تاريخ ابن الوردي
ثمَّ دخلت سنة خمس وَسَبْعمائة: فِي
الْمحرم مِنْهَا أرسل قرا سنقر نَائِب حلب مَعَ مَمْلُوكه قشتمر عسكراً
إِلَى سيس.
وَكَانَ قشتمر ضَعِيف الْعقل مشتغلاً بِالْخمرِ فاستهان بالعدو فَجمع
صَاحب سيس سنباط من الأرمن والفرنج والتتر ووصلوا إِلَى غَزَّة
وقاتلوهم قرب إِيَاس فَانْهَزَمَ الحلبيون يبتدرون الطَّرِيق وَقتل
مِنْهُم وَأسر غالبهم واختفى من سلم فِي تِلْكَ الْجبَال وَلم يصل
إِلَى حلب مِنْهُم إِلَّا الْقَلِيل عُرَاة رجالة.
وفيهَا: قطع خبر بدر الدّين بكتاش أَمِير سلَاح لكبره.
وفيهَا: أفرج عَن الْحَاج بهادر الظَّاهِرِيّ اعتقله لاجين.
قلت: وفيهَا فِي شَوَّال توفّي خطيب دمشق ومحدثها الشَّيْخ شرف الدّين
أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن سِبَاع أَخُو الفركاح الْفَزارِيّ وَالله
أعلم.
وفيهَا: عصى أهل كيلان فَسَار قطلوشاه نَائِب خربنده لقتالهم، فكبسوه
وقتلوه وَجَمَاعَة من المغول.
وفيهَا: أحاطت عَسَاكِر الشَّام بجبال الظنينين المنيعة، وَكَانُوا
عصاة مارقين، وترجلوا عَن الْخَيل وصعدوا فِي تِلْكَ الْجبَال من كل
جَانب، وَقتلُوا وأسروا جَمِيع من بهَا من النصيرية والظنينين، وَأمنت
الطّرق بعدهمْ وَكَانُوا يتخطفون الْمُسلمين ويبيعونهم من الْكفَّار،
وَكَانَ الَّذِي أفتى بذلك ابْن تَيْمِية وَتوجه مَعَ الْعَسْكَر.
وفيهَا: استدعي الشَّيْخ تَقِيّ الدّين أَحْمد بن تَيْمِية من دمشق
إِلَى مصر وَعقد لَهُ مجْلِس واعتقل بِمَا نسب إِلَيْهِ من التجسيم.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسَبْعمائة: ذكر من ملك فِيهَا من بني مرين،
فِيهَا: قتل أَبُو يَعْقُوب يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق بن محيو
بن حمامة المريني ملك الْمغرب وَهُوَ محاصر تلمسان من سِنِين كَثِيرَة
فَلم يبْق عِنْدهم قوت شهر فَفرج الله عَنْهُم بقتْله، وَذَلِكَ أَنه
اتهمَ وزيره بحرمه، واتهم زمامه عنبراً بمواطأة الْوَزير على ذَلِك
وَأمر بِقَتْلِهِمَا، ومروا بعنبر على الخدام فَقَالَ لَهُم: قد أَمر
بقتلي، وسيقتلكم كلكُمْ بعدِي، فهجم بعض الخدام بسكين على أبي يَعْقُوب
وَقد خضب لحيته بحناء ونام على قَفاهُ فَضَربهُ فِي جَوْفه وهرب وأغلق
الْبَاب عَلَيْهِ فصاحت إمرأة بخدمه فلحقوه وَبِه رَمق فأوصى إِلَى
ابْنه أبي سَالم وَمَات.
وَلما جلس سَالم قَصده ابْن عَمه أَبُو ثَابت عَامر بن عبد الله بن
يَعْقُوب بن عبد
(2/246)
الْحق، وَقيل أَن أَبَا ثَابت هُوَ عَامر
بن عبد الله بن يُوسُف بن أبي يَعْقُوب فَيكون ابْن أخي أبي سَالم لَا
ابْن عَمه.
وانضم مَعَ أبي ثَابت يحيى بن يَعْقُوب عَم أبي سَالم فهرب أَبُو سَالم
مِنْهُمَا فأرسلا من تبعه وَقَتله وَجَاء بِرَأْسِهِ.
وَملك أَبُو ثَابت منتصف هَذِه السّنة وَأمر بقتل الْخَادِم قَاتل عَمه
فَقتل ثمَّ قتل الخدام بأسرهم وألقوا فِي النَّار وأباد كل خَادِم فِي
مَمْلَكَته.
ثمَّ وثب أَبُو ثَابت على عَمه يحيى فَقتله ثَانِي يَوْم استقراره ثمَّ
سَار إِلَى فاس وَأرْسل مستحفظاً من بني عَمه اسْمه يُوسُف بن أبي عباد
إِلَى مراكش ثمَّ خلع يُوسُف الْمَذْكُور طَاعَة أبي ثَابت عَامر
الْمَذْكُور وَكَانَ مِنْهُ مَا سَيذكرُ.
وفيهَا: توفّي بدر الدّين بكتاش الفخري أَمِير سلَاح بَين قطع خَبره
ووفاته أَرْبَعَة أشهر.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَسَبْعمائة: فِي أواخرها بطنجة توفّي أَبُو ثَابت
عَامر بن عبد الله بن يُوسُف أبي يَعْقُوب بن يَعْقُوب بن عبد الْحق بن
محيو بن حمامة ملك الغرب وَملكه سنة وكسرا. وَملك بعده ابْن عَمه عَليّ
بن يُوسُف ثمَّ خلعه الْوَزير وَجَمَاعَة بعد يَوْمَيْنِ، وملكوا
سُلَيْمَان بن عبد الله بن يُوسُف بن يَعْقُوب بن عبد الْحق بن محيو،
فَأعْطى وَأنْفق، وَأطلق المكوس واعتقل عَليّ بن يُوسُف المخلوع بطنجة،
وَاسْتقر ملكه.
وفيهَا: قتل يرلغي أحد مقدمي المغول المقيمين بِبِلَاد الرّوم صَاحب
سيس هيتوم بن ليفون بن هيتوم بعد أَن ذبح ابْن أَخِيه بروس الصَّغِير
على صَدره وَملك بعده أوسين أَخُو هيتوم وَمضى الناق أَخُو هيتوم
صُحْبَة يرلغي إِلَى خربنده وشكاه فَأمر خربنده يرلغي فَقتل
بِالسَّيْفِ.
قلت: وفيهَا فِي الْخَامِس وَالْعِشْرين من شهر جمادي الأولى توفّي
شَيخنَا الْعَارِف الْقُدْرَة ذُو الكرامات عبس بن عِيسَى بن عَليّ بن
علوان السرحاوي العليمي وفيهَا نزل كراي المنصوري عَن إقطاعه وَعَن
الإمرة وَبَقِي بطالاً حَتَّى أقطعه السُّلْطَان فِيمَا بعد واستنابه
بِدِمَشْق.
وفيهَا: توفّي ركن الدّين بيبرس العجمي الصَّالِحِي الجالق آخر البحرية
وَقد أسن.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسَبْعمائة: فِيهَا يَوْم السبت الْخَامِس
وَالْعِشْرين من رَمَضَان خرج السُّلْطَان من مصر مُتَوَجها إِلَى
الْحجاز الشريف وَمَعَهُ أُمَرَاء مِنْهُم عز الدّين أيدمر الخطيري
وحسام الدّين قرا لاجين وَسيف الدّين آل ملك وَعِيد بالصالحية، ثمَّ
سَار وَوصل الكرك عَاشر شَوَّال ونائبها جمال الدّين أقوش الأشرفي،
فاحتفل بسماط وَعبر السُّلْطَان على جسر القلعة والأمراء ماشون بَين
يَدَيْهِ والمماليك حول فرسه وَخَلفه فَسقط بهم جسر القلعة
(2/247)
وَقد حصلت يَد فرس السُّلْطَان وَهُوَ
رَاكِبه دَاخل عتبَة الْبَاب، وأحس الْفرس بِسُقُوط الجسر فأسرع حَتَّى
كَاد يدوس الْأُمَرَاء بَين يَدَيْهِ وَسقط من مماليك السُّلْطَان
خَمْسَة وَثَلَاثُونَ وَغَيرهم من أهل الكرك وَلم يهْلك غير مَمْلُوك
وَاحِد لَيْسَ من الْخَواص، وَنزل فِي الْوَقْت السُّلْطَان عِنْد
الْبَاب وأحضر الجنوبات والحبال وَرفعُوا الَّذين سقطوا وداووهم فصلحوا
قَرِيبا وسعادة السُّلْطَان وَللَّه الْحَمد خارقة للعوائد فَإِن هَذَا
الجسر يُقَارب ارتفاعه خمسين ذِرَاعا.
وَلما اسْتَقر السُّلْطَان بالكرك أَمر أقوش نائبها والأمراء الَّذين
حَضَرُوا مَعَه بِالْمَسِيرِ إِلَى مصر واعلمهم إِنَّه جعل الْحجاز
وَسِيلَة إِلَى الْمقَام بالكرك وَسَببه اسْتِيلَاء سلار وبيبرس
الجاشنكير على المملكة وَالْأَمْوَال ومحاصرتهما لَهُ بالقلعة وَغير
ذَلِك ووصلت الْأُمَرَاء مصر وأعلموا من بهَا بذلك فاتفقوا على سلطنة
بيبرس ونيابة سلار كَمَا كَانَ وَركب بيبرس بشعار السلطنة إِلَى
الإيوان الْكَبِير بقلة قلعة الْجَبَل وَجلسَ على سَرِير الْملك يَوْم
السبت الثَّالِث وَالْعِشْرين من شَوَّال مِنْهَا وتلقب بالمظفر ركن
الدّين بيبرس المنصوري وَأرْسل إِلَى الشَّام خلف النواب.
وفيهَا: ملكت الاستبار جَزِيرَة رودس من الأشكري صَاحب قسطنطينية، فصعب
على التُّجَّار الْوُصُول فِي الْبَحْر إِلَى هَذِه الْبِلَاد لمنع
الاستبار من يصل بِلَاد الْإِسْلَام.
وفيهَا: مَاتَ الْأَمِير خضر بن الْملك الظَّاهِر بيبرس بِبَاب القنطرة
جهزه الْأَشْرَف وأخاه إِلَى قسطنطينية فَبَقيَ مُدَّة وَتُوفِّي سلامش
هُنَاكَ ثمَّ عَاد خضر وَأقَام بِالْقَاهِرَةِ حَتَّى توفّي.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَسَبْعمائة: فِيهَا وصل من مصر جمال الدّين أقوش
الْموصِلِي قتال السَّبع مَمْلُوك لُؤْلُؤ صَاحب الْموصل ولاجين
الجاشنكير الزيرتاج فِي ألفي فَارس من مصر وجرد قبجق الْمُؤلف رَحمَه
الله تَعَالَى فِي جمَاعَة من عَسْكَر حماه فَدَخَلُوا حلب يَوْم
الْخَمِيس تَاسِع عشر ربيع الآخر الْخَامِس وَالْعِشْرين من أيلول،
وَكَانَ النَّائِب بحلب قرا سنقر، وَوصل الْحَاج بهادر الظَّاهِرِيّ
فِي جمَاعَة من عَسْكَر دمشق فاستمال قرا سنقر النَّاس إِلَى طَاعَة
مَوْلَانَا السُّلْطَان بَاطِنا وَأخذ يقبح عِنْدهم طَاعَة الْملك
المظفر بيبرس.
وفيهَا: سَار جمَاعَة من المماليك على حمية إِلَى الكرك وأعلموا
السُّلْطَان بِمَا النَّاس عَلَيْهِ من طَاعَته ومحبته فَأَعَادَ
خطبَته بالكرك، ووصلته مكاتبات عَسْكَر دمشق يستدعونه، وَكَذَلِكَ
مكاتبات حلب فَسَار بِمن مَعَه من الكرك فِي جمادي الْآخِرَة مِنْهَا،
وَوصل إِلَى حمان قَرْيَة قربية من رَأس المَال فَعمل أقوش الأفرم
عَلَيْهِ وَأرْسل قرا بغا مَمْلُوك قرا سنقر إِلَيْهِ برسالة كذب عَن
قرا سنقر وَكَانَ قرا بغا قد وصل إِلَى الأفرم بمكتابة تتَعَلَّق بِهِ
خَاصَّة فَأرْسلهُ الأفرم إِلَى السُّلْطَان فَسَار من دمشق ولاقى
السُّلْطَان بحماه وأنهى إِلَى السُّلْطَان مَا حمله الأفرم من
الْكَذِب الْمُقْتَضِي رُجُوع السُّلْطَان فَظَنهُ السُّلْطَان حَقًا
وَرجع إِلَى الكرك فاستدعته العساكر ثَانِيًا وانحلت دولة بيبرس وجوهر
بِالْخِلَافِ، وَبلغ ذَلِك العساكر المقيمين بحلب فَسَارُوا بِغَيْر
دستور.
(2/248)
وَسَار الْمُؤلف بِمن مَعَه من عَسْكَر
حماه بعدهمْ وَلما تحقق السُّلْطَان صدق الطَّاعَة خرج من الكرك
ثَانِيًا وسَاق وَخرجت عَسَاكِر دمشق لطاعته وَتَلَقَّتْهُ وهرب الأفرم
نَائِب دمشق وَوصل السُّلْطَان دمشق يَوْم الثُّلَاثَاء ثامن عشر
شعْبَان مِنْهَا الْمُوَافق لعشرين كانون وهيئت لَهُ قلعة دمشق فَلم
ينزل بهَا وَنزل بِالْقصرِ الأبلق وَأرْسل الأفرم يطْلب الْأمان من
السُّلْطَان فَأَمنهُ وَقدم إِلَى طَاعَته، وَسَار قبجق من حماه
بالعسكر الْحَمَوِيّ واسندمر بعسكر السَّاحِل ووصلوا دمشق وَقدم
الْمُؤلف رَحمَه الله تَعَالَى تقدمة مِنْهَا مَمْلُوكه طقز تمر فقبلها
ووعده بحماه وَوصل قبلهم بكتمو أَمِير جندار من صفد، وَلما تكاملت
العساكر الشامية عِنْد السُّلْطَان أحضر إِلَى دمشق حواصل الكرك
وَأنْفق فِي الْعَسْكَر وَسَار بهم من دمشق يَوْم الثُّلَاثَاء تَاسِع
رَمَضَان عَاشر شباط، وَبلغ بيبرس نَائِبه سلار ذَلِك فجردا عسكراً
ضخماً مَعَ برلغي وَغَيره فَسَارُوا إِلَى الصالحية واقاموا بهَا
وبرلغي من أكبر أَصْحَاب بيبرس وَكَانَ الشَّاعِر أَرَادَهُ بقوله:
(فَكَانَ الَّذِي استنصحت أول خائن ... وَكَانَ الَّذِي استصفيت من
أعظم العدى)
وَسَار السُّلْطَان بالعساكر والفصل شتاء وَالْخَوْف شَدِيد من الأمطار
والوحل فَقدر الله الصحو والدفء حَتَّى وصلوا غَزَّة يَوْم الْجُمُعَة
تَاسِع عشر رَمَضَان فَقدم إِلَى طَاعَته عَسْكَر مصر شَيْئا فَشَيْئًا
برلغي وَغَيره بعدة كَثِيرَة من الْعَسْكَر ثمَّ تَتَابَعَت الأطلاب من
الْأُمَرَاء والمماليك والأجناد يقبلُونَ الأَرْض ويسيرون صحبته وَلما
تحقق بيبرس ذَلِك خلع نَفسه من السلطنة، وَأرْسل بيبرس الدواتدارا
وبهادر يطْلب الْأمان وَأَن يُعْطِيهِ أما الكرك أَو حماه أَو صهيون
وَأَن يكون مَعَه من مماليكه ثَلَاثمِائَة فَأُجِيب إِلَى مائَة
مَمْلُوك وَإِلَى صهيون، وهرب الجاشنكير من قلعة الْجَبَل إِلَى جِهَة
الصَّعِيد، وَخرج سلار إِلَى طَاعَة السُّلْطَان، وتلقاه يَوْم
الِاثْنَيْنِ التَّاسِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان قَاطع بركَة
الْحجَّاج وَقبل الأَرْض وَضرب للسُّلْطَان الدهليز بِالْبركَةِ فِي
النَّهَار الْمَذْكُور، وَأقَام بهَا يَوْم الثُّلَاثَاء سلخ رَمَضَان
وَعِيد يَوْم الْأَرْبَعَاء بِالْبركَةِ، ورحل السُّلْطَان فِي نَهَاره
والعساكر المصرية والشامية فِي خدمته وعَلى رَأسه الجتر وَوصل وَصعد
قلعة الْجَبَل وَاسْتقر على سَرِير ملكه بعد الْعَصْر من نَهَار
الْأَرْبَعَاء مستهل شَوَّال مِنْهَا رَابِع آذار وَهِي سلطنته
الثَّالِثَة.
وَفِي يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث شَوَّال الثَّالِث من وُصُول
السُّلْطَان سَار سلار من قلعة الْجَبَل إِلَى الشوبك أنعم بهَا
عَلَيْهِ وَقطع خَبره من الديار المصرية واستناب السُّلْطَان قبجق بحلب
وارتجع مِنْهُ حماه، وَسَار قبجق من مصر يَوْم الْخَمِيس تَاسِع
شَوَّال، ورسم لعسكر حماه بِالْمَسِيرِ مَعَه، وَاعْتذر السُّلْطَان
للمؤلف رَحمَه الله بِأَنَّهُ إِنَّمَا أخر تَمْلِيكه حماه لمهمات
وإشغال تعوقه وَأَنه لَا بُد من إنجاز وعده فَعَاد مَعَ قبجق إِلَى
الشَّام، ثمَّ رسم السُّلْطَان للافرم بصرخد فَسَار إِلَيْهَا واستناب
قرا سنقر بِالشَّام وَالْحج بهادر الظَّاهِرِيّ بحماه، ثمَّ ارتجعها
مِنْهُ وَقَررهُ بنيابة الفتوحات والحصون بعد عزل اسندمر عَنْهَا.
وَكَانَ قد حصل بَين الْمُؤلف رَحمَه الله تَعَالَى وَبَين اسندمر
عَدَاوَة مستحكمة لميله إِلَى
(2/249)
أَخِيه الْأَمِير بدر الدّين حسن، وَقصد ان
يعدل بحماه عَنهُ إِلَيْهِ فَلم يُوَافقهُ السُّلْطَان على ذَلِك،
فَلَمَّا رأى أَن السُّلْطَان يُعْطي الْمُؤلف تغمده الله برحمته حماه
طلبَهَا اسندمر لنَفسِهِ فَمَا أمكن السُّلْطَان مَنعه مِنْهَا، فرسم
لَهُ بحماه، وَتَأَخر حُضُوره لأمور اقْتَضَت ذَلِك.
واستناب السُّلْطَان سيف الدّين بكتمر الجوكندار بالديار المصرية وَلما
هرب بيبرس الجاشنكير أَخذ مَعَه أَمْوَالًا وخيولاً وَتوجه إِلَى جِهَة
الصَّعِيد، وَلما اسْتَقر السُّلْطَان أرسل فارتجع مِنْهُ مَا أَخذ من
الخزائن بِغَيْر حق.
ثمَّ قصد بيبرس الْمسير إِلَى صهيون فبرز من أطفيح إِلَى السويس وَسَار
إِلَى الصالحية ثمَّ إِلَى العنصر قرب الداروم وَوصل إِلَى قرا سنقر
وَهُوَ مُتَوَجّه إِلَى نِيَابَة الشَّام المرسوم بِالْقَبْضِ على
بيبرس فَركب قرا سنقر وكبسه وَقبض عَلَيْهِ بِالْمَكَانِ الْمَذْكُور
وَعَاد بِهِ إِلَى الحظارة فوصل من عِنْد السُّلْطَان اسندمر الكرجي
وتسلمه وَعَاد قرا سنقر إِلَى الشَّام وأوصل اسندمر بيبرس إِلَى قلعة
الْجَبَل واعتقل يَوْم الْخَمِيس رَابِع عشر ذِي الْقعدَة مِنْهَا
فَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ وَمُدَّة ملكه أحد عشر شهرا.
(تفاني الرِّجَال على حبها ... وَمَا يحصلون على طائل)
(قلت) : وَأما سلار فَاشْتَدَّ خَوفه ووجله بالشوبك فنزح إِلَى
الْبَريَّة ثمَّ خذل وَأرْسل يطْلب أَمَانًا ليقيم بالقدس فَأُجِيب
وَسَاقه حتفه إِلَى الْقَاهِرَة فَأحْضرهُ السُّلْطَان وعاتبه ثمَّ
اعتقل وَمنع من الزَّاد حَتَّى مَاتَ جوعا وَفِي أهرائه نَحْو مِائَتي
ألف أردب، وَقيل وجد وَقد أكل خفه، وَكَانَ من التتار العويرامية
وَمَات فِي جمادي الأولى سنة عشر وَسَبْعمائة، ووقفت على مسودة بِمَا
وجد فِي دَاره من صناديق ضمنهَا جَوَاهِر وفصوص مَاس ولآلىء كبار ومصاغ
وعقود وقناطير مقنطرة ذَهَبا وَفِضة وسروج مزركشة وأقمشة وَعدد وخيل
وجمال وَغير ذَلِك مِمَّا يفوت الْحصْر وَالله أعلم.
وفيهَا: غلب بَيَان بن قبجي على مملكة أَخِيه كتلك وَاتفقَ موت كتلك
عقيب ذَلِك فاستنجد ابْنه قشتمر وطرد عَمه ببان وَاسْتقر فِي ملك
أَبِيه كتلك، وَقيل أَن الَّذِي طرد ببان هُوَ أَخُوهُ منغطاي بن قبجي.
وفيهَا: وَردت الْأَخْبَار أَن الفرنج قصدُوا نصر بن مُحَمَّد بن
الْأَحْمَر ملك غرناطة بالأندلس فاستنجد بِسُلَيْمَان المريني صَاحب
مراكش واقتتلوا قرب غرناطة فَقتل من الْفَرِيقَيْنِ عَالم عَظِيم ثمَّ
هزم الله الفرنج.
وفيهَا: تزوج خربنده ملك التتر بنت الْملك الْمَنْصُور غَازِي بن قرا
أرسلان صَاحب ماردين وحملت إِلَى الأردو.
قلت: وَهَذَا آخر مَا وقف عَلَيْهِ الْمُؤلف رَحمَه الله تَعَالَى
فِيمَا علمت، وَمن هُنَا شرعت فِي التذييل عَلَيْهِ فَقلت: وفيهَا
أعَاد السُّلْطَان قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين سُلَيْمَان بن
حَمْزَة
(2/250)
الْمَقْدِسِي الْحَنْبَلِيّ إِلَى
الْقَضَاء بِدِمَشْق وخلع عَلَيْهِ وَكَانَ قد عَزله الجاشنكير من
نَحْو ثَلَاثَة أشهر بشهاب الدّين بن الْحَافِظ.
وفيهَا: هَاجَتْ القيسية واليمانية بحوران على عَادَتهم وحشدوا وَبَلغت
المقتلة قرب السويدا نَحْو ألف نفس. وفيهَا: توفّي شمس الدّين سنقر
الأعسر من أَعْيَان الْأُمَرَاء ذَوي السطوة ولي الشد بِالشَّام
والوزارة بِمصْر.
ثمَّ دخلت سنة عشر وَسَبْعمائة: فِيهَا وصل أسندمر إِلَى حماه نَائِبا
عَلَيْهَا وعَلى المعرة وَتعرض إِلَى أَمْوَال النَّاس.
وفيهَا: صرف ابْن جمَاعَة عَن قَضَاء الديار المصرية، وَولي مَكَانَهُ
جمال الدّين الزرعي، وَصرف شمس الدّين السرُوجِي، وَطلب القَاضِي شمس
الدّين بن الحريري فولي قَضَاء الْحَنَفِيَّة بالديار المصرية فَتوفي
السرُوجِي الْمَذْكُور بعد أَيَّام قَليلَة.
وفيهَا: مَاتَ بطرابلس نائبها الْحَاج بهادر الْحَمَوِيّ وَقد كبر
وَمَات بحلب نائبها سيف الدّين قبجق المنصوري بالإسهال وَنقل إِلَى
تربته بحماه ثمَّ نَاب بحلب أسندمر فَسَار فِي حلب بسترته فِي حماه.
وفيهَا: استناب السُّلْطَان بحماه عماد الدّين إِسْمَاعِيل بن الْملك
الْأَفْضَل عَليّ بن المظفر مَحْمُود صَاحب حماه.
قلت:
(وفاز الْمُؤَيد فِي يَوْمه ... بِمَا كَانَ يرجوه فِي أمسه)
(وَكم قد شكى الحيف من دهره ... فأنصفه الدَّهْر من نَفسه)
وفيهَا: تحول الأفرم من صرخد إِلَى نِيَابَة طرابلس.
وفيهَا: فِي رَمَضَان توفّي بتبريز الشَّيْخ قطب الدّين مَحْمُود بن
مَسْعُود الشِّيرَازِيّ صَاحب التصانيف وَهُوَ فِي عشر الثَّمَانِينَ،
كَانَ غزير الْعلم وَاسع الصَّدْر، حسن الْأَخْلَاق وجيهاً عِنْد التتر
وَغَيرهم.
قلت:
(لقد عدم الْإِسْلَام حبرًا مبرزاً ... كريم السجايا فِيهِ مَعَ بعده
قرب)
(عجبت وَقد دارت رَحا الْعلم بعده ... وَهل للرحا دور وَقد عدم القطب)
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى عشرَة وَسَبْعمائة: فِي أَولهَا نقل قرا سنقر من
دمشق إِلَى نِيَابَة حلب وَولي نِيَابَة دمشق كراي المنصوري.
وَكَانَ شَيخنَا صدر الدّين بن الْوَكِيل قد انْتقل من دمشق إِلَى حلب
خوفًا من قرا سنقر فَلَمَّا وصل قرا سنقر إِلَى الْعين الْمُبَارَكَة
بِالْقربِ من حلب خرجنَا مَعَ الشَّيْخ للقاء قرا سنقر
(2/251)
فَأقبل عَلَيْهِ، وشكى إِلَى صدر الدّين من
الدماشقة، فَقَالَ صدر الدّين: أَنا رجل لست من دمشق وَإِنَّمَا أَنا
من أهل الْمغرب وهنأه الشَّيْخ صدر الدّين بقصيدة جَيِّدَة أَولهَا:
(هَب النسيم فَعَاشَ من نفحاته ... وسرى سمير الْبَرْق فِي لمحاته)
(يطوي إِلَى حلب الفلا والشوق ... كل رِدَائه والوجد بعض حداته)
(مَا لَاحَ برق بالعواصم سَاطِع ... إِلَّا حَكَاهُ الْقلب فِي خفقاته)
(حَيا الحيا حَيا بمنعرج اللوى ... بانوا فَبَان الصَّبْر عَن باناته)
(حيوا على الْوَادي فأحيوا مَيتا ... مضنى قَتِيل ظبائه وظباته)
(يَا سعد ساعدني وَكن لي مخبرا ... فَالْخَبَر عز عَن الكئيب
بِذَاتِهِ)
(هاتيك للساري تشب على الغضا ... أم ذَاك نور لَاحَ فِي مشكاته)
(أم هَذِه حلب بنائبها أشرقت ... شمس الممالك من سما بصفاته)
(شمس سما فَوق السماك مَحَله ... وسبى سناه الْبَدْر فِي هالاته)
(بِالسَّيْفِ والقلم ارْتقى فمضاء ذَا ... لعداته وَمضى ذَا لعداته)
(مَا الْبَحْر من نظرائه وكفاته ... بل ذَاك من وكفاته وكفاته)
(فالعلم بَين بَيَانه وبنانه ... والحلم من أدواته ودواته)
(وَحَدِيث كل الْجُود عِنْد مُسْند ... متواتر قد صَحَّ عِنْد
وَرُوَاته)
(يروي فيروي كل ظمآن الحشا ... فَالنَّاس بَين رُوَاته وَرُوَاته)
(يَا مَالك الْأُمَرَاء بل يَا شمسهم ... يَا من أَضَاء الْكَوْن من
بهجاته)
(قد كَانَ فِي حلب وَفِي سكانها ... شَرق إِلَيْك يشب فِي لفحاته)
(يبكي لغيبتك السَّحَاب وروضها ... يَرْجُو اللقا فافتر ثغر نَبَاته)
(وتمايلت أَغْصَانهَا طَربا وَقد ... غنى الْحمام ورن فِي باناته)
(وأتيتها بِالْعَدْلِ تشرق ربعهَا ... وتزيل ظلما زَاد فِي ظلماته)
(فتباشرت سكانها وربوعها ... ودعوا لمَالِكهَا على عوداته)
(النَّاصِر الْمَالِك الَّذِي خجل الحيا ... من جوده وَاللَّيْث من
سطواته)
(إسكندر الدُّنْيَا وكسرى عصره ... لَو عَاشَ تبع مَاتَ من تبعاته)
(من اطد الدُّنْيَا وَسكن بِيَدِهَا ... أَو ضم بَيت الْملك بعد شتاته)
(تشتاقه بَغْدَاد وَهِي عروسه ... خطبَته واشتاقت إِلَى خطباته)
(فَالله ينصره ويحرس ملكه ... ويمتع الدُّنْيَا بطول حَيَاته)
وفيهَا: فِي ربيع الآخر أُعِيد ابْن جمَاعَة إِلَى قَضَاء الديار
المصرية وتقرر المزرعي المصروف قَضَاء الْعَسْكَر.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى عزل كراي عَن نِيَابَة دمشق وَقيد وَحبس
هُوَ وقطلو بك نَائِب صفد بالكرك وَقبض قبلهمَا على أسندمر من حلب،
وسجن بالكرك وَفَرح النَّاس بنكبته فَرحا شَدِيدا ثمَّ نَاب بِدِمَشْق
جمال الدّين أقوش الأشرفي الَّذِي يعرف بنائب الكرك.
(2/252)
وفيهَا: توفّي الْحَافِظ البارع قَاضِي
الْقَضَاء سعد الدّين مَسْعُود بن أَحْمد الْحَارِثِيّ الْحَنْبَلِيّ
بِمصْر.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْ وَعشرَة وَسَبْعمائة: فِيهَا فِي أَولهَا تسحب
من دمشق عز الدّين الزردكاش وبلبان الدِّمَشْقِي وأمير ثَالِث إِلَى
الأفرم نَائِب طرابلس ثمَّ ساقوا بمماليكهم إِلَى قرا سنقر المنصوري
وَكَانَ قد سبقهمْ وَأقَام بالبرية فِي ذمام مهنا بن عِيسَى ملك
الْعَرَب فاحتيط على أَمْوَالهم وأملاكم ثمَّ عبروا الْفُرَات إِلَى
خربنده ملك التتر فاحترمهم وَأَقْبل عَلَيْهِم.
وفيهَا: مَاتَ صَاحب ماردين الْملك الْمَنْصُور غَازِي بن المظفر قرا
أرسلان الأرتقي فِي عشر السّبْعين ودولته نَحْو عشْرين سنة.
ملك بعده ابْنه عَليّ، فَعَاشَ بعده سَبْعَة عشرَة يَوْمًا وَمَات،
فَملك أَخُوهُ الْملك الصَّالح.
وفيهَا: أمسك من حمص نائبها بيبرس العلائي، وَمن دمشق بيبرس
الْمَجْنُون وبيبرس التاجي وطوغان وَسيف الدّين كشلي والبرواني وحبسوا
بالكرك وَأمْسك بِمصْر جمَاعَة.
وفيهَا: فِي ربيع الأول طلب إِلَى مصر أقوش الكركي نَائِب دمشق.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر قدم ملك أُمَرَاء سيف الدّين تنكز الناصري
نَائِبا بِالشَّام وَحضر يَوْم الْجُمُعَة بالجامع الْأمَوِي وأوقد
لَهُ الشمع، وَولي نِيَابَة مصر بعده سيف الدّين أرغون الدواتدار
الناصري.
وفيهَا: فِي أَوَائِل رَمَضَان قويت أراجيف مَجِيء التتر وأجفل النَّاس
ونازل خربنده بجيوشه الرحبة فحاصروها ثَلَاثُونَ يَوْمًا ورموها
بالمجانيق وَأخذُوا فِي النقوب، ثمَّ أَشَارَ رشيد الدولة على خربنده
بِالْعَفو عَن أَهلهَا وَأَشَارَ عَلَيْهِم بالنزول إِلَى خدمَة الْملك
فَنزل قاضيها وَجَمَاعَة وأهدوا لخربنده خَمْسَة أَفْرَاس وَعشرَة
أباليج سكر، فحلفهم على الطَّاعَة لَهُ ورحل عَنْهُم.
واما أهل الشَّام فجفلوا من كل جَانب لتأخر الجيوش المنصورة عَنْهُم
يَسِيرا لأجل ربيع خيلهم، ثمَّ جَاءَت الْأَخْبَار فِي آخر رَمَضَان
برحيل التتر وَحصل الْأَمْن وَضربت البشائر وَأما السُّلْطَان
فَأَنَّهُ عيد سَار فوصل دمشق فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من شَوَّال،
وَكَانَ يَوْمًا مشهوداً وَنزل بالقلعة ثمَّ بِالْقصرِ وَصلى
الْجُمُعَة وَعمل دَار الْعدْل بِحُضُور الْقُضَاة وَكثر الدُّعَاء
لَهُ، وَفِي ذِي الْعقْدَة توجه السُّلْطَان إِلَى الْحَج.
وفيهَا: مَاتَ طقطقاي ملك القفجاق وَله ثَلَاثُونَ سنة وَجلسَ على
السرير وَهُوَ ابْن سبع سِنِين مَاتَ كَافِرًا يعبد الْأَصْنَام،
وَكَانَ يحب أهل الْخَيْر من كل مِلَّة ويرجح الْمُسلمين وَيُحب
الْحُكَمَاء وجيوشه كَثِيرَة جدا وَقع بَينه وَبَين أَعدَاء لَهُ حَرْب
فَجرد من كل عشرَة وأحداً فبلغت عدَّة المجردين مِائَتي ألف فَارس
وَخمسين ألف فَارس.
(2/253)
وَكَانَ لَهُ ابْن بديع الْحسن، وَنوى إِن
ملك الْبِلَاد أَن لَا يتْرك فِي مَمْلَكَته غير الْإِسْلَام فَمَاتَ
فِي حَيَاة وَالِده وَترك ولدا وعهد إِلَيْهِ جده فَلم يتم أمره، وَملك
بعده أزبك خَان ابْن أَخِيه وَهُوَ شَاب مُسلم شُجَاع متسع المملكة
مسيرتها سِتَّة أشهر لَكِن مدائنها قَليلَة.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث عشرَة وَسَبْعمائة: فِيهَا وصل السُّلْطَان من
الْحجاز فِي حادي عشر الْمحرم وَصلى بِجَامِع دمشق جمعتين ثمَّ سَار
إِلَى مصر.
وفيهَا: كَانَ روك اقطاعات الجيوش المنصورة.
وفيهَا: توفّي بحلب المعمر عَلَاء الدّين بيبرس التركي العديمي، وَقد
نَيف على السّبْعين.
ثمَّ دخلت سنة أَربع عشرَة وَسَبْعمائة: فِي رَجَب مِنْهَا توفّي بحلب
نائبها سيف الدّين سودى، وَكَانَ مشكور السِّيرَة وَدفن بالْمقَام
وبنيت عَلَيْهِ تربة ورتب عَلَيْهِ قراء وَمَا يَلِيق بِهِ.
وَفِيه: توفّي بهاء الدّين عَليّ بن أبي سوَادَة صَاحب ديوَان
الْإِنْشَاء بحلب وَله نظم ونثر متوسط وينسب إِلَى التَّشَيُّع.
وَفِيه: توفّي محيي الدّين مُحَمَّد بن أبي حَامِد بن الْمُهَذّب
المعري نَاظر بَيت المَال بحلب فَجْأَة وبيتهم بالمعرة بَيت كَبِير خرج
مِنْهُم فضلاء وقراء وعلماء ومؤرخون وشعراء، وَكَانَ جدهم الْمُهَذّب
بن مُحَمَّد بَدَلا من الأبدال فِيمَا يذكر.
وفيهَا: ولى بحلب بعد سودى الْأَمِير عَلَاء الدّين الطنبغا
الصَّالِحِي الْحَاجِب، فانتفعت بِهِ حلب وبلادها، وَعمر جَامعه
بالميدان الْأسود، وَنقل إِلَيْهِ أعمدة عَظِيمَة من قورس، وعمرت
بِسَبَب هَذَا الْجَامِع أَمَاكِن كَثِيرَة حوله.
وفيهَا: فِي رَجَب مَاتَ بِمصْر شيخ الْحَنَفِيَّة رشيد الدّين
إِسْمَاعِيل بن عُثْمَان بن الْمعلم وَقد كَانَ عرض عَلَيْهِ قَضَاء
دمشق فَامْتنعَ. قلت:
(أَقْسَمت بِاللَّه لقد كَانَ فِي ... ترك الرشيد الحكم رَأس سديد)
(ففاز من حجر عَظِيم وَهل ... يرضى بِضَرْب الْحجر وَهُوَ الرشيد)
وفيهَا: قدم سُلْطَان جيلان شمس الدّين دوباح ليحج فَمَاتَ بقباقب من
نَاحيَة تدمر وَنقل فَدفن بقاسيون، وعملت لَهُ تربة حَسَنَة وعاش
أَرْبعا وَخمسين سنة، وَهُوَ الَّذِي رمى خطلو شاهبسهم فَقتله
وَانْهَزَمَ التتر وَهلك خطلو شاه على كفره وَهُوَ مقدم الْعَدو فِي
ملحمة شقحب.
ثمَّ دخلت سنة خمس عشرَة وَسَبْعمائة: فِيهَا فِي أَولهَا سَار ملك
الْأُمَرَاء سيف الدّين تنكز بِجَيْش دمشق وتقدمه سِتَّة آلَاف من
عَسْكَر مصر إِلَى حلب ثمَّ سَار من حلب لغزو ملطية فصبحوها يَوْم
الْحَادِي وَالْعِشْرين من الْمحرم وَإِذا أهل ملطية قد تهيؤا للحصار
وَالدَّفْع
(2/254)
عَن أنفسهم فَلَمَّا عاينوا كَثْرَة الجيوش
المحمدية خرج القَاضِي والوالي فِي جمَاعَة يطْلبُونَ الْأمان على
أنفسهم وَأَمْوَالهمْ فَأَمنَهُمْ ملك الْأُمَرَاء دون النَّصَارَى.
ثمَّ دخل الْعَسْكَر ملطية، وَقتلُوا بهَا خلقا من النَّصَارَى، وَسبوا
ونهبوا، وتعدى الْأَذَى من أوباش الْجَيْش إِلَى الْمُسلمين، ثمَّ
إلقيت فِيهَا النَّار وَخرب من سورها، ثمَّ سَارُوا بعد ثَلَاث
بالغنائم، وَقَطعُوا الدربند، وَضربت البشائر وزينت الْبِلَاد.
وفيهَا: فِي الْمحرم مَاتَ بالموصل عَالم تِلْكَ الأَرْض السَّيِّد ركن
الدّين حسن بن مُحَمَّد بن شرفشاه الْحُسَيْنِي الإستراباذي صَاحب
التصانيف وَكَانَ ابْن سبعين سنة.
وفيهَا: فِي شعْبَان سَار شطر جَيش حلب لحصار قلعة عرقينة من أَعمال
آمد فتسلموها بالأمان بِلَا كلفة، وَقتلُوا بهَا طَائِفَة، وسلخ أَخُو
مندوه وعلق على القلعة وأغار الْعَسْكَر على قوى الأرمن والأكراد
وَرَجَعُوا سَالِمين بالمكاسب.
وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة وَكنت مُقيما بِدِمَشْق توفّي فَجْأَة قَاضِي
الْقُضَاة تَقِيّ الدّين سُلَيْمَان بن حَمْزَة الْمَقْدِسِي
الْحَنْبَلِيّ وَله ثَمَان وَثَمَانُونَ سنة، وَكَانَ مُسْند الشَّام
فِي وقته، حسن الْوَجْه مَحْبُوب الشكل طيب الأَصْل رَحمَه الله
تَعَالَى.
وفيهَا: فِي سادس جمادي الْآخِرَة توفّي بهاء الدّين عبد السَّيِّد
كَانَ ديان الْيَهُود بِدِمَشْق فَأسلم هُوَ وَأَوْلَاده وَحسن
إِسْلَامه.
قلت:
(وَعمر إِسْلَامه بَيته ... وَخرب أَبْيَات أخصامه)
(وأحزن ذَلِك حزانهم ... وأفرح مُوسَى باسلامه)
ثمَّ دخلت سنة سِتّ عشرَة وَسَبْعمائة: فِي الْمحرم مِنْهَا تكملت
تَفْرِقَة المثالات بالإقطاعات بعد الروك وأبطل السُّلْطَان بعض المكوس
بالديار المصرية.
وفيهَا: فِي ثَانِي عشر الْمحرم توفّي الشَّيْخ نَاصِر الدّين أَبُو
بكر الْمَعْرُوف بِابْن السلار فَاضل شَاعِر حسن الْعبارَة من بَيت
إِمَارَة.
وفيهَا: فِي سادس عشر صفر قرئَ تَقْلِيد الإِمَام الزَّاهِد قَاضِي
الْقُضَاة شمس الدّين أبي عبد الله مُحَمَّد بن مُسلم بِقَضَاء
الْحَنَابِلَة بِدِمَشْق بعد وَفَاة القَاضِي تَقِيّ الدّين بِنصْف شهر
واستناب شرف الدّين بن الْحَافِظ الْمَقْدِسِي.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر قدم الْأَمِير فضل بن عِيسَى أَخُو مهنا إِلَى
دمشق وَمَعَهُ مرسوم ان يكون عوضا عَن أَخِيه مهنا فِي إمرة الْعَرَب
بِسَبَب دُخُول مهنا مَعَ قرا سنقر إِلَى بِلَاد التتر.
وفيهَا: فِي آخر ربيع الآخر بَاشر قَاضِي الْقُضَاة نجم الدّين بن صصري
مشيخة الشُّيُوخ بِدِمَشْق عِنْد الصُّوفِيَّة بالسميساطية اخْتَارَهُ
الصُّوفِيَّة وسألوا تَوليته عَلَيْهِم.
(2/255)
وفيهَا: فِي رَمَضَان توفّي الشَّيْخ
الإِمَام محب الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن تَقِيّ الدّين أبي الْفَتْح
مُحَمَّد بن مجد الدّين عَليّ بن وهب الْمَعْرُوف بِابْن دَقِيق
الْعِيد بِالْقَاهِرَةِ، وَدفن عِنْد وَالِده بالقرافة وَهُوَ زوج
ابْنه الإِمَام الْحَاكِم بِأَمْر الله أَمِير الْمُؤمنِينَ رَحمَه
الله تَعَالَى.
وفيهَا: فِي شَوَّال توفيت وَالِدَة الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن
تَيْمِية، وَهِي سِتّ النعم بنت عَبدُوس الحرانية، ولدت تِسْعَة
بَنِينَ وَلم ترزق بِنْتا وَكَانَت صَالِحَة خيرة.
وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة وصل بكتمر الْحَاجِب منعماً عَلَيْهِ بعد
السجْن وَتوجه إِلَى نِيَابَة صفد وَنقل قَاضِي صفد حسام الدّين القرمي
إِلَى قَضَاء طرابلس وَتَوَلَّى قَضَاء صفد شرف الدّين بن جلال الدّين
النهاوندي.
وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة وصلت الْأَخْبَار " بِمَوْت خربنده " واسْمه
خربنده مُحَمَّد بن أرغون بن أبغا بن هولاكو، ملك الْعرَاق وخراسان
وعراق الْعَجم وَالروم وأذربيجان والبلاد الأراثية وديار بكر،
وَجَاوَزَ الثَّلَاثِينَ من الْعُمر، وَكَانَ مغرى بالهو وَالْكَرم
والعمارة، أَقَامَ سنة فِي أول ملكه سنياً ثمَّ ترفض إِلَى أَن مَاتَ
وَجَرت فتن فِي بِلَاده بِسَبَب ذَلِك وَدفن فِي مدينته الَّتِي
أَنْشَأَهَا السُّلْطَانِيَّة الغياثية.
وفيهَا: فِي ذِي الْعقْدَة أَيْضا توفّي بِدِمَشْق نجم الدّين بن
البصيص الْمُقدم فِي الْكِتَابَة كتب النَّاس نَحْو خمسين سنة وَله شهر
وأخلاق حميدة.
وفيهَا: وصلت الْأَخْبَار باستقرار أبي سعيد بن خربنده فِي مملكة
وَالِده وعمره إِحْدَى عشرَة سنة ران أَرْبَاب دولتهم مصادرون مطلوبون
بالأموال، وَأَن خربنده سم وَقتل جمَاعَة مِمَّن اتهمَ بذلك من
الرِّجَال وَالنِّسَاء، وَتَوَلَّى تَدْبِير الدولة والجيوش الْأَمِير
جوبان، وَاسْتمرّ فِي الوزارة عَليّ شاه التبريزي وَوصل الْخَبَر فِي
التَّارِيخ الْمَذْكُور أَن الْأَمِير حميضة بن أبي نمى الحسني
الْمَكِّيّ كَانَ قد لحق بخربنده وَأقَام فِي بِلَاده أشهراً وَطلب
مِنْهُ جَيْشًا يَغْزُو بهم مَكَّة وساعده جمَاعَة من الرافضة على
ذَلِك فجهزوا لَهُ جَيْشًا من خُرَاسَان واهتموا بذلك فَقدر الله موت
خربنده وَبَطل ذَلِك وَفَرح الْمُسلمُونَ بِمَوْتِهِ وبإهانة ... فِي
بِلَاده، وعادت الْخطب يذكر الشَّيْخَيْنِ ... فَلَقَد كَانَ أهل
السّنة بِهِ فِي غم شَدِيد، وَجَرت فتن وحروب بِسَبَب ذَلِك بأصفهان
وبغداد وإربل وَغَيرهَا.
ثمَّ أَن مُحَمَّد بن عِيسَى أَخا مهنا وَقع على حميضة فقهره وَأخذ مَا
مَعَه من الْأَمْوَال والأغنام وَغَيرهَا، ودشر حميضة وَمن كَانَ مَعَه
من أَعْيَان دولة التتر وَكَانَ مُحَمَّد بن عِيسَى بِبِلَاد التتر
خَارِجا عَن طَاعَة السُّلْطَان فابيض وَجهه بِهَذِهِ الْوَاقِعَة
وَحضر فَأكْرمه السُّلْطَان.
وفيهَا: فِي أواخرها توفّي شَيخنَا صدر الدّين مُحَمَّد بن زين الدّين
عُثْمَان وَكيل بَيت المَال العثماني بِالْقَاهِرَةِ شيخ الْفُنُون
والعلوم وبحر المنثور والمنظوم كَانَ حسن الشكل وافر الْفضل وَمَعَ
فضائله التَّامَّة قَرِيبا إِلَى الْعَامَّة، إِن تكلم فِي الْفِقْه
فبحر زاخر أَو فِي الطِّبّ فطبيب ماهر أَو فِي النَّحْو أَحْيَا
سِيبَوَيْهٍ، أَو فِي الحَدِيث فالمعول عَلَيْهِ أَو فِي الْأُصُول
فَهُوَ
(2/256)
الإِمَام أَو فِي الْأَدَب فالحارث بن
همام، أَو فِي الْجد أسَال المدامع أَو الْهزْل أذهل السَّامع حفظ
المقامات فِي مُدَّة قَصِيرَة وديوان المتنبي فِي أَيَّام يسيرَة، وحرص
على الْعلم وتعب وخلط جدا بلعب، ثمَّ هجر الأوطان واتصل بالسلطان وأكب
فِي آخر عمره على تَحْقِيق الْعُلُوم وَتَعْلِيمهَا والأعمال
بخواتيمهما، وَله موشحات مأثورة وأشعار مَشْهُورَة.
مِنْهَا:
(أَعنِي على مَا دهاني أَعنِي ... فَإِنِّي بليت بِظَبْيٍ أغن)
(جنى إِذْ جنيت جنا وجنتيه ... فباللحظ يجني وباللحظ أجني)
(إِذا قلت ثغرك صن باللثام ... يَقُول سيحميه صارم جفني)
(وَإِن قلت قد عَاد سيف الجفون ... كليلاً يَقُول عِذَارَيْ مني)
ثمَّ دخلت سنة سبع عشرَة وَسَبْعمائة: فِي الْمحرم مِنْهَا توفّي
الشَّيْخ عَليّ الختني الشَّافِعِي الْمُحدث الصَّالح، كَانَ كثير
الِاشْتِغَال والفضيلة رَحمَه الله تَعَالَى.
وفيهَا: فِي صفر شرع فِي عمَارَة جَامع ظَاهر دمشق خَارج بَاب النَّصْر
قبالة حكر السماق بمرسوم السُّلْطَان وَحضر الْقُضَاة لتحرير قبلته.
وفيهَا: فِي صفر كَانَ سيل ببعلبك خرب سور الْبَلَد وحائط الْجَامِع
وَذَلِكَ مَعَ رعد عَظِيم، وَخرب فَوق ثلث الْبَلَد وَعدم تَحت
الرَّدْم خلق كثير وَعظم النّدب والعويل فِي أقطار الْبَلَد وَمن لطف
الله تَعَالَى مَجِيئه نَهَارا، وَوجد الشَّيْخ عَليّ بن مُحَمَّد بن
الشَّيْخ عَليّ الحريري غريقاً فِي الْجَامِع مَعَ خلق وَكَانَ يَوْمًا
عَظِيما وَلَقَد أخبر الثقاة أَنه نزل من السَّمَاء عَمُود عَظِيم من
نَار أَوَائِل السَّيْل ورؤي من الدُّخان وَسمع من الصرخان فِي الأكوان
أَمر عَظِيم كَاد يشق الْقُلُوب.
قلت:
(سيل طَغى فِي بعلبك وراعد ... ولهيب نَار ثار للتعذيب)
(فلئن تركب ثمَّ مازج سورها ... فلبعلبك المزج فِي التَّرْكِيب)
وفيهَا: فِي ربيع الأول توفّي الْفَقِيه الْمقري شهَاب الدّين أَحْمد
الرُّومِي أَمَام الْحَنَفِيَّة بِجَامِع دمشق بنى على الشّرف زَاوِيَة
حَسَنَة نزهة، وَكَانَ فِيهِ حسن تلقي وأعانة للضعيف.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة خلص بهادر من سجن الكرك وَحمل إِلَى
الْقَاهِرَة مكرماً ففرح النَّاس بِهِ فَإِنَّهُ كثير الصَّدقَات وافر
الْعقل.
وَفِيه: توفّي بدر الدّين أَبُو الْقَاسِم أَخُو الشَّيْخ تَقِيّ
الدّين بن تَيْمِية، وَكَانَ فَقِيها سَاكِنا قَلِيل الشَّرّ رَحمَه
الله تَعَالَى.
وَفِيه: توفّي قَاضِي الْقُضَاة بِدِمَشْق جمال الدّين أَبُو عبد الله
الزواوي الْمَالِكِي.
وفيهَا: أبطلت الْخُمُور وَالْفَوَاحِش بالسواحل وأبطلت مكوس كَثِيرَة
ففرح الْمُسلمُونَ بذلك وتوفرت الْأَدْعِيَة للسُّلْطَان أعز الله
نَصره.
(2/257)
وفيهَا: رسم السُّلْطَان أَن يعمر بِبِلَاد
النصيرية فِي كل قَرْيَة مَسْجِدا ويمنعوا من الْخطاب.
وفيهَا: اجْتمع إِلَى ماردين قفل كَبِير تجار وجفال من الغلا وقصدوا
الشَّام فَلَمَّا وصلوا إِلَى خَان التَّاجِر أدركتهم فرقة من التتر من
أُمَرَاء سوتاي النَّائِب بديار بكر إِلَى حُدُود الْعرَاق
وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِم بحجج وصاروا كلما أَمْسكُوا مِنْهُم جمَاعَة
أبعدوا بهم وقتلوهم فَأكْثر الْبَاقُونَ الصُّرَاخ فَمَال التتر
عَلَيْهِم بالنشاب حَتَّى قتلوا الْجَمِيع وَبَقِي من أَوْلَاد الجفال
نَحْو سبعين صَبيا فَقَالُوا: من يقتل هَؤُلَاءِ منا فَقَتلهُمْ تترى
وَأَعْطوهُ عَن كل صبي دِينَارا وَبلغ الْقَتْلَى تِسْعمائَة رجال
وَنسَاء وصبيان وتألم النَّاس لذَلِك، ثمَّ أَن سوتاي أمسك من الحرامية
وحبسهم وأوصل بعض المَال إِلَى مستحقيه بعد غَرَامَة مَا بَين النّصْف
إِلَى الثُّلُث.
وفيهَا: خرج جمَاعَة من النصيرية عَن الطَّاعَة وَأَقَامُوا شخصا
زَعَمُوا أَنه الْمهْدي وقاتلوا الْمُسلمين وَادعوا أَنهم كفرة فكسرهم
عَسْكَر الْمُسلمين وَقتل مقدمهم وخلقاً مِنْهُم ومزقهم الله كل ممزق
فَللَّه الْحَمد.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان عشرَة وَسَبْعمائة: فِيهَا كَانَ بديار بكر
والموصل وإربل وماردين والجزيرة وميافارقين غلاء وجلاء حَتَّى بِيعَتْ
الْأَوْلَاد وأكلت الْميتَة، وَكَانَ الشَّخْص إِذا امْتنع من شِرَاء
أَوْلَاد الْمُسلمين تجْعَل الْمَرْأَة نَفسهَا نَصْرَانِيَّة ليرغب
فِي الشِّرَاء نسْأَل الله الْعَافِيَة ونعوذ بِاللَّه من الْجُوع
فَإِنَّهُ بئس الضجيع ونزح من إربل جمَاعَة إِلَى جِهَة مراغة فأهلكهم
الثَّلج فِي الطَّرِيق وَكَانَ سَبَب الغلاء جَرَادًا وَعدم الْمَطَر
سنتَيْن وجور التتر لمَوْت خربنده وَتغَير الدول والغارات، فسبحان
الفعال لما يُرِيد.
وفيهَا: فِي صفر وصل كريم الدّين إِلَى دمشق وَأمر بِبِنَاء جَامع
بالقبيبات وَتوجه إِلَى الْقُدس وَعَاد إِلَى الْقَاهِرَة وَشرع فِي
بِنَاء الْجَامِع.
فِيهِ: ثارت ريح عَاصِفَة من جِهَة الْبَحْر على بيُوت التركمان عِنْد
قَرْيَة المعيصرة من الجون من عمر طرابلس فتكونت عموداً أغبر صُورَة
تنين مُتَّصِل بالسحاب فَمَا تركت شَيْئا من الْبيُوت والأثاث وأهلكت
جمَاعَة وخطفت جملين وَارْتَفَعت بهما فِي الجو مِقْدَار عشرَة أرماح
وطوت الرّيح قدور النّحاس والصاجات وَصَارَت قطعا، وَكَانَ إِلَى
جانبهم عرب فخطفت لَهُم أَرْبَعَة أجمال إِلَى الجو فتقطعت الْجمال
قطعا، وأهلكت دَوَاب كَثِيرَة، وَوَقع بعْدهَا مطر برد كبار الْبردَة
ثَلَاث أَوَاقٍ ودونها كأشطاف الْحِجَارَة مِنْهَا مثلث ومربع وَأصَاب
ذَلِك أَرْبعا وَعشْرين قَوِيَّة، وَكتب بذلك محْضر وَثَبت عِنْد
قَاضِي طرابلس فنسأل الله الْعَافِيَة.
وَفِيه: توفّي الشَّيْخ الْقدْوَة الْعَالم بَقِيَّة السّلف مُحَمَّد
بن أبي بكر بن قوام البالسي بزاويته بالصالحية.
قلت: وَمن الله عَليّ بزيارته حَيا ثمَّ بعد وَفَاته أَخْبرنِي
الشَّيْخ الْمقري الصَّالح مُحَمَّد بن شامة السَّاكِن بِالْبَابِ
قَالَ: صَحِبت الشَّيْخ مُحَمَّد الْمَذْكُور من دمشق قَاصِدين بَاب
(2/258)
بزاعا فَلَمَّا كُنَّا تَحت جبل لبنان وَقد
انقطعنا عَن الرّفْقَة قَلِيلا قلت للشَّيْخ: يَا سَيِّدي يَقُولُونَ
إِن فِي هَذَا الْجَبَل أَوْلِيَاء لله تَعَالَى؟ فَقَالَ: نعم فَقلت
يَا سَيِّدي لَو أريتني مِنْهُم أحدا؟ وَإِذا رجل فِي الْهَوَاء أسمع
صَوته وَلَا أرى شخصه يَقُول: السَّلَام عَلَيْك يَا شيخ مُحَمَّد فَرد
الشَّيْخ عَلَيْهِ السَّلَام، ثمَّ نظر إِلَيّ وَقَالَ: سَمِعت فَقلت:
نعم ثمَّ سَأَلته عَن شكله؟ فَقَالَ: قد خطّ عذاره وَأَخْبرنِي غير
وَاحِد من أهل الْبَاب مِمَّن أصدقه أَن الشَّيْخ لما قدم إِلَى
الْبَاب وَدخل على الْجَبانَة قَالَ لمن مَعَه هَذَا رجل قد قَامَ
إِلَيّ من قَبره وَعَلِيهِ جُبَّة صوف وَله سِتّ أَصَابِع على كل كف
فَسَأَلته الْجَمَاعَة أَن يُرِيهم قَبره فَمَال بهم إِلَى قبر
وَقَالَ: هَذَا ففحصوا عَن صَاحب الْقَبْر فَإِذا هُوَ كَمَا وصف،
وَأخْبر من رَآهُ حَيا أَنه كَانَ لَهُ سِتّ أَصَابِع على كل كف.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة ورد مرسوم السُّلْطَان بِمَنْع
الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية من الْفَتْوَى فِي مَسْأَلَة
الْحلف بِالطَّلَاق وَعقد لذَلِك مجْلِس وَنُودِيَ بِهِ فِي الْبَلَد.
قلت: وَبعد هَذَا الْمَنْع والنداء أحضر إِلَيّ رجل فَتْوَى من مضمونها
إِنَّه إِذا طلق الرجل امْرَأَته ثَلَاثًا جملَة بِكَلِمَة أَو
بِكَلِمَات فِي طهر أَو أطهار قبل أَن يرتجعها أَو تقضي الْعدة فَهَذَا
فِيهِ قَولَانِ للْعُلَمَاء أظهرهمَا أَنه لَا يلْزمه إِلَّا طَلْقَة
وَاحِدَة وَلَو طَلقهَا الطَّلقَة بعد أَن يرجعها أَو يَتَزَوَّجهَا
بِعقد جَدِيد وَكَانَ الطَّلَاق مُبَاحا فَإِنَّهُ يلْزمه، وَكَذَلِكَ
الطَّلقَة الثَّالِثَة إِذا كَانَت بعد رَجْعَة أَو عقد جَدِيد وَهِي
مُبَاحَة فَأَنَّهَا تلْزمهُ وَلَا تحل لَهُ بعد ذَلِك إِلَّا بِنِكَاح
شَرْعِي لَا بِنِكَاح تَحْلِيل وَالله أعلم. وَقد كتب الشَّيْخ
بِخَطِّهِ تَحت ذَلِك مَا صورته: هَذَا مَنْقُول من كَلَامي، كتبه
أَحْمد بن تَيْمِية، وَله فِي الطَّلَاق رخص غير هَذِه أَيْضا لَا
يلْتَفت الْعلمَاء إِلَيْهَا وَلَا يعرجون عَلَيْهَا.
وفيهَا: قتل رشيد الدولة طَبِيب خربنده اتهمه جوبان بِأَنَّهُ غش
خربنده فِي المداواة وَقطع رَأسه إِلَى تبريز وأحرقت جثته واستأصلوا
أملاكه وأمواله وجواهره، وَاخْتلف فِي طويته فَقَالَ الشَّيْخ تَاج
الدّين الأفضلي التريزي: قتل الرشيد أعظم من قتل مائَة ألف من
النَّصَارَى، وَقَالَ قَاضِي الرحبة رَأَيْت مِنْهُ شَفَقَة على أهل
الرحبة: وسعياً فِي حقن دِمَائِهِمْ يَعْنِي أَيَّام حصارها وَإِنَّمَا
كَانَ يتبع أعداءه صالحين كَانُوا أَو فسقة.
وفيهَا: فِي رَجَب توفّي الشَّيْخ الإِمَام الزَّاهِد بَقِيَّة السّلف
أَبُو الْوَلِيد إِمَام الْمَالِكِيَّة، وَفِي آخر الشَّهْر ورد
الْخَبَر أَنه كَانَ بِظَاهِر حمص سيل خرب حَائِط الميدان وَبَعض خَان
السَّبِيل.
وفيهَا: فِي شعْبَان شرع فِي بِنَاء الْجَامِع ظَاهر بَاب الشَّرْقِي
أَمر بعمارته الصاحب شمس الدّين غبريال نَاظر دمشق.
وَفِيه: أُقِيمَت الْجُمُعَة بالجامع الَّذِي أَمر نَائِب الشَّام
ببنائه خَارج بَاب النَّصْر وخطب فِيهِ الشَّيْخ كريم الدّين الفجقيري.
وَفِيه: أَيْضا كمل بِنَاء الْجَامِع بالقبيات، وخطب فِيهِ الشَّيْخ
شمس الدّين بن الرزين.
وَفِيه: توفّي الشَّيْخ مجد الدّين التّونسِيّ الأصولي الْمقري
النَّحْوِيّ بِدِمَشْق.
(2/259)
وفيهَا: نهي المنجمون بِدِمَشْق أَن يكتبوا
على التقاويم النجومية أحاكماً.
ثمَّ دخلت سنة تسع عشرَة وَسَبْعمائة فِيهَا فِي صفر استسقى بِالنَّاسِ
وخطبهم القَاضِي الصَّالح صدر الدّين سُلَيْمَان الْجَعْفَرِي وَخرج
النَّائِب والأمراء والعالم خاضعين وتبركوا بِهِ فسقوا ثَانِي يَوْم.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر توفّي الشَّيْخ الْقدْوَة نصر المنبجي
بالحسينية، وَكَانَت لَهُ عبادات كَثِيرَة وَصَلَاة ذكر وَحج ومجاورة
وأوقات مُعينَة نَحْو نصف السّنة لَا يجْتَمع فِيهَا بِأحد، وَكَانَ
لَا يخرج من زاويته إِلَّا لصَلَاة الْجُمُعَة خَاصَّة، وَسمع الحَدِيث
وَقَرَأَ الْقُرْآن بالروايات وتفقه وقصده الْعلمَاء والوزراء والأمراء
رَحمَه الله.
وفيهَا: فِي رَجَب اخْتلف التتر وَقتل مِنْهُم نَحْو ثَلَاثِينَ ألفا
وَأكْثر حَتَّى كَاد يَزُول ملكهم واستحالوا على مقدم جيوشهم جوبان
نَائِب السلطنة لأبي سعيد وكرهوا نيابته.
ثمَّ دخلت سنة عشْرين وَسَبْعمائة: فِيهَا فِي أَولهَا ركب الْملك
الْمُؤَيد صَاحب حماه بشعار السُّلْطَان على حماه وبلادها وَكَانَ
يَوْمًا مشهوداً.
وفيهَا: فِي ثَالِث الْمحرم توفيت والدتي رَحمهَا الله تَعَالَى
وَكَانَت من الصَّالِحَات، جدها ولي الله الشَّيْخ نصير من رجال شط
الْفُرَات وينتسب إِلَى أويس الْقَرنِي رَضِي الله عَنهُ.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر عقد السُّلْطَان الْملك النَّاصِر على بنت
الْملك الَّتِي حملت إِلَيْهِ من بِلَاد القفجاق، وفيهَا عانت عَسَاكِر
الْمُسلمين فِي بِلَاد سيس سَبْعَة عشر يَوْمًا، وَقَطعُوا الْأَشْجَار
وحرقوا وغرق من عَسْكَر الشَّام فِي نهر جهان نَحْو ألف فَارس.
وفيهَا: نفي فحليس الْعَرَب مهنا وَأَوْلَاده وَمن مَعَهم من الشَّام،
وَمنعُوا الْميرَة.
وفيهَا: فِي جمادي الأولى توفّي جمال الدّين إِبْرَاهِيم بن القَاضِي
شهَاب الدّين أَحْمد بن أبي بكر بن حرز الله الإربدي، وَوَقع عقب
الْجِنَازَة مطر كثير فِي وسط حزيران.
وفيهَا: فِي جمادي الْآخِرَة قتل الْأَمِير عز الدّين حميضة بن
الْأَمِير الشريف أبي نمى صَاحب مَكَّة، وَكَانَ قد خرج عَن طَاعَة
السُّلْطَان، وَولى السُّلْطَان بِمَكَّة أَخَاهُ سيف الدّين عطيفة.
وفيهَا: توجه قرطاي نَائِب طرابلس وعسكر من مصر إِلَى بِلَاد الأرمن
وَكَانُوا فَوق عشْرين ألفا وغرق جمَاعَة بجهان وَأَرْبَعَة أُمَرَاء
وحاصروا سيس وأحرقوا دَار الْملك وَقَطعُوا الْأَشْجَار وعاثوا
بِالْمصِّيصَةِ وخربوا أسوار أدنة، وعاثوا بطرسوس وأخرقوا الزروع
وَرَجَعُوا فَلم يعْدم مِنْهُم بجهان سوى شخص وَاحِد، وَعند جهان
بَلغهُمْ موت صَاحب سيس وَهُوَ الَّذِي تملك بعد وَالِده الَّذِي حضر
إِلَى دمشق سنة قازان ووصلوا حلب وَسَاقُوا خلف مهنا وَأَوْلَاده
وَأَتْبَاعه وأمرائه وعدتهم اثْنَان وَسَبْعُونَ أَمِيرا ووصلوا إِلَى
عانة والحديثة وعادوا،
(2/260)
وَبعد ذَلِك دخل الحلبيون إِلَى بلد الأرمن
مَرَّات وغنموا، وَفِي الْمرة الرَّابِعَة كمن لَهُم الفرنج والأرمن
وَخَرجُوا عَلَيْهِم فَقتلُوا من الْمُسلمين وأسروا.
وفيهَا: وصل كتاب إِلَى الْقَاهِرَة ثمَّ إِلَى دمشق بغزوة عَظِيمَة
وَقعت فِي الْمغرب فِي الْعَام الْمَاضِي وَذَلِكَ أَن جَيْشًا من
الرّوم يعسر إحصاؤه وَيبعد استقصاؤه حشد عَلَيْهِم وَأَقْبل إِلَيْهِم،
وناهيك من جَيش اشْتَمَل على خَمْسَة وَعشْرين سُلْطَانا ووصلوا إِلَى
غرناطة قَرِيبا من جبل البيرة فملأوا الْبَسِيط وَالله من ورائهم
مُحِيط، وَلما استقروا هُنَاكَ أَيقَن الْمُسلمُونَ بِالْهَلَاكِ، ثمَّ
أغارت سَرِيَّة من الْجَيْش على ضَيْعَة فَخرج إِلَيْهِم جملَة من
فرسَان الأندلس الرُّمَاة ومنعوهم وتبعوهم اللَّيْل كُله فاستأصلوهم
بِالْقَتْلِ والأسر، وَكَانَ ذَلِك أول النَّصْر، وَأصْبح النَّاس
يَوْم الِاثْنَيْنِ الْمُبَارك على الْمُسلمين وعزموا على الْخُرُوج
لأعداء الله يَوْم عيدهم وَكَانَ الرَّابِع وَالْعِشْرين من حزيران
فَلَو علم وَزِير سلطانهم بذلك حذرهم غضب السُّلْطَان عَلَيْهِم
بالتشعيث عَلَيْهِ فِي عيده فَنزل الْمُسلمُونَ عَن خيلهم متضرعين
إِلَى الله عالية أَصْوَاتهم بِالدُّعَاءِ والضجيج.
وَعند ذَلِك ركب الرّوم جمعا ومالوا على الْمُسلمين مَيْلَة شنعاء
فَمَا رَاع الْمُسلمين بِحَمْد الله حَالهم {وَإِذ يوحي رَبك إِلَى
الْمَلَائِكَة أَنِّي مَعكُمْ فثبتوا الَّذين آمنُوا سألقي فِي قُلُوب
الَّذين كفرُوا الرعب} فَلَمَّا رأى أَعدَاء الله الْمُسلمين قد ثبتوا
توقفوا وبهتوا وَخرج من الْفَرِيقَيْنِ فرسَان ثمَّ مَال الْمُسلمُونَ
على أَعدَاء الله يقتلُون فيهم كَيفَ شاؤا من السَّاعَة السَّابِعَة
إِلَى الْغُرُوب، وَفِي اللَّيْل ضَاقَتْ عَلَيْهِم الأَرْض وهرب
بَعضهم من بعض وَغَابَ الْمُسلمُونَ فِي تقتيلهم ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ
داموا شهرا ينتهبونهم بِالْقَتْلِ والأسر، وَخرج أهل غرناطة إِلَيْهِم
فغنموا مَا لَا يُحْصى وأسروا الجم الْغَفِير من رجال وَنسَاء
وَأَوْلَاد وَبَقِي الْمُسلمُونَ يجيؤن مَوَاضِع الْجَيْش نَحوا من
عشرَة أَيَّام ويحمدون الله على هَذَا النَّصْر الَّذِي مَا طمعوا
بِبَعْضِه وحزر الحذاق عدَّة الْقَتْلَى بِخَمْسِينَ ألفا أَو سِتِّينَ
ألفا، ووقعوا فِي وَاد فَقتل مِنْهُم مثل ذَلِك ومزقوا كل ممزق، وَوجد
الْمُلُوك الْخَمْسَة وَالْعشْرُونَ وَمِنْهُم الْملك الْكَبِير
مقتولين بالمحلة فلعب النَّاس بجيفهم وعلقوا على بَاب غرناطة، وَكَانَ
قوت الأسرى الَّذين أَسرُّوا مِنْهُم كل يَوْم بِخَمْسَة آلَاف
دِرْهَم، وَزعم النَّاس أَن الْفَيْء من الذَّهَب وَالْفِضَّة كَانَ
سبعين قِنْطَارًا، وَأما الدَّوَابّ وَالْعدَد فشيء لَا يُوصف، وَبَقِي
البيع فِي الْأُسَارَى وَالدَّوَاب سِتَّة أشهر ومل النَّاس من طول
البيع وَجُمْلَة فرسَان الْمُسلمين فِي ذَلِك الْيَوْم أَلفَانِ
وَخَمْسمِائة فَارس لم يستشهد مِنْهُم سوى أحد عشر رجلا فَلَا يجزع
جَيش من قلَّة وَمَا النَّصْر إِلَّا من عِنْد الله.
وفيهَا: وَقع بالديار المصرية مرض كثير قل أَن سلمت مِنْهُ دَار وغلت
الْأَدْوِيَة وَكَانَ الْمَوْت قَلِيلا.
وفيهَا: فِي رَجَب عقد لِابْنِ تَيْمِية بِدِمَشْق مجْلِس بدار
السَّعَادَة وعاتبوه بِمَسْأَلَة الطَّلَاق وحبسوه بالقلعة.
(2/261)
وفيهَا: فِي شعْبَان توفّي الشَّيْخ الأديب
شمس الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سِبَاع الصَّائِغ، كَانَ فَاضلا
يقرى الْأَدَب فِي دكانة، شرح الدريدية جيدا وَشرح ملحمة الْإِعْرَاب
وقصيدة ابْن الْحَاجِب فِي الْعرُوض، وَله قصيدة تائية ألفا بَيت ذكر
فِيهَا الْعُلُوم والصنائع.
وَمَا أحسن قَوْله:
(يَا ذَا الَّذِي لولاه مَا حركت ... يَد الْهوى من باطني سَاكِنا)
(رفقا بقلب لم يزل خافقاً ... وَأَنت مَا زلت بِهِ سَاكِنا)
وفيهَا: أمسك علم الدّين الجاولي بغزة وَحمل إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة
وَكَانَ قد تهَيَّأ لِلْحَجِّ وهيأ طَعَاما كثيرا وَغَيره.
وَفِيه: أريقت الْخُمُور فِي خَنْدَق قلعة الْمَدِينَة
السُّلْطَانِيَّة وأحرقت الظروف وَذَلِكَ أَنه وَقع ثمَّ برد كبار وزن
الْبردَة ثَمَانِيَة عشرَة درهما مواشي وأعقبه سيل مخوف فَسَأَلَ أَبُو
سعيد الْفُقَهَاء عَن سَببه فَقَالُوا من الظُّلم وَالْفَوَاحِش
فَأبْطل الحانات فِي مَمْلَكَته وأبطل مسك الْغلَّة.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة توفّي قَاضِي الْقُضَاة كَمَال الدّين عمر بن
العديم وَدفن بالْمقَام، وَنقل ابْنه قَاضِي الْقُضَاة نَاصِر الدّين
مُحَمَّد من قَضَاء حماه إِلَى حلب عوضا عَنهُ.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَعشْرين وَسَبْعمائة: فِيهَا أهْدى أَبُو سعيد
إِلَى السُّلْطَان صناديق ودقيقاً وجمالاً وتحفاً.
وفيهَا: أخرج الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية من القلعة بعد
الْعَصْر بمرسوم السُّلْطَان وَمُدَّة إِقَامَته فِي القلعة خَمْسَة
أشهر وَثَمَانِية عشر يَوْمًا.
وفيهَا: فِي شهر ربيع الآخر حفر السُّلْطَان حفيراً قرب بَحر النّيل،
وَكَانَ جواره كَنِيسَة فَأَرَادَ هدمها فَلَمَّا شرعوا فِي هدمها
قَامَ الصَّوْت فِي الْقَاهِرَة ومصر بهدم الْكَنَائِس فَلم يبْق
بِمصْر والقاهرة كَنِيسَة حَتَّى حاصروها، مِنْهَا مَا هدم، وَمِنْهَا
مَا نهب وَمِنْهَا مَا لم يصلوا إِلَيْهِ فَغَضب السُّلْطَان، واستفتى
الْقُضَاة فأفتوه بتعزيزهم فَأخذ جمَاعَة من الْحَبْس فشنق وَقطع أيديا
وخزم حَتَّى سكنوا، واختفى النَّصَارَى أَيَّامًا، وَجرى ذَلِك فِي
الفيوم وأحرقوا الْأَمْوَات المدفونين فِي كنائسها.
وَفِيه: أمسك سيف الدّين جوبان أحد أُمَرَاء دمشق وَحمل إِلَى
الْقَاهِرَة لسوء مُرَاجعَته للنائب وَعُوتِبَ بِالْقَاهِرَةِ وَأعْطِي
خَبرا يَلِيق بِهِ.
وَفِيه: وَقع بِالْقَاهِرَةِ حريق عَظِيم أتلف أملاكاً وأتعب النَّاس
حَتَّى أطفئ ثمَّ فِي الْغَد وَقع حريق أعظم مِنْهُ فِي وضع آخر وَقرب
من دَار كريم الدّين فَنزل الْأُمَرَاء والنائب من القلعة خوفًا على
دَار كريم الدّين لكَونهَا خزانَة الْمُسلمين وأحرقوا بهَا حَتَّى
أطفئت وتوالى الْحَرِيق بِالْقَاهِرَةِ وتحير السُّلْطَان والرعية
لَهُ، وتتبع ذَلِك فَقيل: أَنه وجد بعض النَّصَارَى وَمَعَهُ آلَة
الْحَرِيق كالنفط وَغَيره، فَأخذُوا وعرضوا على السُّلْطَان فَذكر
بَعضهم أَن القسيسين
(2/262)
اتَّفقُوا على هَذَا بِسَبَب مَا حصل من
التَّعَرُّض إِلَى كنائسهم وَأَنَّهُمْ رتبوا أَرْبَعِينَ نفسا من
النَّصَارَى يلقون النَّار فِي بيُوت المسليمن ومساجدهم فَحرق بَعضهم.
ثمَّ أَن جمعا قصدُوا كريم الدّين وهجموا عَلَيْهِ بِالْحِجَارَةِ فهرب
مِنْهُم فَأمْسك السُّلْطَان جمَاعَة من الْمُسلمين وَقطع أَيدي
أَرْبَعَة وَقيد جمَاعَة، ثمَّ نُودي على النَّصَارَى أَن يخرجُوا
بالثياب الزرق والعمائم الزرق وَأَن يَجْعَل الجرس فِي أَعْنَاقهم فِي
الْحمام ويركبوا عرضا وَلَا يستخدموا فِي ديوَان، فَعِنْدَ ذَلِك خف
الإحراق بعد أَن كَانَ أمرا عَظِيما، وَكم سقط بِهِ دَار وَكم خرج
مِنْهُ حَرِيم مكشفات حَتَّى قنت النَّاس لَهُ فِي الصَّلَوَات،
وَأَعدُّوا الدنان مملؤءة مَاء فِي الْأَسْوَاق فَالله يهْلك أَعدَاء
الْإِسْلَام.
وَأخْبر ابْن الأيدمري أَن لَهُ ربعا وَقعت فِيهِ النَّار تسعا
وَعشْرين مرّة، وَنسب ذَلِك إِلَى النَّصَارَى فَأمْسك مِنْهُم جمَاعَة
فأقروا بذلك فَأحرق مِنْهُم خَمْسَة وَضرب عنق سادس وَأسلم مِنْهُم
جمَاعَة، وَسَار كل نَصْرَانِيّ يظْهر بِالْقَاهِرَةِ يضْرب وَرُبمَا
قتل والحريق لم يَنْقَطِع بِالْكُلِّيَّةِ.
وَفِي ثَانِي جُمَادَى الْآخِرَة أمسك نصرانيان من الْغُرَمَاء وصلباً
وسمرا وطيف بهما على جملين بِالْقَاهِرَةِ ومصر.
قلت:
(عدمتكم نَصَارَى مصر كفوا ... فكم آذيتمونا من طَرِيق)
(حريق النَّار قد عجلتموه ... فأجلنا لكم نَار الْحَرِيق)
وفيهَا: فِي آخر جُمَادَى الْآخِرَة ورد كتاب من بَغْدَاد مؤرخ بالحادي
وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة، وَفِيه إِنَّه جرى بِبَغْدَاد
شَيْء مَا جرى من زمَان الْخَلِيفَة إِلَى الْآن وَذَلِكَ أَنهم خربوا
البازار من أَوله إِلَى آخِره وَمَا يعلم مَا غرموا عَلَيْهِ إِلَّا
الله تَعَالَى مَا تركُوا بِالْبَلَدِ خاطئة إِلَّا توبوها وزوجوها
وارقوا الشَّرَاب وَمنعُوا النَّاس من الْعصير وَنُودِيَ أَن من تخلف
عِنْده شَيْء من الشَّرَاب حل مَاله وَدَمه للسُّلْطَان فطلع بعد ذَلِك
عِنْد شخص جرة فَقَتَلُوهُ، وَعند آخر جرتان فَقطعُوا رَأسه وَعَلمُوا
الْيَهُود وَالنَّصَارَى بالعلائم وَأسلم جمَاعَة، وَفِي كل يَوْم
جُمُعَة يسلم جمع وَللَّه الْحَمد.
وفيهَا: فِي تَاسِع عشْرين رَجَب خربَتْ الْكَنِيسَة الْمَعْرُوفَة
بالقرايين من الْيَهُود بِدِمَشْق، واجتهد الْمُسلمُونَ فِي هدمها
وَالْيَهُود فِي إبقائها، وَأثبت الْيَهُود عِنْد بعض الْقُضَاة
أَنَّهَا قديمَة، وَأثبت الْمُسلمُونَ أَنَّهَا محدثة وتألم
الْمُسلمُونَ فَأَعَانَ الله وَأذن بهدمها، وَكَانَ مبدؤها بَيْتا
صَغِيرا فوسعت وَكَانَت فِي دَاخل درب الفواخير غَالب أهل الْيَهُود.
وفيهَا: فِي رَمَضَان أُقِيمَت الْجُمُعَة بالجامع الكريمي بالقابون،
وحضرها الْقُضَاة الْأَرْبَعَة.
وفيهَا: أغار نَائِب الرّوم تمرتاش بن جوبان على بِلَاد سيس فخرب وَحرق
وَنهب
(2/263)
وَنقل من خطب بدر الدّين العزازي أَن كلبة
ولدت بِالْقَاهِرَةِ فِي هَذِه السّنة ثَلَاثِينَ جرواً وَأَنَّهَا
أحضرت بَين يَدي السُّلْطَان فَعجب مِنْهَا وَسَأَلَ المنجمين عَن
ذَلِك فَلم يكن عِنْدهم علم من ذَلِك.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَسَبْعمائة: فِيهَا فِي ربيع
الآخر جَاءَت الْبُشْرَى بِفَتْح آياس وَبعدهَا نصب المنجنيق على حصنها
الأطلس الَّذِي فِي الْبَحْر فَلَمَّا رأى الأرمن ذَلِك نقلوا
أَمْوَالهم وَأَوْلَادهمْ فِي المراكب وعملت الأكلال وَمَشى النَّاس
عَلَيْهَا، وَكَانَ طول الجسر الَّذِي عمل بالأكلال ثَلَاثمِائَة
ذِرَاع وَكَانَت ثَلَاثَة أبرجة فِي الْبَحْر الأطلس والشمعة والآياس
فَلَمَّا تعرضوا لسب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
ألْقى الله فِي قُلُوبهم الرعب وَهَزَمَهُمْ.
قلت:
(مَا ذكرُوا الْمُصْطَفى بِسوء ... إِلَّا وسيق البلا إِلَيْهِم)
(فحبه رَحْمَة علينا ... وسبه نقمة عَلَيْهِم)
وقاسى الْعَسْكَر فِي هدم الأبراج مشقة فَإِنَّهَا كَانَت مكلبة بحديد
ورصاص وَعرض السُّور ذِرَاعا بالنجاري، ونقبت الأبراج من أَسْفَل وعلقت
بالأخشاب وَأُلْقِي عَلَيْهَا الْحَطب وَحب الْقطن وَالزَّيْت وأحرقت
فتساقطت جَمِيعهَا، ثمَّ نصب على جهان عشرَة مراكب وَعبر الْجند
وَغَيرهم عَلَيْهَا فَقتلُوا من الأرمن طَائِفَة كَثِيرَة وأسروا
جمَاعَة وأحضر من الْقَتْلَى نَحْو مِائَتي رَأس رموا عِنْد بَاب قلعة
كبرا ثمَّ تَفَرَّقت الإغارات فِي بلد سيس وعادوا سَالِمين.
وفيهَا: فِي شعْبَان عقد عقد الْأَمِير أبي بكر بن أرغون النَّائِب على
ابْنة السُّلْطَان، وختن يَوْمئِذٍ جمَاعَة من أَوْلَاد الْأُمَرَاء
بِحُضُور السُّلْطَان وَمد سماطاً عَظِيما ونثر عَلَيْهِم مَال كثير.
وَفِيه: ورد كتاب من الْقَاهِرَة أَن السُّلْطَان الْملك النَّاصِر
نَصره الله أبطل مكس الْمَأْكُول بِمَكَّة زَادهَا الله شرفاً، وَعوض
عطيفة صَاحب مَكَّة بِثُلثي بلد دمامين من صَعِيد مصر.
وفيهَا: فِي شَوَّال توفّي شمس الدّين مُحَمَّد المغربي وَهُوَ الَّذِي
بنى بالصنمين خَانا للسبيل وَحصل للنَّاس بِهِ نفع عَظِيم.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة: فِيهَا فِي ربيع الأول
توفّي قَاضِي الْقُضَاة نجم الدّين أَحْمد بن صصرى الشَّافِعِي التغلبي
بِدِمَشْق فَجْأَة ببستانه بِالسَّهْمِ، كَانَ رَحمَه الله وجزاه
عَنَّا خيرا سريع الْحِفْظ حُلْو اللَّفْظ عَليّ الهمة وافر النِّعْمَة
يبْذل فِي إعزاز الشَّرْع نفائس مَاله، وَيُقَاتل عَن أَصْحَابه ويذب
عَن عماله وَكَانَ بِدِمَشْق فِي زَمَانه من الْعلمَاء رُؤُوس، فَكَانَ
يكاثر
بِسُرْعَة حفظه وذكائه ويشيد الدُّرُوس، وَلَقَد كَانَ يعم بإحسانه
الْآفَاق حَتَّى قيل مَاتَ بِمَوْتِهِ مَكَارِم الْأَخْلَاق.
قلت:
(مَاتَ وَالله ابْن صصرى ... رحم الله ابْن صصرى)
(2/264)
(مَاتَ جود وسخاء ... وَعَطَاء كَانَ
غمراً)
(مَاتَ صدر الشَّام لَكِن ... لايهاب الْمَوْت صَدرا)
(كَانَ بالعافين برا ... وَلمن يرجوه بحراً)
وَفِيه: قتل الشَّيْخ الصَّالح النَّحْوِيّ ضِيَاء الدّين عبد الله
الصُّوفِي تَحت القلعة ظَاهر الْقَاهِرَة وَذَلِكَ أَنه صعد إِلَى
القلعة بِسيف مَشْهُور فَضرب بِهِ وَجه نَصْرَانِيّ بالقلعة فَدخل بِهِ
إِلَى السُّلْطَان فَظَنهُ جاسوساً فَضربت عُنُقه غَلطا رَحمَه الله
تَعَالَى.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر توفّي شهَاب الدّين أَحْمد بن قطينة الزرعي
التَّاجِر الْمَشْهُور بلغت زَكَاة مَاله سنة قازان خَمْسَة وَعشْرين
ألفا وَالله أعلم بِمَا تجدّد لَهُ بعد ذَلِك.
وَفِيه: تولى القَاضِي جمال الدّين إِبْرَاهِيم الْأَذْرَعِيّ قَضَاء
دمشق عوضا عَن ابْن صصرى.
وَفِيه: ورد الْخَبَر بِالْقَبْضِ على كريم الدّين وَكيل السُّلْطَان
والحوطة على أَمْوَاله وأملاكه، كَانَ قد بلغ من الترقي والسعادة
وَالتَّصَرُّف فِي المملكة مَا لَا مزِيد عَلَيْهِ، وَبنى جَوَامِع
وَله على النَّاس مَكَارِم.
ولعمري مَا أنصف فِيهِ الْقَائِل:
(اللّعب بالدينين يقبح بالفتى ... والرأي صدق الْقلب وَالتَّسْلِيم)
(هَذَا كريم الدّين لَوْلَا نَصره ... دين النَّصَارَى مَاتَ وَهُوَ
كريم)
ثمَّ وصل الْخَبَر بِالْقَبْضِ على كريم الدّين الصَّغِير نَاظر
الدَّوَاوِين وَأخذ أَمْوَاله فأظهرت الْعَامَّة السرُور بذلك ودعوا
للسُّلْطَان.
وَفِيه: تولى أَمِين الْملك الوزارة بِالْقَاهِرَةِ، وَكَانَ مُقيما
بالقدس، فسر النَّاس بِهِ.
وفيهَا: فِي يَوْم الْجُمُعَة منتصف شهر رَمَضَان الْمُعظم توفّي
وَالِدي بالمعرة وَحكى لي من حضر غسله أَنه رَحمَه الله لما أَجْلِس
على المغتسل وَارْتَفَعت عَنهُ الْأَيْدِي جلس على المغتسل مُسْتقِلّا
سَاعَة وفاحت رَائِحَة طيبَة ظَاهِرَة جدا فتواجد الْحَاضِرُونَ
وَعَلَيْهِم الْبكاء، نسبته رَحمَه الله تَعَالَى إِلَى أبي بكر
الصّديق رَضِي الله عَنهُ من ولد عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة توفّي الْفَقِيه شرف الدّين مُحَمَّد بن سعد
الدّين سعد الله فِي وَادي بني سَالم، وَحمل على أَعْنَاق الرِّجَال
إِلَى الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة، وَصلى عَلَيْهِ بالروضة الشَّرِيفَة،
وَدفن بِالبَقِيعِ شَرْقي قبَّة عقيل بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ،
وَكَانَ فَقِيها صَالحا، تفقه على ابْن تَيْمِية وخدمه وَتوجه مَعَه
إِلَى الديار المصرية.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَعشْرين وَسَبْعمائة: فِي ربيع الأول مِنْهَا حمل
كريم الدّين الَّذِي كَانَ وَكيل السُّلْطَان من الْقُدس إِلَى الديار
المصرية فحبس وَأخذت بَقِيَّة أَمْوَاله وذخائره وَحمل إِلَى الصَّعِيد
إِلَى قوص.
(2/265)
وفيهَا: فِي ربيع الآخر ورد مرسوم
السُّلْطَان بِإِطْلَاق مكس الْغلَّة بالبلاد الشامية.
وَفِيه: عزل القَاضِي جمال الدّين إِبْرَاهِيم الْأَذْرَعِيّ عَن الحكم
بِدِمَشْق، وَعرض على شَيخنَا برهَان الدّين بن الشَّيْخ تَاج الدّين
الْفَزارِيّ فَامْتنعَ.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة بَاشر القَاضِي جلال الدّين مُحَمَّد
بن عبد الرَّحْمَن الْقزْوِينِي الحكم بِدِمَشْق.
وَفِيه: رسم السُّلْطَان لِلْأُمَرَاءِ والأجناد بِحَفر خليج من رَأس
الخور إِلَى حَيْثُ يَنْتَهِي إِلَى سرياقوس بِسَبَب مَا أنشأه
السُّلْطَان من الْبُسْتَان وَالْقصر بِالْمَكَانِ الْمَذْكُور وَأنْفق
عَلَيْهِ مَا لَا يُحْصى.
وفيهَا: فِي أول رَجَب قدم الْملك شرف الدّين مُوسَى بن أبي بكر ملك
التكرور لِلْحَجِّ وصحبته أَكثر من عشرَة آلَاف تكروري، ومملكته متسعة،
قيل سعتها ثَلَاث سِنِين، وَتَحْت يَده أَرْبَعَة عشر ملكا، وَحضر بَين
يَدي السُّلْطَان لتقبيل يَده فَأمر بتقبيل الأَرْض فَامْتنعَ فأكره
عَليّ ذَلِك وَلم يُمكن من الْجُلُوس وَبعث إِلَى السُّلْطَان نَحوا من
أَرْبَعِينَ ألف دِينَار وَإِلَى النَّاس عشرَة آلَاف دِينَار، وَلما
خرج من عِنْد السُّلْطَان قدم لَهُ حصان أَشهب وخلع عَلَيْهِ خلعة سنية
وهيأ لَهُ السُّلْطَان من الهجن والآلات لِلْحَجِّ أَشْيَاء كَثِيرَة،
وَكَذَلِكَ نَائِب السلطنة وَأنزل بالقرافة الْكُبْرَى.
وفيهَا: فِي تَاسِع عشر شهر رَجَب توفّي قَاضِي الْقُضَاة زين الدّين
عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الْقَادِر الشَّافِعِي الخليلي قَاضِي حلب
بهَا، وَدفن فِي الْمقَام وبنيت عَلَيْهِ بِمَالِه تربة بوقف أَمر بهَا
السُّلْطَان لعدم الْوَارِث لَهُ.
كَانَ رَحمَه الله حسن السمت طَوِيل الصمت، عقله أَكثر من علمه، صافياً
جاهه، مُسَددًا فِي حكمه، حج مرَارًا، ونظم فِي مدح النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أشعاراً، وَمَا أرق قَوْله:
(لَا تسْأَل يَا حبيب قلبِي ... مَا تمّ عَليّ فِي هواكا)
(الْعرض فقد صلوت عَنهُ ... وَالنَّفس جَعلتهَا فداكا)
وَقَوله دو بَيت:
(يَا عصر شَبَابِي المفدي أَرَأَيْت ... مَا أسْرع مَا بَعدت عني
ونأيت)
(قد كنت مساعدي على كَيْت وَكَيْت ... وَالْيَوْم فَلَو أَبْصرت حَالي
لبكيت)
سَأَلَهُ بعض الْجَمَاعَة عَن قَوْله: كَيْت وَكَيْت مَا هُوَ؟ فَقَالَ
ضَاحِكا وَالله بالوالي مَا أقوله لَك، وَكَانَ ينشد من شعر وَالِده
قَاضِي الْخَلِيل بَيْتَيْنِ بديعين هما:
(وعد الْغُصْن بِأَن يَحْكِي تثنيه فأخلف ... وَأَرَادَ الْبَدْر أَن
يَحْكِي سناه فتكلف)
وَسُئِلَ رَحمَه الله عَن كرامات الْأَوْلِيَاء من خرق العوائد كالمشي
فِي الْهَوَاء وَمَا أشبه ذَلِك أَحَق هِيَ؟
(2/266)
فَأجَاب بِخَطِّهِ: كرامات الصَّالِحين حق
أُؤْمِن بذلك من صميم قلبِي وأعتقده اعتقاداً جَازِمًا بِتَوْفِيق الله
وهدايته وَهَذَا هُوَ مَذْهَب أهل السّنة وَعَلِيهِ جَمَاهِير الْأمة
المكرمة سلفا وخلفاً، ومصنفات الْأَئِمَّة الْأَعْلَام الموثوق بنقلهم،
المرجوع إِلَى قلولهم مشحونة بذلك، ودلائله من الْكتاب الْعَزِيز
وَالسّنة النَّبَوِيَّة كَثِيرَة، وَمن لَهُ صُحْبَة مَعَ الْقَوْم يرى
من عجائب أَحْوَالهم وغرائب أَقْوَالهم وأفعالهم بِحَسب استعداد مَا
يثلج سويداء فُؤَاده.
وَلَقَد من الله عَليّ بِصُحْبَة بَعضهم فعاينت من الكرامات فِي
أَقْوَاله وأفعاله شَيْئا كثيرا مَعَ فرط قصوري وبعدي عَن هَذَا
الْمقَام، فيا خيبة مُنكر ذَلِك وَيَا بعده عَن أقصد المسالك، وأنى يرى
ضوء الشَّمْس فَاقِد الْبَصَر أَو يُشَاهد الْأَعْشَى نور الْقَمَر
فَمَا فِي صَلَاح مُنكر ذَلِك مطمع، فليصور نَفسه بَين يَدَيْهِ وليكبر
عَلَيْهَا أَربع، كتبه عبد الله بن مُحَمَّد الشَّافِعِي.
وفيهَا: فِي شعْبَان وَفِي النّيل ثَمَانِيَة عشر ذِرَاعا وَتِسْعَة
عشر إصبعاً وغرقت الأقصاب والسواقي وانهدم من الْبَسَاتِين والدور كثير
وَوصل كتاب الشَّيْخ أبي بكر الرحي أَن للديار المصرية مائَة
وَثَلَاثِينَ سنة وَمَا بلغ النّيل الْحَد الَّذِي بلغ هَذِه السّنة
وَأَنه ثَبت على الْبِلَاد ثَلَاثَة أشهر وَنصفا.
وَفِيه: استناب القَاضِي جلال الدّين الْقزْوِينِي فِي الحكم عِنْد
بِدِمَشْق الْعَلامَة جمال الدّين يُوسُف بن جملَة وفخر الدّين
مُحَمَّد بن عَليّ الْمصْرِيّ.
وَفِيه: وصل الْبَرِيد إِلَى دمشق بتقليد كَمَال الدّين مُحَمَّد بن
عَليّ بن الزملكاني بِقَضَاء الْقُضَاة بحلب وأعمالها فَامْتنعَ
وَسَأَلَ نَائِب السُّلْطَان الْمُرَاجَعَة فِي أمره فَأجَاب سُؤَاله
فَعَاد الْجَواب بإمضاء الْولَايَة وامتثال مرسوم السُّلْطَان فتجهز
إِلَى حلب مكرماً، وَوصل إِلَى حلب فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ الْخَامِس
وَالْعِشْرين من شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة، ثمَّ عمل درساً
بِالْمَدْرَسَةِ السُّلْطَانِيَّة الَّتِي تَحت القلعة فأجاد وَأفَاد
بِمَا لم يسمع بِمثلِهِ، ومدح يَوْمئِذٍ بمدائح، وعظمه الحلبيون وهابوه
وأحبوه فِي أول أمره ثمَّ تغير ذَلِك.
قلت:
(طَالب الدُّنْيَا معنى ... باعوجاج واستقامة)
(أمرنَا فِيهَا عَجِيب ... نسْأَل الله السَّلامَة)
وفيهَا: فِي شَوَّال توفّي الشَّيْخ شرف الدّين مُحَمَّد بن زين الدّين
أَحْمد بن المنجا الْحَنْبَلِيّ الْمَذْهَب الدِّمَشْقِي المنشأ المعري
الأَصْل أفتى ودرس وَصَحب ابْن تَيْمِية زَمَانا وَأقَام بِمصْر لما
حبس ابْن تَيْمِية وَعَاد مَعَه.
وَفِيه: وصل كريم الدّين الصَّغِير إِلَى دمشق على نظر الدَّوَاوِين
عوضا عَن الصاحب شمس الدّين غبريال. وَفِيه: توفّي كريم الدّين هبة
الله المتشرف بِالْإِسْلَامِ بأسوان وجد مشنوقاً بعمامته.
(2/267)
وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة وصلت هَدَايَا
عَظِيمَة وتحف إِلَى السُّلْطَان من ملك التتر.
وفيهَا: ناول جوبان نَائِب السلطنة عَن أبي سعيد الْأَمِير مُحَمَّد
حُسَيْنًا قدحاً ليشربه فَلَمَّا صَار فِي يَده وجده خمرًا فَامْتنعَ
من شربه، فَقَالَ جوبان: إِن لم تشربه تُؤدِّي ثَلَاثِينَ تومانا من
الذَّهَب، فَقَالَ: أَنا أؤدي ذَلِك فرسم عَلَيْهِ بالمبلغ فَمضى إِلَى
الْأَمِير يُلَبِّي وَهُوَ ذُو مَال طائل فعامله على ذَلِك بِرِبْح
عشرَة تومانات وَكتب عَلَيْهِ حجَّة فَلَمَّا علم جوبان ذَلِك أحضر
مُحَمَّدًا حُسَيْنًا وَقَالَ: تغرم أَرْبَعِينَ توماناً من الذَّهَب
وَلَا تشرب قدح خمر قَالَ: نعم فأعجبه ذَلِك وخلع عَلَيْهِ ملبوسه
جَمِيعه ومزق الْحجَّة وقربه.
قلت:
(فَازَ حُسَيْنًا بالثنا والهنا ... بصبره عَن قدح الْخمر)
(بلَى فَعُوفِيَ وَاتَّقَى فارتقى ... وَهَذِه عَاقِبَة الصَّبْر)
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة توفّي الشَّيْخ الإِمَام بَقِيَّة السّلف
عَلَاء الدّين بن الْمُوفق إِبْرَاهِيم بن دَاوُد بن الْعَطَّار بدار
الحَدِيث النورية بِدِمَشْق، تفقه على الشَّيْخ محيي الدّين
النَّوَوِيّ وخدمه وَعرف بِصُحْبَتِهِ، ثمَّ أَنه مرض بالفالج حَتَّى
مَاتَ رَحمَه الله.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَعشْرين وَسَبْعمائة: فِي جُمَادَى الأولى مِنْهَا
وَقع بِالْقَاهِرَةِ مطر كثير قل أَن يَقع مثله، وَجَاء سيل إِلَى
النّيل فَتغير وَزَاد أَربع أَصَابِع.
وَفِيه: وَقع الْغَرق بِبَغْدَاد ودام أَرْبَعَة أَيَّام وَزَاد الشط
عَظِيما وغرق دائر الْبَلَد وَمنع النَّاس من الْخُرُوج من الْبَلَد
وانحصروا وَلم يبْق حَاكم وَلَا قَاض وَلَا كَبِير وَلَا صَغِير إِلَّا
نقل التُّرَاب وساعد فِي عمل السكور لمنع المَاء عَن الْبَلَد وَبقيت
بَغْدَاد كلهَا جَزِيرَة فِي وسط المَاء وَدخل المَاء إِلَى الخَنْدَق
وغرق كل شَيْء حول الْبَلَد وَخَربَتْ أَمَاكِن كَثِيرَة وَجَمِيع
الترب والبساتين والدكاكين والمصلى وَوَقعت مدرسة الجعفرية ومدرسة عبيد
الله وغرقت خزانَة الْكتب الَّتِي بهَا وَكَانَت تَسَاوِي أَكثر من
عشرَة آلَاف دِينَار، وَصَارَ الرجل إِذا وقف على سور الْبَلَد لَا يرى
مد الْبَصَر إِلَّا سَمَاء وَمَاء وغرق خلق وَاشْتَدَّ الْخطب وَامْتنع
النّوم من الضجات وَخَوف الْغَرق، وَدَار النَّاس فِي الْأَسْوَاق
مكشفة رؤوسهم وعمائهم فِي رقابهم والربعة الشَّرِيفَة على رؤوسهم وهم
يَتلون ويستغيثون ويودع بَعضهم بَعْضًا خَائِفين وجلين أَن يخرق المَاء
من الخَنْدَق مِقْدَار خرم إبرة فيهلكون، وغلت الأسعار لذَلِك
أَيَّامًا.
وَمن الْعجب أَن مَقْبرَة الإِمَام أَحْمد تهدمت قبورها وَلم يتَغَيَّر
قبر الإِمَام أَحْمد وَسلم من الْغَرق واشتهر ذَلِك واستفاض.
ثمَّ ورد كتاب أَن المَاء حمل خشباً عَظِيما وزنت مِنْهُ خَشَبَة
فَكَانَت سِتّمائَة رَطْل بالبغدادي، وَجَاء على الْخشب حيات كبار
خَلقهنَّ غَرِيب مِنْهَا مَا قتل وَمِنْهَا مَا صعد فِي النّخل
وَالشَّجر وَمن الْحَيَّات كثير ميت وَلما نضب المَاء نبت الأَرْض
صُورَة بطيخ شكله
(2/268)
على قدر الْخِيَار وَفِي طعمه فجوجة
وَأَشْيَاء أخر من النَّبَات غَرِيبَة الشكل وَمَا يُحْصى مَا خرب من
الْجَانِبَيْنِ إِلَّا الله تَعَالَى.
وفيهَا: أفتى قَاضِي الْقُضَاة كَمَال الدّين مُحَمَّد بن عَليّ بن
الزملكاني بِتَحْرِيم الِاجْتِمَاع بمشهد روحين ودير الزربة وأشباههما،
وَمَعَ من شدّ الرّحال إِلَيْهِ وَنُودِيَ بذلك فِي المملكة الحلبية
فَإِنَّهُ كَانَ يشْتَمل على مُنكرَات وبدع وعملت فِي تَحْرِيم ذَلِك
المقامة المشهدية وَهِي طَوِيلَة ومشهورة.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة فتح السُّلْطَان الْملك النَّاصِر
الخانقاه الَّتِي أَنْشَأَهَا جوَار الْقصر الَّذِي انشأه بسرياقوس
وحضره الصُّوفِيَّة والقضاة ومشايخ الْبَلَد، وَسمع السُّلْطَان
هُنَاكَ على القَاضِي بدر الدّين بن جمَاعَة عشْرين حَدِيثا من
تساعياته بِقِرَاءَة وَلَده عز الدّين عبد الْعَزِيز وخلع عَلَيْهِ
خلعة سنية وأكرمه وَعمل السُّلْطَان فِي الخانقاه الْمَذْكُورَة
وَلِيمَة عَظِيمَة ورتب فِيهَا الشَّيْخ مجد الدّين الأقصراوي وصوفية
وخلع على قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين وعَلى جمَاعَة من الشُّيُوخ
وَفرق من الذَّهَب وَالْفِضَّة على الْمَشَايِخ نَحْو ثَلَاثِينَ ألف
دِرْهَم.
وفيهَا: فِي رَجَب توفّي بحلب الشَّيْخ علم الدّين طَلْحَة بن يُوسُف
كَانَ رَحمَه الله فَاضلا فِي النَّحْو والتصريف والقراءات، حسن
الْوَجْه والخلق وَالصَّوْت مشاركاً فِي عُلُوم، وَكَانَ إِلَيْهِ
تدريس الْمدرسَة الرواحية بحلب.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَعشْرين وَسَبْعمائة: فِي ربيع الأول مِنْهَا ضربت
رَقَبَة نَاصِر بن الهيتي بسوق الْخَيل ظَاهر دمشق بِحكم القَاضِي
الْمَالِكِي بِكُفْرِهِ وزندقته وتلاعبه بدين الْإِسْلَام صحب النَّجْم
بن خلكان المحلول عَن دين الْإِسْلَام الْمُفطر فِي رَمَضَان الشَّارِب
الْخمر عِنْد أهل الْكتاب حفظ ابْن الهيتي فِي أول أمره التَّنْبِيه
وَالْقُرْآن، فانسلخ من ذَلِك وهرب من الدماشقة سِنِين، ثمَّ حضر إِلَى
حلب وَبهَا القَاضِي كَمَال الدّين بن الزملكاني رَحمَه الله تَعَالَى.
وَكَانَ القَاضِي الْمَذْكُور قد رأى تِلْكَ اللَّيْلَة فِي نَومه
كَأَن عقرباً رَأسه أسود ولون جسده عسلياً يدب على كم النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فجَاء نقيب الحكم بدر الدّين
مُحَمَّد بن نجم الدّين إِسْحَاق وأزاح الْعَقْرَب عَن كم النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأصْبح القَاضِي كَمَال الدّين
متحيراً متخوفاً من ذَلِك، ثمَّ أَن ابْن الهيتمي فِي الْيَقَظَة جَاءَ
إِلَى بَاب القَاضِي وَاسْتَأْذَنَ فِي الدُّخُول فَأذن لَهُ فَلَمَّا
وَقع نظر القَاضِي عَلَيْهِ وعرفه وَقَالَ لَهُ: مَا جَاءَ بك إِلَيّ
يَا كَافِر وَنظر إِلَى لِبَاسه فَإِذا على رَأسه مئزر صوف أسود وَهُوَ
لابس دلفاً عسلياً فَلَمَّا سمع النَّقِيب الْمَذْكُور قَول القَاضِي
لَهُ يَا كَافِر أَخَذته زَمعَة وَوجد وَحمل ابْن الهيتي بِلَا أَمر من
القَاضِي وأودعه السجْن بالخندق الَّذِي للقلعة وَهَذَا الْمَنَام من
الْآيَات العجيبة، ثمَّ أَن القَاضِي جهزه إِلَى دمشق محترزاً عَلَيْهِ
فَضربت عُنُقه وَالْحَمْد لله على إعزاز الدّين.
وَفِيه: توفّي جمال الدّين حسن بن المطهر الْحلَبِي بالحلة من شُيُوخ
الشِّيعَة وَلما
(2/269)
ترفض خربنده أحضر إِلَيْهِ وَأكْرم وَجعل
لَهُ أرزاقاً كَثِيرَة بلغت مصنفاته فِي الْأُصُول وَفقه الإمامية
والمنطق مائَة وَعشْرين مجلداً.
وَفِيه: شاع بِدِمَشْق أَن الشَّمْس تكسف بعد الظّهْر فِي السَّاعَة
السَّابِعَة من يَوْم الْخَمِيس الثَّامِن وَالْعِشْرين من ربيع الآخر،
وَذكروا أَن ذَلِك فِي جَمِيع التقاويم، وَأَن هَذَا حِسَاب لَا يخرم
فتهيأ النَّاس للصَّلَاة فَلم تكسف فانكسف المنجمون لذَلِك وَللَّه
الْحَمد.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى قتل الراهب توماً وَكَانَ أسلم وَصَارَ
عِنْده حرص على الدّين وَلكنه ارْتَدَّ إِلَى النَّصْرَانِيَّة وَسبق
عَلَيْهِ الشَّقَاء فِي أم الْكتاب، نسْأَل الله الْوَفَاة على
الْإِسْلَام.
وفيهَا: فِي شعْبَان اعتقل الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية بقلعة
دمشق مكرماً رَاكِبًا وَفِي خدمته مشد الْأَوْقَاف والحاجب ابْن الخطير
وأخليت لَهُ قاعة ورتب لَهُ مَا يقوم بكفايته، ورسم السُّلْطَان
بِمَنْعه من الْفتيا وَسبب ذَلِك فتيا وجدت بِخَطِّهِ فِي الْمَنْع من
السّفر وَمن أَعمال الْمطِي إِلَى زِيَارَة قُبُور الْأَنْبِيَاء
وَالصَّالِحِينَ وَحبس جمَاعَة من أَصْحَابه وعزر جمَاعَة ثمَّ
أطْلقُوا سوى شمس الدّين مُحَمَّد بن أبي بكر إِمَام الجوزية فَإِنَّهُ
حبس بالقلعة أَيْضا.
وَفِيه: وَردت الْأَخْبَار إِلَى الشَّام أَنه أجريت عين باران إِلَى
مَكَّة شرفها الله تَعَالَى كَانَ الْعِرَاقِيُّونَ قد شرعوا فِيهَا من
أول السّنة وَالْمَاء الْيَوْم بِمَكَّة مثل الْمَدِينَة الضَّعِيف
وَالْقَوِي فِيهِ سَوَاء بِحَمْد الله تَعَالَى.
قلت:
(هَل لي إِلَى مَكَّة من عودة ... فأبلغ السؤل وأقضي الدُّيُون)
(غير عَجِيب جري عين بهَا ... فقد جرت شوقاً إِلَيْهَا الْعُيُون)
وَفِيه: أبطل السَّيِّد عطيفة مقَام الزيدية، وَأخرج إِمَام الزيدية
إخراجاً عنيفاً، ونادى بِالْعَدْلِ فِي الْبِلَاد بمرسوم السُّلْطَان،
فسر الْمُسلمُونَ بذلك عَظِيما.
وفيهَا: ورد كتاب من بَغْدَاد إِلَى شمس الدّين بن منتاب بِدِمَشْق
يتَضَمَّن أَن خياطاً مضى إِلَى الرِّبَاط الَّذِي عمره مُحَمَّد أغا
وَقَالَ للصوفية اربطوا سراويلي واختموا وارصدوني فَإِنِّي أُرِيد أعمل
أربعينية لَا أَذُوق فِيهَا شَيْئا وَلَا أبول وَلَا أتغوط، فختم
سراويله بعض نواب مُحَمَّد أغا وَغَيره عدَّة ختوم وَأقَام بَينهم أحد
وَأَرْبَعين يَوْمًا.
ثمَّ جَاءَ إِلَيْهِ سعد الدّين وَقَالَ لَهُ: أما أحملك إِلَيّ
بَيْتِي وأقم عِنْدِي عشرَة أَيَّام أخر، فَقَالَ لَهُ الْخياط: وَإِن
شِئْت صبرت أَرْبَعِينَ أُخْرَى فَحَمله سعد الدّين الْمَذْكُور إِلَى
دَاره وقفل عَلَيْهِ الْبَاب وَأخذ الْمِفْتَاح وَدخل عَلَيْهِ بعد
سِتَّة أَيَّام فَإِذا الْخياط جَالس شبعان رَيَّان كَأَنَّهُ أَسد
فتعجب من ذَلِك، وَكَانَ مَعَ سعد الدّين جمَاعَة من الْعلمَاء تكلمُوا
مَعَ الْخياط فوجدوه خَالِيا من الْعُلُوم، وَقَالَ: أَنا لَا أحفظ
الْقُرْآن وَلَكِن فِي هَذِه السَّاعَة إنشق الْحَائِط وَخرج لي مِنْهُ
(2/270)
رجلَانِ ومعهما أَربع رمانات فَأَكَلتهَا،
فَقيل لَهُ: فالغائط كَيفَ تفعل بِهِ فاختلط فِي الْجَواب فَتَرَكُوهُ.
وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة توفّي قَاضِي الْقُضَاة بِدِمَشْق شمس الدّين
أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مُسلم الْحَنْبَلِيّ الصَّالِحِي
بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّة وَدفن بِالبَقِيعِ جوَار قبَّة عقيل
رَضِي الله عَنهُ مرض وَخَافَ أَن يَمُوت دون الْمَدِينَة فَأعْطَاهُ
الله مناه حج ثَلَاث مَرَّات قبل ذَلِك، وَمُدَّة ولَايَته إِحْدَى
عشرَة سنة عمر الْأَوْقَاف، وَقدم الْمُسْتَحقّين وَلم يغر لبسه وَلَا
هَيئته وَلَا اتخذ مركوباً، كَانَ يدْخل من الصالحية إِلَى دمشق
مَاشِيا، وَلم يضف إِلَى نَفسه مدرسة وَلَا نظرا بِمَعْلُوم ومناقبه
كَثِيرَة رَحمَه الله تَعَالَى.
قلت:
(بَاشر بِالْعَدْلِ والسكينة ... والسيرة الْبرة الأمينة)
(وَمن يَعش مثل عَيْش هَذَا ... يستأهل الْمَوْت بِالْمَدِينَةِ)
وفيهَا: توفّي كَمَال الدّين عبد الْوَهَّاب بن قَاضِي شُهْبَة
الْفَقِيه النَّحْوِيّ، كَانَ متقللاً وانتفع النَّاس بالاشتغال
عَلَيْهِ، وَكَانَ يعْتَكف شهر رَمَضَان بِكَمَالِهِ فِي الْجَامِع
رَحمَه الله.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَعشْرين وَسَبْعمائة: فِي آخر الْمحرم مِنْهَا طلب
ملك الْأُمَرَاء عَلَاء الدّين الطنبغا الصَّالِحِي النَّائِب بحلب
إِلَى الديار المصرية.
وفيهَا: فِي صفر وصل الْأَمِير سيف الدّين أرغون الناصري إِلَى حلب
نَائِبا بهَا وَكَانَ حج من الديار المصرية هُوَ وَأَتْبَاعه وَزَوْجَة
ابْنه بنت السُّلْطَان فحين وصل إِلَى الْقَاهِرَة رسم لَهُ بنيابة
حلب.
وفيهَا: فِي ربيع الأول بَاشر الحكم بِدِمَشْق قَاضِي الْقُضَاة عز
الدّين مُحَمَّد بن قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين الْحَنْبَلِيّ عوضا
عَن ابْن مُسلم، وباشر التدريس بِالْمَدْرَسَةِ الجوزبة.
وَفِيه: حاصر الْأَمِير ودي بن جماز الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة سَبْعَة
أَيَّام ودخلوها وأحرقوا بَاب السويقة.
وفيهَا: فِي ربيع الْآخِرَة قدم نَائِب الشَّام من مصر إِلَى دمشق
وصحبته الْأَمِير سيف الدّين قطلوبغا الفخري أَمِيرا بِدِمَشْق.
وَفِيه: توفّي الشَّيْخ بدر الدّين مُحَمَّد بن أبي الْفَتْح الأطغاني
بحلب أفتى زَمَانا وناب القَاضِي كَمَال الدّين مُحَمَّد بن الحلكاني
بحلب، وَكَانَ متواضعاً حسن الِاعْتِقَاد مشاركاً فِي عُلُوم جمة
رَحمَه الله تَعَالَى.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى بَاشر القَاضِي برهَان الدّين الزرعي
الْحَنْبَلِيّ الحكم نِيَابَة عَن قَاضِي الْقُضَاة عز الدّين
الْحَنْبَلِيّ.
وفيهَا: فِي رَابِع عشر جُمَادَى الأولى توفّي الشَّيْخ الإِمَام شرف
الدّين أَبُو مُحَمَّد
(2/271)
عبد الله بن عبد الْحَلِيم بن تَيْمِية
الْحَرَّانِي الْحَنْبَلِيّ أَخُو الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَحضر
جنَازَته عَالم عَظِيم، ومولده فِي حادي عشر الْمحرم سنة سِتّ
وَسِتِّينَ وسِتمِائَة بحران، ومناقبه جمة وعلومه كَثِيرَة، بارع فِي
فنون عديدة من الْفِقْه والنحو وَالْأُصُول حسن الْعبارَة قوي فِي دينه
مليح الْبَحْث صَحِيح الذِّهْن مستحضر لتراجم السّلف عَالم بالتواريخ
ملازم لأنواع الْخَيْر وَتَعْلِيم الْعلم عَارِف بِالْحِسَابِ زاهد
شرِيف النَّفس قَانِع بِالْقَلِيلِ شُجَاع مِقْدَام مُجَاهِد، كَانَ
يخرج من بَيته لَيْلًا، ويأوي إِلَى بَيته لَيْلًا، ويأوي إِلَى
المسجاد المهجورة، وَلَا يجلس فِي مَكَان معِين.
وَفِيه: انتزاع القَاضِي كَمَال الدّين بن الزملكاني كَنِيسَة
الْيَهُود الْمُجَاورَة للمدرسة العصرونية بحلب وبنيت بهَا مأذنة
وَسميت الناصرية وَكتب بذلك مكاتيب وشق على الْيَهُود ذَلِك فِي أقطار
الأَرْض وَللَّه الْحَمد.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة توجه إِلَى مصر قَاضِي الْقُضَاة جلال
الدّين مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الْحَاكِم والخطيب بِدِمَشْق وباشر
الحكم بالديار المصرية مَعَ تدريس الصالحية والناصرية وَدَار الحَدِيث
الكاملية عوضا عَن قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة
الْحَمَوِيّ فَإِنَّهُ استعفى من الْقَضَاء لكبر سنة وَضَعفه فَأُجِيب
إِلَى ذَلِك ورتب لَهُ كل شهر ألف دِرْهَم وَعشرَة أرادب قَمح.
وَفِيه: رسم بقتل الْكلاب بالديار المصرية.
وفيهَا: فِي رَجَب وصل الْخَطِيب بدر الدّين مُحَمَّد بن قَاضِي
الْقُضَاة جلال الدّين من الْقَاهِرَة إِلَى دمشق مُتَوَلِّيًا الخطابة
بالجامع الْأمَوِي بِدِمَشْق، وتدريس الْمدرسَة الشامية الجوانية.
وَفِيه: عمل عرس الْأَمِير سيف الدّين قوصون على بنت السُّلْطَان
وَيطول شرح ذَلِك.
وَفِيه: بالإسنكدرية جرت مخاصمة بَين مُسلم وإفرنجي فَضَربهُ بالمداس
فعظمت الْفِتْنَة وَركب النَّائِب بهَا وأغلق بَاب الْبَلَد من
الْعَصْر إِلَى بعض اللَّيْل وحصلت مقتلة وزحم النَّائِب وأحرق بَاب
السُّلْطَان وَيُسمى بَاب الْيَهُود، وَوَقع بعض نهب فِي دور يلوذ
أَهلهَا بالنائب فَكتب إِلَى السُّلْطَان بِمَا وَقع فَغَضب
السُّلْطَان وَأمر بِالسَّيْفِ فِي الْإسْكَنْدَريَّة وهدها إِلَى
الْبَحْر وَأخذ من التُّجَّار أَمْوَالًا عَظِيمَة ووسط نَحْو
ثَلَاثِينَ رجلا وَقت صَلَاة الْجُمُعَة، ثمَّ عزل النَّائِب بعد ضربه
وإهانته، وَقتل نَاس من الْفُقَهَاء والمدرسين الصَّالِحين لِأَن
بَعضهم خرج وَقت الْفِتْنَة يستغيثون فِي الشوارع إنكاراً لذَلِك.
وَلم يزل الْأَمر كَذَلِك حَتَّى قدم تَاج الدّين أَبُو إِسْحَاق وَكيل
السُّلْطَان فسكن الْبَلَد، وَكَانُوا ممنوعين من الْخُرُوج
وَالدُّخُول وَكَانَ سَبَب غضب السُّلْطَان أَنه ظن أَن الْبَاب
الَّذِي أحرق هُوَ بَاب الْحَبْس الَّذِي فِيهِ جمَاعَة من الْأُمَرَاء
وَلم يكن الْأَمر كَذَلِك، وَمن يَوْمئِذٍ صَار لَا يُولى بهَا إِلَّا
قَاض شَافِعِيّ، وَكتب أَبُو يحيى زَكَرِيَّا الطرابلسي كتابا من
الْإسْكَنْدَريَّة يَقُول
(2/272)
فِيهِ: إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُون فِيمَا أصَاب الْمُسلمين بثغر الْإسْكَنْدَريَّة من الإحراق
وَالضَّرْب وَأخذ الْأَمْوَال وَسَفك الدِّمَاء، فَالله يعظم لنا وَلكم
الْأجر.
قلت:
(تبَارك الله ذُو الْجلَال لقد ... أدهش عَقْلِي زَمَاننَا الْفَاسِد)
(مصادرات جرت وَسَفك دَمًا ... وَأَصلهَا ضرب كَافِر وَاحِد)
وفيهَا: فِي شعْبَان توفّي قَاضِي الْقُضَاة صدر الدّين عَليّ بن
الْوَكِيل الْحَنَفِيّ بِدِمَشْق، كَانَ كَبِير الْقدر صَاحب أَمْلَاك
وثروة مكثراً من الْفِقْه وَمن ملح الْأَخْبَار ونكت الْأَشْعَار.
وَفِيه: طلب من حلب القَاضِي كَمَال الدّين مُحَمَّد بن عَليّ بن
الزملكاني على الْبَرِيد إِلَى حَضْرَة السُّلْطَان ليولى الْقَضَاء
بِالشَّام، فَتوفي بِمَدِينَة بلبيس وَحمل إِلَى الْقَاهِرَة فَدفن
بالقرافة.
كَانَ رَحمَه الله غزير الْعلم كثير الْفُنُون مُسَدّد الفتاوي دَقِيق
الذِّهْن صَحِيح الْبَحْث حسن الْخلق جميل الْوَجْه طيب الصَّوْت بعيد
الصيت جيد الْخط سخي النَّفس صَحِيح الِاعْتِقَاد بليغ النّظم والنثر.
وَلَقَد رَأَيْت كبار مَشَايِخنَا لَا يعدلُونَ بِهِ عَالما فِي
زَمَانه وَلَا يُشبههُ عِنْدهم أحد من أقرانه:
(أَفِي الرَّأْي يشبه أم فِي السخاء ... أم فِي الشجَاعَة أم فِي
الْأَدَب)
(فلسنا نرى بعده مثله ... فيا ليته مَا تولى حلب)
سُئِلَ رَحمَه الله تَعَالَى مَا الدَّلِيل على أَن الْمَرْأَة لَا
يجوز أَن تكون قَاضِيا فَأجَاب الدَّلِيل على ذَلِك قَوْله تَعَالَى:
{أَو من ينشأ فِي الْحِلْية وَهُوَ فِي الْخِصَام غير مُبين} لِأَن من
هُوَ فِي الْخِصَام لنَفسِهِ غير مُبين لَا يصلح لفصل خصومات غَيره
بطرِيق الأولى، ووقفت لَهُ على مُكَاتبَة إِلَى شَيخنَا قَاضِي
الْقُضَاة شرف الدّين هبة الله بن الْبَارِزِيّ الْحَمَوِيّ يطْلب
مِنْهُ التَّيْسِير الَّذِي وَضعه على الْحَاوِي، أَولهَا:
(يَا وَاحِد الْعَصْر ثَانِي الشَّمْس فِي شرف ... وثالث العمرين
السالفين هدى)
(تيسيرك الشَّامِل الْحَاوِي الْبَسِيط لَهُ ... نِهَايَة لم تنلها
غَايَة أبدا)
(مُحَرر خص بِالْفَتْح الْعَزِيز فَفِي ... تهذيبه الْمَقْصد
الْأَسْنَى لمن رشدا)
(وَقد سمت همتي أَن اصطفيه لَهَا ... وَإِن أعلمهُ الأهلين والولدا)
(فانعم بِهِ نُسْخَة صحت مُقَابلَة ... ولاح نورك فِي أَثْنَائِهَا
وبدا)
وَلما وقف شَيخنَا قَاضِي الْقُضَاة شرف الدّين الْمَذْكُور على هَذِه
الْمُكَاتبَة سر بهَا، وجهز لَهُ نُسْخَة بالتيسير الْمَطْلُوب،
وَقَالَ سُبْحَانَ الله لقد كَانَ الشَّيْخ كَمَال الدّين أكبر
المنكرين عَليّ فِي الاعتناء بالحاوي الصَّغِير ثمَّ لم ينتبه لقدوه
إِلَّا وَقد صرت فِيهِ إِمَامًا.
فَائِدَة: رَأَيْت بعض النَّاس اعْترض على الشَّيْخ كَمَال الدّين فِي
هَذَا النّظم فِي قَوْله:
(2/273)
ثَانِي الشَّمْس بِكَوْن الْيَاء من ثَانِي
وَهُوَ مُنَادِي مُضَاف من حَقه النصب وَفِي قَوْله: أَن اصطفيه لَهَا
بِسُكُون الْيَاء أَيْضا، وَمن حَقه النصب بِأَن وَفِي قَوْله فانعم
بِهِ نُسْخَة بوصل الْهمزَة وَمن حَقّهَا الْقطع لِأَنَّهُ فعل رباعي،
وَهَذَا لقلَّة اطلَاع هَذَا الْمُعْتَرض على غَرِيب الْعَرَبيَّة
فَإِن مثل ذَلِك كُله جَائِز فِي ضَرُورَة الشّعْر شَاهد الأول قَول
الشَّاعِر:
(يَا دَار هِنْد عفت إِلَّا أَنا فِيهَا
(وَقَول الْعَرَب أعْط الْقوس باريها))
وَشَاهد الثَّانِي قَول الشَّاعِر:
(حَتَّى لقد عفت أَن أرويه فِي الْكتب ... )
وَشَاهد الثَّالِث (قَول) الشَّاعِر:
(أَلا ابلغ حاتماً وَأَبا عَليّ ... بِأَن عوَانَة الضبعِي فرا)
وفيهَا: وصل فَخر الدّين عُثْمَان بن الْبَارِزِيّ الْحَمَوِيّ إِلَى
حلب مُتَوَلِّيًا قَضَاء الْقُضَاة بهَا بعد الْعَلامَة كَمَال الدّين
بن الزملكاني رَحمَه الله وَكَانَ وُصُوله إِلَيْهَا يَوْم
الْإِثْنَيْنِ فِي أَوَاخِر ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة.
وفيهَا: فِي رَمَضَان وصل إِلَى دمشق مائَة وَأَرْبَعُونَ أَسِيرًا من
بِلَاد الفرنج وَذَلِكَ أَن قَاضِي الْقُضَاة جلال الدّين أشهد
عَلَيْهِ أَنه جعل لكل من يحضر أَسِيرًا مبلغا عينه، وَكتب بذلك
مَكْتُوبًا وَعرف الفرنج ذَلِك فَجعلُوا الأسرى من تجاراتهم وأحضروهم
فأعطوا من وقف الأسرى سِتِّينَ ألف دِرْهَم وأطلقوا الأسرى بِحَمْد
الله تَعَالَى.
وفيهَا: وَفِي ذِي الْقعدَة تولى الشَّيْخ عَلَاء الدّين عَليّ بن
إِسْمَاعِيل بن يُوسُف القونوي الشَّافِعِي قَضَاء الْقُضَاة بِدِمَشْق
المحروسة.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة قرئَ مرسوم سلطاني بِجَامِع دمشق بالتوصية
بالأوقاف وإيصالها إِلَى مستحقيها وعمارتها، وَاتِّبَاع شُرُوط واقفيها
والتأكيد فِي ذَلِك.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَعشْرين وَسَبْعمائة: فِيهَا بني فِي وسط
الْمَسْعَى طَهَارَة فِيهَا بركَة وَبنى الجوبان نَائِب ملك التتر
بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّة حَماما حسنا.
وفيهَا: فِي صفر وصل إِلَى الشَّام نَائِب الرّوم تمرتاش بن الجوبان،
وَتَلَقَّتْهُ النواب وَهُوَ شَاب حسن، وَذَلِكَ أَن أَبَا سعيد لما
قتل أَخَاهُ دمشق خواجه فِي شَوَّال من الْعَام الْمَاضِي أَرَادَ
والدهما الجوبان محاربة أبي سعيد فَلم يتَّفق لَهُ ذَلِك فهرب تمرتاش
بحشمه وأمواله وَلما وصل إِلَى الديار المصرية أَمر السُّلْطَان
بإكرامه واحترامه.
وَفِيه: وصل المَاء إِلَى الْقُدس بعد عمل طَرِيقه فِي سِتَّة أشهر.
وفيهَا: فِي ربيع الأول جدد سطح الْكَعْبَة الشَّرِيفَة وأبوابها وبنيت
طَهَارَة مِمَّا يَلِي بَاب بني شيبَة، وأجريت عين مَاء أُخْرَى تعرف
بِعَين جبل بَقِيَّة مِمَّا يَلِي حراء على مجْرى الْعين الجوبانية،
ووصلت إِلَى مَكَّة أنْفق عَلَيْهَا قدر يسير نَحْو خَمْسَة آلَاف
دِرْهَم.
(2/274)
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى كَانَ حريق
عَظِيم بِدِمَشْق فِي سوق الفرانين والقيسارية الجديدة وَالْمَسْجِد
وَذهب للنَّاس أَمْوَال عَظِيمَة.
وفيهَا: فِي خَامِس جُمَادَى الْآخِرَة توفّي قَاضِي الْقُضَاة شمس
الدّين بن الحريري الْحَنَفِيّ بالسكتة، ولي قَضَاء دمشق سِنِين ثمَّ
صرف ثمَّ طلب إِلَى مصر فولي الْقَضَاء بهَا، وَكَانَت لَهُ همة عالية
وناموس وهيبة وسطوة على الْأُمَرَاء والمتجوهين وأوراد رَحمَه الله
تَعَالَى، وَولي مَكَانَهُ الشَّيْخ برهَان الدّين إِبْرَاهِيم بن
عَليّ بن قَاضِي حصن الأكراد وأكرمه السُّلْطَان وسر بِهِ.
وَفِيه: توفّي بالقدس شَيخنَا الْعَلامَة شهَاب الدّين أَحْمد بن
جبارَة المرداوي الْحَنْبَلِيّ الزَّاهِد الْفَقِيه الأصولي الْمقري
النَّحْوِيّ أَقَامَ رَحمَه الله بِمصْر دهراً وجاور بِمَكَّة، ثمَّ
قدم دمشق واشتغل النَّاس عَلَيْهِ بهَا مُدَّة، ثمَّ أَقَامَ بحلب
وَاشْتَغَلْنَا عَلَيْهِ ثمَّ بالقدس. وَكَانَ صَالحا صَادِقا زاهداً
قانعاً، وَله مصنفات مِنْهَا شرح الشاطبية أَربع مجلدات.
وفيهَا: فِي شعْبَان قبض على تمرتاش بن جوبان ثمَّ مَاتَ فِي شَوَّال.
وفيهَا: فِي لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة توفّي
شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن الْمُفْتِي
شهَاب الدّين عبد الْحَلِيم بن شيخ الْإِسْلَام مجد الدّين أبي البركات
عبد السَّلَام بن عبد الله بن أبي الْقَاسِم بن تَيْمِية الْحَرَّانِي
الْحَنْبَلِيّ معتقلاً بقلعة دمشق وَغسل وكفن وَأخرج وَصلى عَلَيْهِ
أَولا بالقلعة الشَّيْخ مُحَمَّد بن تَمام، ثمَّ بِجَامِع دمشق بعد
الظّهْر وَأخرج من بَاب الْفرج وَاشْتَدَّ الزحام فِي سوق الْخَيل،
وَتقدم عَلَيْهِ فِي الصَّلَاة هُنَاكَ أَخُوهُ، وَألقى النَّاس
عَلَيْهِم مناديلهم وعمائمهم للتبرك، وتراص النَّاس تَحت نعشه، وحزرت
النِّسَاء بِخَمْسَة عشر ألفا، وَأما الرِّجَال فَقيل: كَانُوا مِائَتي
ألف وَكثر الْبكاء عَلَيْهِ وختمت لَهُ عدَّة ختم وَتردد النَّاس إِلَى
زِيَارَة قَبره أَيَّامًا، ورؤيت لَهُ منامات صَالِحَة ورثاء جمَاعَة.
قلت: ورثيته أَنا بمرثية على حرف الطَّاء فشاعت واشتهرت وطلبها مني
الْفُضَلَاء وَالْعُلَمَاء من الْبِلَاد وَهِي:
(عثا فِي عرضه قوم سلاط ... لَهُم من نثر جوهره الْتِقَاط)
(تَقِيّ الدّين أَحْمد خير حبر ... خروف المعضلات بِهِ تخاط)
(توفّي وَهُوَ مَحْبُوس فريد ... وَلَيْسَ لَهُ إِلَى الدُّنْيَا
انبساط)
(وَلَو حَضَرُوهُ حِين قضى لألفوا ... مَلَائِكَة النَّعيم بِهِ
أحاطوا)
(قضى نحباً وَلَيْسَ لَهُ قرين ... وَلَا لنظيره لف القماط)
(فَتى فِي علمه أضحى فريداً ... وَحل المشكلات بِهِ يناط)
(وَكَانَ إِلَى النقى يَدْعُو البرايا ... وَيُنْهِي فرقة فسقوا
ولاطوا)
(وَكَانَ الْجِنّ تفرق من سطاء ... بوعظ للقلوب هُوَ السِّيَاط)
(فيا لله مَا قد ضم لحد ... وَيَا لله مَا غطى البلاط)
(2/275)
(هم حسدوه لما لم ينالوا ... مناقبه فقد
مكروا وشاطوا)
(وَكَانُوا عَن طرائفه كسَالَى ... وَلَكِن فِي أَذَاهُ لَهُم نشاط)
(وَحبس الدّرّ فِي الأصداف فَخر ... وَعند الشَّيْخ بالسجن اغتباط)
(بآل الْهَاشِمِي لَهُ اقْتِدَاء ... فقد ذاقوا الْمنون وَلم يواطوا)
(بَنو تَيْمِية كَانُوا فبانوا ... نُجُوم الْعلم أدْركهَا انهباط)
(وَلَكِن يَا ندامة حابسيه ... فَشك الشّرك كَانَ بِهِ يماط)
(وَيَا فَرح الْيَهُود بِمَا فَعلْتُمْ ... فَإِن الضِّدّ يُعجبهُ
الخباط)
(ألم يَك فِيكُم رجل رشيد ... يرى سجن الإِمَام فيستشاط)
(إِمَام لَا ولَايَة كَانَ يَرْجُو ... وَلَا وقف عَلَيْهِ وَلَا
رِبَاط)
(وَلَا جاراكم فِي كسب مَال ... وَلم يعْهَد لَهُ بكم اخْتِلَاط)
(فَفِيمَ سجنتموه وغظتموه ... أما لجزا أذيته اشْتِرَاط)
(وسجن الشَّيْخ لَا يرضاه مثلي ... فَفِيهِ لقدر مثلكُمْ انحطاط)
(أما وَالله لَوْلَا كتم سري ... وَخَوف الشَّرّ لانحل الرِّبَاط)
(وَكنت أَقُول مَا عِنْد وَلَكِن ... بِأَهْل الْعلم مَا حسن اشتطاط)
(فَمَا أحد إِلَى الْإِنْصَاف يَدْعُو ... وكل فِي هَوَاهُ لَهُ
انخراط)
(سَيظْهر قصدكم يَا حابسيه ... وننبئكم إِذا نصب الصِّرَاط)
(فها هُوَ مَاتَ عَنْكُم وَاسْتَرَحْتُمْ ... فعاطوا مَا أردتم أَن
أتعاطوا)
(وحلوا واعقدوا من غير رد ... عَلَيْكُم وانطوى ذَاك الْبسَاط)
وَكنت اجْتمعت بِهِ رَحمَه الله تَعَالَى بِدِمَشْق سنة خمس عشرَة
وَسَبْعمائة بمسجده بالقصاعين وبحثت بَين يَدَيْهِ فِي فقه وَتَفْسِير
وَنَحْو فأعجبه كَلَامي وَقبل وَجْهي واني لأرجو بركَة ذَلِك، وَحكى لي
عَن واقعته الْمَشْهُورَة فِي جبل كسروان وسهرت عِنْده لَيْلَة
فَرَأَيْت من فتوته ومروءته ومحبته لأهل الْعلم وَلَا سِيمَا الغرباء
مِنْهُم أمرا كثيرا، وَصليت خَلفه التَّرَاوِيح فِي رَمَضَان فَرَأَيْت
على قِرَاءَته خشوعا وَرَأَيْت على صلَاته رقة حَاشِيَة تَأْخُذ
بِمَجَامِع الْقُلُوب.
مولده رَحمَه الله ورحمنا بِهِ بحران يَوْم الْإِثْنَيْنِ عَاشر ربيع
الأول سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وسِتمِائَة، هَاجر وَالِده بِهِ وبأخوته
إِلَى الشَّام من جور التتر، وعنى الشَّيْخ تَقِيّ الدّين
بِالْحَدِيثِ، وَنسخ جملَة وَتعلم الْخط والحساب فِي الْمكتب وَحفظ
الْقُرْآن ثمَّ أقبل على الْفِقْه وَقَرَأَ أَيَّامًا فِي الْعَرَبيَّة
على ابْن عبد القوى، ثمَّ فهمها وَأخذ يتَأَمَّل كتاب سِيبَوَيْهٍ
حَتَّى فهمه، وبرع فِي النَّحْو وَأَقْبل على التَّفْسِير إقبالاً
كلياً حَتَّى سبق فِيهِ، وَأحكم أصُول الْفِقْه كل هَذَا وَهُوَ ابْن
بضع عشرَة سنة فانبهر الْفُضَلَاء من فرط ذكائه وسيلان ذهنه وَقُوَّة
حافظته وإدراكه، وَنَشَأ فِي تصون تَامّ وعفاف وَتعبد واقتصاد فِي
الملبس والمأكل.
وَكَانَ يحضر الْمدَارِس والمحافل فِي صغره فيناظر ويفحم الْكِبَار
وَيَأْتِي بِمَا يتحيرون
(2/276)
مِنْهُ، وَأفْتى وَله أقل من تسع عشرَة
سنة، وَشرع فِي الْجمع والتأليف وَمَات وَالِده وَله إِحْدَى
وَعِشْرُونَ سنة وَبعد صيته فِي الْعَالم فطبق ذكره الْآفَاق وَأخذ فِي
تَفْسِير الْكتاب الْعَزِيز أَيَّام الْجمع على كرْسِي من حفظه فَكَانَ
يُورد الْمجْلس وَلَا يتلعثم، وَكَذَلِكَ الدَّرْس بتؤدة وَصَوت
جَهورِي فصيح يَقُول فِي الْمجْلس أَزِيد من كراسين، وَيكْتب على
الْفَتْوَى فِي الْحَال عدَّة أوصال بِخَط سريع فِي غَايَة التَّعْلِيق
والإغلاق.
قَالَ الشَّيْخ الْعَلامَة كَمَال الدّين بن الزملكاني علم
الشَّافِعِيَّة فِي خطّ كتبه فِي حق ابْن تَيْمِية كَانَ إِذا سُئِلَ
عَن فن من الْعلم ظن الرَّائِي وَالسَّامِع أَنه لَا يغْرف غير ذَلِك
الْفَنّ، وَحكم بِأَن لَا يعرفهُ أحد مثله، وَكَانَت الْفُقَهَاء من
سَائِر الطوائف إِذا جالسوه استفادوا فِي مذاهبهم مِنْهُ أَشْيَاء،
قَالَ: وَلَا يعرف أَنه نَاظر أحدا فَانْقَطع مَعَه وَلَا تكلم فِي علم
من الْعُلُوم سَوَاء كَانَ عُلُوم الشَّرْع أَو غَيرهَا إِلَّا فاق
فِيهِ أَهله، وَاجْتمعت فِيهِ شُرُوط الِاجْتِهَاد على وَجههَا، انْتهى
كَلَامه.
وَكَانَت لَهُ خبْرَة تَامَّة بِالرِّجَالِ وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم
وَمَعْرِفَة بفنون الحَدِيث وبالعالي والنازل وَالصَّحِيح والسقيم مَعَ
حفظه لمتونه الَّذِي انْفَرد بِهِ وَهُوَ عَجِيب فِي استحضاره واستخراج
الْحجَج مِنْهُ وَإِلَيْهِ الْمُنْتَهى فِي عزوه إِلَى الْكتب
السِّتَّة والمسند بِحَيْثُ تصدق عَلَيْهِ أَن يُقَال كل حَدِيث لَا
يعرفهُ ابْن تَيْمِية فَلَيْسَ بِحَدِيث وَلَكِن الْإِحَاطَة لله غير
أَنه يغترف فِيهِ من بَحر وَغَيره من الْأَئِمَّة يَغْتَرِفُونَ من
السواقي.
وَأما التَّفْسِير فَسلم إِلَيْهِ، وَله فِي استحضار الْآيَات
للإستدلال قُوَّة عَجِيبَة ولفرط إِمَامَته فِي التَّفْسِير وعظمة
اطِّلَاعه بَين خطأ كثيرا من أَقْوَال الْمُفَسّرين، وَيكْتب فِي
الْيَوْم وَاللَّيْلَة من التَّفْسِير أَو من الْفِقْه أَو من
الْأَصْلَيْنِ أَو من الرَّد على الفلاسفة والأوائل نَحوا من أَرْبَعَة
كراريس، قَالَ وَمَا يبعد أَن تصانيفه إِلَى الْآن تبلغ خَمْسمِائَة
مُجَلد.
وَله فِي غير مَسْأَلَة مُصَنف مُفْرد كَمَسْأَلَة التَّحْلِيل
وَغَيرهَا، وَله مُصَنف فِي الرَّد على ابْن مطهر الْعَالم الْحلِيّ
فِي ثَلَاث مجلدات كبار وتصنيف فِي الرَّد على تأسيس التَّقْدِيس
للرازي فِي سبع مجلدات، وَكتاب فِي الرَّد على الْمنطق وَكتاب فِي
الْمُوَافقَة بَين المقعول وَالْمَنْقُول فِي مجلدين وَقد جمع
أَصْحَابه من فَتَاوِيهِ سِتّ مجلدات كبار.
وَله بَاعَ طَوِيل فِي معرفَة مَذَاهِب الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ قل
أَن يتَكَلَّم فِي مَسْأَلَة إِلَّا وَيذكر فِيهَا الْمذَاهب
الْأَرْبَعَة، وَقد خَالف الْأَرْبَعَة فِي مسَائِل مَعْرُوفَة، وصنف
فِيهَا وَاحْتج لَهَا بِالْكتاب وَالسّنة.
وَله مُصَنف سَمَّاهُ السياسة الشَّرْعِيَّة فِي إصْلَاح الرَّاعِي
والرعية، وَكتاب رفع الملام عَن الْأَئِمَّة الْأَعْلَام وَبَقِي عدَّة
سِنِين لَا يُفْتِي بِمذهب معِين بل بِمَا قَامَ الدَّلِيل عَلَيْهِ
عِنْده، وَلَقَد نصر السّنة الْمَحْضَة والطريقة السلفية، وَاحْتج
لَهَا ببراهين ومقدمات وَأُمُور لم يسْبق إِلَيْهَا، وأطبق عِبَارَات
أحجم عَنْهَا الْأَولونَ وَالْآخرُونَ وهابوا وجسر هُوَ عَلَيْهَا
حَتَّى قَامَ عَلَيْهِ خلق
(2/277)
من عُلَمَاء مصر وَالشَّام قيَاما لَا
مزِيد عَلَيْهِ وبدعوه وناظروه وكابروه وَهُوَ ثَابت لَا يداهن وَلَا
يحابي بل يَقُول الْحق المر الَّذِي أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده وحدة
ذهنه وسعة دائرته فِي السّنَن والأقوال وَجرى بَينه وَبينهمْ حملات
حربية ووقعات شامية ومصرية، كَانَ مُعظما لحرمات الله دَائِم الابتهال
كثير الِاسْتِعَانَة قوي التَّوَكُّل ثَابت الجأش، لَهُ أوراد وأذكار
يديمها، وَله من الطّرف الآخر محبون من الْعلمَاء والصلحاء والجند
والأمراء والتجار والكبراء وَسَائِر الْعَامَّة تحبه بشجاعته تضرب
الْأَمْثَال وببعضها يتشبه أكَابِر الْأَبْطَال وَلَقَد أَقَامَهُ الله
فِي نوبَة غازان والتقى أعباء الْأَمر بِنَفسِهِ وَاجْتمعَ بِالْملكِ
مرَّتَيْنِ وبخطلو شاه وبولان، وَكَانَ قبجق يتعجب من إقدامه وجرأته
على المغول.
قَالَ القَاضِي المنشى شهَاب الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن فضل
الله فِي تَرْجَمته: جلس الشَّيْخ إِلَى السُّلْطَان مَحْمُود غازان
حَيْثُ تجم الْأسد فِي آجامها وَتسقط الْقُلُوب دواخل أجسامها وتجد
النَّار فتوراً فِي ضرمها وَالسُّيُوف فرقا فِي قرمها خوفًا من ذَلِك
السَّبع المغتال والنمرود الْمُحْتَال وَالْأَجَل الَّذِي لَا يدْفع
بحيلة محتال فَجَلَسَ إِلَيْهِ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى صَدره وواجهه
وَدَرَأَ فِي نَحره وَطلب مِنْهُ الدُّعَاء فَرفع يَدَيْهِ ودعا دُعَاء
منصف أَكْثَره عَلَيْهِ وغازان يُؤمن على دُعَائِهِ، وَكتب ابْن
الزملكاني على بعض تصانيف ابْن تَيْمِية هَذِه الأبيات
(مَاذَا يَقُول الواصفون لَهُ ... وَصِفَاته جلت عَن الْحصْر)
(هُوَ حجَّة لله قاهرة ... هُوَ بَيْننَا أعجوبة الْعَصْر)
(هُوَ آيَة فِي الْخلق ظَاهِرَة ... أنوارها أربت على الْفجْر)
وَلما سَافر ابْن تَيْمِية على الْبَرِيد إِلَى الْقَاهِرَة سنة
سَبْعمِائة وحض على الْجِهَاد رتب لَهُ مُرَتّب فِي كل يَوْم وَهُوَ
دِينَار وتحفه وجاءته بقجة قماش فَلم يقبل من ذَلِك شَيْئا.
وَقَالَ القَاضِي أَبُو الْفَتْح ابْن دَقِيق الْعِيد: لما أجتمعت
بِابْن تَيْمِية رَأَيْت رجلا كل الْعُلُوم بَين عَيْنَيْهِ يَأْخُذ
مَا يُرِيد ويدع مَا يُرِيد وَحضر عِنْده شيخ النُّحَاة أَبُو حَيَّان
وَقَالَ مَا رَأَتْ عَيْنَايَ مثله.
وَقَالَ فِيهِ على البديهة أبياتاً مِنْهَا:
(قَامَ ابْن تَيْمِية فِي نصر شرعتنا ... مقَام سيد تيم إِذْ عَصَتْ
مُضر)
(فأظهر الْحق إِذْ آثاره درست ... وأخمد الشَّرّ إِذْ طارت لَهُ الشرر)
(كُنَّا نُحدث عَن حبر يَجِيء فها ... أَنْت الإِمَام الَّذِي قد كَانَ
ينْتَظر)
وَلما جَاءَ السُّلْطَان إِلَى شقحب والخليفة لأقاهما إِلَى قرن
الْحرَّة وَجعل يثبتهما فَلَمَّا رأى السُّلْطَان كَثْرَة التتر قَالَ:
يَا خَالِد بن الْوَلِيد، قَالَ: قل يَا مَالك يَوْم الدّين إياك نعْبد
وَإِيَّاك نستعين، وَقَالَ للسُّلْطَان: اثْبتْ فَأَنت مَنْصُور
فَقَالَ لَهُ بعض الْأُمَرَاء: قل إِن شَاءَ الله فَقَالَ: إِن شَاءَ
الله تَحْقِيقا لَا تَعْلِيقا، فَكَانَ كَمَا قَالَ، انْتهى مُلَخصا.
وَهُوَ أكبر من أَن يُنَبه مثلي على نعوته فَلَو حَلَفت بَين الرُّكْن
وَالْمقَام لحلفت إِنِّي مَا
(2/278)
رَأَيْت بعيني مثله وَلَا رأى هُوَ مثل
نَفسه فِي الْعَالم، وَكَانَ فِيهِ قلَّة مداراة وَعدم تؤدة غَالِبا
وَلم يكن من رجال الدول وَلَا يسْلك مَعَهم تِلْكَ النواميس وأعان
أعداءه على نَفسه بِدُخُولِهِ فِي مسَائِل كبار لَا حتملها عقول
أَبنَاء زَمَاننَا وَلَا علومهم كَمَسْأَلَة التَّكْفِير فِي الْحلف
بِالطَّلَاق وَمَسْأَلَة أَن الطَّلَاق بِالثلَاثِ لَا يَقع إِلَّا
بِوَاحِدَة وَأَن الطَّلَاق فِي الْحيض لَا يَقع وساس نَفسه سياسة
عَجِيبَة فحبس مَرَّات بِمصْر ودمشق والإسكندرية، وارتفع وانخفض واستبد
بِرَأْيهِ وَعَسَى أَن يكون ذَلِك كَفَّارَة لَهُ، وَكم وَقع فِي صَعب
بِقُوَّة نَفسه وخلصه الله.
وَله نظم وسط وَلم يتَزَوَّج وَلَا تسرى وَلَا كَانَ لَهُ من الْعُلُوم
إِلَّا شَيْء قَلِيل وَكَانَ أَخُوهُ يقوم بمصالحة، وَكَانَ لَا يطْلب
مِنْهُم غداء وَلَا عشَاء غَالِبا وَمَا كَانَت الدُّنْيَا مِنْهُ على
بَال.
وَكَانَ يَقُول فِي كثير من أَحْوَال الْمَشَايِخ إِنَّهَا شيطانية أَو
نفسانية فَينْظر فِي مُتَابعَة الشَّيْخ الْكتاب وَالسّنة فَإِن كَانَ
كَذَلِك فحاله صَحِيح وكشفه رحماني غَالِبا وَمَا هُوَ بالمعصوم، وَله
فِي ذَلِك عدَّة تصانيف تبلغ مجلدات من أعجب الْعجب، وَكم عوفي من
الصراع الجني إِنْسَان بِمُجَرَّد تهديده للجني، وَجَرت لَهُ فِي ذَلِك
فُصُول وَلم يفعل أَكثر من أَن يَتْلُو آيَات وَيَقُول: إِن لم
تَنْقَطِع عَن هَذَا المصروع وَإِلَّا علمنَا مَعَك حكم الشَّرْع
وَإِلَّا عَملنَا مَعَك مَا يُرْضِي الله وَرَسُوله، وَفِي آخر الْأَمر
ظفروا لَهُ بِمَسْأَلَة السّفر لزيارة قُبُور النَّبِيين وَأَن السّفر
وَشد الرّحال لذَلِك مَنْهِيّ عَنهُ لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -: لَا تشد الرّحال إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد مَعَ
اعترافه بِأَن الزِّيَارَة بِلَا شدّ رَحل قربَة فشنعوا عَلَيْهِ بهَا،
وَكتب فِيهَا جمَاعَة بِأَنَّهُ يلْزم من مَنعه شَائِبَة تنقيص للنبوة
فيكفر بذلك.
وَأفْتى عدَّة بِأَنَّهُ مُخطئ بذلك خطأ الْمُجْتَهدين المغفور لَهُم
وَوَافَقَهُ جمَاعَة وَكَبرت الْقَضِيَّة فأعيد إِلَى قاعة بالقلعة
فَبَقيَ بضعَة وَعشْرين شهرا، وَآل الْأَمر إِلَى أَن منع من
الْكِتَابَة والمطالعة وَمَا تركُوا عِنْده كراساً وَلَا دَوَاة،
وَبَقِي أشهراً على ذَلِك، فَأقبل على التِّلَاوَة والتهجد
وَالْعِبَادَة حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِين فَلم يفجأ النَّاس إِلَّا نعيه
وَمَا علمُوا بمرضه فازدحم الْخلق عِنْد بَاب القلعة وبالجامع زحمة
صَلَاة الْجُمُعَة وأرجح، وشيعه الْخلق من أَرْبَعَة أَبْوَاب الْبَلَد
وَحمل على الرؤوس وعاش سبعا وَسِتِّينَ سنة وأشهراً، وَكَانَ أسود
الرَّأْس قَلِيل شيب اللِّحْيَة ربعَة جَهورِي الصَّوْت أَبيض أعين.
قلت: تنقص مرّة بعض النَّاس من ابْن تَيْمِية عِنْد قَاضِي الْقُضَاة
كَمَال الدّين بن الزملكاني وَهُوَ بحلب وَأَنا حَاضر فَقَالَ كَمَال
الدّين: وَمن يكون مثل الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي زهده وَصَبره
وشجاعته وَكَرمه وعلومه، وَالله لَوْلَا تعرضه للسلف لزاحمهم بالمناكب.
وَهَذِه نبذة من تَرْجَمَة الشَّيْخ مختصرة أَكْثَرهَا من الدرة
اليتيمية فِي السِّيرَة التيمية للْإِمَام الْحَافِظ شمس الدّين
مُحَمَّد الذَّهَبِيّ وَالله أعلم.
وفيهَا: اشْتهر موت الْأَمِير شمس الدّين قرا سنقر الجوكندار المنصوري
بَاشر النِّيَابَة
(2/279)
بِمصْر وبدمشق وبحلب، وَعمر جَوَامِع
ومساجد، وَكَانَ ذَا فهم ودهاء وهرب إِلَى التتر فَأَقَامَ عِنْدهم
محتماً، وأقطعوه مراغة وَجَاوَزَ التسعين.
وفيهَا: مَاتَ الْأَمِير سيف الدّين أيجية الأبوبكري وَكَانَ فِيهِ
خير.
وفيهَا: أخرج من سجن قلعة دمشق الشَّيْخ شمس الدّين مُحَمَّد بن أبي
بكر الزرعي إِمَام الجوزية بِشَرْط أَن لَا يدْخل فِي فَتْوَى.
وفيهَا: يَوْم عَرَفَة أخرج علم الدّين الجاولي من الْحَبْس.
وفيهَا: جَاءَ سيل عَظِيم على عجلون خرب سوق التُّجَّار والمارستان
والدباغة وَبَعض الْجَامِع، وَهلك جمَاعَة وعدمت أَمْوَال قدرت
بِمِائَتي ألف وَسبعين ألفا.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَعشْرين وَسَبْعمائة: فِي الْمحرم مِنْهَا توجه
القَاضِي محيي الدّين بن فضل الله إِلَى مصر وَكتب السِّرّ للسُّلْطَان
لفالج أصَاب كَاتب السِّرّ عَلَاء الدّين بن الْأَثِير المعري الأَصْل،
وَكتب السِّرّ بِدِمَشْق القَاضِي شرف الدّين بن الشهَاب مَحْمُود.
وفيهَا: حضر مَعَ الركب الْعِرَاقِيّ فِي تَابُوت جوبان وَولده،
وَأَرَادُوا دفنهما فِي الجوبانية غربي الْحُجْرَة النَّبَوِيَّة وَهِي
فِي غَايَة الْحسن فَأخر دفنهما حَتَّى يَأْتِي مرسوم السُّلْطَان
بذلك.
وفيهَا: فِي الْمحرم مَاتَ بِمصْر الْمُفْتِي الزَّاهِد نجم الدّين
مُحَمَّد بن عقيل البالسي الشَّافِعِي، نَاب عَن ابْن دَقِيق الْعِيد
وَولي قَضَاء دمياط، وَكَانَ من عُلَمَاء مصر.
وفيهَا: فِي صفر مَاتَ عَامل بَيت المَال بِدِمَشْق، وَكَانَ أَولا
سامرياً اسْمه نَفِيس فَسُمي مُحَمَّدًا، وَحفظ الْقُرْآن، وَكَانَ
يقْرَأ فِي السَّبع بِالْحَائِطِ الشمالي.
وَفِيه: مَاتَ الْفَقِيه الصَّالح شهَاب الدّين أَحْمد بن هِلَال
الزرعي الْحَنْبَلِيّ وَالِد القَاضِي برهَان الدّين بِدِمَشْق.
وَفِيه: كمل ترخيم الْحَائِط القبلي بِجَامِع دمشق وزخرفته.
وفيهَا: فِي ربيع الأول توفّي الْأَمِير قطلبك الرُّومِي بِدِمَشْق
وَكَانَ حاجباً وَهُوَ الَّذِي ولي عمَارَة قناة الْقُدس.
وَفِيه: ظهر بِالْقَاهِرَةِ ابْن سَالم والمخدوم وَلَهُمَا أَتبَاع
حرامية كَانُوا يخطفون العمائم فأمسكوا وسم بَعضهم. وفيهَا: فِي ربيع
الآخر قدم أَوْلَاد قرا سنقر المنصوري دمشق وأعطوا أملاكهم بهَا وَأمر
كَبِيرهمْ عَلَاء الدّين بهَا.
وَفِيه: مَاتَ الصَّدْر الْكَبِير نجم الدّين عَليّ بن هِلَال
الْأَزْدِيّ بِدِمَشْق كتب الطباق فَأكْثر وَأوصى أَن يكْتب على قَبره
{يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم لَا تقنطوا من رَحْمَة الله}
(2/280)
وَفِيه دفن جوبان وَابْنه بِالبَقِيعِ وَلم
يمكنا من الدّفن فِي الجوبانية.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى توفّي شَيخنَا الشَّيْخ برهَان الدّين
إِبْرَاهِيم بن الشَّيْخ تَاج الدّين عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم بن
سِبَاع الْفَزارِيّ بالباذرانية وَدفن عقيب الْجُمُعَة بِالْبَابِ
الصَّغِير وشيعه الْخلق، ومولده ربيع الأول سنة سِتِّينَ درس
بالباذرانية، وَله حَلقَة بالجامع جمع بَين حسن الْخلق وَالْكَرم
وَقَضَاء الْحُقُوق ولين العريكة والصيانة والديانة، وَعرضت عَلَيْهِ
بالمناصب الْكِبَار وألح عَلَيْهِ فِيهَا كالقضاء والخطابة بِدِمَشْق
فتمنع.
وساد فِي معرفَة الْمَذْهَب وَله تأليف فِي الْفَرَائِض، وَله تعليقة
على التَّنْبِيه نَحْو عشْرين مجلداً تنبئ عَن اطلَاع عَظِيم
وَتَحْقِيق.
وَله يَد فِي الْأُصُول وَلَا سِيمَا مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب وَفِي
الْمنطق وَكَانَ كثير الدّيانَة والورع والتقشف، أفتى فِي شبيبته وَنزل
عَن الخطابة بعد أَن وَليهَا، وتصدى للاشتغال وَالْفَتْوَى، وَكَانَ
متحرزاً فِي نَقله وفتاويه يقف مَعَ النَّقْل فِي الْفَتَاوَى تديناً
متقللاً من الدُّنْيَا رَحمَه الله تَعَالَى.
قَالَ لي يَوْمًا قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين مُحَمَّد بن النَّقِيب
الشَّافِعِي أحسن الله عاقبته: لقد تصدى الشَّيْخ تَاج الدّين وَولده
برهَان الدّين لنفع هَذِه الْأمة ثَمَانِينَ سنة.
قلت:
(قد كَانَ أعظمهم زهداً وأرفعهم ... مجداً وأسهرهم فِي الْعلم أجفاناً)
(مَا أودع الله من فضل لوالده ... إِلَّا وَنحن نرَاهُ فِي ابْنه
الآنا)
(إِنِّي لأصغر نَفسِي لَازِما أدبي ... من أَن أقيم على الْبُرْهَان
برهاناً)
وَفِيه: مَاتَ بِدِمَشْق شيخ الْحَنَابِلَة مجد الدّين إِسْمَاعِيل
الْحَرَّانِي ومولده سنة سِتّ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة بحران.
كَانَ يقرئ الْكَافِي وَالْمقنع، ويحفظ أَحَادِيث الْأَحْكَام بلفظها
معزوة، يُقَال أَنه قَرَأَ الْمقنع مائَة مرّة.
وَكَانَ خيرا لَا يغتاب أحدا وَلَا يخالط وَلَا يتَكَلَّف فِي ملبس
وَلَا تودد، وَمن كَلَامه: مَا وَقع فِي قلبِي الترفع على أحد فَإِنِّي
خَبِير بنفسي وَلست أعرف أَحْوَال النَّاس.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة مَاتَ بِمصْر الْعَالم البارع معِين
الدّين هبة الله بن حشيش نَاظر الْجَيْش فَاضل ذكي أديب حسن المحاضرة
كثير الِاشْتِغَال عَارِف بِالْحِسَابِ متواضع.
وَفِيه: تولى شهَاب الدّين أَحْمد بن جهيل تدريس الباذرانية مَوضِع
شَيخنَا برهَان الدّين.
وَفِيه: توفّي الصاحب شرف الدّين يَعْقُوب بن جلال الدّين عبد
الْكَرِيم بِمَدِينَة حماه، وَدفن بتربة اسندمر بَاشر نظر المماليك
بِدِمَشْق وحجابة الدِّيوَان بحلب وَنظر الْجَيْش بهَا
(2/281)
وَنظر طرابلس وَغير ذَلِك، وَكَانَ وَاسع
الصَّدْر كثير المكارم رَحمَه الله تَعَالَى.
وفيهَا: فِي رَجَب مَاتَ الشَّيْخ عبد الله أيبك الموله عَتيق الحريري
فَجْأَة بِالْقَاهِرَةِ وشيعه خلائق كَانَ لَا يكلم أحدا وَلَا يستر
عَوْرَته وَيَأْكُل فِي رَمَضَان.
وفيهَا: فِي شعْبَان مَاتَ حسام الدّين الْخَوَارِزْمِيّ حَاجِب
الشَّام، وَكَانَ شَيخا مهيباً يُرْسل إِلَى الْمغرب وَدفن بتربته
بالقبيبات.
وفيهَا: فِي شَوَّال توفّي قَاضِي الْقُضَاة شيخ الشُّيُوخ عَلَاء
الدّين عَليّ بن يُوسُف التبريزي ثمَّ القونوي الشَّافِعِي وَدفن بسفح
قاسيون كَانَ مَحْمُود السِّيرَة فِي قَضَائِهِ متفنناً ومحاسنة جمة
وتواضعه وآدابه وافرة وطاب الثَّنَاء عَلَيْهِ وَشرح الْحَاوِي فِي
مجلدات، وَلما بلغ السُّلْطَان وَفَاته تعجب وَقَالَ: سُبْحَانَ الله
الْعَظِيم كَانَ القَاضِي بدر الدّين ابْن جمَاعَة عمره قَاضِيا وَمَات
صوفياً وَكَانَ القونوي عمره صوفياً وَمَات قَاضِيا.
قلت:
(إِن رمت تذكر فِي زَمَانك عَالِيا ... متواضعاً فابدأ بِذكر القونوي)
(ولي الْقَضَاء وَصَارَ شيخ شيوخهم ... وَالْقلب مِنْهُ على التصوف
منطوي)
(زادوه تَعْظِيمًا فَزَاد تواضعاً ... الله أكبر هَكَذَا الْبشر
السنوي)
وَفِيه: رسم ملك الْأُمَرَاء سيف الدّين تنكز بتوسعة الطّرق بِدِمَشْق
كسوق السِّلَاح وَبَاب الْبَرِيد وسوق مَسْجِد الْقصب وخارج بَاب
الْجَابِيَة وَأصْلح قنى دمشق وَخَربَتْ أَمْلَاك النَّاس وخسرت
عَلَيْهَا أَمْوَال حَتَّى عَادَتْ.
قلت فَقيل فِي ذَلِك:
(يَا جلق الفيحاء لَا تفرحي ... بِمَا جرى من سَعَة الطّرق)
(قد كَانَ فِي طرقك ضيق وَقد ... أصبح مَنْقُولًا إِلَى الرزق)
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة مَاتَ الصاحب الْكَبِير عز الدّين حَمْزَة بن
عَليّ بن القلانسي الدِّمَشْقِي وَدفن بتربتهم بالصالحية ولي الوزارة،
وَكَانَ رَئِيس زَمَانه بِدِمَشْق.
وَفِيه: أخرجت كلاب دمشق وألقيت فِي الخَنْدَق وَفصل بَين الْإِنَاث
والذكور بحائط لِئَلَّا تتوالد قيل كَانَت خَمْسَة آلَاف كلب.
قلت: لَا يغتر أحد بقول النَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة يكره قتل الْكَلْب
الَّذِي لَيْسَ بعقور كَرَاهَة تَنْزِيه فَإِن المصنفين مصرحون
بِالتَّحْرِيمِ حَتَّى النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب قَالَ وَقَالَ
إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْأَمر بقتل الْكلاب مَنْسُوخ، وَقد صَحَّ
أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمر بقتل الْكلاب مرّة،
ثمَّ صَحَّ أَنه نهى عَن قَتلهَا، قَالَ: وَاسْتقر الشَّرْع عَلَيْهِ
على التَّفْصِيل الْمَعْرُوف فَأمر بقتل الْأسود إِلَيْهِم، وَكَانَ
هَذَا فِي الإبتداء وَهُوَ الْآن مَنْسُوخ، هَذَا كَلَام إِمَام
الْحَرَمَيْنِ وَلَا مزِيد على تَحْقِيقه وَالله أعلم.
(2/282)
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة:
فِيهَا فِي الْمحرم توفّي القَاضِي عَلَاء الدّين عَليّ بن الْأَثِير
كَانَ كَاتب السِّرّ بِمصْر ثمَّ فلج وَانْقطع فولي مَكَانَهُ القَاضِي
مُحي الدّين بن فضل الله.
وَفِيه: مَاتَ الشَّيْخ فتح الدّين بن قرناص الْحَمَوِيّ ولي نظر جَامع
حماه، وَله نظم.
وَفِيه: قدم قَاضِي الْقُضَاة علم الدّين مُحَمَّد بن أبي بكر الأخناني
صُحْبَة نَائِب الشَّام عوضا عَن القونوي.
فِيهِ: توفّي الْوَزير الزَّاهِد الْعَالم أَبُو الْقَاسِم مُحَمَّد بن
الْوَزير الْأَزْدِيّ الغرناطي بِالْقَاهِرَةِ قَافِلًا من الْحَج بلغ
من الجاه بِبَلَدِهِ إِلَى أَنه كَانَ يولي فِي الْملك ويعزل، وَكَانَ
ورعاً شرِيف النَّفس عَاقِلا أوصى أَن تبَاع ثِيَابه وَكتبه
وَيتَصَدَّق بهَا.
وفيهَا: فِي صفر مَاتَ بِدِمَشْق سيف الدّين بهادر المنصوري بداره شيعه
النَّائِب والأعيان.
وَفِيه: مَاتَ مُسْند الْعَصْر شهَاب الدّين أَحْمد بن أبي طَالب
الصَّالِحِي الحجار ابْن شحنة الصالحية توفّي بعد السماع عَلَيْهِ
بِنَحْوِ من ساعتين كَانَ ذَا دين وهمة وعقل وَإِلَيْهِ الْمُنْتَهى
فِي الثَّبَات وَعدم النعاس، وحصلت لَهُ للرواية خلع ودراهم وَذهب
وإكرام، وشيعه الْخلق والقضاة وَنزل النَّاس بِمَوْتِهِ دَرَجَة.
وَفِيه: توفّي قَاضِي الْقُضَاة فَخر الدّين عُثْمَان بن كَمَال الدّين
مُحَمَّد ابْن الْبَارِزِيّ الْحَمَوِيّ الْجُهَنِيّ قَاضِي حلب
فَجْأَة بعد أَن تَوَضَّأ وَجلسَ بِمَجْلِس الحكم ينْتَظر إِقَامَة
الْعَصْر، حج غير مرّة، وَكَانَ يعرف الْحَاوِي فِي الْفِقْه وَشَرحه
فِي سِتّ مجلدات، وَكَانَ يعرف الحاجبية والتصريف، وَكَانَ فِيهِ دين
وصداقة رَحمَه الله تَعَالَى.
وَفِيه فِي ربيع الآخر: تولى قَضَاء الْقَضَاء بحلب القَاضِي شمس
الدّين مُحَمَّد بن النَّقِيب نقل من طرابلس وَولي طرابلس بعده شمس
الدّين مُحَمَّد بن الْمجد عِيسَى البعلي سَار من دمشق إِلَيْهَا.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى أنشأ الْأَمِير الْعَالم سيف الدّين
مغلطاي النَّاصِر مدرسة حنفية بِالْقَاهِرَةِ ومكتب أَيْتَام.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة مَاتَ الْأَمِير الْعَالم سيف الدّين
أَبُو بكر مُحَمَّد بن صَلَاح الدّين بن صَاحب الكرك بِالْجَبَلِ
وَكَانَ فَاضلا شَاعِرًا.
وَفِيه: وصل الْخَبَر بعافية السُّلْطَان من كسر يَده فزينت دمشق وخلع
على الْأُمَرَاء والأطباء.
وَفِيه: مَاتَ بِمَكَّة قاضيها الإِمَام نجم الدّين أَبُو حَامِد.
وَفِيه: مَاتَ الشَّيْخ إِبْرَاهِيم الهدمة، وَله كرامات وشهرة.
وَفِيه: حضرت رسل الفرنج يطْلبُونَ بعض الْبِلَاد فَقَالَ السُّلْطَان:
لَوْلَا أَن الرُّسُل لَا يقتلُون أَعْنَاقكُم ثمَّ سفروا.
(2/283)
وفيهَا: فِي رَجَب مَاتَت زَوْجَة تنكز
وَعمل لَهَا تربة حَسَنَة قرب بَاب الخوصين ورباطاً.
وفيهَا: فِي رَمَضَان مَاتَ قَاضِي طرابلس شمس الدّين مُحَمَّد بن مجد
الدّين عِيسَى الشَّافِعِي البعلي، وَكَانَ صَاحب فنون.
قلت:
(لقد عَاشَ دهراً يخْدم الْعلم جهده ... وَكَانَ قَلِيل الْمثل فِي
الْعلم والود)
(فَلَمَّا تولى الحكم مَا عَاشَ طائلاً ... فَمَا هنئ ابْن الْمجد
وَالله بالمجد)
وَفِيه: أنشأ الْأَمِير سيف الدّين قوصون الناصري جَامعا عِنْد جَامع
طولون عِنْد دَار قتال السَّبع، فَخَطب بِهِ أول يَوْم قَاضِي
الْقُضَاة جلال الدّين بِحُضُور السُّلْطَان، وَقرر لخطابته القَاضِي
فَخر الدّين مُحَمَّد بن شَاكر.
وفيهَا: فِي شَوَّال مَاتَ رَئِيس الكحالين نور الدّين عَليّ بِمصْر.
وَفِيه: احترقت الْكَنِيسَة الْمُعَلقَة بِمصْر وَبقيت كوماً.
وَفِيه: قدم رَسُول صَاحب الْيمن بهدية فقيد وسجن لِأَن صَاحب الْهِنْد
بعث إِلَى السُّلْطَان بِهَدَايَا فَأَخذهَا صَاحب الْيمن وَقتل بعض من
كَانَ مَعهَا وَحبس بَعضهم.
وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة مَاتَ الْأَمِير عَلَاء الدّين قلبرس بن
الْأَمِير عَلَاء الدّين طبرس بِدِمَشْق بِالسَّهْمِ وَكَانَ مقدم ألف،
وَله مَعْرُوف وَخلف أَمْوَالًا، وَمَات الْأَمِير سيف الدّين كوليجار
بالمحمدي.
وفيهَا: بِدِمَشْق فِي ذِي الْحجَّة مَاتَ المعمر الْمسند زين الدّين
أَيُّوب بن نعْمَة، وَكَانَت لحيته شَعرَات يسيرَة، وَكَانَ كحالاً
وَمَات بهَا أَيْضا الصَّالح الزَّاهِد الشَّيْخ حسن الْمُؤَذّن
بالمأذنة بالشرقية بالجامع، وَكَانَ مجاوراً بِهِ وَمَات بدر الدّين
مُحَمَّد بن الْمُوفق إِبْرَاهِيم بن دواد بن الْعَطَّار أَخُو
الشَّيْخ عَلَاء الدّين ببستانه وَصَلَاح الدّين يُوسُف بن شيخ
السلامية صهر الصاحب وشيعه الْخلق وفجع بِهِ أَبَوَاهُ، وَكَانَ
شَابًّا متميزا من أَبنَاء الدُّنْيَا المتنعمين.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة فِيهَا: وَردت كتب
الْحجَّاج بِمَا جرى بِمَكَّة شرفها الله تَعَالَى حول الْبَيْت من
ثورة عبيد مَكَّة سَاعَة الْجُمُعَة بالوفد من النهب والجراحة، وَقتل
جمَاعَة من الْحجَّاج، وَقتل أَمِير مصري وَهُوَ أيدمر أَمِير جندار
وَابْنه، وَلما بلغ السُّلْطَان ذَلِك غضب وجرد جَيْشًا من مصر
وَالشَّام للانتقام من فاعلي ذَلِك.
وفيهَا: فِي الْمحرم أَيْضا مَاتَ الْأَمِير الْكَبِير شهَاب الدّين
طغان بن مقدم الجيوش سنقر الْأَشْقَر وَدفن بالقرافة جَاوز السِّتين،
وَكَانَ حسن الشكل، وَمَات الصَّالح كَمَال الدّين مُحَمَّد بن
الشَّيْخ تَاج الدّين الْقُسْطَلَانِيّ بِمصْر سمع ابْن الدهان وَابْن
علاق والنجيب وَحدث، وَكَانَ صوفياً.
(2/284)
وفيهَا: فِي صفر مَاتَ قَاضِي الْقُضَاة عز
الدّين مُحَمَّد بن قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين سُلَيْمَان بن
حَمْزَة الْحَنْبَلِيّ بِدِمَشْق بالدير ومولده فِي ربيع الآخر سنة خمس
وَسِتِّينَ سمع من الشَّيْخ وَابْن النجارية وَأبي بكر الْهَرَوِيّ
وَطَائِفَة، وَأَجَازَ لَهُ ابْن عبد الدَّائِم، وَكَانَ عَاقِلا ولي
الْقَضَاء بعد ابْن مُسلم وَحج ثَلَاث مَرَّات.
وَمَاتَتْ: أم الْحسن فَاطِمَة بنت الشَّيْخ علم الدّين البرزالي
سَمِعت الْكثير من خلق وَحدثت وكتبت ربعَة وَأَحْكَام ابْن تَيْمِية
وَالصَّحِيح وحجت وَكَانَت تجتهد يَوْم الْحمام أَن لَا تدخل حَتَّى
تصلي الظّهْر وتحرص فِي الْخُرُوج لإدراك الْعَصْر رَحمهَا الله
تَعَالَى.
وفيهَا: فِي صفر أَيْضا وصل نهر الساجور إِلَى نهر قويق وانصبا إِلَى
حلب بعد غَرَامَة أَمْوَال عَظِيمَة، وتعب من الْعَسْكَر والرعايا
بتولية الْأَمِير فَخر الدّين طمان.
وفيهَا: فِي ربيع الأول مَاتَ بحلب الْأَمِير سيف الدّين أرغون الناصري
نائبها، وَخرجت جنَازَته بِلَا تَابُوت وعَلى النعش كسَاء بالفقيري من
غير ندب وَلَا نياحة وَلَا قطع شعر وَلَا لبس جلّ وَلَا تَحْويل سرج
حَسْبَمَا أوصى بِهِ وَدفن بسوق الْخَيل تَحت القلعة وعملت عَلَيْهِ
تربة حَسَنَة وَلم يَجْعَل على قَبره سقف وَلَا حجرَة بل التُّرَاب لَا
غير.
وَكَانَ متقناً لحفظ الْقُرْآن مواظباً على التلاوت، عِنْده فقه وَعلم،
وَيرد أَحْكَام النَّاس إِلَى الشَّرْع الشريف حَتَّى كَانَ بعض
الْجُهَّال يُنكر عَلَيْهِ ذَلِك، وَكتب صَحِيح البُخَارِيّ بِخَطِّهِ
بعد مَا سَمعه من الْحجاز، واقتنى كبتاً نفيسة وَكَانَ عَاقِلا وَفِيه
ديانَة رَحمَه الله.
وفيهَا: فِي صفر أَيْضا ولي قَضَاء الْحَنَابِلَة بِدِمَشْق الشَّيْخ
شرف الدّين بن الْحَافِظ واستناب ابْن أَخِيه القَاضِي تَقِيّ الدّين
عبد الله بن أَحْمد وَمَات القَاضِي الْفَقِيه الأديب ضِيَاء الدّين
عَليّ بن سليم بن ربيعَة الْأَذْرَعِيّ الشَّافِعِي بالرملة نَاب عَن
القَاضِي عز الدّين بن الصَّائِغ وناب بِدِمَشْق عَن القونوي، ونظم
التَّنْبِيه فِي الْفِقْه فِي سِتَّة عشر الف بَيت وشعره كثير.
وَمَات: الرئيس زين الدّين يُوسُف بن مُحَمَّد بن النصيبي بحلب سمع من
شيخ الشُّيُوخ عز الدّين مُسْند الْعشْرَة وَحدث قَارب الثَّمَانِينَ.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر مَاتَ الْأَمِير سيف الدّين طرشي الناصري
بِمصْر أَمِير مائَة حج غير مرّة، وَفِيه ديانَة، وَمَات الشَّيْخ
عَلَاء الدّين بن صَاحب الجزيرة الْملك الْمُجَاهِد إِسْحَاق بن صَاحب
الْموصل لُؤْلُؤ بِمصْر سمع جُزْء بن عَرَفَة من النجيب الوجمعة من
ابْن علاق.
وَكَانَ جندياً لَهُ ميرة وَمَات بحلب نور الدّين حسن بن الشَّيْخ
الْمقري جمال الدّين الفاضلي، روى عَن زَيْنَب بنت مكي، وَكَانَ كَاتبا
بحلب، وَمَات الْأَمِير علم الدّين سنجر البرواني بِمصْر فَجْأَة،
كَانَ أَمِير خمسين من الشجعان، وَمَات الصَّالح الْمسند شرف الدّين
أَحْمد بن عبد المحسن بن الرّفْعَة الْعَدوي سمع وَحدث وَمَات لَيْلَة
الْجُمُعَة تَاسِع وَعشْرين
(2/285)
ربيع الآخر، وَمَات بدر الدّين مُحَمَّد بن
ناهض أَمَام الفردوس بحلب سمع عوالي الغيلانيات الْكَبِير على القطب
ابْن عصرون وَحدث وَله نظم، وَمَات رَئِيس المؤذنين بِجَامِع الْحَاكِم
نجم الدّين أَيُّوب بن عَليّ الصُّوفِي وَكَانَ بارعاً فِي فنه، لَهُ
أوضاع عَجِيبَة وآلات غَرِيبَة.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى عَاد الْأَمِير عَلَاء الدّين الطنبغا
إِلَى نِيَابَة حلب وَفَرح النَّاس بِهِ وأظهروا السرُور.
وفيهَا: حضر بِمَكَّة الْأَمِير رميثة بن أبي نمى الحسني وَقُرِئَ
تَقْلِيده، وَلبس الخلعة بِولَايَة مَكَّة، وَحلف مقدم الْعَسْكَر
الَّذين وصلوا إِلَيْهِ والأمراء لَهُ بِالْكَعْبَةِ الشَّرِيفَة،
وَكَانَ يَوْمًا مشهوداً وَكَانَ وُصُول الْجَيْش إِلَى مَكَّة سَابِع
عشر ربيع الآخر.
وَفِيه: مَاتَ الإِمَام الْوَرع موفق الدّين أَبُو الْفَتْح
الْجَعْفَرِي الْمَالِكِي وشيعه خلق إِلَى القرافة، وقارب السّبْعين
وَلم يحدث، وَمَات الْعدْل المعمر برهَان الدّين إِبْرَاهِيم بن عبد
الْكَرِيم الْعَنْبَري، بَاشر الصَّدقَات والأيتام والمساجد، وَهُوَ
خَال ابْن الزملكاني، وَمَات القَاضِي تَاج الدّين بن النظام
الْمَالِكِي بِالْقَاهِرَةِ، وَمَات " أَبُو دبوس " المغربي بِمصْر قيل
أَنه ولي مملكة قابس ثمَّ أخذت مِنْهُ فترح فَأعْطِي إقطاعاً فِي
الْحلقَة.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة مَاتَ القَاضِي التَّاج أَبُو إِسْحَاق
عبد الْوَهَّاب بن عبد الْكَرِيم وَكيل السُّلْطَان وناظر الْخَواص
بِمصْر.
وَفِيه: وصل إِلَى دمشق الْعَسْكَر الْمُجَرّد إِلَى مَكَّة ومقدمهم
الجي بغا غَابُوا خَمْسَة أشهر سوى أَرْبَعَة أَيَّام وَأَقَامُوا
بِمَكَّة شهرا وَيَوْما وَحصل بهم الرعب فِي قُلُوب الْعَرَب وهرب من
بَين أَيْديهم عظيفة والأشراف بأهلهم وثقلهم، وَعوض عَن عطيفة بأَخيه
رميثة وَقرر مَكَانَهُ.
وَمَات الْأَمِير حسام الدّين طرنطاي العادلي الدواتدار بِمصْر،
وَكَانَ دينا وَله سَماع، وَمَات الْمجد بن اللفنية نَاظر الدَّوَاوِين
بِالْقَاهِرَةِ، وَمَات الرئيس تَاج الدّين بن الدماملي كَبِير
الكرامية بِمصْر قيل ترك مائَة ألف دِينَار وَوصل الْحَاج عمر بن جَامع
السلَامِي إِلَى دمشق من إصْلَاح عين تَبُوك جمع لَهَا من التُّجَّار
دون عشْرين ألفا وأحكمت.
وفيهَا: فِي رَجَب مَاتَ بِمصْر الْعَلامَة فَخر الدّين عُثْمَان بن
إِبْرَاهِيم التركماني سمع من الأبرقوهي وَشرح الْجَامِع الْكَبِير
وألقاه فِي المنصورية دروساً، وَكَانَ حسن الْأَخْلَاق.
فصيحاً ودرس بهَا بعده ابْنه.
وَمَات: بِمصْر القَاضِي جمال الدّين بن عمر البوزنجي الْمَالِكِي معيد
المنصورية.
وفيهَا: فِي شعْبَان كَانَ بِدِمَشْق ريح عَاصِفَة حطمت الْأَشْجَار،
ثمَّ وَقع فِي تاسعه برد عَظِيم قدر البندق.
(2/286)
وَفِيه: جَاءَ من الكرك الْملك أَحْمد بن
مَوْلَانَا السُّلْطَان الْملك النَّاصِر وختن بعد ذَلِك بأيام وأنفذ
إِلَى الكرك أَخ لَهُ اسْمه إِبْرَاهِيم.
وَمَات سيف الدّين قشتمر الطباخي الناصري بِمصْر كهلاً تفقه لأبي
حنيفَة، وَكَانَ دينا، وأحدثت بِالْمَدْرَسَةِ المعزية على شاطئ النّيل
الْخطْبَة وخطب عز الدّين عبد الرَّحِيم بن الْفُرَات حَنَفِيّ رتب
ذَلِك سيف الدّين طقز دمر أَمِير الْجَيْش.
وفيهَا: فِي رَمَضَان قدم دمشق الْعَلامَة تَاج الدّين عمر بن عَليّ
اللَّخْمِيّ بن الْفَاكِهَانِيّ الْمَالِكِي من الْإسْكَنْدَريَّة
لزيارة الْقُدس وَالْحج فَحدث بِبَعْض تصانيفه، وَسمع الشِّفَاء وجامع
التِّرْمِذِيّ من ابْن طرخان وصنف جُزْءا فِي أَن عمل المولد فِي ربيع
الأول بِدعَة.
وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة مَاتَ الصاحب تَقِيّ الدّين بن السلعوس
بِالْقَاهِرَةِ فَجْأَة حج وَسمع من القارون.
وَمَات القَاضِي جمال الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن القلانسي
التَّمِيمِي، ودرس بالأمينية والظاهرية وَعمل الْإِنْشَاء بِدِمَشْق.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة مَاتَ الْأَمِير نجم الدّين البطاحي ولي
أستاذ دارية السلطنة، وَمَات أَمِين الدّين بن البض، أنْفق أَمْوَالًا
فِي بِنَاء خَان المزيرب وَفِي بِنَاء مَسْجِد الذُّبَاب والمأذنة قيل
أنْفق فِي وُجُوه الْبر مِائَتي ألف وَخمسين ألفا وَمَات بِدِمَشْق
الْأَمِير ركن الدّين عمر بن بهادر، وَكَانَ مليح الشكل وَجَاء
التَّقْلِيد بمناصب جمال الدّين بن القلانسي لِأَخِيهِ.
ثمَّ دخلت سنة إثنتين وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة: فِي الْمحرم مِنْهَا
توفّي الشَّيْخ الْكَبِير العابد الْمقري أَبُو عبد الرَّحْمَن بن أبي
مُحَمَّد بن سُلْطَان القرامزي الْحَنْبَلِيّ بجوبر وَدفن بتربة لَهُ
جوَار قبَّة القلندرية بِدِمَشْق.
وَكَانَ مَشْهُورا بالمشيخة يتَرَدَّد إِلَيْهِ النَّاس سمع من ابْن
أبي الْيُسْر وَابْن عَسَاكِر وَحدث بِدِمَشْق ومصر، وَقَرَأَ
بالروايات على الشَّيْخ حسن الصّقليّ.
وَمَات الْأَمِير الْكَبِير علم الدّين الدميثري ولي نِيَابَة قلعة
دمشق مُدَّة وَحصل بحمص سيل عَظِيم هلك بِهِ خلائق وَمَات بحمام تنكز
بهَا نَحْو مِائَتي إمرأة وصغير وصغيرة وَجَمَاعَة رجال دخلُوا ليخلصوا
النِّسَاء وَهلك بعض المتفرجين بالجزيرة وانهدمت دَار المستوفي وَهلك
ابْنه وصاروا يخرجُون الْمَوْتَى من بواليع الْحمام والقمين وَكَانَ
بالحمام عروس فَلهَذَا كثر النِّسَاء بالحمام، وَمَات بِمصْر الْأَمِير
عَلَاء الدّين مغلطاي الجمالي وزر بِمصْر وَحج بالمصريين.
وَمَات: السُّلْطَان الْملك الْمُؤَيد إِسْمَاعِيل بن الْملك
الْأَفْضَل على صَاحب حماه، وَله تصانيف حَسَنَة مَشْهُورَة مِنْهَا
أصل هَذَا الْكتاب ونظم الْحَاوِي وَشَرحه شَيخنَا قَاضِي الْقُضَاة
شرف الدّين بن الْبَارِزِيّ شرحاً حسنا، وَله كتاب تَقْوِيم الْبلدَانِ
وَهُوَ حسن فِي بَابه، تسلطن بحماه فِي أول سنة عشْرين بعد نيابتها
رَحمَه الله تَعَالَى.
(2/287)
وَكَانَ سخياً محباً للْعلم وَالْعُلَمَاء،
متقناً يعرف علوماً، وَلَقَد رَأَيْت جمَاعَة من ذَوي الْفضل
يَزْعمُونَ أَنه لَيْسَ فِي الْمُلُوك بعد الْمَأْمُون أفضل مِنْهُ
رَحمَه الله تَعَالَى.
وفيهَا: فِي صفر مَاتَ قَاضِي الجزيرة شمس الدّين مُحَمَّد بن
إِبْرَاهِيم بن نصر الشَّافِعِي، وَكَانَ لَهُ تعالق بالدولة ومكاتبة
من بَلَده، ثمَّ تحول إِلَى دمشق.
وَفِيه: تملك حماه " السُّلْطَان الْملك الْأَفْضَل " نَاصِر الدّين
مُحَمَّد بن الْملك الْمُؤَيد على قَاعِدَة أَبِيه وَهُوَ ابْن عشْرين
سنة.
وفيهَا فِي ربيع الأول مَاتَ بِالْقَاهِرَةِ القَاضِي الإِمَام
الْمُحدث تَاج الدّين أَبُو الْقَاسِم عبد الْغفار بن مُحَمَّد بن عبد
الْكَافِي بن عوض السَّعْدِيّ سعد خدام الشَّافِعِي، ولد سنة خمسين
وسِتمِائَة تفقه وَقَرَأَ النَّحْر على الْأمين الْمحلي وَسمع من ابْن
عزوة وَابْن عَلان وَجَمَاعَة وارتحل فلقي بالثغر عُثْمَان بن عَوْف
وَعمل مُعْجَمه فِي ثَلَاث مجلدات، وَأَجَازَ لَهُ ابْن عبد الدَّائِم،
وروى الْكثير وَخرج أَرْبَعِينَ تساعيات وَأَرْبَعين مسلسلات.
وَكَانَ حسن الْخط والضبط متقناً، ولي مشيخة الحَدِيث بالصاحبية
وَأفْتى، وَذكر أَنه كتب بِخَطِّهِ أَزِيد من خَمْسمِائَة مُجَلد،
وَمَات بِدِمَشْق الْعَلامَة رَضِي الدّين إِبْرَاهِيم بن سُلَيْمَان
الرُّومِي الْحَنَفِيّ الْمَعْرُوف بالمنطقي بِدِمَشْق بالنورية،
وَكَانَ دينا متواضعاً محسناً إِلَى تلامذته حج سبع مَرَّات، وَمَات
الْأَمِير عَلَاء الدّين طنبغا السلحدار عمل نِيَابَة حمص ثمَّ
نِيَابَة غَزَّة وَبهَا مَاتَ وَحج بالشاميين سنة إِحْدَى عشرَة
وَسَبْعمائة.
وَمَات بِمَكَّة خطيبها الإِمَام بهاء الدّين مُحَمَّد بن الْخَطِيب
تَقِيّ الدّين عبد الله بن الشَّيْخ الْمُحب الطَّبَرِيّ لَهُ نظم ونثر
وخطب، وَفِيه كرم ومروءة وفصاحة وخطب بعده أَخُوهُ التَّاج عَليّ.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر ركب بشعار السلطنة الْملك الْأَفْضَل
الْحَمَوِيّ بِالْقَاهِرَةِ وَبَين يَدَيْهِ الغاشية، ونشرت العصائب
السُّلْطَانِيَّة والخليفية على رَأسه وَبَين يَدَيْهِ الْحجاب
وَجَمَاعَة من الْأُمَرَاء وفرسه بِالرَّقَبَةِ بالشبابة وَصعد القلعة
هَكَذَا.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى مَاتَ قَاضِي الْقُضَاة بِدِمَشْق شرف
الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن الإِمَام شرف الدّين حسن بن
الْحَافِظ أبي مُوسَى بن الْحَافِظ الْكَبِير عبد الْغَنِيّ
الْمَقْدِسِي الْحَنْبَلِيّ فَجْأَة، كَانَ شَيخا مُبَارَكًا.
وَمَات فَخر الدّين عَليّ بن سُلَيْمَان طَالب بن كثيرات بِدِمَشْق
وَمَات بالإسكندرية الصَّالح الْقدْوَة الشَّيْخ ياقوت الحبشي
الإسكندري الشاذلي، وَكَانَت جنَازَته مَشْهُودَة، وَقد جَاوز
الثَّمَانِينَ، كَانَ من أَصْحَاب أبي الْعَبَّاس المرسي.
وفيهَا: فِي رَجَب مَاتَ الإِمَام الصَّالح عز الدّين عبد الرَّحْمَن
بن الشَّيْخ الْعِزّ إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن أبي عمر الْمَقْدِسِي
الْحَنْبَلِيّ سمع أَبَاهُ وَابْن عبد الدَّائِم وَجَمَاعَة، وَكَانَ
خيرا بشوشاً رَأْسا فِي الْفَرَائِض.
(2/288)
وَمَات بِدِمَشْق الناصح مُحَمَّد بن عبد
الرَّحِيم بن قَاسم الدِّمَشْقِي النَّقِيب الجنائزي، كَانَ خَبِيرا
بألقاب النَّاس يحصل الدَّرَاهِم وَالْخلْع ويتقيه النَّاس عفى الله
عَنهُ.
وَمَات بِمصْر فَخر الدّين بن مُحَمَّد بن فضل الله كَاتب المماليك
نَاظر الجيوش المصرية، كَانَ لَهُ بر وَعَدَمه النَّاس وَعرفُوا قدره
بوفاته فَإِنَّهُ كَانَ يُشِير على السُّلْطَان بالخيرات وَيرد عَن
النَّاس أموراً معظمات.
قلت:
(وَكم أُمُور حدثت بعده ... حَتَّى بَكت حزنا عَلَيْهِ الرتوت)
(لَو لم يمت مَا عرفُوا قدره ... مَا يعرف الْإِنْسَان حَتَّى يَمُوت)
سمع من ابْن الأبرقوهي واحتيط على حواصله وَمَات شيخ الْقُرَّاء شهَاب
الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن يحي بن أبي الحزم سبط السلعوس النابلسي
ثمَّ الدِّمَشْقِي ببستانه بِبَيْت لهيا، وَكَانَ سَاكِنا وقوراً.
وَمَات بِمصْر الْأَمِير سيف الدّين إيجية الدواتدار الناصرية
الْفَقِيه الْحَنَفِيّ كهلاً، وَولي المنصب بعده الْأَمِير صَلَاح
الدّين يُوسُف بن الأسعد، ثمَّ عزل بعد مُدَّة.
وفيهَا: فِي شعْبَان كَانَ عرس الْملك مُحَمَّد بن السُّلْطَان على
زَوجته بنت بكتمر الساقي وسوارها ألف ألف دِينَار مصرية، وَذبح خيل
وجمال وبقر وغنم وأوز ودجاج فَوق عشْرين ألف رَأس وَحمل لَهُ ألف
قِنْطَار شمع وَعقد لَهُ ثَمَانِيَة عشر ألف قِنْطَار حلوى سكرية
وَأنْفق على هَذَا الْعرس أَشْيَاء لَا تحصى.
وَمَات: بِالْقَاهِرَةِ جمال الدّين مُحَمَّد بن بدر الدّين مُحَمَّد
بن جمال الدّين مُحَمَّد بن مَالك الطَّائِي الجياني بلغ الْخمسين،
وَسمع من ابْن النجاري جرأ خرجه لَهُ عَمه، وَله نظم جيد وَله يحدث.
وَمَات الْأَمِير سيف الدّين ساطي صهر سلار من الْعُقَلَاء وَفِيه
ديانَة وَله حُرْمَة وافرة وَمَات بِدِمَشْق أَمِين الدّين سُلَيْمَان
بن دَاوُد الطَّبِيب تلميذ الْعِمَاد الدنيسري كَانَ سعيداً فِي علاجه
وَحصل أَمْوَالًا.
قلت:
(مَاتَ سُلَيْمَان الطَّبِيب الَّذِي ... أعده النَّاس لسوء المزاج)
(لم يفده طب وَلم يغنه ... علم وَلم يَنْفَعهُ حسن العلاج)
كَانَ مقدما على المداواة ودرس بالدخوارية مُدَّة وعاش نَحْو سبعين
سنة.
وَفِيه: طَغى مَاء الْفُرَات وارتفع وَوصل إِلَى الرحبة وَتَلفت زروع،
وانكسر السكر بدير بسير كسرا ذرعه اثْنَان وَسَبْعُونَ ذِرَاعا وَحصل
تألم عَظِيم وَعمِلُوا السكر فَلَمَّا قَارب الْفَرَاغ انْكَسَرَ
مِنْهُ جَانب وغلت الأسعار بِهَذَا السَّبَب وتعب النَّاس بصعوبة هَذَا
الْعَمَل.
(2/289)
وفيهَا: فِي رَمَضَان أَمر بِدِمَشْق
الْأَمِير عَليّ بن نَائِب دمشق سيف الدّين تنكز وَلبس الخلعة عِنْد
قبر نور الدّين الشَّهِيد الْمَشْهُور بإجابة الدُّعَاء عِنْده، وَمَشى
الْأُمَرَاء فِي خدمته إِلَى العتبة السُّلْطَانِيَّة فقبلها.
وَفِيه: نقل من دمشق إِلَى كِتَابَة السِّرّ بالأبواب السُّلْطَانِيَّة
القَاضِي شرف الدّين أَبُو بكر بن مُحَمَّد بن الشَّيْخ شهَاب الدّين
مَحْمُود، وَنقل إِلَى دمشق القَاضِي محيي الدّين بن فضل الله وَولده
وَمَات بِدِمَشْق فَجْأَة الْأَمِير سيف الدّين بلبان العنقاوي الزراق
السَّاكِن بالسبعة، وَقد جَاوز السّبْعين من أُمَرَاء الْأَرْبَعين
وَمَات شيخ الْقُرَّاء ذُو الْفُنُون برهَان الدّين أَبُو إِسْحَاق
إِبْرَاهِيم بن عمر الجعبري الشَّافِعِي بالخليل ومولده سنة
أَرْبَعِينَ وسِتمِائَة، وتصانيفه كَثِيرَة إشتغل بِبَغْدَاد، وَقَرَأَ
التَّعْجِيز على مُصَنفه بالموصل وَأقَام شَيخا أَرْبَعِينَ سنة.
وَمَات: بِمصْر الْأَمِير سيف الدّين سلامش الظَّاهِرِيّ أَمِير خمسين
وَقد قَارب التسعين، وَكَانَ دينا صَالحا.
وفيهَا: فِي شَوَّال توجه السُّلْطَان لِلْحَجِّ بأَهْله ومعظم أمرائه
فِي حشمة عَظِيمَة، وَمَات الإِمَام شهَاب الدّين أَبُو أَحْمد عبد
الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عَسْكَر الْمَالِكِي مدرس المستنصرية
بِبَغْدَاد وَله مصنفات فِي الْفِقْه، وَكَانَ حسن الْأَخْلَاق ولد فِي
سنة أَربع وَأَرْبَعين بِبَاب الأزج.
وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة مَاتَ قَاضِي الْقُضَاة علم الدّين مُحَمَّد
بن أبي بكر بن عِيسَى بن بدران السَّعْدِيّ الْمصْرِيّ بن الأخنائي
بالعادلية بِدِمَشْق وَدفن بسفح قاسيون، كَانَ من شُهُود الخزانة
بِمصْر ثمَّ جعل حَاكما بالإسكندرية ثمَّ بِدِمَشْق وَكتب الحكم
لِابْنِ دَقِيق الْعِيد ولازم الدمياطي مُدَّة وَسمع من أبي بكر بن
الْأنمَاطِي وَجَمَاعَة ومولده عَاشر رَجَب سنة أَربع وَسِتِّينَ
وسِتمِائَة.
وَكَانَ عفيفاً فَاضلا عَاقِلا نزهاً متديناً محباً للْحَدِيث
وَالْعلم، شرح بعض كتاب البُخَارِيّ.
وَفِيه: وَفِي النّيل قبل النيروز بِثَلَاثَة وَعشْرين يَوْمًا وَبلغ
أحد عشر من تِسْعَة عشر وَهَذَا لم يعْهَد من سِتِّينَ سنة وغرق
أَمَاكِن وأتلف للنَّاس من الْقصب مَا يزِيد على ألف ألف دِينَار
وَثَبت على الْبِلَاد أَرْبَعَة أشهر.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة مَاتَ قطب الدّين مُوسَى بن أَحْمد بن حسان
ابْن الشَّيْخ السلامية.
وَكَانَ نَاظر الْجَيْش الشَّامي وَمرَّة الْمصْرِيّ، وَدفن بتربة
أَنْشَأَهَا بِجنب جَامع الأفرم وعاش اثْنَتَيْنِ وَسبعين ورثاه عَلَاء
الدّين بن غَانِم.
وَمَات الشَّيْخ الصَّالح الْمقري شمس الدّين مُحَمَّد بن النَّجْم أبي
تغلب بن أَحْمد بن أبي تغلب الفاروثي وَيعرف بالمربي، جَاوز
الثَّمَانِينَ، كَانَ معلما فِي صَنْعَة الأقباع ويقرئ
(2/290)
صبيانه وَيَتْلُو كثيرا، قَرَأَ بالسبع على
الْكَمَال الْمحلي قَدِيما، وَمَات الْعَلامَة الْخَطِيب جمال الدّين
يُوسُف بن مُحَمَّد بن مظفر بن حَمَّاد الْحَمَوِيّ الشَّافِعِي خطيب
جَامع حماه كَانَ عَالما دينا سمع جُزْء الْأنْصَارِيّ من مؤهل البالسي
والمقدار الْقَيْسِي وَحدث واشتغل وَأفْتى، وَكَانَ على قدم من
الْعَادة والإفادة رَحمَه الله تَعَالَى.
وَمَات الْعَلامَة شمس الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن بن قَاضِي
الْقُضَاة الْحَافِظ سعد الدّين مَسْعُود بن أَحْمد الْحَارِثِيّ
بِالْقَاهِرَةِ تصدر للأقراء وَحج مَرَّات وجاور وَسمع من الْعِزّ
الْحَرَّانِي وَجَمَاعَة.
وَكَانَ ذَا تعبد وتصون وجلالة، قَرَأَ النَّحْو على ابْن النّحاس
وَالْأُصُول على ابْن دَقِيق الْعِيد، ومولده سنة إِحْدَى وَسبعين
وسِتمِائَة، وَولي بعده تدريس المنصورية قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ
الدّين.
وَمَات كَبِير الْأُمَرَاء سيف الدّين بكتمر الناصري الساقي بعد قَضَاء
حجه وَابْنه الْأَمِير أَحْمد أَيْضا وَخلف مَا لَا يُحْصى كَثْرَة،
مَاتَا بعيون الْقصب بطرِيق مَكَّة ونقلا إِلَى تربَتهَا بالقرافة.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة: فِيهَا فِي الْمحرم
أطلق الصاحب شمس الدّين غبريال بعد مصادرة كَثِيرَة.
وَمَات بِدِمَشْق نقيب الْأَشْرَاف شرف الدّين عدنان الْحُسَيْنِي ولي
النقابة على الْأَشْرَاف بعد موت أَبِيه وَاسْتمرّ بهَا تسع عشرَة سنة
وهم بَيت تشيع.
وفيهَا: فِي صفر وصل الْخَبَر بِمَوْت مُحدث بَغْدَاد تَقِيّ الدّين
مَحْمُود بن عَليّ بن مَحْمُود بن مقبل الدقوقي كَانَ يحضر مَجْلِسه
خلق كثير لفصاحته وَحسن آدابه، وَله نظم وَولى مشيخة المستنصرية وَحدث
عَن الشَّيْخ عبد الصَّمد وَجَمَاعَة وَكَانَ يعظ وَحمل نعشه على الرؤس
وَمَا خلف درهما.
وَفِيه: قدم أَمِين الْملك عبد الله الصاحب على نظر دمشق وَهُوَ سبط
السديد الشَّاعِر.
وَمَات: بِدِمَشْق الشَّيْخ كَمَال الدّين عمر بن إلْيَاس المراغي،
كَانَ عَالما عابداً سمع منهاج الْبَيْضَاوِيّ من مُصَنفه.
وفيهَا: فِي ربيع الأول ولي الْقَضَاء بِدِمَشْق الْعَلامَة جمال
الدّين يُوسُف بن جملَة بعد الأخنائي.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر توجه القَاضِي محيي الدّين بن فضل الله وَابْنه
إِلَى الْبَاب الشريف وتحول إِلَى مَوْضِعه بِدِمَشْق القَاضِي شرف
الدّين أَبُو بكر بن مُحَمَّد بن الشهَاب مَحْمُود وَولي نقابة
الْأَشْرَاف بِدِمَشْق عماد الدّين مُوسَى بن عدنان، وَفِي خَامِس عشر
شعْبَان من سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة دخل الْأَمِير بدر
الدّين لُؤْلُؤ القندشي إِلَى حلب شاداً على المملكة وعَلى يَده
تَذَاكر وصادر المباشرين وَغَيرهم.
(2/291)
وَمِنْهُم النَّقِيب بدر الدّين مُحَمَّد
بن زهرَة الْحُسَيْنِي وَالْقَاضِي جمال الدّين سُلَيْمَان بن رَيَّان
نَاظر الْجَيْش وناظر الدّين مُحَمَّد بن قرناص عَامل الْجَيْش وَعَمه
المحبي عبد الْقَادِر عَامل المحلولات والحاج وَإِسْمَاعِيل بن عبد
الرَّحْمَن العزازي والحاج عَليّ بن السقا وَغَيرهم، وَاشْتَدَّ بِهِ
الْخطب وانزعج بِهِ النَّاس كلهم حَتَّى البريؤن وقنت النَّاس فِي
الصَّلَوَات وَقلت فِي ذَلِك:
(قلبِي لعمر الله مَعْلُول ... بِمَا جرى للنَّاس مَعَ لولو)
(يَا رب قد شرد عَنَّا الْكرَى ... سيف على الْعَالم مسلول)
(وَمَا لهَذَا السَّيْف من مغمد ... سواك يَا من لطفه السول)
كَانَ لُؤْلُؤ هَذَا مَمْلُوكا لقندش ضَامِن المكوس بحلب ثمَّ ضمن هُوَ
بعد أستاذه الْمَذْكُور ثمَّ صَار ضَامِن الْعداد ثمَّ صَار أَمِير
عشرَة، ثمَّ أَمِير طبلخانات ثمَّ صَار مِنْهُ مَا صَار ثمَّ أَنه عزل
وَنقل إِلَى مصر وأراح الله أهل حلب مِنْهُ فَعمل بِمصْر أقبح من عمله
بحلب وَتمكن وعاقب حَتَّى نسَاء مخدرات وصادر خلقا.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى مَاتَ عز الْقُضَاة فَخر الدّين بن
الْمُنِير الْمَالِكِي من الْعلمَاء ذَوي النّظم والنثر، وَألف
تَفْسِيرا وأرجوزة فِي السَّبع، وَمَات قَاضِي المجدل بدر الدّين
مُحَمَّد بن تَاج الدّين الجعبري.
وَمَات قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن جمَاعَة الْكِنَانِي
الْحَمَوِيّ بِمصْر لَهُ معرفَة بفنون وعدة مصنفات حسن الْمَجْمُوع
كَانَ ينطوي على دين وَتعبد وتصون وتصوف وعقل ووقار وجلالة وتواضع، درس
بِدِمَشْق ثمَّ ولي قَضَاء الْقُدس ثمَّ قَضَاء الديار المصرية ثمَّ
قَضَاء الشَّام ثمَّ قَضَاء مصر، وَولي مشيخة الحَدِيث بالكاملية
ومشيخة الشُّيُوخ وحمدت سيرته ورزق الْقبُول من الْخَاص وَالْعَام وَحج
مَرَّات وتنزه عَن مَعْلُوم الْقَضَاء لغناه مُدَّة وَقل سَمعه فِي
الآخر قَلِيلا فعزل نَفسه ومحاسنه كَثِيرَة.
وَمن شعره:
(لم أطلب الْعلم للدنيا الَّتِي ابْتَغَيْت ... من المناصب أَو للجاه
وَالْمَال)
(لَكِن مُتَابعَة الأسلاف فِيهِ كَمَا ... كَانُوا فَقدر مَا قد كَانَ
من حَالي)
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة مَاتَ الرئيس تَاج الدّين طالوت بن
نصير الدّين بن الْوَجِيه بن سُوَيْد بِدِمَشْق حدث عَن عمر القواس،
وعاش خمسين سنة وَهُوَ سبط الصاحب جمال الدّين بن صصرى، وَكَانَ فِيهِ
دين وبر وَله أَمْوَال، وَمَات الْعَلامَة مفتي الْمُسلمين شهَاب بن
أَحْمد بن جهبل الشَّافِعِي بِدِمَشْق، درس بالصلاحية، وَولي مشيخة
الظَّاهِرِيَّة ثمَّ تدريس الباذرانية، وَله محَاسِن وفضائل وَمَات
الْأَمِير علم الدّين طرقشي المشد بِدِمَشْق.
وفيهَا: فِي رَجَب مَاتَ الشَّيْخ الإِمَام الْقدْوَة تَاج الدّين بن
مَحْمُود الفارقي بِدِمَشْق عَاشَ ثَلَاثًا وَثَمَانِينَ سنة، وَكَانَ
عابداً عَاقِلا فَقِيها عفيف النَّفس كَبِير الْقدر، ملازماً للجامع
(2/292)
عالج الصّرْف مُدَّة، ثمَّ ترك وأتجر فِي
البضائع وَحدث عَن عمر بن القواس وَغَيره، وَمَات صاحبنا الْأَمِير
شهَاب الدّين أَحْمد بن بدر حسن بن المرواني إِلَى نَائِب بعلبك، ثمَّ
وَالِي الْبر بِدِمَشْق، وَكَانَ فِيهِ دين كثير التِّلَاوَة محباً
للفضل والفضلاء، ولي وَالِده النِّيَابَة بقصير أنطاكية طَويلا وَبهَا
مَاتَ.
وفيهَا: فِي شعْبَان مَاتَ الْخَطِيب بالجامع الْأَزْهَر عَلَاء الدّين
بن عبد المحسن بن قَاضِي الْعَسْكَر الْمدرس بالظاهرية والأشرفية
بالديار المصرية.
وَفِيه: دخل القَاضِي تَاج الدّين مُحَمَّد بن الزين حلب مُتَوَلِّيًا
كِتَابَة السِّرّ وَلبس الخلعة وباشر وَأَبَان عَن تعفف عَن هَدَايَا
النَّاس.
وفيهَا: فِي رَمَضَان مَاتَ بِدِمَشْق الْأَمِير عَلَاء الدّين أوران
الْحَاجِب وَكَانَ ينطوي على ظلم من أَوْلَاد الأكراد.
وَمَات: بحماه زين الدّين عبد الرَّحْمَن بن عَليّ بن إِسْمَاعِيل بن
الْبَارِزِيّ الْمَعْرُوف بِابْن الْوَلِيّ، كَانَ وَكيل بَيت المَال
بهَا، وَبنى بهَا جَامعا وَكَانَت لَهُ مكانة مُرُوءَة ومنزلة عِنْد
صَاحب حماه.
وَمَات مُسْند الشَّام المعمر تَاج الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن
الْمُحدث تَقِيّ الدّين إِدْرِيس، كَانَ فِيهِ خير وديانة.
وَمَات: بحماه شيخ الشُّيُوخ فَخر الدّين عبد الله بن التَّاج كَانَ
صواماً عابداً ذَا سكينَة سمع من وَالِده.
وَمَات الإِمَام المؤرخ شهَاب الدّين أَحْمد بن عبد الْوَهَّاب
الشَّافِعِي بِالْقَاهِرَةِ، وَله تَارِيخ فِي ثَلَاثِينَ مجلداً كَانَ
ينْسَخ فِي الْيَوْم ثَلَاثَة كراريس وفضيلته تَامَّة عَاشَ خمسين سنة.
وَمَات الإِمَام جمال الدّين حُسَيْن بن مَحْمُود الربعِي البالسي
بِالْقَاهِرَةِ قَرَأَ بالروايات، وَكَانَ شيخ الْقُرَّاء، وَله وظائف
كَثِيرَة أَو بالشجاعي ثمَّ أم بالسلطان نيفاً وَثَلَاثِينَ سنة
وَكَانَ عَالما كثير التَّهَجُّد.
وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة أَخذ حَاجِب الْعَرَب بِدِمَشْق عَليّ بن
مقلد فَضرب وَحبس وَأخذ مَاله وَقطع لِسَانه وعزل نَاصِر الدّين
الدواتدار وَضرب وصودر وأخد مِنْهُ مَال جزيل وَأبْعد إِلَى الْقُدس
ثمَّ قطع لِسَان ابْن مقلد مرّة ثَانِيَة فَمَاتَ آخر الْيَوْم.
قلت:
(أوصيك فَإِن قبلت مني ... أفلحت ونلت مَا تحب)
(لَا تدن من الْمُلُوك يَوْمًا ... فالبعد من الْمُلُوك قرب)
وَمَات: بحلب أَمِين الدّين عبد الرَّحْمَن الْفَقِيه الشَّافِعِي
المواقيتي سبط الْأَبْهَرِيّ، وَكَانَ لَهُ يَد طولى فِي الرياضي
وَالْوَقْت والعمليات ومشاركة فِي فنون، وَكَانَ عِنْده لعب فنفق عِنْد
(2/293)
الْملك الْمُؤَيد بحماه، وَتقدم ثمَّ بعده
تَأَخّر وتحول إِلَى حلب وَمَات بهَا.
قلت: وَأهل حماه يطعنون فِي عقيدته ويعجبني بيتان الثَّانِي مِنْهُمَا
مضمن لَا لِكَوْنِهِمَا فِيهِ فَإِن سَرِيرَته عِنْد الله بل لحسن
صناعتهما وهما:
(إِلَى حلب خُذ عَن حماه رِسَالَة ... أَرَاك قبلت الْأَبْهَرِيّ
المنجما)
(فَقولِي لَهُ ارحل لَا تقيمن عندنَا ... وَإِلَّا فَكُن فِي السِّرّ
والجهر مُسلما)
وَمَات: الزَّاهِد الْوَلِيّ أَبُو الْحسن الوسطي العابد محرما ببدر
قيل أَنه حج، وَله ثَمَان عشرَة سنة، ثمَّ لَازم الْحَج، وجاور
مَرَّات، وَكَانَ عَظِيم الْقدر منقبضاً عَن النَّاس.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة مَاتَ الْأَمِير الْكَبِير مغلطاي، كَانَ
مقدم ألف بِدِمَشْق وَمَاتَتْ الشيخة المسندة الجليلة أم مُحَمَّد
أَسمَاء بنت مُحَمَّد بن صصري أُخْت قَاضِي الْقُضَاة نجم الدّين
سَمِعت وَحدثت وَكَانَت مباركة كَثِيرَة الْبر وحجت مَرَّات، وَكَانَت
تتلو فِي الْمُصحف وتتعبد.
قلت:
(كَذَلِك فلتكن أُخْت ابْن صصري ... تفوق على النِّسَاء صبي وشيبا)
(طراز الْقَوْم انثى مثل هذي ... وَمَا التَّأْنِيث لاسم الشَّمْس
عَيْبا)
وَمَات أَيْضا بِدِمَشْق عز الدّين إِبْرَاهِيم بن القواس بالعقيبة،
ووقف دَاره مدرسة وَأمْسك حَاجِب مصر سيف الدّين الماس أَخُوهُ قُرَّة
تمر وَوجد لَهما مَال عَظِيم.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة: فِي أول الْمحرم
مِنْهَا أفرج عَن الْأَمِير بدر الدّين القرماني والأمير سيف الدّين
إِسْلَام وأخيه وخلع عَلَيْهِم.
وَتُوفِّي بالقدس خَطِيبه وقاضيه الشَّيْخ عماد الدّين عمر النابلسي.
وفيهَا: فِي صفر مَاتَ قَاضِي الْقُضَاة جمال الدّين أَبُو الرّبيع
سُلَيْمَان الْأَذْرَعِيّ الشَّافِعِي، ويكنى أَبَا دَاوُد أَيْضا
بالسكتة، ولي الْقَضَاء بِمصْر ثمَّ بِالشَّام مُدَّة، وَكَانَ
عَلَيْهِ سكينَة ووقار، وأحضر نَاصِر الدّين الدواتدار إِلَى مخدومه
سيف الدّين تنكز فَضرب وأهين وكمل عَلَيْهِ مَال يقوم بِهِ وحصلت صعقة
أتلفت الكروم والخضروات بغوطة دمشق.
وَمَات الْأَمِير سيف الدّين صلعنة الناصري، وَكَانَ دينا يبْدَأ
النَّاس بِالسَّلَامِ فِي الطرقات.
وَمَات بطرابلس نائبها الْأَمِير شهَاب الدّين قرطاي المنصوري من كبار
الْأُمَرَاء، حج وَأنْفق كثيرا فِي سبل الْخَيْر رَحمَه الله تَعَالَى.
وَمَات: بحماه قَاضِي الْقُضَاة نجم الدّين أَبُو الْقَاسِم عمر بن
الصاحب كَمَال الدّين الْعقيلِيّ الْحَنَفِيّ الْمَعْرُوف بِابْن
العديم، وَكَانَ لَهُ فنون وأدب وَخط وَشعر ومروءة غزيرة، وعصبية لم
تحفظ عَلَيْهِ أَنه شتم أحدا مُدَّة ولَايَته وَلَا خيب قاصده.
(2/294)
قلت:
(قد كَانَ نجم الدّين شمساً أشرقت ... بحماه للداني بهَا وَالْقَاضِي)
(عدمت ضِيَاء ابْن العديم فأنشدت ... مَاتَ الْمُطِيع فيا هَلَاك
العَاصِي)
وفيهَا: فِي ربيع الأول توفّي الْأَمِير سيف الدّين طرنا الناصري
أَمِير مائَة ألف مقدم بِدِمَشْق.
وَمَات: جمال الدّين فرج بن شمس الدّين قرا سنقر المنصوري ورسم تنكز
نَائِب السلطنة بعمارة بَاب توما وإصلاحه فعمر عمَارَة حَسَنَة وَرفع
نَحْو عشرَة أَذْرع ووسع وجدد بَابه.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر وصل جمال الدّين أقوش نَائِب الكرك إِلَى
طرابلس نَائِبا بهَا عوضا عَن طرطاي رَحمَه الله تَعَالَى، وَوصل سيل
إِلَى ظَاهر دمشق هدم بعض المساكن وَخَافَ النَّاس مِنْهُ، ثمَّ نقص
يَوْمه ولطف الله تَعَالَى.
وَتوفيت أم الْخَيْر خَدِيجَة المدعوة ضوء الصَّباح، وَكَانَت تكْتب
تخطها فِي الإجازات ودفنت بالقرافة.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى توفّي الْفَاضِل بدر الدّين مُحَمَّد بن
شرف الدّين أبي بكر الْحَمَوِيّ الْمَعْرُوف بِابْن السمين بحماه،
وَكَانَ أَبوهُ من فصحاء الْقُرَّاء رحمهمَا الله تَعَالَى.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة توفّي بحلب شرف الدّين أَبُو طَالب عبد
الرَّحْمَن بن القَاضِي عماد الدّين بن العجمي سمع الشمايل على وَالِده
وَحدث وَأقَام مَعَ وَالِده بِمَكَّة فِي صباه أَربع سِنِين.
وَكَانَ شَيخا مُحْتَرما من أَعْيَان الْعُدُول وَعِنْده سَلامَة صدر
رَحمَه الله تَعَالَى. وَمَات الْأَمِير شمس الدّين مُحَمَّد بن
الصَّيْمَرِيّ بن وَاقِف المارستان بالصالحية.
وفيهَا: فِي رَجَب وصل كتاب من الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة يذكر فِيهِ
أَن وَادي العقيق سَالَ من صفر وَإِلَى الْآن، وَدخل السَّيْل قبَّة
حَمْزَة رَضِي الله عَنهُ وَبَقِي النَّاس عشْرين يَوْمًا مَا يصلونَ
إِلَى الْقبَّة وَأخذ نخلا كثيرا وَخرب أَمَاكِن، وَمَات الْأَمِير عز
الدّين نقيب العساكر المصرية وَدفن بالقرافة، وَمَات الْأمين نَاصِر
الدّين بن سُوَيْد التكريتي سمع على جمَاعَة من أَصْحَاب ابْن طبرزد
وَحدث وَكَانَ لَهُ بر وصدقات وَحج مَرَّات وجاور بِمَكَّة، وَمَات
الشَّيْخ الْعَالم الرباني الزَّاهِد بَقِيَّة السّلف نجم الدّين
اللَّخْمِيّ (القبائي) الْحَنْبَلِيّ بحماه وَكَانَت جنَازَته عَظِيمَة
وَحمل على الرؤوس سمع مُسْند الدَّارمِيّ وَحدث.
وَكَانَ فَاضلا فَقِيها فرضياً جليل الْقدر وفضائله وتقلله من
الدُّنْيَا وزهده مَعْرُوف نفعنا الله ببركته والقباب الْمَنْسُوب
إِلَيْهَا قَرْيَة من قرى أشوم الرُّمَّان مُتَّصِلَة بثغر دمياط.
قلت: وَقدم مرّة إِلَى الفوعة وأنابها فَسَأَلَنِي عَن الأكدرية إِذا
كَانَ بدل الْأُخْت خُنْثَى
(2/295)
فأجبت أَنَّهَا بِتَقْدِير الْأُنُوثَة تصح
من سَبْعَة وَعشْرين وَبِتَقْدِير الذُّكُورَة تصح من سِتّ
وَالْأُنُوثَة تضر الزَّوْج وَالأُم، والذكورة تضر الْجد وَالْأُخْت
وَبَين الْمَسْأَلَتَيْنِ مُوَافقَة بِالثُّلثِ فَيضْرب ثلث السَّبْعَة
وَالْعِشْرين وَهُوَ تِسْعَة فِي السِّتَّة تبلغ أَرْبَعَة وَخمسين
وَمِنْهَا تصح المسألتان المزوج ثَمَانِيَة عشر وَالأُم اثْنَي عشر
وللجد تِسْعَة وَلَا يصرف إِلَى الْخُنْثَى شَيْء وَالْمَوْقُوف
خَمْسَة عشر وَفِي طريقها طول لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه فأعجب الشَّيْخ
رَحمَه الله تَعَالَى ذَلِك.
وفيهَا: فِي شعْبَان مَاتَ فَجْأَة الإِمَام الْحَافِظ أَبُو الْفَتْح
مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن سيد النَّاس
الْيَعْمرِي أَخذ علم الحَدِيث عَن ابْن دَقِيق الْعِيد والدمياطي
وَكَانَ أحد الأذكياء الْحفاظ لَهُ النّظم والنثر والبلاغة والتصانيف
المتقنة وَكَانَ شيخ الظَّاهِرِيَّة وخطيب جَامع الخَنْدَق.
وفيهَا: يَوْم الْجُمُعَة التَّاسِع وَالْعِشْرين من شهر رَمَضَان
انْفَصل القَاضِي جمال الدّين يُوسُف بن جملَة الحجي الشَّافِعِي من
قَضَاء دمشق وَعقد لَهُ مجْلِس عِنْد نَائِب السلطنة تنكز وَحكم بعزله
لكَونه غزر الشَّيْخ الظهير الرُّومِي فجاوز فِي تعزيره الْحَد ورسم
على القَاضِي الْمَذْكُور بالعذراوية، ثمَّ نقل إِلَى القلعة فَأن
القَاضِي الْمَالِكِي حكم بحبسه وطولع السُّلْطَان بذلك فَأمر بتنفيذه.
قلت: وأعجب بعض النَّاس حَبسه أَولا، ثمَّ رَجَعَ النَّاس إِلَى أنفسهم
فأكبروا مثل ذَلِك.
وَمِمَّا (قلت) فِيهِ:
(دمشق لَا زَالَ ربعهَا خضر ... بعدلها الْيَوْم يضْرب الْمثل)
(فضا من المكس مُطلق فَرح ... فِيهَا وقاضي الْقُضَاة معتقل)
وَنفي الشَّيْخ الظهير إِلَى بِلَاد الْمشرق، وَكَانَت مُدَّة ولَايَة
القَاضِي الْمَذْكُور سنة وَنصفا سوى أَيَّام فَكَانَ النَّاس يرَوْنَ
أَن حادثه القَاضِي وحبسه بالقلعة بقيامه على ابْن تَيْمِية جَزَاء
وفَاقا.
وَمَات الشَّيْخ سيف الدّين يحيى بن أَحْمد بن أبي نصر مُحَمَّد بن عبد
الرَّزَّاق الشَّيْخ عبد الْقَادِر الجيلي بحماه.
وَكَانَ شهماً سخياً رَحمَه الله تَعَالَى، وَفِي منتصف الشَّهْر وجد
بِالْقَاهِرَةِ يَهُودِيّ مَعَ مسلمة من بَنَات التّرْك فرجم
الْيَهُودِيّ وَأحرقهُ وَأخذ مَاله كُله، وَكَانَ متمولاً وحبست
الْمَرْأَة.
قلت:
(هَذَا تعدى طوره ... فناله مَا ناله)
(فأعدموه عرضه ... وروحه وَمَاله)
(2/296)
وَحكى لي عدل أَنه أَخذ مِنْهُ ألف ألف
دِرْهَم وَثَلَاث صواني زمرد.
وعزل الْأَمِير سيف الدّين بلبان عَن ثغر دمياط وَأخذ مِنْهُ مَال
وَحبس.
وفيهَا: فِي شَوَّال توفّي الصاحب شمس الدّين غبريال وَكَانَ قد أَخذ
مِنْهُ ألفا ألف دِرْهَم، وَكَانَ حسن التَّدْبِير فِي الدنيويات
وَأسلم سنة إِحْدَى وَسَبْعمائة هُوَ وَأمين الْملك مَعًا.
وَفِيه: بِالْقَاهِرَةِ خصي عبد أسود كَانَ يتَعَرَّض إِلَى أَوْلَاد
النَّاس فَمَاتَ.
قلت:
(يُعجبنِي وَفَاة من ... فِيهِ فَسَاد وأذى)
(لَا حبذا حَيَاته ... وَإِن يمت فحبذا)
وَمَات الإِمَام شمس الدّين مُحَمَّد بن عُثْمَان الْأَصْفَهَانِي
الْمَعْرُوف بِابْن العجمي الْحَنَفِيّ، كَانَ مدرساً بالإقبالية وَحدث
بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّة، ودرس أَيْضا بِالْمَدْرَسَةِ
الشَّرِيفَة النَّبَوِيَّة وَحدث بِدِمَشْق وَكَانَ فَاضلا وَجمع
منسكاً على الْمذَاهب.
وَمَات الشَّيْخ الزَّاهِد نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الشّرف صَالح
بحماه أَقَامَ أَكثر من ثَلَاثِينَ سنة لَا يَأْكُل الْفَاكِهَة وَلَا
اللَّحْم، وَكَانَ ملازماً للصَّوْم لَا يقبل من أحد شَيْئا.
قلت:
(زرته مرَّتَيْنِ وَالْحَمْد لله ... فعاينت خير تِلْكَ الزِّيَارَة)
(كَانَ فِيهِ تواضع وَسُكُون ... وَصَلَاح باد وَحسن عبارَة)
وَفِيه: كتب بِدِمَشْق محْضر بِأَن الصاحب غبريال كَانَ احتاط على بَيت
المَال وَاشْترى أملاكاً ووقفها وَلَيْسَ لَهُ ذَلِك فَشهد بذلك
جمَاعَة مِنْهُم ابْن الشِّيرَازِيّ وَابْن أَخِيه عماد الدّين وَابْن
مراجل وَأثبت عِنْد برهَان الدّين الرزمي ونفذه وَامْتنع الْمُحْتَسب
عز الدّين بن القلانسي من الشَّهَادَة بذلك فرسم عَلَيْهِ وعزل من
الْحِسْبَة.
قلت:
(فديت أمرا قد راقب الله ربه ... وأفسد دُنْيَاهُ لإِصْلَاح دينه)
(وعزل الْفَتى فِي الله أكبر منصب ... يَقِيه الَّذِي يخْشَى بِحسن
يقينه)
وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة تولى قَضَاء قُضَاة الشَّافِعِيَّة بِدِمَشْق
شهَاب الدّين مُحَمَّد بن الْمجد عبد الله بن الْحُسَيْن، درس وَأفْتى
قَدِيما وضاهى الْكِبَار وتنقلت بِهِ الْأَحْوَال وَهُوَ على مَا فِيهِ
غزير الْمُرُوءَة سخي النَّفس متطلع إِلَى قَضَاء حوائج النَّاس،
وَاسْتمرّ قَاضِيا إِلَى أَن كَانَ مَا سَيذكرُ.
توجه مهنا بن عِيسَى أَمِير الْعَرَب إِلَى طَاعَة السُّلْطَان بعد
النفرة الْعَظِيمَة عَنهُ سِنِين وَمَعَهُ صَاحب حماه الْملك
الْأَفْضَل فَأقبل السُّلْطَان على مهنا وخلع عَلَيْهِ وعَلى أَصْحَابه
مائَة وَسِتِّينَ خلعة ورسم لَهُ بِمَال كثير من الذَّهَب وَالْفِضَّة
والقماش وأقطعه عدَّة قرى وَعَاد إِلَى أَهله مكرماً.
(2/297)
وفيهَا مَاتَ: المجود الأديب بدر الدّين
حسن بن عَليّ بن عدنان الحمداني ابْن الْمُحدث.
وفيهَا: أَظن فِي ذِي الْحجَّة مَاتَ القَاضِي مجد الدّين حرمي بن
قَاسم الفاقوسي لشافعي وَكيل بَيت المَال ومدرس قبَّة الشَّافِعِي.
وَكَانَ معمراً وألزمت النَّصَارَى وَالْيَهُود بِبَغْدَاد بالغيار
ثمَّ نقضت كنائسهم ودياراتهم وَأسلم مِنْهُم وَمن أعيانهم خلق كثير
مِنْهُم سديد الدولة وَكَانَ ركنا للْيَهُود عمر فِي زمن يَهُودِيَّته
مدفناً لَهُ خسر عَلَيْهِ مَالا طائلاً فخرب مَعَ الْكَنَائِس وَجعل
بعض الْكَنَائِس معبدًا للْمُسلمين، وَشرع فِي عمَارَة جَامع بدرب
دِينَار، وَكَانَت بيعَة كَبِيرَة جدا واشتهر عَن جمَاعَة من الْعَوام
فِي قَرْيَة بتي بالعراق أَنهم دخلُوا على مَرِيض مِنْهُم فَجعل يَصِيح
أَخَذَنِي المغول خلصوني مِنْهُم وَكرر ذَلِك فاختلس من بَينهم حَيا
فَكَانَ آخر عَهدهم بِهِ.
وَكَانَ الرجل من فُقَهَاء الْقرْيَة يتَوَلَّى عُقُود أنكحتهم إِن فِي
ذَلِك لعبرة، وَأطلق بِبَغْدَاد مكس الْغَزل وَضَمان الْخمر والفاحشة
وَأعْطيت الْمَوَارِيث لِذَوي الْأَرْحَام دون بَيت المَال وخفف كثير
من المكوس وَللَّه الْحَمد.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة: فِي الْمحرم مِنْهَا رجح
حسام الدّين مهنا من مصر مكرماً.
وَمَات الْأَمِير بدر الدّين كيكلدي عَتيق شمس الدّين الأعسر بِدِمَشْق
وَخلف أَوْلَادًا وأملاكاً.
وَمَات الْأَمِير بكتمر الحسامي بِمصْر، جدد جَامع قلعة مصر.
وَمَات الْملك الْعَزِيز بن الْملك المغيث بن السُّلْطَان الْملك
الْعَادِل بن الْكَامِل كتب الْكثير وَعمر.
وفيهَا: فِي صفر وصل إِلَى دمشق كَاتب السِّرّ القَاضِي جمال الدّين
عبد الله بن القَاضِي كَمَال الدّين بن الْأَثِير صَاحب ديوَان
الْإِنْشَاء بَدَلا عَن شرف الدّين حفيد الشهَاب مَحْمُود.
وَمَات شيخ المؤذنين وأنداهم صَوتا برهَان الدّين إِبْرَاهِيم الواني
سمع من ابْن عبد الدَّائِم وَجَمَاعَة وَحدث.
وَمَات: بِدِمَشْق الْمسند المعمر بدر الدّين عبد الله بن أبي الْعَيْش
الشَّاهِد وَقد جَاوز التسعين سمع من مسكي بن قيس بن عَلان، وَكَانَ
يطْلب على السماع وَتفرد بأَشْيَاء.
وَمَات: بِدِمَشْق تَقِيّ الدّين عبد الرَّحْمَن بن الفويرة
الْحَنَفِيّ.
وفيهَا: فِي صفر أَمر السُّلْطَان بتسمير رجل سَاحر اسْمه إِبْرَاهِيم.
وفيهَا: فِي ربيع الأول مَاتَ الشَّيْخ أَبُو بكر بن غَانِم بالقدس،
وَكَانَ لَهُ مَكَارِم، ونظم
(2/298)
وَمَات الْمُحدث أَمِين الدّين مُحَمَّد بن
إِبْرَاهِيم الواني روى عَن الشّرف ابْن عَسَاكِر وَغَيره، وَكَانَ ذَا
همة ورحلة وَحج ومجاورة وَكَانَت جنَازَته مَشْهُودَة وطاب الثَّنَاء
عَلَيْهِ.
وَمَات نظام الدّين حسن ابْن عَم الْعَلامَة كَمَال الدّين بن
الزملكاني وَقد جَاوز الْخمسين، وَكَانَ مليح الشكل لطيف الْكَلَام
نَاظرا بديوان الْبر.
وَمَات كَبِير المجودين وَدين الْخَطِيب بهاء الدّين مَحْمُود بن خطيب
بعلبك السّلمِيّ بِالْعقبَةِ، وتأسف النَّاس عَلَيْهِ لدينِهِ وتواضعه
وَحسن شكله وبراعة خطه وعفته وتصونه كتب عَلَيْهِ خلق، وَكتب صَحِيح
البُخَارِيّ بِخَطِّهِ. وَعمر الْأَمِير حَمْزَة بِدِمَشْق حَماما
عِنْد القنوات وأدير فِيهِ أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ جزناً وأوجر كل يَوْم
بِأَرْبَعِينَ درهما، وَعظم حَمْزَة وَأَقْبل عَلَيْهِ تنكز بعد
الدواتدار، ثمَّ طَغى وتجبر وظلم وَعظم الْخطب بِهِ فَضَربهُ تنكز
وحبسه، وَنقل إِلَى القلعة ثمَّ حبس بِحَبْس بَاب الصَّغِير، ثمَّ أطلق
أَيَّامًا وصودر، ثمَّ أهلك سرا بالبقاع قيل غرق وَقطع لِسَانه من
أَصله وَهُوَ الَّذِي أتلف أَمر الدواتدار وَابْن مقلد وَابْن جملَة،
وَله حكايات فِي ظلمه وَرفع فِيهِ يَوْم أمسك تِسْعمائَة قصَّة وبولغ
فِي ضربه وَرمي بالبندق فِي جسده وَمَا رق عَلَيْهِ أحد.
قلت:
(لَو تفطن العاتي الْمَظْلُوم لحاله ... لبكى عَلَيْهَا فَهِيَ بئس
الْحَال)
(يَكْفِيهِ شُؤْم وَفَاته وقبيح مَا ... يثنى عَلَيْهِ وَبعد ذَا
أهوال)
وفيهَا: فِي ربيع الآخر توفّي الْفَقِير الصَّالح اللَّازِم لمجالس
الحَدِيث أَبُو بكر بن هَارُون الشَّيْبَانِيّ الْجَزرِي، روى عَن ابْن
النخاري.
وَقدم عَليّ نِيَابَة طرابلس سيف الدّين طينال الناصري عوضا عَن أقوش
الكركي، وَحبس الكركي بقلعة دمشق ثمَّ نقل إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى مَاتَ عَلَاء الدّين عَليّ بن السلعوس
التنوخي وَقد بَاشر صحابة الدِّيوَان بِدِمَشْق، ثمَّ ترك واحتيط
بِمصْر على دَار الْأَمِير بكتمر الْحَاجِب الحسامي ونبشت فَأخذ
مِنْهَا شَيْء عَظِيم. وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة مَاتَ مشد دَار
الطّراز سيف الدّين عَليّ بن عمر بن قزل سبط الْملك الْحَافِظ ووقف على
كرْسِي وسيع بالجامع.
وَمَات: ببعلبك الْفَقِيه أَبُو طَاهِر سمع من التَّاج عبد الْخَالِق
وعدة وَكتب وَحدث وَعمل ستر ديباج منقوش على الْمُصحف العثماني
بِدِمَشْق بأَرْبعَة آلَاف دِرْهَم وَخَمْسمِائة.
قلت:
(ستروا المكرم بالحرير وستره ... بالدر والياقوت غير كثير)
(ستروه وَهُوَ من الغواية سترنا ... عجي لهَذَا السَّاتِر المستور)
(2/299)
وَمَات فَجْأَة التَّاجِر عَلَاء الدّين
عَليّ السنجاري بِالْقَاهِرَةِ، وَهُوَ الَّذِي أنشأ دَار الْقُرْآن
بياب الناطفانيين.
قلت:
(مَا مَاتَ من هذي صِفَاته ... فوفاة ذَا عِنْدِي حَيَاته)
(إِن مَاتَ هَذَا صُورَة ... أحيته معنى سالفاته)
وَمَات بِمصْر الْوَاعِظ شمس الدّين حُسَيْن وَهُوَ آخر أَصْحَاب
الْحَافِظ الْمُنْذِرِيّ سمع من جمَاعَة، وَكَانَ عَالما حسن الشكل.
وَمَات الْفَاضِل الأديب زكي الدّين الْمَأْمُون الْحِمْيَرِي
الْمصْرِيّ الْمَالِكِي بِمصْر ولي نظر الكرك والشوبك وَعمر نَحْو
تسعين سنة. وفيهَا: فِي رَجَب مَاتَ الْفَقِيه مُحَمَّد بن محيي الدّين
مُحَمَّد بن القَاضِي شمس الدّين بن الزكي العثماني شَابًّا درس مُدَّة
بِدِمَشْق.
وَمَات الْحَافِظ قطب الدّين الْكَلْبِيّ بالحسينية حفظ الألفية
والشاطبية وَسمع من القَاضِي شمس الدّين بن الْعِمَاد وَغَيره، وَحج
مَرَّات وصنف وَكَانَ كيساً حسن الْأَخْلَاق مطرحاً للتكلف طَاهِر
اللِّسَان مضبوط الْأَوْقَات شرح مُعظم البُخَارِيّ وَعمل تَارِيخا
لمصر لم يتمه، ودرس الحَدِيث بِجَامِع الْحَاكِم، وَخلف تِسْعَة
أَوْلَاد، وَدفن عِنْد خَاله الشَّيْخ نصر المنبجي
وَفِيه: أخرج السُّلْطَان من حبس الْإسْكَنْدَريَّة ثَلَاثَة عشر نَفرا
مِنْهُم تمر الساقي الَّذِي نَاب طرابلس وبيبرس الْحَاجِب وخلع على
الْجَمِيع.
وَفِيه: طلب قَاضِي الْإسْكَنْدَريَّة فَخر الدّين بن سكين وعزل
بِسَبَب إفرنجي.
وفيهَا: فِي شعْبَان مَاتَ الْمُفْتِي بدر الدّين مُحَمَّد بن الفويرة
الْحَنَفِيّ سمع وَحدث.
وَمَات: القَاضِي زين الدّين عبد الْكَافِي بن عَليّ بن تَمام روى عَن
الْأنمَاطِي وَأخذ عَنهُ ابْن رَافع وَغَيره.
وَمَات عز الدّين يُوسُف الْحَنَفِيّ بِمصْر حدث عَن إِبْرَاهِيم وناب
فِي الحكم.
وفيهَا: فِي رَمَضَان مَاتَ صاحبنا شمس الدّين مُحَمَّد بن يُوسُف
التدمري خطيب حمص، كَانَ يُفْتِي ويدرس، وَتَوَلَّى قَضَاء
الْإسْكَنْدَريَّة الْعِمَاد مُحَمَّد بن إِسْحَاق الصُّوفِي.
وفيهَا: فِي شَوَّال قدم عَسْكَر حلب والنائب من غزَاة بلد سيس، وَقد
خربوا فِي بلد أدنة وطرسوس وأحرقوا الزروع واستقاوا الْمَوَاشِي وَأتوا
بمائتين وَأَرْبَعين أَسِيرًا، وَمَا عدم من الْمُسلمين سوى شخص وَاحِد
غرق فِي النَّهر وَكَانَ الْعَسْكَر عشرَة آلَاف سوى من تَبِعَهُمْ
فَلَمَّا علم أهل أياس بذلك أحاطوا بِمن عِنْدهم من الْمُسلمين
التُّجَّار وَغَيرهم وحبسوهم فِي خَان ثمَّ أحرقوه فَقل من نجى فعلوا
ذَلِك بِنَحْوِ ألفي رجل من التُّجَّار البغاددة وَغَيرهم فِي يَوْم
عيد الْفطر فَللَّه الْأَمر، وَاحْتَرَقَ فِي حماه مِائَتَان
وَخَمْسُونَ حانوتاً، وَذَهَبت الْأَمْوَال واهتم الْملك بعمارة ذَلِك،
وَكَانَ الْحَرِيق عِنْد الْفجْر إِلَى طُلُوع الشَّمْس.
(2/300)
وَذكر أَن شخصا رأى مَلَائِكَة يسوقون
النَّار فَجعل يُنَادي أَمْسكُوا يَا عباد الله لَا تُرْسِلُوا
فَقَالُوا: بِهَذَا أمرنَا، ثمَّ أَن الرجل توفّي لساعته، وناب
بِدِمَشْق فِي الْقَضَاء شهَاب الدّين أَحْمد بن شرف الزرعي
الشَّافِعِي قَاضِي حصن الأكراد، وَورد الْخَبَر بحريق أنطاكية قبل
رُجُوع الْعَسْكَر فَلم يبْق بهَا إِلَّا قَلِيل وَلم يعلم سَبَب
ذَلِك.
وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة توفيت زَيْنَب بنت الْخَطِيب يحيى بن
الإِمَام عز الدّين بن عبد السَّلَام السّلمِيّ سَمِعت من جمَاعَة،
وَكَانَ فِيهَا عبَادَة وَخير وَحدثت.
وَمَات الطَّبِيب جمال الدّين عبد الله بن عبد السَّيِّد وَدفن فِي قبر
أعده لنَفسِهِ، وَكَانَ من أطباء المارستان النوري بِدِمَشْق، وَأسلم
مَعَ وَالِده الذبان سنة إِحْدَى وَسَبْعمائة.
وَمَات حسام الدّين مهنا بن عِيسَى أَمِير الْعَرَب وحزن عَلَيْهِ آله
وَأَقَامُوا مأتماً بليغاً ولبسوا السوَاد أناف على الثَّمَانِينَ،
وَله مَعْرُوف من ذَلِك مارستان جيد بسرمين وَلَقَد أحسن بِرُجُوعِهِ
إِلَى طَاعَة سُلْطَان الْإِسْلَام قبل وَفَاته، وَكَانَت وَفَاته
بِالْقربِ من سلمية.
وَمَات الْمُحدث الرئيس الْعَام شمس الدّين مُحَمَّد بن أبي بكر بن
طرخان الْحَنْبَلِيّ سمع من ابْن عبد الدَّائِم وَغَيره، وَكَانَ بديع
الْخط وَكتب الطباق، وَله نظم.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة مَاتَ الْفَقِيه الزَّاهِد شرف الدّين فضل بن
عِيسَى بن قنديل العجلوني الْحَنْبَلِيّ بالمسمارية، كَانَ لَهُ
اشْتِغَال وَفهم وَيَد فِي التَّعْبِير، وتعفف وَقُوَّة نفس، عرض
عَلَيْهِ حزن الْمُصحف العثماني فَامْتنعَ رَحمَه الله تَعَالَى.
وفيهَا: وصل الْأَمِير سيف الدّين أَبُو بكر الباشري إِلَى حلب وَصَحب
مَعَه مِنْهَا الرِّجَال والصناع وَتوجه إِلَى قلعة جعبر وَشرع فِي
عمارتها وَكَانَت خراباً من زمن هولاكو وَهِي من أمنح القلاع تسبب فِي
عمارتها الْأَمِير سيف الدّين تنكز نَائِب الشَّام وَلحق المملكة
الحلبية وَغَيرهَا بِسَبَب عمارتها ونفوذ مَاء الْفُرَات إِلَى أَسْفَل
مِنْهَا كلفة كَثِيرَة.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة: فِيهَا فِي الْمحرم
بَاشر السَّيِّد النَّقِيب الشريف بدر الدّين مُحَمَّد بن السَّيِّد
شمس الدّين بن زهرَة الْحُسَيْنِي وكَالَة بَيت المَال بحلب مَكَان
شَيخنَا القَاضِي فَخر الدّين أبي عمر وَعُثْمَان بن الْخَطِيب زين
الدّين عَليّ الجبريني.
وفيهَا: فِي الْمحرم نزل نَائِب الشَّام الْأَمِير سيف الدّين تنكز
بعسكر الشَّام إِلَى قلعة جعبر وتفقدها وَقرر قواعدها وتصيد حولهَا،
ثمَّ رَحل فَنزل بمرج بزاعا، وَمد لَهُ نَائِب حلب الْأَمِير عَلَاء
الدّين الطنبغا بِهِ سماطاً ثمَّ سَافر إِلَى جِهَة دمشق.
وفيهَا: فِي صفر طلب من الْبِلَاد الحلبية رجال للْعَمَل فِي نهر قلعة
جعبر ورسم أَن يخرج من كل قَرْيَة نصف أَهلهَا وجلا كثير من الضّيَاع
بِسَبَب ذَلِك ثمَّ طلب من أسواق حلب أَيْضا رجال واستخرجت أَمْوَال
وَتوجه النَّائِب بحلب إِلَى قلعة جعبر بِمن حصل من الرِّجَال وهم
نَحْو عشْرين ألفا.
(2/301)
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة وصل
الْبَرِيد إِلَى حلب بعزل القَاضِي شمس الدّين مُحَمَّد بن بدر الدّين
أبي بكر بن إِبْرَاهِيم بن النَّقِيب عَن الْقَضَاء بالمملكة الحلبية
وبتولية شَيخنَا قَاضِي الْقُضَاة فَخر الدّين أبي عَمْرو عُثْمَان بن
خطيب جبرين مَكَانَهُ وَلبس الخلعة وَحكم من سَاعَته واستعفيته من
مُبَاشرَة الحكم بِالْبرِّ فِي الْحَال فأعفاني وَكَذَلِكَ أخي بعد
مُدَّة فَأَنْشَدته ارتجالاً:
(جنبتني وَأخي تكاليف القضا ... وكفيتنا مرضين مُخْتَلفين)
(يَا حَيّ عالمنا لقد أنصفتنا ... فلك التَّصَرُّف فِي دم
الْأَخَوَيْنِ)
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة توجه الْأَمِير عز الدّين أزدمر النوري
نَائِب بهسني لمحاصرة قلعة درنده بِمن عِنْده من الْأُمَرَاء والتركمان
وَفتحت بالأمان فِي منتصف الْمحرم سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة.
وفيهَا: أَعنِي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة توفّي الشَّيْخ
الْعَارِف الزَّاهِد مهنا بن الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن الْقدْوَة مهنا
الفوعي بالفوعة فِي خَامِس عشر شَوَّال ورثيته بقصيدة أَولهَا:
(أسأَل الفوعة الشَّدِيدَة حزنا ... عَن مهنا هَيْهَات أَيْن مهنا)
(أَيْن من كَانَ أبهج النَّاس وَجها ... فَهُوَ أسمى من البدور وأسنى)
وَمِنْهَا:
(أَيْن شَيْخي وقدوتي وصديقي ... وحبيبي وكل مَا أَتَمَنَّى)
(كَيفَ لَا يعظم الْمُصَاب لصدر ... نَحن مِنْهُ مَوَدَّة وَهُوَ منا)
(جعفري السلوك والوضع حَتَّى ... قَالَ عبس عَنهُ مهنا مهنا)
(أَي قلب بِهِ وَلَو كَانَ صخراً ... لَيْسَ يحْكى الخنساء نوحًا
وحزناً)
(أذكرتنا وَفَاته بِأَبِيهِ ... وأخيه أَيَّام كَانُوا وَكُنَّا)
وَهِي طَوِيلَة كَانَ جده مهنا الْكَبِير من عباد الْأمة وَترك أكل
اللَّحْم زَمَانا طَويلا لما رأى من اخْتِلَاط الْحَيَوَانَات فِي
أَيَّام هولاكو لعنة الله وَكَانَ قومه على غير السّنة فهدى الله
الشَّيْخ مهنا من بَينهم وَأقَام مَعَ التركمان رَاعيا ببرية حران
فبورك للتركمان فِي مَوَاشِيهمْ ببركته، وَعرفُوا بركته وَحصل لَهُ
نصيب من الشَّيْخ حَيَاة بن قيس بحران وَهُوَ فِي قَبره، وَجَرت لَهُ
مَعَه كرامات فَرجع مهنا إِلَى الفوعة وَصَحب شَيخنَا تَاج الدّين
جعفرا السراج الْحلَبِي وتلمذ لَهُ وانتفع بِهِ وَصَرفه مهنا فِي مَاله
وَخَلفه على لسجادة بعد وَفَاته ودعا إِلَى الله تَعَالَى، وَجَرت لَهُ
وقائع مَعَ أَهله وقاسى مَعَهم شَدَائِد وَبعد صيته وَقصد بالزيارة من
الْبعد وجارو بِمَكَّة شرفها الله تَعَالَى سِنِين ثمَّ بِالْمَدِينَةِ
على ساكنها أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام وَجَرت لَهُ هُنَاكَ كرامات
مَشْهُورَة بَين أَصْحَابه وَغَيرهم مِنْهَا أَن النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رد عَلَيْهِ السَّلَام من الْحُجْرَة
وَقَالَ: وَعَلَيْك السَّلَام يَا مهنا، ثمَّ عَاد إِلَى الفوعة
وَأقَام بهَا إِلَى أَن توفّي رَحمَه الله تَعَالَى فِي الْمحرم سنة
أَربع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة.
(2/302)
وَجلسَ بعده على سجادته ابْنه الشَّيْخ
إِبْرَاهِيم فَسَار أحسن سير ودعا إِلَى الله تَعَالَى على قَاعِدَة
وَالِده وَرجع من أهل بلد سرمين خلق إِلَى السّنة وقاسى من أَهله
شَدَائِد وَسَببه قتل ملك الْأُمَرَاء بحلب يَوْمئِذٍ سيف الدّين قبجق
الشَّيْخ الزنديق منصوراً من تار وَجَرت بِسَبَب قَتله فتن فِي بلد
سرمين، وَلم يزل الشَّيْخ إِبْرَاهِيم على أحسن سيرة وأصدق سريرة إِلَى
أَن توفّي إِلَى رَحمَه الله تَعَالَى فِي ذِي الْحجَّة سنة سِتّ عشرَة
وَسَبْعمائة.
وَجلسَ بعده على سجادته ابْنه الشَّيْخ الصَّالح إِسْمَاعِيل بن
الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن الْقدْوَة مهنا فَسَار أحسن سير وقاسى من
الشِّيعَة غبوناً وَلم يزل على أحسن طَريقَة إِلَى أَن توفّي إِلَى
رَحمَه الله تَعَالَى فِي ثامن صفر سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ
وَسَبْعمائة وَجلسَ بعده على السجادة أَخُوهُ لِأَبَوَيْهِ الشَّيْخ
الصَّالح مهنا بن إِبْرَاهِيم بن مهنا إِلَى أَن توفّي فِي خَامِس عشر
شَوَّال سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة كَمَا مر، وتأسف النَّاس
لمَوْته فَإِنَّهُ كَانَ كثير الْعِبَادَة حسن الطَّرِيقَة عَارِفًا.
وَجلسَ بعده على السجادة أَخُوهُ لِأَبِيهِ الشَّيْخ حسن، وَكَانَ
شَيخنَا عبس يحب مهنا هَذَا محبَّة عَظِيمَة ويعظمه وَيَقُول عَنهُ:
مهنا مهنا يَعْنِي أَنه يشبه فِي الصّلاح وَالْخَيْر جده وهم الْيَوْم
وَللَّه الْحَمد بالفوعة جمَاعَة كَثِيرَة وَكلهمْ على خير وديانة،
وَقد أجزل الله عَلَيْهِم الْمِنَّة وجعلهم بِتِلْكَ الأَرْض ملْجأ
لأهل السّنة وَلَو ذكرت تفاصيل سيرة الشَّيْخ مهنا الْكَبِير
وَأَوْلَاده وَأَصْحَابه وكراماتهم لطال القَوْل وَالله تَعَالَى أعلم.
وفيهَا: مَاتَ القان أَبُو سعيد بن خزبنده بن أرغون بن أبغا بن هولاكو
صَاحب الشرق، وَدفن بِالْمَدِينَةِ السُّلْطَانِيَّة وَله بضع
وَثَلَاثُونَ سنة، وَكَانَت دولته عشْرين سنة، وَكَانَ فِيهِ دين وعقل
وَعدل، وَكتب خطا مَنْسُوبا وأجاد ضرب الْعود، باشتغال التتر بوفاته
تمَكنا من عمَارَة قلعة جعبر بعد أَن كَانَت هِيَ وبلدها دَائِرَة من
أَيَّام هولاكو فَللَّه الْحَمد.
وفيهَا: توفّي بِدِمَشْق الإمامان مدرس الناصرية كَمَال الدّين أَحْمد
بن مُحَمَّد بن الشِّيرَازِيّ وَله سِتّ وَسِتُّونَ سنة وَقد ذكر
لقَضَاء دمشق ومدرس الأمينية قَاضِي الْعَسْكَر عَلَاء الدّين عَليّ بن
مُحَمَّد بن القلانسي وَله ثَلَاث وَسِتُّونَ سنة وناظر الخزانة عز
الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد الْعقيلِيّ بن القلانسي الْمُحْتَسب بهَا.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة: فِيهَا فِي ربيع الأول
توفّي الْأَمِير الشَّاب الْحسن جمال الدّين خضر بن ملك الْأُمَرَاء
عَلَاء الدّين الطنبغا بحلب وَدفن بالْمقَام ثمَّ عمل لَهُ وَالِده
تربة حَسَنَة عِنْد جَامِعَة خَارج حلب وَنقل إِلَيْهَا وَكَانَ حسن
السِّيرَة لَيْسَ من إعجاب أَوْلَاد النواب فِي شَيْء. (وَمِمَّا قلت
فِيهِ تضميناً)
(أيبست أَفْئِدَة بالحزن يَا خضر ... فالدمع يسقيك إِن لم يسقك
الْمَطَر)
(مِنْهَا خلقت فَلم يسمع زَمَانك أَن ... يشين حسنك فِيهِ الشيب
وَالْكبر)
(فَإِن رددت فَمَا فِي الرَّد منقصة ... عَلَيْك قد رد مُوسَى قبل
وَالْخضر)
(2/303)
وَإِن كَانَ يتَضَمَّن هَذَا التَّضْمِين
القَوْل بِمَوْت الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام.
وَفِيه: بَاشر تَاج الدّين مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم أَخُو الصاحب شرف
الدّين يَعْقُوب نظر الجيوش المنصورة بحلب فَمَا هنى بذلك واعترته
الْأَمْرَاض حَتَّى مَاتَ رَحمَه الله فِي سَابِع جُمَادَى الْآخِرَة
من السّنة الْمَذْكُورَة.
قلت:
(مَا الدَّهْر إِلَّا عجب فَاعْتبر ... أسرار تصريفاته واعجب)
(كم باذل فِي منصب مَاله ... مَاتَ وَمَا هنى بالمنصب)
وباشر مَكَانَهُ فِي شعْبَان مِنْهَا القَاضِي جمال الدّين سُلَيْمَان
بن رَيَّان.
وفيهَا: فِي رَمَضَان الْمُعظم وصل إِلَى حلب من مصر عَسْكَر حسن
الْهَيْئَة مقدمه الْحَاج أرقطاي وعسكر من دمشق مقدمهم قطلبغا الفخري
وعسكر من طرابلس مقدمه بهادر عبد الله وعسكر من حماه مقدمه الْأَمِير
صارم الدّين أزبك والمقدم على الْكل ملك الْأُمَرَاء بحلب عَلَاء
الدّين الطنبغا ورحل بهم إِلَى بِلَاد الأرمن فِي ثَانِي شَوَّال
مِنْهَا وَنزل على ميناء أياس وحاصرها ثَلَاثَة أَيَّام، ثمَّ قدم
رَسُول الأرمن من دمشق وَمَعَهُ كتاب نَائِب الشَّام بالكف عَنْهُم على
أَن يسلمُوا الْبِلَاد والقلاع الَّتِي شَرْقي نهر جهان فتسلموا
مِنْهُم ذَلِك وَهُوَ ملك كَبِير وبلاد كَثِيرَة كالمصيصة وكويرا
والهارونية وسرفندكار وأياس وباناس وبخيمة والنقير الَّتِي تقدم ذكر
تخريبها وَغير ذَلِك، فخرب الْمُسلمُونَ برج أياس الَّذِي فِي
الْبَحْر، واسنتابوا بالبلاد الْمَذْكُورَة نواباً، وعادوا فِي ذِي
الْحجَّة مِنْهَا وَالْحَمْد لله.
قلت: وَهَذَا فتح اشْتَمَل على فتوح ترك ملك الأرمن جسداً بِلَا روح
خَائفًا على مَا بَقِي بِيَدِهِ على الْإِطْلَاق وَكَيف لَا وَمن
خَصَائِص ديننَا سرَايَة الْأَعْنَاق فيا لَهُ فتحا كسر صلب الصَّلِيب
وَقطع يَد الزنار وَحكم على كَبِير أناسهم المزمل فِي بجاده بالخفض على
الْجوَار وَالله أعلم.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة توفّي الْأَمِير العابد الزَّاهِد صارم
الدّين أزبك المنصوري الْحَمَوِيّ بِمَنْزِلَة نزلها مَعَ الْعَسْكَر
عِنْد أياس، وَحمل إِلَى حماه فَدفن بتربته كَانَ من المعمرين فِي
الْإِمَارَة وَمن ذَوي الْعِبَادَة وَالْمَعْرُوف وَبنى خَانا للسبيل
بمعرة النُّعْمَان شرقيها، وَعمل عِنْد مَسْجِدا وسبيلاً للْمَاء وَله
غير ذَلِك رَحمَه الله ذكر لي جمَاعَة بحلب وَهُوَ مُسَافر إِلَى
بِلَاد الأرمن إِنَّه رُؤِيَ لَهُ بحماه مَنَام يدل على مَوته فِي
الْجِهَاد وَحمله إِلَى حماه وَحَوله الْمَلَائِكَة.
قلت: وَلَقَد تجمل لهَذَا الْجِهَاد وَتحمل وتكلف لمهمه وتكفل حَتَّى
كَأَنَّهُ توهم فَتْرَة سلاحه عَن الكفاح فرسم أَن تحد السيوف وتعتقل
الرماح فلاح على حركاته الْفَلاح وسيحمد سراه عِنْد الصَّباح وَالله
أعلم.
وفيهَا: وقف الْأَمِير الْفَاضِل صَلَاح الدّين يُوسُف بن الأسعد
الدواتدار دَاره النفيسة بحلب الْمَعْرُوف أَولا بدار ابْن العديم
مدرسة على الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وَشرط أَن يكون
(2/304)
القَاضِي الشَّافِعِي وَالْقَاضِي
الْحَنَفِيّ بحلب مدرسيها، وَذَلِكَ عِنْد عوده من بلد سيس صُحْبَة
الْعَسْكَر متصرفاً إِلَى منزله بطرابلس.
قلت: وَلَقَد كَانَت الدَّار الْمَذْكُورَة باكية لعدم بني العديم
فَصَارَت راضية بِالْحَدِيثِ عَن الْقَدِيم نزع الله عَنْهَا لِبَاس
الْبَأْس ولحزن وعوضها بحلة يُوسُف عَن شقة الْكَفَن فكمل رخامها
وذهبها وَجعل ثمال الْيَتَامَى عصمَة للأرامل مكتبها وكملها بالفروع
الموصلة وَالْأُصُول المفرغة وجمله بالمرابع المذهبة والمذاهب
الْأَرْبَعَة وَبِالْجُمْلَةِ فقد كتبهَا صَلَاح الدُّنْيَا فِي ديوَان
صَلَاح الدّين إِلَى يَوْم الْعرض وتلا لِسَان حسنها اليوسفي،
وَكَذَلِكَ مكنا ليوسف فِي الأَرْض، وَلما وقف الْأَمِير صَلَاح الدّين
الْمَذْكُور على هَذِه التَّرْجَمَة تهلل وَجهه، وَقَالَ: مَا
مَعْنَاهُ يَا ليتك زدتنا من هَذَا.
وفيهَا: توفّي الشَّيْخ الْكَبِير الشهير المتزهد مُحَمَّد بن عبد الله
بن الْمجد المرشدي بقريته من عمل مصر لَهُ أَحْوَال وَطَعَام يتَجَاوَز
الْوَصْف وَيُقَال أَنه كَانَ مخدوماً قيل أَنه انفق فِي ثَلَاث لَيَال
مَا يُسَاوِي خَمْسَة وَعشْرين ألفا رَحمَه الله تَعَالَى ونفعنا بِهِ.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة: فِيهَا فِي الْمحرم
توفّي نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن مجد الدّين مُحَمَّد بن قرناص دخل
بِلَاد سيس لكشف الفتوحات الجهانية فَتوفي هُنَاكَ رَحمَه الله
تَعَالَى وَدفن بتربة هُنَاكَ للْمُسلمين.
وفيهَا: فِي صفر توفّي بدر الدّين مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الدقاق
الدِّمَشْقِي نَاظر الْوَقْف بحلب.
وَفِي أَيَّام نظره فتح الْبَاب المسدود الَّذِي بالجامع بحلب شَرق
الْمِحْرَاب الْكَبِير لِأَنَّهُ سمع أَن بِالْمَكَانِ الْمَذْكُور
رأٍس زَكَرِيَّا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
نَبينَا وَعَلِيهِ وَسلم فارتاب فِي ذَلِك فأقدم على فتح الْبَاب
الْمَذْكُور بعد أَن نهي عَن ذَلِك فَوجدَ بَابا عَلَيْهِ تأزير رُخَام
أَبيض، وَوجد فِي ذَلِك تَابُوت رُخَام أَبيض فَوْقه رخامة تبيضاء
مربعة فَرفعت الرخامة عَن التابوت فَإِذا فِيهَا بعض جمجمة فهرب
الْحَاضِرُونَ هَيْبَة لَهَا، ثمَّ رد التابوت وَعَلِيهِ غطاؤه إِلَى
مَوْضِعه وسد عَلَيْهِ الْبَاب وَوضعت خزانَة الْمُصحف الْعَزِيز على
الْبَاب، وَمَا أنجح النَّاظر الْمَذْكُور بعد هَذِه الْحَرَكَة وابتلي
بالصرع إِلَى أَن عض لِسَانه فَقَطعه وَمَات، نسْأَل الله أَن يلهمنا
حسن الْأَدَب.
وفيهَا: فِي أَوَاخِر ربيع الأول قدم إِلَى حلب الْعَلامَة القَاضِي
فَخر الدّين مُحَمَّد بن عَليّ الْمصْرِيّ الشَّافِعِي الْمَعْرُوف
بِابْن كَاتب قطلوبك واحتفل بِهِ الحلبيون وَحصل لنا فِي الْبَحْث
مَعَه فَوَائِد مِنْهَا قَوْلهم إِذا طلب الشَّافِعِي من القَاضِي
الْحَنَفِيّ شُفْعَة الْجَار لم يمْنَع على الصَّحِيح لِأَن حكم
الْحَاكِم يرفع الْخلاف قَالَ وَهَذَا مُشكل فَإِن حم الْحَاكِم ينفذ
ظَاهرا بِدَلِيل قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: "
فَإِنَّمَا أقطع لَهُ قِطْعَة من نَار " وَأما كَون القَاضِي لَا ينْقض
هَذَا الحكم فَتلك سياسة حكمِيَّة.
(2/305)
وَمِنْهَا قَوْلهم يقْضِي الشَّافِعِي
الصَّلَاة إِذا اقْتدى بالحنفي علم أَنه ترك وَاجِبا كالبسملة يَعْنِي
على الصَّحِيح وَلَا يقْضِي الْمُقْتَدِي بحنفي افتصد وَلم يتَوَضَّأ
قَالَ: وَهَذَا مُشكل فَإِن الْحَنَفِيّ إِذا افتصد وَلم يتَوَضَّأ
وَصلى فَهُوَ متلاعب على اعْتِقَاده فَيَنْبَغِي أَن يقْضِي
الشَّافِعِي الْمُقْتَدِي بِهِ وَإِذا ترك الْبَسْمَلَة فَصلَاته
صَحِيحَة عِنْده فَيَنْبَغِي أَن لَا يقْضِي الشَّافِعِي الْمُقْتَدِي
بِهِ وَفِيه نظر.
وَمِنْهَا قَوْلهم فِي الصَدَاق أَن قيمَة النّصْف غير نصف الْقيمَة
هَذَا مَعْرُوف وَلكنه قَالَ قَول الرَّافِعِيّ وَغَيره أَن الزَّوْج
فِي مسَائِل التشطير يغمها نصف الْقيمَة النّصْف مُشكل.
وَكَانُوا بِدِمَشْق لَا يساعدونني على استشكاله حَتَّى رَأَيْته
لإِمَام الْحَرَمَيْنِ وَذَلِكَ لِأَن الْقيمَة خلف لما تلف وَإِنَّمَا
يسْتَحق نصف الصَدَاق فليغرمها قيمَة النّصْف لَا نصف الْقيمَة.
وَمِنْهَا: أَنه ذكر أَن الشَّيْخ صدر الدّين لما قدم من مصر قَالَ:
لقد سَأَلَني ابْن دَقِيق الْعِيد عَن مَسْأَلَة أسهرته لَيْلَتَيْنِ
وَصورتهَا رجل قَالَ لزوجته: إِن طننت بِي كَذَا فَأَنت طَالِق، فظنت
بِهِ ذَلِك قَالُوا: تطلق، وَمَعْلُوم أَن الظني لَا ينْتج قَطْعِيا
فَكيف أنتج هُنَا الْقطعِي؟ قَالَ الْعَلامَة فَخر الدّين: وَكنت
يَوْمئِذٍ صَبيا فَقلت لَيْسَ هَذَا من ذَلِك فَإِن الْمَعْنى إِن حصل
لَك الظَّن بِكَذَا فَأَنت طَالِق والحصول قَطْعِيّ فينتج قَطْعِيا،
فَقَالَ صدر الدّين بِهَذَا أَجَبْته.
وَمِنْهَا: قَوْلهم إِذا ادّعى على امْرَأَة فِي حبالة رجل أَنَّهَا
زَوجته فَقَالَت: " طلقتني تجْعَل زَوجته وَيحلف أَنه لم يُطلق رآى فِي
هَذِه الْمَسْأَلَة مَا يرَاهُ شَيخنَا قَاضِي الْقُضَاة شرف الدّين بن
الْبَارِزِيّ وَهُوَ أَن المُرَاد بذلك امْرَأَة مُبْهمَة الْحَال.
وَمِنْهَا: إِنَّمَا انْعَقَد السّلم بِجَمِيعِ أَلْفَاظ البيع وَلم
ينْعَقد البيع بِلَفْظ السّلم لِأَن البيع يَشْمَل بيع الْأَعْيَان
وَبيع مَا فِي الذِّمَّة، فَصدق البيع عَلَيْهِمَا صدق الْحَيَوَان على
الْإِنْسَان وَالْفرس، فَإِذا الْحَيَوَان جنس لهذين النَّوْعَيْنِ،
وَكَذَلِكَ البيع جنس لهذين النَّوْعَيْنِ بِخِلَاف السّلم فَإِنَّهُ
بيع مَا فِي الذِّمَّة فَلَا يصدق على بيع الْعين كالنوع لَا يصدق على
الْجِنْس وَلذَلِك تسمعهم يَقُولُونَ الْجِنْس يصدق على النَّوْع وَلَا
عكس.
وَمِنْهَا: قَوْلهم يسْجد للسَّهْو بِنَقْل ركن ذكري إِن أُرِيد بِهِ
أَنه ترك الْفَاتِحَة مثلا فِي الْقيام وَقرأَهَا فِي التَّشَهُّد
سَهوا فَهَذَا يطْرَح غير المنظوم وَإِن فعل ذَلِك عمدا بطلت صلَاته
وَإِن أُرِيد غير ذَلِك فَمَا صورته؟
فَأجَاب: إِن صُورَة الْمَسْأَلَة أَن يقْرَأ الْفَاتِحَة فِي الْقيام
ثمَّ يَقْرَأها فِي التَّشَهُّد مثلا فَوَافَقَ ذَلِك جَوَابنَا
فِيهَا.
وَمِنْهَا: أَنهم قَالُوا خمس رَضعَات تحرم بِشَرْط كَون اللَّبن
المحلوب فِي خمس مَرَّات على الصَّحِيح، ثمَّ ذكرُوا قَطْرَة اللَّبن
تقع فِي الْحبّ وَهَذَا تنَاقض فَقَالَ لَا تنَاقض فَالْمُرَاد بقطرة
اللَّبن فِي الْحبّ إِذا وَقعت تَتِمَّة لما قبلهَا وَهَذَا حسن مُهِمّ
فَإِن شَيخنَا لفراره من مثل ذَلِك شَرط أَن يكون اللَّبن المغلوب
بِمَا شيب بِهِ قدرا يُمكن أَن يسْقِي مِنْهُ خمس دفعات لَو
(2/306)
انْفَرد عَن الخليط، وَلَا شكّ أَن هَذَا
قَول ضَعِيف وَالصَّحِيح عِنْد الرَّافِعِيّ إِن هَذَا لَا يشْتَرط
والناقض ينْدَفع بِمَا تقدم من جَوَاب الْعَلامَة فَخر الدّين.
وفيهَا: وَأَظنهُ فِي ربيع الآخر ورد الْخَبَر إِلَى حلب بِأَن نَائِب
الشَّام تنكز قبض على علم الدّين كَاتب السِّرّ القبطي الأَصْل
بِدِمَشْق، وَولى مَوْضِعه القَاضِي شهَاب الدّين يحيى بن القَاضِي
عماد الدّين إِسْمَاعِيل بن القيسراني الخالدي وعذب النَّائِب الْعلم
الْمَذْكُور وعاقبه وصادره وَبَينه وَبَين الْعَلامَة فَخر الدّين
الْمصْرِيّ قرَابَة فَلحقه شؤمه ولفحه سمومه وسافر من حلب خَائفًا من
نَائِب الشَّام فَلَمَّا وصل دمشق رسم عَلَيْهِ مُدَّة وعزل عَن مدارسه
وجهاته ثمَّ فك الترسيم عَنهُ وَبعد موت تنكز عَادَتْ إِلَيْهِ جهاته
وَحسنت حَاله وَللَّه الْحَمد.
وفيهَا: فِي رَجَب ورد الْخَبَر بوفاة القَاضِي شهَاب الدّين مُحَمَّد
بن الْمجد عبد الله قَاضِي الْقُضَاة الشَّافِعِي بِدِمَشْق صدمت بغلته
بِهِ حَائِطا فَمَاتَ بعد أَيَّام وَخلق النَّاس مَوضِع الصدمة من
ذَلِك الْحَائِط بالخلوق وَمن لطف الله بِهِ أَن السُّلْطَان عَزله
بِمصْر يَوْم مَوته بِدِمَشْق، وعزل القَاضِي جلال الدّين مُحَمَّد
الْقزْوِينِي عَن قَضَاء الشَّافِعِيَّة بِمصْر وَنَقله إِلَى
الْقَضَاء بِالشَّام مَوضِع ابْن الْمجد ورسم بمصادرة ابْن الْمجد
فَلَمَّا مَاتَ صودر أَهله وَكَانَ ابْن الْمجد فِيهِ خير وَشر ودهاء
ومروءة.
قلت:
(لَا ييأس مخلط ... من رَحمَه الله الْعَفو)
(دَلِيل هَذَا قَوْله ... وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا)
وَولي بعد جلال الدّين قَضَاء الديار المصرية قَاضِي الْقُضَاة عز
الدّين عبد الْعَزِيز ابْن قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن
جمَاعَة وَأحسن السِّيرَة وعزل القَاضِي برهَان الدّين بن عبد الْحق
أَيْضا عَن قَضَاء الْحَنَفِيَّة بالديار المصرية وَولى مَكَانَهُ
القَاضِي حسام الدّين الغوري قَاضِي الْقُضَاة بِبَغْدَاد كَانَ
الْوَافِد إِلَى مصر عقيب الْفِتَن الكائنة بالمشرق لمَوْت أبي سعيد.
وفيهَا: فِي رَجَب أَيْضا بَاشر القَاضِي بهاء الدّين حسن بن القَاضِي
جمال الدّين سلمَان بن رَيَّان مَكَان وَالِده نظر الجيوش بحلب فِي
حَيَاة وَالِده وبسعيه لَهُ.
وفيهَا: فِي رَجَب مَاتَ بحلب فَاضل الْحَنَفِيَّة بهَا الشَّيْخ شهَاب
الدّين أَحْمد ابْن الْبُرْهَان إِبْرَاهِيم بن دَاوُد ولى قَضَاء عزاز
ثمَّ نِيَابَة الْقَضَاء بحلب مُدَّة ثمَّ انْقَطع إِلَى الْعلم وَله
مصنفات وَولي إبنه دَاوُد جهاته.
وفيهَا: فِي رَمَضَان توفّي القَاضِي مُحي الدّين يحيى بن فضل الله
كَاتب السِّرّ بِمصْر وَقد ناف على التسعين وَله نظم ونثر.
وفيهَا: أخرج الْخَلِيفَة أَبُو الرّبيع سُلَيْمَان المستكفي بِاللَّه
من مَكَانَهُ بِمصْر عنفاً إِلَى قوص، وَقلت فِي ذَلِك مضمناً من
القصيدة الْمَشْهُورَة لأبي الْعَلَاء بَيْتا وَبَعض بَيت:
(أخرجوكم إِلَى الصَّعِيد لعذر ... غير مجد فِي ملتي واعتقادي)
(2/307)
(لَا يغيركم الصَّعِيد وَكُونُوا ... فِي
مثل السيوف فِي الأغماد)
وفيهَا: فِي رَمَضَان أَيْضا ورد الْخَبَر إِلَى حلب بوفاة الْعَلامَة
زين الدّين مُحَمَّد بن أخي الشَّيْخ صدر الدّين بن الْوَكِيل
الْمَعْرُوف بِابْن المرحل من أكَابِر الْفُقَهَاء المفننين المدرسين
الْأَعْيَان المتأهلين للْقَضَاء بِدِمَشْق.
(أدينه تندب أم سمته ... أم عقله الوافر أم علمه)
(فاق على الأقران فِي جده ... فَمن رَآهُ خَاله عَمه)
وَتَوَلَّى تدريس الشامية البرانية مَكَانَهُ القَاضِي جمال الدّين
يُوسُف بن جملَة فَمَاتَ ابْن جملَة قيل أَنه مَا ألْقى فِيهَا إِلَّا
درساً أَو درسين لاشتغاله بِالْمرضِ، وولاها بعده القَاضِي شمس الدّين
مُحَمَّد بن النَّقِيب بعد أَن نزل عَن العادلية.
وفيهَا: فِي ثَالِث شَوَّال ورد الْخَبَر بوفاة الْعَلامَة شيخ
الْإِسْلَام زين الدّين مُحَمَّد بن الْكِنَانِي علم الشَّافِعِيَّة
بِمصْر وَصلى عَلَيْهِ بحلب صَلَاة الْغَائِب، كَانَ مقدما فِي
الْفِقْه وَالْأُصُول مُعظما فِي المحافل متضلعاً من الْمَنْقُول
وَلَوْلَا إنجذابه عَن عُلَمَاء عصره وتيهه على فضلاء دهره لبكي على
فَقده أعلامهم وَكسرت لَهُ محابرهم وأقلامهم وَلَكِن طول لِسَانه
عَلَيْهِم هون فَقده لديهم.
(قلت: فجعت بكثبانها مصر ... فبمثله لَا يسمح الدَّهْر)
(يَا زين مذْهبه كفى أسفا ... أَن الصُّدُور بموتك انسروا)
(مَا كَانَ من بَأْس لَو أَنَّك ... بالعلماء برأيها الْبَحْر)
وفيهَا: فِي شَوَّال أَيْضا رسم ملك الْأُمَرَاء بحلب الطنبغا بتوسيع
الطّرق الَّتِي فِي الْأَسْوَاق إقتداء بنائب الشَّام تنكز فِيمَا فعله
فِي أسواق دمشق كَمَا مر، ولعمري قد توقعت عَزله عَن حلب لما فعل ذَلِك
فَقلت حِينَئِذٍ:
(رأى حَلبًا بَلَدا داثراً ... فَزَاد لإصلاحها وحرصه)
(وقاد الجيوش لفتح الْبِلَاد ... ودق لقهر العدى فحصه)
(وَمَا بعد هَذَا سوى عَزله ... إِذا تمّ أَمر بدى نَقصه)
وفيهَا: فِي عَاشر شَوَّال ورد الْخَبَر بوفاة الْفَاضِل الْمُفْتِي
الشَّيْخ بدر الدّين مُحَمَّد بن قَاضِي بارين الشَّافِعِي بحماه.
كَانَ عَارِفًا بالحاوي الصَّغِير وَيعرف نَحوا وأصولاً وَعِنْده
ديانَة وتقشف وبيني وَبَينه صُحْبَة قديمَة فِي الِاشْتِغَال على
شَيخنَا قَاضِي الْقُضَاة شرف الدّين بن الْبَارِزِيّ وسافر مرّة إِلَى
الْيمن رَحمَه الله ونفعنا ببركته (قلت) :
(فَجمعت حماة ببدرها بل صدرها ... بل بحرها بل حبرها الغواص)
(الله أكبر كَيفَ حَال مَدِينَة ... مَاتَ الْمُطِيع بهَا وَيبقى
العَاصِي)
(2/308)
وَفِيه: ولى قَضَاء الْحَنَفِيَّة بحماه
جمال الدّين عبد الله بن القَاضِي نجم الدّين عمر بن العديم شَابًّا
أَمر بعد عزل القَاضِي تَقِيّ الدّين بن الْحَكِيم فَإِن صَاحب حماه
آثر أَن لَا يَنْقَطِع هَذَا الْأَمر من هَذَا الْبَيْت بحماه لما حصل
لأهل حماه من التأسف على وَالِده القَاضِي نجم الدّين وفضائله وعفته
وَحسن سيرته رَحمَه الله تَعَالَى وجهز قَاضِي الْقُضَاة نَاصِر الدّين
مُحَمَّد بن قَاضِي الْقُضَاة كَمَال الدّين عمر بن العديم صاحبنا
شهَاب الدّين أَحْمد بن المُهَاجر إِلَى حماه نَائِبا عَن القَاضِي
جمال الدّين الْمَذْكُور إِلَى حِين يسْتَقلّ بِالْأَحْكَامِ وخلع
صَاحب حماه عَلَيْهِمَا فِي يَوْم وَاحِد.
وَفِيه: ورد الْخَبَر أَن الْأَمِير سيف الدّين أَبَا بكر النابيري قدم
من الديار المصرية على ولَايَة بر دمشق.
وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة توفّي بِدِمَشْق الْعَلامَة القَاضِي جمال
الدّين يُوسُف بن جملَة الشَّافِعِي معزولا عَن الحكم من سنة أَربع
وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة، كَانَ جم الْفَضَائِل غزير الْمَادَّة
صَحِيح الإعتقاد عِنْده صداقة فِي الْأَحْكَام وَتَقْدِيم للمستحقين
وَكَانَ قد عطف عَلَيْهِ النَّائِب وولاه تدريس مدارس بِدِمَشْق.
قلت:
(بَكت الْمجَالِس والمدارس جملَة ... لَك يَا ابْن جملَة حِين فاجأك
الردى)
(فاصعد إِلَى درج العلى واسعد فَمن ... خدم الْعُلُوم جَزَاؤُهُ أَن
يصعدا)
وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة توفّي شَيْخي المحسن إِلَيّ ومعلمي المتفضل
على قَاضِي الْقُضَاة شرف الدّين أَبُو الْقَاسِم هبة الله بن قاضى
الْقُضَاة نجم الدّين أبي مُحَمَّد عبد الرَّحِيم بن قَاضِي الْقُضَاة
شمس الدّين أبي الطَّاهِر إِبْرَاهِيم بن هبة الله بن الْمُسلم ابْن
هبة الله بن حسان بن مُحَمَّد بن مَنْصُور بن أَحْمد بالبارزي
الْجُهَنِيّ الْحَمَوِيّ الشَّافِعِي علم الْأَئِمَّة وعلامة الْأمة
تعين عَلَيْهِ الْقَضَاء بحماه فَقبله، وتورع لذَلِك عَن مَعْلُوم
الحكم من بَيت المَال فَمَا أكله بل فرش خَدّه لخدمة النَّاس وَوَضعه
وَلم يتَّخذ عمره درة وَلَا مهما زاولا مقرعة وَلَا عزّر أحد بِضَرْب
وَلَا إخراق وَلَا أسقط شَاهدا على الْإِطْلَاق، هَذَا مَعَ نُفُوذ
أَحْكَامه وَقبُول كَلَامه والمهابة الوافرة وَالْجَلالَة الظَّاهِرَة
وَالْوَجْه الْبَهِي الْأَبْيَض المشرب بحمرة واللحية الْحَسَنَة
الَّتِي تملأ صَدره والقامة التَّامَّة والمكارم الْعَامَّة والمحبة
الْعَظِيمَة للصالحين والتواضع الزَّائِد للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين،
أفنى شبيبته فِي الْمُجَاهِد والتقشف والأوراد، وَأنْفق كهولته فِي
تَحْقِيق الْعُلُوم والإرشاد، وَقضى شيخوخته فِي تضنيف الْكتب
الْجِيَاد وخطب مَرَّات لقَضَاء الديار المصرية فَأبى وقنع بمصره،
وَاجْتمعَ لَهُ من الْكتب مَا لم يجْتَمع لأهل عصره، كف بَصَره فِي آخر
عمره فولى ابْن ابْنه مَكَانَهُ، وتفرغ للعلوم والتصوف والديانة
وَصَارَ كلما علت سنه لطف فكره وجاد ذهنه وشدت الرّحال إِلَيْهِ
وَصَارَ الْمعول فِي الْفَتَاوَى عَلَيْهِ واشتهرت مصنفاته فِي حَيَاته
بِخِلَاف الْعَادة، ورزق فِي تصانيفه وتآليفه السَّعَادَة.
(2/309)
فَمِنْهَا: فِي التَّفْسِير كتاب
الْبُسْتَان فِي تَفْسِير الْقُرْآن مجلدان، وَكتاب روضات جنَّات
المحبين اثنى عشر مجلداً.
وَمِنْهَا: فِي الحَدِيث كتاب الْمُجْتَبى مُخْتَصر جَامع الْأُصُول
وَكتاب المحتبى وَكتاب الوفا فِي أَحَادِيث الْمُصْطَفى، وَكتاب
الْمُجَرّد من السَّنَد وَكتاب المنضد شرح المجر أَربع مجلدات.
وَمِنْهَا: فِي الْفِقْه كتاب شرح الْحَاوِي الْمُسَمّى بِإِظْهَار
الْفَتَاوَى من اعوار الْحَاوِي، وَكتاب تيسير الْفَتَاوَى من تَحْرِير
الْحَاوِي وهما أشهر تصانيفه، وَكتاب شرح نظم الْحَاوِي أَربع مجلدات،
وَكتاب الْمُغنِي مُخْتَصر التَّنْبِيه وَكتاب تَمْيِيز التَّعْجِيز.
وَمِنْهَا: فِي غير ذَلِك كتاب تَوْثِيق عرى الْأَيْمَان فِي تَفْضِيل
حبيب الرَّحْمَن والسرعة فِي قراءات السَّبْعَة والدراية لأحكام
الرِّعَايَة للمحاسبي وَغير ذَلِك حَدثنِي رَحمَه الله تَعَالَى فِي
ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاث عشرَة وَسَبْعمائة قَالَ رَأَيْت الشَّيْخ
مُحي الدّين النَّوَوِيّ بعد مَوته فِي الْمَنَام فَقلت لَهُ: مَا
تخْتَار فِي صَوْم الدَّهْر؟ فَقَالَ فِيهِ اثنى عشر قولا للْعُلَمَاء
فَظهر لشَيْخِنَا أَن الْأَمر كَمَا قَالَ وَإِن لم تكن الْأَقْوَال
مَجْمُوعَة فِي كتاب وَاحِد وَذَلِكَ أَن فِي صَوْم الدَّهْر فِي حق من
لم ينذر وَلم يتَضَرَّر بِهِ أَرْبَعَة أَقْوَال الِاسْتِحْبَاب هُوَ
إختيار الْغَزالِيّ وَأكْثر الْأَصْحَاب وَالْكَرَاهَة وَهُوَ إختيار
الْبَغَوِيّ صَاحب التَّهْذِيب وَالْإِبَاحَة وَهُوَ ظَاهر نَص
الشَّافِعِي لِأَنَّهُ قَالَ لَا بَأْس بِهِ، وَالتَّحْرِيم وَهُوَ
إختيار أهل الظَّاهِر حملا لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - فِيمَن صَامَ الدَّهْر لَا صَامَ وَلَا أفطر على أَنه دُعَاء
عَلَيْهِ وَفِي حق من نذور وَلم يتَضَرَّر خَمْسَة أَقْوَال الْوُجُوب
وَهُوَ إختيار أَكثر الأصاحب وَالْإِبَاحَة وَالْكَرَاهَة
وَالتَّحْرِيم وَفِي حق من يتَضَرَّر بِأَن تفوته السّنَن أَو
الِاجْتِمَاع بالأهل ثَلَاثَة أَقْوَال التَّحْرِيم وَالْكَرَاهَة
وَالْإِبَاحَة وَلَا يَجِيء الْوُجُوب وَلَا الإستحباب فَهَذِهِ إثنى
عشر قولا فِي صَوْم الدَّهْر وَهَذَا الْمَنَام من كرامات الشَّيْخ
مُحي الدّين وَالْقَاضِي شرف الدّين رَضِي الله عَنْهُمَا وَالله أعلم.
وَأَخْبرنِي حِين أجازني أَنه أَخذ الْفِقْه من طَرِيق الْعِرَاقِيّين
عَن وَالِده وجده أبي الطَّاهِر إِبْرَاهِيم وَهُوَ عَن القَاضِي عبد
الله بن إِبْرَاهِيم الْحَمَوِيّ عَن القاشي أبي سعد بن أبي عصرون
الْموصِلِي عَن القَاضِي أبي عَليّ الفارقي عَن الشَّيْخ أبي إِسْحَاق
الشِّيرَازِيّ عَن القَاضِي أبي الطّيب الطَّبَرِيّ عَن أبي الْحسن
الماسرجسي عَن أبي الْحسن الْمروزِي وَمن طَرِيق الخراسانيين عَن جده
الْمَذْكُور عَن الشَّيْخ فَخر الدّين عبد الرحمان بن عَسَاكِر
الدِّمَشْقِي عَن الشَّيْخ قطب الدّين مَسْعُود النَّيْسَابُورِي عَن
عمر ابْن سهل الدَّامغَانِي عَن حجَّة الْإِسْلَام أبي حَامِد
الْغَزالِيّ عَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ أبي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ
عَن وَالِده أبي مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ عَن الإِمَام أبي بكر الْقفال
الْمروزِي عَن أبي إِسْحَاق الْمروزِي الْمَذْكُور عَن القَاضِي أبي
الْعَبَّاس بن شُرَيْح عَن أبي الْقَاسِم الْأنمَاطِي عَن أبي
إِسْمَاعِيل الْمُزنِيّ وَالربيع الْمرَادِي كِلَاهُمَا عَن الإِمَام
الْأَعْظَم أبي عبد الله مُحَمَّد بن أدريس الشَّافِعِي وَهُوَ أَخذ
عَن إِمَام حرم
(2/310)
الله مُسلم بن خَالِد الزنْجِي عَن ابْن
جريح عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم وَعَن إِمَام حرم
سَوَّلَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَالك عَن نَافِع
عَن ابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر رَضِي الله عَنْهُم عَن
نَبينَا سيد الْمُرْسلين مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَصْحَابه أفضل صلواته عدد معلوماته،
وَله نظم قَلِيل فَمِنْهُ مَا كتب بِهِ إِلَى صَاحب حماه يَدعُوهُ
إِلَى وَلِيمَة:
(طَعَام الْعرس مَنْدُوب إِلَيْهِ ... وَبَعض النَّاس صرح بِالْوُجُوب)
(فجبرا بالتناول مِنْهُ جَريا ... على الْمَعْهُود فِي جبر الْقُلُوب)
وَمن نثره الَّذِي يقْرَأ طرداً وعسكاً قَوْله:
سور حماه بربها محروس.
وَلما بَلغنِي خبر وَفَاته كتبت كتابا إِلَى ابْنه القَاضِي نجم الدّين
عبد الرَّحِيم بن القَاضِي شمس الدّين إِبْرَاهِيم بن قَاضِي الْقُضَاة
شرف الدّين الْمَذْكُور.
صورته: وَينْهى أَنه بلغ الْمَمْلُوك وَفَاة الحبر الراسخ بل انهداد
الطود الشامخ وَزَوَال الْجَبَل الباذخ الَّذِي بكته السَّمَاء
وَالْأَرْض وقابلت فِيهِ الْمَكْرُوه بالندب وَذَلِكَ فرض فشرقت أجفان
الْمَمْلُوك بالدموع وَاحْتَرَقَ قلبه بَين الضلوع، وساواه فِي الْحزن
الصَّادِر الْوَارِد وَاجْتمعت الْقُلُوب لما تمّ لمأتم وَاحِد فالعلوم
تبكيه والمحاسن تعزى فِيهِ وَالْحكم ينعاه وَالْبر يتفداه والأقلام
تمشي على الرؤس لفقده والمصنفات تلبس حداد المداد من بعده، وَلما صلي
عَلَيْهِ يَوْم الْجُمُعَة صَلَاة الْغَائِب بحلب اشْتَدَّ الضجيج
وارتفع النشيج وعلت الْأَصْوَات فَلَا خَاص إِلَّا حزن قلبه وَلَا عَام
إِلَّا طَار لبه فَإِنَّهُ مثاب زلزل الأَرْض وَهدم الْكَرم الْمَحْض
وسلب الْأَبدَان قواها وَمنع عُيُون الْأَعْيَان كراها، وَلَكِن عزى
النَّاس لفقده كَون مَوْلَانَا الْخَلِيفَة من بعده فَإِنَّهُ بِحَمْد
الله خلف عَظِيم لسلف كريم، وَهُوَ أولى من قَابل هَذَا الفادح القادح
بالرضى وَسلم إِلَى الله سُبْحَانَهُ فِيمَا قضى فَإِنَّهُ سُبْحَانَ
يحيى مَا كَانَت الْحَيَاة أصلح وَيُمِيت إِذا كَانَت الْوَفَاة أروح.
وَقد نظم الْمَمْلُوك فِيهِ مرثية أعجزه عَن تحريرها اضطرام صَدره
وَحمله على تسطيرها انتهاب صبره، وَهَا هِيَ:
(برغمي أَن بَيتكُمْ يضام ... وَيبعد عَنْكُم القَاضِي الإِمَام)
(سراج للعلوم إضاء دهراً ... على الدُّنْيَا لغيبته ظلام)
(تعطلت المكارم والمعالي ... وَمَات الْعلم وارتفع الطغام)
(عجبت لفكرتي سمحت بنظم ... أيسعدني على شَيْخي نظام)
(وأرثيه رثاء مُسْتَقِيمًا ... ويمكنني القوافي وَالْكَلَام)
(وَلَو أنصفنه لقضيت نحبي ... فَفِي عنقِي لَهُ نعم جسام)
(حَشا أُذُنِي درا ساقطته ... عيوني يَوْم حم لَهُ الْحمام)
(لقد لؤم الْحمام فَإِن رَضِينَا ... بِمَا يجنى فَنحْن إِذا لئام)
(2/311)
(أَلا يَا عامنا لَا كنت عَاما ... فمثلك
مَا مضى فِي الدَّهْر عَام)
(أتفجعنا بكناني مصر ... وَكَانَ بِهِ لساكنها اعتصام)
(وتفتك بِابْن جملَة فِي دمشق ... وبعلوها لمصرعه القتام)
(وَكَانَ ابْن المرحل حِين يبكي ... لخوف الله تبتسم الشَّام)
(وَحبر حماة تَجْعَلهُ ختاماً ... أذاب قُلُوبنَا هَذَا الختام)
(وَلما قَامَ ناعيه استطارت ... عقول النَّاس واضطرب الْأَنَام)
(وَلَو يبْقى سلونا من سواهُ ... فَإِن بِمَوْتِهِ مَاتَ الْكِرَام)
(أألهو بعدهمْ وَأقر عينا ... حَلَال اللَّهْو بعدهمْ حرَام)
(فيا قَاضِي الْقُضَاة دُعَاء صب ... برغمي أَن يغيرك الرغام)
(وَيَا شرف الْفَتَاوَى والدعاوى ... على الدُّنْيَا لغيبتك السَّلَام)
(وَيَا ابْن الْبَارِزِيّ إِذا بَرَزْنَا ... بِثَوْب الْحزن فِيك
فَلَا نلام)
(سقى قبراً حللت بِهِ غمام ... من الأجفان إِن بخل الْغَمَام)
(إِلَى من ترحل الطلاب يَوْمًا ... وَهل يُرْجَى لذِي نقص تَمام)
(وَمن للمشكلات وللفتاوى ... وَفضل الْأَمْرَانِ عظم الْخِصَام)
(وَكَانَ خَليفَة فِي كل فن ... وعينا للخليفة لَا تنام)
(أَلا يَا بَابه لَا زَالَت قصدا ... لأهل الْعلم يغشاك الزحام)
(فَإِن حفيد شيخ الْعَصْر بَاقٍ ... يقل بِهِ على الدَّهْر الملام)
(أنجم الدّين مثلك من تسلى ... إِذا فدحت من النوب الْعِظَام)
(وَفِي بقياك عَن ماضٍ عزاء ... قيامك بعده نعم الْقيام)
(إِذا ولى لبيتكم إِمَام ... عديم الْمثل يخلفه إِمَام)
(وَفِي خير الْأَنَام لكم عزاء ... وَلَيْسَ لساكن الدُّنْيَا دوَام)
(أَنا تلميذ بَيتكُمْ قَدِيما ... بكم فخري إِذا افتخر الْأَنَام)
(وَإِن كُنْتُم بِخَير كنت فِيهِ ... ويرضيني رضاكم وَالسَّلَام)
(لكم مني الدُّعَاء بِكُل أَرض ... وَنشر الذّكر مَا ناح الْحمام)
ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة: فِيهَا فِي الْمحرم توفّي
بِمصْر شَيخنَا قَاضِي الْقُضَاة فَخر الدّين عُثْمَان بن زين الدّين
عَليّ بن عُثْمَان الْمَعْرُوف بِابْن خطيب جبرين قَاضِي حلب وَابْنه
كَمَال الدّين مُحَمَّد وَذَلِكَ أَن الشناعات كثرت عَلَيْهِ فَطَلَبه
السُّلْطَان على الْبَرِيد إِلَيْهِ فَحَضَرَ عِنْده وَقد طَار لبه
وَخرج وَقد انْقَطع قلبه وتمرض بِمصْر مُدَّة وأراحه الله بِالْمَوْتِ
من تِلْكَ الشدَّة وَحسب المنايا أَن يكن أمانياً وَلَقَد كَانَ رَحمَه
الله فَاضلا فِي الْفِقْه وَالْأُصُول والنحو والتصريف والقراءآت
مشاركاً فِي الْمنطق وَالْبَيَان وَغَيرهمَا، وَله الشَّرْح الشَّامِل
الصَّغِير وَيدل حلّه إِيَّاه على ذكاء مفرط، وَله شرح مُخْتَصر ابْن
الْحَاجِب فِي الْأُصُول وَشرح البديع لِابْنِ الساعاتي فِي الْأُصُول
أَيْضا وفرائض نظم وفرائض نثر ومجموع صَغِير فِي اللُّغَة
(2/312)
وَغير ذَلِك، كَانَ رَحمَه الله سريع
الْغَضَب سريع الرضى كثير الذّكر لله تَعَالَى.
قلت:
(من هُوَ فَخر الدّين عُثْمَان فِي ... مراحم الله وإحسانه)
(مَاتَ غَرِيبا خَائفًا نازحاً ... عَن أنس أهليه وأوطانه)
(وَبَعض هذي فِيهِ مَا يرتجى ... لَهُ بِهِ رَحْمَة ديانه)
(فَقل لشانيه ترفق فَفِي ... شَأْنك مَا يُغْنِيك عَن شَأْنه)
وَرَأَيْت مَكْتُوبًا بِخَطِّهِ هَذِه الْكَلِمَات وَكنت سَمعتهَا من
لَفظه قبل ذَلِك وَهِي الِالْتِفَات إِلَى الْأَسْبَاب شرك فِي
التَّوْحِيد والإعراض عَن الْأَسْبَاب بِالْكُلِّيَّةِ قدح فِي
الشَّرْع ومحو الْأَسْبَاب أَن تكون أسباباً نقص فِي الْعقل فَمن جعل
السَّبَب مُوجبا فقد أَخطَأ وَمن محاه وَلم يَجْعَل لَهُ أثرا فقد
أَخطَأ وَمن جعل السَّبَب سَببا والمسبب هُوَ الْفَاعِل فقد أصَاب،
ومولده رَحمَه الله بِمصْر فِي الْعشْر الْأَوَاخِر من شهر ربيع الأول
سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وسِتمِائَة.
وفيهَا: فِي الْعشْر الْأَوْسَط من ربيع الآخر توفّي السَّيِّد الشريف
بدر الدّين مُحَمَّد بن زهرَة الْحُسَيْنِي نقيب الْأَشْرَاف وَكيل
بَيت المَال بحلب وَمن الِاتِّفَاق إِنَّه مَاتَ يَوْم وُرُود الْخَبَر
بعزل ملك الْأُمَرَاء عَلَاء الدّين الطنبغا عَن نِيَابَة حلب وَكَانَ
بَينهمَا شَحْنَاء فِي الْبَاطِن.
قلت:
(قد كَانَ كل مِنْهُمَا ... يَرْجُو شفا أضغانه)
(فَصَارَ كل وَاحِد ... مشتغلاً بشانه)
كَانَ السَّيِّد رَحمَه الله حسن الشكل وافر النِّعْمَة مُعظما عِنْد
النَّاس شهماً ذكياً، وجده الشريف أَبُو إِبْرَاهِيم هُوَ ممدوح أبي
الْعَلَاء المعري كتب إِلَى أبي الْعَلَاء القصيدة الَّتِي أَولهَا:
(غير مستحصل وصال الغواني ... بعد سِتِّينَ حجَّة وثماني)
وَمِنْهَا:
(كل علم مفرق فِي البرايا ... جمعته معرة النُّعْمَان)
فَأَجَابَهُ أَبُو الْعَلَاء بالقصيدة الَّتِي أَولهَا:
(عللاني فَإِن بيض الْأَمَانِي ... فنيت والظلام لَيْسَ بفاني)
وَمِنْهَا:
(يَا أَبَا إِبْرَاهِيم قصر عَنْك ... الشّعْر لما وصفت بِالْقُرْآنِ)
وفيهَا: فِي الْعشْر الأول من جُمَادَى الأولى قدم الْأَمِير سيف
الدّين طرغاي إِلَى حلب نَائِبا بهَا وسر النَّاس بقدومه وأظهروا
الزِّينَة وصحبته القَاضِي شهَاب الدّين أَحْمد بن العطب كَاتب السِّرّ
مَكَان تَاج الدّين بن الزين خضر المتوجه إِلَى مصر صُحْبَة الْأَمِير
عَلَاء الدّين الطنبغا، وَكَانَ رنك الْمُنْفَصِل جوكانين ورنك
الْمُتَّصِل خونجا فَقَالَ بعض النَّاس فِي ذَلِك:
(2/313)
(كم أَتَى الدَّهْر بطرد ... وبعكس وببدع)
(رَاح عَنَّا رنك ضرب ... وأتانا رنك بلع)
وفيهَا: فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الأولى ورد الْخَبَر
إِلَى حلب بوفاة قَاضِي الْقُضَاة جلال الدّين مُحَمَّد بن عبد
الرَّحْمَن الْقزْوِينِي قَاضِي دمشق بهَا كَانَ رَحمَه الله إمامأً
فِي علم الْمعَانِي وَالْبَيَان لَهُ فِيهِ مصنفات جَامِعَة متقنة وَله
يَد فِي الأصولين وَيحل الْحَاوِي.
وَكَانَ كَبِير الْقدر وَاسع الصَّدْر ولي أَولا خطابة دمشق ثمَّ
قضاءها ثمَّ قَضَاء مصر ثمَّ قَضَاء دمشق حَتَّى مَاتَ بهَا سامحه الله
تَعَالَى، وَبَلغنِي أَن بَينه وَبَين الإِمَام الرَّافِعِيّ قرَابَة
وَقرب الْعَهْد بسيرته يُغني عَن الإطالة، وَبنى على النّيل دَارا قيل
بِمَا يزِيد على ألف ألف دِرْهَم فَأخذت مِنْهُ، ثمَّ أخرج إِلَى دمشق
قَاضِيا كَمَا تقدم.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة ورد الْخَبَر إِلَى حلب بوفاة الشَّيْخ
بدر الدّين أبي الْيُسْر مُحَمَّد بن القَاضِي عز الدّين مُحَمَّد بن
الصَّائِغ الدِّمَشْقِي بهَا كَانَ نفعنا الله بِهِ عَالما فَاضلا
متقللاً من الدُّنْيَا زاهداً جَاءَتْهُ الخلعة والتقليد بِقَضَاء دمشق
فَامْتنعَ أتم امْتنَاع واستعفى بِصدق إِلَى أَن أعفى فَمن يَوْمئِذٍ
حسن ظن النَّاس بِهِ وفطن أهل الْقَلَم وَأهل السَّيْف لجلالة قدره
قلت:
(مَا قَضَاء الشَّام إِلَّا شرف ... وَلمن يتْركهُ أَعلَى شرف)
(يَا أَبَا الْيُسْر لقد أذكرنا ... فعلك المشكور أَفعَال السّلف)
وَفِيه: ورد الْخَبَر أَن الْأَمِير عَلَاء الدّين الطنبغا وصل من مصر
إِلَى غَزَّة نَائِبا بهَا فسبحان من يرفع وَيَضَع أَلا لَهُ الْخلق
وَالْأَمر جرت بَينه وَبَين نَائِب الشَّام الْأَمِير سيف الدّين تنكز
شَحْنَاء اقْتَضَت نقلته من حلب وتوليته بعْدهَا غَزَّة فَإِن نَائِب
الشَّام مُتَمَكن عِنْد السُّلْطَان رفيع الْمنزلَة.
وفيهَا: فِي أَوَائِل رَجَب توفّي بمعرة النُّعْمَان ابْن شَيخنَا
العابد إِبْرَاهِيم بن عِيسَى بن عبد السَّلَام.
وَكَانَ من عباد الْأمة وَيعرف الشاطبية والقراءات، وَله يَد طولى فِي
التَّفْسِير وزهادته مَشْهُورَة، كَانَ أَولا يحترف بالنساجة ثمَّ
تَركهَا وَأَقْبل على الْعِبَادَة وَالصِّيَام وَالْقِيَام وَنسخ كتب
الرَّقَائِق وَغَيرهَا فَأكْثر ووقف كتبه على زَوَايَا وأماكن وَهُوَ
من أَصْحَاب الشَّيْخ الْقدْوَة مهنا الفوعي نفعنا الله ببركتهما،
وَكَانَ دَاعيا إِلَى السّنة بِتِلْكَ الْبِلَاد وَتُوفِّي بعده بأيام
الشّرف حُسَيْن بن دَاوُد بن يَعْقُوب الفوعي بالفوعة، وَكَانَ دَاعيا
إِلَى التَّشَيُّع بِتِلْكَ الْبِلَاد.
قلت:
(وَقَامَ لنصر مذْهبه عَظِيما ... وحدد ظفره وَأطَال نابه)
(تبَارك من أراح الدّين مِنْهُ ... وخلص مِنْهُ أَعْرَاض الصَّحَابَة)
وَفِيه: ورد الْخَبَر بوفاة الشَّيْخ شهَاب الدّين أَحْمد بن عبد الله
الْمَعْرُوف بِابْن المُهَاجر
(2/314)
الْحَنَفِيّ بحماه نَائِبا عَن قاضيها جمال
الدّين عبد الله بن العديم حَسْبَمَا تقدم ذكره.
كَانَ فَاضلا فِي النَّحْو وَالْعرُوض، وَله نظم حسن ولهج فِي آخر وقته
بمدائح الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وَفِيه: ورد
الْخَبَر إِلَى حلب أَن الشَّيْخ تَقِيّ الدّين عَليّ بن السُّبْكِيّ
تولى قَضَاء الْقُضَاة الشَّافِعِيَّة بِدِمَشْق المحروسة بعد أَن حدث
الْخَطِيب بدر الدّين مُحَمَّد بن القَاضِي جلال الدّين نَفسه بذلك
وَجزم بِهِ وَقبل الهناء فَقَالَ فِيهِ بعض أهل دمشق:
(قد سبك السُّبْكِيّ قلب الْخَطِيب ... فعيشه من بعْدهَا مَا يطيب)
وَفِيه " طلب القَاضِي جمال الدّين سُلَيْمَان بن رَيَّان عَليّ البردي
من حلب إِلَى دمشق لمباشرة نظر الجيوش بِالشَّام وَاسْتمرّ بِدِمَشْق
إِلَى أَن نكب تنكز كَمَا سَيَأْتِي فعزل بالتاج إِسْحَاق ثمَّ حضر
إِلَى حلب وَأقَام بداره بالْمقَام.
وفيهَا: فِي شعْبَان قدم الْأَمِير الْفَاضِل صَلَاح الدّين يُوسُف
الدواتدار شادا بالمملكة الحلبية.
وفيهَا: فِي رَمَضَان ورد الْخَبَر أَن الْأَمِير سيف الدّين أَبَا بكر
البانيري بَاشر النِّيَابَة بقلعة الرحبة، وَهُوَ الَّذِي كَانَ تولى
تَجْدِيد عمَارَة جعبر كَمَا تقدم فَقَالَ فِيهِ بعض النَّاس:
(يَا باذلاً فِي جعبر جهده ... مَا خيب السُّلْطَان مسعاكاً)
(عوضك الرحبة عَن ضيق مَا ... قاسيت قد أفرحنا ذاكاً)
(فضاجع البق وناموسها ... لَوْلَا ضجيعاك لزرناكا)
وَفِيه: شرع نَائِب الشَّام تنكز فِي الرُّجُوع من متصيدة بالمملكة
الحلبية وَكَانَ قد حضر إِلَيْهَا فِي شعْبَان وَمَعَهُ صَاحب حماه
الْملك الْأَفْضَل وحريم وحظايا وحشم وحمام وَلحق الفلاحين والرعية
بذلك كلفة وضرر كَبِير وَاجْتمعَ نَائِب الشَّام وَصَاحب حماه على
إِعَادَة بدر الدّين مُحَمَّد بن عَليّ الْمَعْرُوف بِابْن الحمص رامي
البندق الْمَشْهُور إِلَى مَنْزِلَته من الرماية بعد أَن كَانَ قد أسقط
على عَادَتهم وأسقطوا من كَانَ أسْقطه، وَاجْتمعت أَنا بِابْن الحمص
الْمَذْكُور بحلب فَسَأَلته أَن يريني شَيْئا من حذفة فِي البندق فَرمى
إِلَى حَائِط فَكتب عَلَيْهِ بالبندق مَا صورته مُحَمَّد بن عَليّ
بِخَط جيد ثمَّ أَمر غُلَامه فَصَارَ الْغُلَام يَرْمِي بندقاً إِلَى
الجو وَهُوَ يتلقاه فَيُصِيبهُ فِي سرعَة على التوالي فجَاء من ذَلِك
بالعجب العجيب.
وَفِيه: نَادَى مُنَاد فِي جَامع حلب وأسواقها وقدامه شاد الْوَقْف بدر
الدّين يتليك الأسندمري من أُمَرَاء العشرات بِمَا صورته معاشر
الْفُقَهَاء والمدرسين والمؤذنين وأرباب وظائف الدّين قد برز المرسوم
العالي أَن كل من انْقَطع مِنْكُم عَن وظيفته وغمز عَلَيْهِ يستأهل مَا
يجْرِي عَلَيْهِ، فَانْكَسَرت لذَلِك قُلُوب الْخَاص وَالْعَام وَعظم
بِهِ تألم الْأَنَام وَظهر مشد الْوَقْف الْمَذْكُور عَن بغض وعناد
لأهل الْعلم وَالدّين فَوَقع مِنْهُ يَوْم عيد الْفطر كلمة قبيحة
أَقَامَت عَلَيْهِ النَّاس أَجْمَعِينَ وَعقد لَهُ بدار الْعدْل يَوْم
الْعِيد مجْلِس مشهود وأفتينا بتجديد
(2/315)
إِسْلَامه وعزله وضربه وَهُوَ مَمْدُود
وَنُودِيَ عَلَيْهِ فِي الْمَلأ جَزَاء وفَاقا، وقطعنا أَن لُحُوم
الْعلمَاء مَسْمُومَة اتِّفَاقًا وَلَوْلَا شَفَاعَة الشَّافِعِي فِيهِ
لدخل نَار مَالك بِمَا خرج من فِيهِ، وَلَو كَانَ برا لما خَاص هَذَا
الْبَحْر ولجمع قلبه ومذبحه بَين الْفطر والنحر وَبِالْجُمْلَةِ فقد
ذاق مرَارَة الْقَهْر والقسر فَإِن نداءه الَّذِي انْكَسَرَ بِهِ
الْقلب بِهِ الْكسر.
وفيهَا: فِي تَاسِع شَوَّال وصل إِلَى حلب قَاضِي الْقُضَاة زين الدّين
عمر بن شرف الدّين مُحَمَّد بن البلفيائي الْمصْرِيّ الشَّافِعِي وباشر
الحكم من يَوْمه وَخرج النَّائِب والأكابر لتلقيه وسر بِهِ النَّاس لما
سمعُوا من ديانته بعد شغور المنصب نَحْو عشرَة أشهر من حَاكم
شَافِعِيّ.
وفيهَا: حج الْأَمِير سيف الدّين بشتك الناصري من مصر وَأنْفق فِي
الْحَج أَمْوَالًا عَظِيمَة، وَكَانَ صحبته على مَا بلغنَا سِتّمائَة
راوية وَتكلم النَّاس فِي الْقَبْض عَلَيْهِ عِنْد عوده بِمَدِينَة
الكرك فَمَا أمكن ذَلِك وَدخل مصر وَصعد القلعة فَتَلقاهُ السُّلْطَان
بِالْحُسْنَى.
ثمَّ دخلت سنة أَرْبَعِينَ وَسَبْعمائة: فِيهَا فِي الْمحرم ورد
الْخَبَر بوفاة الشَّيْخ علم الدّين أبي مُحَمَّد الْقَاسِم بن
مُحَمَّد بن يُوسُف البرز إِلَى الْمُحدث الدِّمَشْقِي بخليص مرِيدا
لِلْحَجِّ رَحمَه الله تَعَالَى.
كَانَ حسن الْأَخْلَاق كثير الموافاة للنَّاس محبوباً إِلَيْهِم، وَله
تصانيف فِي الحَدِيث والتاريخ والشروط، وَكَانَ حسن الْأَدَاء كثير
الْبكاء فِي حَال قِرَاءَة الحَدِيث فصيحاً رَحمَه الله تَعَالَى.
وفيهَا: فِي الْمحرم بلغنَا شنق ابْن الْمُؤَيد شرف الدّين أبي بكر
الْوَاعِظ الْمُحْتَسب نَائِب الْوكَالَة باللاذقية خَافُوا بطرابلس من
طول لِسَانه واتصاله بأعيان المصريين وَقَامَت عَلَيْهِ بَيِّنَة
بِأَلْفَاظ تَقْتَضِي إنحلال العقيدة، فحملوا عبد الْعَزِيز
الْمَالِكِي قَاضِي القدموس على الحكم بقتْله، وشارك فِي واقعته
القَاضِي جلال الدّين عبد الْحق الْمَالِكِي قَاضِي اللاذقية فتعب
القاضيان بجريرته وقاسياً شَدَائِد.
وفيهَا: فِي صفر وَردت الْبشَارَة بِقَبض الْملك النَّاصِر على النشو
شرف الدّين القبطي الأَصْل، وَإنَّهُ وأخاه رزق الله تَحت الْعقُوبَة،
ثمَّ قتل أَخُوهُ نَفسه وَأوقدت لهلاكهما الشموع بِالْقَاهِرَةِ، كَانَ
النشو قد قهر أهل الْقَاهِرَة وَبَالغ فِي الطرح والمصادرة، فعظمت بِهِ
الْمُصِيبَة وَقتل خلقا تَحت الْعقُوبَة فَأتى النَّاس فِي هَلَاكه
بيُوت الْمَسْأَلَة من أَبْوَابهَا، وَبنت الْأَوْتَاد نظم الدَّعْوَات
على أَسبَابهَا وطلبوا لبحر ظلمه المديد من الله خبْنا وبتراً فدارت
الدَّوَائِر عَلَيْهِ بِهَذِهِ الفاصلة الْكُبْرَى.
قلت:
(النشو لَا عدل وَلَا معرفَة ... قد آن للأقدار أَن تصرفه)
(2/316)
(من أتلف النَّاس وَأَمْوَالهمْ ... يحِق
للسُّلْطَان أَن يتلفه)
وَفِيه: قدم الْأَمِير المكاص الغشوم المشوم (لُؤْلُؤ القندشي) إِلَى
حلب منفياً من مصر بِلَا إقطاع.
وَفِيه: عزل قَاضِي الْقُضَاة بحلب زين الدّين عمر البلفيائي عَنْهَا
لوحشه جرت بَينه وَبَين طرغاي نَائِب حلب فكاتب فِيهِ فعزل وَهُوَ
فَقِيه كَبِير متقصد فِي المأكل والملبس.
قلت:
(كَانَ وَالله عفيفاً نزهاً ... وَله عرض عريض مَا اتهمَ)
(وَهُوَ لَا يدْرِي مداراة الورى ... ومداردا الورى أَمر مُهِمّ)
وفيهَا: فِي ربيع الأول عزل الْأَمِير صَلَاح الدّين يُوسُف بن الأسعد
الدواتدار عَن الشد على المَال وَالْوَقْف بحلب وَنقل إِلَى طرابلس
ضَاقَ طرغاي من جيرته فَعمل عَلَيْهِ، وَكَانَ قد عزم على تَحْرِير
الْأَوْقَاف بحلب فَمَا قدر.
قلت:
(لقد قَالَت لنا حلب مقَالا ... وَقد عزم المشد على الرواح)
(إِذا عَم الْفساد جَمِيع وقفي ... فَكيف أكون قَابِلَة الصّلاح)
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة ولي القَاضِي برهَان الدّين
إِبْرَاهِيم بن خَلِيل بن إِبْرَاهِيم الرَّسْعَنِي قَضَاء
الشَّافِعِيَّة بحلب بذل لطوغاي نائبها مَالا، فكاتب فِي ولَايَته
وَهُوَ أول من بذل فِي زَمَاننَا على الْقَضَاء بحلب، وَكَانَ
الْقُضَاة قبله يخطبون ويعطون من بَيت المَال حَتَّى يلوا وَلذَلِك لم
يُصَادف رَاحَة فِي ولَايَته.
ويعجبني قَول الْقَائِل:
(فلَان لَا تحزن إِذا ... نكبت واعرف مَا السَّبَب)
(فَمَا تولى حَاكم ... بِفِضَّة إِلَّا ذهب)
وفيهَا: توفّي طقتمر الخازن نَائِب قلعة حلب، كَانَت تصدر مِنْهُ فِي
الدّين أَلْفَاظ مُنكرَة وَاشْترى قبل وَفَاته دَارا عِنْد مدرسة
الشاذبخت وَعمل فِيهَا تصاوير وَكثر الطعْن عَلَيْهِ بِسَبَبِهَا
قلت:
(مَا حل فِيهَا زحل ... إِلَّا لنحس المُشْتَرِي)
(فانعدمت صورته ... من شُؤْم تِلْكَ الصُّور)
وَخلف مَالا طائلاً.
وفيهَا: فِي شعْبَان توفّي الْخَلِيفَة أَبُو الرّبيع سُلَيْمَان
المستكفي بِاللَّه فِي قوص، وَقد تقدم إِنَّه أخرج إِلَى الصَّعِيد سنة
ثَمَان وَثَلَاثِينَ وخلافته تسع وَثَلَاثُونَ سنة وَللَّه قولي على
لِسَانه مثلي يعِيش بِالْمَوْتِ ويبلغ المنى بالفوت إِلَى كم لَهُم
العيشة الرّطبَة ولي مُجَرّد الْخطْبَة فَلهم الْملك الصَّرِيح
ولسليمان الرّيح.
(2/317)
(أَحْمد الله الَّذِي جنبني ... كلف الْملك
وأمراً صعباً)
(لم أجد للْملك مَاء صافياً ... فَتَيَمَّمت صَعِيدا طيبا)
وفيهَا: بعد موت المستكفي بوبع بالخلافة أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم
ابْن أَخ المستكفي.
وفيهَا: كَانَ الْحَرِيق بِدِمَشْق وَذَهَبت فِيهِ أَمْوَال ونفوس
واحترقت المنارة الشرقية والدهشة وقيسارية القواسين وتكرر وأقرت
طَائِفَة من النَّصَارَى بِدِمَشْق بِفِعْلِهِ فصلب تنكز مِنْهُم أحد
عشر رجلا ثمَّ وسطوا بعد أَن أَخذ مِنْهُم ألف ألف دِرْهَم وَأسلم نَاس
مِنْهُم وبيعت بنت الملين بِمَال كثير فاشتراها تنكز وعملت المقامة
الدمشقية فِي هَذَا الْمَعْنى، وسميتها صفو الرَّحِيق فِي وصف
الْحَرِيق، وختمتها بِقَوْلِي:
(وعادت دمشق فَوق مَا كَانَ حسنها ... وأمست عروساً فِي جمال مُجَدد)
(وَقَالَت لأهل الْكفْر موتوا بغيطكم ... فَمَا أَنا إِلَّا للنَّبِي
مُحَمَّد)
(وَلَا تَذكرُوا عِنْدِي معابد دينكُمْ ... فَمَا قصبات السَّبق إِلَّا
لمعبد)
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة بَاشر القَاضِي نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن
الصاحب شرف الدّين يَعْقُوب كِتَابَة السِّرّ بحلب وسررنا بِهِ.
وَفِيه قبض على تنكز نَائِب الشَّام وَأهْلك بِمصْر رسم السُّلْطَان
لطشتمر حمص أَخْضَر وَكَانَ نَائِبا بصفد أَن يَأْتِيهِ من حَيْثُ لَا
يحْتَسب وَيقبض عَلَيْهِ وَمَا أشبه تمكنه عِنْد السُّلْطَان الْملك
النَّاصِر إِلَّا بِجَعْفَر عِنْد الرشيد والرشيد أضمر إهلاك جَعْفَر
سِتّ سِنِين حَتَّى قَتله وَالْملك النَّاصِر أضمر إهلاك تنكز عشر
سِنِين وَهُوَ يخوله ويعظمه وينعم عَلَيْهِ وَفِي قلبه لَهُ مَا فِيهِ
حَتَّى قبض عَلَيْهِ.
وَكَانَ تنكز عَظِيم السطو شَدِيد الْغَضَب قتل خلقا مِنْهُم عماد
الدّين إِسْمَاعِيل بن مزروع الفوعي نَائِب فحليس بِدِمَشْق وَعلي بن
مقلد حَاجِب الْعَرَب والأمير حَمْزَة رَمَاه بالبندق ثمَّ أهلكه سرا
وَغَيرهم.
وَله بِدِمَشْق والقدس وَغَيرهمَا آثَار حَسَنَة وأوقاف، وَقتل أَكثر
الْكلاب بِدِمَشْق ثمَّ حبس الْبَاقِي، وَحَال بَين أناثها وذكورها،
وَلما استوحش من السُّلْطَان عزم على نكثه من جِهَة التتر وَأخذ
السُّلْطَان من أَمْوَاله مَا يفوت الْحصْر، زعم بَعضهم أَنه يُقَارب
مَال قَارون وَكَانَ قبل ذَلِك قد تبرم من نقيق الضفادع فأخرجها من
المَاء، فَقَالَ بعض النَّاس فِيهِ:
(تنكر تنكز بِدِمَشْق تيهاً ... وَذَلِكَ قد يدل على الذّهاب)
(وَقَالُوا للضفادع ألف بشرى ... بميتته فَقلت وللكلاب)
" تولى دمشق بعده الطنبغا " الْحَاجِب الصَّالِحِي، كَانَ تنكز قد سعى
عَلَيْهِ حَتَّى نقل من نِيَابَة حلب إِلَى نِيَابَة غَزَّة فأورثه
الله أرضه ودياره.
وفيهَا: بعد حاديثة تنكز عُوقِبَ أَمِين الْملك عبد الله الصاحب
بِدِمَشْق، واستصفى مَاله وَمَات تَحت الْعقُوبَة، قبْطِي الأَصْل،
وَكَانَ فِيهِ خير وَشر ووزر بِمصْر ثَلَاث مَرَّات.
وَفِيه يَقُول صاحبنا الشَّيْخ جمال الدّين بن نباتة الْمصْرِيّ:
(2/318)
(لله كم حَال أمرئ مقتر ... قضيت فِي
الْقُدس بتنفيسه)
(كم دِرْهَم ولي وَلكنه ... قد أَخذ الْأجر على كيسه)
وَقَالَ فِيهِ أَيْضا:
(رَوَت عَنْك أَخْبَار الْمَعَالِي محَاسِن ... كفت بِلِسَان الْحَال
عَن لسن الْحَمد)
(فوجهك عَن بشر وكفك عَن عطا ... وخلقك عَن سهل ورأيك عَن سعد)
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة: فِيهَا فِي الْمحرم
وسط بِدِمَشْق (طغية وجنغية) من أَصْحَاب تنكز وَكَانَا ظالمين.
وفيهَا: عزل طرغاي، عَن حلب وَكَانَ على طمعه يُصَلِّي وَيَتْلُو
كثيرا.
وفيهَا: توفّي الشَّيْخ مُحَمَّد بن أَحْمد بن تَمام زاهد الْوَقْت
بِدِمَشْق.
وَتُوفِّي الْملك أنوك بن الْملك النَّاصِر وَكَانَ عَظِيم الشكل.
وفيهَا: ضربت رَقَبَة عُثْمَان الزنديق بِدِمَشْق على الألحاد والباجر
بَقِيَّة سمع مِنْهُ من الزندقة مَا لم يسمع من غَيره لَعنه الله.
وَتُوفِّي الْأَمِير صَلَاح الدّين يُوسُف بن الْملك الأوحد، وَكَانَ
من أكَابِر أُمَرَاء دمشق وَمن بقايا أجواد بني شيركوه، وَكَانَ تنكز
على شممه بِدِمَشْق ينزل إِلَى ضيافته كل سنة فينفق على ضِيَافَة تنكز
نَحْو سِتِّينَ ألف دِرْهَم.
وفيهَا توفّي السُّلْطَان الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن الْملك
الْمَنْصُور قلاوون الصَّالِحِي رَحمَه الله تَعَالَى وَله سِتُّونَ
سنة بعد أَن خطب لَهُ بِبَغْدَاد وَالْعراق وديار بكر والموصل وَالروم،
وَضرب الدِّينَار وَالدِّرْهَم هُنَاكَ باسمه كَمَا يضْرب لَهُ
بِالشَّام ومصر، وَحج مَرَّات وَحصل لقلوب النَّاس بوفاته ألم عَظِيم
فَإِنَّهُ أبطل مكوساً، وَكَانَ يستحيي أَن يخيب قاصديه، وأيامه أَمن
وسكينة وَبنى جَوَامِع وَغَيرهَا لَوْلَا تسليط لُؤْلُؤ والنشو على
النَّاس فِي آخر وقته وعهد لوَلَده السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور أبي
بكر فَجَلَسَ على الْكُرْسِيّ قبل موت وَالِده، وَضربت لَهُ البشائر
فِي الْبِلَاد.
ولي من تهنئة وتعزية فِي ذَلِك.
(مَا أَسَاءَ الدَّهْر حَتَّى أحسنا ... رق فاستدرك حزنا بهنا)
(بَيْنَمَا البأساء غمت من هُنَا ... وَإِذا النعماء عَمت من هُنَا)
(فَبِحَق أَن يُسمى محزنا ... وبصدق حِين يدعى محسنا)
(فلئن أوحشنا بدر السما ... فَلَقَد آنسنا شمس السنا)
(علما أبدله من علم ... ظَاهر الْأَعْرَاب مَرْفُوع الْبَنَّا)
(فجزى الله بِخَير من نأى ... وَوُقِيَ من كل ضير من دنا)
أجل وَالله لقد الدَّهْر وَأحسن وأهزل وأسمن وأحزن وسر وعق وبر إِذْ
أصبح الْملك وَبَاعه بفقد النَّاصِر قَاصِر قد ضعف أَرْكَانه وَمَات
سُلْطَانه فَمَا لَهُ من قُوَّة وَلَا نَاصِر فأمسى
(2/319)
بِحَمْد الله وَقد مَلأ الْقُصُور بالمنصور
سُرُورًا وأطاعه الدَّهْر وَأَهله فَلَا يسرف فِي الْقَتْل إِنَّه
كَانَ منصوراً.
وفيهَا: ورد إِلَى حلب زَائِرًا صاحبنا (التَّاج الْيَمَانِيّ) عبد
الْبَاقِي بن عبد الْمجِيد بن عبد الله النَّحْوِيّ اللّغَوِيّ
الْكَاتِب الْعَرُوضِي الشَّاعِر المنشي وَجَرت مَعَه بحوث مِنْهَا
مَسْأَلَة نفيسة وَهِي مَا لَو قَالَ لَهُ عِنْدِي اثنى عشر درهما
وسدساً كم يلْزمه؟ فاستبهمت هَذِه الْمَسْأَلَة على الْجَمَاعَة فيسر
الله لي حلهَا فَقلت: يلْزمه سَبْعَة دَرَاهِم إِذْ الْمَعْنى اثنى عشر
درهما وأسداساً فَيكون النّصْف دَرَاهِم وَهِي سِتَّة دَرَاهِم
وَالنّصف أسداساً وَهِي سِتَّة أَسْدَاس بدرهم فَهَذِهِ سَبْعَة، وَلَو
قَالَ اثْنَي عشر درهما وربعاً لزمَه سَبْعَة وَنصف، وَلَو قَالَ
اثْنَي عشر درهما وَثلثا لزمَه ثَمَانِيَة أَو وَنصفا فتسعة وَهَكَذَا.
وَمِمَّا أَنْشدني لنَفسِهِ قَوْله:
(تجنب أَن تذم بك اللَّيَالِي ... وحاول أَن يذم لَك الزَّمَان)
(وَلَا تحفل إِذا كلمت ذاتاً ... أصبت الْعِزّ أم حصل الهوان)
وَقَوله:
(بخلت لواحظ من أَتَانَا مُقبلا ... بسلامها ورموزهن سَلام)
(فعذرت نرجس مقليته لِأَنَّهَا ... تخشى العذار فَإِنَّهُ نمام)
وفيهَا: نقل طشتمر حمص أَخْضَر من نِيَابَة صفد إِلَى نِيَابَة حلب.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة وصل إِلَى حلب الْفِيل والزرافة جهزهما
الْملك النَّاصِر قبل وَفَاته لصَاحب ماردين.
وفيهَا: فتح الْأَمِير عَلَاء الدّين أيدغدي الزراق وَمَعَهُ بعض
عَسْكَر حلب قلعة خندروس من الرّوم كَانَت عاصية وَبهَا أرمن وتتر
يقطعون الطرقات.
وفيهَا: صليت بحلب صَلَاة الْغَائِب على الشَّيْخ عز الدّين عبد
الْمُؤمن بن قطب الدّين عبد الرَّحْمَن بن العجمي الْحلَبِي توفّي
بِمصْر، وَكَانَ عِنْده تزهد وَكتب الْمَنْسُوب.
وفيهَا: توفّي بأياس نائبها الْأَمِير عَلَاء الدّين مغلطاي الغزى،
تقدّمت لَهُ نكاية فِي الأرمن وَنقل إِلَى تربته بحلب.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة: فِي الْمحرم
مِنْهَا بَايع السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور أَبُو بكر بن الْملك
النَّاصِر (الْخَلِيفَة الْحَاكِم بِأَمْر الله) أَبَا الْعَبَّاس
أَحْمد بن المستكفي بِاللَّه أبي الرّبيع سُلَيْمَان، كَانَ قد عهد
إِلَيْهِ وَالِده بالخلافة فَلم يُبَايع فِي حَيَاة الْملك النَّاصِر
فَلَمَّا ولى الْمَنْصُور بَايعه وَجلسَ مَعَه على كرْسِي الْملك
وَبَايَعَهُ الْقُضَاة وَغَيرهم.
وفيهَا: فِي صفر توفّي شيخ الْإِسْلَام الْحَافِظ جمال الدّين يُوسُف
بن الزكي عبد
(2/320)
الرَّحْمَن بن الْمزي الدِّمَشْقِي بهَا
مُنْقَطع القرين فِي معرفَة أَسمَاء الرِّجَال مشاركاً فِي عُلُوم،
وَتَوَلَّى مشيخة دَار الحَدِيث بعده قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين
السُّبْكِيّ.
وفيهَا: فِي صفر خلع السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور أَبُو بكر بن
الْملك احْتج عَلَيْهِ قوصون الناصري ولي نعْمَة أَبِيه بحجج وَنسب
إِلَيْهِ أموراً وَأخرجه إِلَى قوص إِلَى الدَّار الَّتِي أخرج الْملك
النَّاصِر وَالِده الْخَلِيفَة المستكفي إِلَيْهَا جَزَاء وفَاقا، ثمَّ
أَمر قوصون وَالِي قوص بهَا وَأقَام فِي الْملك أَخَاهُ الْملك
الْأَشْرَف كجك وَهُوَ ابْن ثَمَان سِنِين.
فَقلت فِي ذَلِك:
(سلطاننا الْيَوْم طِفْل والأكابر فِي ... خلف وَبينهمْ الشَّيْطَان قد
نزغا)
(وَكَيف يطْمع من مسته مظْلمَة ... أَن يبلغ السؤل وَالسُّلْطَان مَا
بلغا)
وفيهَا: فِي جُمَادَى الآخر جهز قوصون مَعَ الْأَمِير قطلبغا الفخري
والناصري عسكراً لحصار السُّلْطَان أَحْمد بن الْملك النَّاصِر بالكرك،
وَسَار الطنبغا نَائِب دمشق والحاج أرقطاي نَائِب طرابلس باشارة قوصون
إِلَى قتال طشتمر بحلب لكَون طشتمر أنكر على قوصون مَا اعْتَمدهُ فِي
حق أَخِيه الْمَنْصُور أبي بكر وَنهب الطنبغا بحلب مَال طشتمر وهرب
طشتمر إِلَى الرّوم وأجتمع بِصَاحِب الرّوم ارتنا ثمَّ أَن الفخري عَاد
عَن الكرك إِلَى دمشق بعد محاصرة أَحْمد بهَا أَيَّامًا وَبعد أَن
استمال النَّاصِر أَحْمد الفخري فَبَايعهُ وَلما وصل الفخري إِلَى دمشق
بَايع للناصر من بَقِي من عَسْكَر دمشق الْمُتَأَخِّرين عَن الْمُضِيّ
إِلَى حلب صُحْبَة الطنبغا هَذَا كُله والطنبغا وَمن مَعَه بالمملكة
الحلبية، ثمَّ سَار الفخري إِلَى ثنية الْعقَاب وَأخذ من مخزن
الْأَيْتَام بِدِمَشْق أَرْبَعمِائَة ألف دِرْهَم، وَكَانَ الطنبغا قد
اسْتَدَانَ مِنْهُ مِائَتي ألف دِرْهَم، وَهُوَ الَّذِي فتح هَذَا
الْبَاب.
وَلما بلغ الطنبغا مَا جرى بِدِمَشْق رَجَعَ على عقبه فَلَمَّا قرب من
دمشق أرسل الفخري إِلَيْهِ الْقُضَاة وَطلب الْكَفّ عَن الْقِتَال فِي
رَجَب فَقَوِيت نفس الطنبغا وَأبي ذَلِك وَطَالَ الْأَمر على
الْعَسْكَر فَلَمَّا تقاربوا بَعضهم من بعض لحقت ميسرَة الطنبغا
بالفخري ثمَّ الميمنة وَبَقِي الطنبغا والحاج أرقطاي والمرقبي وَابْن
الأبي بكر فِي قَلِيل من الْعَسْكَر فهرب الطنبغا وَهَؤُلَاء إِلَى
جِهَة مصر فَجهز الفخري وَأعلم النَّاصِر بالكرك، وخطب للناصر أَحْمد
بِدِمَشْق وغزة والقدس فَلَمَّا وصل الطنبغا مصر وَهُوَ قوي النَّفس
بقوصون قدر الله سُبْحَانَهُ تغير أَمر قوصون وَكَانَ قد غلب على
الْأَمر لصِغَر الْأَشْرَف.
فاتفق إيدغمش الناصري أَمِير آخور ويلبغا الناصري وَغَيرهمَا وقبضوا
على قوصون ونهبت دياره واختطفت الحرافيش وَغَيرهم من دياره وخزائنه من
الذَّهَب وَالْفِضَّة والجواهر والزركش والحشر والسروج والآلات مَا لَا
يُحْصى لِأَن قوصون كَانَ قد انتقى عُيُون ذخائر بَيت المَال
وَاسْتغْنى من دَار قوصون خلق كثير وَقتل على ذَلِك خلق وَأَرْسلُوا
قوصون إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَأهْلك بهَا وقضوا على الطنبغا وحبسوه
بِمصْر وَلما بلغ طشتمر بالروم مَا جرى
(2/321)
رَجَعَ من الرّوم إِلَى دمشق فَتَلقاهُ
الفخري والقضاة ثمَّ رَحل الفخري وطشتمر إِلَى مصر بِمن مَعَهُمَا.
وفيهَا: فِي شهر رَمَضَان سَافر الْملك النَّاصِر أَحْمد من الكرك فوصل
مصر وَعمل أعزية لوالده وأخيه وَأمر بتسمير وَالِي قوص لقَتله
الْمَنْصُور.
وخلع الْأَشْرَف كجك الصَّغِير وَجلسَ النَّاصِر على الْكُرْسِيّ هُوَ
والخليفة، وَعقد بيعَته قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدّين السُّبْكِيّ،
ثمَّ أعدم الطنبغا والمرقبي؟
وفيهَا: كسر حسن بن تمرتاش بن جوبان من التتر طغاي بن سوتاي فِي الشرق
وَتَبعهُ إِلَى بلد قلعة الرّوم فاستشعر النَّاس لذَلِك.
وفيهَا: عزل الْملك الْأَفْضَل مُحَمَّد بن السُّلْطَان الْملك
الْمُؤَيد صَاحب حماه والمعرة وبارين وبلادهن وَنقل إِلَى دمشق من جهلة
أمرائها تَغَيَّرت سيرة الْأَفْضَل حَتَّى مَاتَ وَقطعت أَشجَار بستانه
وَظهر فِي اللَّيْل من بعض أعقاب أَشجَار الْبُسْتَان الَّتِي قطعت نور
فَمَا أَفْلح بعد ذَلِك.
" وَتَوَلَّى نِيَابَة حماه " بعده مَمْلُوك أَبِيه سيف الدّين طقز
تمر.
وفيهَا: عزل عَن قَضَاء الْحَنَفِيَّة بحماه القَاضِي جمال الدّين عبد
الله بن القَاضِي نجم الدّين العديم، وَتَوَلَّى مَكَانَهُ القَاضِي
تَقِيّ الدّين مَحْمُود بن الحكم.
وفيهَا: أهلك طاجار الدواتدار وَكَانَ مُسْرِفًا على نَفسه.
وفيهَا: توفّي الْأَفْضَل صَاحب حماه معزولا، وَنقل إِلَى تربته بحماه
فَخرج نائبها للقاء تابوته وحزن عَلَيْهِ وَحلف أَنه مَا تولى حماه
إِلَّا رَجَاء أَن يردهَا إِلَى الْأَفْضَل مُكَافَأَة لاحسان أَبِيه.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى (توفّي القَاضِي برهَان الدّين)
إِبْرَاهِيم الرَّسْعَنِي قَاضِي الشَّافِعِيَّة بحلب، وَكَانَ متعففاً
وَيعرف فَرَائض رَحمَه الله تَعَالَى.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى أَيْضا (عُوقِبَ لُؤْلُؤ القندشي) بدار
الْعدْل بحلب حَتَّى مَاتَ واستصفى مَاله وشمت بِهِ النَّاس.
قلت:
(ألؤلؤ قد طلمت النَّاس لَكِن ... بِقدر طلوعك اتّفق النُّزُول)
(كَبرت فَكنت فِي تَاج فَلَمَّا ... صغرت سحقت سنة كل لولو)
وفيهَا: توفّي الْأَمِير بدر الدّين مُحَمَّد بن الْحَاج أبي بكر أحد
الإمراء بحلب، كَانَ من رجال الدِّينَا، وَله مارستان بطرابلس وأرتفع
بِهِ الدَّهْر وانخفض وَدفن بتربة فِي جَامع أنشأه بحلب بِبَاب
اتطاكية.
وفيهَا: توفّي الْخَطِيب بدر الدّين مُحَمَّد بن القَاضِي جلال الدّين
الْقزْوِينِي خطيب دمشق، وَتَوَلَّى السُّبْكِيّ الخطابة وَجرى بَينه
وَبَين تَاج الدّين عبد الرَّحِيم أخي الْخَطِيب المتوفي.
(2/322)
وقائع، وَفِي آخر الْأَمر تعصبت الدماشقة
مَعَ تَاج الدّين فاستمر خَطِيبًا.
وفيهَا: فِي شهر رَمَضَان وصل القَاضِي عَلَاء الدّين عَليّ بن
عُثْمَان الزرعي الْمَعْرُوف بالقرع إِلَى حلب قَاضِي الْقُضَاة ولاه
الطاغية الفخري بالبذل فَاجْتمع النَّاس وحملوا الْمُصحف وتضرروا من
ولَايَة مثله فَرفعت يَده عَن الحكم فسافر أَيَّامًا ثمَّ عَاد بكتب
فَمَا التفتوا إِلَيْهَا فسافر إِلَى مصر وحلب خَالِيَة عَن قَاض
شَافِعِيّ.
وفيهَا: فِي شَوَّال عَم الشَّام ومصر جَراد عَظِيم وَكَانَ أَذَاهُ
قَلِيلا.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة وصل إيدغمش الناصري إِلَى حلب نَائِبا بهَا
فِي حشمة عَظِيمَة وَأحسن وَعدل وخلع كثير من النَّاس وَأقَام بحلب
إِلَى صفر ثمَّ نقل إِلَى نِيَابَة دمشق وتأسف الحلبيون لانتقاله
عَنْهُم.
قلت:
(يعرف من تقبله أَرْضنَا ... من لزم الْأَوْسَط من فعله)
(لَا تقبل المسرف فِي جوره ... كلا وَلَا المسرف فِي عدله)
وَنقل: طقزتمر من حماه إِلَى حلب مَكَان إيدغمش ودخلها فِي عشرى صفر،
وَتَوَلَّى نِيَابَة حماه مَكَانَهُ الْأَمِير الْعَالم علم الدّين
الجاولي، ثمَّ نقل الجاولي إِلَى نِيَابَة غَزَّة، وَولي نِيَابَة حماه
مَكَان آل ملك، ثمَّ بعد الطنبغا المارداني كل هَذَا فِي مُدَّة يسيرَة
وَجرى فِي هَذِه السّنة من تقلبات الْمُلُوك والنواب واضطرابهم مَا لم
يجر فِي مئات من السنين.
قلت: ...
(عجائب عامنا عظمت وجلت ... أعاماً كَانَ أم مِائَتَيْنِ عَاما)
(تصول على الْمُلُوك صيال قَاض ... قَلِيل الدّين فِي مَال
الْيَتَامَى)
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة وصل إِلَى حلب القَاضِي حسام الدّين الغوري
قَاضِي الْحَنَفِيَّة بِمصْر الْوَافِد إِلَيْهَا من قَضَاء بَغْدَاد
منفياً من الْقَاهِرَة لما اعتقده فِي الْأَحْكَام ولمعاضدته لقوصون
ولسوء سيرته فَإِنَّهُ قَاضِي تتر.
ولي بيتان فِي ذمّ حمام هما:
(حمامكم فِي كل أَوْصَافه ... يشبه شخصا غير مَذْكُور)
(شَدِيد برد وسخ موحش ... قَلِيل مَاء فَاقِد النُّور)
فغيرهما بعض النَّاس فَجعل الْبَيْت الأول كَذَا:
(حمامكم فِي كل أَوْصَافه ... يشبه وَجه الْحَاكِم الغوري)
وتمته بِالْبَيْتِ الثَّانِي على حَاله.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة سَافر السُّلْطَان النَّاصِر أَحْمد إِلَى
الكرك وَأخذ من ذخائر بَيت المَال بِمصْر مَا لَا يُحْصى وَصَحب طشتمر
والفخري مقيدين فَقَتَلَهُمَا بالكرك قتلة شنيعة
(2/323)
وَيطول الشَّرْح فِي وصف جرْأَة الفخري
وإقدامه على الْفَوَاحِش حَتَّى فِي رَمَضَان ومصادرته للنَّاس حَتَّى
أَنه جهز من صادر أهل حلب فأراح الله الْعَالم مِنْهُ، وحصن النَّاصِر
الكرك وأتخذها مقَاما لَهُ.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة: فِيهَا فِي الْمحرم
انْقَلب عَسْكَر الشَّام على الْملك النَّاصِر أَحْمد وَهُوَ بالكرك
وكاتبوا إِلَى مصر (فَخلع النَّاصِر وأجلس أَخُوهُ السُّلْطَان الْملك
إِسْمَاعِيل) على الْكُرْسِيّ بقلعة الْجَبَل واستناب إِلَى ملك.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر حوصر السُّلْطَان أَحْمد بالكرك، وَاحْتج
عَلَيْهِ أَخُوهُ الصَّالح بِمَا أَخذ من أَمْوَال بَيت المَال وَحصل
بنواحي الكرك غلاء لذَلِك.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة توفّي نَائِب دمشق إيدغمش وَدفن
بالقبيبات، وَيُقَال أَن دمشق لم يمت بهَا من قديم الزَّمَان إِلَى
الْآن نَائِب سواهُ، وتولاها مَكَانَهُ طقز تمر نَائِب حلب.
وفيهَا: فِي رَجَب وصل الْأَمِير عَلَاء الدّين الطنبغا المارداني
نَائِبا إِلَى حلب.
وفيهَا: فِي شهر رَمَضَان توفّي الشَّيْخ تَاج الدّين عبد الْبَاقِي
الْيَمَانِيّ الأديب وَقد أناف على السِّتين وَتقدم ذكر وفوده إِلَى
حلب رَحمَه الله تَعَالَى وزر بِالْيمن وتنقلت بِهِ الْأَحْوَال، وَله
نظم ونثر كثير وتصانيف.
وفيهَا: فِي شَوَّال خرج الْأَمِير ركن الدّين بيبرس الأحمدي من مصر
بعسكر لحصار الكرك وَكَذَلِكَ من دمشق فحاصروا النَّاصِر بهَا بالنفظ
والمجانيق وَبلغ الْخَبَر أُوقِيَّة بدرهم وغلت دمشق لذَلِك حَتَّى
أكلُوا خبز الشّعير.
وفيهَا: وصل عَلَاء الدّين القرع إِلَى حلب قَاضِيا للشَّافِعِيَّة
وَأول درس أَلْقَاهُ بِالْمَدْرَسَةِ قَالَ فِيهِ: كتاب الطَّهَارَة
بَاب الميات فأبدل الْهَاء بِالتَّاءِ فَقلت أَنا للحاضرين: لَو كَانَ
بَاب الميات لما وصل القرع إِلَيْهِ وَلكنه بَاب الألوف ثمَّ قَالَ:
قَالَ الله تَعَالَى وَجعلهَا كلمة بَاقِيَة فِي عُنُقه مَكَان فِي
عقبه فَقلت أَنا: لَا وَالله وَلكنهَا فِي عنق الَّذِي ولاه، فاشتهرت
عني هَاتَانِ التنديدتان فِي الْآفَاق.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر عزل الْأَمِير سُلَيْمَان بن مهنا بن عِيسَى
عَن إِمَارَة الْعَرَب وولاها مَكَانَهُ الْأَمِير عِيسَى بن فضل بن
عِيسَى وَذَلِكَ بعد الْقَبْض على فياض بن مهنا بِمصْر، وَكَانَ
سُلَيْمَان قد ظلم وصادر أهل سرمين وربط بعض النِّسَاء فِي الزناجير
وهجم عبيده على المخدرات فأغاثهم الله فِي وسط الشدَّة ثمَّ أُعِيد بعد
مُدَّة قريبَة إِلَى الْإِمَارَة.
وفيهَا: توفّي بحلب الْأَمِير الطاعن خَفِي السن سيف الدّين يلبصطي
التركماني الأَصْل رَأس الميمنة بهَا، وَكَانَ قَلِيل الْأَذَى
مَجْمُوع الخاطر.
وفيهَا: توفّي بحلب طنبغا حجى كَانَ جهزه الفخري إِلَيْهَا نَائِبا
عَنهُ فِي أَيَّام خُرُوجه
(2/324)
بِدِمَشْق، وَهُوَ الَّذِي جبى أَمْوَالًا
من أهل حلب وَحملهَا إِلَى الفخري وَأخذ لنَفسِهِ بَعْضهَا وباء بإثم
ذَلِك.
وفيهَا: توفّي بحلب الشَّيْخ كَمَال الدّين المهمازي، كَانَ لَهُ قبُول
عِنْد الْملك النَّاصِر مُحَمَّد ووقف عَلَيْهِ حمام السُّلْطَان بحلب
وَسلم إِلَيْهِ تربة ابْن قرا سنقر بهَا، وَكَانَ عِنْده تصون ومروءة.
قلت:
(لوفاة الْكَمَال فِي الْعَجم وَهن ... فَلَقَد أَكْثرُوا عَلَيْهِ
التعازي)
(قل لَهُم لَو يكون فِيكُم جواد ... كَانَ فِي غنية عَن المهمازي)
وفيهَا: فِي رَجَب اعتقل القرع بقلعة حلب معزولا، ثمَّ فك عَنهُ
الترسيم وسافر إِلَى جِهَة مصر. وفيهَا: فِي رَجَب توفّي بطرابلس
نائبها ملك تمر الْحِجَازِي ووليها مَكَانَهُ طرغاي وَفِيه تولى
نِيَابَة حماه يلبغا التجباوي.
وفيهَا: فِي شعْبَان وصل القَاضِي بدر الدّين إِبْرَاهِيم بن الخشاب
على قَضَاء الشَّافِعِيَّة بحلب فَأحْسن السِّيرَة.
وفيهَا: توفّي بحلب الْحَاج عَليّ بن معتوق الدبيسري وَهُوَ الَّذِي
عمر الْجَامِع بِطرف بانقوسا وَدفن بتربته بِجَانِب الْجَامِع.
وفيهَا: توفّي بهادر التُّمُرْتَاشِيّ بِالْقَاهِرَةِ وَكَانَ بعد
وَفَاة الْملك النَّاصِر من الْأُمَرَاء الغالبين على الْأَمر.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة: فِيهَا أغارت التركمان
مَرَّات على بِلَاد سيس فَقتلُوا ونهبوا وأسروا وشفوا الغليل بِمَا
فتكت الأرمن بِبِلَاد قرمان.
وفيهَا: فِي شهر صفر توفّي الْأَمِير عَلَاء الدّين الطنبغا المارداني
نَائِب حلب، وَدفن خَارج بَاب الْمقَام، وَله بِمصْر جَامع عَظِيم،
وَكَانَ شَابًّا حسنا عَاقِلا ذَا سكينَة.
وفيهَا: مزقنا كتاب فصوص الحكم بِالْمَدْرَسَةِ العصروينة بحلب عقيب
الدَّرْس وغسلناه وَهُوَ من تصانيف ابْن عَرَبِيّ تَنْبِيها على
تَحْرِيم قنيته ومطالعته.
قلت فِيهِ:
(هذي فصوص لم تكن ... بنفيسة فِي نَفسهَا)
(أَنا قد قَرَأت نقوشها ... فصوابها فِي عكسها)
وفيهَا: توفّي بحلب الْأَمِير سيف الدّين بهادر الْمَعْرُوف بحلاوة أحد
الْأُمَرَاء بهَا، وَله أثر عَظِيم فِي الْقَبْض على تنكز، وَكَانَ
عِنْده ظلم وتوعد أهل حلب بشر كَبِير فأراحهم الله مِنْهُ.
(2/325)
قلت:
(حلاوة مر فَمَا ... أملحه أَن يدفنا)
(إِلَى البلى مسيرًا ... وَفِي الثرى مكفنا)
وفيهَا: فِي صفر بلغنَا أَنه توفّي الشَّيْخ شهَاب الدّين أَحْمد بن
المرحل النَّحْوِيّ الْحَرَّانِي الأَصْل الْمصْرِيّ الدَّار والوفاة،
كَانَ متضلعاً من الْعَرَبيَّة وَعِنْده تواضع وديانة، نقلت لَهُ مرّة
وَهُوَ بحلب أَن أَبَا الْعَبَّاس ثعلباً أجَاز الضَّم فِي الْمُنَادِي
الْمُضَاف والشبيه بِهِ الصَّالِحين للألف وَاللَّام فاستغرب ذَلِك
وَأنْكرهُ جدا، ثمَّ طالع كتبه فَرَآهُ كَمَا نقلت، فاستحيا من
إِنْكَار ذَلِك مَعَ دَعْوَاهُ كَثْرَة الِاطِّلَاع.
فَقلت:
(من بعد يَوْمك هَذَا ... لَا تنقل النَّقْل تغلب)
(لَو أَنَّك ابْن خروف ... مَا كنت عِنْدِي كثعلب)
وفيهَا: فِي ربيع الأول وصل يلبغا التجباوي إِلَى حلب نَائِبا وَهُوَ
شَاب حسن، كَانَ الْملك النَّاصِر يمِيل إِلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مرّة
أَرْبَعمِائَة ألف دِرْهَم، وَمرَّة مائَة فرس مسومة وغالب مَال تنكز،
وَتَوَلَّى نِيَابَة حماه مَكَانَهُ سيف الدّين طقز تمر الأحمدي
وَعِنْده عقل وَعدل وَعند يلبغا عفاف عَن مَال الرّعية وسطوة وَحسن
أَخْلَاق فِي الْخلْوَة.
وَفِيه: سَافر قَاضِي الْقُضَاة بحلب بدر الدّين إِبْرَاهِيم بن الخشاب
إِلَى مصر ذَاهِبًا بِنَفسِهِ عَن مُسَاوَاة القرع وَذَلِكَ حِين بلغه
تطلب القرع بحلب، ولاين الخشاب يَد طولى فِي الْأَحْكَام وفن الْقَضَاء
متوسط الْفِقْه.
وَفِيه: توفّي سُلَيْمَان بن مهنا أَمِير الْعَرَب، وَفَرح أهل إقطاعه
بوفاته وَالْقَاضِي شرف الدّين أَبُو بكر بن مُحَمَّد بن الشهَاب
مَحْمُود الْحلَبِي كَانَت السِّرّ وَكيل بَيت المَال بِدِمَشْق توفّي
بالقدس الشريف، كتب السِّرّ بِالْقَاهِرَةِ للْملك النَّاصِر مُحَمَّد
أَولا.
وَفِيه: وصل عسكران من حماه وطرابلس للدخول إِلَى بِلَاد سيس لتمرد
صَاحبهَا كندا صطبل الفرنجي ولمنعه الْحمل ومقدم عَسْكَر طرابلس
الْأَمِير صَلَاح الدّين يُوسُف الداوندار أَنْشدني بحلب فِي سفرته
هَذِه الْبَيْتَيْنِ للْإِمَام الشَّافِعِي قيل أَنَّهُمَا تنفعان لحفظ
الْبَصَر:
(يَا ناظري بِيَعْقُوب أُعِيذكُمَا ... بِمَا استعاذ بِهِ إِذْ خانه
الْبَصَر)
(قَمِيص يُوسُف أَلْقَاهُ على بَصرِي ... بشير يُوسُف فَاذْهَبْ أَيهَا
الضَّرَر)
فأنشدت بَيْتَيْنِ لي ينفعان إِن شَاءَ الله تَعَالَى لحفظ النَّفس
وَالدّين والأهل وَالْمَال، وهما:
(أمررت كفا سبحت فِيهَا الْحَصَى ... وروت الركب بِمَاء طَاهِر)
(على معاشي ومعادي وعَلى ... ذريتي وباطني وظاهري)
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى عَاد الْعَسْكَر المجهز إِلَى بلد سيس
وَمَا ظفروا بطائل وَكَانُوا
(2/326)
قد أشرفوا على أَخذ أُذُنه وفيهَا خلق
عَظِيم وأموال عَظِيمَة وجفال من الأرمن فتبرطل أقسنقر مقدم عَسْكَر
حلب من الأرمن وثبط الْجَيْش عَن فتحهَا، وَاحْتج بِأَن السُّلْطَان
مَا رسم بأخذها، وَتُوفِّي اقسنقر الْمَذْكُور بعد مُدَّة يسيرَة بحلب
مذموماً وَأبي الله أَن يتوفاه بِبِلَاد سيس مغازياً.
وفيهَا: نقلت جثة تنكز من ديار مصر إِلَى تربته بِدِمَشْق وتلقاها
النَّاس لَيْلًا بالشمع والمصاحف والبكاء، ورقوا لَهُ وَوَقع بِدِمَشْق
عقيب ذَلِك مطر فعدوا ذَلِك من بركَة الْقدوم بجثته.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى توفّي بِدِمَشْق الإِمَام الْعَلامَة شمس
الدّين مُحَمَّد بن عبد الْهَادِي، كَانَ بحراً زاخراً فِي الْعلم.
وَفِيه: قتل الزنديق إِبْرَاهِيم بن يُوسُف المقصاتي بِدِمَشْق لسبه
الصَّحَابَة وقذفه عَائِشَة رَضِي الله عَنْهُم ووقوعه فِي حق جِبْرِيل
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وفيهَا: فِي الْعشْرين من شهر رَجَب توفّي بجبرين الشَّيْخ مُحَمَّد بن
الشَّيْخ نَبهَان كَانَ لَهُ الْقبُول التَّام عِنْد الْخَاص
وَالْعَام، وناهيك أَن طشتمر حمص أَخْضَر على قُوَّة نَفسه وشممه وقف
على زاويته بجبرين حِصَّة من قَرْيَة حريثان لَهَا مغل جيد
وَبِالْجُمْلَةِ فَكَأَنَّمَا مَاتَت بِمَوْتِهِ مَكَارِم الْأَخْلَاق،
وَكَاد الشَّام يَخْلُو من الْمَشْهُورين على الاطلاق.
قلت:
(وَكنت إِذا قابلت جبرين زَائِرًا ... يكون لقلبي بالمقابلة الْجَبْر)
(كَأَن بني نَبهَان يَوْم وَفَاته ... نُجُوم سَمَاء خر من بَينهَا
الْبَدْر)
زرته قبل وَفَاته رَحمَه الله فحكي لي قَالَ: حضرت عِنْد الشَّيْخ عبس
السرجاوي وَأَنا شَاب وَهُوَ لَا يعرفنِي فحين رَآنِي دَمَعَتْ عينه
وَقَالَ: مرْحَبًا بشعار نَبهَان. (وَأنْشد) :
(وَمَا أَنْت إِلَّا من سليمى لأنني ... أرى شبها مِنْهَا عَلَيْك
يلوح)
وَحكى لي مرّة أُخْرَى قَالَ: حضرت بالفوعة غسل الشَّيْخ إِبْرَاهِيم
بن الشَّيْخ مهنا لما مَاتَ وقرأنا عِنْده سُورَة الْبَقَرَة وَهُوَ
يغسل فَلَمَّا وصلنا إِلَى قَوْله تَعَالَى: {رَبنَا لَا تُؤَاخِذنَا
إِن نَسِينَا أَو أَخْطَأنَا} رفعنَا أَيْدِينَا للدُّعَاء فَرفع
الشَّيْخ إِبْرَاهِيم يَدَيْهِ مَعنا للدُّعَاء وَهُوَ ميت على المغتسل
ومحاسن الشَّيْخ مُحَمَّد وتلقيه للنَّاس وتواضعه ومناقبه ومكاشفاته
كَثِيرَة مَشْهُورَة رَحمَه الله ورحمنا بِهِ آمين.
وفيهَا: فِي منتصف شعْبَان (وَقعت الزلزلة) الْعَظِيمَة وَخَربَتْ بحلب
بلادها أَمَاكِن وَلَا سِيمَا منبج فَإِنَّهَا أقلت ساكنها وأزالت
محاسنها وَكَذَلِكَ قلعة الراواندان وعملت أَنا فِي ذَلِك " رِسَالَة "
أَولهَا نَعُوذ بِاللَّه من شَرّ مَا يلج فِي الأَرْض وَمَا يخرج
مِنْهَا، ونستعينه فِي طيب الْإِقَامَة بهَا وَحسن الرحلة عَنْهَا، نعم
نستعيذ بِاللَّه ونستعين من سم هَذِه السّنة فَهِيَ أم أَرْبَعَة
وَأَرْبَعين وختمتها بِقَوْلِي:
(منبج أَهلهَا حكوا دود قَز ... عِنْدهم تجْعَل الْبيُوت قبوراً)
(2/327)
(رب نعمهم فقد ألفوا من ... شجر التوت حنة
وَحَرِيرًا)
وَالله أعلم.
وَصَارَت الزلازل تعاود حلب وَغَيرهَا سنة وَبَعض أُخْرَى، وَفِي
الحَدِيث أَن كَثْرَة الزلازل من أَشْرَاط السَّاعَة.
وَفِيه: توفّي طرغاي نَائِب طرابلس.
وَفِيه: بلغنَا أَن أرتنا صَاحب الرّوم كسر سُلَيْمَان خَان ملك التتر
قَصده بالتتار إِلَى الرّوم فانكسر كسرة شنيعة، ثمَّ بلغنَا أَن
الشَّيْخ حسن بن تمرتاش بن جوبان قتل وَهَذَا من سَعَادَة الْإِسْلَام
فَإِن الْمَذْكُور كَانَ فَاسد النِّيَّة لكَون الْملك النَّاصِر
مُحَمَّد قتل أَبَاهُ وَأخذ مَاله كَمَا تقدم.
وفيهَا: قطع خبز فياض بن مهنا بن عِيسَى فَقطع الطّرق وَنهب.
وفيهَا: فِي شهر رَمَضَان وصل إِلَى حلب قَاضِي الْقُضَاة نور الدّين
مُحَمَّد بن الصَّائِغ على قَضَاء الشَّافِعِيَّة وَهُوَ قَاض عفيف حسن
السِّيرَة عَابِد.
وفيهَا: فِي شَوَّال حاصر يلبغا النَّائِب بحلب زين الدّين قراجا بن
دلغادر التركماني بجبل الدلْدل وَهُوَ عسر إِلَى جَانب جيحان فاعتصم
مِنْهُ بِالْجَبَلِ وَقتل فِي الْعَسْكَر وَأسر وجرح وَمَا نالوا
مِنْهُ طائلا فَكبر قدره بذلك واشتهر اسْمه وَعظم على النَّاس شَره،
وَكَانَت هَذِه حَرَكَة رَدِيئَة من يلبغا.
وفيهَا: توفّي كَمَال الدّين عمر بن شهَاب الدّين مُحَمَّد بن العجمي
الْحلَبِي، كَانَ قد تفنن وَعرف أصولاً وفقهاً، وَبحث على شرح الشافية
الكافية فِي النَّحْو مرّة وَبَعض أُخْرَى، وَدفن ببستانه رَحمَه الله،
وَمَا خرج من بني العجمي مثله.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة: فِيهَا فِي صفر حوصرت
الكرك ونقبت وَأخذ الْملك النَّاصِر أَحْمد وَحمل إِلَى أَخِيه الْملك
الصَّالح بِمصْر فَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ.
وفيهَا: وصل إِلَى بن دلغادر أَمَان من السُّلْطَان وَأَفْرج عَن حريمه
وَكن بحلب وَاسْتقر فِي الابلستين.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر بلغنَا وَفَاة الشَّيْخ أثير الدّين " أبي
حَيَّان " النَّحْوِيّ المغربي بِالْقَاهِرَةِ، كَانَ بحراً زاخراً فِي
النَّحْو وَهُوَ فِيهِ ظاهري، وَكَانَ يستهزئ بالفضلاء من أهل
الْقَاهِرَة ويحتملونه لحقوق اشتغالهم عَلَيْهِ وَكَانَ يَقُول عَن
نَفسه أَنا أَبُو حيات بِالتَّاءِ يَعْنِي بذلك تلاميذه.
وَله مصنفات جليلة مِنْهَا تَفْسِير الْقُرْآن الْعَظِيم وَشرح التسهيل
وارتشاف الضَّرْب من أَلْسِنَة الْعَرَب مُجَلد كَبِير جَامع، ومختصرات
فِي النَّحْو، وَله نظم لَيْسَ على قدر فضيلته.
فَمن أحْسنه قَوْله:
(2/328)
(وقابلني فِي الدَّرْس أَبيض ناعم ...
وأسمر لدن أورثا جسمي الردى)
(فَذا هز من عطفيه رمحاً مثقفاً ... وَذَا سل من جفنيه عضباً مهندا)
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى توفّي بحلب الْحَاج مُحَمَّد بن سلمَان
الْحلَبِي الْعَزْم، كَانَ عِنْده ديانَة وإيثار وَله مَعَ المصروعين
وقائع وعجائب.
وَفِيه: توفّي بطرابلس الْأَمِير الْفَاضِل صَلَاح الدّين يُوسُف بن
الأسعد الدواتدار أحد الْأُمَرَاء بطرابلس وَهُوَ وَاقِف الْمدرسَة
الصلاحية بحلب كَمَا تقدم وَكَانَ من أكمل الْأُمَرَاء ذكياً فطنا
مُعظما لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حسن الخظ،
وَله نظم، كَانَ كَاتبا ثمَّ صَار داوندار قبجق بحماه ثمَّ شاد
الدَّوَاوِين بحلب ثمَّ حاجباً بهَا ثمَّ دواتدار الْملك النَّاصِر
ثمَّ نَائِبا بالإسكندرية ثمَّ أَمِيرا بحلب وشاد المَال وَالْوَقْف
ثمَّ أَمِيرا بطرابلس رَحمَه الله تَعَالَى.
وفيهَا: فِي شعْبَان بلغنَا وَفَاة الشَّيْخ نجم الدّين القحفيزي
بِدِمَشْق، فَاضل فِي الْعَرَبيَّة والأصلين ظريف حسن الْأَخْلَاق،
وَمن ذَلِك أَنه أنْشد مرّة قَول الشَّاعِر:
(أيا نخلتي سلمى ... إِلَخ)
فَقَالَ لَهُ بعض التلاميذ: يَا سَيِّدي وَمَا تَيْس المَاء؟ فَقَالَ
الشَّيْخ إِن شِئْت أَن تنظره فَانْظُر فِي الخابية تره.
وفيهَا: توفّي بِدِمَشْق قَاضِي الْقُضَاة جلال الدّين الْحَنَفِيّ
الأطروش.
وفيهَا: توفّي الْأَمِير عَلَاء الدّين أيدعدي الزراق أتابك عَسْكَر
حلب مسناً وَله سَماع وَحكى لي أَنه حر الأَصْل من أَوْلَاد الْمُسلمين
وَهُوَ فاتح قلعة خندروس كَمَا تقدم، وَتُوفِّي كندغدي الْعمريّ نَائِب
البيرة مسناً عزل عَنْهَا قبل مَوته بأيام وعزموا على الْكَشْف
عَلَيْهِ فستره الله بالوفاة ببركة محبته للْعُلَمَاء والفقراء وَسيف
الدّين بلبان جركس نَائِب قلعة الْمُسلمين طَال مقَامه بهَا وَخلف
مَالا كثيرا لبيت المَال.
وفيهَا: فِي شهر رَمَضَان اتّفق سيل عَظِيم بطرابلس هلك فِيهِ خلق
مِنْهُم ابْنا القَاضِي تَاج الدّين مُحَمَّد بن البارنباري كَاتب
سرها، وَكَانَ أحد الِابْنَيْنِ الغريقين نَاظر الْجَيْش والاخر موقع
الدست ورق النَّاس لأَبِيهَا فَقلت وَفِيه تضمين واهتدام:
(وارحمتاه لَهُ فَإِن مصابه ... بِابْن يبرحه فَكيف ابْنَانِ)
(مَا أنصفته الحادثان رمينه ... بمود عين وَمَا لَهُ قلبان)
وَزَاد نهر حماه وغرق دوراً كَثِيرَة وَلَطم العَاصِي خرطلة شيزر
فَأَخذهَا وَتَلفت بساتين الْبَلَد لذَلِك وَيحْتَاج إِعَادَتهَا إِلَى
كلفة كَبِيرَة.
وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة توفّي بِدِمَشْق القَاضِي شمس الدّين
مُحَمَّد بن النَّقِيب الشَّافِعِي وَتَوَلَّى تدريس الشامية مكانة
تَاج الدّين عبد الْوَهَّاب بن السُّبْكِيّ ثمَّ تولاها السُّبْكِيّ
بِنَفسِهِ خوفًا عَلَيْهَا، وَكَانَ ابْن النَّقِيب بَقِيَّة النَّاس
وَمن أهل الإيثار وَأقَام حُرْمَة المنصب لما كَانَ
(2/329)
قَاضِي حلب، فَقِيها كَبِيرا مُحدثا
أصولياً متواضعاً مَعَ الضُّعَفَاء شَدِيدا على النواب.
قَالَ رَحمَه الله: دخلت وَأَنا صبي اشْتغل على الشَّيْخ محيي الدّين
النَّوَوِيّ فَقَالَ لي: أَهلا بقاضي الْقُضَاة فَنَظَرت فَلم أجد
عِنْده أحدا غَيْرِي فَقَالَ: اجْلِسْ يَا مدرس الشامية وَهَذَا من
جملَة كشف الشَّيْخ محيي الدّين وَابْن النَّقِيب حكى هَذَا بحلب قبل
تَوليته الشامية وَحكى لي يَوْمًا وَإِن كنت قد وقفت عَلَيْهِ فِي
مَوَاضِع من الْكتب أَنه رفع إِلَى أبي يُوسُف صَاحب أبي حنيفَة رَضِي
الله عَنْهُمَا مُسلم قتل فَحكم عَلَيْهِ بالقود فَأَتَاهُ رجل برقعة
أَلْقَاهَا إِلَيْهِ فِيهَا:
(يَا قَاتل الْمُسلم بالكافر ... جرت وَمَا الْعَادِل كالجائر)
(يَا من بِبَغْدَاد وأعمالها ... من عُلَمَاء النَّاس أَو شَاعِر)
(استرجعوا وابكوا على دينكُمْ ... واصطبروا فالأجر للصابر)
فَبلغ الرشيد ذَلِك فَقَالَ لأبي يُوسُف تدارك هَذَا الْأَمر بحيلة
لِئَلَّا تكون فتْنَة فطالب أَبُو يُوسُف أَصْحَاب الدَّم بِبَيِّنَة
على صِحَة الذِّمَّة وثبوتها فَلم يَأْتُوا بهَا، فأسقط الْقود، وَحكى
لنا يَوْمًا فِي بعض دروسه بحلب أَن مَسْأَلَة ألقيت على المدرسين
وَالْفُقَهَاء بِدِمَشْق فَمَا حلهَا إِلَّا عَامل الْمدرسَة وَهِي رجل
صلى الْخمس بِخَمْسَة وضوءات، وَبعد ذَلِك علم أَنه ترك مسح الرَّأْس
فِي أحد الوضوءات فَتَوَضَّأ خمس وضوءات وَصلى الْخمس، ثمَّ تَيَقّن
أَيْضا أَنه ترك مسح الرَّأْس فِي أحد الوضوءات.
الْجَواب: يتَوَضَّأ وَيُصلي الْعشَاء فَيخرج عَن الْعهْدَة بِيَقِين
لِأَن الصَّلَاة المتروكة الْمسْح أَولا إِن كَانَت الْعشَاء فقد صحت
الصَّلَوَات الْأَرْبَع قبلهَا، وَهَذِه الْعشَاء الْمَأْمُور
بِفِعْلِهَا خَاتِمَة الْخمس وَإِن كَانَت غير الْعشَاء، فالعشاء
الأولى والصلوات الْخمس الْمُعَادَة وَالْعشَاء الثَّالِثَة صَحِيحَة
وغايته ترك مسح فِي تَجْدِيد وضوء لهَذَا يجب أَن يشْتَرط عدم الْحَدث
إِلَى أَن يُصَلِّي الْخمس ثَانِيًا.
قلت: التَّحْقِيق أَن الْوضُوء ثَانِيًا كل يُغْنِيه عَنهُ مسح
الرَّأْس وَغسل الرجلَيْن لِأَن الشَّرْط أَنه لم يحدث إِلَى أَن
يُصَلِّي الْخمس ثَانِيًا وَكَذَلِكَ كَانَ يَنْبَغِي للعجيب أَن
يَقُول لَهُ: إِن كنت لم تحدث إِلَى الْآن فامسح رَأسك واغسل رجليك وصل
الْعشَاء إِذْ الْجَدِيد عدم وجوب التَّتَابُع وَإِن كنت مُحدثا الْآن
فَلَا بُد من الْوضُوء كَمَا قَالَ.
وفيهَا: اسْترْجع السُّلْطَان الْملك الصَّالح مَا بَاعه الْملك
الْمُؤَيد وَابْنه الْأَفْضَل بحماه والمعرة وبلادهما من أَمْلَاك بَيت
المَال وَهُوَ بأموال عَظِيمَة وَكَانَ غَالب الْملك قد طرح على
النَّاس غصبا وَقد اشْتريت بِهِ تقادم إِلَى الْملك النَّاصِر فَقَالَ
بعض المعربين فِي ذَلِك:
(طرحوا علينا الْملك طرح مصَادر ... ثمَّ استردوده بِلَا أَثمَان)
(وَإِذا يَد السُّلْطَان طَالَتْ واعتدت ... فيد الْإِلَه على يَد
السُّلْطَان)
وكأنما كاشف هَذَا الْقَائِل فَإِن مُدَّة السُّلْطَان لم تطل بعد
ذَلِك.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة: والتتر مُخْتَلفُونَ
مقتتلون من جين مَاتَ القان
(2/330)
أَبُو سعيد وبلاد الشرق والعجم فِي غلاء
وَنهب وجور بِسَبَب الْخلف من حِين وَفَاته إِلَى هَذِه السّنة.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر توفّي السُّلْطَان الْملك الصَّالح إِسْمَاعِيل
بن الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون بوجع المفاصل والقولنج.
وَكَانَ فِيهِ ديانَة، وَيقْرَأ الْقُرْآن، وَفِي آخر يَوْم مَوته جلس
مَكَانَهُ أَخُوهُ السُّلْطَان الْملك الْكَامِل شعْبَان، وَأخرج آل
ملك نَائِب أَخِيه إِلَى نِيَابَة صفد وقماري إِلَى نِيَابَة طرابلس.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر نقل يلبغا الناصري من نِيَابَة حلب إِلَى
نِيَابَة دمشق مَكَان طقز تمر، وسافر طقز تمر إِلَى مصر بعد
الْمُبَالغَة فِي امْتِنَاعه من النقلَة من دمشق فَمَا أُجِيب إِلَى
ذَلِك، وَتُوفِّي طقز تمر بِمصْر بعد مُدَّة يسيرَة وَكَانَ عِنْده
ديانَة.
وَفِيه: وصل الْأَمِير سيف الدّين أرقطاي إِلَى حلب نَائِبا وأبطل
الْخُمُور والفجور بعد اشتهارها، وَرفع عَن الْقرى الطرح وَكَثِيرًا من
الْمَظَالِم وَرخّص السّعر وسررنا بِهِ.
وفيهَا: عزل سيف بن فضل بن عِيسَى عَن إِمَارَة الْعَرَب ووليها أَحْمد
بن مهنا وأعيد إقطاع فياض بن مهنا إِلَيْهِ وَرَضي عَنهُ واستعيد من
أَيدي الْعَرَب من الإقطاعات وَالْملك شَيْء كثير وَجعل خَاصّا لبيت
المَال.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى صليت بحلب صَلَاة الْغَائِب على القَاضِي
عز الدّين بن المنجا الْحَنْبَلِيّ قَاضِي دمشق وَهُوَ معري الأَصْل.
وفيهَا: فِي شهر رَمَضَان وصل القَاضِي بهاء الدّين حسن بن جمال الدّين
سُلَيْمَان بن رَيَّان إِلَى حلب نَاظرا على الْجَيْش على عَادَته عوضا
عَن القَاضِي بدر الدّين مُحَمَّد بن الشهَاب مَحْمُود الْحلَبِي، ثمَّ
مَا مضى شهر حَتَّى أُعِيد بدر الدّين عوضا عَن بهاء الدّين، وَهَكَذَا
صَارَت المناصب كلهَا بحلب قَصِيرَة الْمدَّة كَثِيرَة الكلفة.
قلت:
(سَاكِني مصر أَيْن ذَاك التأني ... والتأني وَمَا لكم عَنهُ عذر)
(يخسر الشَّخْص مَاله ويقاسي ... تَعب الدَّهْر وَالْولَايَة شهر)
وفيهَا: كتب على بَاب قلعة حلب وَغَيرهَا من القلاع نقراً فِي الْحجر
مَا مضمونه مُسَامَحَة الْجند بِمَا كَانَ يُؤْخَذ مِنْهُم لبيت المَال
بعد وَفَاة الجندي والأمير وَذَلِكَ أحد عشر يَوْمًا وَبَعض يَوْم فِي
كل سنة وَهَذَا الْقدر هُوَ التَّفَاوُت بَين السّنة الشمسية والقمرية
وَهَذِه مُسَامَحَة بِمَال عَظِيم.
وفيهَا: قتلت الأرمن ملكهَا كند اصطبل الفرنجي كَانَ علجاً لَا
يُدَارِي الْمُسلمين فخربت بِلَادهمْ وملكوا مَكَانَهُ.
(2/331)
وفيهَا: فِي أواخرها ملكت التركمان قلعة
كابان وربضها بالحيلة وَهِي من أمنع قلاع سيس مِمَّا يَلِي الرّوم
وَقتلُوا رجالها وَسبوا النِّسَاء والأطفال، فبادر صَاحب سيس الْجَدِيد
لاستنقاذها فصادفه ابْن دلغادر فأوقع بالأرمن وَقتل مِنْهُم خلقا
وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ.
قلت:
(صَاحب سيس الْجَدِيد نَادَى ... كابان عِنْدِي عديل روحي)
(قُلْنَا تأهب لغير هَذَا ... فَذا فتوح على الْفتُوح)
وَبعد فتحهَا قصد النَّائِب بحلب أَن يَسْتَنِيب فِيهَا من جِهَة
السُّلْطَان فعتا ابْن دلغادر عَن ذَلِك فجهزوا عسكراً لهدمها ثمَّ
أَخَذتهَا الأرمن مِنْهُ بشؤم مُخَالفَته لوَلِيّ الْأَمر وَذَلِكَ فِي
رَجَب سنة سبع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة قبض على قماري الناصري نَائِب طرابلس وعَلى
آل ملك نَائِب صفد، وَولي طرابلس بيدمر البدري، وصفد أرغون الناصري.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة: والتتر مُخْتَلفُونَ كَمَا
كَانُوا.
وفيهَا: فِي الْمحرم طلب الْحَاج أرقطاي نَائِب حلب إِلَى مصر، وتكن
فِي مصر وارتفع شَأْنه وَصَارَ رَأس مشورة مَكَان حسنكلي بن البابا
فَإِنَّهُ توفّي قبل ذَلِك بأيام.
وَفِيه: أقبل إِلَى حلب وبلادها من جِهَة الشرق جَراد عَظِيم فَكَانَ
أَذَاهُ قَلِيلا بِحَمْد الله.
قلت:
(رجل جَراد صدها ... عَن الْفساد الصَّمد)
(فكم وَكم للطفه ... فِي هَذِه الرجل يَد)
وفيهَا: فِي ربيع الأول وصل إِلَى حلب الْأَمِير سيف الدّين طقتمر
الأحمدي نَائِبا نقل إِلَيْهَا من حماه مَكَانَهُ أسندمر الْعمريّ.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى سَافر القَاضِي نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن
الصاحب شرف الدّين يَعْقُوب وَولي كِتَابه السِّرّ بِدِمَشْق
وَتَوَلَّى كِتَابَة السِّرّ بحلب مَكَانَهُ القَاضِي جمال الدّين
إِبْرَاهِيم بن الشهَاب مَحْمُود الْحلَبِي.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى بلغنَا أَن نَائِب الشَّام يلبغا خرج
إِلَى ظَاهر دمشق خوفًا من الْقَبْض عَلَيْهِ وشق الْعَصَا وعاضد
أُمَرَاء مصر حَتَّى خلع السُّلْطَان الْملك الْكَامِل شعْبَان وأجلسوا
مَكَانَهُ أَخَاهُ السُّلْطَان الْملك المظفر أَمِير حَاج وسلموا
إِلَيْهِ أَخَاهُ الْكَامِل فَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ، وناب عَن
المظفر بِمصْر الْحَاج أرقطاي المنصوري، وَلما تمّ هَذَا الْأَمر تصدق
يلبغا فِي المملكة الحلبية وَغَيرهَا بِمَال كثير ذهب وَفِضة شكرا لله
تَعَالَى، وَكَانَ هَذَا الْملك الْكَامِل سيء التَّصَرُّف يولي
المناصب غير أَهلهَا بالبذل ويعزلهم عَن قريب ببذل غَيرهم، وَكَانَ
يَقُول عَن نَفسه: أَنا ثعبان لَا شعْبَان.
(2/332)
وفيهَا: فِي رَجَب توفّي بحلب الْأَمِير
شهَاب الدّين قرطاي الأسندمري من مقدمي الألوف أَمِير عفيف الذيل
متصون.
وفيهَا: فِي مستهل رَجَب سَافر طقتمر الأحمدي نَائِب حلب إِلَى الديار
المصرية وَسَببه وَحْشَة بَينه وَبَين نَائِب الشَّام فَإِنَّهُ مَا
ساعده على خلع الْكَامِل وَحفظ أيمانه.
وفيهَا: وَقع الوباء بِبِلَاد أزبك وخلت قرى ومدن من النَّاس، ثمَّ
اتَّصل الوباء بالقرم حَتَّى صَار يخرج مِنْهَا فِي الْيَوْم ألف
جَنَازَة أَو نَحْو ذَلِك حكى لي ذَلِك من أَثِق بِهِ من التُّجَّار،
ثمَّ اتَّصل الوباء بالروم وَهلك مِنْهُم خلق وَأَخْبرنِي تَاجر من أهل
بلدنا قدم من تِلْكَ الْبِلَاد أَن قَاضِي القرم قَالَ: أحصينا من
مَاتَ بالوباء فَكَانُوا خَمْسَة وَثَمَانِينَ ألفا غير من لَا نعرفه،
والوباء الْيَوْم بقبرس والغلاء الْعَظِيم أَيْضا.
وفيهَا: فِي شعْبَان وصل إِلَى حلب الْأَمِير سيف الدّين (بيدمر
البدري) نقل إِلَيْهَا من طرابلس وَولي طرابلس مَكَانَهُ، والبدري
هَذَا عِنْده حِدة وَفِيه بدرة وَيكْتب على كثير من الْقَصَص بِخَطِّهِ
وَهُوَ خطّ قوي.
وفيهَا: توفّي بطرابلس قاضيها شهَاب الدّين أَحْمد بن شرف الزرعي،
وَتَوَلَّى مَكَانَهُ القَاضِي شهَاب الدّين أَحْمد بن عبد اللَّطِيف
الْحَمَوِيّ.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة صدرت بحلب وَاقعَة غَرِيبَة وَهِي أَن بِنْتا
بكرا من أَوْلَاد أَوْلَاد عَمْرو التيزيني كرهت زَوجهَا ابْن المقصوص
فلقنت كلمة الْكفْر لينفسخ نِكَاحهَا قبل الدُّخُول فقالتها وَهِي لَا
تعلم مَعْنَاهَا فأحضرها البدري بدار الْعدْل بحلب وَأمر فَقطعت أذناها
وشعرها وعلق ذَلِك فِي عُنُقهَا وشق أنفها وطيف بهَا على دَابَّة بحلب
وبتيزين وَهِي من أجمل الْبَنَات وأحياهن فشق ذَلِك على النَّاس وَعمل
النِّسَاء عَلَيْهَا عزاء فِي كل نَاحيَة بحلب حَتَّى نسَاء الْيَهُود
وَأنْكرت الْقُلُوب قبح ذَلِك، وَمَا أَفْلح البدري بعْدهَا.
قلت:
(وضج النَّاس من بدر مُنِير ... يطوف مشرعاً بَين الرِّجَال)
(ذكرت وَلَا سَوَاء بهَا السبايا ... وَقد طافوا بِهن على الْجمال)
وَفِيه: ورد الْبَرِيد بتوليه السَّيِّد عَلَاء الدّين عَليّ بن زهرَة
الْحُسَيْنِي نقابة الْأَشْرَاف بحلب مَكَان ابْن عَمه الْأَمِير شمس
الدّين حسن بن السَّيِّد بدر الدّين مُحَمَّد بن زهرَة وَأعْطِي هَذَا
إِمَارَة طلخانات بحلب.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة: والتتر مُخْتَلفُونَ.
وفيهَا: فِي ثَالِث الْمحرم وصل إِلَى حلب القَاضِي شهَاب الدّين بن
أَحْمد بن الريَاحي على قَضَاء الْمَالِكِيَّة بحلب، وَهُوَ أول مالكي
استقضى بحلب وَلَا بُد لَهَا من قَاض حنبلي
(2/333)
بعد مُدَّة لتكمل بِهِ الْعدة أُسْوَة
بِمصْر ودمشق، وَفِي السّنة الَّتِي قبلهَا تجدّد بطرابلس قَاض
حَنَفِيّ مَعَ الشَّافِعِي.
وفيهَا: فِي الْمحرم صليت بحلب صَلَاة الْغَائِب على القَاضِي شرف
الدّين مُحَمَّد بن أبي بكر بن ظافر الْهَمدَانِي الْمَالِكِي قَاضِي
الْمَالِكِيَّة بِدِمَشْق وَقد أناف على الثَّمَانِينَ، كَانَ دينا
خيرا متجملاً فِي الملبس وَهُوَ الَّذِي عاضد تنكز على نكبة قَاضِي
الْقُضَاة جمال الدّين يُوسُف بن جملَة وَهَا هم قد الْتَقَوْا عِنْد
الله تَعَالَى.
وَفِيه: ظهر بَين منبج وَالْبَاب جَراد عَظِيم صَغِير من بزر السّنة
الْمَاضِيَة فَخرج عكسر من حلب وَخلق من فلاحي النواحي الحلبية نَحْو
أَرْبَعَة آلَاف نفس لقَتله وَدَفنه وَقَامَت عِنْدهم أسواق وصرفت
عَلَيْهِم من الرّعية أَمْوَال، وَهَذِه سنة ابْتَدَأَ بهَا الطنبغا
الْحَاجِب من قبلهم.
قلت:
(قصد الشَّام جَراد ... سنّ للغلات سنا)
(فتصالحنا عَلَيْهِ ... وحفرنا ودفنا)
وفيهَا: فِي الْمحرم سَافر الْأَمِير نَاصِر الدّين بن المحسني بعكسر
من حلب لتسكين فتْنَة بِبَلَد شيرز بَين الْعَرَب والأكراد قتل فِيهَا
من الأكراد نَحْو خَمْسمِائَة نفس ونهبت أَمْوَال ودواب.
وفيهَا: فِي الْمحرم عزمت الأرمن على نكبة لأياس فأوقع بهم أَمِير أياس
حسام الدّين مَحْمُود بن دَاوُد الشَّيْبَانِيّ وَقتل من الأرمن خلقا
وَأسر خلقا وأحضرت الرؤوس والأسرى إِلَى حلب فِي يَوْم مشهود فَللَّه
الْحَمد.
وفيهَا: منتصف ربيع الأول سَافر بيدمر البدري نَائِب حلب إِلَى مصر
معزولاً أَنْكَرُوا عَلَيْهِ مَا اعْتَمدهُ فِي حق الْبِنْت من تيزين
الْمُقدم ذكرهَا وَنَدم على ذَلِك حَيْثُ لَا يَنْفَعهُ النَّدَم.
وَفِيه: وصل إِلَى حلب نائبها أرغون شاه الناصري فِي حشمة عَظِيمَة نقل
إِلَيْهَا من صفد.
وَفِيه: قطعت الطّرق وأخيفت السبل بِسَبَب الْفِتْنَة بَين الْعَرَب
لخُرُوج إمرة الْعَرَب عَن أَحْمد بن مهنا إِلَى سيف بن فضل بن عِيسَى.
قلت:
(نُرِيد لأهل مصر كل خير ... وقصدهم لنا حتف وحيف)
(وَهل يسمو لأهل الشَّام رمح ... إِذا استولى على العربان سيف)
وفيهَا: فِي ربيع الآخر قدم على كركر ولختا وَمَا يَليهَا عصافير
كالجراد الْمُنْتَشِر فَتَنَازَعَ النَّاس إِلَى شيل الغلات بدارا
وَهَذَا مِمَّا لم يسمع بِمثلِهِ.
وَفِيه: وصل تَقْلِيد القَاضِي شرف الدّين مُوسَى بن فياض
الْحَنْبَلِيّ بِقَضَاء الْحَنَابِلَة
(2/334)
بحلب فَصَارَ الْقُضَاة أَرْبَعَة، وَلما
بلغ بعض الظرفاء أَن حلب تجدّد بهَا قاضيان مالكي وحنبلي أنْشد قَول
الحريري فِي الملحة:
(ثمَّ كلا النَّوْعَيْنِ جَاءَ فَضله ... مُنْكرا بعد تَمام
الْجُمْلَة)
وفيهَا: فِي جُمَادَى الأولى هرب يلبغا من دمشق بأمواله وذخائره
الَّتِي تكَاد تفوت الْحصْر خشيَة من الْقَبْض عَلَيْهِ، وَقصد الْبر
فخافه الدَّلِيل وخذله أَصْحَابه وتناوبته العربان من كل جَانب وألزمه
أَصْحَابه قهرا بِقصد حماه ملقياً للسلاح فَلَقِيَهُ نَائِب حماه
مستشعراً مِنْهُ وَأدْخلهُ حماه ثمَّ حضر من تسلمه من جِهَة
السُّلْطَان وَسَارُوا بِهِ إِلَى جِهَة مصر فَقَتَلُوهُ بقاقون وَدفن
بهَا وَهَذَا من لطف الله بِالْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ لَو دخل بِلَاد
التتار أتعب النَّاس ورسم السُّلْطَان بإكمال جَامِعَة الَّذِي أنشأه
بِدِمَشْق وَأطلق لَهُ مَا وَقفه عَلَيْهِ وَهُوَ جَامع حسن بوقف كثير،
وَكَانَ يلبغا خيرا للنَّاس من حَاشِيَته بِكَثِير.
وَكَانَ عفيفاً عَن أَمْوَال الرّعية، وَمَا علمنَا أَن أحدا من
التّرْك ببلادنا حصل لَهُ مَا حصل ليلبغا، جمع شَمله بِأَبِيهِ وَأمه
وأخوته وكل مِنْهُم أَمِير إِلَى أَن قضى نحبه رَحمَه الله تَعَالَى.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة نقل أرغون شاه من نِيَابَة حلب إِلَى
نِيَابَة دمشق فسافر عَاشر الشَّهْر، وبلغنا أَن وسط فِي طَرِيقه
مُسلمين وَهَذَا أرغون شاه فِي غَايَة السطوة مقدم على سفك الدَّم
بِلَا تثبت، قتل بحلب خلقا ووسط وَسمر وَقطع بدوياً سبع قطع بِمُجَرَّد
الظَّن بِحَضْرَتِهِ، وَغَضب على فرس لَهُ قيمَة كَثِيرَة مرح بالعلافة
فَضَربهُ حَتَّى سقط ثمَّ قَامَ فَضَربهُ حَتَّى سقط وَهَكَذَا مَرَّات
حَتَّى عجز عَن الْقيام فَبكى الْحَاضِرُونَ على هَذَا الْفرس.
فَقيل لَهُ:
(عقلت طرفك حَتَّى ... أظهرت للنَّاس عقلك)
(لَا كَانَ دهر يولي ... على بني النَّاس مثلك)
وَفِيه: اقتتل سيف بن فضل أَمِير الْعَرَب وَأَتْبَاعه أَحْمد وفياض
فِي جمع عَظِيم قرب سلمية فانكسر سيف ونهبت جماله وَمَاله ونجى بعد
اللتيا واللتي فِي عشْرين فَارِسًا،، وَجرى على بلد المعرة وحماه
وَغَيرهَا فِي هَذِه السّنة بل فِي هَذَا الشَّهْر من الْعَرَب
أَصْحَاب سيف وَأحمد وفيض من النهب وَقطع الطّرق، ورعى الكروم والزروع
والقطن والمقائي مَا لَا يُوصف.
وَفِيه: انْكَسَرَ الْملك الأستر بن تمر تاش بِبِلَاد الشرق كسرة شنيعة
ثمَّ شربوا من نهر مَسْمُوم فَمَاتَ أَكْثَرهم ومزقهم الله كل ممزق،
وَكَانَ هَذَا الْمَذْكُور رَدِيء النِّيَّة موتوراً فذاق وبال أمره.
وفيهَا: فِي أواخرها وصل إِلَى حلب نَائِبا فَخر الدّين أياز نقل
إِلَيْهَا من صفد.
وفيهَا: فِي رَمَضَان قتل السُّلْطَان الْملك المظفر أَمِير حَاج بن
الْملك النَّاصِر بن قلاوون بِمصْر وأقيم مَكَانَهُ أَخُوهُ
السُّلْطَان الْمَالِك النَّاصِر حسن كَانَ الْملك المظفر قد أعدم
أَخَاهُ الْأَشْرَف كجك وفتك بالأمراء وَقتل من أعيانهم نَحْو
أَرْبَعِينَ أَمِيرا مثل بيدمر البدري نَائِب حلب ويلبغا نَائِب
الشَّام
(2/335)
وطقتمر النجمي الدواتدار وأقسنقر الَّذِي
كَانَ نَائِب طرابلس، ثمَّ صَار الْغَالِب على الْأَمر بِمصْر أرغون
العلائي والكتمر الْحِجَازِي وتتمش عبد الْغَنِيّ أَمِير مائَة مقدم
ألف وشجاع الدبن غرلو وَهُوَ أظلمهم وَنجم الدّين مَحْمُود بن شروين
وَزِير بَغْدَاد ثمَّ وَزِير مصر وَهُوَ أجودهم وَأَكْثَرهم برا
ومعروفاً، وَحكي لنا ان النُّور شوهد على قَبره بغزة وَكَانَ المظفر قد
رسم لعبد أسود صُورَة بِأَن يَأْخُذ على كل رَأس غنم تبَاع بحلب وحماه
ودمشق نصف دِرْهَم، فَيوم وُصُول الْأسود إِلَى حلب وصل الْخَبَر بقتل
السُّلْطَان فسر النَّاس بخيبة الْأسود.
وفيهَا: فِي شَوَّال طلب السُّلْطَان فَخر الدّين أياز نَائِب حلب
إِلَى مصر وخافت الْأُمَرَاء أَن يهرب فَرَكبُوا من أول اللَّيْل
وَأَحَاطُوا بِهِ فَخرج من دَار الْعدْل وَسلم نَفسه إِلَيْهِم فأودعوه
القلعة، ثمَّ حمل إِلَى مصر فحبس وَهُوَ أحد الساعين فِي نكبة يلبغا،
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ من الجركس وهم أضداد لجنس التتر بِمصْر، وَكَانَ
المظفر قد مَال عَن جنس التتر إِلَى الجركس وَنَحْوهم فَكَانَ ذَلِك
أحد ذنُوبه عِنْدهم فَانْظُر إِلَى هَذِه الدول الْقصار الَّتِي مَا
سمع بِمِثْلِهَا فِي الْأَعْصَار.
قلت:
(هذي أُمُور عِظَام ... من بَعْضهَا الْقلب ذائب)
(مَا حَال قطر يَلِيهِ ... فِي كل شَهْرَيْن نَائِب)
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة وصل إِلَى حلب الْحَاج أرقطاي نَائِبا بعد
أَن خطبوه إِلَى السلطنة وَالْجُلُوس على الْكُرْسِيّ بِمصْر فَأبى
وخطبوا قبله إِلَى ذَلِك الْخَلِيفَة الْحَاكِم بِأَمْر الله فَامْتنعَ
كل هَذَا خوفًا من الْقَتْل فَلَمَّا جلس الْملك النَّاصِر حسن على
الْكُرْسِيّ طلب الْحَاج أرقطاري مِنْهُ نِيَابَة حلب فَأُجِيب وأعفى
النَّاس من زِينَة الْأَسْوَاق بحلب لِأَنَّهَا تَكَرَّرت حَتَّى سمجت.
قلت:
(فكم ملك جَاءَ وَكم نَائِب ... يَا زِينَة الْأَسْوَاق حَتَّى مَتى)
(قد كرروا الزِّينَة حَتَّى اللحى ... مَا بقيت تلْحق أَن تنبتا)
وَفِيه: بلغنَا أَن السُّلْطَان أَبَا الْحسن المريني صَاحب الْمغرب
انْتقل من الغرب الجواني من قَاس إِلَى مَدِينَة تونس وَهِي أقرب
إِلَيْنَا من فاس بِثَلَاثَة أشهر وَذَلِكَ بعد موت ملكهَا أبي بكر من
الحفصيين بالفالج وَبعد ان أَجْلِس أَبُو الْحسن ابْنه على الْكُرْسِيّ
بالغرب الجواني وَقد أوجس المصريون من ذَلِك خيفة فَإِن بعض
الْأُمَرَاء المصريين الأذكياء أَخْبرنِي أَن الْملك النَّاصِر
مُحَمَّد كَانَ يَقُول: رَأَيْت فِي بعض الْمَلَاحِم أَن المغاربة تملك
مصر وتبيع أَوْلَاد التّرْك فِي سويقه مَازِن وَهَذَا السُّلْطَان
أَبُو الْحسن ملك عَالم مُجَاهِد عَادل، كتب من مُدَّة قريبَة بخطة
ثَلَاثَة مصاحف ووقفها على الْحَرَمَيْنِ وعَلى حرم الْقُدس وجهز
مَعهَا عشرَة آلَاف دِينَار اشْترى بهَا أملاكاً بِالشَّام ووقفت على
الْقُرَّاء والخزنة للمصاحف الْمَذْكُورَة، ووقفت على نُسْخَة توقيع
بمساحة الْأَوْقَاف الْمَذْكُورَة بمؤن وكلف وأحكار أنشأه صاحبنا
الشَّيْخ جمال الدّين بن نَبَاته الْمصْرِيّ أحد الموقعين الْآن
بِدِمَشْق أَوله الْحَمد لله الَّذِي أرهف لعزائم الْمُوَحِّدين غرباً
وأطلعهم بهممهم حَتَّى فِي مطالع الغرب شهباً، وَعرف بَين قُلُوب
الْمُؤمنِينَ
(2/336)
حَتَّى كَانَ الْبعد قرباً، وَكَانَ
القلبان قلباً وأيد بولاء هَذَا الْبَيْت الناصري مُلُوك الأَرْض
وَعبيد الْحق سلما وحرباً وعضد بِبَقَائِهِ كل ملك إِذا نزل الْبر
أَنْبَتَهُ يَوْم الكفاح أسلاً وَيَوْم السماح عشباً وَإِذا ركب
الْبَحْر لنهب الْأَعْدَاء كَانَ وَرَاءَهُمْ ملك يَأْخُذ كل سفينة
غصبا وَإِذا بعث هداياه المتنوعة كَانَت عراباً تصْحَب عربا ورياضاً
تسحب سحباً.
وَإِذا وقف أوقاف الْبر سَمِعت الْآفَاق من خطّ يَده قُرْآنًا عجبا
واهتزت بذكراه عجبا.
وفيهَا: وَذُو الْوَلَاء قريب وَإِن نأت دَاره ودان بالمحبة وَإِن شط
شط بحره ومزاره وَهُوَ بأخباره النيرة مَحْبُوب كالجنة قبل أَن ترى
مَوْصُوف كوصف الْمشَاهد وَإِن حَالَتْ عَن الأكتحال بطلعته أَمْيَال
السرى وَلما كَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن سر الله بِبَقَائِهِ
الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين، وسره بِمَا كتب من اسْمه فِي أَصْحَاب
الْيَمين {وَمَا أَدْرَاك مَا أَصْحَاب الْيَمين} هُوَ الَّذِي مد
الْيَمين بِالسَّيْفِ والقلم فَكتب فِي أَصْحَابهَا وسطر الختمات
الشَّرِيفَة فنصر الله حزبه بِمَا سطر من أحزابها وَمد الرماح أرشية
فاشتقت من قُلُوب الْأَعْدَاء قليباً والأقلام أروية فشفت ضعف البصائر
وحسبك بِالذكر الْحَكِيم طَبِيبا.
وفيهَا: ثمَّ وصلت ختمات شريفة كتبهَا بقلمه الْمجِيد المجدي وَخط
سطورها بالعربي وطالما خطّ فِي صُفُوف الْأَعْدَاء بالهندي.
وفيهَا: وَأمر بترتيب خَزَنَة وقراء على مطالع أفقها ووقف أوقافها تجرى
أَقْلَام الْحَسَنَات فِي إِطْلَاقهَا وَطَلقهَا، وَحبس أملاكاً شامية
تحدث بنعم الْأَمْلَاك الَّتِي سرت من مغرب الشَّمْس إِلَى مشرقها،
وَرغب فِي الْمُسَامحَة على تِلْكَ الْأَمْلَاك من أحكار ومؤونات
وأوضاع ديوانية وضع بهَا خطّ الْمُسَامحَة فِي دواوين الْحَسَنَات
المسطرات فَأُجِيب على الْبعد داعيه وقوبل بالإسعاف والإسعاد وَقفه
ومساعيه، وختمها بقوله: وَالله تَعَالَى يمتع من وقف هَذِه الْجِهَات
بِمَا سطر لَهُ فِي أكْرم الصحائف، وينفع الْجَالِس مكن وُلَاة
الْأُمُور فِي تقريرها ويتقبل من الْوَاقِف.
وَفِيه: صليت بحلب صَلَاة الْغَائِب على الشَّيْخ شمس الدّين بن
مُحَمَّد بن أَحْمد بن عُثْمَان بن قايماز الذَّهَبِيّ الدِّمَشْقِي
مُنْقَطع القرين فِي معرفَة أَسمَاء الرِّجَال مُحدث كَبِير ومؤرخ من
مصنفاته كتاب تَارِيخ الْإِسْلَام وَكتاب الْمَوْت وَمَا بعده وَغير
ذَلِك، وكف بَصَره فِي آخر عمره.
ومولده سنة ثَلَاث وَسبعين وسِتمِائَة، واستعجل قبل مَوته فترجم فِي
تواريخه الْأَحْيَاء الْمَشْهُورين بِدِمَشْق وَغَيرهَا، وَاعْتمد فِي
ذكر سير النَّاس على أحدث يَجْتَمعُونَ بِهِ وَكَانَ فِي أنفسهم من
النَّاس فآذى بِهَذَا السَّبَب فِي مصنفاته أَعْرَاض خلق من
الْمَشْهُورين.
وفيهَا: كَانَ الغلاء بِمصْر ودمشق وحلب وبلادهن، وَالْأَمر بِدِمَشْق
أَشد حَتَّى انكشفت فِيهِ أَحْوَال خلق، وجلى كَثِيرُونَ مِنْهَا إِلَى
حلب وَغَيرهَا.
وَأَخْبرنِي بعض بني تَيْمِية أَن الغرارة وصلت بِدِمَشْق إِلَى
ثَلَاثمِائَة، وَبيع الْبيض كل خمس بيضات بدرهم، وَاللَّحم رَطْل
بِخَمْسَة وَأكْثر، وَالزَّيْت رَطْل بِسِتَّة أَو سَبْعَة.
(2/337)
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة قيد الْأَمر
شهَاب الدّين أَحْمد بن الْحَاج مغلطاي القرا سنقري وَحمل إِلَى دمشق
فسجن بالقلعة.
وَكَانَ مشد الْوَقْف بحلب وحاجباً، وَكَانَ قبل هَذِه الْحَادِثَة قد
سعى فِي بعض الْقُضَاة وَقصد لَهُ إهانة بدار الْعدْل فَسلم الله
القَاضِي، وَأُصِيب السَّاعِي الْمَذْكُور، وَرُبمَا كَانَ طلبه من مصر
يَوْم سَعْيه فِي القَاضِي ثمَّ خلص بعد ذَلِك وأعيد إِلَى حلب وَصلح
حَاله.
وفيهَا: توفّي بِدِمَشْق ابْن علوي أوصى بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم تفرق
صَدَقَة وبمائتي ألف وَخمسين ألفا تشتري بهَا أَمْلَاك وَتوقف على
الْبر فَاجْتمع خلق من الحرافيش والضعفاء لتفريق الثَّلَاثِينَ ألفا
ونهبوا خبْزًا من قُدَّام الخبازين فَقطع أرغون شاه نَائِب دمشق
مِنْهُم أَيدي خلق وَسمر خلقا بِسَبَب ذَلِك فَخرج مِنْهُم خلق من دمشق
وَتَفَرَّقُوا بِبِلَاد الشمَال.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة ضرب نيروز بالنُّون نَائِب قلعة الْمُسلمين
قاضيها برهَان الدّين إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن مَمْدُود واعتقله
ظلما وتجبراً، فَبعد أَيَّام قَليلَة طلب النَّائِب إِلَى مصر معزولاً،
ويغلب على ظَنِّي أَنه طلب يَوْم تعرضه للْقَاضِي فسبحان رب الأَرْض
وَالسَّمَاء الَّذِي لَا يهمل من استطال على الْعلمَاء.
قلت:
(قلت لأهل الجاه مهما ... رمتم عزا وَطَاعَة)
(لَا تهينوا أهل علم ... فَإِذا هم سم سَاعَة)
وَفِيه: فِي الْعشْر الْأَوْسَط من آذار وَقع بحلب وبلادها ثلج عَظِيم،
وتكرر أغاث الله بِهِ الْبِلَاد، واطمأنت بِهِ قُلُوب الْعباد، وَجَاء
عقيب غلاء أسعار وَقلة أمطار.
قلت:
(ثلج بآذار أم الكافور فِي ... مزاجه ولونه والمطعم)
(لولاه سَالَتْ بالغلا دماؤنا ... من عَادَة الكافور إمْسَاك الدَّم)
وفيهَا جَاءَت ريح عَظِيمَة قلعت أشجاراً كَثِيرَة، وَكَانَت مراكب
للفرنج قد لججت للوثوب على سواحل الْمُسلمين فغرقت بِهَذِهِ الرّيح،
وَكفى الله الْمُؤمنِينَ الْقِتَال.
قلت:
(قل للفرنج تأدبوا وتجنبوا ... فالريح جند نَبينَا إِجْمَاعًا)
(إِن قلعت فِي الْبر أشجاراً فكم ... فِي الْبَحْر يَوْمًا شجرت
أقلاعاً)
وفيهَا: توفّي الشَّيْخ الْحَاج إِسْمَاعِيل بن عبد الرَّحْمَن العزازي
بعزاز، كَانَ لَهُ منزلَة عِنْد الطنبغا الْحَاجِب نَائِب حلب، وَبنى
بعزاز مدرسة حَسَنَة، وسَاق إِلَيْهَا الْقَنَاة الحلوة وانتفع
الْجَامِع وَكثير من الْمَسَاجِد بِهَذِهِ الْقَنَاة، وَله آثَار
حَسَنَة غير ذَلِك رَحمَه الله تَعَالَى.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة: وقراجا بن لغادر التركماني
وجمائعه قد شغبوا واستطالوا ونهبوا، وَتسَمى بِالْملكِ القاهر وَأَبَان
عَن فجور وحمق ظَاهر وَدَلاهُ بغروره
(2/338)
الشَّيْطَان حَتَّى طلب من صَاحب سيس
الْحمل الَّذِي يحمل إِلَى السُّلْطَان.
وفيهَا: فِي شهر رَجَب وصل الوباء إِلَى حلب كفانا الله شَره، وَهَذَا
الوباء قيل لنا أَنه ابْتَدَأَ من الظُّلُمَات من خمس عشرَة سنة
مُتَقَدّمَة على تَارِيخه وعملت فِيهِ رِسَالَة سميتها النبأ عَن
الوباء.
فَمِنْهَا: اللَّهُمَّ صل على سيدنَا مُحَمَّد وَسلم ونجنا بجاهه من
طغيان الطَّاعُون وَسلم الطَّاعُون روع وأمات وابتدأ خَبره من
الظُّلُمَات فواها لَهُ من زائر من خمس عشرَة سنة دائر مَا صين عَنهُ
الصين وَلَا منع مِنْهُ حصن حُصَيْن سل هنديا فِي الْهِنْد وَاشْتَدَّ
على السَّنَد وَقبض بكفيه وَشَبك على بِلَاد أزبك وَكم قَصم من ظهر
فِيمَا وَرَاء النَّهر، ثمَّ ارْتَفع وَنجم وهجم على الْعَجم وأوسع
الخطا إِلَى أَرض الخطا وقرم القرم وَرمى الرّوم بجمر مضطرم وجر
الجرائر إِلَى قبرص والجزائر ثمَّ قهر خلقا بِالْقَاهِرَةِ وتنبهت عينه
لمصر فأذاهم بالساهرة وأسكن حَرَكَة الْإسْكَنْدَريَّة فَعمل شغل
الْفُقَرَاء مَعَ الحريرية.
(إسكندرية ذَا الوبا ... سبع يمد إِلَيْك ضبعه)
(صبرا لقسمته الَّتِي ... تركت من السّبْعين سبعه)
ثمَّ تيَمّم الصَّعِيد الطّيب وأبرق على برقة مِنْهُ صيب، ثمَّ غزى
غَزَّة وهز عسقلان هزة، وعك إِلَى عكا، وَاسْتشْهدَ بالقدس، وزكى فلحق
من الهاربين الْأَقْصَى بقلب كالصخرة، وَلَوْلَا فتح بَاب الرَّحْمَة
لقامت الْقِيَامَة فِي مرّة، ثمَّ طوى المراحل وَنوى أَن يلْحق
السَّاحِل، فصاد صيدا، وبغت بيروت كيداً، ثمَّ سدد الرشق إِلَى جِهَة
دمشق، فتربع ثمَّ وتميد وفتك كل يَوْم بِأَلف وأزيد فَأَقل الْكَثْرَة
وَقتل خلقا ببثرة.
وَمِنْهَا:
(أصلح الله دمشقاً ... وحماها عَن مسبه)
(نَفسهَا خست إِلَى أَن ... تقتل النَّفس بحبه)
ثمَّ أَمر المزة وبرز إِلَى بَرزَة وَركب تركيب مزج على بعلبك وَأنْشد
فِي قارة قفانبك وَرمى حمص بجلل وصرفها مَعَ علمه أَن فِيهَا ثَلَاث
علل ثمَّ طلق الكنه فِي حماه فبردت أَطْرَاف عاصيها من حماه:
(يَا أَيهَا الطَّاعُون أَن حماه من ... خير الْبِلَاد وَمن أعز
حصونها)
(لَا كنت حِين شممتها فسممتها ... ولتمت فاها آخِذا بقرونها)
ثمَّ دخل معرة النُّعْمَان فَقَالَ لَهَا: أَنْت مني فِي أَمَان، حماه
تكفيك فَلَا حَاجَة لي فِيك.
(رأى المعرة عينا زانها حور ... لَكِن حاجبها بالجور مقرون)
(مَاذَا الَّذِي يصنع الطَّاعُون فِي بلد ... فِي كل يَوْم لَهُ بالظلم
طاعون)
ثمَّ سرى إِلَى سرمين والفوعة فشعث على السّنة والشيعة، فسن للسّنة
اسنته شرعا
(2/339)
وشيع فِي منَازِل الشِّيعَة مصرعاً، ثمَّ
أنطى أنطاكية بعض نصيب ورحل عَنْهَا حَيَاء من نسيانه ذكرى حبيب، ثمَّ
قَالَ لشيرز وحارم لَا تخافا مني فأنتما من قبل وَمن بعد فِي غنى عني،
فالأمكنة الردية تصح فِي الْأَزْمِنَة الوبية ثمَّ أذلّ عزاز وكلزة
وَأصْبح فِي بيوتهما الْحَارِث، وَلَا أغْنى ابْن حلزة وَأخذ من أهل
الْبَاب أهل الْأَلْبَاب وباشر تل بَاشر وَذَلِكَ دلوك وحاشر وَقصد
الوهاد والتلاع وَقلع خلقا من القلاع ثمَّ طلب حلب وَلكنه مَا غلب.
وَمِنْهَا: وَمن الأقدار أَنه يتبع أهل الدَّار، فَمَتَى بَصق أحد
مِنْهُم دَمًا تحققوا كلهم عدماً ثمَّ يسكن لباصق الأجداث بعد
لَيْلَتَيْنِ أَو ثَلَاث.
(سَأَلت بارئ النسم ... فِي دفع طاعون صدم)
(فَمن أحس بلع دم ... فقد أحس بِالْعدمِ)
وَمِنْهَا:
(حلب وَالله يَكْفِي ... شَرها أَرض مشقة)
(أَصبَحت حَيَّة سوء ... تقتل النَّاس ببزقة)
فَلَقَد كثرت فِيهَا أرزاق الجنائزية فَلَا رزقوا، وعاشوا بِهَذَا
الْمَوْسِم وعرقوا من الْحمل، فَلَا عاشوا وَلَا عرقوا، فهم يلهون
ويلعبون، ويتقاعدون على الزبون.
(إسودت الشَّهْبَاء فِي ... عَيْني من وهم وغش)
(كَادَت بَنو نعش بهَا ... أَن يلْحقُوا ببنات نعش)
وَمِمَّا أغضب الْإِسْلَام وَأوجب الآلام أَن أهل سيس الملاعين مسرورون
لبلادنا بالطاعون.
(سكان سيس يسرهم مَا ساءنا ... وَكَذَا العوائد من عَدو الدّين)
(فَالله يَنْقُلهُ إِلَيْهِم عَاجلا ... ليمزق الطاغوت بالطاعون)
وَمِنْهَا: فَإِن قَالَ قَائِل هُوَ يعدي ويبيد قلت: بل الله يُبْدِي
وَيُعِيد، فَإِن جادل الْكَاذِب فِي دَعْوَى الْعَدْوى وَتَأَول
قُلْنَا فقد قَالَ الصَّادِق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:
" فَمن أعدى الأول استرسل ثعبانه وانساب " وَسمي طاعون الْأَنْسَاب
وَهُوَ سادس طاعون وَقع فِي الْإِسْلَام، وَعِنْدِي أَنه الموتان
الَّذِي أنذر بِهِ نَبينَا عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ
وَكَانَ:
(أعوذ بِاللَّه رَبِّي من شَرّ طاعون النّسَب ... باروده المستعلي قد
طَار فِي الأقطار)
(دولاب دهاشاته ساعي لصارخ مارثي ... وَلَا فدا بذخيره فتاشه الطبار)
(يدْخل إِلَى الدَّار يحلف مَا أخرج إِلَّا بِأَهْلِهَا ... معي كتاب
القَاضِي بِكُل من فِي الدَّار)
وَفِي هَذَا كِفَايَة فَفِي الرسَالَة طول.
وفيهَا: أسقط القَاضِي الْمَالِكِي الريَاحي بحلب تِسْعَة من الشُّهُود
ضَرْبَة وَاحِدَة فاستهجن مِنْهُ ذَلِك وأعيدوا إِلَى عدالتهم
ووظائفهم.
وفيهَا: قتل بحلب زنديقان أعجميان كَانَا مقيمين بدلوك.
(2/340)
وفيهَا: بلغنَا وَفَاة القَاضِي زين الدّين
عمر البلفيائي بصفد بالوباء وَالشَّيْخ نَاصِر الدّين الْعَطَّار
بطرابلس بالوباء، وَهُوَ وَاقِف الْجَامِع الْمَعْرُوف بِهِ بهَا،
وفيهَا توفّي القَاضِي جمال الدّين سُلَيْمَان بن رَيَّان الطَّائِي
بحلب مُنْقَطِعًا تَارِكًا للخدم ملازماً للتلاوة.
وفيهَا: بلغنَا أَن أرغون شاه وسط بِدِمَشْق كثيرا من الْكلاب.
وفيهَا: توفّي الْأَمِير أَحْمد بن مهنا أَمِير الْعَرَب وفت ذَلِك فِي
أعضاد آل مهنا، وَتوجه أَخُوهُ فياض الغشوم الْقَاطِع للطرق الظَّالِم
للرعية إِلَى مصر ليتولى الْإِمَارَة على الْعَرَب مَكَان أَخِيه
أَحْمد فَأُجِيب إِلَى ذَلِك فَشكى عَلَيْهِ رجل شرِيف أَنه قطع
عَلَيْهِ الطَّرِيق وَأخذ مَاله وَتعرض إِلَى حريمه فرسم السُّلْطَان
بإنصافه مِنْهُ فَأَغْلَظ فياض فِي القَوْل طَمَعا بصغر سنّ
السُّلْطَان فقبضوا عَلَيْهِ قبضا شنيعاً.
وفيهَا: فِي سلخ شَوَّال توفّي قَاضِي الْقُضَاة نور الدّين مُحَمَّد
بن الصَّائِغ بحلب، وَكَانَ صَالحا عفيفاً دينا لم يكسر قلب أحد وَلكنه
لخيرته طمع قُضَاة السوء فِي المناصب وَصَارَ المناحيس يطلعون إِلَى
مصر ويتولون الْقَضَاء فِي النواحي بالبذل وَحصل بذلك وَهن فِي
الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة
قلت:
(مُرِيد قضا بَلْدَة ... لَهُ حلب قَاعِدَة)
(فَيطلع فِي أَلفه ... وَينزل فِي وَاحِدَة)
وَكَانَ رَحمَه الله من أكبر أَصْحَاب ابْن تَيْمِية، وَكَانَ حَامِل
رايته فِي وقْعَة الكسروان الْمَشْهُورَة.
وفيهَا: فِي عَاشر ذِي الْقعدَة توفّي بحلب صاحبنا الشَّيْخ الصَّالح
زين الدّين عبد الرَّحْمَن بن هبة الله الْعمريّ بِإِمَام الزجاجية من
أهل الْقُرْآن وَالْفِقْه والْحَدِيث، عزب مُنْقَطع عَن النَّاس، كَانَ
لَهُ بحلب دويرات وقفهن على بني عَمه.
وَظهر لَهُ بعد مَوته كرامات، مِنْهَا: أَنه لما وضع فِي الْجَامِع
ليصلى عَلَيْهِ بعد الْعَصْر ظهر من جنَازَته نور شَاهده
الْحَاضِرُونَ، وَلما حمل لم يجد حاملوه عَلَيْهِم مِنْهُ ثقلاً حَتَّى
كَأَنَّهُ مَحْمُول عَنْهُم فتعجبوا لذَلِك.
وَلما دفن وَجَلَسْنَا نَقْرَأ عِنْده سُورَة الْأَنْعَام شممنا من
قَبره رَائِحَة طيبَة تغلب رَائِحَة الْمسك والعنبر، وتكرر ذَلِك
فتواجد النَّاس وَبكوا وغلبتهم الْعبْرَة، وَله محَاسِن كَثِيرَة
رَحمَه الله ورحمنا بِهِ آمين، ومكاشفات مَعْرُوفَة عِنْد أَصْحَابه.
وَفِي الْعشْر الْأَوْسَط مِنْهُ توفّي (أخي الشَّقِيق) وشيخي الشفيق
القَاضِي جمال الدّين يُوسُف، ترك فِي آخر عمره الحكم وَأَقْبل على
التدريس والإفتاء، وَكَانَ من كَثْرَة الْفِقْه وَالْكَرم وسعة النَّفس
وسلامة الصَّدْر بِالْمحل الرفيع رَحمَه الله تَعَالَى، وَدفن بمقابر
الصَّالِحين قبلي الْمقَام بحلب.
(2/341)
قلت:
(أَخ أبقى ببذل المَال ذكرا ... وَإِن لاموه فِيهِ ووبخوه)
(أَزَال فِرَاقه لذات عيشي ... وكل أَخ مفارقه أَخُوهُ)
وَفِيه: توفّي الشَّيْخ عَليّ بن الشَّيْخ مُحَمَّد بن الْقدْوَة
نَبهَان الجبريني، بجبرين، وَجلسَ على السجادة ابْنه الشَّيْخ مُحَمَّد
الصُّوفِي، كَانَ الشَّيْخ عَليّ بحراً فِي الْكَرم رَحمَه الله ورحمنا
بهم آمين.
وَفِي الثَّامِن وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة ورد الْبَرِيد من مصر
بتوليه قَاضِي الْقُضَاة نجم الدّين عبد القاهر بن أبي السفاح قَضَاء
الشَّافِعِيَّة بالمملكة الحلبية وسررنا بذلك وَللَّه الْحَمد.
وَفِيه: ظهر بمنبج على قبر النَّبِي مَتى وقبر حَنْظَلَة بن خويلد أخي
خَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا وَهَذَانِ القبران بمشهد النُّور خَارج
منبج وعَلى قبر الشَّيْخ عقيل المنبجي وعَلى قبر الشَّيْخ ينبوب وهما
دَاخل منبج، وعَلى قبر الشَّيْخ عَليّ وعَلى مشْهد المسيحات شمَالي
منبج أنوار عَظِيمَة، وَصَارَت الْأَنْوَار تنْتَقل من قبر بَعضهم
وتجتمع وتتراكم ودام ذَلِك إِلَى ربع اللَّيْل حَتَّى انبهر لذَلِك أهل
منبج وَكتب قاضيهم بذلك محضراً وجهزه إِلَى دَار الْعدْل بحلب، ثمَّ
أَخْبرنِي القَاضِي بمشاهدة ذَلِك أكَابِر وأعيان من أهل منبج أَيْضا،
وَهَؤُلَاء السَّادة هم خفراء الشَّام وَنَرْجُو من الله تَعَالَى
ارْتِفَاع هَذَا الوباء الَّذِي كَاد يفني الْعَالم ببركتهم إِن شَاءَ
الله تَعَالَى.
قلت:
(إشفعوا يَا رجال منبج فِينَا ... لارْتِفَاع الوبا عَن الْبلدَانِ)
(نزل النُّور فِي الظلام عَلَيْكُم ... إِن هَذَا يزِيد فِي
الْإِيمَان)
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة بلغنَا وَفَاة القَاضِي شهَاب الدّين أَحْمد
بن فضل الله الْعمريّ بِدِمَشْق بالطاعون مَنْزِلَته فِي الْإِنْشَاء
مَعْرُوفَة وفضيلته فِي النّظم والنثر مَوْصُوفَة كتب السّير
للسُّلْطَان الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون بِالْقَاهِرَةِ بعد
أَبِيه محيي الدّين، ثمَّ عزل بأَخيه القَاضِي عَلَاء الدّين، وَكتب
السِّرّ بِدِمَشْق ثمَّ عزل وتفرغ للتأليف والتصنيف حَتَّى مَاتَ عَن
نعْمَة وافرة دخل رَحمَه الله قبل وَفَاته بِمدَّة معرة النُّعْمَان
فَنزل بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي أنشأتها ففرح لي بهَا وَأنْشد فِيهِ
بَيْتَيْنِ أرسلهما إِلَيّ بِخَطِّهِ وهما:
(وَفِي بلد المعرة دَار علم ... بني الوردي مِنْهَا كل مجد)
(هِيَ الوردية الْحَلْوَاء حسنا ... وَمَاء الْبِئْر مِنْهَا مَاء ورد)
فأجبته بِقَوْلِي:
(أمولانا شهَاب الدّين إِنِّي ... حمدت الله إِذْ بك تمّ مجدي)
(جَمِيع النَّاس عنْدكُمْ نزُول ... وَأَنت جبرتني وَنزلت عِنْدِي)
هَذَا آخر مَا وجد من التَّارِيخ لمؤلفه الشَّيْخ زين الدّين عمر ابْن
الوردي رَحمَه الله تَعَالَى.
(2/342)
|