْك لَمَحْزُونُونَ.
يَا يُوسُف: وَأما الْوَصَايَا فَمَا نحتاج إِلَيْهَا، والآراء فقد
شغلني الْمُصَاب عَنْهَا، وَأما لائح الْأَمر فَإِنَّهُ إِن وَقع
الِاتِّفَاق فَمَا عدمتم إِلَّا شخصه الْكَرِيم وَإِن كَانَ غَيره،
فالمصائب الْمُسْتَقْبلَة أهونها مَوته وَهُوَ الهول الْعَظِيم
وَالسَّلَام، وَالله أعلم.
ثمَّ أَن الْملك الْأَفْضَل عمل تربة قرب الْجَامِع كَانَت دَارا لرجل
صَالح وَنقل إِلَيْهَا السُّلْطَان يَوْم عَاشُورَاء سنة اثْنَتَيْنِ
وَتِسْعين وَخَمْسمِائة، وَمَشى الْأَفْضَل بَين يَدي تابوته وَأخرج من
بَاب القلعة على دَار الحَدِيث إِلَى بَاب الْبَرِيد وَأدْخل الْجَامِع
وَوضع قُدَّام النسْر وَصلى عَلَيْهِ القَاضِي محيي الدّين بن الزكي،
ثمَّ دفن وَجلسَ الْأَفْضَل فِي الْجَامِع ثَلَاثَة أَيَّام للعزاء،
وأنفقت سِتّ الشَّام بنت أَيُّوب أُخْت السُّلْطَان فِي هَذِه
التَّوْبَة أَمْوَالًا عَظِيمَة.
ومولد صَلَاح الدّين بتكريت سنة اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة
فعمره تَقْرِيبًا سبع وَخَمْسُونَ، وَملكه للديار المصرية نَحْو أَربع
وَعشْرين سنة، وَملكه للشام نَحْو تسع عشرَة سنة، وَخلف سَبْعَة عشر
ابْنا وبنتاً وَاحِدَة وأكبرهم الْأَفْضَل نور الدّين عَليّ ولد بِمصْر
سنة خمس وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة، والعزيز عُثْمَان أَصْغَر مِنْهُ
بِنَحْوِ سنتَيْن، وَالظَّاهِر أَصْغَر مِنْهُمَا، وَبقيت الْبِنْت
حَتَّى تزَوجهَا ابْن عَمها الْكَامِل صَاحب مصر، وَلم يخلف
السُّلْطَان فِي خزانته غير سَبْعَة وَأَرْبَعين درهما، وجرم وَاحِد
صوري وَلم يتْرك دَارا وَلَا عقارا أطلق فِي مقَامه بمرج عكا من خيل
عراب وأكاديش اثْنَي عشر ألف رَأس غير ثمن مَا أُصِيب فِي الْقِتَال،
وَلم يُؤَخر صَلَاة عَن وَقتهَا وَلَا صلى إِلَّا فِي جمَاعَة.
وَكَانَ متوكلاً على الله لَا يفضل فِي عزمه يَوْمًا على يَوْم، كثير
سَماع الحَدِيث قَرَأَ فِي الْفِقْه مُخْتَصر سليم الرَّازِيّ.
وَكَانَ صبوراً كثير التغافل عَن ذنُوب أَصْحَابه، يسمع مَا يكره وَلَا
يعلم بِهِ أحدا رمى
(2/105)
بعض مماليكه بَعْضًا بسر موزة فأخطأته
وأخطأت السُّلْطَان، وَوَقعت قَرِيبا مِنْهُ فَالْتَفت إِلَى الْجِهَة
الْأُخْرَى تغافلاً عَنْهَا.
وَكَانَ طَاهِر الْمجْلس طَاهِر اللِّسَان، وَقَالَ الْعِمَاد
الْكَاتِب: مَاتَ بِمَوْت الرِّجَال وَفَاتَ بفواته الأفضال، وغاضت
الأيادي، وفاضت الأعادي وانقطعت الأرزاق وادلهمت الْآفَاق وفجع
الزَّمَان بواحده وسلطانه، ورزء الْإِسْلَام بمشيد أَرْكَانه وَاسْتقر
فِي ملك دمشق ومضافاتها ابْنه الْأَفْضَل نور الدّين عَليّ، وبمصر
الْملك الْعَزِيز عماد الدّين عُثْمَان، وبحلب الْملك الظَّاهِر
غَازِي، وبالكرك والشوبك والبلاد الشرقية الْملك الْعَادِل سيف الدّين
أَبُو بكر بن أَيُّوب، وبحماه والمعرة وسلمية ومنبج وقلعة نجم الْملك
الْمَنْصُور نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن المظفر تَقِيّ الدّين عمر،
وببعلبك الأمجد مجد الدّين بهْرَام شاه بن فرخشاه بن شاهنشاه بن
أَيُّوب، وبحمص والرحبة وتدمر شيركوه بن مُحَمَّد بن شيركوه بن شادي،
وببصرى الْملك الظافر بن صَلَاح الدّين وَهُوَ فِي خدمَة أَخِيه
الْأَفْضَل.
وَأما أُمَرَاء الدولة فشيزر وَأَبُو قبيس بيد سَابق الدّين عُثْمَان
بن الداية، وصهيون وبرزبه بيد نَاصِر الدّين منكورس بن حمَار تكين، وتل
بَاشر بيد بدر الدّين دلدرم بن بهاء الدّين ياروق، وعجلون وكوكب بيد عز
الدّين أُسَامَة، بارين وكفرطاب وأفامية بيد عز الدّين إِبْرَاهِيم بن
شمس الدّين الْمُقدم.
وَالْأَفْضَل هُوَ أكبر أَوْلَاد السُّلْطَان وَهُوَ الْمَعْهُود
إِلَيْهِ بالسلطنة، واستوزر ضِيَاء الدّين نصر الله بن مُحَمَّد بن
الْأَثِير مُصَنف الْمثل السائر، وَهُوَ أَخُو عز الدّين بن الْأَثِير
مؤلف الْكَامِل فِي التَّارِيخ فَحسن للأفضل طرد أُمَرَاء أَبِيه
ففارقوه إِلَى أَخَوَيْهِ الْعَزِيز، وَالظَّاهِر قَالَ الْعِمَاد
الْكَاتِب: وَتفرد الْوَزير بوزره، وَمد الْجَزرِي فِي جزره، وَحسنت
الْأُمَرَاء للعزيز. الِانْفِرَاد بالسلطنة، ووقعوا فِي أَخِيه
الْأَفْضَل، فَمَال إِلَى ذَلِك، وحصلت الوحشة بَين الْأَخَوَيْنِ.
وفيهَا: بعد موت السُّلْطَان قدم الْعَادِل من الكرك وَأقَام بِدِمَشْق
وَظِيفَة العزاء على أَخِيه ثمَّ توجه إِلَى بِلَاده الَّتِي وَرَاء
الْفُرَات.
وفيهَا: بعد موت السُّلْطَان كَاتب مَسْعُود بن مودود بن زنكي بن
أقسنقر صَاحب الْموصل جِيرَانه الْمُلُوك يستنجدهم، وَاتفقَ مَعَ
أَخِيه زنكي صَاحب سنجار وَسَار إِلَى جِهَة حران وَغَيرهَا فَلحقه
إسهال فَترك الْعَسْكَر مَعَ أَخِيه زنكي وَعَاد إِلَى الْموصل وَصَحبه
قيماز فخلف مَسْعُود الْعَسْكَر لِابْنِهِ أرسلان شاه، وَزَاد بِهِ
الْمَرَض فَتوفي فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من شعْبَان من هَذِه
السّنة، فَبين وَفَاته ووفاة السُّلْطَان نصف سنة، وَمُدَّة ملكه
الْموصل ثَلَاث عشرَة سنة وَنصفا.
وَكَانَ خيرا محسناً أسمر مليح الْوَجْه خَفِيف العارضين يشبه جده عماد
الدّين زنكي وَاسْتقر ابْنه فِي ملك الْموصل بتدبير قيماز.
(2/106)
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى قتل سيف
الدّين بكتمر صَاحب خلاط بَينه وَبَين موت السُّلْطَان شَهْرَان.
وَكَانَ قد شمت بالسلطان ودق البشائر، وتلقب بالسلطان الْمُعظم صَلَاح
الدّين وقلب اسْمه بكتمر إِلَى عبد الْعَزِيز، فَمَا أمْهل وَهُوَ من
مماليك ظهير الدّين شاه أرمن.
وَكَانَ لَهُ خوشداش اسْمه هزار ديناري، تزوج بنت بكتمر عينا خاتون
وجهز على بكتمر من قَتله طَمَعا فِي الْملك وَحصل لَهُ فَإِنَّهُ ملك
خلاط وأعمالها، وَاسم هزار ديناري أقسنقر، ولقبه بدر الدّين، واعتقل
ابْن بكتمر، وَابْنه السباعي الْعُمر بقلعة أرزاش تموش، وَاسْتمرّ فِي
مملكة خلاط إِلَى أَن مَاتَ سنة أَربع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة.
وفيهَا: شَتَّى شهَاب الدّين الغوري فِي يرشاوور، وجهز مَمْلُوكه ايبك
إِلَى الْهِنْد فَفتح وغنم.
وفيهَا: توفّي سُلْطَان شاه بن أرسلان شاه بن أتسز بن مُحَمَّد بن
انوشتكين وَكَانَ قد ملك مرو وخراسان فَانْفَرد أَخُوهُ تكش بالمملكة.
وفيهَا: مَاتَ دَاوُد بن عِيسَى بن مُحَمَّد بن أبي هَاشم أَمِير
مَكَّة، وَمَا زَالَت مَكَّة لَهُ تَارَة، ولأخيه مكثر تَارَة حَتَّى
مَاتَ.
ثمَّ دخلت سنة تسعين وَخَمْسمِائة:
قتل طغرل بك وَملك خوارزم شاه الرّيّ
كَانَ طغرل بك بن أرسلان السلجوقي قد حَبسه قزل أرسلان بن إيلدكز،
وَخرج من بَاب الْحَبْس سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة، وَملك
هَمدَان وَغَيرهَا وَجرى حَرْب بَينه وَبَين مظفر الدّين أزبك بن
البهلوان مُحَمَّد بن إيلدكز، وَقيل بل هُوَ قطلغ إينانج أَخُو أزبك،
فَانْهَزَمَ ابْن البهلوان ثمَّ استنجد بخوارزم شاه عَلَاء الدّين تكش
وَخَافَ مِنْهُ فَلم يجْتَمع بخوارزم شاه، فَسَار خوارزم شاه تكش وَملك
الرّيّ سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ، وَبلغ تكش أَن أَخَاهُ سُلْطَان شاه
قصد خوارزم فَصَالح طغرل بك السلجوقي، وَعَاد إِلَى خوارزم، وَبَقِي
الْأَمر كَذَلِك حَتَّى مَاتَ سُلْطَان شاه سنة تسع وَثَمَانِينَ
وَخَمْسمِائة فتسلم تكش مملكة أَخِيه سُلْطَان شاه وخزائنه، وَولي
مُحَمَّد بن تكش نيسابور، وملكشاه بن تكش الْأَكْبَر مرو.
وَفِي سنة تسعين حَارب تكش طغرل بك بِالْقربِ من الرّيّ وَحمل طغرل بك
بِنَفسِهِ فَقتل فِي الرَّابِع وَالْعِشْرين من ربيع الأول من هَذِه
السّنة، وَأرْسل تكش رَأسه إِلَى بَغْدَاد، وَسَار فَملك هَمدَان وَتلك
الْبِلَاد، وَسلم بَعْضهَا إِلَى ابْن البهلوان وأقطع بَعْضهَا
لمماليكه وَرجع إِلَى خوارزم.
وطغرل بك هَذَا هُوَ آخر مُلُوك الْعَجم السلجوقية، وَأول من أَزَال
دولة بني بويه مِنْهُم طغرل بك بن مِيكَائِيل بن سلجوق ثمَّ ابْن
أَخِيه ألب أرسلان بن دَاوُد بن مِيكَائِيل، ثمَّ ابْنه
(2/107)
ملكشاه بن ألب أرسلان ثمَّ ابْنه مَحْمُود
بن ملكشاه وَكَانَ طفْلا تدبره أمه ترْكَان خاتون، وَمَات مَحْمُود
وَهُوَ ابْن سبع سِنِين.
وَملك أَخُوهُ بركيا روق بن ملك شاه ثمَّ أَخُوهُ مُحَمَّد بن ملك شاه
ثمَّ ابْنه مَحْمُود بن مُحَمَّد ثمَّ ابْنه دَاوُد بن مَحْمُود بن
مُحَمَّد الْمَذْكُور مُدَّة يسيرَة، ثمَّ عَمه طغرل بك بن مُحَمَّد
ثمَّ أَخُوهُ مَسْعُود بن مُحَمَّد ثمَّ ابْن أَخِيه ملكشاه بن
مَحْمُود بن مُحَمَّد أَيَّامًا، ثمَّ أَخُوهُ مُحَمَّد بن مَحْمُود،
وَبعد مُحَمَّد الْمَذْكُور اخْتلفُوا فَقَامَ من بني سلجوق ثَلَاثَة
أحدهم ملشكاه بن مَحْمُود أَخُو مُحَمَّد الْمَذْكُور، وَالثَّانِي
سُلَيْمَان شاه بن مُحَمَّد بن السُّلْطَان ملكشاه؛ وَهُوَ عَم
مُحَمَّد الْمَذْكُور، وَالثَّالِث أرسلان شاه بن طغرل بك بن مُحَمَّد
بن السُّلْطَان ملكشاه.
وَكَانَ إيلدكز متزوجاً أم أرسلان شاه فقوي عَلَيْهَا سُلَيْمَان شاه
وَاسْتقر فِي هَمدَان سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة.
ثمَّ قتل سُلَيْمَان شاه، وَكَذَلِكَ سم ملكشاه بن مَحْمُود
الْمَذْكُور، وَمَات بأصبهان سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة.
وَانْفَرَدَ بالسلطنة أرسلان شاه بن طغرل بك ربيب إيلدكز، ثمَّ ملك
بعده ابْنه طغرل بك بن أرسلان شاه بن طغرل بك الْمَذْكُور سنة ثَلَاث
وَسبعين وَخَمْسمِائة وَجرى لَهُ مَا ذَكرْنَاهُ حَتَّى قَتله تكش سنة
تسعين وَخَمْسمِائة، وانقرضت دولتهم من تِلْكَ الْبِلَاد.
وفيهَا: أرسل الإِمَام النَّاصِر عسكراً مَعَ وزيره مؤيد الدّين
مُحَمَّد بن القصاب إِلَى خوزستان بِلَاد ابْن شملة، وَقد مَاتَ ابْن
شملة، وَاخْتلفت أَوْلَاده، فَملك عَسْكَر الْخَلِيفَة تستر سنة
إِحْدَى وَتِسْعين، وَغَيرهَا، وقلعة الناطر، وقلعة كاكرد، وقلعة لاموج
وَغَيرهَا من القلاع والحصون، وأنفذوا ابْني شملة إِلَى بَغْدَاد.
وفيهَا: حصر الْعَزِيز الْأَفْضَل أَخَاهُ بِدِمَشْق، فجَاء الْعَادِل
وَالظَّاهِر والمنصور وَأَصْلحُوا بَينهمَا، وَرجع الْعَزِيز إِلَى مصر
وكل إِلَى مَوْضِعه، وَأَقْبل الْأَفْضَل بِدِمَشْق على الشّرْب
وَاللَّهْو، وفوض أَمر المملكة إِلَى رَأْي وزيره ضِيَاء الدّين بن
الْأَثِير فدبرها بِرَأْيهِ الْفَاسِد، ثمَّ تَابَ الْأَفْضَل وواظب
الصَّلَوَات وَشرع فِي نسخ مصحف بِيَدِهِ.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَخَمْسمِائة: سَار ابْن القصاب بعد
ملك خوزستان فَملك هَمدَان وَغَيرهَا من الْعَجم وَأخذ يستولي على
الْبَلَد للخليفة فَتوفي فِي شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين
وَخَمْسمِائة.
وفيهَا: غزا ملك الْمغرب يَعْقُوب بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن الفرنج
بالأندلس وَهَزَمَهُمْ من مصَاف عَظِيم وَقتل وغنم مَا يفوق الْحصْر.
وفيهَا: استولى سيف الدّين طغرل بك مَمْلُوك الْخَلِيفَة على
أَصْبَهَان.
(2/108)
وفيهَا: قدم مماليك البهلوان عَلَيْهِم
مَمْلُوكا اسْمه ككجا فَعظم ككجا وَاسْتولى على الرّيّ وهمدان.
وفيهَا: عَاد الْعَزِيز عُثْمَان صَاحب مصر إِلَى منازلة أَخِيه
الْأَفْضَل وَنزل الْغَوْر من أَرض سَواد دمشق، ففارقه بعض الْأُمَرَاء
الأَسدِية فبادر الْعَزِيز مصر بِمن بَقِي مَعَه.
وَكَانَ الْأَفْضَل قد استنجد بِعَمِّهِ الْعَادِل فَلَمَّا عَاد
الْعَزِيز سَار الْأَفْضَل والعادل والأسدية المذكورون طَالِبين مصر
فِي أثر الْعَزِيز حَتَّى نزلُوا بلبيس، وَقصد الْأَفْضَل مصر فَمَنعه
عَمه الْعَادِل وَقَالَ: مصر لَك مَتى شِئْت.
وَكَاتب الْعَزِيز بَاطِنا وَأمره بإرسال القَاضِي الْفَاضِل للصلح،
وَكَانَ الْفَاضِل قد اعتزلهم لفساد أَحْوَالهم فَسَأَلَهُ الْعَزِيز
حَتَّى توجه فَاجْتمع بالعادل وأصلحا بَينهمَا وَأقَام الْعَادِل
بِمصْر عبد الْعَزِيز ابْن أَخِيه ليقرر مَمْلَكَته وَعَاد الْأَفْضَل
إِلَى دمشق.
وفيهَا: هزم يَعْقُوب بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن الفرنج بالأندلس فِي
حروب.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا فتح شهَاب
الدّين الغوري قلعة بهنكر الْعَظِيمَة بالأمان، وَصَالح أهل قلعة
كواكير وَبَينهمَا خَمْسَة أَيَّام على مَال ثمَّ غنم وَأسر وَعَاد
إِلَى غزنة.
وفيهَا: قتل سنقر الطَّوِيل شحنة أَصْبَهَان للخليفة صدر الدّين بن عبد
اللَّطِيف بن مُحَمَّد الخجندي رَئِيس الشَّافِعِيَّة بأصبهان، وَهُوَ
الَّذِي سلمهَا إِلَى الْخَلِيفَة لوحشة بَينهمَا.
انتزاع دمشق من الْأَفْضَل
بلغ الْعَادِل بِمصْر والعزيز اضْطِرَاب أُمُور الْأَفْضَل فسارا من
مصر إِلَيْهِ فَأرْسل إِلَيْهِمَا فلك الدّين أحد أمْرَأَته أَخا
الْعَادِل لأمه فَأكْرمه الْعَادِل وَأظْهر الْإِجَابَة إِلَى مَا طلب
وسارا وَنزلا على دمشق، وَقد حصنها الْأَفْضَل فكاتبه بعض الْأُمَرَاء
من دَاخل فِي تَسْلِيمهَا إِلَيْهِ فزحف الْعَادِل والعزيز ضحى
الْأَرْبَعَاء السَّادِس وَالْعِشْرين من رَجَب مِنْهَا، فَدخل
الْعَزِيز من بَاب الْفرج والعادل من بَاب توما فَسلم الْأَفْضَل
القلعة وانتقل مِنْهَا وَأخرج وزيره ضِيَاء الدّين بن الْأَثِير فِي
صندوق خوفًا عَلَيْهِ، وَكَانَ الظافر خضر بن صَلَاح الدّين صَاحب بصرى
معاضداً للأفضل فَأخذت مِنْهُ بصرى فَأَقَامَ عِنْد الظَّاهِر بحلب
وَأعْطى الْأَفْضَل صرخد فاستوطنها، وَدخل الْعَزِيز دمشق يَوْم
الْأَرْبَعَاء رَابِع شعْبَان.
ثمَّ سلمهَا إِلَى عَمه الْعَادِل ورحل الْعَزِيز مِنْهَا تَاسِع
شعْبَان، فمدة ملك الْأَفْضَل لدمشق ثَلَاث سِنِين وَشهر، وَأبقى
الْعَادِل السِّكَّة وَالْخطْبَة للعزيز، وَكتب الْأَفْضَل من صرخد
إِلَى الإِمَام النَّاصِر يشكو عَمه أَبَا بكر وأخاه الْعَزِيز
عُثْمَان وَأول الْكتاب:
(مولَايَ إِن أَبَا بكر وَصَاحبه ... عُثْمَان قد أخذا بِالسَّيْفِ حق
عَليّ)
(فَانْظُر لي حَظّ هَذَا الِاسْم كَيفَ لقى ... من الْأَوَاخِر مَا
لَاقَى من الأول)
(2/109)
فَكتب الإِمَام النَّاصِر جَوَابه:
(وافى كتابك يَا ابْن يُوسُف مُعْلنا ... بِالصّدقِ يخبر أَن أصلك
طَاهِر)
(فاصبر فَإِن غَدا عَلَيْهِ حسابهم ... وَابْشَرْ فناصرك الإِمَام
النَّاصِر)
قلت: وفيهَا توفّي الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الرَّحِيم المغربي بقنا
من صَعِيد مصر، وَله كرامات خارقة، وأنفاس صَادِقَة، أطنب صَاحب بهجة
الْأَسْرَار فِي الثَّنَاء عَلَيْهِ نفعنا الله بِهِ وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا توفّي ملكشاه بن
تكش بنيسابور؛ جعل أَبوهُ لَهُ الحكم فِي تِلْكَ الْبِلَاد، وولاه
عَهده، وَخلف ملكشاه ابْنا اسْمه هندوخان فَجعل تكش فِيهَا عوضه ابْنه
الآخر قطب الدّين مُحَمَّد وَهُوَ الَّذِي ملك بعد أَبِيه، وَغير لقبه
إِلَى عَلَاء الدّين، وَكَانَ بَين ملك شاه وَمُحَمّد عَدَاوَة
مستحكمة.
وفيهَا: توفّي سيف الْإِسْلَام ظهير الدّين طغتكين بن أَيُّوب صَاحب
الْيمن فَحَضَرَ ابْنه الْملك الْمعز إِسْمَاعِيل من السرين فَملك
بِلَاده. وَكَانَ سيف الْإِسْلَام يضيق على التُّجَّار بِالْبيعِ
وَالشِّرَاء حَتَّى جمع مَا لَا يُحْصى.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا توفّي زنكي بن
مودود بن زنكي بن أقسنقر صَاحب سنجار والرقة والخابور، كَانَ يحب
التَّوَاضُع وَالْعدْل وَالْعلم، وَعِنْده شح، وَملك بعد ابْنه قطب
الدّين مُحَمَّد وَدبره مُجَاهِد الدّين برنقش مَمْلُوك أَبِيه.
وفيهَا: استولى نور الدّين أرسلان شاه بن مَسْعُود بن مودود بن زنكي
صَاحب الْموصل على نَصِيبين من ابْن عَمه قطب الدّين مُحَمَّد بن زنكي
فاستنجد مُحَمَّد بالعادل، فَسَار الْعَادِل إِلَى الجزيرة، فَعَاد
أرسلان شاه عَن نَصِيبين إِلَى الْموصل فتسلم قطب الدّين مُحَمَّد
نَصِيبين.
وفيهَا: حاصر خوارزم شاه تكش بخارا وملكها من الخطا، وَكَانَ أَعور
فَأخذ أهل بخاراً كَلْبا أَعور فِي مُدَّة الْحصار وألبسوه قبَاء
وَقَالُوا للخوارزمية: هَذَا سلطانكم. ورموه بالمنجنيق إِلَيْهِم فَلم
يؤاخذهم بذلك.
وفيهَا: استولى الفرنج على قلعة بيروت فَنزل الْعَادِل تل العجول وأتته
نجدة مصر وسنقر الْكَبِير صَاحب الْقُدس وَمَيْمُون القصري صَاحب
نابلس، فَملك الْعَادِل يافا بِالسَّيْفِ، وَقتل الْمُقَاتلَة، وَهَذَا
ثَالِث فتح لَهَا ونازلت الفرنج تبنين فَأرْسل الْعَادِل إِلَى
الْعَزِيز صَاحب مصر فجَاء بِنَفسِهِ وبباقي عسكره، وَاجْتمعَ بالعادل
على تبنين فَرَجَعت الفرنج إِلَى صور خائبين.
ثمَّ عَاد الْعَزِيز إِلَى مصر وَترك غَالب الْعَسْكَر مَعَ عَمه،
وَجعل إِلَيْهِ الْحَرْب وَالصُّلْح، ومده فِي هَذِه الْمدَّة سنقر
الْكَبِير، فَجعل الْعَزِيز أَمر الْقُدس إِلَى صارم الدّين قتلغ
مَمْلُوك
(2/110)
فرخشاه بن شاهنشاه بن أَيُّوب، وَفِي عود
الْعَزِيز إِلَى مصر يَقُول القَاضِي ابْن سنا الْملك قصيدته الَّتِي
مِنْهَا:
(قدمت بالنصر بالمغنم ... كَذَا قدوم الْملك الْمُقدم)
(قَمِيصك الْمَوْرُوث عَن يُوسُف ... مَا جَاءَ إِلَّا اصدقاً فِي
الدَّم)
(أغثت تبنين وخلصتها ... فريسة من مَا ضغى ضيغم)
(شنشنة تعرف من يُوسُف ... فِي النَّصْر لَا تعرف من أخزم)
(مقدمه صَار جمادي بِهِ ... كَمثل ذِي الْحجَّة ذَا موسم)
ثمَّ طاول الْعَادِل الفرنج فطلبوا الْهُدْنَة ثَلَاث سِنِين وَعَاد
الْعَادِل إِلَى دمشق ثمَّ إِلَى ماردين، وحصرها وصاحبها بولق أرسلان
من بني أرتق، وَالْحكم كُله إِلَى مَمْلُوك أَبِيه البقش.
وفيهَا: توفّي بدر الدّين هزار ديناري فاستولى على خلاط بعده خشداشه
قتلغ؛ أرمني الأَصْل من سناشة، ثمَّ قتل بعد سَبْعَة أَيَّام، وأحضر
مُحَمَّد بن بكتمر من القلعة الَّتِي اعتقل بهَا وَهِي أزراش.
ولقب الْملك الْمَنْصُور وَملك خلاط وَقَامَ بتدبيره شُجَاع الدّين
قتلغ الدواتدار القفجاقي، وَاسْتمرّ مُحَمَّد بن بكتمر إِلَى سنة
اثْنَتَيْنِ وسِتمِائَة فَقبض على أتابكه قتلغ وقلته، فاتفق عز الدّين
بلبان مَمْلُوك شاهر من مَعَ الْعَسْكَر وخنقوا مُحَمَّد بن بكتمر
ورموه من القلعة، وَقَالُوا: وَقع. وَاسْتمرّ بلبان فِي ملك خلاط،
وَقَتله قبل سنة بعض أَصْحَاب طغرل بك بن قلج أرسلان صَاحب ارزن، وَقصد
طغرل بك تسلم خلاط فَلم يجبهُ أَهلهَا وعصوا فَعَاد إِلَى أرزن.
ثمَّ وصل الْملك الأوحد أَيُّوب بن الْملك الْعَادِل أبي بكر بن
أَيُّوب وَملك خلاط نَحْو ثَمَان سِنِين.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَتِسْعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا لَيْلَة السَّابِع
وَالْعِشْرين من الْمحرم توفّي الْملك الْعَزِيز عماد الدّين عُثْمَان
بن النَّاصِر تقطر فِي الصَّيْد خلف ذِئْب وحم فَعَاد إِلَى القاهر
وَمَات باليرقان والقرحة، وَمُدَّة ملكه سِتّ سِنِين إِلَّا شهرا وعمره
سبع وَعِشْرُونَ وَكسر.
وَكَانَ سَمحا محسناً، وَأقَام فَخر الدّين جهاركس فِي الْملك
الْمَنْصُور مُحَمَّد بن الْعَزِيز، وَأَشَارَ القَاضِي الْفَاضِل
بِتَمْلِيك الْأَفْضَل وَهُوَ بصرخد فاستدعوه وَخرج الْمَنْصُور بن
الْعَزِيز لتلقيه، فترجل لَهُ الْأَفْضَل عَمه، وَلما وصل الْأَفْضَل
إِلَى بلبيس تَلقاهُ الْعَسْكَر فتنكر مِنْهُ فَخر الدّين جهاركس،
وَسَار فِي عدَّة من الْعَسْكَر إِلَى الشَّام وكاتبوا الْعَادِل
وَهُوَ محاصر ماردين، وَأرْسل الظَّاهِر إِلَى أَخِيه الْأَفْضَل
يُشِير عَلَيْهِ بِأخذ دمشق من عَمه الْعَادِل لاشتغاله بماردين فقصد
دمشق، وَبلغ الْعَادِل ذَلِك فَترك على حِصَار ماردين ابْنه الْكَامِل
وَسبق
(2/111)
الْأَفْضَل، وَدخل دمشق قبل الْأَفْضَل
بيومين، وَنزل عَلَيْهَا الْأَفْضَل ثَالِث عشر شعْبَان مِنْهَا، وزحف
من الْغَد وهجمها بعض عسكره فوصل بَاب الْبَرِيد وَلم يمدهُمْ
الْعَسْكَر فأخرجوا ثمَّ تجَادل الْعَسْكَر فَتَأَخر الْأَفْضَل إِلَى
ذيل عقبَة الْكسْوَة ثمَّ وصل إِلَيْهِ أَخُوهُ الظَّاهِر فَعَاد
وحاصرها، وَقل الْقُوت بِدِمَشْق وأشرف على ملك دمشق وعزم الْعَادِل
على تَسْلِيمهَا لَوْلَا اخْتِلَاف الْأَفْضَل وَالظَّاهِر، وَخرجت
السّنة وهم كَذَلِك، ثمَّ كَانَ مَا سَيذكرُ.
وفيهَا: حاصر الْمَنْصُور صَاحب حماه بارين وَبهَا نواب عز الدّين
إِبْرَاهِيم بن شمس الدّين مُحَمَّد بن عبد الْملك بن الْمُقدم.
وَكَانَ ابْن الْمُقدم محصوراً مَعَ الْعَادِل بِدِمَشْق، وَنصب
الْمَنْصُور عَلَيْهَا المنجانيق، وجرح فِي الزَّحْف، وَفتحهَا فِي
التَّاسِع وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة وَأَصْلَحهَا وَعَاد.
وفيهَا: توفّي أَبُو يُوسُف يَعْقُوب بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن صَاحب
الْمغرب والأندلس فِي سلا، وولايته خمس عشرَة سنة تظاهر بالظاهرية،
وتلقب بالمنصور، وعاش ثمانياً وَأَرْبَعين سنة.
وَأقَام بعده ابْنه مُحَمَّد، وتلقب بالناصر، ومولد مُحَمَّد سنة سِتّ
وَتِسْعين وَخَمْسمِائة، وَعبد الْمُؤمن وَبَنوهُ تسموا بأمير
الْمُؤمنِينَ.
وفيهَا: رَحل عَسْكَر الْعَادِل مَعَ ابْنه الْكَامِل عَن حِصَار
ماردين.
وفيهَا: كَانَت فتْنَة عَظِيمَة فِي عَسْكَر غياث الدّين ملك الغورية
وَهُوَ بفيروزكوه سَببهَا أَن فخرالدين الرَّازِيّ كَانَ قدم إِلَى
غياث الدّين فَبَالغ فِي إكرامه، وَبنى لَهُ مدرسة بهراة، فَعظم ذَلِك
على الكرامية وهم كَثِيرُونَ بهراة وخم مجسمون مشبهون.
وَكَانَ الغورية كرامية فكرهوا فَخر الدّين لمناقضته مَذْهَبهم
وَحَضَرت الكرامية من الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة بفيروزكوه عِنْد
غياث الدّين للمناظرة وَحضر الرَّازِيّ وَالْقَاضِي عبد الْمجِيد بن
عمر بن الْقدْوَة وَهُوَ من الكرامية الهيصمية، وَمحله عَظِيم لعلمه
وزهده.
وَتكلم الرَّازِيّ فَاعْترضَ عَلَيْهِ ابْن الْقدْوَة، وَطَالَ
الْكَلَام، فَقَامَ غياث الدّين فاستطال الرَّازِيّ على ابْن الْقدْوَة
وَشَتمه، وَابْن الْقُدْرَة يَقُول لَا يفعل مَوْلَانَا لَا وأخذك
الله، فصعب على الْملك ضِيَاء الدّين ابْن عَم غياث الدّين وصهره وشكى
من الرَّازِيّ إِلَى غياث الدّين، وذمه وَنسبه إِلَى التفلسف والزندقة
فَلم يصغ غياث الدّين إِلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَد وعظ النَّاس
ابْن عَم ابْن الْقدْوَة بالجامع وَقَالَ بعد حمد الله وَالصَّلَاة على
نبيه مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: رَبنَا آمنا
بِمَا أنزلت وَاتَّبَعنَا الرَّسُول، أَيهَا النَّاس: إِنَّا لَا نقُول
إِلَّا مَا صَحَّ عندنَا عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -، وَأما علم أرسطو وكفريات ابْن سينا وفلسفة الفارابي
فَلَا نعلمها فلأي حَال يشْتم بالْأَمْس شيخ من شُيُوخ الْإِسْلَام يذب
عَن دين الله وَسنة نبيه مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ -. وَبكى وَبكى الكرامية، فثار النَّاس
(2/112)
وامتلأ الْبَلَد فتْنَة فسكنوا ووعدوا
بِإِخْرَاج الرَّازِيّ فَأَعَادَ السُّلْطَان الرَّازِيّ إِلَى هراة.
وفيهَا: فِي ربيع الأول توفّي مُجَاهِد الدّين قيماز بالموصل، وَكَانَ
إِلَيْهِ الْأَمر فِي دولة أرسلان صَاحب الْموصل، وَكَانَ عَاقِلا،
أديباً حنفياً فَاضلا بني جَوَامِع وربطاً ومدارس.
وفيهَا: صَار غياث الدّين ملك الغورية شافعياً وَكَانَ كرامياً.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن عبد الْملك بن زهر الأشبيلي طَبِيب أديب جده
زهر - بِضَم الزَّاي - وَزِير فيلسوف، وَتُوفِّي زهر بقرطبة سنة خمس
وَعشْرين وَخَمْسمِائة، وَقيل فِي ابْن زهر:
(قل للوبا أَنْت وَابْن زهر ... قد جزتما الْحَد فِي النكاية)
(ترفقا بالورى قَلِيلا ... فِي وَاحِد مِنْكُمَا كِفَايَة)
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة: وَالْأَفْضَل وَالظَّاهِر
محاصران لدمشق وَاتفقَ وُقُوع الْخلف بَينهمَا بِسَبَب مَمْلُوك
للظَّاهِر اسْمه أيبك يُحِبهُ ففقد فَأرْسل الْعَادِل يَقُول
للظَّاهِر: إِن مَحْمُود بن السكرِي أفسد مملوكك وَحمله إِلَى أَخِيك
الْأَفْضَل فَظهر الْمَمْلُوك عِنْد ابْن السكرِي فَتغير على أَخِيه
الْأَفْضَل وَترك الْقِتَال وَظهر فشل الْعَسْكَر فَتَأَخر الْأَفْضَل
وَالظَّاهِر عَن دمشق إِلَى مرج الصفر، ثمَّ سَار الْأَفْضَل إِلَى مصر
وَالظَّاهِر إِلَى حلب، فتبع الْعَادِل من دمشق أثر الْأَفْضَل إِلَى
مصر فَخرج الْأَفْضَل إِلَيْهِ وَقد تفرق أَكثر عسكره فِي الْبِلَاد
للربيع، واقتتلا فَانْهَزَمَ الْأَفْضَل إِلَى الْقَاهِرَة، ونازله
ثَمَانِيَة أَيَّام فسلمها الْأَفْضَل على أَن يعوض عَنْهَا ميافارقين
وحانى وسميساط فَأَجَابَهُ وَلم يَفِ لَهُ بذلك، وَدخل الْعَادِل
الْقَاهِرَة فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من ربيع الآخر مِنْهَا.
ثمَّ سَافر الْأَفْضَل إِلَى صرخد، وَأقَام الْعَادِل بِمصْر على أَنه
أتابك الْملك الْمَنْصُور مُحَمَّد بن الْعَزِيز مديدة، ثمَّ اسْتَقل
بالسلطنة فَأرْسل إِلَيْهِ الْمَنْصُور صَاحب حماه يعْتَذر عَمَّا وَقع
مِنْهُ بِسَبَب أَخذ بارين من ابْن الْمُقدم وَنزل لِابْنِ الْمُقدم
عَن منبج، وقلعة نجم عوضا عَن بارين. وَكَاتب الظَّاهِر عَمه الْعَادِل
وَصَالَحَهُ، وخطب لَهُ بحلب وَضرب السِّكَّة باسمه وَالْتزم الظَّاهِر
بِخَمْسِمِائَة فَارس فِي خدمَة الْعَادِل كلما خرج إِلَى البيكار.
وفيهَا: قصر النّيل فَلم يبلغ أَرْبَعَة عشر ذِرَاعا.
وفيهَا: توفّي القَاضِي الْفَاضِل عبد الرَّحِيم فِي سَابِع عشر ربيع
الآخر، وَقيل أَن مولده سنة سِتّ وَعشْرين وَخَمْسمِائة.
قلت: وَهُوَ مجير الدّين عبد الرَّحِيم بن القَاضِي الْأَشْرَف بهاء
الدّين أبي الْمجد عَليّ ابْن القَاضِي السعيد أبي مُحَمَّد الْحسن
الْعَسْقَلَانِي المولده؛ ذُو الْعلم وَالْبَيَان واللسن وَاللِّسَان
والقريحة الوقادة والبصيرة النفاذة والبديهة المعجزة والبديعة المطرزة،
كَانَ وَزِير صَلَاح
(2/113)
الدّين وتمسكن عِنْده، وَله من رِسَالَة
فِي قلعة: هَذِه القلعة عِقَاب فِي عِقَاب، وَنجم فِي سَحَاب، وَهَامة
لَهَا الغمامة عِمَامَة، وأنملة إِذا خضبها الْأَصِيل كَانَ الْهلَال
لَهَا قلامة.
وَله رِسَالَة لَطِيفَة يشفع لخطيب عيذاب فِي تَوليته خطابة الكرك
وَهِي: أدام الله سُلْطَان الْملك النَّاصِر، وثبته وَتقبل عمله
بِقبُول صَالح وأثبته، وَأخذ عدوة قَائِلا أَو يبته، وأرغم أَنفه
بِسَيْفِهِ، وكبته خدمَة الْمَمْلُوك هَذِه وَارِدَة على يَد خطيب
عيذاب.
وَلما نبا بِهِ الْمنزل عَنْهَا وَقل عَلَيْهِ الْمرْفق فِيهَا
وَمِنْهَا وَسمع بِهَذِهِ الفتوحات الَّتِي طبق الأَرْض ذكرهَا،
وَوَجَب على أَهلهَا شكرها، هَاجر من هجير عيذاب وملحها سارياً فِي
لَيْلَة أمل كلهَا نَهَار فَلَا يسْأَل عَن صبحها.
وَقد رغب فِي خطابة الكرك وَهُوَ خطيب، وتوسل بالمملوك فِي هَذَا
الملتمس وَهُوَ قريب، وَنزع من مصر إِلَى الشَّام، وَمن عيذاب إِلَى
الكرك وَهَذَا عَجِيب والفقر سائق عنيف وَالْمَذْكُور عائل ضَعِيف ولطف
الله بالخلق مَوْجُود ومولانا لطيف وَمن شعره عِنْد الْفُرَات مَعَ
صَلَاح الدّين:
(بِاللَّه قل للنيل عَن أنني ... لم أَرض عَنهُ بالفرات بديلاً)
(وسل الْفُؤَاد فَإِنَّهُ لي شَاهد ... إِن كَانَ جفني بالدموع
بَخِيلًا)
(يَا قلب كم خلقت ثمَّ بثينة ... فأعيذ صبرك أَن يكون جميلاً)
وَالله أعلم.
وفيهَا: فِي رَمَضَان توفّي خوارزم شاه تكش بن أرسلان بن أتسز بن
مُحَمَّد بن أنوش تكين صَاحب خوارزم وَبَعض خُرَاسَان والري وَغَيرهَا
من الْبِلَاد الجبلية بشهرستان، وَولي بعده ابْنه مُحَمَّد، وتقلب
بعلاء الدّين بعد قطب الدّين.
وَكَانَ تكش عادلاً فَقِيها حنفياً أصولياً، وَبلغ غياث الدّين الغوري
مَوته، فَترك ضرب النّوبَة ثَلَاثَة أَيَّام وَجلسَ للعزاء مَعَ مَا
كَانَ بَينهمَا من الْعَدَاوَة بِخِلَاف مَا فعل بكتمر من الشماتة
بصلاح الدّين، وهرب ابْن أخي مُحَمَّد هندوخان بن ملك شاه إِلَى غياث
الدّين ملك الغورية يستنصره على عَمه، فَأكْرمه ووعده النَّصْر.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة: وبمصر الْعَادِل وَابْنه
الْكَامِل نَائِبه بهَا.
وَقد وجد الْملك الظَّاهِر فِي تحصين حلب خوفًا من عَمه الْعَادِل
وبدمشق الْمُعظم عِيسَى بن الْعَادِل نَائِب أَبِيه بهَا وبالشرف
الفائز إِبْرَاهِيم بن الْعَادِل، وبميافارقين الأوحد نجم الدّين
أَيُّوب بن الْعَادِل.
وفيهَا: توفّي عز الدّين إِبْرَاهِيم بن الْمُقدم، وَصَارَت منبج وقلعة
نجم وأفامية وكفرطاب بعده لِأَخِيهِ شمس الدّين عبد الْملك فحصر
الظَّاهِر منبج، وملكها وَأنزل عبد
(2/114)
الْملك من قلعتها بالأمان واعتقله، ثمَّ
حضر قلعة نجم وملكها فِي آخر رَجَب مِنْهَا، وَأرْسل إِلَى الْمَنْصُور
بحماه يبْذل لَهُ منبج، وقلعة نجم على أَن يصير مَعَه على الْعَادِل
فَاعْتَذر بحلفه للعادل، فَسَار الظَّاهِر إِلَى المعرة وأقطع بلادها
وَاسْتولى على كفر طَابَ وأفامية، وَكَانَت لِابْنِ الْمُقدم وأحضر عبد
الْملك بن الْمُقدم وضربه قُدَّام نَائِبه قراقوش بافامية ليسلمها
فَضرب قراقوش النقارات بالقلعة لِئَلَّا يسمع أهل الْبَلَد صراخه، وخاب
الظَّاهِر فَرَحل عَنْهَا إِلَى حماه وحاصرها وجرح ثمَّ صَالح
الْمَنْصُور على ثَلَاثِينَ ألف دِينَار صورية وَسَار فنازل دمشق
وَبهَا الْمُعظم بن الْعَادِل وَمَعَ الظَّاهِر أَخُوهُ الْأَفْضَل
وَمَيْمُون القصري صَاحب نابلس وَغَيره، فَخرج الْعَادِل بعساكر مصر
وَأقَام بنابلس وَلم يَجْسُر على قتالهما وَتعلق النقابون بسور دمشق
فَاخْتلف الظَّاهِر وَالْأَفْضَل على من يملك دمشق مِنْهَا وتخلى
الْأَفْضَل عَن الْقِتَال فتخلت الْأُمَرَاء لتخليه فَرَحل الظَّاهِر
عَن دمشق فِي أول محرم سنة ثَمَان وَتِسْعين وَسَار الْأَفْضَل إِلَى
حمص.
وفيهَا: أَي سنة سبع وَتِسْعين توفّي عماد الدّين الْكَاتِب مُحَمَّد
بن عبد الله بن حَامِد الاصفهاني فَاضل فِي الْفِقْه وَالْأَدب
والتاريخ وَالنّظم والنثر كتب لنُور الدّين ولصلاح الدّين، وَله
الْبَرْق الشَّامي وخريدة الْقصر وَغَيرهمَا، ومولده سنة تسع عشرَة
وَخَمْسمِائة، فعمره نَيف وَسَبْعُونَ سنة.
قلت: وَبَينه وَبَين القَاضِي الْفَاضِل محاورات، لقِيه يَوْمًا
رَاكِبًا فَقَالَ لَهُ: سر فَلَا كبا بك الْفرس. فَقَالَ الْفَاضِل:
دَامَ علا الْعِمَاد - وَهَذَا يقْرَأ طرداً وعكساً - واجتمعا يَوْمًا
فِي موكب السُّلْطَان وَقد سد الْغُبَار الفضاء فَأَنْشد الْعِمَاد:
(أما الْغُبَار فَإِنَّهُ ... مِمَّا أثارته السنابك)
(والجو مِنْهُ مظلم ... لَكِن أنارته السنابك)
(يَا دهر لي عبد الرَّحِيم ... فلست أخْشَى مس نابك)
وَتُوفِّي بِدِمَشْق وَكَانَ إِذا دخل عَلَيْهِ عَائِد ينشد:
(أَنا ضيف بربعكم ... أَيْن أَيْن المضيف)
(أنكرتني وُجُوهكُم ... مَاتَ من كنت أعرف)
وَالله أعلم.
وفيهَا: استولى غياث الدّين ملك الغورية على مَا كَانَ لخوارزم شاه
بخراسان وَلما ملك غياث الدّين مرو سلمهَا إِلَى هندوخان بن ملك شاه بن
خوارزم شاه تكش الَّذِي هرب من عَمه إِلَيْهِ وَلما اسْتَقَرَّتْ سرخس
وطوس ونيسابور وَغَيرهَا لغياث الدّين عَاد إِلَى بِلَاده، وَكَانَ
مَعَه أَخُوهُ شهَاب الدّين فَعَاد إِلَى الْهِنْد فَفتح وغنم وَفتح
نهر والة الْعَظِيمَة.
وفيهَا: فِي رَمَضَان ملك ركن الدّين سُلَيْمَان بن قلج أرسلان ملطية
وَكَانَت لِأَخِيهِ معز الدّين قَيْصر شاه، ثمَّ سَار ركن الدّين إِلَى
أرزن الرّوم وَكَانَت لمُحَمد بن صلتق وَهُوَ
(2/115)
من بَيت قديم ملكوا أرزن الرّوم من مُدَّة
طَوِيلَة فطلع صَاحبهَا ليصالحه فَقبض عَلَيْهِ وَأخذ الْبَلَد مِنْهُ
وَكَانَ مُحَمَّد هَذَا آخر مُلُوك بَيته.
وفيهَا: توفّي سقمان بن مُحَمَّد بن قرا أرسلان بن دَاوُد بن سقمان بن
أرتق صَاحب آمد وحصن كيفا سقط من سطح فَمَاتَ بهَا فاستولى مَمْلُوكه
ولي عَهده أياس على بِلَاده، فكاتب الأكابر أَخَاهُ مَحْمُودًا وَكَانَ
قد أبعده إِلَى حصن مَنْصُور بغضاً فِيهِ فَحَضَرَ وَملك بِلَاد أَخِيه
سقمان.
وفيهَا: كَانَ نقص النّيل فغلت مصر شَدِيدا كثيرا.
وفيهَا: هدمت الزلزلة بالجزيرة والسواحل وَالشَّام مدناً كَثِيرَة.
وفيهَا: فِي رَمَضَان توفّي أَبُو الْفرج عبد الرَّحْمَن بن عَليّ بن
الْجَوْزِيّ الْحَنْبَلِيّ الْوَاعِظ وتصانيفه مَشْهُورَة ومولده سنة
عشر وَخَمْسمِائة.
قلت: ابْن الْجَوْزِيّ عبد الرَّحْمَن بن أبي الْحسن بن عَليّ بن
مُحَمَّد بن عَليّ بن عبيد الله بن عبد الله بن حَمَّاد بن أَحْمد بن
مُحَمَّد بن جَعْفَر الْجَوْزِيّ بن عبد الله بن الْقَاسِم بن النَّضر
بن الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم
بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق؛ الْفَقِيه الْوَاعِظ الملقب جمال
الدّين عَلامَة وقته فِي الحَدِيث والوعظ، لَهُ زَاد الْمسير فِي علم
التَّفْسِير، وَله فِي الحَدِيث تصانيف، وَله المنتظم فِي تَارِيخ
الْمُلُوك والأمم، وَله الموضوعات وَغَيرهَا، وَقيل أَنه جمعت الكراريس
الَّتِي كتبهَا وحسبت مُدَّة عمره فقسمت الكراريس على الْمدَّة فَكَانَ
مَا خص كل يَوْم تِسْعَة كراريس، وَهَذَا شَيْء عَظِيم لَا يكَاد يقبله
الْعقل، وجمعت براية أقلامه الَّتِي كتب بهَا الحَدِيث فَكَانَت شَيْئا
كثيرا، وَأوصى أَن يسخن بِهِ مَاء غسله فَكفى وَفضل.
وَمن شعره:
(عذيري من فتيةبالعراق ... قُلُوبهم بالجفا قلب)
(يرَوْنَ العجيب كَلَام الْغَرِيب ... وَقَول الْقَرِيب فَلَا يعجب)
(ميازيبهم إِن تندت بِخَير ... إِلَى غير جيرانهم تقلب)
(وَعذرهمْ عِنْد توبيخهم ... مغنية الْحَيّ لَا تطرب)
سَأَلَهُ السّنة والشيعة من أفضل الْأمة بعد رَسُول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبُو بكر أَو عَليّ رَضِي الله
عَنْهُمَا؟ فَقَالَ: أفضلهما من كَانَت ابْنَته تَحْتَهُ فأرضى
الطَّائِفَتَيْنِ وينتسب إِلَى مشرعة الْجَوْز من محَال بَغْدَاد
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَتِسْعين وَخَمْسمِائة: فِيهَا خرب الظَّاهِر
قلعة منبج خوفًا من انتزاعها مِنْهُ، وأقطعها عماد الدّين أَحْمد بن
عَليّ بن أَحْمد بن المشطوب.
قلت: وَكَانَ ذَلِك بِوَاسِطَة وزيره بمنبج الْبُرْهَان بن أبي شيبَة،
وَعمل مَوضِع القلعة
(2/116)
مارستاناً وحمامين متلاصقين وخان سَبِيل فَقَالَ أهل منبج عَنهُ: هتك
الْحَرِيم وصان الْحمير، وَالله أعلم.
وفيهَا: وصل الْعَادِل حماه من دمشق فَقَامَ الْمَنْصُور بكلفه كلهَا
وَبلغ الظَّاهِر بحلب أَن قَصده محاصرته فلاطفه وَأهْدى إِلَيْهِ،
فَوَقع الصُّلْح وانتزعت مُفْردَة المعرة مِنْهُ وَهِي عشرُون ضَيْعَة
مُعينَة من بلد المعرة، واستقرت للمنصور وَأخذت مِنْهُ أَيْضا قلعة نجم
وسلمت إِلَى الْأَفْضَل، وَكَانَ لَهُ سروج وسميساط وَسلم الْعَادِل
حران وَمَا مَعهَا لوَلَده الْأَشْرَف مُوسَى وسيره إِلَى الشرق،
وَكَانَ بميافارقين الأوحد بن الْعَادِل، وبقلعة جعبر الْملك الْحَافِظ
نور الدّين أرسلان شاه بن الْعَادِل، ثمَّ عَاد الْعَادِل وَأقَام
بِدِمَشْق، وَقد انتظم لَهُ ملك الشَّام والشرق ومصر خطْبَة وسكة
وَحكما.
وفيهَا: اسْترْجع خوارزم شاه مُحَمَّد بن تكش الْبِلَاد الَّتِي
أَخذهَا الغورية من خُرَاسَان.
وفيهَا: توفّي هبة الله بن عَليّ بن مَسْعُود المنستيري - بِضَم
الْمِيم وَفتح النُّون - ومنستير بليدَة بإفريقية وَلم يكن فِي عصره
فِي دَرَجَته فِي علو الْإِسْنَاد ثمَّ إِبْرَاهِيم الْأَسدي وَقصد من
الْآفَاق لعلو إِسْنَاده قدم جده من منستير إِلَى بوصير فَعرف هبة الله
بالبوصيري ومولده سنة سِتّ وَخَمْسمِائة.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة: والعادل بِدِمَشْق.
وفيهَا: فِي الْمحرم توفّي ملك الدّين سُلْطَان أَخُو الْعَادِل لأمه
وتنسب إِلَيْهِ الْمدرسَة الفلكية بِدِمَشْق. |