تاريخ ابن الوردي
فتح حموص وَغَيرهَا
تقدم فِي سنة أَربع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة أسر ليفون بن هيتوم لما دخل
الْعَسْكَر صُحْبَة الْمَنْصُور صَاحب حماه فِي أَيَّام الظَّاهِر
بيبرس، وَكَيف فدَاه أَبوهُ، وَملك ليفون بعد أَبِيه مُدَّة، وَمَات
عَن بَنِينَ أكبرهم هيتوم بن تروس ثمَّ سنباط ثمَّ دندين ثمَّ أوشين،
فَلَمَّا مَاتَ ليفون ملك ابْنه الْأَكْبَر هيتوم مُدَّة فَجمع أَخُوهُ
سنباط ووثب عَلَيْهِ وَقَبضه وسمله فعميت عينه الْوَاحِدَة.
وَاسْتمرّ فِي الْحَبْس وَقبض على تروس ثمَّ قَتله وَخلف تروس ابْنا
صَغِيرا، وَاسْتقر سنباط فِي الْملك، وَاتفقَ دُخُول الْعَسْكَر
ومنازلة حموص فِي أَيَّام سنباط فضاقت على الأرمن الأَرْض لِكَثْرَة
مَا غنم مِنْهُم، وَقتل ونسبوا ذَلِك إِلَى سوء تَدْبِير سنباط وَعدم
مصانعته الْمُسلمين.
(2/235)
وقصدوا إِقَامَة أَخِيه دندين وَالْقَبْض
على سنباط، فهرب إِلَى جِهَة قسطنطينية وتملك دندين وَتسَمى كسيندين
أَيْضا، وبذل للعساكر الطَّاعَة والإجابة إِلَى مرسوم سُلْطَان
الْإِسْلَام وَأَنه نَائِبه، فتسلموا مِنْهُ كل مَا هُوَ جنوبي نهر
جيحان من الْحُصُون والبلاد، وَمِنْهَا: حموص وتل حمدون وكويرا والنفير
وَحجر شغلان وسرفند كار ومرعش وَكلهَا حصون منيعة مَا ترام.
وَكَذَلِكَ سلم غَيرهَا من الْبِلَاد، وَكَانَ تَسْلِيم حموص فِي يَوْم
الْجُمُعَة تَاسِع عشر شَوَّال مِنْهَا، وَأمر لاجين باستمرار عمَارَة
هَذِه الْبِلَاد وَمَا كَانَ مصلحَة فَإِن الأرمن ملكوها سنة قازان،
وَولى عَلَيْهَا لاجين نَائِبا ثمَّ عَزله، وولاها سيف الدّين اسندمر
مَعَ عَسْكَر فَأَقَامَ بتل حمدون وعادت العساكر إِلَى حلب تَاسِع ذِي
الْقعدَة عَاشر آب مِنْهَا فورد مرسوم لاجين إِلَى سيف الدّين بلبان
الطباخي بِالْقَبْضِ على جمَاعَة من أُمَرَاء الْعَسْكَر وَعَلمُوا
ذَلِك وقبجق على حمص مستشعر من لاجين فهرب من حلب فَارس الدّين البكي
نَائِب صفد وبكتمر السلحدار وبوزلار وعزاز إِلَى حمص، وَاتَّفَقُوا
مَعَ قبجق على الْعِصْيَان.
(وَفِي أوائلها) : قبل تَجْرِيد الْعَسْكَر قبض لاجين على نَائِبه،
وَاسْتقر واعتقله، واستناب مَمْلُوكه منكوتمر الحسامي، فتكبر وتحامق
بِمَا غير بِهِ الخواطر على أستاذه.
وَكَذَلِكَ قبض لاجين على البيسري وَعز الدّين أيبك الْحَمَوِيّ والحاج
بهادر أَمِير حَاجِب وَغَيرهم.
وفيهَا: اتهمَ قازان أتابكه نيروز بمكاتبة الْمُسلمين وَقَتله، ورتب
مَوْضِعه قطلو شاه.
وفيهَا: وَفد سلامش وَهُوَ مقدم ثَمَان من المغول؛ كَانَ بالروم وبلغه
أَن قازان يُرِيد قَتله فَأكْرمه لاجين وأنجده بعسكر مقدمهم سيف الدّين
بكتمر الجلمي وطمع سلامش باجتماع أهل الرّوم عَلَيْهِ وَسَارُوا حَتَّى
جاوزوا بلد سيس فَخرجت التتر واقتتلوا فَقتل الجلمي وَجَمَاعَة من
الْعَسْكَر وهرب الْبَاقُونَ واعتصم سلامش فِي قلعة هُنَاكَ ثمَّ استتر
لَهُ قازان وَقَتله شَرّ قتلة.
وفيهَا: اتّفق لاجين ونائبه منكوتمر وراكا الإقطاعات بالبلاد المصرية،
وَفرقت المثالات فقبلها أَرْبَابهَا طَوْعًا وَكرها.
وفيهَا: توفّي عز الدّين أيبك الْموصِلِي نَائِب الفتوحات، وولاها سيف
الدّين كرد أَمِير آخور.
وفيهَا: فِي آخر ذِي الْقعدَة هرب قبجق والبكي وبكتمر السلحدار وَمن
انْضَمَّ إِلَيْهِم من حمص وسَاق خَلفهم أيدغدي شقير مَمْلُوك لاجين من
حلب فِي جمَاعَة من الْعَسْكَر المجردين ليقطعوا عَلَيْهِم الطَّرِيق
ففاتوهم وعبروا الْفُرَات واتصلوا بقازان وَأكْرمهمْ حَتَّى كَانَ مَا
سَيذكرُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
(2/236)
وفيهَا: عَاد الْمَنْصُور صَاحب حماه من
حلب إِلَى حماه بِأَمْر لاجين واستمرت العساكر بحلب حَتَّى خرجت
السّنة.
وفيهَا: فِي ثامن وَعشْرين شَوَّال توفّي القَاضِي بحماه جمال الدّين
مُحَمَّد بن سَالم بن وَاصل الشَّافِعِي، ومولده سنة أَربع وسِتمِائَة،
كَانَ مبرزاً فِي عُلُوم كَثِيرَة مثل الْمنطق والهندسة والأصولين
والهيئة والتاريخ.
وَله مفرج الكروب فِي إِخْبَار بني أَيُّوب، وَله الأنبروزية فِي
الْمنطق صنفها للأنبروز ملك الفرنج صَاحب صقلية لما أرْسلهُ إِلَيْهِ
الْملك الظَّاهِر بيبرس وَاخْتصرَ الأغاني اختصارا حسنا وَله غير
ذَلِك.
وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْمُؤلف شَرحه لعروض ابْن الْحَاجِب، وَكَانَ يعرض
على القَاضِي مَا لم يحله من أشكال كتاب إقليدس ويستفيد مِنْهُ وَصحح
عَلَيْهِ أَسمَاء من لَهُ تَرْجَمَة فِي كتاب الأغاني.
قَالَ الْمُؤلف رَحمَه الله: قَالَ القَاضِي جمال الدّين الْمَذْكُور
ووالد الإمبراطور الَّذِي رَأَيْته اسْمه فردريك كَانَ مصافياً للْملك
الْكَامِل، وَمَات سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وسِتمِائَة، وَملك صقلية
وَغَيرهَا من الْبر الطَّوِيل بعده ابْنه كرا ثمَّ مَاتَ كرا وَملك
أَخُوهُ منفريذا وكل من ملك مِنْهُم يُسمى إمبراطوراً وَمَعْنَاهُ
بالفرنجية ملك الْأُمَرَاء قَالَ: وَلما وصلت إِلَيْهِ أَقمت عِنْده
فِي مَدِينَة من الْبر الطَّوِيل الْمُتَّصِل بالأندلس من مَدَائِن
أنبولية.
وَكَانَ يحفظ عشر مقالات من كتاب إقليدس وبالقرب من الْبَلَد الَّذِي
كنت فِيهِ مَدِينَة لَو حارة كلهَا مُسلمُونَ من جَزِيرَة صقلية يعلن
فِيهَا بشعار الْإِسْلَام وَالْأَذَان، وأكبر أَصْحَاب الإمبراطور
منفريذا مُسلمُونَ ويعلن فِي مُعَسْكَره بِالْأَذَانِ وَالصَّلَاة
وَبَين ذَلِك الْبَلَد وَبَين رُومِية خَمْسَة أَيَّام.
قَالَ: وَبعد تَوَجُّهِي من عِنْده اتّفق البابا خَليفَة الفرنج
ورندافرنس على قِتَاله، وَكَانَ البابا قد حرمه لميل الإمبرطور إِلَى
الْمُسلمين.
وَكَذَلِكَ كَانَ أَخُوهُ وَأَبوهُ محرمين لميلهم إِلَى الْمُسلمين،
قَالَ: وَحكى لي أَن مرتبَة الإمبراطور كَانَت قبل فردريك لوالده وَلما
مَاتَ كَانَ فردريك شَابًّا وطمع فِي الإمبراطورية جمَاعَة من مُلُوك
الفرنج.
وَكَانَ فردريك شَابًّا مَاكِرًا وجنسه من الألمانية، فَاجْتمع بِكُل
وَاحِد من الْمُلُوك الطامعين فِي الإمبراطورية بِانْفِرَادِهِ وَقَالَ
لَهُ: إِنِّي لَا أصلح لهَذِهِ الْمرتبَة فَإِذا اجْتَمَعنَا عِنْد
البابا فَقل يَنْبَغِي أَن يتقلد الحَدِيث فِي هَذَا الْأَمر ابْن
الإمبراطور المتوفي وَمن رَضِي بِهِ فَأَنا رَاض بِهِ فَإِن البابا
إِذا رد الِاخْتِيَار إِلَيّ اخْتَرْتُك وقصدي أنتمي إِلَيْك فاعتقدوا
صَدَقَة فِي ذَلِك فَلَمَّا اجْتَمعُوا عِنْد البابا برومية قَالَ
البابا للملوك: مَا تُرِيدُونَ وَمن هُوَ الأحق بِهَذِهِ الْمرتبَة؟
وَوضع تَاج الْملك بَين أَيْديهم فَكل مِنْهُم قَالَ: حكمت فردريك فِي
ذَلِك فَإِنَّهُ ولد الإمبراطور فَقَامَ
(2/237)
فردريك وَقَالَ أَنا أَحَق بتاج أبي
ومرتبته وَالْجَمَاعَة قد رَضوا بِي، وَوضع التَّاج على رَأسه فأبلسوا
كلهم وَخرج مسرعاً وَقد حصل جمَاعَة من الألمانية الشجعان راكبين،
وَسَار بهم على حمية إِلَى بِلَاده.
وَاسْتمرّ منفريذا بن فردريك فِي مَمْلَكَته حَتَّى قَصده البابا
ورندافرنس بجموعهما فقاتلوه وهزموه وقبضوا عَلَيْهِ وَأمر البابا فذبح
منفريذا وَملك بِلَاده بعده رندافرنس سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وسِتمِائَة
ظنا.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَتِسْعين وسِتمِائَة فِيهَا: قتل الْملك
الْمَنْصُور حسام الدّين لاجين: وثب عَلَيْهِ مماليك صبيان اصطفاهم
لَيْلَة الْجُمُعَة حادي عشر ربيع الآخر أول اللَّيْل فَقَتَلُوهُ
وَهُوَ يلْعَب بالشطرنج، وَأول ضَارب لَهُ بِالسَّيْفِ كرجي وقصدوا قتل
مَمْلُوكه نائبة منكوتمر فأجاره سيف الدّين طغجي الأشرفي مقدم
القاتلين، وحبسه فِي الْجب، ثمَّ أخرجه كرجي وَذبح على رَأس الْجب
وَعند الصُّبْح جلس طغجي فِي مضع النِّيَابَة وَأمر وَنهى.
وَهُنَاكَ أُمَرَاء أكبر مِنْهُ مثل الحسام استاذ دَار وسلار وبيبرس
الجاشنكير فاتفقوا على الوقيعة بطغجي وإعادة ملك مَوْلَانَا
السُّلْطَان الْملك النَّاصِر الْمُقِيم بالكرك وَاتفقَ بعد ذَلِك
وُصُول الْعَسْكَر المجردين على حلب أَمِير سلَاح وَغَيره، وَأَشَارَ
الْأُمَرَاء على طغجي بتلقي أَمِير سلَاح فَامْتنعَ وعاودوه فَأجَاب
وَركب من قلعة الْجَبَل واستناب بهَا كرجي قَاتل لاجين فَلَمَّا اجْتمع
الْأُمَرَاء لتلقي أَمِير سلَاح تحدثُوا فِي قتل الصّبيان السُّلْطَان
وأنكروا مثل ذَلِك ونسبوا ذَلِك إِلَى طغجي وحطوا عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ
فهرب وأدركوه فَقَتَلُوهُ وقصدوا كرجي بقلعة الْجَبَل فهرب وتبعوه
فَقَتَلُوهُ فِي ربيع الآخر مِنْهَا، وَمُدَّة ملك لاجين سنتَانِ
وَثَلَاثَة أشهر.
وفيهَا: عَاد السُّلْطَان الْملك النَّاصِر بن السُّلْطَان الْملك
الْمَنْصُور قلاوون إِلَى مَمْلَكَته فَإِنَّهُ بعد مَا ذكرنَا اتّفقت
الْأُمَرَاء على ذَلِك، فَتوجه سيف الدّين آل ملك وَعلم الدّين الجاولي
إِلَى الكرك وحضرا فِي خدمته وَصعد قلعة الْجَبَل وَاسْتقر على سَرِير
ملكه يَوْم السبت رَابِع عشر جمادي الأولى مِنْهَا وَهِي سلطنته
الثَّانِيَة، واستناب سلار وَجعل بيبرس الجاشنكير استاذ الدَّار وبكتمر
الجوكندار أَمِير خزينة دَار وجمال الدّين أقوش الأفرم نَائِب الشَّام
وأفرجوا عَن قرا سنقر من الاعتقال بعد نَحْو سنة وشهرين ثمَّ بعثوا
بِهِ إِلَى الصبيبة وجهز تَقْلِيد صَاحب حماه المظفر على عَادَته فِي
جمادي الأولى مِنْهَا.
وفيهَا: فِي رَمَضَان الْمُوَافق لحزيران جرد المظفر عَسْكَر حماه
إِلَى حلب لتحرك التتر إِلَى الشَّام، وَورد كتاب بلبان الطباخي بتراخي
الْأَخْبَار فعادوا من المعرة إِلَى حماه، ثمَّ ورد كِتَابه بطلبهم
فاعيدوا يَوْم وصولهم سَابِع عشر رَمَضَان وحزيران.
وفيهَا: يَوْم الْخَمِيس ثَانِي عشر ذِي الْقعدَة توفّي السُّلْطَان
الْملك المظفر صَاحب حماه وَتقدم مولده، فعمره إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ
سنة وَعشرَة أشهر وَسَبْعَة أَيَّام، وَملك حماه خمس عشرَة سنة وشهراً
وَيَوْما، قصد جبل علارور المطل على قسطون فِي شدَّة الْحر ليرمي
النسْر
(2/238)
من طوير الْوَاجِب، وَعمل كوخاً وَقتل
حمارا وانتظر نزُول النسْر على جيفته وَهُوَ بالكوخ، فاتفق نزُول
النسْر وَلم يقدر لَهُ رميه، وأنتنت الجيفة فَمَرض، وَمرض الْمُؤلف
رَحمَه الله تَعَالَى.
وَاتفقَ حُضُور الْأَمِير صارم الدّين أزبك المنصوري من التَّجْرِيد
بحلب لمَرض زَوجته فلحق السُّلْطَان قبل وَفَاته.
وَاشْتَدَّ بالمظفر الْمَرَض بحمى محرقة حَتَّى توفّي فِي التَّارِيخ
رَحمَه الله تَعَالَى، وَحضر بعد وَفَاته إِلَى حماه من حلب أَخُو
الْمُؤلف رَحمَه الله تَعَالَى أَسد الدّين عمر وَبدر الدّين حسن ابْنا
الْملك الْأَفْضَل، وَاخْتلفُوا فِيمَن يكون صَاحب حماه فَلم يَنْتَظِم
فِي ذَلِك حَال.
ثمَّ إِن قرا سنقر وَهُوَ بالصبية تضور إِلَى الْحُكَّام بِمصْر من
الْمقَام بالصبيبة وَقد اتّفق موت صَاحب حماه فَأعْطى قرا سنقر
النِّيَابَة بحماه وَوَصلهَا فِي أَوَائِل ذِي الْحجَّة مِنْهَا وَنزل
بدار المظفر صَاحب حماه.
قَالَ الْمُؤلف رَحمَه الله تَعَالَى: وَأخذ من تَرِكَة صَاحب حماه
وَمنا أَشْيَاء كَثِيرَة حَتَّى أجحف بِنَا، ووصلت المناشير من مصر
باستمرارنا، وغيرنا على مَا بِأَيْدِينَا.
وفيهَا: أرسل بلبان الطباخي عسكراً نهبوا ربض ماردين حَتَّى الْجَامِع
وَعمِلُوا الْأَعْمَال الشنيعة الَّتِي احْتج بهَا قازان فِي قصد
الشَّام.
وفيهَا: توفّي بدر الدّين بيسري فِي محبسه من حِين حَبسه لاجين.
وفيهَا: سَار مَوْلَانَا السُّلْطَان بعساكر مصر، فَأَقَامَ بِبِلَاد
غَزَّة حَتَّى خرجت السّنة.
وفيهَا: توفّي شمس الدّين كريته أحد المقدمين الَّذين دخلُوا بلد سبس
وفتحوا مَا ذَكرْنَاهُ.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَتِسْعين وسِتمِائَة: فِيهَا سَار قازان بن أرغون
بجموع عَظِيمَة من مغول وكرج ومزندة وَغَيرهم، وَعبر الْفُرَات وَسَار
إِلَى حلب ثمَّ إِلَى حماه، ثمَّ نزل وَادي مجمع المروج وَسَار
مَوْلَانَا السُّلْطَان بالعساكر وَنزل ظَاهر حمص ثمَّ سَارُوا إِلَى
جِهَة الْمجمع.
وَكَانَ سلار والجاشنكير هما المتغلبين على المملكة فطمع الْأُمَرَاء
وَلم يكملوا عدَّة جندهم، الْتَقَوْا الْعَصْر من نَهَار الْأَرْبَعَاء
سَابِع وَعشْرين ربيع الأول مِنْهَا الْمُوَافق لثالث وَعشْرين كانون
الأول قرب مجمع المروج شَرْقي حمص على نصف مرحلة مِنْهَا فَوَلَّتْ
ميمنة الْمُسلمين ثمَّ الميسرة وَثَبت الْقلب واحتاطت بِهِ التتر وَجرى
قتال عَظِيم وَتَأَخر السُّلْطَان إِلَى جِهَة حمص حَتَّى أدْركهُ
اللَّيْل، وتمت الْهَزِيمَة بالعساكر الإسلامية إِلَى مصر وتبعهم التتر
واستولوا على دمشق وَسَاقُوا إِلَى غَزَّة والقدس وبلاد الكرك وغنموا
من الجفال شَيْئا عَظِيما.
(2/239)
ذكر المتجددات بعد
الكسرة
كَانَ قبجق وبكتمر السلحدار والبكي مَعَ قازان مُنْذُ هربوا فَلَمَّا
استولى قازان على دمشق أَخذ قبجق لأَهْلهَا ولغيرهم الْأمان من قازان،
وَأمر قازان فحوصرت قلعتها والنائب بهَا سيف الدّين أرحواش المنصوري
فَصَبر واجتهد وأحرق الدّور والمدارس الَّتِي تَحت القلعة وَدَار
السَّعَادَة وأماكن جليلة، وَلما وصل عَسْكَر مصر أنفقت فيهم أَمْوَال
جليلة وتأبهوا بِالْخَيْلِ وَالسِّلَاح.
وَأقَام قازان بمرج الزنبقية ثمَّ عَاد إِلَى الشرق، وَقرر فِي دمشق
قبجق فِي عدَّة من المغول، فَلَمَّا بلغ العساكر بِمصْر عود قازان
خَرجُوا من مصر فِي الْعشْر الأول من رَجَب مِنْهَا، وَخرج السُّلْطَان
إِلَى الصالحية ثمَّ اتَّفقُوا على مقَام السُّلْطَان بالديار المصرية
ومسير سلار بيبرس بالعساكر إِلَى الشَّام.
وَكَانَ قبجق وبكتمر السلحدار والألبكي قد كاتبوا الْمُسلمين فِي
الْبَاطِن وصاروا مَعَهم، فَلَمَّا خرجت العساكر هرب قبجق وَمن مَعَه
وفارقوا التتر إِلَى جِهَة مصر، وَبلغ ذَلِك التتر المجردين بِدِمَشْق
فقصدوا الْبِلَاد الشرقية، وَوصل قبجق والألبكي وبكتمر السلحدار إِلَى
السُّلْطَان بِمصْر فَأحْسن إِلَيْهِم وَوصل سلار والجاشنكير إِلَى
دمشق ورتبا فِي نِيَابَة الشَّام الْأَمِير جمال الدّين أقوش الأفرم
على عَادَته ورتبا قرا سنقر بحلب بعد عزل بلبان الطباخي عَنْهَا
وإعطائه إقطاعاً بِمصْر ورتباً قطلو بك فِي نِيَابَة السَّاحِل عوض سيف
الدّين كرد فَإِنَّهُ اسْتشْهد فِي الْوَقْعَة، ورتبا فِي حماه زين
الدّين كتبغا المخلوع الَّذِي كَانَ أعطي صرخد حَتَّى استولى قازان على
الشَّام، ثمَّ سَار إِلَى مصر والتتر بِالشَّام.
ثمَّ سَار مَعَ سلار والجاشنكير إِلَى الشَّام فرتباه فِي نِيَابَة
حماه فوصل كتبغا حماه فِي رَابِع وَعشْرين شعْبَان مِنْهَا وَأقَام
بدار صَاحب حماه المظفر، وَعَاد سلار والجاشنكير إِلَى مصر. وفيهَا:
والتتر بِالشَّام استولى على حماه عُثْمَان السبتاري من رجالة القلعة
بهَا وَحكم فِي الْبَلَد والقلعة، واستباح الْحَرِيم وأموال أهل حماه
وَسَفك دم جمَاعَة مِنْهُم الْفَارِس إرلند مشد حماه وَبَعض أهل
الْبَاب الغربي وشارك عُثْمَان فِي الحكم رَفِيقه إِسْمَاعِيل ثمَّ غدر
بِهِ فَقتله.
وَانْفَرَدَ عُثْمَان بِحكم حماه، وَقيل أَنه تلقب بِالْملكِ الرَّحِيم
وَبَقِي إِلَى أَن طلعت العساكر الإسلامية من مصر وَأَرْسلُوا الصارم
أزبك الْحَمَوِيّ إِلَى حماه يكون فِيهَا إِلَى أَن يصل كتبغا فعصى
عُثْمَان بالقلعة ثمَّ تخلى عَنهُ أَصْحَابه وَأمْسك واعتقل، وَكَانَ
من خزينة دارية قرا سنقر فَلَمَّا وصل قرا سنقر إِلَى حماه مُتَوَجها
إِلَى حلب أطلق عُثْمَان وشكى إِلَيْهِ وَهُوَ بتل صفرون أهل حماه مَا
فعل عُثْمَان فيهم، فارتشى قرا سنقر من عُثْمَان مَا حصله
(2/240)
وَصَحبه إِلَى حلب وَمَا مكن مِنْهُ أحدا
بعد أَن حكم القَاضِي بسفك دم عُثْمَان، وَبَقِي عِنْد قرا سنقر مكرماً
إِلَى أَن هرب قرا سنقر إِلَى التتر فاختفى عُثْمَان.
فَلَمَّا ملك الْمُؤلف رَحمَه الله تَعَالَى حماه تتبع عُثْمَان
وَطَلَبه من نَائِب الشَّام الْمقر السيفي يُنكر فأمسكه من بِلَاد
عجلون وَأَصله من بلد الشوبك وأرسله إِلَيْهِ معتقلاً فَضرب عُنُقه فِي
سوق الْخَيل بِحَضْرَة الْعَسْكَر رَابِع عشر شعْبَان سنة سِتّ عشرَة
وَسَبْعمائة.
وفيهَا: لما وصل قازان إِلَى الشَّام طمع الأرمن فِي الْبِلَاد الَّتِي
فتحهَا الْمُسلمُونَ مِنْهُم، وَعجز الْمُسلمُونَ عَن حفظهَا فاحتلها
الرجالة والعسكر فارتجعها الأرمن وَهِي حموص وتل حمدون وكويرة وسرفند
كار والنقير وَغَيرهَا وَلم يسلم مِنْهَا للْمُسلمين غير حجر شغلان.
وفيهَا: أَو الَّتِي قبلهَا لما ملك دندين بلد الأرمن أفرج عَن أَخِيه
هيتوم وَجعله الْملك وَهُوَ بَين يَدَيْهِ، وهيتوم أَعور من حِين سمله
أَخُوهُ سنباط وَبعد مُدَّة غدر هيتوم بدندين وجازاه أقبح جَزَاء وَقصد
إِمْسَاكه فهرب إِلَى قسطنطينية، وَلما اسْتَقر هيتوم فِي مملكة سيس
كَانَ لِأَخِيهِ تروس الَّذِي قَتله سنباط ابْن صَغِير فَأَقَامَ هيتوم
هَذَا الصَّغِير ابْن تروس ملكا وَصَارَ أتابكا للصَّغِير وبقيا
كَذَلِك حَتَّى قَتلهمَا يرلغي مقدم المغول بالروم.
ثمَّ دخلت سنة سَبْعمِائة فِيهَا: عَادَتْ التتر إِلَى الشَّام وعبروا
الْفُرَات فِي ربيع الآخر، وخلت بِلَاد حلب وَسَار قرا سنقر بعسكر حلب
إِلَى حماه، وبرز كتبغا وعسكر حماه إِلَى ظَاهر حماه فِي ثَانِي
وَعشْرين ربيع الآخر مِنْهَا سادس كانون الأول ووصلت العساكر من دمشق
واجتمعوا بحماه وأقامت التتر بِبِلَاد يبرين وسرمين والمعرة وَغَيرهَا
ينهبون وَيقْتلُونَ.
وَوصل السُّلْطَان بالعساكر إِلَى العوجاء واشتدت الأمطار والوحل
حَتَّى انْقَطَعت الطرقات وتعذرت الأقوات وعجزت العساكرعن الْمقَام على
تِلْكَ الْحَال فَعَاد السُّلْطَان إِلَى الديار المصرية، وتنقلت التتر
بِبِلَاد حلب نَحْو ثَلَاثَة أشهر ورد الله التتر على أَعْقَابهم
بقدرته إِلَى بِلَادهمْ، وعدوا الْفُرَات فِي أَوَاخِر جمادي الْآخِرَة
مِنْهَا الْمُوَافق لأوائل آذار، وَعَاد قرا سنقر بعسكر حلب إِلَيْهَا
وتراجعت الجفال.
وفيهَا: لما وَردت الْأَخْبَار بِعُود التتر إِلَى الشَّام إستخرج من
غَالب الإغنياء بِمصْر وَالشَّام ثلث أَمْوَالهم لاستخدام
الْمُقَاتلَة.
وفيهَا: لما خرجت العساكر من مصر توفّي سيف الدّين بلبان الطباخي وَدفن
بِأَرْض الرملة وَورثه السُّلْطَان بِالْوَلَاءِ.
وَقلت: وَكَانَ شهماً وأنكى فِي التتر لما انْكَسَرَ الْمُسلمُونَ سنة
تسع وَتِسْعين وسِتمِائَة وَالله أعلم.
وفيهَا: عزل كراي المنصوري عَن السواحل وَصَارَ بِدِمَشْق أكبر
الْأُمَرَاء وَولى السواحل أسندمر الكرجي.
(2/241)
وفيهَا: ألزمت الْيَهُود بِلبْس العمائم
الصفر، وَالنَّصَارَى العمائم الزرق، والسامرة الْحمر.
وفيهَا: وصلت رسل قازان برسالة مضمونها الْوَعيد والتهديد فَأَعَادُوا
الْجَواب كَذَلِك.
وفيهَا: ولي البكي الظَّاهِرِيّ الَّذِي عَاد من تقفيزه نِيَابَة حمص،
وَأعْطِي قبجق الشوبك إقطاعاً وَأقَام بهَا.
وفيهَا: قتل جكا بن بغنة أَخَاهُ تكا.
وفيهَا: جرى بَين جكا ونائبه طيفور قتال، فانتصر طيفور ثمَّ استنجد
طيفور بطقطغا فهرب جكا إِلَى الأولاق قوم بِتِلْكَ الْبِلَاد لصهر
بَينه وَبينهمْ فغدر بِهِ ملك الأولاق واعتقله بقلعة طربو ثمَّ قَتله
وَبعث بِرَأْسِهِ إِلَى القرم وَصَارَت مملكة بغنة لطقطغا.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَسَبْعمائة: فِيهَا توفّي " الْخَلِيفَة
الْحَاكِم بِأَمْر الله " أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد، " قلت ": وَدفن
عِنْد السيدة نفيسة، وَكَانَت جنَازَته عَظِيمَة مَشْهُودَة حضرها
عَامَّة الدولة وَالنَّاس، وَلم يركب أحد، وخلافته أَرْبَعُونَ سنة
وَأشهر وَالله أعلم، وَقرر فِي الْخلَافَة بعده ابْنه أَبُو الرّبيع
سُلَيْمَان المستكفي بِاللَّه.
وفيهَا: جرد من مصر بدر الدّين بكتاش أَمِير سلَاح وأيبك الخزينة دَار
بالعساكر فوصلوا حماه وَورد الْأَمر إِلَى كتبغا نَائِب حماه أَن يسير
بهم إِلَى بِلَاد سيس فَخرج فِي الْخَامِس وَالْعِشْرين من شَوَّال
والعساكر صحبته ودخلوا حلب مستهل ذِي الْقعدَة، ورحلوا ثَالِثَة ودخلوا
دربند بغراس سَابِع ذِي الْقعدَة، وانتشروا فِي بِلَاد سيس فأحرقوا
الزَّرْع ونهبوا ونزلوا على سيس وزحفوا عَلَيْهَا. قَالَ الْمُؤلف
رَحمَه الله: وأخذنا من سفح قلعتها شَيْئا كثيرا من جفال الأرمن وعدنا
ووصلنا حلب تَاسِع عشر ذِي الْقعدَة مِنْهَا وَدخل زين الدّين كتبغا
حماه فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من الشَّهْر وَقد ابْتَدَأَ بِهِ
الْمَرَض.
وفيهَا: مَاتَ قبجي بن اردنو بن دوشي خَان بن جنكيز خَان صَاحب غزنة
وباميان وَغَيرهمَا، وَترك بنيه بَيَان وكبلك وطقتمر وبغاتمر ومنغطاي
وحاصي، فَاخْتَلَفُوا بعده واقتتلوا، ثمَّ انتصر بَيَان بن قبجي،
وَاسْتقر فِي ملك غزنة.
وفيهَا: توفّي صَاحب مَكَّة أَبُو نمى مُحَمَّد بن أبي سعد بن عَليّ بن
قَتَادَة بن إِدْرِيس بن مطاعن بن عبد الْكَرِيم بن عِيسَى بن حُسَيْن
بن سُلَيْمَان بن عَليّ بن الْحسن بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُم،
وَاخْتلف بنوه وهم رميثة وحميضة وَأَبُو الْغَيْث وعطيفة، فتغلب رميثة
وحميضة على مَكَّة شرفها الله تَعَالَى.
ثمَّ قبض بيبرس الجاشنكير على رميثة وحميضة فِي هَذِه السّنة لما حج
وتولاها أَبُو الْغَيْث، وَبعد سِنِين أطلق رميثة وحميضة فغلبا على
مَكَّة وهرب عَنْهَا أَبُو الْغَيْث، ثمَّ اقتتل رميثة وحميضة، فانتصر
حميضة وَاسْتقر فِي مَكَّة، ثمَّ كَانَ مِنْهُ مَا سَيذكرُ.
(2/242)
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَسَبْعمائة:
فِي الْمحرم مِنْهَا (فتحت جَزِيرَة أرواد) فِي بَحر الرّوم قبالة
أنظرسوس قَرِيبا من السَّاحِل اجْتمع فِيهَا كثير من الفرنج وبنوا
فِيهَا سوراً تحَصَّنُوا وصاروا يطلعون مِنْهَا ويقطعون الطَّرِيق على
المترددين فِي ذَلِك السَّاحِل والنائب بالسَّاحل إِذْ ذَاك استدمر
الكرجي فَسَأَلَهُ إرْسَال أسطول إِلَيْهَا فعمرت الشواني وسارت
إِلَيْهَا من الديار المصرية فِي بَحر الرّوم ووصلتها فِي الْمحرم،
وَجرى قتال شَدِيد وَنصر الله الْمُسلمين وملكوا الجزيرة وَقتلُوا
وأسروا جَمِيع أَهلهَا وخربوا أسوارها وعادوا بالأسرى والمغنم.
وفيهَا: عَادَتْ التتر إِلَى قصد الشَّام ونزلوا أزوار الْفُرَات
مُدَّة وَسَار مِنْهُم نَحْو عشرَة آلَاف وأغاروا على القرينين
ونواحيها، وَكَانَت العساكر قد اجْتمعت بحماه عِنْد كتبغا نائبها
وَهُوَ مَرِيض من عوده من سيس مسترخى الْأَعْضَاء فَأرْسل كتبغا
جمَاعَة من الْعَسْكَر إِلَى التتر الَّذين أَغَارُوا على القرينين
وَمِنْهُم اسندمر نَائِب السَّاحِل وَجَمَاعَة من عَسْكَر حلب وحماه،
وَمِنْهُم الْمُؤلف رَحمَه الله تَعَالَى، وَذَلِكَ فِي سَابِع شعْبَان
مِنْهَا.
وَاتَّفَقُوا مَعَ التتر على الكوم قريب عرض يَوْم السبت عَاشر شعْبَان
سلخ آذار وصبر الْفَرِيقَانِ ثمَّ انهزم التتر وترجل مِنْهُم جمَاعَة
كَثِيرَة وأحاط الْمُسلمُونَ بهم بعد فرَاغ الْوَقْعَة وبذلوا لَهُم
الْأمان فَلم يقبلُوا وقاتلوا بالنشاب وَعمِلُوا السُّرُوج ستائر
وناوشهم الْعَسْكَر الْقِتَال من الضُّحَى إِلَى انفراك الظّهْر ثمَّ
حملُوا فَقَتَلُوهُمْ عَن آخِرهم وَكَانَ هَذَا عنوان النَّصْر
الثَّانِي، وعادوا منصورين فوصلوا حماه يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث عشر
شعْبَان ثَانِي نيسان.
وفيهَا: بعد كسرة التتر على الكوم سَارَتْ جموع التتر الْعَظِيمَة
صُحْبَة قطلو شاه نَائِب قازان ووصلوا حماه واندفع كتبغا فِي محفة
والعساكر الَّذين كَانُوا بحماه بَين أَيْديهم، وَأخر الْمُؤلف رَحمَه
الله تَعَالَى لكشف التتر فوصل التتر حماه يَوْم الْجُمُعَة الثَّالِث
وَالْعِشْرين من شعْبَان وشاهدهم الْمُؤلف بِظَاهِر حماه فَسَار وَأعلم
كتبغا على القطيفة بِالْحَال، فسارت العساكر الإسلامية إِلَى دمشق
ووصلت أَوَائِل المصريين صُحْبَة بيبرس الجاشنكير وَاجْتمعت بمرج
الزنبقية ظَاهر دمشق ثمَّ سَارُوا إِلَى مرج الصفر لما قاربهم التتر،
وَانْتَظرُوا وُصُول السُّلْطَان وَعبر التتر على دمشق طَالِبين للعسكر
ووصلوا إِلَيْهِم عِنْد شقحب بِطرف مرج الصفر وَسَاعَة وُصُول التتر
إِلَى الْجَيْش وصل السُّلْطَان بباقي العساكر والتقى الْجَمْعَانِ بعد
الْعَصْر نَهَار السبت ثَانِي رَمَضَان مِنْهَا فِي الْعشْرين من نيسان
وَاشْتَدَّ الْقِتَال وتكردست التتر على الميمنة اسْتشْهد من
الْمُسلمين خلق مِنْهُم رَأس الميمنة الحسام أستاذ الدَّار، وَكَانَ
بِرَأْس الميمنة أَيْضا قبجق فَانْدفع هُوَ وَبَاقِي الميمنة بَين
أَيدي التتر وَأنزل الله نَصره على الْقلب والميسرة، فهزموا التتر
وَكثر الْقَتْل فيهم فولى بعض التتر مَعَ توليه منهزمين، وَتَأَخر
بَعضهم مَعَ جوبان، وَحَال اللَّيْل بَين الْفَرِيقَيْنِ فَنزل التتر
على جبل بِطرف مرج الصفر وأوقدوا النيرَان وأحاط الْمُسلمُونَ بهم.
وَعند الصَّباح ابتدر التتر الْهَرَب من الْجَبَل وتبعهم الْمُسلمُونَ
فَقتلُوا مِنْهُم مقتلة
(2/243)
عَظِيمَة، وتوحل فِي موحلة فِي طريقهم
عَالم عَظِيم مِنْهُم، فَأسر بَعضهم وَقتل بَعضهم، وسَاق سلار فِي جمع
كثير فِي أسرهم إِلَى القرينين، ووصلوا الْفُرَات وَهُوَ فِي غَايَة
الزِّيَادَة فَالَّذِي عبر هلك، وَسَارُوا على جَانب الْفُرَات إِلَى
جِهَة بَغْدَاد فَانْقَطع أَكْثَرهم وَمَات جوعا على شاطئ الْفُرَات
وَأخذت الْعَرَب مِنْهُم خلقا وَهَذِه بِتِلْكَ وعادت العساكر إِلَى
أماكنها.
وفيهَا: لَيْلَة الْجُمُعَة عَاشر ذِي الْحجَّة توفّي زين الدّين "
كتبغا " نَائِب حماه من مماليك السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور سيف
الدّين قلاوون الصَّالِحِي رقي حَتَّى تسلطن وتلقب بالعادل وَملك مصر
وَالشَّام سنة أَربع وَتِسْعين، ثمَّ خلع وَأعْطِي صرخد سنة سِتّ
وَتِسْعين وسِتمِائَة وَجرى لَهُ مَا قدمْنَاهُ عَاد من مرج الصفر
إِلَى حماه وَتُوفِّي بعد مُدَّة يسيرَة.
وجهز الْمُؤلف رَحمَه الله يلْتَمس من السُّلْطَان ملك حماه كأهله
فَوجدَ قاصده الْأَمر قد فَاتَ وقررت لقبجق الْمُقِيم بالشوبك ووعد
الْمُؤلف بحماه وَحصل الِاعْتِذَار بوصول قاصده بعد انْفِصَال الْأَمر
فِيهَا.
وفيهَا: توفّي فَارس الدّين البلي الظَّاهِرِيّ النَّائِب بحمص.
وفيهَا: توفّي القَاضِي تَقِيّ الدّين مُحَمَّد بن دَقِيق الْعِيد
قَاضِي الْقُضَاة الشَّافِعِيَّة بالديار المصرية إِمَام فَاضل زاهد
متقشف، وَولي مَوْضِعه القَاضِي بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة
الْحَمَوِيّ.
قلت: وَمَا أحسن قَول ابْن دَقِيق الْعِيد:
(أَتعبت نَفسك بَين ذلة كَادِح ... طلب الْحَيَاة وَبَين حرص مُؤَمل)
(وأضعت عمرك لَا مَسَرَّة ماجن ... حصلت فِيهِ وَلَا وقار مُجمل)
(وَتركت حَظّ النَّفس فِي الدُّنْيَا وَفِي ... الْأُخْرَى ورحت عَن
الْجَمِيع بمعزل)
وَقَوله:
(كم لَيْلَة فِيك وصلنا السرى ... لَا نَعْرِف الغمض وَلَا نستريح)
(وَاخْتلف الْأَصْحَاب مَاذَا الَّذِي ... يزِيل عَنْهُم تعباً أَو
يرِيح)
(فَقيل تعريسهم سَاعَة ... وَقيل بل ذكراك وَهُوَ الصَّحِيح)
وَقَوله:
(وكافات الشتَاء تعد سبعا ... وَمَالِي طَاقَة بلقاء سبع)
(إِذا ظَفرت بكاف الْكيس كفى ... فَذَلِك مُفْرد يَأْتِي بِجمع)
وَالله أعلم.
وفيهَا: زلزلت الْبِلَاد فانهدم بعض سور قلعة حماه وَغَيرهَا، وَمَات
تَحت ردمها بالديار المصرية خلق كثير، وَخَربَتْ من أسوار
الْإسْكَنْدَريَّة سِتا وَأَرْبَعين بَدَنَة.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسَبْعمائة: فِيهَا توفّي " قازان " بن أرغون بن
أبغا بن هولاكو بن
(2/244)
طلو من جنكيز خَان بنواحي الرّيّ فِي
أَوَاخِر السّنة وَملك سنة أَربع وَتِسْعين وسِتمِائَة فملكه نَحْو
ثَمَان سِنِين وَعشرَة أشهر، غمه كسر عسكره فَلحقه حمى حادة وَمَات
مكموداً.
وَملك بعده أَخُوهُ خربنده وَجلسَ فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من ذِي
الْحجَّة، وتلقب الجايتو سُلْطَان.
قدوم قبجق إِلَى حماه
لما أعْطى قبجق حماه ارتجعت مِنْهُ الشوبك وَكَانَ مُقيما بهَا، وَدخل
حماه صَبِيحَة يَوْم السبت الثَّالِث وَالْعِشْرين من صفر، وَنزل بدار
الْملك المظفر واستقرت قدمه بحماه.
وفيهَا: يَوْم الْأَحَد خَامِس جمادي الأولى توفيت عَمه الْمُؤلف
رحمهمَا الله تَعَالَى مؤنسة خاتون بنت الْملك المظفر مَحْمُود بن
الْمَنْصُور مُحَمَّد بن المظفر تَقِيّ الدّين عمر بن شاهنشاه بن
أَيُّوب وَأمّهَا غازنة خاتون بنت السُّلْطَان الْملك الْكَامِل، ومولد
مؤنسة سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة.
عملت بحماه الْمدرسَة الخاتونية بوقف جليل، وَهِي آخر من بَقِي من
أَوْلَاد الْملك المظفر.
قلت: وفيهَا فِي الْمحرم توفّي الإِمَام الْقدْوَة الزَّاهِد ولي الله
الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن أَحْمد الرقي بِدِمَشْق، وَكَانَت جنَازَته
مَشْهُورَة وَحمل على الرؤوس وعاش بضعاً وَخمسين.
كَانَ صَابِرًا على مر الْعَيْش، عَارِفًا بالتفسير والْحَدِيث
والأصلين، حسن الْعبارَة، وَله خطب وأشعار فِي الزّهْد، ومولده بالرقة
سنة سبع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة.
وفيهَا: توفّي فِي صفر خطيب دمشق شيخ دَار الحَدِيث زين الدّين عبد
الله بن مَرْوَان الفارقي وَله سَبْعُونَ سنة وَالله أعلم.
وفيهَا: خلا غَالب الإصطبلات لمَوْت الْخَيل.
وفيهَا: توجه الْمُؤلف رَحمَه الله لحجة الْإِسْلَام وَحج من مصر سلار
وَكثير من الْأُمَرَاء وقفُوا الْإِثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاء
احْتِيَاطًا.
وَفِي أواخرها: جرد عَسْكَر مصر وقبجق وقرا سنقر بعسكره حماه وحلب
إِلَى بِلَاد سيس، وفتحوا تل حمدون بالأمان وهدموها، وَكَانَ الْمُؤلف
بالحجاز.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَسَبْعمائة: فِيهَا وصل من الْمغرب كثير صحبتهم
رَسُول أبي يَعْقُوب يُوسُف بن يَعْقُوب المريني ملك الْمغرب إِلَى مصر
بهدية عَظِيمَة خيل وبغال نَحْو خَمْسمِائَة بسروج ولجم ملبسة
بِالذَّهَب الْمصْرِيّ.
وفيهَا: وصل إِلَى مصر صَاحب دنقلة أياي الْأسود بهدية عَظِيمَة رَقِيق
وهجن وأبقار ونمور وشب وسباذج، وَطلب نجدة من السُّلْطَان فَجرد مَعَه
عسكراً مقدمهم طقصبا نَائِب قوص.
(2/245)
وفيهَا: أُعِيد رميثة وحميضة ابْنا أبي نمى إِلَى ملك مَكَّة.
وفيهَا: توفّي جماز بن شيحة صَاحب الْمَدِينَة الشَّرِيفَة وملكها بعده
ابْنه مَنْصُور.
وفيهَا: وصل الْمُؤلف رَحمَه الله تَعَالَى إِلَى حماه فِي عَاشر صفر
من الْحَج بعد زِيَارَة الْقُدس الشريف والخليل - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. |