تاريخ ابن خلدون
الفصل الثامن عشر في
أن رسوخ الصنائع في الأمصار إنما هو برسوخ الحضارة وطول أمده
والسّبب في ذلك ظاهر وهو أنّ هذه كلّها عوائد للعمران والأوان [2] .
والعوائد إنّما ترسخ بكثرة التّكرار وطول الأمد فتستحكم صبغة ذلك وترسخ
في الأجيال.
وإذا استحكمت الصّبغة عسر نزعها. ولهذا نجد في الأمصار الّتي كانت
استبحرت في الحضارة لمّا تراجع عمرانها وتناقص بقيت فيها آثار من هذه
الصّنائع ليست في
__________
[1] وفي نسخة أخرى: السفاح.
[2] وفي نسخة أخرى: الوأم أي البيت الدافئ.
(1/503)
غيرها من الأمصار المستحدثة العمران ولو
بلغت مبالغها في الوفور والكثرة وما ذاك إلّا لأنّ أحوال تلك القديمة
العمران مستحكمة راسخة بطول الأحقاب وتداول الأحوال وتكرّرها وهذه لم
تبلغ الغاية بعد. وهذا كالحال في الأندلس لهذا العهد فإنّا نجد فيها
رسوم الصّنائع قائمة وأحوالها مستحكمة راسخة في جميع ما تدعو إليه
عوائد أمصارها كالمباني والطّبخ وأصناف الغناء واللهو من الآلات
والأوتار والرّقص وتنضيد الفرش في القصور، وحسن التّرتيب والأوضاع في
البناء وصوغ الآنية من المعادن والخزف وجميع المواعين وإقامة الولائم
والأعراس وسائر الصّنائع الّتي يدعو إليها التّرف وعوائده. فنجدهم أقوم
عليها وأبصر بها. ونجد صنائعها مستحكمة لديهم فهم على حصّة موفورة من
ذلك وحظّ متميّز بين جميع الأمصار. وإن كان عمرانها قد تناقص. والكثير
منه لا يساوي عمران غيرها من بلاد العدوة. وما ذاك إلّا لما قدّمناه من
رسوخ الحضارة فيهم برسوخ الدّولة الأمويّة وما قبلها من دولة القوط وما
بعدها من دولة الطّوائف وهلمّ جرّا. فبلغت الحضارة فيها مبلغا لم تبلغه
في قطر إلّا ما ينقل عن العراق والشّام ومصر أيضا لطول آماد الدّول
فيها فاستحكمت فيها الصّنائع وكملت جميع أصنافها على الاستجادة
والتّنميق. وبقيت صبغتها ثابتة في ذلك العمران لا تفارقه إلى أن ينتقض
بالكلّيّة حال الصّبغ إذا رسخ في الثّوب. وكذا أيضا حال تونس فيما حصل
فيها بالحضارة من الدّول الصّنهاجيّة والموحّدين من بعدهم وما استكمل
لها في ذلك من الصّنائع في سائر الأحوال وإن كان ذلك دون الأندلس. إلّا
أنّه متضاعف برسوم منها تنقل إليها من مصر لقرب المسافة بينهما وتردّد
المسافرين من قطرها إلى قطر مصر في كلّ سنة وربّما سكن أهلها هناك
عصورا فينقلون من عوائد ترفهم ومحكم صنائعهم ما يقع لديهم موقع
الاستحسان. فصارت أحوالها في ذلك متشابهة من أحوال مصر لما ذكرناه ومن
أحوال الأندلس لما أنّ أكثر ساكنها من شرق الأندلس حين الجلاء لعهد
المائة السّابعة. ورسخ فيها من ذلك أحوال وإن
(1/504)
كان عمرانها ليس بمناسب لذلك لهذا العهد.
إلّا أنّ الصّبغة إذا استحكمت فقليلا ما تحول إلّا بزوال محلّها. وكذا
نجد بالقيروان ومرّاكش وقلعة ابن حمّاد أثرا باقيا من ذلك وإن كانت هذه
كلّها اليوم خرابا أو في حكم الخراب. ولا يتفطّن لها إلّا البصير من
النّاس فيجد من هذه الصّنائع آثارا تدلّه على ما كان بها كأثر الخطّ
الممحوّ في الكتاب «وَالله الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ» .
الفصل التاسع عشر في أن الصنائع إنما
تستجاد وتكثر إذا كثر طالبها
والسّبب في ذلك ظاهر وهو أنّ الإنسان لا يسمح بعمله أن يقع مجّانا
لأنّه كسبه ومنه معاشه. إذ لا فائدة له في جميع عمره في شيء ممّا سواه
فلا يصرفه إلّا فيما له قيمة في مصره ليعود عليه بالنّفع. وإن كانت
الصّناعة مطلوبة وتوجّه إليها النّفاق كانت حينئذ الصّناعة بمثابة
السّلعة الّتي تنفق سوقها وتجلب للبيع، فتجتهد النّاس في المدينة
لتعلّم تلك الصّناعة ليكون منها معاشهم. وإذا لم تكن الصّناعة مطلوبة
لم تنفق سوقها ولا يوجّه قصد إلى تعلّمها، فاختصّت بالتّرك وفقدت
للإهمال. ولهذا يقال عن عليّ رضي الله عنه: «قيمة كلّ امرئ ما يحسن»
بمعنى أنّ صناعته هي قيمته أي قيمة عمله الّذي هو معاشه. وأيضا فهنا
سرّ آخر وهو أنّ الصّنائع وإجادتها إنّما تطلبها الدّولة فهي الّتي
تنفق سوقها وتوجّه الطّالبات إليها. وما لم تطلبه الدّولة وإنّما
يطلبها غيرها من أهل المصر فليس على نسبتها لأنّ الدّولة هي السّوق
الأعظم وفيها نفاق كلّ شيء والقليل والكثير فيها على نسبة واحدة. فما
نفق منها كان أكثريّا ضرورة. والسّوقة وإن طلبوا الصّناعة فليس طلبهم
بعامّ ولا سوقهم بنافقة. والله سبحانه وتعالى قادر على ما يشاء
.
(1/505)
الفصل العشرون في أن
الأمصار إذا قاربت الخراب انتقضت منها الصنائع
وذلك لما بيّنّا أنّ الصّنائع إنّما تستجاد إذا احتيج إليها وكثر
طالبها. وإذا ضعفت أحوال المصر وأخذ في الهرم بانتقاض عمرانه وقلّة
ساكنه تناقص فيه التّرف ورجعوا إلى الاقتصار على الضّروريّ من أحوالهم
فتقلّ الصّنائع الّتي كانت من توابع التّرف لأنّ صاحبها حينئذ لا يصحّ
له بها معاشه فيفرّ إلى غيرها، أو يموت ولا يكون خلف منه، فيذهب رسم
تلك الصّنائع جملة، كما يذهب النّقّاشون والصّوّاغ [1] والكتّاب
والنّسّاخ وأمثالهم من الصّنائع [2] لحاجات التّرف.
ولا تزال الصّناعات في التّناقص إلى أن تضمحلّ. والله الخلّاق العليم
وسبحانه وتعالى.
الفصل الحادي والعشرون في أن العرب أبعد
الناس عن الصنائع
والسّبب في ذلك أنّهم أعرق في البدو وأبعد عن العمران الحضريّ، وما
يدعو إليه من الصّنائع وغيرها. والعجم من أهل المشرق وأمم النّصرانيّة
عدوة البحر الرّوميّ أقوم النّاس عليها، لأنّهم أعرق في العمران
الحضريّ وأبعد عن البدو وعمرانه. حتّى إنّ الإبل الّتي أعانت العرب على
التّوحّش في القفر، والإعراق في البدو، مفقودة لديهم بالجملة، ومفقودة
مراعيها، والرّمال المهيّئة لنتاجها.
ولهذا نجد أوطان العرب وما ملكوه في الإسلام قليل الصّنائع بالجملة،
حتّى تجلب إليه من قطر آخر. وانظر بلاد العجم من الصّين والهند وأرض
التّرك وأمم
__________
[1] وفي نسخة الصواغون.
[2] وفي نسخة أخرى: الصنّاع.
(1/506)
النّصرانيّة، كيف استكثرت فيهم الصّنائع واستجلبها الأمم من عندهم.
وعجم المغرب من البربر مثل العرب في ذلك لرسوخهم في البداوة منذ أحقاب
من السنين. ويشهد لك بذلك قلّة الأمصار بقطرهم كما قدّمناه. فالصّنائع
بالمغرب لذلك قليلة وغير مستحكمة الأماكن [1] من صناعة الصّوف من نسجه،
والجلد في خرزه ودبغه. فإنّهم لمّا استحضروا بلغوا فيها المبالغ لعموم
البلوى بها وكون هذين أغلب السّلع في قطرهم، لما هم عليه من حال
البداوة. وأمّا المشرق فقد رسخت الصّنائع فيه منذ ملك الأمم الأقدمين
من الفرس والنّبط والقبط وبني إسرائيل ويونان والرّوم أحقابا متطاولة،
فرسخت فيهم أحوال الحضارة، ومن جملتها الصّنائع كما قدّمناه، فلم يمح
رسمها. وأمّا اليمن والبحرين وعمان والجزيرة وإن ملكه العرب إلّا أنّهم
تداولوا ملكه آلافا من السّنين في أمم كثيرين [2] منهم. واختطّوا
أمصاره ومدنه وبلغوا الغاية من الحضارة والتّرف مثل عاد وثمود
والعمالقة وحمير من بعدهم. والتّبابعة والأذواء فطال أمد الملك
والحضارة واستحكمت صبغتها وتوفّرت الصّنائع ورسخت، فلم تبل ببلى
الدّولة كما قدّمناه.
فبقيت مستجدّة حتّى الآن. واختصّت بذلك للوطن، كصناعة الوشي والعصب وما
يستجاد من حوك الثّياب والحرير فيها والله وارث الأرض ومن عليها وهو
خير الوارثين. |