تاريخ ابن خلدون
الفصل الثامن في أن
الفلاحة من معاش المتضعين وأهل العافية من البدو
وذلك لأنّه أصيل [6] في الطّبيعة وبسيط في منحاه ولذلك لا تجده ينتحله
أحد
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بما له.
[2] وفي نسخة أخرى: قسمتهم.
[3] وفي نسخة أخرى: الصنائع.
[4] وفي نسخة أخرى: التدبير.
[5] وفي النسخة الباريسية: حسبانات.
[6] وفي النسخة الباريسية: أصل.
(1/493)
من أهل الحضر في الغالب ولا من المترفين.
ويختصّ منتحله بالمذلّة قال صلّى الله عليه وسلّم وقد رأى السّكّة ببعض
دور الأنصار: «ما دخلت هذه دار قوم إلّا دخله الذّلّ» وحمله البخاريّ
على الاستكثار منه. وترجم عليه باب ما يحذر من عواقب الاشتغال بآلة
الزّرع أو تجاوز الحدّ الّذي أمر به. والسّبب فيه والله أعلم ما يتبعها
من المغرم المفضي إلى التّحكّم واليد العالية [1] فيكون الغارم ذليلا
بائسا بما تتناوله أيدي القهر والاستطالة. قال صلّى الله عليه وسلّم:
«لا تقوم السّاعة حتّى تعود الزّكاة مغرما» إشارة إلى الملك العضوض
القاهر للنّاس الّذي معه التّسلّط والجور ونسيان حقوق الله تعالى في
المتموّلات واعتبار الحقوق كلّها مغرم للملوك والدّول. والله قادر على
ما يشاء. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق.
الفصل التاسع في معنى التجارة ومذاهبها
وأصنافها
اعلم أنّ التّجارة محاولة الكسب بتنمية المال بشراء السّلع بالرّخص
وبيعها بالغلاء أيّام كانت السّلعة من دقيق أو زرع أو حيوان أو قماش.
وذلك القدر النّامي يسمّى ربحا. فالمحاول لذلك الرّبح إمّا أن يختزن
السّلعة ويتحيّن بها حوالة الأسواق من الرّخص إلى الغلاء فيعظم ربحه
وإمّا بأن ينقله إلى بلد آخر تنفق فيه تلك السّلعة أكثر من بلده الّذي
اشتراها فيه فيعظم ربحه. ولذلك قال بعض الشّيوخ من التّجّار لطلب الكشف
عن حقيقة التّجارة أنا أعلّمها لك في كلمتين: اشتراء الرّخيص وبيع
الغالي. فقد حصلت التّجارة إشارة منه بذلك إلى المعنى الّذي قرّرناه.
والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق لا ربّ سواه.
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: الغالية.
(1/494)
الفصل العاشر في أي
أصناف الناس يحترف بالتجارة وأيهم ينبغي له اجتناب حرفها
قد قدّمنا [1] أنّ معنى التّجارة تنمية المال بشراء البضائع ومحاولة
بيعها بأغلى من ثمن الشّراء إمّا بانتظار حوالة الأسواق أو نقلها إلى
بلد هي فيه أنفق وأغلى أو بيعها بالغلاء على الآجال. وهذا الرّبح
بالنّسبة إلى أصل المال يسير إلّا أنّ المال إذا كان كثيرا عظم الرّبح
لأنّ القليل في الكثير كثير. ثمّ لا بدّ في محاولة هذه التّنمية الّذي
هو الربح من حصول هذا المال بأيدي الباعة في شراء البضائع وبيعها،
ومعاملتهم في تقاضي أثمانها. وأهل النّصفة قليل، فلا بدّ من الغشّ
والتّطفيف المجحف بالبضائع ومن المطل في الأثمان المجحف بالرّبح.
كتعطيل المحاولة في تلك المدّة وبها نماؤه. ومن الجحود والإنكار المسحت
لرأس المال إن لم يتقيّد بالكتاب والشّهادة، وغنى الحكّام في ذلك قليل
لأنّ الحكم إنّما هو على الظّاهر، فيعاني التّاجر من ذلك أحوالا صعبة.
ولا يكاد يحصل على ذلك التّافه من الرّبح إلّا بعظم العناء والمشقّة،
أو لا يحصل أو يتلاشى رأس ماله. فإن كان جريئا على الخصومة بصيرا
بالحسبان شديد المماحكة مقداما على الحكّام كان ذلك أقرب له إلى
النّصفة بجراءته منهم ومماحكته وإلّا فلا بدّ له من جاه يدّرع به، يوقع
له الهيبة عند الباعة ويحمل الحكّام على إنصافه من معامليه [2] فيحصل
له بذلك النّصفة في ماله طوعا [3] في الأوّل وكرها في الثّاني وأمّا من
كان فاقدا للجراءة والإقدام من نفسه فاقد الجاه من الحكّام فينبغي له
أن يجتنب الاحتراف بالتّجارة لأنّه يعرّض ماله للضّياع والذّهاب ويصير
مأكلة للباعة ولا يكاد ينتصف منهم (لأنّ الغالب في النّاس
__________
[1] وفي نسخة أخرى: قد تقدم لنا.
[2] وفي نسخة أخرى: غرمائه.
[3] وفي نسخة أخرى: واستخلاص ماله منهم طوعا.
(1/495)
وخصوصا الرّعاع والباعة شرهون إلى ما في
أيدي النّاس سواهم متوثّبون عليه.
ولولا وازع الأحكام لأصبحت أموال النّاس نهبا) [1] «وَلَوْلا دَفْعُ
الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ الله
ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ 2: 251» .
الفصل الحادي عشر في أن خلق التجار نازلة
عن خلق الأشراف والملوك
وذلك أنّ التّجّار في غالب أحوالهم إنّما يعانون البيع والشّراء ولا
بدّ فيه من المكايسة ضرورة فإن اقتصر عليها اقتصرت به على خلقها وهي
أعني خلق المكايسة بعيدة عن المروءة الّتي تتخلّق بها الملوك والأشراف.
وأمّا إن استرذل خلقه بما يتبع ذلك في أهل الطّبقة السّفلى منهم من
المماحكة والغشّ والخلابة وتعاهد الأيمان الكاذبة على الأثمان ردّا
وقبولا فأجدر بذلك الخلق أن يكون في غاية المذلّة لما هو معروف. ولذلك
تجد أهل الرّئاسة يتحامون الاحتراف بهذه الحرفة لأجل ما يكسب من هذا
الخلق. وقد يوجد منهم من يسلم من هذا الخلق ويتحاماه لشرف نفسه وكرم
جلاله إلّا أنّه في النّادر بين الوجود والله يهدي من يشاء بفضله وكرمه
وهو ربّ الأوّلين والآخرين.
الفصل الثاني عشر في نقل التاجر للسلع
التّاجر البصير بالتّجارة لا ينقل من السّلع إلّا ما تعمّ الحاجة إليه
من الغنيّ والفقير والسّلطان والسّوقة إذ في ذلك نفاق سلعته. وأمّا إذا
اختصّ نقله بما يحتاج
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: «لأن الناس في الغالب متطلعون إلى ما في
أيدي الناس. ولولا وازع أحكام ما سلم لأحد شيء مما في يده. خصوصا
الباعة وسفلة الناس ورعاعهم» .
(1/496)
إليه البعض فقط فقد يتعذّر نفاق سلعته
حينئذ بإعواز الشّراء من ذلك البعض لعارض من العوارض فتكسد سوقه وتفسد
أرباحه. وكذلك إذا نقل السّلعة المحتاج إليها فإنّما ينقل الوسط من
صنفها فإنّ العالي من كلّ صنف من السّلع إنّما يختصّ به أهل الثّروة
وحاشية الدّولة وهم الأقلّ. وإنّما يكون النّاس أسوة في الحاجة إلى
الوسط من كلّ صنف فليتحرّ ذلك جهده ففيه نفاق سلعة [1] أو كسادها وكذلك
نقل السّلع من البلد البعيد المسافة أو في شدّة الخطر في الطّرقات يكون
أكثر فائدة للتّجّار وأعظم أرباحا وأكفل بحوالة الأسواق لأنّ السّلعة
المنقولة حينئذ تكون قليلة معوزة لبعد مكانها أو شدّة الغرر في طريقها
فيقلّ حاملوها ويعزّ وجودها وإذا قلّت وعزّت غلت أثمانها. وأمّا إذا
كان البلد قريب المسافة والطّريق سابل بالأمن فإنّه حينئذ يكثر ناقلوها
فتكثر وترخص أثمانها ولهذا تجد التّجّار الّذين يولعون بالدّخول إلى
بلاد السّودان أرفه النّاس وأكثرهم أموالا لبعد طريقهم ومشقّته واعتراض
المفازة الصّعبة المخطرة بالخوف والعطش.
لا يوجد فيها الماء إلّا في أماكن معلومة يهتدي إليها أدلّاء الرّكبان
فلا يرتكب خطر هذا الطّريق وبعده إلّا الأقلّ من النّاس فتجد سلع بلاد
السّودان قليلة لدينا فتختصّ بالغلاء وكذلك سلعنا لديهم. فتعظم بضائع
التّجّار من تناقلها ويسرع إليهم الغنى والثّروة من أجل ذلك. وكذلك
المسافرون من بلادنا إلى المشرق لبعد الشّقّة أيضا. وأمّا المتردّدون
في أفق واحد ما بين أمصاره وبلدانه ففائدتهم قليلة وأرباحهم تافهة
لكثرة السّلع وكثرة ناقليها «وَالله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ
الْمَتِينُ»
الفصل الثالث عشر في الاحتكار
وممّا اشتهر عند ذوي البصر والتّجربة في الأمصار أنّ احتكار الزّرع
لتحيّن أوقات الغلاء مشئوم. وأنّه يعود على فائدته بالتّلف والخسران.
وسببه والله أعلم
__________
[1] وفي نسخة أخرى: سلعته.
(1/497)
أنّ النّاس لحاجتهم إلى الأقوات مضطرّون إلى ما يبذلون فيها من المال
اضطرارا فتبقى النّفوس متعلّقة به وفي تعلّق النّفوس بما لها سرّ [1]
كبير في وباله على من يأخذه مجّانا ولعلّه الّذي اعتبره الشّارع في أخذ
أموال النّاس بالباطل وهذا وإن لم يكن مجّانا فالنّفوس متعلّقة به
لإعطائه ضرورة من غير سعة في العذر فهو كالمكره وما عدا الأقوات
والمأكولات من المبيعات لا اضطرار للنّاس إليها وإنّما يبعثهم عليها
التّفنّن في الشّهوات فلا يبذلون أموالهم فيها إلّا باختيار وحرص. ولا
يبقى لهم تعلّق بما أعطوه فلهذا يكون من عرف بالاحتكار تجتمع القوى
النّفسانيّة على متابعته لما يأخذه من أموالهم فيفسد ربحه. والله تعالى
أعلم.
وسمعت فيما يناسب هذا حكاية ظريفة عن بعض مشيخة المغرب. أخبرني شيخنا
أبو عبد الله الأبليّ قال: حضرت عند القاضي بفاس لعهد السّلطان أبي
سعيد وهو الفقيه أبو الحسن المليليّ وقد عرض عليه أن يختار بعض الألقاب
المخزنيّة لجرايته قال فأطرق مليّا ثمّ قال: من مكس الخمر. فاستضحك
الحاضرون من أصحابه وعجبوا وسألوه عن حكمة ذلك. فقال: إذا كانت
الجبايات كلّها حراما فأختار منها ما لا تتابعه نفس معطيه والخمر قلّ
أن يبذل فيها أحد ماله إلّا وهو طرب مسرور بوجوداته غير أسف عليه ولا
متعلّقة به نفسه وهذه ملاحظة غريبة والله سبحانه وتعالى يعلم ما تكنّ
الصّدور. |