تاريخ ابن خلدون
الخبر عن ملوك
التبابعة من حمير وأوليتهم باليمن ومصاير أمورهم
هؤلاء الملوك من ولد عبد شمس بن واثل بن الغوث باتفاق من النسّابين،
وقد مرّ نسبه إلى حمير، وكانت مدائن ملكهم صنعاء، ومأرب على ثلاث مراحل
منها، وكان بها السدّ، ضربته بلقيس ملكة من ملوكهم سدّا ما بين جبلين
بالصخر والقار، فحقنت به ماء العيون والأمطار، وتركت فيه خروقا على قدر
ما يحتاجون إليه في سقيهم، وهو الّذي يسمى العرم والسكر وهو جمع لا
واحد له من لفظه قال الجعديّ:
من سبإ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما
أي السدّ ويقال انّ الّذي بنى السدّ هو حمير أبو القبائل اليمنية كلها
قال الأعشى:
ففي ذلك للمؤتسى اسوة ... مأرب غطى عليه العرم
رخام بناه لهم حمير ... إذا جاءه من رامه لم يرم
وقيل بناه لقمان الأكبر ابن عاد كما قاله المسعودي، وقال: جعله فرسخا
في فرسخ، وجعل له ثلاثين شعبا. وقيل وهو الأليق والأصوب أنه من بناء
سبا بن يشجب، وأنّه ساق إليه سبعين واديا، ومات قبل إتمامه، فأتمّه
ملوك حمير من بعده. وإنّما رجّحناه لأنّ المباني العظيمة، والهياكل
الشامخة، لا يستقل بها الواحد كما قدّمنا في الكتاب الأوّل، فأقاموا في
جناته عن اليمين والشمال كما وصف القرآن.
ودولتهم يومئذ أوفر ما كانت، وأترف وأبذخ وأعلى يدا وأظهر، فلمّا طغوا
وأعرضوا سلّط الله عليهم الخلد، وهو الجرذ فنقبه من أسفله فأجحفهم
السيل، وأغرق جناتهم، وخربت أرضهم، وتمزّق ملكهم، وصاروا أحاديث.
وكان هؤلاء التبابعة ملوكا عدّة في عصور متعاقبة، وأحقاب متطاولة، لم
يضبطهم الحصر، ولا تقيدت منهم الشوارد. وربّما كانوا يتجاوزون ملك
اليمن إلى ما بعد عنهم من العراق والهند والمغرب تارة، ويقتصرون على
يمنهم أخرى، فاختلفت أحوالهم واتفقت أسماء كثيرة من ملوكهم، ووقع اللبس
في نقل أيامهم ودولهم، فلنأت بما صحّ منها متحرّيا جهد الإستطاعة عن
طموس من الفكر، واقتفاء التقاييد المرجوع
(2/57)
اليها والأصول المعتمد على نقلها، وعدم
الوقوف على أخبارهم مدونة في كتاب واحد والله المستعان.
قال السهيليّ: معنى تبّع الملك المتبع. وقال صاحب المحكم: التبابعة
ملوك اليمن وأحدهم تبّع لأنّهم يتبع بعضهم بعضا كلما هلك واحد قام آخر
تابعا له في سيرته، وزادوا الباء في التبابعة لارادة النسب. قال
الزمخشريّ: قيل لملوك اليمن التبابعة لأنّهم يتبعون، كما قيل الأقيال
لأنهم يتقيلون. قال المسعودي: ولم يكونوا يسمون الملك منهم تبّعا حتى
يملك اليمن والشحر وحضرموت، وقيل حتى يتبعه بنو جشم بن عبد شمس، ومن لم
يكن له شيء من الأمرين فيسمى ملكا ولا يقال له تبّع.
وأول ملوك التبابعة باتفاق من المؤرّخين، الحرث الرائش، وإنّما سمّي
الرائش لأنه راش الناس بالعطاء أو اختلف الناس في نسبه بعد اتفاقهم على
أنه من ولد واثل بن الغوث بن حيران بن قطن بن عريب بن زهير بن أبين بن
الهميسع بن حمير فقال ابن إسحاق وأبو المنذر بن الكلبي: انّ قيسا بن
معاوية بن جشم. فابن إسحاق يقول في نسبه إلى سبا الحرث بن عديّ بن
صيفي، وابن الكلبيّ يقول الحرث بن قيس بن صيفي. وقال السهيليّ هو الحرث
بن همال بن ذي سدد بن الملطاط بن عمرو بن ذي يقدم بن الصوار بن عبد شمس
بن واثل وجشم جدّ سبا هو بن عبد شمس، هذا عند المسعودي. وعند بعضهم أنه
أخوه وأنهما معا ابنا واثل. وذكر المسعودي عن عبيد بن شرية الجرهميّ،
وقد سأله معاوية عن ملوك اليمن في خبر طويل ونسب الحرث منهم، فقال: هو
الحرث بن شدد بن الملطاط بن عمرو بن أمّا الطبري فاختلف نسبه في نسب
الحرث، فمرّة قال: وبيت ملك التبابعة في سبا الأصغر ونسبه كما مرّ.
وقال في موضع آخر والحرث بن ذي شدد هو الرائش جدّ الملوك التبابعة،
فجعله إلى شدد ولم ينسبه إلى قيس ولا عديّ من ولد سبا. وكذلك اضطرب أبو
محمد بن حزم في نسبه في الجمهرة مرّة إلى الملطاط ومرّة إلى سبا
الأصغر، والظاهر أنه تبع في ذلك الطبريّ والله أعلم.
وملك الحرث الرائش فيما قالوا مائة وخمسا وعشرين سنة، وكان يسمّى تبعا،
وكان مؤمنا فيما قال السهيليّ. ثم ملك بعده ابنه أبرهة ذو المنار مائة
وثمانين سنة. قال المسعوديّ، وقال ابن هشام: أبرهة ذو المنار هو ابن
الصعب بن ذي مداثر بن الملطاط، وسمّي ذا المنار لأنه رفع المنار ليهتدي
به. ثم ملك من بعده أفريقش بن
(2/58)
أبرهة مائة وستين سنة. وقال ابن حزم هو
أفريقش بن قيس بن صيفي أخو الحرث الرائش، وهو الّذي ذهب بقبائل العرب
إلى افريقية، وبه سميت. وساق البربر إليها من أرض كنعان، مرّ بها عند
ما غلبهم يوشع وقتلهم، فاحتمل الفل منهم، وساقهم إلى إفريقية، فأنزلهم
بها، وقتل ملكها جرجير. ويقال إنّه الّذي سمّى البرابرة بهذا الاسم
لأنه لما افتتح المغرب، وسمع رطانتهم قال: ما أكثر بربرتهم فسموا
البرابرة.
والبربرة في لغة العرب هي اختلاط أصوات غير مفهومة، ومنه بربرة الأسد.
ولما رجع من غزو المغرب ترك هنالك من قبائل حمير صنهاجة وكتامة فهم إلى
الآن بها، وليسوا من نسب البربر، قاله الطبري والجرجاني والمسعوديّ
وابن الكلبي والسهيليّ وجميع النسّابين.
ثم ملك من بعد أفريقش أخوه العبد بن أبرهة، وهو ذو الأذعار عند
المسعودي قال: سمّي بذلك لكثرة ذعر الناس من جوره. وملك خمسا وعشرين
سنة، وكان على عهد سليمان بن داود وقبله بقليل، وغزا ديار المغرب، وسار
إليه كيقاوس بن كنعان ملك فارس فبارزه وانهزم كيقاوس وأسره ذو الأذعار،
حتى استنقذه بعد حين من يده وزيره رستم زحف إليه بجموع فارس إلى اليمن
وحارب ذا الأذعار فغلبه واستخلص كيقاوس من أسره كما نذكره في أخبار
ملوك فارس. وقال الطبري إنّ ذا الأذعار اسمه عمرو بن ابرهة ذي المنار
بن الحرث الرائش بن قيس بن صيفي بن سبا الأصغر انتهى. وكان مهلك ذي
الأذعار فيما ذكر ابن هشام مسموما على يد الملكة بلقيس.
وملك من بعده الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو بن ذي الأذعار وهو ذو الصرح،
وملك ستا أو عشرا فيما قال المسعودي. وملكت بعده ابنته بلقيس سبع سنين.
وقال الطبري: إنّ اسم بلقيس يلقمة بنت اليشرح بن الحرث بن قيس انتهى.
ثم غلبهم سليمان عليه السلام على اليمن كما وقع في القرآن فيقال
تزوجها، ويقال بل عزلها في التأيم، فتزوجت سدد بن زرعة بن سبا، وأقاموا
في ملك سليمان وابنه أربعا وعشرين سنة. ثم قام بملكهم ناشر بن عمرو ذي
الأذعار، ويعرف بناشر النعم، لفظين مركبين جعلا اسما واحدا كذا ضبطه
الجرجاني. وقال السهيليّ ناشر بن عمرو، ثم قال ويقال ناشر النعم. وفي
كتاب المسعودي نافس بن عمرو، ولعله تصحيف ونسبه إلى عمرو ذي الأذعار
وليس يتحقق في هذه الأنساب كلها أنها للصلب فإنّ
(2/59)
الآماد، طويلة والأحقاب بعيدة، وقد يكون
بين اثنين منهما عدد من الآباء، وقد يكون ملصقا به. وقال هشام بن
الكلبي انّ ملك اليمن صار بعد بلقيس إلى ناشر بن عمرو بن يعفر الّذي
يقال له ياسر أنعم، لانعامه عليهم بما جمع من أمرهم وقوي من ملكهم.
وزعم أهل اليمن أنه سار غازيا إلى المغرب، فبلغ وادي الرمل ولم يبلغه
أحد ولم يجد فيه مجازا لكثرة الرمل، وعبر بعض أصحابه، فلم يرجعوا فأمر
بصنم من نحاس نصب على شفير الوادي، وكتب في صدره بالخط المسند هذا
الصنم لياسر أنعم الحميري ليس وراءه مذهب فلا يتكلف أحد ذلك فيعطب
انتهى.
ثم ملك بعد ياسر هذا ابنه شمر مرعش، سمي بذلك لارتعاش كان به. ويقال
انه وطئ أرض العراق وفارس وخراسان وافتتح مدائنها وخرّب مدينة الصغد
وراء جيحون، فقالت العجم «شمر كنداي» شمر خرّب. وبنى مدينة هنالك فسميت
باسمه هذا، وعربته العرب فصار سمرقند. ويقال انه الّذي قاتل قباذ ملك
الفرس وأسره، وأنه الّذي حير الحيرة. وكان ملكة مائة وستين سنة، وذكر
بعض الأخباريّين أنه ملك بلاد الروم، وأنه الّذي استعمل عليهم ماهان
قيصر فهلك، وملك بعده ابنه دقيوس. وقال السهيليّ في شمر مرعش الّذي
سميت به سمرقند انه شمر بن مالك ومالك هو الأملوك الّذي قيل فيه:
فنقب عن الأملوك واهتف بذكره ... وعش دار عز لا يغالبه الدهر
وهذا غلط من السهيليّ فإنّهم مجمعون على أنّ الأملوك كان لعهد موسى
صلوات الله عليه وشمر من أعقاب ذي الأذعار الّذي كان على عهد سليمان،
فلا يصح ذلك إلا أن يكون شمر ابرهة، ويكون أوّل دولة التبابعة.
ثم ملك على التبابعة بعد شمر مرعش تبّع الأقرن واسمه زيد. (قال
السهيليّ) وهو ابن شمر مرعش وقال الطبريّ انه ابن عمرو ذي الأذعار.
وقال السهيليّ إنما سمّي الأقرن لشامة كانت في قرنه، وملك ثلاثا وخمسين
سنة. وقال المسعودي ثلاثا وستين. ثم ملك من بعده ابنه ملكيكرب وكان
مضعّفا ولم يغزقط إلى أن مات. وملك بعده ابنه تبان أسعد أبو كرب، ويقال
هو تبّع الآخر وهو المشهور من ملوك التبابعة. وعند الطبريّ أنّ الّذي
بعد ياسر ينعم بن عمرو ذي الأذعار تبع الأقرن أخوه، ثم بعد تبع الأقرن
شمر مرعش بن ياسر ينعم، ثم من بعده تبع الأصغر وهو تبان أسعد أبو كرب
هذا هو تبع الآخر وهو المشهور من ملوك التبابعة. وقال الطبريّ: ويقال
له الرائد
(2/60)
وكان على عهد يستاسب وحافده أردشير يمن ابن
ابنه أسفنديار من ملوك الفرس وأنه شخص من اليمن غازيا ومرّ بالحيرة
فتحيّر عسكره هنالك فسمّيت الحيرة. وخلف قوما من الأزد ولخم وجذام
وعاملة وقضاعة فأقاموا هنالك وبنو الإطام، واجتمع إليهم ناس من طيرة
وكلب والسكون وأياد والحرث بن كعب. ثم توجه إلى الأنبار ثم الموصل ثم
أذربيجان، ولقي الترك فهزمهم وقتل وسبى، ثم رجع إلى اليمن، وهابته
الملوك وهادنه ملوك الهند. ثم رجع لغزو الترك، وبعث ابنه حسّان إلى
الصغد، وابنه يعفر إلى الروم، وابن أخيه شمر ذي الجناح إلى الفرس. وان
شمر لقي كيقباذ ملك الفرس فهزمه، وملك سمرقند وقتله، وجاز إلى الصين
فوجد أخاه حسّان قد سبقه إليها، فأثخنا في القتل والسبي، وانصرفا بما
معهما من الغنائم إلى أبيهما. وبعث ابنه يعفر إلى القسطنطينيّة فتلقوه
بالجزية، والإتاوة فسار إلى رومة، وحصرها ووقع الطاعون في عسكره،
فاستضعفهم الروم ووثبوا عليهم فقتلوهم، ولم يفلت منهم أحد. ثم رجع إلى
اليمن، ويقال أنه ترك ببلاد الصين قوما من حمير وأنهم بها لهذا العهد،
وأنه ترك ضعفاء الناس بظاهر الكوفة فتحيروا لك وأقاموا معهم من كل
قبائل العرب.
وقال ابن إسحاق إنّ الّذي سار إلى المشرق من التبابعة تبّع الآخر، وهو
تبان أسعد أبو كرب بن ملكيكرب بن زيد الأقرن ابن عمرو ذي الأذعار،
وتبان أسعد هو حسّان تبّع وهو فيما يقال أوّل من كسا الكعبة، وذكر ابن
إسحاق الملأ والوصائل، وأوصى ولاته من جرهم بتطهيرها وجعل لها بابا
ومفتاحا، وذكر ابن إسحاق أنه أخذ بدين اليهودية، وذكر في سبب تهوّده
أنه لما غزا إلى المشرق مرّ بالمدينة يثرب فملكها، وخلف ابنه فيهم،
فعدوا عليه وقتلوه غيلة ورئيسهم يومئذ عمرو بن الطلّة من بني النجّار.
فلما أقبل من المشرق وجعل طريقه على المدينة مجمعا على خرابها فجمع هذا
الحيّ من أبناء قيلة لقتاله فقاتلهم، وبينما هم على ذلك جاءه حبران من
أحبار يهود من بني قريظة، وقالا له: لا تفعل فإنك لن تقدر وأنّها مهاجر
نبيّ قرشي يخرج آخر الزمان فتكون قرارا له. وانه أعجب بهما واتبعهما
على دينهما، ثم مضى لوجهه.
ولقيه دون مكة نفر من هذيل، وأغروه بمال الكعبة وما فيها من الجواهر
والكنوز، فنهاه الحبران عن ذلك وقالا له إنما أراد هؤلاء هلاكك. فقتل
النفر من الهذليّين وقدم مكة فأمره الحبران بالطواف بها والخضوع، ثم
كساها كما تقدّم، وأمر ولاتها من
(2/61)
جرهم بتطهيرها من الدماء والحيض وسائر
النجاسات، وجعل لها بابا ومفتاحا، ثم سار إلى اليمن. وقد ذكر قومه ما
أخذ به من دين اليهودية، وكانوا يعبدون الأوثان، فتعرضوا لمنعه ثم
حاكموه إلى النار التي كانوا يحاكمون إليها، فتأكل الظالم وتدع
المظلوم، وجاءوا بأوثانهم. وخرج الحبران متقلدان المصاحف، ودخل
الحميريّون فأكلتهم وأوثانهم، وخرج الحبران منها ترشح وجوههم وجباههم
عرقا، فآمنت حمير عند ذلك، وأجمعوا على اتباع اليهودية. ونقل السهيليّ
عن ابن قتيبة في هذه الحكاية انّ غزاة تبع هذه، إنما هي استصراخة أبناء
قيلة على اليهود، فإنهم كانوا نزلوا مع اليهود حين أخرجوهم من اليمن
على شروط، فنقضت عليهم اليهود فاستغاثوا بتبّع فعند ذلك قدمها وقد قيل:
ان الّذي استصرخه أبناء قيلة على اليهود إنما هو أبو جبلة من ملوك غسان
بالشام، جاء به مالك بن عجلان، فقتل اليهود بالمدينة، وكان من الخزرج
كما نذكر بعد. ويعضد هذا أنّ مالك بن عجلان بعيد عن عهد تبع بكثير،
يقال إنه كان قبل الإسلام بسبعمائة سنة ذكره ابن قتيبة. وحكى المسعودي
في أخبار تبع هذا أنّ أسعد أبا كرب سار في الأرض، ووطأ الممالك وذلّلها
ووطئ أرض العراق في ملك الطوائف، وعميد الطوائف يومئذ خرّداد بن سابور،
فلقي ملكا من ملوك الطوائف اسمه قبّاذ، وليس قبّاذ بن فيروز، فانهزم
قباذ وملك أبو كرب العراق والشام والحجاز وفي ذلك يقول تبّع أبو كرب:
إذ حسينا جيادنا من دماء ... ثم سرنا بها مسيرا بعيدا
واستبحنا بالخيل خيل قبّاذ ... وابن إقليد جاءنا مصفودا
وكسونا البيت الّذي حرّم ... الله ملاء منضدا وبرودا
وأقمنا به من الشهر عشرا ... وجعلنا لبابة اقليدا
(وقال أيضا)
لست بالتبع اليماني ان لم ... تركض الخيل في سواد العراق
أو تؤدّي ربيعة الخرج قسرا ... لم يعقها عوائق العوّاق
وقد كانت لكندة معه وقائع وحروب، حتى غلبهم حجر بن عمرو بن معاوية بن
ثور بن مرتع بن معاوية بن كندة من ملوك كهلان، فدانوا له ورجع أبو كرب
إلى اليمن، فقتله حمير وكان ملكه ثلاثمائة وعشرين سنة.
(2/62)
ثم ملك من بعد أبي كرب هذا فيما قال ابن
إسحاق ربيعة بن نصر بن الحرث بن نمارة بن لخم ولخم أخو جذام. وقال ابن
هشام ويقال ربيعة بن نصر بن أبي حارثة بن عمرو بن عامر. كان أبو حارثة
تخلف باليمن بعد خروج أبيه، وأقام ربيعة بن نصر ملكا على اليمن بعد
هؤلاء التبابعة الذين تقدّم ذكرهم، ووقع له شأن الرؤيا المشهورة. قال
الطبريّ عن ابن إسحاق عن بعض أهل العلم أنّ ربيعة بن نصر رأى رؤيا
هالته وفظع بها، وبعث في أهل مملكته في الكهنة والسحرة والمنجّمين وأهل
العيافة، فأشاروا عليه باستحضار الكاهنين المشهورين لذلك العهد في إياد
وغسّان، وهما شقّ وسطيح. قال الطبريّ شقّ هو أبو صعب شكر بن وهب بن
أمول بن يزيد بن قيّس عبقر بن أنمار، وسطيح هو ربيع بن ربيعة بن مسعود
بن مازن بن ذيب بن عديّ بن مازن بن غسّان، ولوقوع اسم ذيب في نسبه كان
يعرف بالذيبيّ.
فأحضرهما وقص عليهما رؤياه وأخبراه بتأويلها، أنّ الحبشة يملكون بلاد
اليمن من بعد ربيعة وقحطان بسبعين سنة، ثم يخرج عليهم ابن ذي يزن من
عدن فيخرجهم، ويملك عليهم اليمن، ثم تكون النبوّة في قريش في بني غالب
بن فهر. ووقع في نفس ربيعة أنّ الّذي حدّثه الكاهنان من أمر الحبشة
كائن، فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم، وكتب إلى ملك من
ملوك فارس يقال له سابور بن خرّداذ فأسكنهم الحيرة.
ومن بيت ربيعة بن نصر كان النعمان ملك الحيرة، وهو النعمان بن المنذر
بن عمرو بن عديّ بن ربيعة بن نصر. قال ابن إسحاق ولما هلك ربيعة بن نصر
اجتمع ملك اليمن لحسّان بن تبان أسعد أبي كرب. قال السهيليّ وهو الّذي
استباح طسما كما ذكرناه، وبعث على المقدّمة عبد كهلان بن يثرب بن ذي
حرب بن حارث بن ملك بن عبدان بن حجر بن ذي رعين. واسم ذي رعين يريم وهو
ابن زيد الجمهور، وقد مرّ نسبه إلى سبا الأصغر. وقال السهيليّ في أيام
حسّان تبّع كان خروج عمرو بن مزيقياء من اليمن بالأزد، وهو غلط من
السهيليّ لأنّ أبا كرب أباه إنما غزا المدينة فيما قال هو صريخا للأوس
والخزرج على اليهود وهو من غسّان ونسبه إلى مزيقياء، فعلى هذا يكون
الّذي استصرخه الأوس والخزرج على اليهود إنما هو من ملوك غسّان كما
يأتي في أخبارهم. قال ابن إسحاق: ولما ملك حسّان بن تبّع بن تبان أسعد
سار بأهل اليمن يريد أن يطأ بهم أرض العرب والعجم كما كانت التبابعة
تفعل، فكرهت حمير
(2/63)
وقبائل اليمن السير معه وأرادوا الرجوع إلى
بلادهم، فكلموا أخا له كان معهم في العسكر يقال له عمرو، وقالوا له
اقتل أخاك نملكك وترجع بنا إلى بلادنا. فتابعهم على ذلك وخالفه ذو رعين
في ذلك ونهى عمرا عن ذلك، فلم يقبل وكتب في صحيفة وأودعها عنده:
ألا من يشتري سهرا بنوم ... سعيد من يبيت قرير عين
فأمّا حمير غدرت وخانت ... فمعذرة الإله لذي رعين
ثم قتل عمرو أخاه بعرصة لخم، وهي رحبة مالك بن طوق، ورجع حمير إلى
اليمن فمنع النوم عليه السهر، وأجهده ذلك فشكى إلى الأطباء عدم نومه
والكهّان والعرّافين، فقالوا ما قتل رجل أخاه إلا سلّط عليه السهر.
فجعل يقتل كل من أشار عليه بقتل أخيه ولم يغنه ذلك شيئا، وهمّ بذي رعين
فذكره شعره فكانت فيه معذرته ونجاته. وكان عمرو هذا يسمّى موثبان، قال
الطبريّ: لوثوبه على أخيه، وقال ابن قتيبة لقلّة غزوة ولزومه الوثب على
الفراش. وهلك عمرو هذا لثلاث وستين سنة من ملكه.
قال الجرجاني والطبريّ: ثم مرج أمر [1] حمير من بعده وتفرقوا، وكان ولد
حسّان تبّع صغارا لا يصلحون للملك وكان أكبرهم قد استهوته الجنّ، فوثب
على ملك التبابعة عبد كلال موثبا فملك عليهم أربعا وتسعين سنة، وكان
يدين بالنصرانية، ثم رجع ابن حسّان تبّع من استهواء الجن فملك على
التبابعة. قال الجرجاني ملك ثلاثا وسبعين سنة وهو تبع الأصغر ذو
المغازي والآثار البعيدة. قال الطبريّ: وكان أبوه حسان تبع قد زوج بنته
من عمرو بن حجر آكل المرار بن عمرو بن معاوية من ملوك كندة، فولدت له
ابنه الحرث بن عمرو، فكان ابن تبع بن حسّان هذا، فبعثه على بلاد معدّ،
وملك على العرب بالحيرة مكان آل نصر بن ربيعة. قال وانعقد الصلح بينه
وبين كيقباد ملك فارس على أن يكون الفرات حدّا بينهم، ثم أغارت العرب
بشرقي الفرات، فعاتبه على ذلك، فقال لا أقدر على ضبط العرب الا بالمال
والجند، فأقطعه بلادا من السواد، وكتب الحرث إلى تبع يغريه بملك الفرس،
وتضعيف أمر كيقباد، فغزاهم. وقيل إنّ الّذي فعل ذلك هو عمرو بن حجر
أبوه الّذي ولاه تبع أبو كرب، وأنه أغراه بالفرس واستقدمه إلى الحيرة،
فبعث عساكره مع ولده الثلاثة إلى الصغد والصين والروم، وقد تقدّم ذكر
ذلك.
__________
[1] مرج الأمر: ضيّعه ولم يحكمه.
(2/64)
قال الجرجاني: ثم ملك بعد تبع بن حسّان
تبّع أخوه لأمه وهو مدّثر بن عبد كلال، فملك احدى وأربعين سنة. ثم ملك
من بعده ابنه وليعة بن مدّثر وثلاثين سنة.
ثم ملك من بعده أبرهة بن الصبّاح بن لهيعة بن شيبة بن مدّثر قيلف بن
يعلق بن معديكرب بن عبد الله بن عمرو بن ذي أصبح الحرث بن مالك، أخو ذي
رعين، وكعب أبو سبا الأصغر. قال الجرجاني: وبعض الناس يزعم أنّ أبرهة
بن الصبّاح إنما ملك تهامة فقط. قال: ثم ملك من بعده حسان بن عمرو بن
تبع بن ملكيكرب سبعا وخمسين سنة، ثم ملك لخيتعة [2] ولم يكن من أهل بيت
المملكة. قال ابن إسحاق ولما ملك لخيتعة غلب عليهم، وقتل خيارهم، وعبث
برجالات بيوت المملكة منهم، قيل إنه كان ينكح ولدان حمير، يريد بذلك أن
لا يملكوا عليهم، وكانوا لا يملكون عليهم من نكح، نقله ابن إسحاق. وقال
أقام عليهم مملكا سبعا وعشرين سنة، ثم وثب عليه ذو نواس زرعة تبع بن
تبان أسعد أبي كرب، وهو حسّان أبي ذي معاهر فيما قال ابن إسحاق، وكان
صبيا حين قتل حسان ثم شب غلاما جميلا ذا هيئة وفضل ووضاءة ففتك
بالختيعة [1] في خلوة اراده فيها على مثل فعلاته القبيحة، وعلمت به
حمير وقبائل اليمن فملكوه واجتمعوا عليه، وجدّد ملك التبابعة، وتسمّى
يوسف وتعصب لدين اليهودية، وكانت مدّته فيما قال ابن إسحاق ثمانية
وستين سنة، الى هنا أهـ ترتيب ابى الحسن الجرجاني. ثم قال: وقال آخرون
ملك بعد أفريقش بن أبرهة قيس بن صيفي، وبعده الحرث بن قيس بن مياس، ثم
ماء السماء بن ممروه ثم شرحبيل وهو يصحب بن مالك بن زيد بن غوث بن سعد
بن عوف بن علي بن الهمّال، ثم ياسر بن الحرث بن عمرو بن يعفر، ثم زهير
بن عبد شمس أحد بني صيفي بن سبا الأصغر وكان فاسقا مجرما يفتض أبكار
حمير حتى نشأت بلقيس بنت اليشرح بن ذي جدن بن اليشرح بن الحرث بن قيس
بن صيفي فقتلته غيلة، ثم ملكت. ولما أخذها سليمان ملك لمك بن شرحبيل،
ثم ملك ذو وداغ فقتله ملكيكرب بن تبع بن الأقرن وهو أبو ملك، ثم هلك.
فملك أسعد بن
__________
[2] قوله لخيتعه وقيل اسمه لخيعة بن ينوف وهو هكذا في القاموس قاله
نصر. وقد ذكره ابن الأثير في كتاب الكامل باسم لختيعه.
[1] في نسخة اخرى وفي مكان آخر: لخيتعة.
(2/65)
قيس بن زيد بن عمرو ذي الأذعار بن أبرهة ذي
المنار بن الرائش بن قيس بن صيفي بن سبا، وهو أبو كرب، ثم ملك حسّان
ابنه فقتله عمرو أخوه ووقع الاختلاف في حمير، ووثب على عمرو الختيعة
ينوف ذو الشناتر وملك. ثم قتله ذو نواس بن تبع وملك. أهـ كلام
الجرجاني.
وزعم ابن سعيد ونقله من كتب مؤرخي المشرق أنّ الحرث الرائش هو ابن ذي
شدد ويعرف بذي مداثر، وأنّ الّذي ملك بعده ابنه الصعب وهو ذو القرنين،
ثم ابنه أبرهة بن الصعب وهو ذو المنار، ثم العبد ذو الأشفار ابن أبرهة
بن عمرو ذي الأذعار ابن أبرهة، ثم قتلته بلقيس. قال في التيجان: إنّ
حمير خلعوه، وملكوا شرحبيل ابن غالب بن المنتاب بن زيد بن يعفر بن
السكسك بن واثل وكان بمأرب، فجاز به ذو الأذعار وحارب ابنه الهدهاد بن
شرحبيل من بعده، وابنته بلقيس بنت الهدهاد الملكة من بعده، فصالحته على
التزويج وقتلته، وغلبها سليمان عليه السلام على اليمن إلى أن هلك وابنه
رحبعم من بعده. واجتمعت حمير من بعده على مالك بن عمرو ابن يعفر بن
عمرو بن حمير بن المنتاب بن عمرو بن يزيد بن يعفر بن السكسك بن واثل بن
حمير، وملك بعده ابنه شمر يرعش وهو الّذي خرّب سمرقند، وملك بعده ابنه
صيفي بن شمر على اليمن، وسار أخوه أفريقش بن شمر إلى إفريقية بالبربر
وكنعان فملكها. ثم انتقل الملك إلى كهلان وقام به عمران بن عامر ماء
السماء بن حارثة امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد وكان كاهنا،
ولما احتضر عهد إلى أخيه عمرو بن عامر المعروف بمزيقيا وأعلمه بخراب سد
مأرب وهلاك اليمن بالسيل، فخرج من اليمن بقومه وأصحاب اليمن سيل العرم
فلم ينتظم لبني قحطان بيعته، واستولى على قصر مأرب من بعده ربيعة بن
نصر. ثم رأى رؤيا ونذر بملك الحبشة وبعث ولده إلى العراق وكتب إلى
سابور الأشعاني فأسكنهم الحيرة وكثرت الخوارج باليمن. فاجتمعت حمير على
أن تكون لأبي كرب أسعد بن عدي بن صيفي فخرج من ظفّار وغلب ملوك الطوائف
باليمن، ودوّخ جزيرة العرب، وحاصر الأوس والخزرج بالمدينة، وحمل حمير
على اليهودية، وطالت مدّته وقتلته حمير. وملك بعده ابنه حسّان الّذي
أباد طسما، ثم قتله أخوه عمرو بمداخلة حمير، وهلك عمرو. فملك بعده أخوه
لأبيه عبد كلال بن منوب، وفي أيامه خلع سابور أكتاف العرب. وملك بعده
تبع بن حسّان وهو الّذي بعث ابن أخيه الحرث بن عمرو
(2/66)
الكندي إلى أرض بني معدّ بن عدنان بالحجاز
فملك عليهم. وملك بعده مرثد بن عبد كلال. ثم ابنه وليعة وكثرت الخوارج
عليه، وغلب أبرهة بن الصبّاح على تهامة اليمن، وكان في ظفّار دار
التبابعة حسّان بن عمرو بن أبي كرب، ثم وثب بعده على ظفّار ذو شناتر،
وقتله ذو نواس كما مرّ، هذا ترتيب ابن سعيد في ملوكهم.
وعند المسعودي: أنّه لما هلك كليكرب بن تبّع المعروف بالأقرن، قال وهو
الّذي سار قومه نحو خراسان والصغد والصين، وولي بعده حسان بن تبّع،
فاستقام له الأمر خمسا وعشرين سنة، ثم قتله أخوه عمرو بن تبع، وملك
أربعا وستين سنة، ثم تبع أبو كرب وهو الّذي غزا يثرب وكسا الكعبة بعد
أن أراد هدمها، ومنعه الحبران من اليهود، وتهوّد وملك مائة سنة. ثم
بعده عمرو بن تبّع أبي كرب، وخلع وملكوا مرثد بن عبد كلال، واتصلت
الفتن باليمن أربعين سنة. ومن بعده وليعة بن مرثد تسعا وثلاثين سنة.
ومن بعده أبرهة بن الصبّاح بن وليعة بن مرثد، ويدعى شيبة الحمد ثلاثا
وتسعين سنة، وكانت له سير وقصص. ومن بعده عمرو ذو قيفان تسع عشرة سنة.
ومن بعده لخيتعة ذو شناتر ومن بعده ذو نواس.
وأمّا ابن الكلبيّ والطبريّ وابن حزم فعندهم أن تبّع أسعد أبي كرب هو
ابن كليكرب بن زيد الأقرن ابن عمرو بن ذي الأذعار بن أبرهة ذي المنار
الرائش بن قيس بن صيفي بن سبا الأصغر. وقال السهيليّ انه أسقط أسماء
كثيرة وملوكا. وقال ابن الكلبيّ وابن حزم: ومن ملوك التبابعة أفريقش بن
صيفي، ومنهم شمر يرعش ابن ياسر ينعم بن عمرو ذي الأذعار، ومنهم بلقيس
ابنه اليشرح بن ذي جدن بن اليشرح بن الحرث الرائش بن قيس بن صيفي. ثم
قال ابن حزم بعد ذكر هؤلاء من التبابعة: وفي أنسابهم اختلاف وتخليط
وتقديم وتأخير ونقصان وزيادة، ولا يصح من كتب أخبار التبابعة وأنسابهم
إلّا طرف يسير لاختلاف رواتهم وبعد العهد أهـ.
وقال الطبريّ لم يكن لملوك اليمن نظام وإنما كان الرئيس منهم يكون ملكا
على مخلافه لا يتجاوزه، وان تجاوز بعضهم عن مخلافه بمسافة يسيرة من غير
أن يرث ذلك الملك عن آبائه ولا يرثه أبناؤه عنه إنما هو شأن شدّاد
المتلصّصة يغيرون على النواحي باستغفال أهلها، فإذا قصدهم الطلب لم يكن
لهم ثبات، وكذلك كان أمر ملوك اليمن يخرج أحدهم من مخلافه بعض الأحيان
ويبعد في الغزو والإغارة فيصيب ما يمر به، ثم يتشمّر عند خوف الطلب
زاحفا إلى مكانه من غير أن يدين له أحد من غير مخلافه
(2/67)
بالطاعة أو يؤدّي إليه خراجا أهـ.
وأمّا الخبر عن ذي نواس وما بعده فاتفق أهل الأخبار كلهم أنّ ذا نواس
هو ابن تبان أسعد واسمه زرعة، وأنه لما تغلب على ملك آبائه التبابعة،
تسمى يوسف وتعصب لدين اليهودية، وحمل عليه قبائل اليمن، وأراد أهل
نجران عليها، وكانوا من بين العرب يدينون بالنصرانية ولهم فضل في الدين
واستقامة. وكان رئيسهم في ذلك يسمّى عبد الله بن الثامر، وكان هذا
الدين وقع اليهم قديما من بقية أصحاب الحواريين من رجل سقط لهم من ملك
التبعيّة يقال له ميمون نزل فيهم، وكان مجتهدا في العبادة، مجاب
الدعوة، وظهرت على يده الكرامات في شفاء المرضى، وكان يطلب الخفاء عن
الناس جهده، وتبعه على دينه رجل من أهل الشام اسمه صالح، وخرجا فارّين
بأنفسهما، فلما وطئا بلاد العرب اختطفتهما سيارة فباعوهما بنجران، وهم
يعبدون نخلة طويلة بين أظهرهم، ويعلقون عليها في الأعياد من حليهم
وثيابهم، ويعكفون عليها أياما. وافترقا في الدير على رجلين من أهل
نجران، وأعجب سيد ميمون صلاته ودينه وسأله عن شأنه، فدعاه إلى الدين
وعبادة الله، وأنّ عبادة النخلة باطل، وأنه لو دعا معبوده عليها هلكت.
فقال له سيده إن فعلت دخلنا في دينك. فدعا ميمون فأرسل الله ريحا فجعفت
النخلة من أصلها، وأطبق أهل نجران على أتباع دين عيسى صلوات الله عليه.
ومن رواية ابن إسحاق أنّ ميمون نزل بقرية من قرى نجران، وكان يمرّ به
غلمان أهل نجران، يتعلمون من ساحر كان بتلك القرية، وفي أولئك الغلمان
عبد الله بن الثامر، فكان يجلس إلى ميمون، ويسمع منه فآمن به واتبعه،
وحصل على معرفة اسم الله الأعظم، فكان مجاب الدعوة لذلك، واتبعه الناس
على دينه، وأنكر عليه ملك نجران وهمّ بقتله. فقال له: لن تطيق حتى تؤمن
وتوحد فآمن ثم قتله، فهلك ذلك الملك مكانه [1] . واجتمع أهل نجران
__________
[1] العبارة هنا غير واضحة تماما وهي أوضح عند الطبري في كتابه تاريخ
الملوك والأمم الجزء 2 ص 105:
« ... لم يبق أحد بنجران به ضر إلا أتاه فاتبعه على أمره ودعا له فعوفي
حتى رفع شأنه إلى ملك نجران فدعاه فقال له: أفسدت عليّ أهل قريتي
وخالفت ديني ودين آبائي لأمثّلن بك، قال: لا تقدر على ذلك.
فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح عن رأسه فيقع على الأرض ليس به
بأس فلما غلبه قال عبد الله بن الثامر: إنك والله لا تقدر على قتلي حتى
توحد الله فتؤمن بما آمنت به فإنك ان فعلت ذلك سلطت عليّ فقتلتني، فوحد
الله ذلك الملك وشهد بشهادة عبد الله بن الثامر ثم ضربه بعصا في يده
فشجه شجة غير كبيرة فقتله، فهلك الملك مكانه ... »
(2/68)
على دين عبد الله بن الثامر، وأقام أهل
نجران على دين عيسى صلوات الله عليه، حتى دخلت عليهم في دينهم الأحداث.
ودعاهم ذو نواس إلى دين اليهودية، فأبوا.
فسار إليهم في أهل اليمن وعرض عليهم القتل فلم يزدهم إلّا جماحا، فخدّد
لهم الأخاديد، وقتل وحرق حتى أهلك منهم فيما قال ابن إسحاق عشرين ألفا
أو يزيدون، وأفلت منهم رجل من سبا يقال له دوس ذو ثعلبان فسلك الرمل
على فرسه وأعجزهم.
ملك الحبشة اليمن
قال هشام بن محمد الكلبيّ في سبب غزو ذي نواس أهل نجران أنّ يهوديا كان
بنجران فعدا أهلها على ابنين له فقتلوهما ظلما، فرفع أمره إلى ذي نواس،
وتوسل له باليهودية واستنصره على أهل نجران وهم نصارى، فحمي له ولدينه
وغزاهم. ولما أفلت دوس ذو ثعلبان فقدم على قيصر صاحب الروم يستنصره على
ذي نواس، وأعلمه بما ركب منهم وأراه الإنجيل قد احترق بعضه بالنار،
فكتب له إلى النجاشيّ يأمره بنصره، وطلب بثأره، وبعث معه النجاشيّ
سبعين ألفا من الحبشة. وقيل إنّ صريخ دوس كان أولا للنجاشيّ، وإنه
اعتذر اليه بقلّة السفن لركوب البحر، وكتب إلى قيصر وبعث إليه بالإنجيل
المحرق، فجاءته السفن وأجاز فيها العساكر من الحبشة، وأمّر عليهم
أرباطا رجلا منهم، وعهد إليه بقتلهم وسبيهم وخراب بلادهم فخرج أرباط
لذلك ومعه أبرهة الأشرم فركبوا البحر، ونزلوا ساحل اليمن.
وجمع ذو نواس حمير ومن أطاعه من أهل اليمن على افتراق واختلاف في
الأهواء، فلم يكن كبير حرب وانهزموا. فلمّا رأى ذو نواس ما نزل به
وبقومه وجه بفرسه إلى البحر، ثم ضربه فدخل فيه وخاض ضحضاح البحر، ثم
أفضى به إلى غمرة فأقحمه فيه، فكان آخر العهد به، ووطئ أرباط اليمن
بالحبشة، وبعث إلى النجاشيّ بثلث السبي كما عهد له، ثم أقام بها فضبطها
وأذل رجالات حمير، وهدم حصون الملك بها مثل سلجيق وسون وغمدان، وقال ذو
يزن يرثي حمير وقصور الملك باليمن:
هوّنك ليس يردّ الدّمع ما فاتا ... لا تهلكن أسفا في إثر من ماتا
أبعد سون فلا عين ولا أثر ... وبعد سلجيق يبني الناس أبياتا
(2/69)
وفي رواية هشام بن محمد الكلبيّ أنّ السفن
قدمت على النجاشيّ من قيصر، فحمل فيها الحبش ونزلوا بساحل اليمن،
واستجاش ذو نواس بأقيال حمير فامتنعوا من صريخه وقالوا: كل أحد يقاتل
عن ناحيته. فألقى ذو نواس باليد ولم يكن قتال.
وأنه سار بهم إلى صنعاء، وبعث عماله في النواحي لقبض الأموال، وعهد
بقتلهم في كل ناحية، فقتلوا. وبلغ ذلك النجاشيّ فجهز إلى اليمن سبعين
ألفا، وعليهم أبرهة فبلغوا صنعاء، وهرب ذو نواس واعترض البحر فكان آخر
العهد به. وملك أبرهة اليمن ولم يبعث إلى النجاشيّ بشيء وذكر له أنه
خلع طاعته فوجه جيشا من أصحابه عليهم أرباط. ولما حلّ بساحته دعاه إلى
النصفة والنزال فتبارزا وخدعه أبرهة، وأكمن عبدا له في موضع المبارزة،
فلما التقيا ضربه أرباط فشرم أنفه، وسمّي الأشرم وخالفه العبد من
الكمين فضرب أرباطا فأنفذه، وبلغ النجاشيّ خبر أرباط فحلف ليريقنّ دمه
[1] . ثم كتب إليه أبرهة واسترضاه فرضي عليه وأقره على عمله.
وقال ابن إسحاق إنّ أرباط هو الّذي قدم اليمن أوّلا وملكه وانتقض عليه
أبرهة من بعد ذلك، فكان ما ذكرنا من الحرب بينهما وقتل أرباط، وغضب
النجاشي لذلك ثم أرضاه واستبدّ أبرهة بملك اليمن.
ويقال إنّ الحبشة لمّا ملكوا اليمن أمّر أبرهة بن الصبّاح، وأقاموا في
خدمته. قاله ابن سلام: وقيل إنّ ملك حمير لما انقرض أمر التبابعة صار
متفرقا في الأذواء من ولد زيد الجمهور. وقام بملك اليمن منهم ذو يزن من
ولد مالك بن زيد. قال ابن حزم:
واسمه علس بن زيد بن الحرث بن زيد الجمهور. وقال ابن الكلبيّ وأبو
الفرج الأصبهاني: هو علس بن الحرث بن زيد بن الغوث بن سعد بن عوف بن
عديّ بن مالك بن زيد الجمهور. قالوا كلهم: ولما ملك ذو يزن بعد مهلك ذي
نواس واستبدّ أمر الحبشة على أهل اليمن، طالبوهم بدم النصارى الذين في
أهل نجران، فساروا إليه وعليهم أرباط، ولقيهم فيمن معه فانهزم واعترض
البحر، فأقحم فرسه وغرق فهلك بعد ذي نواس، وولي ابنه مرثد بن ذي يزن
مكانه، وهو الّذي استجاشه امرؤ القيس على بني أسد وكان من عقب ذي يزن
أيضا، من هؤلاء الأذواء علقمة ذو قيفال بن شراحيل بن ذي يزن، وملك
مدينة الهون فقتله أهلها من همدان أهـ. ولما استقرّ أبرهة في ملك اليمن
أساء السير في حمير، ورؤسائهم وبعث في ريحانة بنت علقمة بن
__________
[1] الضمير يعود إلى أبرهة.
(2/70)
مالك بن زيد بن كهلان فانتزعها من زوجها
أبي مرّة بن ذي يزن، وقد كانت ولدت منه ابنه معديكرب، وهرب أبو مرّة،
ولحق بأطراف اليمن واصطفى أبرهة ريحانة فولدت له مسروق بن أبرهة وأخته
بسباسة. وكان لأبرهة غلام يسمّى عمددة، وكان قد ولّاه الكثير من أمره،
فكان يفعل الأفاعيل حتى عدا عليه رجل من حمير أو خثعم فقتله وكان حليما
فأهدر دمه.
غزو الحبشة الكعبة
ثم إنّ أبرهة بنى كنيسة بصنعاء تسمّى القليس لم ير مثلها وكتب إلى
النجاشيّ بذلك، وإلى قيصر في الصنّاع والرخام والفسيفساء، وقال لست
بمنته حتى أصرف إليها حج العرب. وتحدّث العرب بذلك فغضب رجل من السادة،
أحد بني فقيم، ثم أحد بني مالك، وخرج حتى أتى القليس فقعد فيها، ولحق
بأرضه. وبلغ أبرهة وقيل له الرجل من البيت الّذي يحج إليه العرب، فحلف
ليسيرنّ إليه يهدمه. ثم بعث في الناس يدعوهم إلى حج القليس، فضرب
الداعي في بلاد كنانة بسهم فقتل وأجمع أبرهة على غزو البيت وهدمه، فخرج
سائرا بالحبشة ومعه الفيل. فلقيه ذو نفر الحميريّ وقاتله فهزمه وأسره،
واستبقاه دليلا في أرض العرب. قال ابن إسحاق: ولما مرّ بالطائف خرج
إليه مسعود بن معتب في رجال ثقيف فأتوه بالطاعة وبعثوا معه أبا رغال
دليلا، فأنزله المغمس بين الطائف ومكة فهلك هنالك ورجمت العرب قبره من
بعد ذلك قال جرير:
إذا مات الفرزدق فارجموه ... كما ترمون قبر أبي رغال
ثم بعث أبرهة خيلا من الحبشة، فانتهوا إلى مكة، واستاقوا أموال أهلها،
وفيها مائتا بعير لعبد المطلب وهو يومئذ سيد قريش، فهمّوا بقتاله ثم
علموا أنّ لا طاقة لهم به فاقصروا. وبعث أبرهة حناطة الحميريّ إلى مكة
يعلمهم بمقصده من هدم البيت، ويؤذنهم بالحرب إن اعترضوا دون ذلك، وأخبر
عبد المطلب بذلك عن أبرهة، فقال له:
والله ما نريد حربه، وهذا بيت الله فان يمنعه فهو بيته وان يخلي عنه
فما لنا نحن من دافع. ثم انطلق به إلى أبرهة، ومرّ بذي نفر وهو أسير،
فبعث معه إلى سائس الفيل، وكان صديقا لذي نفر، فاستأذن له على أبرهة،
فلما رآه جلّه ونزل عن سريره، فجلس معه على بساطه. وسأله عبد المطلب في
الإبل. فقال له أبرهة هلا
(2/71)
سألت في البيت الّذي هو دينك ودين آبائك
وتركت البعير. فقال عبد المطلب: أنا ربّ الإبل وللبيت ربّ سيمنعه. فردّ
عليه إبله. قال الطبريّ: وكان فيما زعموا قد ذهب مع عبد المطلب عمرو بن
لعابة بن عدي بن الرمل سيّد كنانة، وخويلد بن واثلة سيّد هذيل، وعرضوا
على أبرهة ثلث أموال تهامة ويرجع عن هدم البيت، فأبى عليهم، فانصرفوا.
وجاء عبد المطلب وأمر قريشا بالخروج من مكة إلى الجبال والشعاب للتحرّز
فيها، ثم قام عند الكعبة ممسكا بحلقة الباب ومعه نفر من قريش يدعون
الله ويستنصرونه، وعبد المطلب ينشد ويقول:
لا همّ إنّ العبد ... يمنع رحله فامنع رحالك
لا يغلبنّ صليبهم ... ومحالهم أبدا محالك
وانصر على آل الصليب ... وعابديه اليوم آلك
في أبيات معروفة.
ثم أرسل الله عليهم الطير الأبابيل من البحر، ترميهم بالحجارة فلا تصيب
أحدا منهم إلّا هلك مكانه، وأصابه في موضع الحجر من جسده كالجدري
والحصبة فهلك، وأصيب أبرهة في جسده بمثل ذلك، وسقطت أعضاؤه عضوا عضوا،
وبعثوا بالفيل ليقدم على مكة فربض ولم يتحرك فنجا. وأقدم فيل آخر فحصب
[1] وبعث الله سيلا مجحفا فذهب بهم، وألقاهم في البحر. ورجع أبرهة إلى
صنعاء وهو مثل فرخ الطائر، فانصدع صدره عن قلبه ومات.
ولمّا هلك أبرهة ملك مكانه ابنه يكسوم وبه كان يكنى واستفحل ملكه وأذل
حمير وقبائل اليمن ووطئتهم الحبشة، فقتلوا رجالهم ونكحوا نساءهم
واستخدموا أبناءهم.
ثم هلك يكسوم بن أبرهة فملك مكانه أخوه مسروق، وساءت سيرته وكثر عسف
الحبشة باليمن، فخرج ابن ذي يزن واستجاش عليهم بكسرى، وقدم اليمن
بعساكر الفرس، وقتل مسروقا وذهب أمر الحبشة بعد أن توارث ملك اليمن
منهم أربعة في اثنتين وسبعين سنة أوّلهم أرباط، ثم أبرهة، ثم ابنه
يكسوم، ثم أخوه مسروق بن أبرهة.
__________
[1] أي ضرب بالحصباء.
(2/72)
قصة سيف بن ذي يزن
وملك الفرس على اليمن
ولما طال البلاء من الحبشة على أهل اليمن، خرج سيف بن ذي يزن الحميريّ
من الأذواء بقية ذلك السلف، وعقب أولئك الملوك، وديال الدولة المفوض
للخمود.
وقد كان أبرهة انتزع منه زوجته ريحانة بعد أن ولدت منه ابنه معديكرب
كما مرّ.
ونسبه فيما قال الكلبيّ سيف بن ذي يزن بن عافر بن أسلم بن زيد بن سعد
بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد الجمهور، هكذا نسبه ابن الكلبيّ، ومالك
بن زيد هو أبو الأذواء. فخرج سيف وقدم على قيصر ملك الروم وشكى إليه
أمر الحبشة، وطلب أن يخرجهم ويبعث على اليمن من شاء من الروم، فلم
يسعفه عن الحبشة، وقال الحبشة على دين النصارى. فرجع إلى كسرى وقدم
الحيرة على النعمان بن المنذر عامل فارس على الحيرة وما يليها من أرض
العرب، فشكى إليه، واستمهله النعمان إلى حين وفادته على كسرى، وأوفد
معه وسأله النصر على الحبشة وأن يكون ملك اليمن له.
فقال: بعدت أرضك عن أرضنا، أو هي قليلة الخير إنما هي شاء وبعير ولا
حاجة لنا بذلك. ثم كساه وأجازه، فنثر دنانير الاجازة ونهبها الناس يوهم
الغنى عنها بما في أرضه. فأنكر عليه كسرى ذلك. فقال: جبال أرضي ذهب
وفضة، وإنما جئت لتمنعني من الظلم. فرغب كسرى في ذلك، وأمهله للنظر في
أمره، وشاور أهل دولته، فقالوا في سجونك رجال حبستهم للقتل ابعثهم معه
فإن هلكوا كان الّذي أردت بهم، وإن ملكوا كان ملكا ازددته إلى ملكك.
وأحصوا ثمانمائة وقدم عليهم أفضلهم وأعظمهم بيتا وأكبرهم نسبا وكان
وهزر الديلميّ.
وعند المسعودي وهشام بن محمد والسهيليّ أنّ كسرى وعده بالنصر ولم ينصره
وشغل بحرب الروم، وهلك سيف بن ذي يزن عنده، وكبر ابنه ابن ريحانة وهو
معديكرب وعرّفته أمّه بأبيه، فخرج ووفد على كسرى يستنجزه في النصرة
التي وعد بها أباه، وقال له: أنا ابن الشيخ اليمني الّذي وعدته. فوهبه
الدنانير ونثرها إلى آخر القصة.
وقيل إنّ الّذي وفد على كسرى وأباد الحبشة هو النعمان بن قيس بن عبيد
بن سيف بن ذي يزن. قالوا ولما كتبت الفرس مع وهزر وكانوا ثمانمائة،
وقال ابن قتيبة كانوا سبعة آلاف وخمسمائة، وقال ابن حزم كان وهزر من
عقب جاماسب عمّ أنوشروان، فأمّره على أصحابه وركبوا البحر ثمان سفائن
فغرقت منها سفينتان وخلصت ست إلى
(2/73)
ساحل عدن. فلما نزلوا بأرض اليمن، قال وهزر
لسيف: ما عندك؟ قال: ما شئت من قوس عربي ورجلي مع رجلك حتى نظفر أو
نموت. قال أنصفت. وجمع ابن ذي يزن من استطاع من قومه، وسار إليه مسروق
بن أبرهة في مائة ألف من الحبشة وأوباش اليمن، فتواقفوا للحرب، وأمر
وهزر ابنه أن يناوشهم القتال فقتلوه، وأحفظه ذلك. وقال: أروني ملكهم.
فأروه إياه على الفيل عليه تاجه وبين عينيه ياقوتة حمراء ثم نزل عن
الفيل إلى الفرس، ثم إلى البغلة. فقال وهزر، ركب بنت الحمار، ذلّ وذلّ
ملكه. ثم رماه بسهم فصكّ الياقوتة بين عينيه، وتغلغل في دماغه، وتنكّس
عن دابته وداروا به، فحمل القوم عليهم وانهزم الحبشة في كل وجه، وأقبل
وهزر إلى صنعاء، ولما أتى بابها قال: لا تدخل رايتي منكوسة. فهدم
الباب، ودخل ناصبا رايته فملك اليمن ونفى عنها الحبشة وكتب بذلك إلى
كسرى وبعث إليه بالأموال. فكتب إليه أن يملك سيف بن ذي يزن على اليمن
على فريضة يؤدّيها كل عام ففعل، وانصرف وهزر إلى كسرى.
وملك سيف اليمن وكان أبوه من ملوكها وخلف وهزر نائبا على اليمن في
جماعة من الفرس ضمهم إليه وجعله لنظر ابن ذي يزن وأنزله بصنعاء. وانفرد
ابن ذي يزن بسلطانه، ونزل قصر الملك وهو رأس غمدان، يقال إنّ الضحّاك
بناه على اسم الزهرة وهو أحد البيوت السبعة الموضوعة على أسماء الكواكب
وروحانيتها، خرب في خلافة عثمان قاله المسعودي.
وقال السهيليّ: كانت صنعاء تسمى أوال، وصنعاء اسم بانيها صنعاء بن أوال
بن عمير بن عابر بن شالخ. ولمّا استقل ابن ذي يزن بملك اليمن وفدت
العرب عليه يهنوه [1] بالملك، ولما رجع من سلطان قومه وأباد من عدوّهم،
وكان فيمن وفد عليه مشيخة قريش وعظماء العرب لعهدهم من أبناء إسماعيل
وأهل بيتهم المنصوب لحجهم، فوفدوا في عشرة من رؤسائهم فيهم عبد المطلب،
فأعظمهم سيف وأجلهم وأوجب لهم حقهم ووفر من ذلك قسم عبد المطلب من
بينهم. وسأله عن بنيه حتى ذكر له شأن النبيّ صلى الله عليه وسلم
وكفالته إياه بعد موت عبد الله أبيه عاشر ولد عبد المطلب، فأوصاه به
وحضه على الإبلاغ في القيام عليه، والتحفظ به.
__________
[1] الصحيح ان يقول: «وفدت العرب عليه يهنونه أو «تهنيه» لان الفعل من
الأفعال الخمسة ولم يتقدم عليه ما يوجب حذف النون.»
(2/74)
من اليهود وغيرهم، وأسرّ إليه البشرى
بنبوّته وظهور قريش قومهم على جميع العرب.
وأسنى جوائز هذا الوفد بما يدل على شرف الدولة وعظمها لبعد غايتها في
الهمة، وعلو نظرها في كرامة الوفد، وبقاء آثار الترف في الصبابة شاهد
لشرافة الحال في الأوّل.
ذكر صاحب الأعلام وغيره أنه أجاز سائر الوفد بمائة من الإبل وعشرة أعبد
وعشرة وصائف وعشرة أرطال من الورق والذهب وكرش مليء من العنبر وأضعاف
ذلك بعشرة أمثاله لعبد المطلب.
قال ابن إسحاق: ولما انصرف وهزر إلى كسرى غزا سيف على الحبشة وجعل يقتل
ويبقر بطون النساء، حتى إذا لم يبق إلا القليل جعلهم خولا واتخذ منهم
طوابير يسعون بين يديه بالحراب، وعظم خوفهم منه. فخرج يوما وهم يسعون
بين يديه، فلما توسطهم وقد انفردوا به عن الناس، رموه بالحراب فقتلوه،
ووثب رجل منهم على الملك. وقيل ركب خليفة وهزر فيمن معه من المسلحة،
واستلحم الحبشة وبلغ ذلك كسرى، فبعث وهزر في أربعة آلاف من الفرس وأمره
بقتل كل أسود أو منتسب إلى أسود ولو جعدا قططا ففعل، وقتل الحبشة حيث
كانوا، وكتب بذلك إلى كسرى، فأمّره على اليمن فكان بجبيه له حتى هلك.
واستضافت حشّابة ملك الحميريّين بعد مهلك ابن ذي يزن وأهل بيته إلى
الفرس، وورثوا ملك العرب وسلطان حمير باليمن بعد أن كانوا يزاحمونهم
بالمناكب في عراقهم، ويجسونهم بالغزو خلال ديارهم. ولم يبق للعرب في
الملك رسم ولا طلل إلا أقيالا من حمير وقحطان رؤساء في أحيائهم بالبدو
لا تعرف لهم طاعة، ولا ينفذ لهم في غير ذاتهم أمر، إلا ما كان لكهلان
إخوتهم بأرض العرب من ملك آل المنذر من لخم على الحيرة والعراق بتولية
فارس، وملك آل جفنة من غسان على الشام بتولية آل قيصر كما يأتي في
أخبارهم.
وقال الطبريّ: لما كانت اليمن لكسرى بعث إلى سرنديب من الهند قائدا من
قواده، ركب إليها البحر في جند كثيف، فقتل ملكها واستولى عليها، وحمل
إلى كسرى منها أموالا عظيمة وجواهر. وكان وهزر يبعث العير إلى كسرى
بالأموال والطيوب، فتمرّ على طريق البحرين تارة وعلى أرض الحجاز أخرى.
وعدا بنو تميم في بعض الأيام على عيره بطريق البحرين، فكتب إلى عامله
بالانتقام منهم، فقتل منهم خلقا كما يأتي في أخبار كسرى. وعدا بنو
كنانة على عيره بطريق الحجاز حين مرّت بهم، وكان في جوار رجل من أشراف
العرب من قيس، فكانت حرب الفجّار بين قيس وكنانة
(2/75)
بسبب ذلك وشهدها النبيّ صلى الله عليه وسلم
وكان ينبل فيها على أعمامه أي يجمع لهم النبل.
قال الطبريّ: ولما هلك وهزر أمّر كسرى من بعده على اليمن ابنه
المرزبان، ثم هلك فأمّر حافده خرخسرو بن التيجان بن المرزبان، ثم سخط
عليه وحمل إليه مقيدا، ثم أجاره ابن كسرى وخلّى سبيله، فعزله كسرى وولى
باذان فلم يزل إلى أن كانت البعثة وأسلم باذان وفشا الإسلام باليمن كما
نذكره عند ذكر الهجرة وأخبار الإسلام باليمن.
هذا آخر الخبر عن ملوك التبابعة من اليمن ومن ملك بعدهم من الفرس، وكان
عدد ملوكهم فيما قال المسعودي سبعة وثلاثين ملكا في مدّة ثلاثة آلاف
ومائتي سنة إلّا عشرا، وقيل أقل من ذلك. فكانوا ينزلون مدينة ظفّار.
قال السهيليّ زمار وظفّار اسمان لمدينة واحدة، يقال بناها مالك بن
أبرهة وهو الأملوك ويسمى مالك وهو ابن ذي المنار، وكان على بابها مكتوب
بالقلم الأوّل في حجر أسود:
يوم شيدت ظفار فقيل لمن ... أنت فقالت لخير الأخيار
ثم سيلت من بعد ذلك قالت ... انّ ملكي احابش الأشرار
ثم سيلت من بعد ذلك قالت ... انّ ملكي لفارس الأحرار
ثم سيلت من بعد ذلك قالت ... انّ ملكي لقريش النجّار
ثم سيلت من بعد ذلك قالت ... انّ ملكي لخير سنجار
وقليلا ما يلبث القوم فيها ... غير تشييدها لحامي البوار
من أسود يلقيهم البحر فيها ... تشعل النار في أعالي الجدار
ولم تزل مدينة ظفّار هذه منزلا للملوك، وكذلك في الإسلام صدر الدولتين،
وكانت اليمن من أرفع الولايات عندهم، بما كانت منازل العرب العاربة،
ودارا لملوك العظماء من التبابعة والأقيال والعباهلة. ولما انقضى
الكلام في أخبار حمير وملوكهم باليمن من العرب، استدعى الكلام ذكر
معاصريهم من العجم على شرط كتابنا لنستوعب أخبار الخليقة، ونميّز حال
هذا الجيل العربيّ من جميع جهاته، والأمم المشاهير من العجم الذين كانت
لهم الدول العظيمة لعهد الطبقة الأولى والثانية من العرب وهم النبط
والسريانيّون أهل بابل، ثم الجرامقة أهل الموصل، ثم القبط، ثم بنو
إسرائيل والفرس ويونان والروم، فلنأت الآن بما كان لهم من الملك
والدولة وبعض أخبارهم على اختصار، والله ولي العون والتوفيق، لا رب غير
ولا مأمول إلّا خيره
.
(2/76)
|