تاريخ ابن خلدون
الخبر عن بني إسرائيل وما كان لهم من
النبوة والملك وتغلبهم على الأرض المقدّسة بالشام وكيف تجدّدت دولتهم
بعد الانقراض وما اكتنف ذلك من الأحوال
قد ذكرنا عند ذكر إبراهيم وبنيه صلوات الله وسلامه عليهم ما كان من شأن
يعقوب بن إسحاق واستقراره بمصر مع بنيه الأسباط، وفي التوراة أنّ الله
سماه إسرائيل. وإيل عندهم كلمة مرادفة لعبد وما قبلها من أسماء الله عز
وجل وصفاته والمضاف أبدا متأخر في لسان المعجم، فلذلك كان إيل هو آخر
الكلمة وهو المضاف. ثم قبض الله نبيّه يعقوب بمصر لمائة وسبع وثمانين
سنة من عمره، وأوصى أن يدفن عند أبيه، فطلب يوسف من فرعون أن يطلقه
لذلك، فأذن له. وأمر أهل دولته بالانطلاق معه، فانطلقوا وحملوه إلى
فلسطين فدفنوه بمقبرة آبائه، وهي التي اشتراها إبراهيم من الكنعانيين.
ورجع يوسف إلى مصر وأقام بها إلى أن توفي لمائة وعشرين سنة من عمره،
ودفن بمصر وأوصى أن يحملوا شلوه معهم إذا خرجوا إلى أرض الميعاد، وهي
الأرض المقدّسة.
وأقام الأسباط بمصر وتناسلوا وكثروا حتى ارتاب القبط بكثرتهم
واستعبدوهم، وفي التوراة أنّ ملكا من الفراعنة جاء بعد يوسف لم يعرف
شأنه ولا مقامه في دولة آبائه، فاسترقّ بني إسرائيل واستعبدهم. ثم
تحدّث الكهّان من أهل دولتهم بأنّ نبوة تظهر في بني إسرائيل، وأنّ ملكك
كائن لهم مع ما كان معلوما من بشارة آبائهم لهم بالملك، فعمد الفراعنة
إلى قطع نسلهم بذبح الذكور من ذريتهم. فلم يزالوا على ذلك مدّة من
الزمان حتى ولد موسى. وهو موسى بن عمران بن قاهث بن لاوى بن يعقوب.
وأمّه يوحانذ بنت لاوى عمة عمران وكان قاهث بن لاوى من القادمين إلى
مصر مع يعقوب عليه السلام وولد عمران بمصر وولد هارون لثلاث وسبعين من
عمره، وموسى لثمانين، فجعلته أمّه في تابوت وألقته في ضحضاح [1] اليمّ،
وأرصدت أخته على بعد لتنظر من يلتقطه فتعرفه. فجاءت ابنة فرعون الى
البحر مع جواريها فرأته
__________
[1] في التوراة: أخذت له سفطا من البردي، وطلته بالحمر والزفت، ووضعت
الولد فيه ووضعته بين الحلفاء، ووقفت أخته من بعيد لتعرف ماذا يفعل به.
(2/92)
واستخرجته من التابوت فرحمته. وقالت: هذا
من العبرانيين فمن لنا بظئر [1] ترضعه.
فقالت لها أخته أنا آتيكم بها. وجاءت بأمّه فاسترضعتها له ابنة فرعون،
إلى أن فصل.
فأتت به إلى ابنة فرعون وسمّته موسى وأسلمته لها. ونشأ عندها ثم شب،
وخرج يوما يمشي في الناس وله صولة بما كان له في بيت فرعون من المربى
والرضاع فهم لذلك أخواله، فرأى عبرانيا يضربه مصريّ فقتل المصري الّذي
ضربه ودفنه، وخرج يوما آخر فإذا هو برجلين من بني إسرائيل وقد سطا
أحدهما على الآخر فزجره، فقال له ومن جعل لك هذا؟ أتريد أن تقتلني كما
قتلت الآخر بالأمس. ونمي الخبر إلى فرعون فطلبه، وهرب موسى إلى أرض
مدين [2] عند عقبة أيلة.
وبنو مدين أمّة عظيمة من بني إبراهيم عليه السلام، كانوا ساكنين هناك
وكان ذلك لأربعين سنة من عمره، فلقى عند مائهم بنتين لعظيم من عظمائهم
فسقى لهما، وجاءتا به الى أبيهما فزوّجه بإحداهما، كما وقع في القرآن
الكريم، وأكثر المفسّرين على أنه شعيب بن نوفل بن عيقا بن مدين وهو
النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقال الطبريّ:
الّذي استأجر موسى وزوّجه بنته رعويل [3] وهو بيتر حبر مدين، أي
عالمهم، وأن رعويل هو الّذي زوّجه البنت وأنّ اسمه يبتر. وعن الحسن
البصريّ انه شعيب رئيس بني مدين. وقيل انه ابن أخي شعيب. وقيل ابن عمه.
فأقام عند شعيب صهره مقبلا على عبادة ربّه، إلى أن جاءه الوحي وهو ابن
ثمانين سنة، وأوحى إلى أخيه هارون وهو ابن ثلاث وثمانين سنة، فأوحى
الله إليهما بأن يأتيا فرعون ليبعث معهما بني إسرائيل فيستنقذانهم من
مملكة القبط، وجور الفراعنة، ويخرجون إلى الأرض المقدّسة التي وعدهم
الله بملكها على لسان إبراهيم وإسحاق ويعقوب. فخرجا إليه وبلّغا بني
إسرائيل الرسالة فآمنوا به واتبعوه، ثم حضرا إلى فرعون وبلّغاه أمر
الله له بأن يبعث معهما بني إسرائيل وأراه موسى عليه السلام معجزة
العصا، فكان من تكذيبه وامتناعه واحضار السحرة لما رأى موسى في معجزته
ثم إسلامهم ما نصّه القرآن العظيم.
ثم تمادى فرعون في تكذيبه ومناصبته، واشتدّ جوره على بني إسرائيل
واستعبادهم
__________
[1] الظئر: ج أظؤر وأظآر: المرضعة لولد غيرها (قاموس)
[2] وفي التوراة: مديان.
[3] وفي التوراة: رعوئيل
(2/93)
واتخاذهم سخريا في مهنة الأعمال، فأصابت
فرعون وقومه الجوائح العشرة واحدة بعد أخرى يسالمهم عند وقوعها، ويتضرع
الى موسى في الدعاء بانجلائها، إلى أن أوحى الله الى موسى بخروج بني
إسرائيل من مصر. ففي التوراة انهم أمروا عند خروجهم أن يذبح أهل كل بيت
حملا من الغنم ان كان كفايتهم، أو يشتركون مع جيرانهم ان كان أكثر، وان
ينضحوا دمه على أبوابهم لتكون علامة، وأن يأكلوه سواء برأسه وأطرافه،
ومعناه لا يكسرون منه عظما ولا يدعون شيئا خارج البيوت، وليكن خبزهم
فطيرا ذلك اليوم وسبعة أيام بعده، وذلك في اليوم الرابع عشر من فصل
الربيع، وليأكلوا بسرعة وأوساطهم مشدودة، وخفافهم في أرجلهم، وعصيهم في
أيديهم، ويخرجوا ليلا وما فضل من عشائهم ذلك يحرقوه [1] بالنار، وشرع
هذا عيدا لهم ولا عقابهم ويسمّى عيد الفصح.
وفي التوراة أيضا انه قتل في تلك الليلة أبكار النساء من القبط ودوابهم
ومواشيهم ليكون لهم بذلك ثقل عن بني إسرائيل. وأنّهم أمروا أن يستعيروا
منهم حليا كثيرا يخرجون به، فاستعاروه وخرجوا في تلك الليلة بما معهم
من الدواب والأنعام، وكانوا ستمائة ألف أو يزيدون. وشغل القبط عنهم
بالمآتم التي كانوا فيها على موتاهم، وأخرجوا معهم تابوت يوسف عليه
السلام، استخرجه موسى صلوات الله عليه من المدفن الّذي كان به بإلهام
من الله تعالى، وساروا لوجههم حتى انتهوا الى ساحل البحر بجانب الطور.
وأدركهم فرعون وجنوده، وأمر موسى بأن يضرب البحر بعصاه ويقتحمه، فضربه
فانفلق طرقا. وسار فيها بنو إسرائيل وفرعون وجنوده في اتباعه، فهلكوا،
ونزل بنو إسرائيل بجانب الطور، وسبّحوا مع موسى بالتسبيح المنقول عندهم
وهو: نسبّح الرب البهي، الّذي قهر الجنود، ونبذ فرسانها في البحر
المنيع المحمود الى آخره. قالوا: وكانت مريم أخت موسى وهارون صلوات
الله عليهما تأخذ الدف بيدها، ونساء بني إسرائيل في أثرها بالدفوف
والطبول، وهي ترتّل لهنّ التسبيح سبحان الرب القهّار الّذي قهر الخيول
وركبانها ألقاها في البحر وهو معنى الأوّل.
ثم كانت المناجاة على جبل الطور وكلام الله لموسى والمعجزات المتتابعة،
ونزول الألواح، ويزعم بنو إسرائيل أنها كانت لوحين فيها الكلمات العشرة
وهي: كلمة التوحيد، والمحافظة على السبت بترك الأعمال فيه، وبرّ
الوالدين ليطول العمر، والنهي
__________
[1] الأصح ان يقول يحرقونه.
(2/94)
عن القتل، والزنا، والسرقة، وشهادة الزور،
ولا تمتدّ عين إلى بيت صاحبه، أو امرأته، أو لشيء من متاعه. هذه
الكلمات العشرة التي تضمنتها الألواح.
وكان سبب نزول الألواح أن بني إسرائيل لما نجوا ونزلوا حول طور سينا
صعد موسى إلى الجبل، فكلمه ربّه وأمره أن يذكّر بني إسرائيل بالنعمة
عليهم في نجاتهم من فرعون وأن يتطهروا ويغسلوا ثيابهم ثلاثة أيام،
ويجتمعوا في اليوم الثالث حول الجبل من بعد، ففعلوا وظلت الجبل غمامة
عظيمة ذات بروق ورعود ففزعوا، وقاموا في سفح الجبل دهشين، ثم غشي الجبل
دخان في وسطه عمود نور وتزلزل له الجبل زلزلة عظيمة شديدة، واشتدّ صوت
الرعد الّذي كانوا يسمعونه، وأمر موسى صلوات الله عليه بأن يقرّب بني
إسرائيل لسماع الوصايا والتكاليف، قال فلم يطيقوا فأمر بحضور هارون
وتكون العلماء غير بعيد ففعل، وجاءهم بالألواح.
ثم سار بعد ذلك إلى ميعاد الله بعد أربعين ليلة، فكلمه ربه وسأله
الرؤية، فمنعها فكان الصعق وساخ الجبل، وتلقى كثيرا من أحكام التوراة
في المواعظ والتحليل والتحريم. وكان حين سار الى الميعاد استخلف أخاه
هارون على بني إسرائيل، واستبطئوا موسى، وكان هارون قد أخبرهم بأنّ
الحلي الّذي أخذوه للقبط محرّم عليهم، فأرادوا حرقة وأوقدوا عليه
النار. وجاء السامريّ في شيعة له من بني إسرائيل، وألقى عليه شيئا كان
عنده من أثر الرسول، فصار عجلا وقيل عجلا حيوانا، وعبده بنو إسرائيل،
وسكت عنهم هارون خوفا من افتراقهم. وجاء موسى صلوات الله عليه من
المناجاة وقد أخبر بذلك في مناجاته، فلما رآهم على ذلك ألقى الألواح،
ويقال كسرها، وأبدل غيرها من الحجارة، وعند بني إسرائيل انهما اثنان،
وظاهر القرآن أنها أكثر مع أنه لا يبعد استعمال الجمع في الاثنين، ثم
أخذ برأس أخيه ووبّخه واعتذر له بما اعتذر ثم حرق العجل، وقيل برده
بالمبرد وألقاه في البحر.
وكان موسى صلوات الله عليه لما نجا ببني إسرائيل الى الطور بلغ خبره
الى بيثر [1] صهره من بني مدين، فجاء ومعه بنته صفورا زوجة موسى عليه
السلام التي زوّجها به أبوها رعويل كما تقدّم، ومعها ابناها من موسى
وهما جرشون وعازر، فتلقّاها موسى صلوات الله عليه بالبرّ والكرامة
وعظمه بنو إسرائيل، ورأى كثرة الخصومات
__________
[1] وفي التوراة: يثرون.
(2/95)
على موسى، فأشار عليه بأن يتخذ النقباء على
كلّ مائة أو خمسين أو عشرة فيفصلوا بين الناس، وتفصل أنت فيما أهم
وأشكل، ففعل ذلك.
ثم أمر الله موسى ببناء قبة للعبادة والوحي من خشب الشمشاد، ويقال هو
السنط وجلود الأنعام وشعر الأغنام، وأمر بتزيينها بالحرير والمصبغ
والذهب والفضّة على أركانها صوّر منها صور الملائكة الكروبيّين على
كيفيات مفصلة في التوراة في ذلك كله، ولها عشر سرادقات مقدّرة الطول
والعرض، وأربعة أبواب وأطناب من حرير منقوش مصبغ، وفيها دفوف وصفائح من
ذهب وفضة، وفي كلّ زاوية بابان وأبواب وستور من حرير، وغير ذلك مما هو
مشروح في التوراة. وبعمل تابوت من خشب الشمشاد طول ذراعين ونصف في عرض
ذراعين في ارتفاع ذراع ونصف مصفّحا بالذهب الخالص من داخل وخارج، وله
أربع حلق في أربع زوايا، وعلى حافته كروبيّان من ذهب يعنون مثالي ملكين
بأجنحة ويكونان متقابلين، وان يصنع ذلك كله فلان شخص معروف من بني
إسرائيل. وأن يعمل مائدة من خشب الشمشاد طول ذراعين في عرض ذراع ونصف
بطناب ذهب، وإكليل ذهب، بحافة مرتفعة باكليل ذهب، وأربع حلق ذهب في
أربع نواحيها مغروزة في مثل الرّمانة من خشب ملبّس ذهبا، وصحافا ومصافي
وقصاعا على المائدة كلها من ذهب. وان يعمل منارة من ذهب، بست قصبات من
كلّ جانب ثلاث وعلى كل قصبة ثلاث سرج، وليكن في المنارة أربعة قناديل،
ولتكن هي وجميع آلاتها من قنطار من ذهب. وأن يعمل مذبحا للقربان، ووصف
ذلك كله في التوراة بأتم وصف.
ونصبت هذه القبّة أول يوم من فصل الربيع ونصب فيها تابوت الشهادة وتضمن
هذا الفصل في التوراة من الأحكام والشرائع في القربان والنحور وأحوال
هذه القبّة كثيرا وفيها: أنّ قبة القربان كانت موجودة قبل عبادة أهل
العجل، وأنها كانت كالكعبة يصلّون إليها وفيها، ويتقرّبون عندها، وأنّ
أحوال القربان كانت كلها راجعة إلى هارون عليه السلام بعهد الله إلى
موسى بذلك، وأنّ موسى صلوات الله عليه كان إذا دخلها يقفون حولها وينزل
عمود الغمام على بابها، فيخرون عند ذلك سجّدا للَّه عز وجل، ويكلم الله
موسى عليه السلام من ذلك العمود الغمام الّذي هو نور ويخاطبه ويناجيه
وينهاه، وهو واقف عند التابوت صامد لما بين ذينك الكروبيّين. فإذا فصل
(2/96)
الخطاب يخبر بني إسرائيل بما أوحاه إليه من
الأوامر والنواهي، وإذا تحاكموا إليه في شيء ليس عنده من الله فيه
بشيء، يجيء إلى قبّة القربان، ويقف عند التابوت، ويصمد لما بين ذينك
الكروبيين فيأتيه الخطاب بما فيه فصل تلك الخصومة.
ولما نجا بنو إسرائيل ودخلوا البرية عند سينا أول المصيف لثلاثة أشهر
من خروجهم من مصر، وواجهوا جبال الشام وبلاد بيت المقدس التي وعدوا بها
أنّ تكون ملكا لهم على لسان إبراهيم وإسحاق ويعقوب صلوات الله عليهم
بمسيرهم إليها، وأتوه بإحصاء بني إسرائيل من يطيق حمل السلاح منهم من
ابن عشرين فما فوقها فكانوا ستمائة ألف أو يزيدون، وضرب عليهم الغزو
ورتب المصاف والميمنة والميسرة، وعين مكان كل سبط في التعبية وجعل فيه
التابوت والمذبح في القلب، وعين لخدمتها بني لاوى من أسباطهم، وأسقط
عنهم القتال لخدمة القبّة، وسار على التعبية سالكا على برية فاران،
وبعثوا منهم اثني عشر نقيبا من جميع الأسباط فأتوهم بالخبر عن
الجبارين.
كان منهم كالب بن يوفنّا بن حصرون بن بارص بن يهوذا بن يعقوب، ويوشع بن
نون بن أليشامع بن عميهون بن بارص بن لعدان بن تاحن بن تالح بن أراشف
بن رافح بن بريعا بن أفرايم بن يوسف بن يعقوب، فاستطابوا البلاد
واستعظمو العدوّ من الكنعانيين والعمالقة، ورجعوا إلى قومهم يخبرونهم
الخبر وخذلوهم، إلا يوشع وكالب فقالا لهم ما قالا وهما الرجلان اللذان
أنعم الله عليهما. وخامر بنو إسرائيل عن اللقاء، وأبوا من السير الى
عدوّهم، والأرض التي ملكهم الله، إلى أن يهلك الله عدوهم على غير
أيديهم.
فسخط الله ذلك منهم وعاقبهم بأن لا يدخل الأرض المقدّسة أحد من ذلك
الجيل إلا كالبا ويوشع. وإنما يدخلها أبناؤهم والجيل الّذي بعدهم،
فأقاموا كذلك أربعين سنة في برية سينا وفاران، يتردّدون حوالي جبال
الشراة، وأرض ساعير، وأرض بلاد الكرك والشوبك، وموسى صلوات الله عليه
بين ظهرانيهم يسأل الله لطفه بهم ومغفرته ويدفع عنهم مهالك سخطه، وشكوا
الجوع، فبعث الله لهم المنّ حبات بيض منتشرة على الأرض مثل ذرير
الكزبرة، فكانوا يطحنونه ويتخذون منه الخبز لأكلهم. ثم قرموا إلى اللحم
فبعث لهم السلوى طيرا يخرج من البحر، وهو طير السماني، فيأكلون منه،
ويدّخرون ثم طلبوا الماء، فأمر أن يضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا
عشرة عينا، وأقاموا على ذلك ثم ارتاب واحد منهم اسمه فودح بن
(2/97)
يصهر بن قاهث، وهو ابن عم موسى بن عمران بن
قاهث، فارتاب هو وجماعة منهم من بني إسرائيل بشأن موسى، واعتمدوا
مناصبته فاصابتهم قارعة وخسفت بهم وبه الأرض وأصبحوا عبرة للمعتبرين.
واعتزم بنو إسرائيل على الاستقالة مما فعلوه والزحف إلى العدوّ، ونهاهم
موسى عن ذلك فلم ينتهوا وصعدوا جبل العمالقة فحاربهم أهل ذلك الجبل
فهزموهم وقتلوهم في كل وجه. فأمسكوا وأقام موسى على الاستغفار لهم،
فأرسل إلى ملك أدوم يطلب الجواز عليه إلى الأرض المقدّسة فمنعهم، وحال
دون ذلك.
ثم قبض هارون صلوات الله عليه لمائة وثلاثة وعشرين سنة من عمره،
ولأربعين سنة من يوم خروجهم من مصر، وحزن له بنو إسرائيل لأنه كان شديد
الشفقة عليهم، وقام بأمره الّذي كان يقوم به ابنه العيزار [1] ، ثم زحف
بنو إسرائيل الى بعض ملوك كنعان، فهزموهم وقتلوهم وغنموا ما أصابوا
معهم، وبعثوا الى سيحون ملك العموريين من كنعان في الجواز في أرضه إلى
الأرض المقدّسة فمنعهم وجمع قومه وغزا بني إسرائيل في البرية، فحاربوه
وهزموه وملكوا بلاده الى حدّ بني عمّون، ونزلوا مدينته وكانت لبني
مؤاب. وتغلب عليها سيحون. ثم قاتلوا عوجا وقومه من كنعان وهو المشهور
بعوج بن عوق، وكان شديد البأس فهزموه وقاتلوه وبنيه وأثخنوا في أرضه،
وورثوا أرضهم الى الأردن بناحية أريحا. وخشي ملك بني مؤاب من بني
إسرائيل، واستجاش بمن يجاوره من بني مدين وجمعهم، ثم أرسل إلى بلعام بن
باعورا وكان ينزل في التخم بين بلاد بني عمّون وبني مؤاب، وكان مجاب
الدعوة معبّرا للأحلام. واستدعاه ليستعين بدعائه، وأتاه الوحي بالنهي
عن الدعاء، وألحّ عليه ذلك الملك وأصعده إلى الأماكن الشاهقة، وأراه
معسكر بني إسرائيل منها، فدعا لهم وأنطقه الله بظهورهم وانهم يملكون
الى الموصل. ثم تخرج أمّة من أرض الروم فيغلبون عليهم، فغضب الملك
وانصرف بلعام إلى بلاده.
وفشا في بني إسرائيل الزنا ببنات مؤاب ومدين فأصابهم الموتان، فهلك
منهم أربعة وعشرون ألفا. ودخل فنحاص بن لعزرا على رجل من بني إسرائيل
في خيمته ومعه امرأة من بني مدين قد أدخلها للزنا بمرأى من بني
إسرائيل، فطعنها برمحه وانتظمها وارتفع الموتان عن بني إسرائيل. ثم أمر
الله موسى وألعازر بن هارون بإحصاء بني
__________
[1] وفي التوراة اسمه: اليعازر.
(2/98)
إسرائيل بعد فناء الجيل الّذي أحصاهم موسى
وهارون ببرية سينا، وانقضاء الأربعين سنة التي حرم الله عليهم فيها
دخول تلك الأرض، وان يبعث بعثا من بني إسرائيل الى مدين الذين أعانوا
بني مؤاب، فبعث اثني عشر ألفا من بني إسرائيل وعليهم فنحاص بن العيزر
بن العزر بن هارون، فحاربوا بني مدين وقتلوا ملوكهم وسبوا نساءهم
وملكوا أموالهم، وقسم ذلك في بني إسرائيل بعد أن أخذ منه للَّه، وكان
فيمن قتل بلعام بن باعورا. ثم قسّم الأرض التي ملك من بني مدين
والعموريين وبني عمّون وبني مؤاب، ثم ارتحل بنو إسرائيل ونزلوا شاطئ
الأردن، وقال الله قد ملكتكم ما بين الأردن والفرات كما وعدت آباءكم.
ونهوا عن قتال عيصو الساكنين ساعير وبني عمّون وعن أرضهم. وأكمل الله
الشريعة والأحكام والوصايا لموسى عليه السلام، وقبضه إليه لمائة وعشرين
سنة من عمره، بعد أن عهد إلى فتاه يوشع أن يدخل ببني إسرائيل إلى الأرض
المقدّسة ليسكنوها، ويعملوا بالشريعة التي فرضت عليهم فيها، ودفن
بالوادي في أرض مؤاب ولم يعرف قبره لهذا العهد.
وقال الطبريّ: مدّة عمر موسى صلوات الله عليه مائة وعشرون سنة، منها في
أيام أفريدون عشرون، ومنها في أيام منوجهر مائة. قال: ثم سار يوشع من
بعد موسى إلى أريحا، فهزم الجبارين ودخلها عليهم. وقال السدّي: إنّ
يوشع تنبّأ بعد موسى، وسار إلى أريحا فهزم الجبّارين، ودخلها عليهم،
وأن بلعام بن باعورا كان مع الجبارين يدعو على يوشع، فلم يستجب له،
وصرف دعاؤه على الجبّارين. وكان بلعام من قرى البلقاء، وكان عنده الاسم
الأعظم، فطلبه الكنعانيون في الدعاء على بني إسرائيل فامتنع، وألحّوا
عليه فأجاب، ودعا فصرف دعاؤه، وكان قيامه للدّعاء على جبل حسّان مطلا
على عسكر بني إسرائيل، هذا خبر السدّي في أنّ دعاء بلعام كان لعهد
يوشع. والّذي في التوراة أنّه كان لعهد موسى، وأنّ بلعام قتل لعهد موسى
كما مرّ في خبر الطبريّ.
وقال السدّي: إنّ يوشع بعد وفاة موسى صلوات الله عليه أمر أن يعبر،
فسار ومعه التابوت تابوت الميثاق، حتى عبر الأردن، وقاتل الكنعانيين
فهزمهم، وأنّ الشمس جنحت للغروب يوم قتالهم ودعا الله يوشع فوقفت الشمس
[1] حتى تمت عليهم
__________
[1] وفي الطبري ج 1 ص 228: فقاتلهم يوشع يوم الجمعة قتالا شديدا حتى
أمسوا وغربت الشمس ودخل السبت فدعا الله فقال للشمس: انك في طاعة الله
وانا في طاعة الله اللَّهمّ اردد عليّ الشمس فردّت عليه الشمس.
(2/99)
الهزيمة، ثم نازل أريحاء ستة أشهر [1] ،
وفي السابع نفخوا في القرون، وضج الشعب ضجة واحدة، فسقط سور المدينة
فاستباحوها وأحرقوها. وكمل الفتح واقتسموا بلاد الكنعانيين كما أمرهم
الله. هذا مساق الخبر عن سيرة موسى صلوات الله عليه وبني إسرائيل أيام
حياته وبعد مماته حتى ملكوا أريحا.
وفي كتب الأخباريين أن العمالقة الذين كانوا بالشام قاتلهم يوشع فهزمهم
وقتل آخر ملوكهم وهو السميدع بن هوبر بن مالك. وكان لقاؤهم إياه مع بني
مدين في أرضهم وفي ذلك يقول عوف بن سعد الجرهميّ:
ألم تر أنّ العلقميّ بن هوبر ... بأيلة أمسى لحمه قد تمزّعا
ترامت عليه من يهود جحافل ... ثمانون ألفا حاسرين ودرعا
ذكره المسعودي وقد تقدّم لنا خلاف النسّابة في هؤلاء العمالقة وأنهم
لعمليق بن لاوذ أو لعمالق بن أليفاز بن عيصو الثاني، لنسابة بني
إسرائيل سار إليه علماء العرب. وأما الأمم الذين كانوا بالشام لذلك
العهد، فأكثرهم لبني كنعان. وقد تقدّمت شعوبهم، وبنو أروم أبناء عمّون،
وبنو مؤاب أبناء لوط، وثلاثتهم أهل يستعير [2] وجبال الشراة وهي بلاد
الكرك والشوبك والبلقاء، ثم بنو فلسطين من بني حام ويسمى ملكهم جالوت
وهو من الكنعانيين منهم، ثم بنو مدين ثم العمالقة. ولم يؤذن لبني
إسرائيل في غير بلاد الكنعانيين فهي التي اقتسموها وملكوها وصارت لهم
تراثا، وأما غيرها فلم يكن لهم فيها إلّا الطاعة والمغارم الشرعية من
صدقة وغيرها.
وفي كتب الأخباريين أنّ بني إسرائيل بعد ملكهم الشام، بعثوا بعوثهم إلى
الحجاز، ولك يومئذ أمّة من العمالقة يسمّون جاسم، وكان اسم ملكهم الإرم
بن الأرقم، وكان أوصاهم أن لا يستبقوا منهم من بلغ الحلم. فلما ظهروا
على العمالقة وقتلوا
__________
[1] يتفق ابن خلدون مع الطبري وابن الأثير حول المدة التي حاصر يوشع
مدينة أريحا ففي الطبري ج 1 ص 228 «فأحاط بمدينة أريحا ستة أشهر فلما
كان السابع نفخوا في القرون وضج الشعب ضجة واحدة فسقط سور المدينة» وفي
الكامل ج 1 ص 202 وقيل بل حصرها ستة أشهر فلما كان السابع تقدموا الى
المدينة وصاحوا صيحة واحدة فسقط السور» .
اما ابو الفداء فيذكر ان مدة حصار أريحا كانت ستة أيام ويوافق ذلك ما
ذكر في التوراة، الاصحاح السادس من سفر يوشع: «ان الحصار كان ستة أيام
وفي اليوم السابع سقط السور» .
[2] وفي نسخة اخرى: يسعير.
(2/100)
الأرقم، استبقوا ابنه وضنوا به عن القتل
لوضاءته. ولما رجعوا من بعد الفتح، وبّخهم إخوانهم ومنعوهم دخول الشام
وأرجعوهم إلى الحجاز، وما تملكوا من أرض يثرب، فنزلوها واستتم لهم فتح
في نواحيها، ومن بقاياهم يهود خيبر وقريظة والنضير.
قال ابن إسحاق قريظة والنضير والتحام وعمرو هو هزل من الخزرج. وقال ابن
الصريح: ابن التومان بن السبط بن أليسع بن سعد ابن لاوى بن النّمام بن
يتحوم بن عازر بن عزر بن هارون عليه السلام، واليهود لا يعرفون هذه
القصة وبعضهم يقول كان ذلك لعهد طالوت والله أعلم.
الخبر عن حكام بني إسرائيل بعد يوشع الى أن صار أمرهم إلى الملك وملك
عليهم طالوت
ولما قبض يوشع صلوات الله عليه بعد استكمال الفتح، وتمهيد الأمر، ضيّع
بنو إسرائيل الشريعة، وما أوصاهم به وحذرهم من خلافه، فاستطالت عليهم
الأمم الذين كانوا بالشام، وطمعوا فيهم من كل ناحية. وكان أمرهم شورى
فيختارون للحكم في عامتهم من شاءوا، ويدفعون للحرب من يقوم بها من
أسباطهم، ولهم الخيار مع ذلك على من يلي شيئا من أمرهم، وتارة يكون
نبيا يدبرهم بالوحي، وأقاموا على ذلك نحوا من ثلاثمائة سنة لم يكن لهم
فيها ملك مستفحل، والملوك تناوشهم من كل جهة، إلى أن طلبوا من نبيهم
شمويل أن يبعث عليهم ملكا، فكان طالوت، ومن بعده داود، فاستفحل ملكهم
يومئذ وقهروا أعداءهم، على ما يأتي ذكره بعد. وتسمّى هذه المدة بين
يوشع وطالوت مدّة الحكّام ومدّة الشيوخ.
وأنا الآن أذكر من كان فيها من الحكّام على التتابع معتمدا على الصحيح
منه، على ما وقع في كتاب الطبريّ والمسعودي، ومقابلا به ما نقله صاحب
حماة [1] من بني أيوب في تاريخه عن سفر الحكام والملوك من
الإسرائيليات، وما نقله أيضا هروشيوش مؤرّخ الروم في كتابه الّذي ترجمه
للحكم المستنصر من بني أمية قاضي النصارى وترجمانهم بقرطبة وقاسم بن
أصبغ. قالوا كلهم: لما فتح يوشع مدينة أريحاء سار إلى نابلس فملكها
ودفن هنالك شلو [2] يوسف عليه السلام، وكانوا حملوه معهم
__________
[1] يعني أبي الفداء
[2] يعني وفاة يوسف عليه السلام.
(2/101)
عند خروجهم من مصر. وقد ذكرنا انه كان أوصى
بذلك عند موته. وقال الطبريّ: إنّه بعد فتح أريحاء نهض الى بلد عاي من
ملوك كنعان، فقتل الملك وأحرق المدينة، وتلقاه خيقون ملك عمّان، وبارق
ملك أورشليم بالجزي واستذمّوا [3] بأمانه فأمنهم. وزحف إلى خيقون ملك
الأرمانيّين من نواحي دمشق فاستنجد بيوشع، فهزم يوشع ملك الأرمن إلى
حوران واستلحمهم وصلب ملوكهم، وتتبع سائر الملوك بالشام فاستباح منهم
واحدا وثلاثين ملكا. وملك قيساريّة، وقسم الأرض التي ملكها بين بني
إسرائيل، وأعطى جبل المقدس لكالب ابن يوفنّا فسكن مدينة أورشليم، وأقام
مع بني يهودا، ووضع القبّة التي فيها تابوت العهد والمذبح والمائدة
والمنارة على الصخرة التي في بيت المقدس. وأما بنو أفرايم فكانوا
يأخذون الجزية من الكنعانيين، ثم قبض يوشع وفي سفر الحكّام أنه قبض
لثمان وعشرين سنة من ملكه، وهو ابن مائة وعشرين سنة. وقال الطبريّ: ابن
مائة وستة وعشرين سنة. والأول أصح. قال: وكان تدبير يوشع لبني إسرائيل
في زمن منوشهر عشرين سنة، وفي زمن أفراسياب سبع سنين. وقال أيضا: إنّ
ملك اليمن شمر بن الأملوك من حمير كان لعهد موسى وبني ظفّار وأخرج منها
العمالقة. ويقال أيضا: كان من عمّال الفرس على اليمن. وزعم هشام بن
محمد الكلبي أن الفلّ من الكنعانيين بعد يوشع احتملهم أفريقش بن قيس بن
صيفي من سواحل الشام، في غزاته الى المغرب التي قتل فيها جرجيس الملك،
وأنه أنزلهم بإفريقية، فمنهم البربر وترك معهم صنهاجة وكتامة من قبائل
حمير انتهى.
وقام بأمر بني إسرائيل بعد يوشع كالب بن يوفنّا بن حصرون بن بارص بن
يهودا وقد مرّ نسبه، وكان فنحاص بن العيزر بن هارون كوهنا، يتولى أمر
صلاتهم وقربانهم، ثم تنبأ وتنبّأ أبوه العيزر وكان كالب مضعفا فأقاما
كذلك سبع عشرة سنة. وقال الطبريّ كان مع كالف في تدبيرهم حزقيل بن
يودي، ويقال له ولد العجوز لأنه ولد بعد أن كبرت أمّه وعقمت. وحدث عن
وهب بن منبّه أنّ حزقيل هذا دبّرهم بعد كالب ولم يقع لهذا ذكر في سفر
الحكّام. ثم بعد يوشع اجتمع بنو يهودا وبنو شمعون لحرب الكنعانيين،
فغلبوهم وقتلوهم، وفتحوا أورشليم وقتلوا ملكها، ثم فتحوا غزّة وعسقلان
وملكوا الجبل كله، ولم يقتلوا الغور. وأما سبط بنيامين فكان في قسمهم
__________
[3] اي دخلوا في ذمته.
(2/102)
بلد اليونانيين في أرضهم، وأخذوا منهم
الخراج واختلطوا بهم، وعبدوا آلهتهم فسلّط الله عليهم ملك الجزيرة
واسمه كوشان شقنائم، ومعناه أظلم الظالمين. ويقال إنه ملك الأرمن في
الجزيرة ودمشق وملك حوران وصيدا وحرّان ويقال والبحرين ويقال انه من
أدوم.
وقال الطبريّ: من نسل لوط فاستعبد بني إسرائيل ثمان سنين بعد وفاة كالب
بن يوفنّا، ثم ولي الحكم فيهم عثينئال ابن أخيه قنّاز ابن يوفنّا
فحاربهم كوشان هذا، وأزال ملكته عن بني إسرائيل، ثم حاربه فقتله وكان
له بعد ذلك حروب سائر أيامه مع بني مؤاب وبني عمّون أسباط لوط ومع
العماليق إلى أن هلك لأربعين سنة من دولته. ثم عبد بنو إسرائيل الأوثان
من بعده فسلّط الله عليهم ملك بني مؤاب واسمه عفلون، بعين مهملة ومعجمة
ساكنة ولام مضمومة تجلب واوا ساكنة ونون بعدها، فاستعبدهم ثماني عشرة
سنة. ثم قام بتدبيرهم أيهوذ بن كارا من سبط أفرايم، وقال ابن حزم: من
بنيامين، وضبطه بهمزة ممالة تجلب ياء ثم هاء مضمومة تجلب واوا ثم ذال
معجمة فأنقذهم من يد بني مؤاب وقتل ملكهم عفلون بحيلة تمت لهم في ذلك.
وهو أنه جاءه رسولا عن بني إسرائيل متنكرا بهدايا وتحف منهم حتى إذا
خلا به طعنه فأنفذه ولحق بمكانه من جبل أفرايم، ثم اجتمعوا ونزلوا
فقتلوا من الحرس نحوا من عشرة آلاف، وغلب ببني إسرائيل بني مؤاب
واستلحمهم وهلك لثمانين سنة من دولته.
وقام بتدبيرهم بعده شمكار بن عناث من سبط كاد، وضبطه بفتح الشين
المثلثة بعدها ميم ساكنة وكاف تقرب من مخرج الجيم ويجلب فتحها الفا
وبعدها راء مهملة، ومات لسنة من ولايته وبنو إسرائيل على حيالهم من
المخالفة، فسلّط الله عليهم ملك كنعان واسمه يافين، بفاء شفوية تقرب من
الباء، فسرّح إليهم قائده سميرا فملك عليهم أمرهم واستعبدهم عشرين سنة.
وكانت فيهم كوهنة امرأة متنبّئة اسمها دافورا بفاء هوائية تقرب من
الباء، وهي من سبط نفطالي، وقيل من سبط أفرايم، وقيل كان زوجها بارق
ابن أبي نوعم من سبط نفطالي واسمه البيدوق، فدعته إلى حرب سميرا فأبى
إلّا أن تكون معه فخرجت ببني إسرائيل، وهزموا الكنعانيين، وقتل قائدهم
سميرا وقامت بتدبيرهم أربعين سنة يرادفها زوجها بارق بن أبي نوعم. قال
هروشيوش: وعلى عهدها كان أول ملوك الروم الطينيين بأنطاكيّة بنقش بن
شطونش
(2/103)
وهو أبو القياصرة. ثم توفيت دافورا وبقي
بنو إسرائيل فوضى وعادوا إلى كفرهم فسلّط الله عليهم أهل مدين
والعمالقة.
قال الطبريّ: وبنو لوط الذين بتخوم الحجاز قهروهم سبع سنين، ثم تنبأ
فيهم من سبط منشى بن يوسف كدعون بن يواش، وضبطه بفتح الكاف القريبة من
الجيم وسكون الدال المهملة بعدها وعين مهملة مضمومة تجلب واوا وبعدها
نون، فقام بتدبيرهم. وقد كان لمدين ملكان أحدهما اسمه رابح والآخر
صلمناع، فبعث إلى بني إسرائيل عساكره مع قائدين عوديب وزديف، وأهمّ بني
إسرائيل شأنهم، فخرج بهم كدعون فهزموا بني مدين، وغنموا منهم أموالا
جمة، ومكثوا أيام كدعون هذا على استقامة في دينهم، وغلب لأعدائهم
أربعين سنة، وكان له من الولد سبعون ولدا، وعلى عهده بنيت مدينة طرسوس.
وقال جرجيس بن العميد:
وملطية أيضا. ولما هلك قام بتدبيرهم ولده أبو مليخ، وكانت أمّه من بني
شخام [1] ابن منشى بن يوسف من أهل نابلس، فانجدوه بالمال وقتل بني أبيب
كلهم ثم نازعوه بنو شخام أخواله الأمر، وطالت حروبه معهم، وهلك محاصرا
لبعض حصونهم بحجر طرحته عليه امرأة من السور فشدخه. فقال لصاحب سلاحه
أجهز عليّ لئلا يقال قتلته امرأة. وذلك لثلاث سنين من ولايته.
ثم دبّر أمرهم بعده طولاع بن فوا بن داود من سبط يساخر، وضبطه بطاء
قريبة من التاء تجلب ضمتها واوا ثم لام ألف ثم عين. وقال الطبريّ هو
ابن خال أبي مليخ وابن عمه. (قلت) : والظاهر أنه ابن خاله لأن سبط هذا
غير سبط ذاك. وقال ابن العميد: هو من سبط يساخر إلا أنه كان نازلا في
سائر من جبل أفراييم. فمن هنا والله أعلم وقع اللبس في نسبه، ودبّرهم
ثلاثا وعشرين سنة. قال هروشيوش: وعلى عهده كان بمدينة طرونيّة من ملوك
الروم اللطينيين برمامش بن بنقش. وملك ثلاثين سنة وقد مضى ذكره. ولما
هلك طولاع قام بتدبيرهم بعده يائير بن كلعاد من سبط منشى بن يوسف وضبطه
بياء مثناة تحتية مفتوحة وألف ثم همزة مكسورة بعدها ياء أخرى ثم راء
مهملة، وقام في تدبيرهم اثنتين وعشرين سنة، ونصب أولاده كلهم حكّاما في
بني إسرائيل وكانوا نحوا من ثلاثين، فلما هلك طغوا وعبدوا الأصنام،
__________
[1] وفي نسخة اخرى: سخام.
(1) وفي التوراة نفتالي.
(2/104)
فسلّط الله عليهم بني فلسطين وبني عمّون
فقهروهم ثماني عشرة سنة.
وقام بتدبيرهم يفتاح من سبط منشى، وضبطه بياء مثنّاة تحتانية وفاء
ساكنة وتاء مثناة من فوق بفتحة تجلب ألفا ثم حاء مهملة، فلما قام
بأمرهم طلب ضريبة النحل من بني عمّون فامتنعوا من إعطائها وكانوا ملوكا
منذ ثلاثمائة سنة، فقاتلهم وغلبهم عليها وعلى اثنتين وعشرين قرية معها،
ثم حارب سبط أفراييم وكانوا مستبدين وحدهم عن بني إسرائيل، فارادهم على
اتفاق الكلمة والدخول في الجماعة حتى استقاموا على ذلك، وأقام في
تدبيرهم ست سنين. وعلى عهده أصابت بلاد يونان المجاعة العظيمة التي هلك
فيها أكثرهم.
ولما هلك قام بتدبيرهم أبصان من سبط يهودا من بيت لحم، وضبطه بهمزة
مفتوحة وباء موحدة ساكنة وصاد مهملة بفتحة تجلب ألفا وبعدها نون، ويقال
أنه جدّ داود عليه السلام، بوعز بن سلمون بن نحشون بن عميناذاب بن رمّ
بن حصرون بن بارص بن يهودا. وحصرون هذا هو جدّ كالب بن يوفنّا الّذي
دبرهم بعد يوشع. ونحشون كان سيّد بني يهود العهد خروجهم من مصر مع موسى
عليه السلام، وهلك في التيه.
ودخل ابنه سلمون أريحا مع يوشع ونزل بيت لحم على أربعة أميال من بيت
المقدس.
قال هروشيوش: في أيام أبصان هذا كان انقراض ملك السريانيين، وخروج
القوط وحروبهم مع النبط.
وأقام أبصان في تدبير بني إسرائيل سبع سنين ثم ملك. فقام بتدبيرهم
إيلون من سبط زبولون وضبطه بهمزة مكسورة تجلب ياء ثم لام مضمومة تجلب
واوا ثم نون، فدبّرهم عشر سنين ثم هلك. فدبّرهم عبدون بن هلال من سبط
أفراييم ثمان سنين. وقال ابن العميد اسمه عكرون بن هليان وكان له
أربعون ابنا وثلاثون حافدا. قال هروشيوش: وفي أيامه خربت مدينة طرونة
قاعدة الروم اللطينيين خربها الروم الغريقيون [1] في فتنة بينهم. ولما
هلك عبدون دفن بأرض أفراييم في جبال العمالقة واختلف بنو إسرائيل بعده
وعبدوا الأصنام وسلّط الله عليهم بني فلسطين فقهروهم أربعين سنة، ثم
تخلصهم [2] من أيديهم شمشون بن مانوح من سبط دان، ويعرف بشمشون القوي
لفضل قوّة كانت في يده ويعرف أيضا بالجبّار
__________
[1] يعني الروم الاغريقيين.
[2] الأصح أن يقول «خلّصهم» .
(2/105)
وكان عظيم سبطه، ودبّر بني إسرائيل عشر
سنين بل عشرين سنة، وكثرت حروبه مع بني فلسطين، وأثخن فيهم وأتيح لهم
عليه في بعض الأيام فأسروه ثم حملوه وحبسوه. واستدعاه ملكهم بعض الأيام
الى بيت آلهتهم ليكلمه فامسك عمود البيت، وهزه بيده فسقط البيت على من
فيه وماتوا جميعا.
ولما هلك اضطربت بنو إسرائيل وافترقت كلمتهم وانفرد كل سبط بحاكم
يولونه منهم، والكهنونية فيهم جميعا في عقب العيزار بن هارون من لدن
وفاة هارون عليه السلام بتوليته موسى صلوات الله عليه بالوحي، ومعنى
الكهنونية إقامة القرابين من الذبح والبخور على شروطها وأحكامها
الشرعية عندهم. وقال ابن العميد: إنه ولي تدبيرهم بعد شمشون حاكم آخر
اسمه ميخائيل بن راعيل، دبرهم ثمان سنين، ولم تكن طاعته فيهم مستحكمة،
وأنّ الفتنة وقعت بين بني إسرائيل ففني فيها سبط بنيامين عن آخرهم.
ثم سكنت الفتنة وكان الكوهن فيهم لذلك العهد عالي بن بيطات بن حاصاب بن
إليان بن فنحاص بن العيزار بن هارون، وقيل من ولد ايتامار بن هارون،
وضبطه بعين مهملة مفتوحة تجلب ألفا ثم لام مكسورة تجلب ياء تحتانية.
فلما سكنت الفتنة كانوا يجرعون إليه في أحكامهم وحروبهم. وكان له ابنان
عاصيان، فدفعهما إلى ذلك، وكثر لعهده قتال بني فلسطين، وفشا المنكر من
ولديه، وأمر بدفعهم عن ذلك فلم يزدادوا إلّا عتوا وطغيانا، وأنذر
الأنبياء بذهاب الأمر عنه وعن ولده، ثم هزمهم بنو فلسطين في بعض أيامهم
وأصابوا منهم، فتذامر بنو إسرائيل، واحتشدوا وحملوا معهم تابوت العهد،
ولقيهم بنو فلسطين، فانهزم بنو إسرائيل أمامهم وقتلوا ابنا عالي كوهن
كما أنذر به أبو هما وشمويل. وبلغ أبا هما الكوهن خبر مقتلهما فمات
أسفا لأربعين سنة من دولته، وغنم بنو فلسطين التابوت فيما غنموه،
واحتملوه إلى بلادهم بعسقلان وغزّة، وضربوا الجزية على بني إسرائيل،
ولما مضى القوم بالتابوت فيما حكى الطبريّ، وضعوه عند آلهتهم فقلاها
مرارا فأخرجوه إلى ناحية من القرية، فأصيبوا فتبادروا بإخراجه وحملوه
على بقرتين لهما تبيعان ووضعتاه عند أرض بني إسرائيل، ورجعتا إلى
ولديهما وأقبل إليه بنو إسرائيل فكان لا يدنوا منه أحد إلا مات حتى أذن
شمويل لرجلين منهم حملاه إلى بيت أمهما وهي أرملة فكان لك حتى ملك
طالوت أهـ. وكان ردّهم التابوت لسبعة أشهر من يوم حملوه، وكان عالي
الكوهن
(2/106)
قد كفل ابن عمه شمويل بن الكنا بن يوام بن
إلياهد بن ياو بن سوف. وسوف هو أخو حاصاب بن البلى بن يحاص.
وقيل إن شمويل من عقب فورح وهو قارون بن يصهار بن قاهاث بن لاوى. ونسبه
إليه شمويل بن الفنا بن يروحام بن اليهوذ بن يوحا بن صوب بن ألقافا بن
يويل بن عزير ابن صنعينا بن ثاحت بن أسر بن القانا بن النشاسات بن
قارون. وكانت أمه نذرت أن تجعله خادما في المسجد، وألقته لك فكفله عالي
وأوصى له بالكهونية، ثم أكرمه الله بالنّبوّة، وولاه بنو إسرائيل
أحكامهم فدبرهم عشر سنين. وقال جرجيس بن العميد: عشرين سنة ونهاهم عن
عبادة الأوثان فانتهوا وحاربوا أهل فلسطين واستردّوا ما كانوا أخذوا
لهم من القرى والبلاد، واستقام أمرهم ثم دفع الأمر الى ابنيه يؤال
وأبيا، وكانت سيرتهما سيئة. فاجتمع بنو إسرائيل الى شمويل، وطلبوه أن
يسأل الله في ولاية ملك عليهم، فجاء الوحي بولاية طالوت. فولاه وصار
أمر بني إسرائيل ملكا بعد أن كان مشيخة، والله معقب الأمر بحكمته لا رب
غيره.
(2/107)
الخبر عن ملوك بني إسرائيل بعد الحكام ثم
افتراق أمرهم والخبر عن دولة بني سليمان بن داود على السبطين يهوذا
وبنيامين بالقدس الى انقراضها
لما نقم بنو إسرائيل على يؤال وأبيا ابني شمويل ما نقموا من أمورهم،
واجتمعوا إلى شمويل، وسألوه من الله أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه
أعداءهم ويجمع نشرهم ويدفع الذل عنهم، فجاء الوحي بأن يولي الله طالوت
ويدهنه بدهن القدس، فأبوا بعد أن أمر شمويل بأن يستهموا عليه، فاستهموا
على بني آبائهم، فخرج السهم على طالوت وكان أعظمهم جسما فولوه، واسمه
عند بني إسرائيل شاول بن قيس بن أفيل، بالفاء الهوائية القريبة من
الباء، ابن صاروا بن نحورت بن أفياح، فقام بملكهم، واستوزر أفنين ابن
عمه نير بن أفيل. وكان لطالوت من الولد يهوناتان وملكيشوع وتشبهات
وأنبياداف. وقام طالوت بملك بني إسرائيل، وحارب أعداءهم من بني فلسطين
وعمون ومؤاب والعمالقة ومدين فغلب جميعهم، ونصر بنو إسرائيل نصرا لا
كفاء له. وأوّل من زحف إليهم ملك بني عمّون ونازل قرية بلقاء فهجم
عليهم طالوت، وهو في ثلاثمائة ألف من بني إسرائيل فهزمهم واستلحمهم، ثم
أغزى ابنه في عساكر بني إسرائيل الى فلسطين فنال منهم، واجتمعوا لحرب
بني إسرائيل فزحف إليهم طالوت وشمويل فانهزموا واستلحمهم بنو إسرائيل،
وأمر شمويل أن يسير إلى العمالقة وأن يقتلهم ودوابهم ففعل، واستبقى
ملكهم أعّاع مع بعض الأنام، فجاء الوحي الى شمويل بأنّ الله قد سخطه
وسلبه الملك فخبره بذلك، وهجره شمويل فلم يره بعد.
وأمر شمويل أن يقدس داود، وبعث له بعلامته فسار إلى بني يهوذا في بيت
لحم، وجاء به أبوه أيشا فمسحه شمويل، وسلب طالوت روح الجسد، وحزن لذلك
ثم قبض شمويل وزحف جالوت وبنو فلسطين الى بني إسرائيل فبرز إليهم طالوت
في العساكر وفيهم داود بن إيشا من سبط يهوذا، وكان صغيرا يرعى الغنم
لأبيه، وكان يقذف بالحجارة في مخلاته فلا تكاد تخطىء. قال الطبريّ:
وكان شمويل قد أخبر طالوت بقتل جالوت، وأعطاه علامة قاتلة، فاعترض بني
إسرائيل حتى رأى
(2/109)
العلامة فيه فسلمه وأقام في المصاف. وقد
احتمل الحجارة في مخلاته، فلما عاين جالوت قذفه بحجارة فصكّه في رأسه
ومات، وانهزم بنو فلسطين، وحصل النصر.
فاستخلص طالوت حينئذ داود وزوّجه ابنته، وجعله صاحب سلاحه، ثم ولاه على
الحروب فاستكفى به. وكان عمره حينئذ فيما قال الطبريّ ثلاثين سنة.
وأحبه بنو إسرائيل، واشتملوا عليه، وابتلي طالوت وبنوه بالغيرة منه،
وهمّ بقتله ونفذ لذلك مرارا، ثم حمل ابنه يهونتان على قتله، فلم يفعل
لخلة ومصافاة كانت بينهما ودس إلى داود بدخيلة أبيه فيه، فلحق بفلسطين
وأقام فيهم أياما، ثم إلى بني مؤاب كذلك، ثم رجع الى سبطه يهوذا بنواحي
بيت المقدس، فأقام فيهم يقاتل معهم بني فلسطين في سائر حروبهم، حتى إذا
شعر به طالوت طلب بني يهوذا بإسلامه اليه، فأبوا فزحف إليهم فأخرجوه
عنهم، ولحق ببني فلسطين وقاتلهم طالوت في بعض الأيام فهزموه، واتبعوه
وأولاده يقاتلون دونه حتى قتل يهونتان ومشوى وملكيشوع وبنو فلسطين في
اتباعه حتى إذا أيقن بالهلكة قتل نفسه بنفسه. وذلك فيما قال الطبريّ
لأربعين سنة من ملكه.
ثم جاء داود إلى بني يهوذا فملكوه عليهم، وهو داود بن إيشا بن عوفذ،
بالفاء الهوائية، ابن بوغر واسمه أفصان بالفاء، الهوائية والصاد
المشمة. وقد قدّمنا ذكره في حكّام بني إسرائيل بن سلمون الّذي نزل بيت
لحم لأوّل الفتح ابن نحشون سيد بني يهوذا عند الخروج من مصر ابن
عميناذاب بن إرم بن حصرون بن بارص بن يهوذا، هكذا نسبه في كتاب اليهود
والنصارى، وأنكره ابن حزم قال: لأن نحشون مات بالتيه وإنما دخل القدس
ابنه سلمون، وبين خروج بني إسرائيل من مصر وملك داود ستمائة سنة باتفاق
منهم، والّذي بين داود ونحشون أربعة آباء، فإذا قسمت الستمائة عليهم
يكون كل واحد منهم إنما ولد له بعد المائة والثلاثين سنة وهو بعيد.
ولما ملك داود على بني يهوذا نزل مدينتهم حفرون بالفاء الهوائية، وهي
قرية الخليل عليه السلام لهذا العهد، واجتمع الأسباق كلهم إلى يشوشات
بن طالوت، فملكه في أورشليم وقام بأمره وزير أبيه أفيند وقد مرّ نسبه.
وفي كتاب أسفار الملوك من الإسرائيليات أنّ رجلا جاء الداود بعد وفاة
طالوت، فأخبره بمهلكه ومهلك أولاده في هزيمتهم أمام بني فلسطين، وأمر
هذا الرجل أن يقتله لما أدركوه، فقتله وجاء بتاجه ودملجه إلى داود،
وانتسب الى العمالقة، فقتله
(2/110)
داود بقتله، وبكى على طالوت، وذهب الى سبط
يهوذا بأرض حفرون بالفاء القريبة من الباء، وهي قرية الخليل لهذا
العهد، وأقام شيوشيات [1] بن طالوت في أورشليم، والأسباط كلهم مجتمعون
عليه، وأقامت الحرب بينهم وبين داود أكثر من سنتين، ثم وقع الصلح بينهم
والمهادنة، وأذعن الأسباط الى داود وتركوه، ثم اغتاله بعض قواده وجاء
برأسه الى داود فقتله به. وأظهر عليه الحزن والأسف وكفل أخواته وبنيه
أحسن كفالة.
واستبدّ داود بملك بني إسرائيل لثلاثين سنة من عمره وقاتل بني كنعان
فغلبهم، ثم طالت حروبه مع بني فلسطين، واستولى على كثير من بلادهم،
ورتب عليهم الخراج. ثم حارب أهل مؤاب وعمّون وأهل أدوم وظفر بهم وضرب
عليهم الجزية، ثم خرّب بلادهم بعد ذلك، وضرب الجزية على الأرمن بدمشق
وحلب، وبعث العمّال لقبضها. وصانعه ملك انطاكية بالهدايا والتحف، واختط
مدينة صهيون وسكنها واعتزم على بناء مسجد في مكان القبة التي كانوا
يضعون بها تابوت العهد ويصلون إليها. فأوحى الله الى دانيال نبيّ على
عهده أنّ داود لا يبني وانما يبنيه ابنه ويدوم ملكه فسرّ داود بذلك. ثم
انتقض عليه ابنه ابشلوم، وقتل أخاه أمون غيرة منه على شقيقه بأمان
وهرب. ثم استماله داود ورده، وأهدر دم أخيه وصيّر له الحكم بين الناس.
ثم رجع ثانيا لأربع سنين بعدها وخرج معه سائر الأسباط، ولحق داود
بأطراف الشام وقيل لحق بخيبر وما إليها من بلاد الحجاز، ثم تراجع للحرب
فهزمه داود وأدركه يؤاب وزير داود وقد تعلق بشجرة فقتله، وقتل في
الهزيمة عشرون ألف من بني إسرائيل، وسيق رأس قشلوط لوليّ أبيه داود
فبكى عليه وحزن طويلا، واستألف الأسباط ورضي عنهم ورضوا عنه. ثم أحصى
بني إسرائيل فكانوا ألف ألف ومائة ألف، وسبط يهوذا أزيد من أربعمائة
ألف. وعوتب في الوحي لأنه أحصاهم بغير اذن، وأخبره بذلك بعض الأنبياء
لعهده.
وأقام داود صلوات الله عليه في ملكه والوحي يتتابع عليه، وسور الزبور
تنزل. وكان يسبح بالأوتار والمزامير، وأكثر المزامير المنسوبة إليه في
ذكر التسبيح وشأنه. وفرض على الكهنونية من سبط لاوى التسبح بالمزامير
قدّام تابوت العهد اثني عشر كوهنا لكلّ
__________
[1] وهكذا بالأصل. وفي مكان آخر يشوشات وفي الشجرة: أشوشان.
(2/111)
ساعة. ثم عهد عند تمام أربعين سنة من دولته
لابنه سليمان صلوات الله عليهما، ومسحه مابان النبي وصادوق الخبر مسحة
التقديس، وأوصى ببناء بيت المقدس.
ثم قبض صلوات الله عليه ودفن في بيت لحم، وكان لعهده من الأنبياء نامان
وكاد وآصاف. وكان الكهنون الأعظم افيثار بن أحيلج من عقب عالي الكوهن
الّذي ذكرناه في الحكام، وكان من بعده صادوق.
ثم قام بالملك من بعده من بني إسرائيل ابنه سليمان صلوات الله عليه وهو
ابن اثنتين وعشرين سنة، فاستفحل ملكه وغالب الأمم، وضرب الجزية على
جميع ملوك الشام مثل فلسطين وعمون وكنعان ومؤاب وأدوم والأرمن، وأصهر
إليه لملوك من كل ناحية ببناتهم، وكان ممن تزوّج بنت فرعون مصر. وكان
وزيره يؤاب بن نيثرا وهو ابن أخت داود اسمها صوريا، وكان وزيرا لداود
فلما ولي سليمان استوزره فقام بدولته ثم قتله بعد ذلك، واستوزر يشوع بن
شيداح [1] ، ولأربع سنين من ملكه شرع في بيت المقدس بعهد أبيه إليه
بذلك، فلم يزل إلى آخر دولته بعد ان هدم مدينة انطاكية وبنى مدينة تدمر
في البرية وبعث إلى ملك صور ليعينه في قطع الخشب من لبنان، وأجرى على
الفعلة فيه في كل عام عشرين ألف كرّ [2] من الطعام ومثلها من الزيت
ومثلها من الخمر. وكان الفعلة في لبنان سبعين ألفا ولنحت الحجارة
ثمانين ألفا وخدمة المناولة سبعون ألفا، وكان الوكلاء والعرفاء على ذلك
العمل ثلاثة آلاف وثلاثمائة رجل.
ثم بنى الهيكل وجعل ارتفاعه مائة ذراع في طول ستين وعرض عشرين. وجعل
بدائرة كله أروقة وفوقها مناظر، وجعل بدائر البيت ابريدا من خارج،
ونمقه وجعل الظهر مقوّرا ليودع فيه تابوت العهد. وصفّح البيت من داخله
وسقفه بالذهب، وصنع في البيت كروبيين من الخشب مصفحتين بالذهب وهما
تمثالان للملائكة الكروبيين، وجعل للبيت أبوابا من خشب الصنوبر، ونقش
عليها تماثيل من الكروبيين والنرجس والنخل والسوسن وغشاها كلها بالذهب.
وأتمّ بناء الهيكل في سبع سنين، وجعل لها بابا من ذهب، ثم بنى بيتا
لسلاحه أقامه على أربعة صفوف من العمد من خشب الصنوبر في كل صف خمسة
عشر عمودا، ووضع فيه مائتي
__________
[1] وفي التوراة: يشوع بن شيراخ.
[2] الكرّ: مكيال قيل انه أربعون اردبا (قاموس) .
(2/112)
ترس من الذهب، في كل ترس ستمائة من حجر
الجوهر والزمرد، وثلاثمائة درقة من الذهب، في كل درقة ثلاثمائة من حجر
الياقوت، وسمى هذا البيت غيضة لبنان.
وصنع منبرا لجلوسه تحت رواق وكراسي كثيرة كلها من العاج ملبسة من
الذهب. ثم بنى من فوق هذا البناء بيتا لابنة فرعون التي تزوج بها، وصنع
بها أوعية النحاس لسائر ما يحتاج إليه بالبيت، واسترضى الصناع لذلك من
مدينة صور. وعمل مذبح القربان بالبيت من الذهب، ومائدة الخبز الوجوه من
الذهب، وخمس منابر عن بمين الهيكل، وخمسا عن يساره بجميع آلاتها من
الذهب، ومجامر من الذهب.
وأحضر موروث أبيه من الذهب والفضة والأوعية الحسنة فأدخلها إلى البيت،
وبعث إلى تابوت العهد من صهيون قرية داود إلى البيت الّذي بناه له،
فحمله رؤساء الأسباط والكهنونية على كواهلهم حتى وضعوه تحت أجنحة
التمثالين للكروبيين بالمسجد. وكان في التابوت اللوحان من الحجارة
اللذين صنعهما موسى عليه السلام بدل الألواح المنكسرة، وحملوا مع تابوت
العهد قبة القربان وأوعيتها إلى المسجد.
وأقام سليمان أمام المذبح يدعو في يوم مشهود، اتخذ فيه وليمة لذلك ذبح
فيها اثنتين وعشرين ألفا من البقر، ثم كان يقرّب ثلاث مرات من السنة
قرابين وذبائح كاملة، ويبخر البخور وجميع الأوعية لذلك كلها ذهب. وكانت
جبايته في كل سنة ستمائة قنطار وستة وستون قنطارا من الذهب، غير
الهدايا والقربان إلى بيت المقدس.
وكانت له سفن بحر الهند تجلب الذهب والفضة والبضائع والفيلة والقرود
والطواويس، وكانت له خيل كثيرة مرتبة تجلب من مصر وغيرها تبلغ الفا
وستمائة فرس معدة كلها للحرب. وكانت له ألف امرأة لفراشه ما بين حرة
وسرية منها ثلاثمائة سرية. وفي الأخبار للمؤرخين أنه تجهز للحج فوافى
الحرم واقام به ما شاء الله، وكان يقرب كل يوم خمسة آلاف بدنة وخمسة
آلاف بقرة وعشرين ألف شاة. ثم سما إلى ملك اليمن وسار إليه فوافى صنعاء
من يومه، وطلب الهدهد لالتماس الوضوء، وكانت قناقنه أي ملتمس الوضوء له
في الأرض فافتقده، ورجع إليه بخبر بلقيس كما قصه القرآن. ودافعته
بالهدية فلم يقبلها، فلاذت بطاعته ودخلت في دينه وطاعته، وملكته أمرها
ووافته بملك اليمن، وأمرها بأن تتزوج فنكرت ذلك لمكان الملك فقال لا
بدّ في الدين من ذلك. فقالت زوّجني ذا تبّع ملك همدان فزوّجها إياه
وملكه على اليمن واستعملها فيه ورجع إلى الشام. وقيل تزوّجها وأمر
الجنّ فبنوا لها سليمين
(2/113)
وغمدان. وكان يزورها في الشهر مرّة يقيم
عندها ثلاثا، وعلماء بني إسرائيل ينكرون وصوله إلى الحجاز واليمن،
وإنما ملك اليمن عندهم بمراسلة ملكة سبإ، وانها وفدت عليه في أورشليم،
وأهدت إليه مائة وعشرين قنطارا من الذهب، ولؤلؤا وجوهرا وأصنافا من
الطيب والمسك والعنبر فأجازها وأحسن إليها. وانصرفت، هكذا في كتاب
الأنساب من كتبهم.
ثم انتقض على سليمان آخر أيامه هدرور ملك الأرمن بدمشق، وهداد ملك
أدوم، وكان قد ولى على ضواحي بيت المقدس وجميع أعماله يربعان بن نباط
من سبط أفرايم، واستكفى به في ذلك، وكان جبارا فعوتب بالوحي على لسان
أخيا النبي في توليته فأراد قتله، وشعر بذلك يربعان فهرب إلى مصر،
فأنكحه فرعون ابنته وولدت له ابنه ناباط وأقام بمصر.
وقبض سليمان صلوات الله عليه لأربعين سنة من ملكه، وقيل اثنتين وخمسين،
ودفن عند أبيه داود صلوات الله عليهما. وافترق ملك بني إسرائيل من بعده
كما نذكره إن شاء الله تعالى.
(2/114)
الخبر عن افتراق بنى إسرائيل منهم ببيت
المقدس على سبط يهوذا وبنيامين الى انقراضه
لما قبض سليمان صلوات الله عليه وسلامه، ولي ابنه رحبعم [1] ، وضبطه
براء مهملة وحاء مهملة مضمومتين وباء موّحدة ساكنة وعين مهملة مضمومة
وميم، فقام بأمره وزاد في عمارة بيت لحم وغزّة وصور وأيلة، واشتدّ على
بني إسرائيل وطلبوا منه تخفيف الضرائب، فامتنع وطالبهم بالوظائف، وأخذ
فيهم برأي الغواة من بطانته، فنقموا عليه ذلك وانتقضوا. وجاءهم يربعم
بن نباط من مصر، فبايعوه وولّوه عليهم، واجتمع عليه سائر الأسباط
العشرة من بني إسرائيل، ما عدا سبط يهوذا وبنيامين، وتزاحفوا للحرب. ثم
دعاهم بعض أنبيائهم للصلح فتواضعوا واصطلحوا.
وفي السنة الخامسة من ملك رحبعم زحف شيشاق ملك مصر إلى بيت المقدس،
فهرب رحبعم، واستباحها شيشاق ورجع وضرب عليهم الجزية، ثم دفعوه ومنعوه.
فأقام بنو داود في سلطانهم على بني يهوذا وبنيامين ببيت المقدس وعسقلان
وغزة ودمشق وحلب وحمص وحماة وما إلى ذلك من أرض الحجاز، وملك الأسباط
العشرة بنواحي نابلس وفلسطين، ثم نزلوا مدينة شومرون وهي شمرة وسامرة
في الناحية الشرقية الشمالية من الشام مما يلي الفرات والجزيرة،
واتخذوها كرسيّا لملكهم ذلك، وأقاموا على هذا الافتراق إلى حين انقراض
أمرهم، ووقعوا في الجلاء الّذي كتب الله عليهم كما نذكره.
ثم هلك رحبعم لسبع عشرة سنة من دولته، وولي بعده على سبط يهوذا
وبنيامين بأرض القدس ابنه أفيا [2] ، وضبطه بهمزة مفتوحة ومتوسطة بين
الفاء والذال من لغتهم وياء مثناة من تحت مشدّدة وألف، وكان على مثل
سيرة أبيه. وكان عابدا صوّاما، وكانت أيامه كلها حربا مع يربعم بن نباط
وبني إسرائيل، وهلك لثلاث سنين. وولى بعده ابنه أسا [3] ، بضم الهمزة
وفتح السين المهملة وألف
__________
[1] وفي التوراة: ورد اسمه رحبعام.
[2] وفي نسخة اخرى: أبيّا.
[3] وفي نسخة أخرى: آسا.
(2/116)
بعدها، ابن أفيا. وطال أمد ملكه، وكان رجلا
صالحا، وكان على مثل سيرة جدّه داود صلوات الله عليه، وتعدّدت الأنبياء
في بني إسرائيل على عهده، ومات يربعم بن نباط لسنتين من ملكه، وملك
بعده ابنه ناداب وقتله يعشا بن أحيا كما نذكر في أخبارهم. ثم وقعت بينه
وبين أسا حروب، واستمد اسا بملك دمشق فزحف معه، وكان يعشا ملك السامرة
في ناحية يثرب لبنائها، فهرب وترك آلات البناء، فنقلها أسا ملك القدس
وبنى بها الحصون. ثم خرج عليهم زادح ملك الكوش في ألف ألف مقاتل،
ولقيهم أسا فهزمهم وأثخن فيهم. ولم تزل الحرب قائمة بين أسا وبين
الأسباط بالسامرة سائر أيامه، وعلى عهده اختطت السامرة كما نذكر بعد.
ثم هلك أسا بن أفيا لإحدى وأربعين سنة من ملكه، وولي بعده ابنه يهوشاظ
[1] ، بياء مفتوحة مثناة تحتانية وهاء مضمومة وواو ساكنة وشين معجمة
بعدها ألف ثم ظاء بين الذال والظاء المعجمتين، فكان على مثل سيرة أبيه،
وكانت أيامه مع أهل السامرة وملوكهم سلما. واجتمع ملوك العمالقة، ويقال
أروم [2] ، وخرج لحربهم فهزمهم وغنم أموالهم. وكان لعهده من الأنبياء
إلياس بن شوياق، واليسع بن شوبوات.
وقال ابن العميد: إيليا ومنحيا وعبوديا. وكانت له سفن في البحر يجلب له
فيها بضائع الهند فأصابها قاصف الريح فتكسرت وغرقت. ثم هلك لخمسة
وعشرين سنة من ملكه، وولي ابنه يهورام [3] ، بفتح المثناة التحتية ثم
هاء مضمومة تجلب واوا ثم راء مفتوحة تجلب ألفا وبعدها ميم، وانتقض عليه
أروم، وولوا عليهم ملكا منهم، فزحف إليهم [4] ووقع بهم في سفيرا أوسط
بلادهم، وأثخن فيهم بالسبي والقتل. ثم رجع عنهم، وأقاموا في عصيانهم.
وعلى عهده زحف ملك الموصل إلى الأسباط بالسامرة، فكانت بينه وبينهم
حروب كما نذكر.
وقال ابن العميد: كانت على بني مؤاب جزية مضروبة لبني يهوذا، مائتان من
الغنم كل سنة، فمنعوها، واجتمع ملوك القدس والسامرة لحربهم وحاصروهم
سبعة أيام، وفقدوا الماء فاستسقى لهم اليسع وجرى الوادي. فخرج أهل مؤاب
فظنوه ماء،
__________
[1] وفي نسخة أخرى: يهوشافاط.
[2] وفي نسخة اخرى: أدوم.
[3] وفي التوراة: يورام.
[4] وفي نسخة أخرى: زحف فيهم.
(2/117)
فقتلهم بنو إسرائيل وأثخنوا فيهم. وفي أيام
يهورام رفع إيليا النبي وانتقل سره الى اليسع، وكان على عهده من
الأنبياء أيضا عبوديا.
ثم هلك يورام لثمان سنين من ملكه، ودفن عند جدّ داود، وولي بعده ابنه
أحزياهو [1] ، بهمزة مفتوحة وحاء مهملة مضمومة وزاي معجمة ساكنة ثم ياء
مثناة تحتية بفتحة تجلب ألفا ثم هاء مضمومة تجلب واوا، وأمّه غثليا بنت
عمري أخت أجاب [2] وسار سيرة خاله، وملك سنة واحدة، وقيل سنتين، وخرج
لقتال ملك الجزيرة والموصل واستنفر معه صاحب السامرة يورام ابن خاله
أجاب، فاقتتلوا معه ثم انصرفوا وابن خاله جريح. وجاءه أحزياهو في بعض
الأيام يعوده وكان [3] ابن يهوشافاض بن منشي من سبط منشا بن يوسف يترصد
قتل يورام بن أجاب ملك السامرة، فأصاب فرصة في ذلك الوقت فقتلهما
جميعا. وقال ابن العميد انّ يورام بن أجاب ملك السامرة خرج لحرب أروم،
في رواية كلعاد وخرج معه أحزياهو فقتلا في تلك الحرب. قال: وقيل ان
ياهوعشّا رمى بسهم فأصاب يورام بن أجاب. وكان لعصره من الأنبياء اليسع
وعامور وفنحاء.
ثم ملك بعد أحزيا أمه عثليا بنت عمري كذا وقع اسمها في كتاب الطبري،
وفي كتاب الإسرائيليات اسمها أضالية. ويقال كانت من جواري سليمان، ثم
استفحل ملكها بالقدس وقتلت بني داود كلهم، وأغفلت ابنا رضيعا من ولد
أبيها أحزياهو اسمه يؤاش، بضم الياء المثناة التحتية ثم همزة مفتوحة
تجلب ألفا ثم شين معجمة، أخفته عمته يهوشيع بنت يهورام في بعض زوايا
القدس، وعلم بمكانه زوجها يهود يادع [4] وهو يومئذ الكوهن الأعظم. حتى
إذا كملت له سبع سنين، ونقم بنو يهوذا سيرة عثليا، اجتمعوا إلى يهود
يادع الكوهن فاخرج لهم يؤاش بن أحزياهو من مكانه، واستحلفهم فبايعوا له
وقتلوا جدّته عثليا ومن معها لسبع سنين من ملكها.
__________
[1] وفي التوراة: أحزيا.
[2] وفي نسخة أخرى أخاب.
[3] بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 1 ص 254 ثم ملك بعد آسا ابنه
سافاط وفي شرحه: هو يهوشافاط ولم يذكر شيئا عن ابن يهوشافاط، اوسافاط،
أو يهوشافاض هذا. والّذي في التوراة: يهورام بن يهوشافاط- الاصحاح
الثامن من سفر الملوك الثاني.
[4] وفي نسخة أخرى: يهوياداع وكذلك في التوراة.
(2/118)
وقام يؤاش بملكه في تدبير يهوديادع الكوهن،
ثم أراد عبادة الأصنام، فمنعه زكريا النبيّ فقتله. وكان لعهده من
الأنبياء اليسع وعوفريا وزكريا بن يهوديادع. وهلك يهوديادع لثلاث
وعشرين سنة من ملك يؤاش بعد أن جدّد يؤاش بيت المقدس، ولثمان وثلاثين
من ملكه قبض اليسع النبي صلوات الله عليه، وعلى عهده زحف شريال ملك
الكلدانيين ببابل إلى بيت المقدس، ويقال ملك نينوى والموصل. وقال ابن
العميد: ملك الشام فأعطاهم جميع ما في خزائن الملك وبيت المقدس من
الأموال، ودخل في طاعتهم إلى أن قتله وزراؤه وأهل دولته لأربعين سنة من
ملكه.
وولّوا مكانه ابنه أمصيا هو، بفتح الهمزة والميم وسكون الصاد المشمة
بالزاي بعدها ياء مثناة تحتانية بفتحة تجلب ألفا ثم هاء مضمومة تجلب
واوا، واستبدّوا عليه ثم ثار عليهم بأمه وقتلهم أجمعين. وسار إلى أروم
فظفر بهم، وقتل منهم نحوا من عشرين ألفا، ثم زحف إليه ملك الأسباط
بالسامرة [1] ولقيه فهزمه وحصل في أسره. وسار الى بيت المقدس فحاصرها،
وهدم من سورها نحوا من أربعمائة ذراع، واقتحمها فغنم ما في خزائن بيت
السلطان، وبيت الهيكل من الأموال والأواني والذخائر ورجع إلى السامرة،
فأطلق أمصيا هو ملك القدس، فرجع إلى قومه ورمّ ما تثلّم من سورها. ولم
يزل مملكا حتى نقموا عليه أفعاله فقتلوه لسبع وعشرين سنة من ملكه. وكان
لعهده من الأنبياء يونان وناحوم، وتنبأ لعصره عاموص.
ولما قتلوا أمصيا هو ولّوا ابنه عزيا هو [2] ، بعين مهملة مضمومة وزاي
معجمة مكسورة مشدّدة وياء مثناة تحتانية تجلب ألفا وهاء تجلب واوا،
وطالت مدّته ثلاثا وخمسين سنة، واختلفت فيها أحواله. قال ابن العميد:
ولخمس من ملكه كان ابتداء وضع سنيّ الكبس [3] التي هي سنة بعد أربع
تزيد يوما على الماضية بحساب ربع يوم في كل سنة الّذي اقتضاه حساب مسير
الشمس عندهم. قال: ولست من ملكه انقرض ملك الأرمانيين من الموصل وصارت
إلى بابل، لاثنتين وعشرين من ملكه غزا ملك بابل واسمه فول مدينة
السامرة فاقتحمها، وأعطاه ملكها بدرة من المال فرجع عنه.
قال: ولعهده ملك على بابل رينوس ويلقب قطب الملك، ولعهده ملك على
__________
[1] كذا بياض بالأصل وفي التوراة يوآش بن يوآحاز بن ياهو.
[2] وفي التوراة: عزريا هو.
[3] وهي السنة الكبيسة اي 2/ 365 يوما.
(2/119)
اليونانيين ملكهم الأول من مدينة أنقياس
لثلاث وعشرين سنة من تملك عزيا هو.
قال: ولإحدى وخمسين من ملكه ملك ببابل بخت نصّر الأول. قال: ولعهده
أيضا كان الملك الأوّل من الروم المقدويس ويسمى فروس. ولعهده كان من
الأنبياء يوشع وغوزيا وأموص وأشعيا ويونس بن متى. قال ابن العميد
وانتهت عساكر عزيا هو إلى ثلاثمائة ألف، وأصابه البرص بدعاء الكوهن لما
أراد أن يخالف التوراة في استعمال البخور وهو محرم على سبط لاوى، فبرص
ولزم بيته سنة وصار ابنه يؤام ينظر في أمر الملك إلى أن تغلب على أبيه.
قال هروشيوش: وعلى عهده أيضا قتل شرديال آخر ملوك بابل من الكلدانيّين
على يد قائده أرباط بن المادس، واستبدّ بملك بابل وأصاره إلى قومه بعد
حروب طويلة، ثم زحف إلى القوط والعرب من قضاعة فحاربهم طويلا وانصرف
عنهم.
ثم هلك عزيا هو لثلاث وخمسين سنة من ملكه، وملك بعده ابنه يؤاب وكان
صالحا تقيا، وكان لعهده من الأنبياء هوشيع [1] وأشعيا ويويل [2] وعوفد.
وفي أيامه ابتدأ غلب ملك الجزيرة على اليهود وكانوا يعرفون
بالسوريانيين. ثم هلك يوآب لست عشرة من ملكه، وملك ابنه أحاز، بهمزة
مفتوحة ممالة وحاء مهملة تجلب ألفا وزاي معجمة، فخالف سنة آبائه، وعبد
بنو إسرائيل الأوثان في أيامه، وحارب الأرمن واستجاش عليهم بملك
الموصل، فزحف معه وحاصر دمشق وملكها منهم واستباحها، ورجع إلى بلاده.
ثم خرج أحاز لحربهم فهزموه وقتلوا من اليهود مائة وعشرين ألفا ونحوها،
وارجعوا أحاز الى دمشق أسيرا. قال هروشيوش: وعلى عهد أحاز كان انقراض
ملك الماريس على يد كيرش ملك الفرس، ورجعت أعمالهم إليه.
ويقال: انّ آخر ملوكهم هو اشتانيش، وكان جد كيرش لامّه، وكفله صغيرا
فلما شب وملك حارب جدّه فقتله وانتزع ملكه. وقال ابن العميد عن
المسبحي: ولذلك العهد ملك على الروم الفرنجة غير اليونان، الاخوان
روملس ورومانس، واختط مدينة رومة. وقال هروشيوش: ولعهده ملك على الروم
اللطينيين بأرض أنطاكية روملس، ثم مركة وبنى مدينة رومة.
__________
[1] وفي نسخة اخرى: هو سيع.
[2] وفي نسخة اخرى: يوئيل كما في التوراة.
(2/120)
ثم هلك أحاز لست عشرة من ملكه، وولى ابنه
حزقيا هو، بحاء مهملة مكسورة وزاي معجمة ساكنة وقاف مكسورة وياء مثناة
تحتانية مشددة تجلب ألفا وهاء مضمومة تجلب واوا، فقطع عبادة الأوثان
وسار سيرة جدّه داود، ولم يكن في ملوك بني يهوذا مثله. وعصى على ملك
الموصل وبابل وكوريش [1] وهزم فلسطين وخرّب قراهم. وفي أيامه وأيام
أبيه سار شليشار ملك الجزيرة والموصل إلى الأسباط بالسامرة، فضرب عليهم
الجزية. ثم سار في أيامه فأزال ملكهم. ولأربع من ملكه زحف إليه رضين
ملك دمشق ورجع عنه من غير قتال. ولا ربع عشرة من ملكه زحف إليه سنجاريف
[2] ملك الموصل بعد فتح السامرة، فافتتح أكثر مدائن يهوذا وحاصرهم ببيت
المقدس. وصانعه حزقيا هو بثلاثمائة قنطار من الفضة وثلاثين من الذهب
أخرج فيها ما كان في الهيكل، وبيت الملك من المال ونثر الذهب من أبواب
المسجد، دفع ذلك له ورجع عنه. ثم فسد ما بينهما وزحف إليه سنجاريف
ثانيا وحاصره وامتنع من قبول مصانعته، وقال: من ذا الّذي خلصه إلهه من
يدي حتى يخلصكم أنتم إلهكم. فخافوا منه وفزعوا إلى النبي شعيا في
الدعاء فأمنهم منه ودعا عليه فوقع الطاعون في عسكره، ثم تواقعوا في بعض
الليالي، فبلغ قتلاهم مائة وعشرين ألفا ورجع سنجاريف إلى نينوى
والموصل، فقتله أبناؤه وهربوا إلى بيت المقدس وملك ابنه السرمعون.
وقال الطبري إنّ ملك بني إسرائيل أسر سنجاريف وأوحى الله الى شعيا أن
يطلقه فأطلقه. قال: وقيل إنّ الّذي سار إليه سنجاريف من ملوك بني
إسرائيل كان أعرج، وأنّ سنجاريف لعهد ملك أذربيجان، وكان يدعى سليمان
الأعسر، فلما نزل بيت المقدس صار بينهما أحقاد كامنة، فتواقعوا وهلك
عامّة عسكرهما، وصار ما معهما غنيمة لبني إسرائيل، وبعث ملك بابل إلى
حزقيا ملك الفرس بالهدايا والتحف، فأعظم موصلها، وبالغ في كرامة الوفد
وفخر عليهم بخزانته وطوفهم عليها، فنكر ذلك عليه شعيا النبي وأنذره بان
ملوك بابل يغنمون جميع هذه الخزائن، ويكون من أبنائك خصيان في قصرهم.
ثم هلك حزقيا هو لتسع وعشرين سنة من ملكه، وولي ابنه منشا، بميم مكسورة
ونون
__________
[1] وفي نسخة اخرى توريش.
[2] وفي التوراة: سنحاريب.
(2/121)
مفتوحة وشين معجمة مشدّدة وألف، وكان عاصيا
قبيح السيرة، وكانت آثاره في الدين شنيعة، وأنكر عليه شعيا النبي
أفعاله، فقتله نشرا بالمناشير من رأسه إلى مغرق ساقيه، وقتل جماعة من
الصالحين معه. وفي التاسعة والثلاثين من ملكه، ملك سنجاريف الصغير
مملكة الموصل قاله ابن العميد وفي الثانية والخمسين بنيت بوزنطية بناها
بورس الملك، وهي التي جددها قسطنطين وسمّاها باسمه. وفي أيامه ملك
برومة قنوقرسوس الملك، وفي الحادية والخمسين من ملكه زحف سنجاريف ملك
الموصل إلى القدس فحاصرها ثلاث سنين، وافتتحها في الرابعة والخمسين من
ملكه. وولي بعده ابنه أمون، بهمزة قريبة من العين والميم مضمومة تجلب
واوا ثم نون، وكانت حاله مثل حال أبيه فملك سنتين، وقيل اثنتي عشرة، ثم
اغتاله عبيده فقتلوه، واجتمع بنو يهوذا فقتلوا أولئك العبيد، وأقاموا
ابنه يوشيا مكانه، وضبطه بياء مثناة تحتية مضمومة تجلب واوا بعدها شين
معجمة مكسورة ثم ياء مثناة تحتية بفتحة تجلب ألفا. فلما ملك أحسن
السيرة وهدم الأوثان وكان صالح الطريقة مستقيم الدين، وقتل كهنة
الأصنام وهدم البيوت والمذابح التي بناها يربعام بن نباط بالبرابرة.
وكان في أيامه من الأنبياء صفونا [1] وكلدي امرأة شالوم وناحوم. وتنبأ
لعهده أرمياء بن ألحيا [2] من نسل هارون، وأخبرهم بالجلاء إلى بابل
سبعين سنة، فأخذ يوشيا قبة القربان وتابوت العهد وأطبق عليهما في مغارة
فلم يعرف مكانهما من بعد ذلك. وفي أيامه ملك المجوس بابل. ولإحدى
وثلاثين من دولته ملك فرعون الأعرج مصر وزحف لقتال مسيح بالفرات، فخرج
يوشيا لحربه وانهزم يوشيا فهلك بسهم أصابه لاثنتين وثلاثين من دولته.
وولى بعده ابنه يوآش، ويقال اسمه يهوياحاز فعطل أحكام التوراة، وأساء
السيرة، فزحف إليه فرعون الأعرج، وأخذه ورجع به إلى مصر فمات لك. وضرب
على أرضهم الخراج مائة قنطار فضة وعشرة ذهبا، وكانت ولايته ثلاثة أشهر.
وولّوا مكانه أخاه ألياقيم بن يوشيا، بهمزة مفتوحة ولام ساكنة وياء
مثناة تحتانية يجلب فتحها ألفا وقاف مكسورة تجلب ياء ثم ميم، وكان
عاصيا كافرا، وكان يأخذ الخراج لفرعون من بني يهوذا على قدر أحوالهم.
ثم زحف إليه بخت نصّر ملك بابل لسبع من ولاية ألياقيم،
__________
[1] وفي التوراة: صفنيا بن كوشي- نبوّة صفنيا- الفصل الاولى.
[2] وفي التوراة: إرميا بن خلقيا- نبوّة ارميا، الفصل الأول.
(2/122)
فملك الجزيرة وسار إلى بيت المقدس فضرب
عليهم الجزية أولا، ودخل ألياقيم في طاعته ثلاث سنين، وسلط الله عليه
أروم وعمون ومؤاب والكلدانيين، ثم انتقض عليه فسرح الجيوش اليه، فقبضوا
عليه واحتملوه الى بابل، فهلك في طريقه لإحدى عشرة سنة من ملكه. وولى
بخت نصّر مكانه ابنه يخنيو، بفتح الياء المثناة التحتانية بعدها خاء
معجمة مضمومة ثم نون ساكنة وبعدها ياء تحتانية تجلب ضمتها واوا، فأقام
ثلاثة أشهر، ثم زحف إليه وحاصره، وأخرج إليه أمّه وأشراف مملكته
فأشخصهم الى بلده. وجمع أهله ورجال دولته وسائر بني إسرائيل نحوا من
عشرة آلاف، واحتملهم أسارى إلى بابل، وغنم جميع ما كان في الهيكل
والخزائن من الأموال وجميع الأواني التي صنعها سليمان للمسجد، ولم يترك
بمدينة القدس إلا الفقراء والضعفاء وبقي يخنيو ملك بني إسرائيل محبوسا
سبعا وثلاثين سنة.
وقال ابن العميد: إنّ بخت نصّر سار إلى القدس في الثالثة من مملكة
ألياقيم، وسبى طائفة منها، وانتهب جميع ما في بيت الهيكل. وكان في سنة
دانيال وخانيا وعزاريا وميصائل. وانّ في السنة الخامسة من ملكه قاتل
بخت نصّر فرعون الأعرج ملك مصر، وفي الثانية من ملك الياقيم غزا بخت
نصّر القدس ووضع عليهم الخراج وأبقى الياقيم في ملكه وهلك لثلاث سنين
بعد ذلك وملك ابنه يخنيو. وكان لعهده من الأنبياء ارميا وأوريا بن شعيا
وموري والد حزقيا. وفي أيامه تنبأ دانيال، ثم سار بخت نصّر ليخنيو
فأشخصه الى بابل كما مرّ.
وقال الطبري ووافقه نقل هروشيوش: إنّ بخت نصّر ولّى مكان يخنيو بن
الياقيم عمه متنيا، بميم مفتوحة وتاء مثناة فوقانية مفتوحة مشدّدة ونون
ساكنة وياء مثناة تحتانية بفتحة تجلب ألفا، ويسمّى صدقيا هو، وكان
عاصيا قبيح السيرة، ولتسع سنين من ولايته انتقض على بخت نصّر، فزحف
إليه في العساكر وحاصر بيت المقدس وبنى عليها المدر للحصار، وأقام ثلاث
سنين واشتدّ الحصار بهم، فخرجوا هاربين منها إلى الصحراء واتبعهم
العساكر من الكلدانيين وأدركوهم في أريحا، فقبض على ملكهم صدقيا هو
وأتى به أسيرا فسمل عينيه. وقال الطبري: وذبح ولده بمرأى منه، ثم
اعتقله ببابل إلى أن مات. ولحق بعض من بني إسرائيل بالحجاز فأقاموا مع
العرب، وكان لعهده من الأنبياء ارميا وحبقون وباروح. وبعث بخت نصّر
قائده نبو زراذون، بنون مفتوحة وباء موحدة مضمومة تجلب واوا بعدها زاي
وراء مفتوحة تجلب ألفا
(2/123)
وذال مضمومة تجلب واوا بعدها نون، بعثه إلى
مدينة القدس، وكانوا يدعونها مدينة يروشالم [1] ، فخرّبها وخرّب الهيكل
وكسر عمد الصفر التي نصبها سليمان في المسجد طول كل عمود منها ثمانية
عشر ذراعا وطول رءوسها ثلاثة أذرع، وكسر صرح الزجاج وسائر ما كان بها
من آثار الدين والملك، واحتمل بقية الأواني وما كان وجده من المتاع،
وسبى الكوهن سارية والحبر منشا وخدمة الهيكل إلى بابل. قال هروشيوش:
وأبقى صدقيا هو محبوسا ببابل إلى أن أطلقه بزداق قائد بهمن ملك الفرس
حين غلبوا على بابل فأطلقه ووصله وأقطعه.
وقال مؤرخ حماة [2] ووافقه المسعودي: انّ بخت نصّر بعد تخريب القدس هرب
منه بعض ملوك بني إسرائيل إلى مصر وبها فرعون الأعرج، وطلبه بخت نصّر
فأجاره فرعون وسار إليه بخت نصّر فقتله وملك مصر. وافتتح من المغرب
مدائن وبث فيها دعاته، وكان إرمياء نبي بني إسرائيل من سبط لاوى، ويقال
اسمه إرمياء بن خلقيا، وكان على عهده صدقيا هو ووجده بخت نصّر في
محبسهم فأطلقه واحتمله معه في السبي الى بابل، وقيل انه مات في محبسه
ولم يدركه بخت نصّر. وكذلك احتمل معهم دانيال بن حزقيل من أنبيائهم.
وقال ابن العميد: وولي جدليا بن أحان على من بقي من ضعفاء اليهود
بالقدس، ولسبعة أشهر من ولايته قام إسماعيل بن متنيا بن إسماعيل من بيت
الملك فقتل جدليا واليهود والكلدانيين الذين معهم، ثم هرب إلى مصر وهرب
معه ارميا، وهرب حبقون إلى الحجاز فمات وكان قيما ولحقهم بمصر. وتنبأ
ارمياء في مصر وبابل وأورشليم وصور وصيدا وعمون ثمانية وثلاثين سنة،
ورجمه أهل الحجاز فمات. وكان فيما أخبرهم به مسير بخت نصّر الى مصر
وتخريبه هياكلها وقتله أهلها. ولما دخل بخت نصّر مصر نقل جسده الى
الإسكندرية ودفنه بها، وقيل دفن بالقدس لوصيته. وأمّا حزقيا هو فقتله
اليهود في السبي.
قال الطبري: وافترقت جالية بني إسرائيل في نواحي العراق الى ان ردّهم
ملوك الفرس الى القدس فعمروه وبنوا مسجده. وكان لهم فيه ملك في دولتين
متصلتين الى أن وقع بهم الخراب الثاني والجلوة الكبرى على يد طيطش من
ملوك القياصرة كما نذكر بعد.
__________
[1] أو أورشليم.
[2] يعني أبي الفداء.
(2/124)
ولنذكر هنا ما وقع من الخلاف في نسب بخت
نصّر هذا، والى من يرجع من الأمم:
فقد ذهب قوم الى أنه من عقب سنجاريف ملك الموصل الّذي كان يقاتل بني
إسرائيل والسامرة بالقدس. قال هشام بن محمد الكلبي فيما نقل الطبري: هو
بخت نصّر بن نبوزراذون بن سنجاريف، ثم نسب سنجاريف إلى نمروذ بن كوش بن
حام الّذي وقع ذكره في التوراة في ولدكوش وعدّ بين سنجاريف والنمروذ
ستة عشر أبا أو نحوها أوّلهم داريوش بن فالغ وعصا [1] بن نمروذ، أسماء
غير مضبوطة يغلب على الظنّ تصحيفها لعدم دراية الأصول وقلّة الوثوق
بضبطها. وقيل إنّ بخت نصّر من نسل أشوذ [2] بن سام، ولم يقع إلينا رفع
هذا النسب ولعله أصح من الأوّل لأنه قد تقدّم نسب سنجاريف في الجرامقة
ثم في الموصل منهم وهم من ولد أشوذ باتفاق من أهل فارس، نقله أيضا
الطبري عن ابن الكلبي، وان اسمه بختمرسه فسمي بخت نصّر، وكان يملك ما
بين الأهواز والروم من غربي دجلة أيام هراسب ويستاسب وبهمن من ملوك
الفرس، وانه افتتح ما يليه من بلاد بابل والشام ثم سار الى القدس
فافتتحها كما تقدّم، وقيل ان بهمن بعث رسله إلى القدس في طلب الطاعة
منهم فقتلوه، فبعث بهمن أصبهبذا للناحية القريبة من مملكته، وبعث معه
داريوش [3] من ملوك مارى بن نابت، وكيرش بن كيكوس من ملوك بنى غليم بن
سام، وأحشوارش بن كيرش بن جاماهن من قرابته. وسار معهم بخت نصّر بن
نبوزراذون بن سنجاريف صاحب الموصل الّذي لقومه البراءات في أهل المقدس
فكان ما وقع من الفتح. وقيل كان بخت نصّر صاحب الموصل في مقدّمتهم وكان
الفتح على يده.
وأما بنو إسرائيل فيزعمون أنّ بخت نصّر من الكلدانيين، وهم ولد ناحور
بن آزر أبي إبراهيم عليه السلام، وكان لهم الملك ببابل وكان بخت نصّر
هذا من أعقابهم، وكان مدّة دولته خمسا وأربعين سنة، وكان فتحه المقدس
لثمانية عشر من دولته. وملك بعده أويل مروماخ ثلاثا وعشرين سنة، ثم
بعده ابنه فيلسنصر بن أويل ثلاث سنين، ثم غلب عليهم كورش وأزال ملكهم
وهو الّذي ردّ بني إسرائيل إلى بيت المقدس فعمروه وجدّدوا به ملكا كما
نذكره.
__________
[1] وفي التوراة: عوص.
[2] وفي التوراة: اشور.
[3] وفي نسخة اخرى: داريوس.
(2/125)
وفد اختلف في كيرش الّذي ردّ بني إسرائيل
الى القدس من هو بعد اتفاقهم على أنه من الفرس، فقيل هو يستاسب ولم يكن
ملكا وإنما كان مملكا على خوزستان وأعمالها من قبل كيقوس وبنجسون بن
سياوش ولهراسب من بعدهما، وكان عظيم الشأن ولم يكن ملكا. وقيل إنّ كيرش
هو ابن احشوارش بن جاماسب بن لهراسب، وأبوه أحشوارش هذا الّذي بعثه
بهمن. ولما رجع من ذلك الفتح بعثه الى ناحية الهند والسند وانصرف الى
حصن الأبر فولاه بابل وتزوج من سبي بني إسرائيل ابنة أبي حاويل الرّحا
وأخت مردخاي من الرضاع، وهو من أنبياء بني إسرائيل. فتزعم النصارى انها
ولدت عند حيرا حوارس إلى بابل ابنه كيرش هذا فحضنه مردخاي ولقنه دين
اليهودية، ولزم سائر أنبيائهم مثل متنيا وعازريا وميثائل وعزيز. وولي
دانيال احكام دولته، وجعل إليه أمره وأذن له أن يخرج ما في الخزائن من
السبي والذخائر والآنية ويردّه إلى مكانه ويقوم في بناء القدس فعمره.
وراجعه بنو إسرائيل وسأله هؤلاء الأنبياء أن يرجعوا إلى بيت المقدس
فمنعهم اغتباطا بمكانهم.
وقيل إنّ كيرش هو كيرش بن كيكو بن غليم بن سام، وهو الّذي كنا قدمنا أن
بهمن بعثه مع قائده بخت نصّر الى فتح بيت المقدس، وأنّ بختمرس ملكه
بهمن على بابل، وكان يسمى بختمرسي كما ذكرنا، فملكها وملك ابنه من بعده
ثلاثا وعشرين سنة، ثم ابنه بلتنصر سنة واحدة، ثم بلغ بهمن سوء سيرته
فعزله وولّى على بابل داريوش ألماذة بن ماداي، ثم عزله وولى كيرش بن
كيكو، وكتب إليه بهمن بان يرفق ببني إسرائيل ويحسن ملكتهم وأن يردهم
إلى أرضهم ويولي عليهم من يختارونه، ففعل، فاختاروا دانيال من أنبيائهم
فولّاه. وقيل وهو لعلماء بني إسرائيل انّ بلتنصر حافد بخت نصّر وهو ملك
بابل والكلدانيين، وأنّ دارا ويسمى داريوش ملك ماري، وكورش وهو كيرش
ملك فارس، كان في طاعته فانتقضا عليه، وخرج إليهم في العساكر فانهزم
أوّلا، ثم بعث عساكره وقواده إليهم فهزمهم ثم قتله خادمه على فراشه.
ولحق بداريوش وكورش وزحفا إلى بابل فغلبا الكلدانيين عليها، واختص دارا
وقومه مادي وأظنهم الديلم ببابل ونواحيها. واختص كورش وقومه فارس بسائر
الأعمال والكور، وكان كورش نذر ببناء بيت المقدس واطلاق الجالية ورد
الآنية، ثم هلك دارا وانفرد كورش بالملك على فارس ومادي ووفى بنذره هذا
محصل الخلاف في بخت نصّر وكيرش والله أعلم.
(2/126)
الواقع ان الأسماء محرّفة ومحوّرة عن الأصل
حتى في الصفحة الواحدة يرد الاسم مختلفا، وهذا ما جعلنا نعود الى
التوراة وبعض المراجع القديمة ومقابلتها لضبط هذه الأسماء قدر الإمكان.
(2/127)
الخبر عن دولة الأسباط العشرة وملوكهم الى
حين انقراض أمرهم
قد تقدّم لنا في دولة سليمان عليه السلام انّ يربعام بن نباط من سبط
افرائيم كان واليا لسليمان على جميع نواحي يورشليم [1] وهي بيت المقدس،
وقيل إنّما كان واليا على عمل بني يوسف بنابلس وما إليها، وكان جبارا
وان سليمان عوتب على ولايته من الله وانتقض ولحق بمصر، فلما قبض سليمان
وولي ابنه رحبعم واختلف عليه بنو إسرائيل بما بلوا من سوء ملكته
والزيادة في الضرائب عليهم، واجتمع الأسباط العشرة ما عدا يهوذا
وبنيامين فاستقدموا يربعام بن نباط من مصر فبايعوا له وولوه الملك
عليهم وحاربوا رحبعم ومن في طاعته وهم سبط يهوذا وبنيامين، فامتنعوا
عليهم بمدينة يروشليم، ثم انحازوا إلى جهة فلسطين في عمل بني يوسف.
ونزل يربعم مدينة نابلس بملك الأسباط العشرة ومنعهم من الدخول إلى بيت
المقدس والقربان فيه، وكان عاصيا مسخوط السيرة.
ولم يزل الحرب بينه وبين رحبعم بن سليمان وابنه أبيا من بعده واثنين من
ملك أسا بن أبيا، وكان أبيّا ظاهرا عليه في حروبه، ثم هلك يربعام بن
نباط لسنتين من ملك أبيّا ولثلاث وعشرين من ملكه، فولي مكانه على
الأسباط يوناذاب وكان على مثل سيرة أبيه من الجور وعبادة الأصنام، فسلط
الله عليه بعشا بن أحيا فقتله وجميع أهل بيته لسنتين من ملكه. وقام
بملك الأسباط فلم يزل يحارب أسا بن أبيّا وأهل القدس سائر أيامه. وكان
أسا يستمدّ عليه بملك دمشق من الأرمن. وسار معه إليه مرّة، وكان أعشا
بن أحيا نبي يثرب، فأجفل أمامهم وترك الآلات فأخذها أسا وبنى بها
الحصون وهلك أعشا بن أحيا لأربع وعشرين سنة من ملكه ودفن في برصا مدينة
ملكهم بعد أن أنذره بالهلاك نبيهم فاهو. ولما هلك ولي بعده ابنه إيليا،
ويقال إيلهوا في السادسة والعشرين من ملك أسا فأقام سنين ثم بعث عساكر
بني إسرائيل إلى محاصرة بعض المدن بفلسطين، فوثب عليه سبط من الأسباط
من عقب كان يعرف زمري صاحب المراكب، ويقال ابن اليافا، فقتله وجميع أهل
بيته وقام
__________
[1] هي أورشليم.
(2/128)
بالملك ومكث أياما يسيرة خلال ما بلغ الخبر
لبني إسرائيل بمكانهم من حصار فلسطين، فلم يرضوه وملكوا عليهم صيّ بن
كسّات من سبطه ورجعوا الى زمري المتوثب على الملك فحاصروه، فلما أحيط
به دخل مجلس الملك وأوقد نارا لتحرقه فاحترق فيه لسبعة أيام من فورتهم.
وكان عمري بن ناداب من سبط أفراييم ويلقب صاحب الحربة يرادف صيّ في
الملك فقتله واستبدّ، وذلك في الحادية والثلاثين من ملك أسا. ثم اختلف
عليه بنو إسرائيل ونصف بعضهم بنيامين فنال من سبط يساخر، وحاربهم عمري
فغلبهم. وكان ينزل مدينة برصا، ولست سنين من ملكه اختط مدينة السامرية
ابتاع لها جبل شمران [1] من رجل اسمه سامر بقنطار فضة، وبنى فيه قصوره
وسميت سبسطية، ثم غلبت عليها النسبة إلى البائع. ويقال إنّ الاسم كان
شومرون فعرب سامرة وأهملت شينها المثلثة، وكانت هذه المدينة مدينة
ملكهم الى انقراض أمرهم.
ثم هلك عمري لاثنتي عشرة سنة من ولايته ودفن في نابلس، وقام بملك
الأسباط من بعده ابنه أحاب [2] ، وكان على مذهبه ومذهب سلفه منهم من
الكفر والعصيان، وتزوّج بنت ملك صيدا، وبنى هيكلا بسامرة وجعل فيه صنما
يسجد له وأفحش في قتل الأنبياء، وبنى قرية أريحاء ودعا عليه إيليا
النبيّ فقحطوا ثلاث سنين خرج فيها إيليا الى البرية فسكنها، ثم رجع
فدعا وأنزل الله المطر وذبح الذين حملوا أحاب على عبادة الأصنام هكذا
قال ابن العميد.
والّذي قاله الطبري إنّ هذا النبي الّذي دعا عليهم هو الياس بن سين،
وقيل ابن ياسين من نسل فنحاص بن العازار. وكان بعث الى أهل بعلبكّ والى
أحاب وقومه.
وقال الطبريّ: فكذبوه فأصابهم القحط ثلاثا، ففزعوا إليه في الدعاء
وبأهلهم في أصنامهم فلم تغن شيئا، فدعا لهم فمطروا، ثم انهم أقاموا على
ما كانوا عليه من الكفر والعصيان. وكان أحاب شديدا عليه ودعا عليه
الياس ثم طلب من الله أن يتوفاه بعد أن أنذر الناس بهلاكه وهلاك قومه
بل عقبه. وتنبأ بعده اليسع بن أخطوب من سبط أفرائيم، وقيل ابن عم
الياس. وقال ابن عساكر: اسمه أسباط بن عدي بن شوليم
__________
[1] وفي التوراة «واشترى جبل السامرة من شامر بوزنتين من الفضة.
[2] وفي التوراة: اخآب.
(2/129)
بن افرائيم. قال الطبريّ: كان مستخفيا مع
الياس بجبل قاسيون من ملك بعلبكّ، ثم خلفه في قريته انتهى كلام الطبري.
وقال ابن العميد: في أيام أحاب أوحى الله إلى إيليا أن يبارك على إلياس
بن بغسا ففعل ذلك، وان يبارك على أدوم بدمشق، وعلى يا هو ملكا على بني
إسرائيل ففعل ذلك. وهو أيضا على عهد أحاب فجاء سنداب ملك سورية فحاصر
أحاب بن عمري والأسباط العشرة في السامرة، وخرجوا إليه فهزموه
واستلحموا عامة عسكره، ثم رجع إليهم من العام القابل فخرجوا إليه
وهزموه ثانيا وقتلوا من عسكره نحوا من مائة ألف، ومروا في اتباعهم،
وامتنع سنداب في بعض حصونه وأحاطوا به فخرج إليهم ملقيا بنفسه على
ملكهم أحاب، فعفا عنه ورده الى ملكه، وسخط ذلك النبيّ من فعله وأنذره
بعذاب يصيب ولده عقوبة من الله تعالى على إبقائه عليهم. ثم خرج أحاب من
ملك الأسباط مع يهوشافاظ ملك يهوذا المقدس لمحاربة ملك سورية، فأصابه
سهم هلك فيه ودفن بسامرة لاثنتين وعشرين سنة من ملكه.
قال ابن العميد: وقيل لثمان عشرة. وقال إنّما خرج لحرب كلعاد ملك أدوم
فانهزم وقتل.
ولما هلك ملك من بعده ابنه أحزيّا ويقال أمشيا وكان عاصيا سيء السيرة
قتل عاموص النبيّ وعبد بعلا الصنم وهلك لسنتين، فملك أخوه يوآم وقيل
انه لتسع عشرة من ملك يهوشافاظ ملك الفرس، فملك يوآم على الأسباط اثنتي
عشرة سنة زحف فيها أوّلا إلى مؤاب لما منعوه الجزية التي كانت عليهم
للأسباط مائتين من الغنم في كلّ سنة، واستنجد ملك يهوذا لحربهم فحاصرهم
سبعة أيام وفقدوا الماء، فاستسقى لهم اليسع وجرى الوادي وخرج أهل مؤاب
يظنونه دما، فقتلهم بنو إسرائيل. وجمع هدّاد ملك أدوم لحصار سامرة
ونازلها ثلاث سنين، ثم دعا عليهم اليسع فاجفلوا ورجعوا إلى بلادهم. وفي
الثانية عشر من ملك يؤام ملك الأسباط ثار عليه يهوشافاظ بن يشا من سبط
منشا بن يوسف، وذلك عند منصرفه من محاربة ملوك الجزيرة وأروم مع أحزيّا
بن يهورام ملك القدس، وكان جريحا فعاده أحزيا وكان هذا الفتى يا هو
يترصد قتل يؤام فأمكنته الفرصة فيه تلك الساعة فقتله وقتل معه أحزيا
ملك القدس وبني يهوذا وملك على الأسباط.
(2/130)
وقال ابن العميد: خرج يؤام بن أحاب ملك
الأسباط لحرب أدوم ومعه أحزيّا ملك القدس فقتلا جميعا في تلك الحرب.
وقيل إنّ ياهو بن منشا رمى بسهم فأصاب يؤام بن أحاب فمات.
ولما ملك يا هو على الأسباط قتل بني أحاب كلهم كما أمره اليسع، وهلك
لخمس وثلاثين من ملكه وولي ابنه يوآص، وقيل يهوذا، ولثمان وعشرين من
دولة يوآص بن أحزيّا ملك يهوذا القدس وكان قبيح السيرة عبّادا للأصنام
وعمل مذبحا بسامرة وهلك لسبع عشرة من ملكه، وولي بعده ابنه يوآش لسبع
وثلاثين من دولة يوآص بالقدس وزحف إلى القدس فملكها من يد أمصيّا ملك
يهوذا، وهدم من سورها أربعمائة ذراع، وسبى أهل المقدس وسبى بني عزريّا
الكوهن، وأخذ جميع ما في المسجد ورجع إلى سامرة. ومرض اليسع فعاده يوآش
فوعده بأنه يهلك أدوم ويظفر بهم.
ثلاث مرات، فكان كذلك، وهلك لثلاث عشرة سنة من ملكه. وولي من بعده ابنه
يربعام وكان سيّئ السيرة وزحف إلى أمصيا ملك يهوذا، وقيل إنّ الّذي زحف
إلى أمصيّا إنّما هو يؤاش أبوه، فهزمه وأخذه أسيرا وسار به إلى القدس
فاقتحمها عنوة وغنم جميع ما في خزانتها وسبى بني عزريّا الكوهن، ورجع
إلى السامرة فأطلق أمصيّا. ثم لإحدى وأربعين سنة من ملكه، ولسبع وعشرين
من ملك عزيّا هو بن أمصيّا ملك القدس.
قال ابن العميد: وبقي بنو إسرائيل بالسامرة فوضى أحدى عشرة سنة، ثم
ملكوا ابنه زكريّا في الثامنة والثامنة والثلاثين من ملك عزيّا هو فملك
ستة أشهر، وقال ابن العميد شهرا، ثم وثب به مناخيم بن كاد من سبط زبلون
من أهل برصا فقتله، وملك مكانه اثنتي عشرة سنة. وقال ابن العميد عشر
سنين. قال وفي التاسعة والثلاثين من ملك عزيّا هو خرج إلى مدينة برصا
ففتحها عنوة واستباحها، وزحف إليه فول ملك الموصل فصانعه بألف قنطار من
الفضّة ورجع عنه، وكانت سيرته رديئة، ولما هلك مناخيم ملك ابنه بقحيّا
لأربعين من دولة عزيّا ملك القدس فأقام فيهم اثنتي عشرة سنة، وقال ابن
العميد سنتين، ثم ثار عليه من عماله باقح بن رصليّا [1] وكان على طريقة
من تقدّمه في الضلال فأقام ملكا على الأسباط بالسامرة عشر سنين، وهلك
لدولته عزيّا بن أمصيّا ملك يهوذا بالقدس، وأقام باقح بن رصليّا على
سوء السيرة
__________
[1] وفي نسخة اخرى: رسليا.
(2/131)
وعبادة الأصنام إلى أن قتله هويشيع بن
إيليا من سبط كاد في الثالثة من ملك يؤاب ملك القدس وبقي الأسباط بعده
فوضى عشر سنين، ثم ملكوا قاتله هويشيع بن إيليا المذكور، فأقام مملكا
عليهم سبع سنين وفي أيامه زحف إليه ملك أثور [1] والموصل فصير الأسباط
في دولته وأدّوا إليه الخراج، ثم ان هويشيع راسل ملك مصر في الاستعانة
به والرجوع إلى طاعته، فلما بلغ ذلك إلى ملك الموصل زحف إليه وحاصره في
مدينة السامرة ثلاث سنين واقتحمها في الرابعة. وتقبّض على هويشيع لتسع
سنين من ملكه ونقله مع الأسباط كلهم إلى الموصل، ثم بعثهم إلى قرى
أصبهان وأنزلهم بها، وقطع ملك بني إسرائيل من السامرة وبقي ملك يهوذا
وبنيامين بالقدس، وكان ذلك لعهد احزيّا بن آخاز من ملوكهم لسنة من
دولته.
وتعاقبت ملوكهم بعد ذلك بالقدس إلى أن انقرضوا. وجمع ملك الموصل من
كورة غارا وحماة وصفرارام، ويقال ومركتا وأسكنهم بالسامرة. وقال ابن
العميد وتفسيرها حفيظة ويوآطر. قالوا وسلّط الله عليهم السباع
يفترسونهم فبعثوا إلى ملك الموصل أن يعرفهم بصاحب قسمة السامريّة من
الكواكب ليتوجهوا إليه بما يناسبه على طريقة الصابئة، فقيل إنّ العشرية
التي رسخت فيها وهي دين اليهودية تمنع من ذلك ومن ظهور أثره. فبعث
إليهم كوهنين من عامّة اليهود يعلمانهم اليهودية فتلقوها عنهما، فهذا
أصل السامرة في فرق اليهود وليسوا منهم عند أهل ملّتهم لا في نسبهم ولا
في دينهم، والله مالك الأمور لا رب غيره ولا معبود سواه سبحانه وتعالى.
__________
[1] وفي التوراة: اشور.
(2/132)
الخبر عن عمارة بيت المقدس بعد الخراب
الأوّل وما كان لبني إسرائيل فيها من الملك في الدولتين لبني حشمناي
وبني هيردوس إلى حين الخراب الثاني والجلوة الكبرى
هذه الأخبار التي كانت لليهود ببيت المقدس والملك الّذي كان لهم في
العمارة بعد جلاء بخت نصّر وأمر الدولتين اللتين كانتا لهم في تلك
المدة، لم يكتب فيها أحد من الأئمة ولا وقفت في كتب التواريخ مع كثرتها
واتساعها على ما يلمّ بشيء من ذلك.
ووقع بيدي وأنا بمصر تأليف لبعض علماء بني إسرائيل من أهل ذلك العصر في
أخبار البيت والدولتين اللتين كانتا بها ما بين خراب بخت نصّر الأوّل
وخراب طيطش [1] الثاني الّذي كانت عنده الجلوة الكبرى، استوفى فيه
أخبار تلك المدّة بزعمه ومؤلف الكتاب يسمّى يوسف بن كريّون وزعم أنه
كان من عظماء اليهود وقوّادهم عند زحف الروم إليهم، وأنه كان على صولة
[2] ، فحاصره أسبيانوس أبو طيطش واقتحمها عليه عنوة، وفرّ يوسف إلى بعض
الشعاب وكمن فيها ثم حصل في قبضته بعد ذلك، واستبقاه ومن عليه وبقي في
جملته. وكانت له تلك وسيلة إلى ابنه طيطش عند ما أجلى بني إسرائيل عن
البيت فتركه بها للعبادة كما يأتي في أخباره. هذا هو التعريف بالمؤلف.
وأمّا الكتاب فاستوعب فيه أخبار البيت واليهود بتلك المدّة وأخبار
الدولتين اللتين كانتا بها لبني حشمناي وبني هيردوس من اليهود، وما حدث
في ذلك من الأحداث فلخصتها هنا كما وجدتها فيه لأني لم أقف على شيء
فيها لسواه، والقوم أعلم بأخبارهم إذا لم يعارضها ما يقدّم عليها. وكما
قال صلى الله عليه وسلم: لا تصدّقوا أهل الكتاب. فقد قال ولا تكذبوهم.
مع أنّ ذلك إنّما هو راجع إلى أخبار اليهود وقصص الأنبياء التي كان
فيها التنزيل من عند الله، لقوله بعد ذلك: «وَقُولُوا آمَنَّا
بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ 29: 46» . وأمّا
الخبر عن الواقعات المستندة إلى الحس فخبر الواحد كاف فيه إذا غلب على
الظنّ صحته، فينبغي أن نلحق هذه الأخبار بما تقدّم
__________
[1] وفي نسخة اخرى: طيطس.
[2] قوله على صولة: بلد قريب من المقدس كما في التوراة ولعلها المسماة
اليوم بصفد (بخط العطار) .
(2/134)
من أخبارهم لتكمل لنا أحوالهم من أوّل
أمرهم إلى آخره والله أعلم. ولم التزم صدقه من كذبه والله المستعان.
قال الطبريّ وغيره من الأئمة: كان يرميا ويقال أرميا بن خلقيّا من
أنبياء بني إسرائيل ومن سبط لاوى، وكان لعهد صدقيّا هو آخر ملوك بني
يهوذا ببيت المقدس، ولما توغلوا في الكفر والعصيان أنذرهم بالهلاك على
يد بخت نصّر وسأله عنه وأطلقه واحتمله معه في السبي، وكان فيما يقوله
أرميا إنّهم يرجعون إلى بيت المقدس بعد سبعين سنة يملك فيها بخت نصّر
وابنه وابن ابنه ويهلكون، وإذا فرغت مملكة الكلدانيّين بعد السبعين
يفتقدكم. يخاطب بذلك بني إسرائيل في نص آخر له عند كمال سبعين لخراب
المقدس. وكان شعيا بن أمصيّا من أنبيائهم أخبرهم بأنهم يرجعون إلى بيت
المقدس على يد كورش من ملوك الفرس، ولم يكن وجد لذلك العهد، فلما
استولى كورش على بابل وأزال مملكة الكلدانيين أذن لبني إسرائيل في
الرجوع إلى بيت المقدس وعمارة مسجدها، ونادى في الناس أنّ الله أوصاني
أن أبني بيتا فمن كان للَّه وسعيه للَّه فليمض إلى بنائه. فمضى بنو
إسرائيل في اثنين وأربعين ألفا وعليهم زيريافيل، بالفاء الهوائية، بن
شالتهيل بن يوخنيّا آخر ملوكهم بالقدس الّذي حبسه بخت نصّر وقد مرّ
ذكره. وقد مضى معهم عزير النبي من عقب أشيوع بن فنحاص ابن العازر بن
هارون وبينه وبين أشيوع ستة آباء، لم أثق بنقلها لغلبة الظنّ بأنها
مصحّفة، وردّ عليهم كورش الأواني وكانت لا يعبر عنها من الكثرة. قال
ابن العميد: كانت خمسة آلاف وأربعمائة قصعة ذهبا وفضة. فمضوا إلى بيت
المقدس وشرعوا في العمارة وشرع كورش وسعى عليهم في إبطال ذلك بعض
أعدائهم من السامرة، ولم يكن أمد السبعين التي وعدهم بها انقضى لأنّ
الخراب كان لثمان عشرة من ملك بخت نصّر وكانت دولته خمسة وأربعين ومدّة
ابنه وابن ابنه خمس وعشرون، فبقيت من السبعين ثمانية عشر التي نفدت من
ملك بخت نصّر قبل الخراب، فمنعوا من العمارة بسعاية السامريّة إلى أن
انقضت الثمان عشرة.
وجاءت دولة دارا من ملوك الفرس فأذن لهم في العمارة وعاد السامرة
لسعايتهم في إبطال ذلك عند دارا، فأخبره أهل دولته أنّ كورش أذن لهم في
ذلك فخلّى سبيلهم وعمّروا بيت المقدس في الثانية من ملك دارا الأوّل،
وهو أرفخشد والكوهن يومئذ عزيز، وجدّد لهم التوراة بعد سنتين من رجوعهم
إلى البيت. ثم هلك زيريافيل
(2/135)
وخلفه فيهم بهشمياس، وقبض العزير وخلفه
شمعون الصفا من بني هارون أيضا.
وقال يوسف بن كريون: إنّ بخت نصّر لما رجع إلى بابل أقام ملكا سبعا
وعشرين سنة، وملك بعده ابنه بلتنصّر ثلاث سنين، وانتقض عليه داريوش ملك
ماذي، وأظنهم الديلم وكيرش ملك فارس، وهزمتهم عساكره كما مرّ، فعمل في
بعض أيامه صنيعا لقواده سرورا بالواقع، وسقاهم في أواني بيت المقدس
التي احتملها جدّه من الهيكل، فسخط الله لذلك ورأى تلك الساعة كأنّ يدا
خرجت من الحائط تومي بكتابة كلمات بالخط الكلداني والكلمات عبرانية،
وهي أحصى وزن نفذ، فارتاع لذلك هو والحاضرون وفزع إلى دانيال النبي في
تفسيرها. قال وهب بن منيّه وهو من أعقاب حزقيل الأصغر وكان خلفا من
دانيال الأكبر، فقال له دانيال: هذه الكلمات تنذر بزوال ملكك ومعناها
أنّ الله أحصى مدّة ملكك، ووزن أعمالك، ونفذ قضاؤه بزوال ملكك عنك وعن
قومك. وقتل في تلك الليلة بلتنصّر، وكان ما قدّمناه من استقلال كورش
وقومه فارس بالملك ورد الجالية إلى بيت المقدس، وأطلق لهم المال
لعمارتها شكرا على الظفر بالكلدانيين ومضى بنو إسرائيل ومعهم عزرا
الكاهن ونجميّا ومردخاي وجميع رؤساء الجالية يبنون البيت والمذبح على
حدودها وقرّبوا القرابين.
وكان كورش بعد ذلك يطلق لهم في كل سنة من الحنطة والزيت والبقر والغنم
والخمر ما يحتاجون اليه في خدمة البيت ويطلق لهم جراية واسعة. وجرى
ملوك الفرس بعده على سنة في ذلك إلا قليلا في أيام أخشويروش [1] منهم،
كان وزيره هامان وكان من العمالقة، وكان طالوت قد استخلفهم بأمر الله،
فكان هامان يعاديهم لذلك وعظمت سعايته فيهم وحمله على قتلهم. وكان
مردخاي من رؤسائهم قد زوّج أخته من الرضاع لأخشويروش، فدس إليها مردخاي
أن تشفع إلى الملك في قومها فقبلها وعطف عليهم وأعادهم إلى أن انقرضت
دولة الفرس بمهلك دارا، واستولى بنو يونان بمهلك دارا على ملك فارس.
وملك الإسكندر بن فيلفوس [2] ودوّخ الأرض، وفتح سواحل الشام، وسار إلى
بيت المقدس لأنها من طاعة دارا، وخاف الكهنة من وصوله إليهم، ورأى في
بعض
__________
[1] وفي التوراة سفر استير الفصل السادس: احشوروش وفي كتب التاريخ
احشويروش.
[2] هو الإسكندر المقدوني ابن فيلبس.
(2/136)
تمثال [1] رجلا فقال: أنا رجل أرسلت
لمعونتك. ونهاه عن أذية المقدس، وأوصاه بامتثال اشارتهم. فلما وصل إلى
البيت لقيه الكوهن، فبالغ في تعظيمه ودخل معه إلى الهيكل، وبارك عليه،
ورغب إليه الإسكندر أن يضع هنالك تمثاله من الذهب اليذكر به، فقال: هذا
حرام لكن تصرف همتك في مصالح الكهنة والمصلين ويجعل لك من الذكر دعاؤهم
لك، وأن يسمي كل مولود لبني إسرائيل في هذه السنة بالإسكندر، فرضي
الإسكندر وحمل لهم المال وأجزل عطية الكوهن، وسأله أن يستخير الله في
حرب دارا، فقال له: امض والله مظفرك. وحض دانيال وقص عليه الإسكندر
رؤيا رآها فأوّلها له بأنه يظفر بدارا.
ثم انصرف الإسكندر وسار في نواحي بيت المقدس، ومرّ بنابلس ولقيه سنبلاط
السامريّ وكان أهل المقدس أخرجوه عنهم، فأضافه وأهدى له أموالا وأمتعة
واستأذنه في بناء هيكل في طول بريد فأذن له، فبناه وأقام صهره منشا
كوهنا فيه، وزعم أنه المراد بقوله في التوراة اجعل البركة على جيل
كريدم. فقصده اليهود في الأعياد، وحملوا اليه القرابين وعظم أمره، وغص
بشأنه أهل بيت المقدس، إلى أنّ خربه هرمايوس بن شمعون أوّل ملوك بني
حشمناى كما يأتي ذكره.
ثم هلك الإسكندر ببابل بعد استيفاء مدّته لاثنتين وثلاثين من ملكه وقد
كان قسم ملكه بين عظماء دولته، فكان سلياقوس بعد الإسكندر وكان عظيم
أصحابه، فأكرم اليهود وحمل المال إلى فقراء البيت ثم سعى عنده بأن في
الهيكل أموالا وذخائر نفيسة ورغبوه في ذلك، فبعث عظيما من قوّاده اسمه
أبردوس ليقبض ذلك المال فحضر بالبيت، وأنكر الكاهن حنّيان [2] أن يكون
بالبيت إلّا بقية الصدقات من فارس ويونان وما أعطاهم سلياقوس آنفا، فلم
يقبل، ووكل بهم في الهيكل فتوجهوا بالدعاء. وجاء أدروس ليقبض المال
فصدع في طريقه، وجاء أصحابه إلى الكوهن حنينا وجماعة الكهنة يسألون
الاقالة والدعاء لأردوس، فدعوا له وعوفي وارتحل.
وازداد الملك سلياقوس إعظاما للبيت وحمل ما كان يحمل إليهم مضاعفا.
__________
[1] العبارة هنا مشوشة ولم نجد في المراجع التي بين أيدينا على ما يصحح
هذه العبارة. ومقتضى السياق:
ورأى امام تمثال رجلا فقال ...
[2] ورد اسمه في التوراة حناني (سفر تحميا- الفصل الأول) .
(2/137)
قال ابن كريّون: ثم ترجمت التوراة
لليونانيين وكان من خبرها أنّ تلماي [1] ملك مصر من اليونانيين بعد
الإسكندر، وكان من أهل مقدونية، وكان محبا للعلوم ومشغوفا بالحكمة
والكتب الإلهية. وذكرت له كتب اليهود الأربعة والعشرون سفرا فتاقت نفسه
للوقوف عليها، وكتب إلى كهنون القدس في ذلك وأهدى له، فاختار سبعين من
أحبار اليهود وعلمائهم وفيهم كوهن عظيم اسمه ألعازر، وبعثهم إليه ومعهم
الأسفار فتلقاهم بالكرامة وأوسع لهم النزول ورتب مع كل واحد كاتبا يملي
عليه ما يترجم له، حتى ترجم الأسفار من العبرانية إلى اليونانية،
وصحّحها وأجاز الأحبار وأطلق لهم من كان بمصر من سبي اليهود نحوا من
مائة ألف، وصنع مائدة من الذهب نقشت عليها صورة أرض مصر والنيل ورصعها
بالجواهر والفصوص وبعث بها إلى القدس فأودعت في الهيكل.
ثم ملك تلماي صاحب مصر، واستولى بعده أنطيخوس صاحب مقدونية على أنطاكية
ثم على مصر، وأطاعه ملوك الطوائف بأرض العراق، واستفحل ملكه وعظم
طغيانه، وأمر الأمم بعبادة الأصنام. وعمل أصناما على صورته، فامتنع
اليهود من قبولها وسعى بهم عنده بعض شرارهم، وكانوا أهل نجدة وشوكة،
فسار انطيخوس إليهم وأثخن فيهم بالقتل والسبي، وفروا إلى الجبال
والبراري، فرجع واستخلف على بيت المقدس قائدة فليلقوس، وأمره أن يحملهم
على السجود لأصنامه وعلى أكل الخنزير وترك السبت والختان، ويقتل من
يخالفه. ففعل ذلك أشدّ ما يكون، وبسط على اليهود أيدي أولئك الأشرار
الساعين، وقتل العازر الكوهن الّذي ترجم لهم التوراة لمّا امتنع من
السجود لصنمه وأكل قربانه. وكان فيمن هرب إلى الجبال والبراري متيتيّا
بن يوحنّا بن شمعون الكوهن الأعظم ويعرف بحشمناي بن حونيّا من بني
نوذاب من نسل هارون عليه السلام، وكان رجلا صالحا خيّرا شجاعا، وأقام
بالبرية وحزن لما نزل بقومه. فلما أبعد انطيخوس الرحلة عن القدس، بعث
متيتيّا إلى اليهود يعرفهم بمكانه، وينمعض لهم ويحرّضهم على الثورة على
اليونانيين، فأجابوه وتراسلوا في ذلك، وبلغ الخبر فليلقوس قائد
أنطيخوس، فسار في عسكره إلى البريّة طالبا متيتيا وأصحابه، فلما وصل
إليهم حاربهم فغلبوه وانهزم في عساكره.
__________
[1] هو بطليموس مؤسس دوله البطالسة في مصر.
(2/138)
وقوي اليهود على الخلاف، وهلك متيتيّا خلال
ذلك وقام بأمره ابنه يهوذا فهزم عساكر فليلقوس ثانية. وشغل أنطيخوس
بحروب الفرس فزحف إليهم من مقدونية، واستخلف عليهم ابنه أفظر، وضمّ
إليه عظيما من قومه اسمه ليشاوش، وأمرهم أن يبعثوا العساكر إلى اليهود،
فبعثوا ثلاثة من قوادهم وهم نيقانور وتلمياس وصردوس، وعهد إليهم بإبادة
اليهود حيث كانوا فسارت العساكر، واستنفروا سائر الأرمن من نواحي دمشق
وحلب، وأعداء اليهود من فلسطين وغيرهم. وزحف يهوذا بن متيتيّا مقدّم
اليهود للقائم بعد أن تضرعوا إلى الله وطافوا بالبيت وتمسحوا به،
ولقيهم عسكر نيقانور فهزموه، واثخنوا فيه بالقتل، وغنموا ما معهم، ثم
لقيهم عسكر القائد ابن تلمياس وصردوس ثانيا فهزموهما كذلك، وقبضوا على
فليلقوس القائد الأوّل لأنطيخوس فأحرقوه بالنار، ورجع نيقانور إلى
مقدونية فدخلها وخبّر ليشاوش وأفظر ابن الملك بالهزيمة، فجزعوا لها. ثم
جاءهم الخبر بهزيمة أنطيخوس أمام الفرس، ثم وصل إلى مقدونية واشتدّ
غيظه على اليهود، وجمع لغزوهم فهلك دون ذلك بطاعون في جسده، ودفن في
طريقه. وملك أفظر وسموه أنطيخوس باسم أبيه.
ورجع يهوذا بن متيتيّا إلى القدس، فهدم جميع ما بناه أنطيخوس من
المذابح، وأزال ما نصبه من الأصنام، وطهّر المسجد، وبنى مذبحا جديدا
للقربان، فوضع فيه الحطب ودعا الله أن يريهم آية في اشتغاله من غير
نار، فاشتعل كذلك ولم ينطف إلى الخراب الثاني أيام الجلوة، واتخذوا ذلك
اليوم عيدا سمّوه عيد العساكر.
ونازل ليشاوش فزحف إليه يهوذا بن متيتيّا في عسكر اليهود وثبت عسكر
ليشاوش فانهزموا، ولجأ إلى بعض الحصون وطلب النزول على الأمان على أن
لا يعود إلى حربهم، فأجابه يهوذا على أن يدخل أفظر معه في العقد وكان
ذلك. وتم الصلح وعاهد أفظر اليهود على أن لا يسير إليهم، وشغل يهوذا
بالنظر في مصالح قومه.
قال ابن كريّون: وكان لذلك العهد ابتداء أمر الكيتم وهم الروم، وكانوا
برومية وكان أمرهم شورى بين ثلاثمائة وعشرين رئيسا، ورئيس واحد عليهم
يسمونه الشيخ يدبّر أمرهم، ويدفعون للحروب من يثقون بغنائه وكفايته
منهم أو من سواهم. هكذا كان شأنهم لذلك العهد، وكانوا قد غلبوا
اليونانيين واستولوا على ملكهم، وأجازوا البحر إلى إفريقية فملكوها كما
يأتي في أخبارهم، فأجمعوا السير إلى أنطيخوس أفظر وابن
(2/139)
عمه ليشاوش بقية ملوك يونان بأنطاكيّة،
وكاتبوا يهوذا ملك بني إسرائيل بالقدس يستميلونهم عن طاعة أنطيخوس
واليونانيين فأجابوهم إلى ذلك، وبلغ ذلك أنطيخوس فنبذ إلى اليهود عهدهم
وسار إلى حربهم فهزموه ونالوا منه. ثمة راسلهم في الصلح وأن يقيموا على
عهدهم معه وتحمل لبيت المقدس بما كان يحمله من المال، وأن يقتل من عنده
من شرار اليهود الساعين عليهم، فتم العهد بينهم على ذلك وقتل شملاوش من
الساعين على اليهود، ثم جهز أهل رومة قائد حروبهم دمترياس [1] بن
سلياقوس إلى أنطاكية، ولقيه أنطيخوس أفظر فانهزم أنطيخوس وقتل هو وابن
عمه ليشاوش، وملك الروم أنطاكية. ونزلها قائدهم دمترياس وكان ألقيموس
الكوهن من شرار اليهود عند أنطيخوس، فلما ملك دمترياس قائد الروم فسعى
عنده في اليهود ورغبه في ملك القدس والاستيلاء على أمواله، فبعث قائده
نيقانور لذلك وخرج يهوذا ملك القدس لتلقيه وطاعته، وقدم بين يديه
الهدايا والتحف، فمال نيقانور إلى مسالمة اليهود وحسن رأيه وأكد بينه
وبينهم العهد. ورجع وبادر ألقيموس الكوهن إلى دمترياس وأخبره بميل
قائده نيقانور إلى اليهود، وزاد في إغرائه فبعث إلى قائده ينكر عليه
ويستحثه لإنفاذ أمره، وأن يحمل يهوذا مقيّدا. وبلغ ذلك يهوذا فلحق
بمدينة السامرة صبصطية، واتبعه نيقانور في العساكر فكرّ عليه يهوذا
وهزمه وقتل أكثر عساكر الروم الذين معه. ثم ظفر به فصلبه على الهيكل
ببيت المقدس، واتخذ اليهود ذلك اليوم عيدا وهو ثالث عشر آذار.
ثم بعث قائد الروم دمترياس من قابل قائده الآخر يعتروس في ثلاثين ألفا
من الروم لمحاربة اليهود، وخرجت عساكرهم من المقدس، وفرّوا عن ملكهم
يهوذا وافترقوا في الشعاب، وأقام معه منهم فلّ قليل، واتبعهم يعتروس
فلقيه يهوذا وأكمن له فانهزم اليهود، وخرج عليهم كمين الروم فقتل يهوذا
في كثير من ولايته ودفن إلى جانب أبيه متيتيّا. ولحق أخوه يوناثال فيمن
بقي من اليهود، بنواحي الأردن وتحصنوا ببئر سبع، فحاصرهم يعتروس هنالك
أياما، ثم بيتوه فهزموه وخرج يوناثال واليهود في اتباعه فتقبضوا عليه،
ثم أطلقوه على مسالمة اليهود وأن لا يسير إلى حربهم. فهلك يوناثال إثر
ذلك وقام بأمر اليهود أخوهما الثالث شمعون، فاجتمع إليه اليهود من كل
ناحية وعظمت عساكره، وغزا جميع أعدائهم ومن ظاهر عليهم من سائر الأمم،
وزحف
__________
[1] هو القائد الروماني الشهير ميتريدات.
(2/140)
إليه دمترياس قائد الروم بأنطاكية فهزمه
شمعون وقتل غالب عسكره.
ولم تعاودهم الروم بعدها بالحرب إلى أن هلك شمعون. وثب عليه صهره تلماي
زوج أخته فقتله وتقبض على بنيه وامرأته، وهرب ابنه الأكبر قانوس بن
شمعون إلى غزة فامتنع بها، وكان اسمه يوحان وكان شجاعا قتل في بعض
الحروب شجاعا اسمه هرقانوس فسمّاه أبوه باسمه. ثم اجتمع عليه اليهود
وملكوه وسار إلى بيت المقدس، وفرّ تلماي المتوثب على أبيه إلى حصن
داخون، فامتنع به وسار هرقانوس إلى محاربته وضيق عليه، وأشرف تلماي في
بعض الأيام من فوق السور بأم هرقانوس وأخته يتهدّده بقتلهما، فكف عن
الحرب، وانصرف لحضور عيد المظال ببيت المقدس فقتل تلماي أخته وأمّه
وفرّ من الحصن.
قال ابن كريّون: ثم زحف دمترياس بن سلياقوس قائد الروم إلى القدس وحاصر
اليهود فامتنعوا، وثلم السور، وراسلوه في تأخير الحرب إلى انقضاء
عيدهم، ففعل على أن يكون له نصيب في القربان. ووقعت في نفسه صاغية
اليهم، وأهدى تماثيل للبيت فحسن موقعها عندهم، وراسلوه في الصلح على
المسالمة والمظاهرة لبعض فأجاب. وخرج إليه هرقانوس ملك اليهود وأعطاه
ثلاثمائة بدرة من الذهب استخرجها من بعض قبور بني داود. ورحل عنهم
الروم، وشغل هرقانوس في رمّ ما ثلم [1] من السور، وحدثت خلال ذلك فتنة
بين الفرس والروم فسار إليهم دمترياس في جموع الروم، وبينما أبطأ
هرقانوس ملك اليهود لحضور عيدهم إذ جاءه الخبر بأنّ الفرس هزموا
دمترياس، فنهز الفرصة وزحف إلى أعدائه من أهل الشام وفتح نابلس وحصون
أروم التي بجبل الشراة، وقتل منهم خلقا ووضع عليهم الجزية وأخذهم
بالختان والتزام أحكام التوراة، وخرب الهيكل الّذي بناه سنبلاط السامري
في طول بريد بإذن الإسكندر، وقهر جميع الأمم المجاورين لهم، ثم بعث
وجوه اليهود وأعيانهم إلى الأشياخ والمدبّرين برومة يسأل تجديد العهد،
وأن يردّوا على اليهود ما أخذ أنطيخوس ويونان من بلادهم التي صارت في
مملكة الروم، فأجابوا وكتبوا له العهد بذلك وخاطبوه بملك اليهود. وإنما
كان يسمى من سلف قبله من آبائه بالكوهن فسمى نفسه من يومئذ بالملك،
وجمع بين منزلة الكهنونة ومنزلة الملك، وكان أوّل ملوك بني حشمناي. ثم
سار إلى مدينة السامرة صبصطية ففتحها وخرّبها وقتل أهلها.
__________
[1] أي ترميم ما تهدّم.
(2/141)
قال ابن كريّون: وكان اليهود في دينهم
يومئذ ثلاث فرق. فرقة الفقهاء وأهل القياس [1] ويسمّونهم الفروشيم وهم
الربّانيّون، وفرقة الظاهريّة المتعلقين بظواهر الألفاظ من كتابهم
ويسمونهم الصدوقيّة وهم القرّاءون، وفرقة العبّاد المنقطعين إلى
العبادة والتسبيح والزهاد فيما سوى ذلك ويسمونهم الحيسيد. وكان هرقانوس
وآباؤه من الربانيين، ففارق مذهبهم إلى القراءين لأنه جمع اليهود يوما
عند ما تمهّد أمره، وأخذ بمذاهب الملك، وألقى به في صنيع احتفل فيه
وألان لهم جانبه وخضع في قوله وقال:، أريد منكم النصيحة. فطمع بعض
الربانيين فيه وقال: إنّ النصيحة أن تنزل عن الكهنونة وتقتصر على الملك
وقد فاتك شرطها لأنّ أمك كانت سبية من أيام أنطيخوس. فغضب لذلك وقال
للربانيين: قد حكمتكم في صاحبكم فأخذوا في تأديبه بالضرب فتنكر لهم من
أجل ذلك، وفارق مذهبهم إلى مذهب القراءين، وقتل من الربانيين خلقا
كثيرا، ونشأت الفتنة بين هاتين الطائفتين من اليهود، واتصلت بينهم
الحرب إلى هذا العهد.
وهلك هرقانوس لإحدى وثلاثين سنة من دولته، وملك بعده ابنه أرستبلوس
وكان كبيرهم، وكان له ولدان آخران وهم أنطقنوس ويحبّ الملك له ويبغض
الإسكندر فأبعده إلى جبل الخليل، فلما ملك أرستبلوس أخذ من اخوته بمذهب
أبيهم وقبض على الإسكندر وأمه واستخلص أنطقنوس وقدّمه على العساكر،
واكتفى به في الحروب، وترفع عن تاج الكهنونة ولبس تاج الملك. وخرج
أنطقنوس إلى الأمم المجاورين الخارجين عن طاعتهم فردّهم إلى الطاعة،
وكثرت السعاية فيه عند أخيه من البطانة وأغروه به، فلما قدم أنطقنوس من
مغيبه وافق عيد المظال، وكان أخوه ملتزما بيته لمرض طرقه، فعدل أنطقنوس
عن بيته إلى الهيكل للتبرك، فأوهموا الملك أنّه إنما فعل ذلك لاستمالة
الكهنونية والعامة وأنّه يروم قتل أخيه، وعلامة ذلك أنّه جاء بسلاحه،
فعهد أرستبلوس إلى حشمانه وغلمان قصه إن جاء متسلحا أن يقتلوه.
وكان ذلك وتمت حيلة البطانة وسعايتهم عليه وعلم أرستبلوس أن قد خدع في
أخيه، فندم واغتمّ ولطم صدره حتى قذف الدم من فيه، وأقام عليلا بعده
حولا كاملا ثم هلك. فأفرجوا على أخيه الإسكندر من محبسه، وبايعوا له
بالملك واستقام له الأمر، ثم انتقض عليه أهل عكّا وأهل صيدا وأهل غزة
بعثوا إلى قبرص، وسار
__________
[1] وفي نسخة اخرى: أهل القيافة.
(2/142)
الإسكندر إلى عكّا فحاصرها وكانت كلوبطرة
ملكة من بقية اليونان قد انتقض عليها ابنها واسمه ألظيرو وأجاز البحر
إلى جزيرة قبرص فملكها، فبعث أهل عكّا أنّهم يملكونه وأجاز إليهم في
ثلاثين ألف مقاتل، حتى إذا أفرج الإسكندر عن حصارهم راجعوا أمرهم
ومنعوا ألظيرو، وامن الدخول إليهم، فسار في بلاد الإسكندر ونزل على جبل
الخليل فقتل منه خلقا، ونزل على الأردن. وفي خلال ذلك زحف الإسكندر إلى
صيدا ففتحها عنوة واستباحها، وعاد إلى القدس وقد أطاعته البلاد وحسم
داء المنتقضين عليه.
ثم تجدّدت الفتنة بين اليهود بالقدس وذلك أنّهم اجتمعوا في عيد المظال
بالمسجد، وحضر الإسكندر معهم فتلاعبوا بين يديه مراماة بما عندهم من
مشوم ومأكول، وأصاب الإسكندر رمية من الربّانيين فغضب لها، وشاتمهم
القراءون بما كانوا من شيعته، فشتموا الإسكندر وقتلوا الشاتم وأصحابه
فلم يغن عنهم، وعظم فيهم الفتك وانفض الجمع، وعهد الإسكندر ان يستدّ
المذبح والكهنة بحائط عن الناس، ونفذ أمره بذلك، واتصلت الفتنة بين
اليهود ست سنين قتل من الربانيين نحو من خمسين ألفا، والإسكندر يعين
القراءين عليهم، وبعثوا إلى دمتريوس المسمّى أنطيخوس، وبذلوا له المال
فسار معهم إلى نابلس ولقي الإسكندر فهزمه وقتل عامّة أصحابه ورجع. فخرج
الإسكندر إلى الربّانيين وأثخن فيهم وظفر منهم بجماعة تزيد على
ثلاثمائة فقتلهم صبرا وقهر سائر اليهود. وسار إلى دمتريوس ففتح الكثير
من بلاده، وخرج فظفر به الإسكندر وقتله.
وعاد إلى بيت المقدس لثلاث سنين في محاربة الربّانيين ودمتريوس،
فاستقام أمره وعظم سلطانه ثم طرقه المرض فقام عليلا ثلاثا آخرين، وخرج
بعدها لحصار بعض الحصون وانتقضوا عليه فمات هنالك، وأوصى امرأته
الإسكندرة بكتمان موته حتى يفتح الحصن وتسير بشلوه [1] إلى القدس
فتدفنه فيه، وتصانع الربّانيين على ولدها فتملكه، لأن العامّة إليهم
أميل. ففعلت ذلك واستدعت من كان نافرا من الربّانيين، وجمعتهم وقدّمتهم
للشورى، واستبدت بالملك. وكان لها ابنان من الإسكندر بن هرقانوس، اسم
الأكبر منهما هرقانوس، والآخر أرستبلوس، وكانا صغيرين عند موت أبيهما
فلما كبرا عينت هرقانوس للكهنونة وقدّمت أرستبلوس على
__________
[1] ج أشلاء وهنا تعني جثته أو رفاته.
(2/143)
العساكر والحروب، وضمّت إليه الربّانيين،
وأخذت الرهن من جميع الأمم وسألها الربّانيون في الأخذ بثأرهم من
القرّاءين خلقا كثيرا. وجاء القراءون إلى ابنها الكهنون ينكرون ذلك
وأنّه إذا فعل بهم ذلك، وقد كانوا شيعا لأبيه الإسكندر، فقد تحدث
النفرة من سائر الناس. وسألوه أن يلتمس لهم اذنها في الخروج عن القدس
والبعد عن الربانيين، فأذنت لهم رغبة في انقطاع الفتنة، وخرج معهم وجوه
العسكر. ثم ماتت خلال ذلك لتسع سنين من دولتها، ويقال إنّ ظهور عيسى
صلوات الله عليه كان في أيامها. وكان ابنها أرستبلوس قائد العسكر لما
شعر بموتها خرج إلى القراءين يستدعيهم إلى نصرته فأجازوه، وتقبضت هي
على ابنيه وامرأته، واجتمعت عليه العساكر من النواحي وضرب البوق وزحف
لحرب أخيه هرقانوس والربانيين، وحاصرهم أرستبلوس ببيت المقدس، وعزم على
هدم الحصن فخرج إليه أعيان اليهود والكهنونية ساعين في الصلح بينهما،
وأجاب على أن يكون ملكا ويبقى هرقانوس على الكهنونيّة، فتم ذلك واستقر
عليه أمره.
ابتداء أمر انظفتر [1] أبو هيردوس
ثم سعى في الفتنة بينهما انظفتر أبو هيردوس، وكان من عظماء بني إسرائيل
من الذين جمعوا مع العزير من بابل، وكان ذا شجاعة وبأس، وله يسار وقنية
من الضياع والمواشي. وكان الإسكندر قد ولّاه على بلاد أروم [2] وهي
جبال الشراة، فأقام في ولايتها سنين، وكثر ماله وأنكحوه منهم، فكان له
منها أربعة من الأبناء وهم فسيلو وهيردوس وفرودا ويوسف، وبنت اسمها
سلومث. وقيل أنّ أنظفتر لم يكن من بني إسرائيل، وإنّما كان من أروم
وربي في جملة بني خشمناي وبيوتهم. فلما مات الإسكندر وملكت زوجته
الاسكندرة عزلته عن جبال الشراة، فأقام بالقدس. حتى إذا استبد بالأمر
أرستبلوس، وكان بين هرقانوس وأنظفتر مودّة وصحبة، فغصّ أرستبلوس بمكانه
من أخيه لما يعلم من مكر أنظفتر وهمّ بقتله، فانفض عنه وأخذ في التدبير
على أرستبلوس. وفشا في الناس تبغضه إليهم وينكر تغلبه، ويذكر لهم أن
هرقانوس أحق بالملك منه، ثم حذر هرقانوس من أخيه وخيّل إليه أنه يريد
قتله،
__________
[1] وهو معروف في التاريخ باسم انتيباتر.
[2] وفي نسخة ثانية أدوم.
(2/144)
وبعث لشيعة هرقانوس المال على تخويفه من
ذلك حتى تمكن منه الخوف، ثم أشار عليه بالخروج الى ملك العرب هرثمة،
وكان يحب هرقانوس، فعقد معه عهدا على ذلك، ولحق هرقانوس بهرثمة ومعه
أنظفتر، ثم دعوا هرثمة الى حرب أرستبلوس فأجابهم بعد مراوغة، وتزاحفوا
ونزع الكثير من عسكر أرستبلوس إلى هرقانوس، فرجع هاربا الى القدس،
ونازلهم هرقانوس وهرثمة واتصلت الحرب وطال الحصار.
وحضر عيد الفطير وافتقد اليهود القرابين فبعثوا إلى أصحاب هرقانوس
فيها، فاشتطوا في الثمن، ثم أخذوه ولم يعطوهم شيئا، وقتلوا بعض النساك
طلبوه في الدعاء على أرستبلوس وأصحابه، وامتنع فقتلوه، ووقع فيهم
الوباء فمات منهم أمم.
قال ابن كريون: وكان الأرمن ببلاد دمشق وحمص وحلب، وكانوا في طاعة
الروم، فانتقضوا عليهم في هذه المدّة وحدثت عندهم صاغية إلى الفرس،
فبعث الروم قائدهم فمقيوس [1] فخرج لذلك من رومية، وقدم بين يديه قائده
سكانوس فطوّع الأرمن ولحق دمشق، ثم لحقه فمقيوس ونزل بها. وتوجهت إليه
وجوه اليهود في أثرهم، وبعث إليه أرستبلوس من القدس وهرقانوس من مكان
حصاره، كل واحد منهما يستنجده على أخيه، وبعثوا إليه بالأموال والهدايا
فأعرض عنها، وبعث إلى هرثمة ينهاه عن الدخول بينهما فرحل عن القدس،
ورحل معه هرقانوس وأنظفتر، وأعاد أرستبلوس رسله وهداياه من بيت المقدس،
وألحّ في الطلب وجاء أنظفتر الى فمقيوس بغير مال ولا هدية، فنكث عنه
فمقيوس، فرجع إلى رغبته ومسح أعطافه وضمن له طاعة هرقانوس الّذي هو
الكهنوت الأعظم. ويحصل بعد ذلك إضعاف أرستبلوس فأجابه فمقيوس على أن
يتحيّل له في الباطن ويكون ظاهره مع أرستبلوس حتى يتم الأمر، وعلى أن
يحملوا الخراج عند حصول أمرهم، فضمن أنظفتر ذلك.
وحضر هرقانوس وأرستبلوس عند فمقيوس القائد يتظلم كل واحد من صاحبه،
فوعدهم بالنظر بينهم إذا حل بالقدس.
وبعث أنظفتر في جميع الرعايا فجاءوا شاكين من أرستبلوس، فأمره فمقيوس
من إنصافهم فغضب لذلك واستوحش وهرب من معسكر فمقيوس وتحصن في القدس،
وسار فمقيوس في أثره فنزل أريحا ثم القدس وخرج أرستبلوس واستقال،
فأقاله وبذل له الأموال على أن يعينه على أخيه ويحمل له ما في الهيكل
من الأموال والجواهر،
__________
[1] هو القائد الروماني المعروف بمبيوس.
(2/145)
وبعث معه قائدة لذلك، فمنعهم الكهنونية
وثارت بهم العامّة وقتلوا بعض أصحاب القائد وأخرجوه. فغضب فمقيوس وتقبض
لحينه على أرستبلوس، وركب ليقتحم البلد فامتنعت عليه، وقتل جماعة من
أصحابه فرجع، وأقام عليهم. ووقعت الحرب بالمدينة بين شيع أرستبلوس
وهرقانوس، وفتح بعض اليهود الباب لفمقيوس فدخل البلد وملك القصر وامتنع
الهيكل عليه، فأقام يحاصره أياما، وصنع آلة الحصار فهدم بعض أبراجه
واقتحمه عنوة، ووجد الكهنونية على عبادتهم وقربانهم مع تلك الحرب، ووقف
على الهيكل فاستعظمه ولم يمد يده إلى شيء من ذخائره، وملك عليهم
هرقانوس، وضرب عليهم الخراج يحمله كل سنة. ورفع يد اليهود عن جميع
الأمم الذين كانوا في طاعتهم، ورد عليهم البلدان التي ملكها بنو
حشمناي، ورجع الى رومة.
واستخلف هرقانوس وأنظفتر على المقدس وأنزل معهما قائده سكانوس الّذي
قدّمه لفتح دمشق وبلاد الأرمن عند ما خرج من روميّة، وحمل أرستبلوس
وابنيه مقيدين معه، وهرب الثالث من بنيه وكان يسمّى الإسكندر ولحقه فلم
يظفر به. ولما بعد فمقيوس عن الشام ذاهبا إلى مكانه خرج هرقانوس
وأنظفتر إلى العرب ليحملوهم على طاعة الروم، فخالفهم الإسكندر بن
أرستبلوس إلى المقدس وكان متغيبا بتلك النواحي منذ مغيب أبيه لم يبرح،
فدخل إلى المقدس وملّكه اليهود عليهم وبنى ما هدمه فمقيوس من سور
الهيكل، واجتمع إليه خلق كثير. ورجع هرقانوس وأنظفتر فسار إليهم
الإسكندر وهزمهم وأثخن في عساكرهم. وكان قائد الروم كينانوس قد جاء إلى
بلاد الأرمن من بعد فمقيوس، فلحق به واستنصره على الإسكندر فسار معه
إلى القدس، وخرج إليهم الإسكندر فهزموه، ومضى إلى حصن له يسمى
الإسكندرونة واعتصم به.
وسار هرقانوس إلى القدس فاستولى على ملكه، وسار كينانوس قائد الروم إلى
الإسكندر فحاصره بحصنه واستأمن اليه فقبله وعفا عنه وأحسن إليه. وفي
أثناء ذلك هرب أرستبلوس أخو هرقانوس من محبسه بروميّة، وابنه أنطقنوس
واجتمع إليه، فحاربه كينانوس وهزمه وحصل في أسره فرده إلى محبسه
بروميّة، ولم يزل هنالك إلى أن تغلب قيصر على روميّة، واستحدث الملك في
الروم.
وخرج فمقيوس من روميّة إلى نواحي عمله وجمع العساكر لمحاربة قيصر،
فأطلق
(2/146)
ارستبلوس من محبسه، وأطلق معه قائدين في
اثني عشر ألف مقاتل، وسرّحهم إلى الأرمن واليهود ليردوهم عن طاعة
فمقيوس، وكتب فمقيوس إلى أنظفتر ببيت المقدس أن يكفيه أمر أرستبلوس،
فبعث قوما من اليهود لقوة في بلاد الأرمن ودسّوا له سما في بعض شرابه
كان فيه حتفه. وقد كان كينانوس كاتب الشيخ صاحب روميّة في إطلاق من بقي
من ولد أرستبلوس فأطلقهم.
قال ابن كريون: وكان أهل مصر لذلك العهد انتقضوا على ملكهم تلماي
وطردوه وامتنعوا من حمل الخراج إلى الروم، فسار إليهم واستنفر معه
أنظفتر فغلبهم وقتلهم، وردّ تلماي إلى ملكه واستقام أمر مصر. ورجع
كينانوس إلى بيت المقدس فجدّد الملك لهرقانوس، وقدّم أنظفتر مدبّر
المملكة وسار إلى روميّة.
قال ابن كريون: ثم غضبت الفرس على الروم فندبوا إلى ذلك قائدا منهم
يسمى عرنبوس، وبعثوه لحربهم، فمرّ بالقدس ودخل إلى الهيكل وطالب
الكهنون بما فيه من المال، وكان يسمّى ألعازر من صلحاء اليهود
وفضلائهم، فقال له: إن كينانوس وفمقيوس لم يفعلوا ذلك بتلك. فاشتدّ
عليه. فقال: أعطيك ثلاثمائة من الذهب وتتجافى عن الهيكل. ودفع إليه
سبيكة ذهب على صورة خشبة كانت تلقى عليها الصور التي تنزل من الهيكل
الّذي تجدّد، وكان وزنها ثلاثمائة فأخذها ونقض القول وتعدّ على الهيكل،
وأخذ جميع ما فيه منذ عمارتها من الهدايا والغنائم وقربانات الملوك
والأمم وجميع آلات القدس، وسار إلى لقاء الفرس فحاربوه وهزموه وأخذوا
جميع ما كان معه وقتل. واستولت الفرس على بلاد الأرمن من دمشق وحمص
وحلب وما إليها، وبلغ الخبر الى الروم فجهزوا قائدا عظيما في عساكر جمة
اسمه كسنا و، فدخل بلاد الأرمن الذين كانوا غلبوا عليها. وساروا إلى
القدس فوجد اليهود يحاربون هرقانوس وأنظفتر فأعانهما حتى استقام ملك
هرقانوس ثم سار إلى الفرس في عساكره فغلبهم وحملهم على طاعة الروم، ورد
الملوك الذين كانوا عصوا عليهم إلى الطاعة، وكانوا اثنين وعشرين ملكا
من الفرس كان فمقيوس قائد الروم هزمهم، فلما سار عنهم انتقضوا.
قال ابن كريون: ثم ابتدأ أمر القياصرة وملك على الروم يولياس ولقبه
قيصر لأنّ أمّه ماتت حاملا به عند مخاضها فشق بطنها عنه فلذلك سمّي
قيصر، ومعناه بلغتهم القاطع. ويسمّى أيضا يولياس باسم الشهر الّذي ولد
فيه وهو يوليه خامس
(2/147)
شهورهم [1] ومعنى هذه اللفظة عندهم الخامس،
وكان الثلاثمائة والعشرون المدبّرون أمر الروم والشيخ الّذي عليهم قد
أحكموا أمرهم مع جماعة الروم على أن لا يقدّموا عليهم ملكا، وأنهم
يعينون للحروب في الجهات قائدا بعد آخر. هذا ما اتفقوا عليه النقلة في
الحكاية عن أمر الروم وابتداء ملك القياصرة. قالوا ولما رأى قيصر هذا
الشيخ الّذي كان لذلك العهد كبر وشب على غاية من الشجاعة والاقدام،
فكانوا يبعثونه قائدا على العساكر إلى النواحي، فأخرجوه مرّة إلى
المغرب فدوّخ البلاد، ورجع فسمت نفسه إلى الملك فامتنعوا له وأخبروه
أنّ هذا سنّة آبائهم منذ أحقاب، وحدّثوه بالسبب الّذي فعلوا ذلك لأجله،
وهو أمر كيوس وأنه عهد لأوّلهم لا ينقض، وقد دوّخ فمقيوس الشرق، وطوّع
اليهود ولم يطمع في هذا فوثب عليهم قيصر وقتلهم واستولى على ملك الروم
منفردا به وسمّى قيصر، وسار الى فمقيوس بمصر فظفر به وقتله، ورجع فوجد
بتلك الجهات قواد فمقيوس فسار إليهم يولياس قيصر ومرّ ببلاد الأرمن
فأطاعوه، وكان عليهم ملك اسمه مترداث فبعثه قيصر إلى حربهم.
فسار في الأرمن ولقيه هرقانوس ملك اليهود بعسقلان ونفر معه إلى مصر هو
وأنظفتر ليمحوا بعض ما عرف منهم من موالاة فمقيوس، وساروا جميعا إلى
مضر ولقيتهم عساكرها واشتدّ الحرب فحصر بلادهم، وكادت الأرمن أن
ينهزموا، فثبت أنظفتر وعساكر اليهود وكان لهم الظفر واستولوا على مصر،
وبلغ الخبر الى قيصر فشكر لأنظفتر حسن بلائه واستدعاه فسار إليه مع ملك
الأرمن مترداث فقبله وأحسن وعده. وكان أنطقنوس بن أرستبلوس قد اتصل
بقيصر وشكى بأنّ هرقانوس قتل أباه حين بعثه أهل رومة لحرب فمقيوس،
وفتحيّل عليه هرقانوس وأنظفتر وقتلاه مسموما، فأحسن أنظفتر العذر لقيصر
بأنه إنما فعل ذلك في خدمة من ملك علينا من الروم، وإنما كنت ناصحا
لقائدهم فمقيوس بالأمس، وأنا اليوم أيها الملك لك أنصح وأحب، فحسن موقع
كلامه من قيصر ورفع منزلته وقدّمه على عساكره لحرب الفرس، فسار اليه
أنظفتر وأبلى في تلك الحروب ومناصحة قيصر، فلما انقلبوا من بلاد الفرس
أعادهم قيصر الى ملك بيت المقدس على ما كانوا عليه.
واستقام الملك لهرقانوس وكان خيرا، إلّا أنه كان ضعيفا عن لقاء الحروب
فتغلّب
__________
[1] يوليه: هو شهر تموز وهو الشهر السابع كما في تقويمنا الحالي، ولكن
السنة عندهم كانت تبدأ بشهر آذار أو «مارت» فيكون شهر يوليه هو الخامس
كما ذكر.
(2/148)
عليه أنظفتر، واستبد على الدولة، وقدّم
ابنه فسيّلو ناظرا في بيت المقدس، وابنه هيردوس عاملا على جبل الخليل،
وكان كما بلغ الحلم واحتازوا الملك من أطرافه وامتلأ أهل الدولة منهم
حسدا وكثرت السعاية فيهم، وكان في أطراف عملهم ثائر من اليهود يسمّى
حزقيّا وكان شجاعا صعلوكا واجتمع إليه أمثاله فكانوا يغيرون على الأرمن
وينالون منهم. وعظمت نكايتهم فيهم فشكى عامل بلاد الأرمن وهو سفيوس ابن
عمّ قيصر الى هيردوس وهو بجبل الخليل ما فعله حزقيّا وأصحابه في
بلادهم، فبعث هيردوس إليه سريّة فكبسوهم، وقتل حزقيّا وغيره منهم، وكتب
بذلك إلى سفيوس فشكره وأهدى إليه اليهود.
ونكر اليهود ذلك من فعل هيردوس وتظلموا منه عند هرقانوس وطلبوه في
القصاص منه، فأحضروه في مجلس الأحكام وأحضر السبعين شيخا من اليهود،
وجاء هيردوس متسلحا ودافع عن نفسه، وعلم هرقانوس بغرض الأشياخ، ففصلوا
المجلس فنكروا ذلك على هرقانوس، ولحق هيردوس ببلاد الأرمن فقدّمه سفيوس
على عمله.
ثم أرسل هرقانوس إلى قيصر يسأل تجديد عهود الروم لهم، فكتب له بذلك،
وأمر بأن يحمل أهل الساحل خراجهم إلى بيت المقدس ما بين صيدا وغزّة،
ويحمل أهل صيدا إليها في كل سنة عشرين ألف وسق من القمح، وأن يرد على
اليهود سائر ما كان بأيديهم إلى الفرات واللاذقية وأعمالها وما كان بنو
حشمناي فتحوه عنوة من عدوات الفرات، لأن فمقيوس كان يتعدّى عليهم في
ذلك، وكتب العهد بذلك في ألواح من نحاس بلسان الروم ويونان، وعلقت في
أسوار صور وصيدا واستقام أمر هرقانوس.
قال ابن كريّون: ثم قتل قيصر ملك الروم. وأنظفتر وزير هرقانوس المستبد
عليه. أما قيصر فوثب عليه كيساوس من قواد فمقيوس فقتله، وملك وجمع
العساكر وعبر البحر إلى بلاد أشيّت ففتحها، ثم سار إلى القدس وطالبهم
بسبعين بدرة من الذهب، فجمع له أنظفتر وبنوه من اليهود، ثم رجع كيساوس
إلى مقدونية فأقام بها. وأما أنظفتر فإن اليهود داخلوا القائد ملكيّا
الّذي كان بين أظهرهم من قبل كيساوس في قتل أنظفتر وزير هرقانوس،
فأجابهم الى ذلك، فدسّوا إلى ساقيه سمّا فقتله، وجاء ابنه هيردوس إلى
القدس مجمعا قتل هرقانوس، فكفّه فسيّلوا عن ذلك، وجاء كيساوس من
مقدونية إلى صور، ولقي هرقانوس وهيردوس وشكوا إليه ما فعله قائده ملكيا
من
(2/149)
مداخلة اليهود في قتل أنظفتر، فأذن لهم في
قتله فقتلوه. ثم زحف كينانوس بن أخي قيصر وقائده أنطيوس [1] في العساكر
لحرب كيساوس المتوثب على عمه قيصر، فلقيهم قريبا من مقدونية فظفرا به
وقتلاه، وملك كينانوس مكان عمه وسمى أوغسطس قيصر باسم عمه. فأرسل إليه
هرقانوس ملك اليهود بهدية وفيها تاج من الذهب مرصع بالجواهر وسأل تجديد
العهد لهم، وأن يطلق السبيّ [2] الّذي سبي منهم أيام كيساوس، وأن يرد
اليهود إلى بلاد يونان وأثينة، وأن يجري لهم ما كان رسم به عمه قيصر،
فأجابه إلى ذلك كله.
وسار أنطيانوس وأوغسطس قيصر إلى بلاد الأرمن بدمشق وحمص، فلقته هنالك
كلبطرة ملكة مصر وكانت ساحرة، فاستأمنته وتزوّجها وحضر عنده هرقانوس
ملك اليهود. وجاء جماعة من اليهود فشكوا من هيردوس وأخيه فسيّلو
وتظلموا منهما، وأكذبهم ملكهم هرقانوس وأبى عليها، وأمر انطيانوس
بالقبض على أولئك الشاكين وقتل منهم، ورجع هيردوس وأخوه فسارا إلى
مكانهما ومكان أبيهما من تدبير مملكة هرقانوس، وسار أنطيانوس إلى بلاد
الفرس فدوّخها وعاث في نواحيها وقهر ملوكهم وقفل الى رومة.
قال ابن كريّون: وفي خلال ذلك لحق أنطقنوس وجماعة من اليهود بالفرس،
وضمنوا لملكهم أن يحملوا إليه بدرة من الذهب وثمانمائة جارية من بنات
اليهود ورؤسائهم يسبيهنّ له، على أن يملكه مكان عمه هرقانوس ويسلمه
إليه، ويقتل هيردوس وأخاه فسيّلو، فأجابهم ملك الفرس إلى ذلك، وسار في
العساكر وفتح بلاد الأرمن وقتل من وجد بها من قواد الروم ومقاتلتهم،
وبعث قائده بعسكر من القدس مع أنطقنوس موريا بالصلاة في بيت المقدس
والتبرك بالهيكل، حتى إذا توسط المدينة ثار بها وأفحش في القتل، وبادر
هيردوس إلى قصر هرقانوس ليحفظه، ومضى فسيلو إلى الحصن يضبطه. وتورّط من
كان بالمدينة من الفرس قتلهم اليهود عن آخرهم، وامتنعوا على القائد،
وفسد ما كان دبره في أمر أنطقنوس فرجع إلى استمالة هرقانوس وهيردوس،
وطلب الطاعة منهم للفرس وأنه يتلطف لهم عند الملك
__________
[1] وفي نسخة ثانية: انطونيوس.
[2] السبي: بضم السين ج (سبّي) ويطلق في الأغلب على النساء، أما الرجال
فيعبر عنهم في مثل هذا الحال بالأسرى.
(2/150)
في إصلاح حالهم، فصغى هرقانوس وفسيّلو إلى
قوله وخرجوا إليه. وارتاب هيردوس وامتنع فارتحل بهما قائد الفرس حتى
إذا بلغ الملك ببلاد الأرمن تقبض عليهما فمات فسيّلو من ليلته، وقيد
هرقانوس واحتمله إلى بلاده، وأشار أنطقنوس بقطع أذنه ليمنعه من
الكهنونة.
ولما وصل ملك الفرس إلى بلاده أطلق هرقانوس من الاعتقال، وأحسن إليه
إلى أن استدعاه هيردوس، كما يأتي بعد، وبعث ملك الفرس قائده إلى اليهود
مع أنطقنوس ليملك، فخرج هيردوس عن القدس إلى جبل الشّراة فترك عياله
بالحصن عند أخيه يوسف، وسار إلى مصر يريد قيصر. فأكرمته كلبطرة ملكة
مصر، وأركبته السفن إلى رومية، فدخل بها انطيانوس إلى أوغسطس قيصر،
وخبره الخبر عن الفرس والقدس، فملكه أوغسطس وألبسه التّاج وأركبه في
رومية في زي الملك، والهاتف بين يديه بأن أوغسطس ملّكه. واحتفل
انطيانوس في صنيع له حضره الملك أوغسطس قيصر وشيوخ رومية، وكتبوا له
العهد في ألواح من نحاس، ووضعوا ذلك اليوم التاريخ، وهو أول ملك
هيردوس.
وسار أنطيانوس بالعسكر إلى الفرس ومعه هيردوس، وفارقه من أنطاكية وركب
البحر إلى القدس لحرب أنطقنوس، فخرج أنطقنوس إلى جبال الشّرارة
للاستيلاء على عيال هيردوس، وأقام على حصار الحصن، وجاء هيردوس فحاربه
وخرج يوسف من الحصن من ورائه، فانهزم أنطقنوس إلى القدس، وهلك أكثر
عسكره.
وحاصره هيردوس وبعث انطقنوس بالأموال إلى قواد العسكر من الروم فلم
يجيبوه، وأقام هيردوس على حصاره حتى جاء الخبر عن أنطيانوس قائد قيصر
أنه ظفر بملك الفرس وقتله ودوّخ بلادهم، وأنه عاد ونزل الفرات. فترك
هيردوس أخاه يوسف على حصار القدس مع قائد الروم سيساو، ومن تبعهم من
الأرمن، وسار للقاء أنطيانوس، وبلغه وهو بدمشق أنّ أخاه يوسف قتل في
حصار القدس على يد قائده أنطقنوس، وأنّ العساكر انفضت ورجعوا إلى دمشق،
وجاء سيساو منهزما قائد أنطيانوس بالعساكر. وتقدّم هيردوس وقد خرج
أنطقنوس للقائه فهزمه، وقتل عامّة عسكره واتبعه إلى القدس. ووافاه
سيساو قائد الروم فحاصروا القدس أياما، ثم اقتحموا البلد وتسللوا
صاعدين إلى السور، وقتلوا الحرس وملكوا المدينة، وأفحش سيساو في قتل
اليهود، فرغب إليه هيردوس في الإبقاء. وقال له: إذا قتلت قومي
(2/151)
فعلى من تملكني؟ فرفع القتل عنهم وردّ ما
نهب وقرّب إلى البيت تاجا من الذهب وضعت فيه، وحمل إليه هيردوس أموالا.
ثم عثروا على أنطقنوس مختفيا بالمدينة، فقيده سيساو القائد، وسار به
إلى أنطيانوس، وقد كان سار من الشام إلى مصر، فجاءه بأنطقنوس هنالك،
ولحق بهم هيردوس وسأل من أنطيانوس قتل أنطقنوس فقتله. واستبد هيردوس
بملك اليهود وانقرض ملك بني حشمناي والبقاء للَّه وحده.
انقراض ملك بني حشمناي وابتداء ملك هيردوس
وبنيه
وكان أوّل ما افتتح به ملكه أن بعث إلى هرقانوس الّذي احتمله الفرس
وقطعوا أذنه يستقدمه ليأمن على ملكه من ناحيته، ورغّبه في الكهنونية
التي كان عليها، فرغب وحذّره ملك الفرس من هيردوس، وعزله اليهود الذين
معه، وأراه أنّها خديعة وأنه العيب الّذي به يمنع الكهنونية، فلم يقبل
شيئا من ذلك. وصغى إلى هيردوس وحسن ظنّه به وسار إليه وتلقّاه بالكرامة
والإعطاء وكان يخاطبه بأبي في الجمع والخلوة.
وكانت الإسكندرة بنت هرقانوس تحت الإسكندر وابن أخيه أرستبلوس، وكانت
بنتها منه مريم تحت هيردوس، فاطلعتا على ضمير هيردوس من محاولة قتله،
فخبرتاه بذلك واشارتا عليه باللحاق بملك العرب ليكون في جواره، فخاطبه
هرقانوس في ذلك وأن يبعث إليه من رجالاتهم من يخرج به إلى أحيائهم،
وكان حامل الكتاب من اليهود مضطغنا على هرقانوس لأنه قتل أخاه وسلب
ماله، فوضع الكتاب في يد هيردوس، فلما قرأه ردّه إليه وقال: أبلغه إلى
ملك العرب وأرجع الجواب إليّ. فجاءه بالجواب من ملك العرب إلى هرقانوس،
وأنه أسعف وبعث الرجال فالقهم بوصولك إليّ. فبعث هيردوس من يقبض على
الرجال بالمكان الّذي عينه، وأحضرهم وأحضر حكام البلاد اليهود والسبعين
شيخا. وأحضر هرقانوس وقرأ عليه الكتاب بخطه، فلم يحر جوابا وقامت عليه
الحجة، وقتله هيردوس لوقته لثمانين سنة من عمره وأربعين من ملكه، وهو
آخر ملوك بني حشمناي.
وكان للإسكندر بن أرستبلوس، ابن يسمّى أرستبلوس، وكان من أجمل الناس
صورة، وكان في كفالة أمه الإسكندرة، وأخته يومئذ تحت هيردوس كما قلناه.
وكان هيردوس يغص به وكانت أخته وأمهما يؤمّلان أن يكون كوهنا بالبيت
مكان جدّه هرقانوس، وهيردوس يريد نقل الكهنونة عن بني حشمناي، وقدّم
لها رجلا من
(2/152)
عوام الكهنونية، وجعله كبير الكهنونية، فشق
ذلك على الاسكندرة بنت هرقانوس وبنتها مريم زوج هيردوس. وكان بين
الإسكندرة وكلوبطرة ملكة مصر مواصلة ومهاداة، وطلبت منها أن تشفع زوجها
انطيانوس في ذلك إلى هيردوس، فاعتذر له هيردوس بأنّ الكواهن لا تعزل،
ولو أردنا ذلك فلا يمكّننا أهل الدين من عزله، فبعث بذلك إلى
الإسكندرة. ودست الإسكندرة إلى الرسول الّذي جاء من عند أنطيانوس،
وأتحفته بمال فضمن لهم أنّ انطيانوس يعزم على هيردوس في بعث أرستبلوس
إليه، ورجع إلى أنطيانوس فرغبه في ذلك ووصف له من جماله وأغراه
باستقدامه، فبعث فيه أنطيانوس إلى هيردوس وهدّده بالوحشة إن منعه، فعلم
أنه يريد منه القبيح، فقدّمه كهنونا وعزل الأول، واعتذر لأنطيانوس بأنّ
الكوهن لا يمكن سفره، واليهود تنكر ذلك. فأغفل أنطيانوس الأمر ولم
يعاود فيه.
ووكل هيردوس بالإسكندرة بنت هرقانوس عهدته من يراعي أفعالها، فاطلع على
كتبها إلى كلوبطرة أن تبعث إليها السفن والرجال يوصلنها إليها، وأنّ
السفن وصلت إلى ساحل يافا، وأن الإسكندرة صنعت تابوتين لتخرج فيهما هي
وابنتها على هيئة الموتى. فأرصد هيردوس من جاء بهما من المقابر في
تابوتيهما فوبخهما ثم عفا عنهما. ثم بلغه أنّ أرستبلوس حضر في عيد
المظال، فصعد على المذبح وقد لبس ثياب القدس وازدحم الناس عليه وظهر من
ميلهم إليه ومحبتهم ما لا يعبر عنه، فغص بذلك واعمل التدبير في قتله.
فخرج في منتزه له بأريحاء في نيسان، واستدعى أصحابه وأحضر أرستبلوس،
فطعموا ولعبوا وانغمسوا في البرك يسبحون وعمد غلمان هيردوس إلى
أرستبلوس فغمسوه في الماء حتى شرق وفاض، فاغتم الناس لموته وبكى عليه
هيردوس ودفنه، وكان موته لسبع عشرة سنة من عمره. وتأكدت البغضاء بين
الإسكندرة وابنتها مريم زوج هيردوس أخت هذا الغريق، وبين أمّ هيردوس
وأخته، وكثرت شكواهما إليه فلم يشكهما لمكان زوجته مريم وأمّها منه.
قال ابن كريّون: ثم انتقض أنطيانوس على أوغسطس قيصر وذلك انه تزوّج
كلوبطرة وملك مصر، وكانت ساحرة فسحرته واستمالته، وحملته على قتل ملوك
كانوا في طاعة الروم، وأخذ بلادهم وأموالهم، وسبي نسائهم وأموالهم
وأولادهم.
وكان من جملته هيردوس وتوقف فيه خشية من أوغسطس قيصر، لأنه كان يكرمه
بسبب ما صنع في الآخرين، فحمله على الانتقاض والعصيان، ففعل وجمع
(2/153)
العسكر واستدعى هيردوس فجاءه وبعثه إلى
قتال العرب، وكانوا خالفوا عليه، فمضى هيردوس لذلك ومعه أنيثاون قائد
كلوبطرة، وقد دست له أن يجرّ الهزيمة على هيردوس ليقتل ففعل. وثبت
هيردوس وتخلص من المعترك بعد حروب صعبة هلك فيها بين الفريقين خلق
كثير.
ورجع هيردوس إلى بيت المقدس فصالح جميع الملوك والأمم المجاورين له،
وامتنع العرب من ذلك فسار إليهم وحاربهم، ثم استباحهم بعد أيام ومواقف
بذلوا وجمعوا له الأموال وفرض عليهم الخراج في كل سنة ورجع. وكان
أنطيانوس لما بعثه إلى العرب سار هو إلى رومة وكانت بينه وبين أغسطس
قيصر حروب هزمه قيصر في آخرها وقتله، وسار إلى مصر فخافه هيردوس على
نفسه لما كان منه في طاعة أنطيانوس وموالاته، ولم يمكنه التخلف عن
لقائه. فأخرج خدمه من القدس فبعث بأمّه وأخته إلى قلعة الشّراة لنظر
أخيه فرودا، وبعث بزوجه مريم وأمها الإسكندرة إلى حصن الإسكندرونة لنظر
زوج أخته يوسف ورجل آخر من خالصته من أهل صور اسمه سوما وعهد إليهما
بقتل زوجته وأمّها إن قتله قيصر.
ثم حمل معه الهدايا وسار الى أوغسطس قيصر وكان تحقد له صحبة أنطيانوس،
فلما حضر بين يديه عنّفه وأزاح التاج عن رأسه وهمّ بعقابه، فتلطف
هيردوس في الاعتذار، وأنّ موالاته لأنطيانوس إنما كان لما أولى من
الجميل في السعاية عند الملك وهي أعظم أياديه عندي، ولم تكن موالاتي له
في عداوتك ولا في حربك ولو كان ذلك وأهلكت نفسي دونه كنت غير ملوم، فإن
الوفاء شأن الكرام. فإن أزلت عني التاج فما أزلت عقلي ولا نظري، وإن
أبقيتني فأنا محل الصنيعة والشكر. فانبسط أوغسطس لكلامه وتوّجه كما
كان، وبعثه على مقدّمته إلى مصر، فلما ملك مصر وقتل كلوبطرة وهب
لهيردوس جميع ما كان أنطيانوس أعطاها إياه ونفل. فأعاد هيردوس إلى ملكه
ببيت المقدس وسار إلى رومية.
قال ابن كريّون: ولما عاد هيردوس الى بيت المقدس أعاد حرمه من
أماكنهنّ، فعادت زوجته مريم وأمّها من حصن الإسكندرونة وفي خدمتها يوسف
زوج أخته وسوما الصوري وقد كانا حدّثا المرأة وأمّها بما أسر إليهما
هيردوس، وقد كان سلف منه قتل هرقانوس وأرستبلوس فشكرتا له. وبينما هو
آخذ في استمالة زوجته إذ رمتها أخته بالفاحشة مع سوما الصوري في ملاحاة
جرت بينهما، ولم يصدّق ذلك هيردوس
(2/154)
للعداوة والثقة بعفة الزوجة. ثم جرى منها
في بعض الأيام وهو في سبيل استمالتها عتاب فيما أسرّ إلى سوما وزوج
أخته، فقويت عنده الظّنّة بهم جميعا وأن مثل هذا السرّ لم يكن إلّا
لأمر مريب، وأخذ في إخفائها وإقصائها ودسّت عليه أخته بعض النساء
تحدّثه بأنّ زوجته داخلته في أن تستحضر السّمّ وأحضره فجرّب وصح وقتل
للحين صهره يوسف وصاحبه سوما، واعتقل زوجته ثم قتلها وندم على ذلك، ثم
بلغه عن أمّها الاسكندرة مثل ذلك فقتلها. وولّى على أروم مكان صهره
رجلا منهم اسمه كرسّوس وزوجته أخته، فسار إلى عمله وانحرف عن دين
التوراة والإحسان الّذي حملهم عليه هرقانوس، وأباح لهم عبادة صنمهم
وأجمع الخلاف، وطلق أخت هيردوس فسعت به إلى أخيها وخبرته بأحواله وأنه
آوى جماعة من بني حشمناي المرشحين للملك منذ اثني عشر سنة. فقام هيردوس
في ركائبه، وبحث عنه فحضر وطالبه ببني حشمناي الّذي عنده، فأحضرهم
فقتله وقتلهم، وأرهف حدّه وقتل جماعة من كبار اليهود ومقدميهم، أتمهم
بالإنكار عليه. فأذعن له الناس واستفحل ملكه وأهمل المراعاة لوصايا
التوراة وعمل في بيت المقدس سورا واتخذ منتزه لعب، وأطلق فيه السباع
ويحمل بعض الجهلة على مقابلتها فتفترسهم، فنكر الناس ذلك وأعمل أهل
الدولة الحيلة في قتله فلم تتم لهم، وكان يمشي متنكرا للتجسس على أحوال
الناس، فعظمت هيبته في النفوس.
وكان أعظم طوائف اليهود عنده الربّانيون بما تقدّم لهم في ولايته، وكان
لطائفة العبّاد من اليهود المسمى بالحيسيد مكانة عنده أيضا، كان شيخهم
مناحيم لذلك العهد محدثا وكان حدثه وهو غلام بمصير الملك له، وأخبره
وهو ملك بطول مدّته في الملك فدعا له ولقومه. وكان كلفا ببناء المدن
والحصون، ومدينة قيسارية من بنائه. ولما حدثت في أيامه المجاعة شمّر
لها وأخرج الزرع للناس وبثه فيهم بيعا وهبة وصدقة، وأرسل في الميرة من
سائر النواحي، وأمر قيصر في سائر تخومه وفي مصر ورومة أن يحملوا الميرة
إلى بيت المقدس، فوصلت السفن بالزرع إلى ساحلها من كل جهة.
وأجرى على الشيوخ والأيتام والأرامل والمنقطعين كفايتهم من الخبز، وعلى
الفقراء والمساكين كفايتهم من الحنطة، وفرّق على خمسين ألفا قصدوه من
غير ملّته، فرفعت المجاعة وارتفع له الذكر والثناء الجميل.
قال ابن كريّون: ولما استفحل ملكه وعظم سلطانه أراد بناء البيت على ما
بناه سليمان
(2/155)
بن داود، لأنهم لما رجعوا إلى القدس باذن
كورش عين لهم مقدار البيت لا يتجاوزونه، فلم يتمّ على حدود سليمان،
ولما اعتزم على ذلك ابتدأ أولا بإحضار الآلات مستوفيات خشية أن يحصل
الهدم وتطول المدّة وتعرض القواطع والموانع. فأعدّ الآلات وأكمل جمعها
في ست سنين، ثم جمع الصنّاع للبناء وما يتعلق به فكانوا عشرة آلاف،
وعين ألفا من الكهنة يتولّون القدس الأقدس الّذي لا يدخله غيرهم.
ولما تمّ له ذلك شرع في الهدم فحصل لا قرب وقت، ثم بنى البيت على حدوده
وهيئته أيام سليمان وزاد في بعض المواضع على ما اختاره ووقف عليه نظره،
فكمل في ثمان سنين. ثم شرع في الشكر للَّه تعالى على ما هيّأ له من ذلك
فقرّب القربان واحتفل في الولائم وإطعام الطعام، وتبعه الناس في ذلك
أياما فكانت من محاسن دولته.
قال ابن كريّون: ثم ابتلاه الله بقتل أولاده وكان له ولدان من مريم بنت
الإسكندرة قتيلة السم، أحدهما الإسكندر والآخر ارستبلوس، وكانا عند قتل
أمهما غائبين برومة يتعلمان خط الروم، فلما وصلا وقد قتل أمّهما حصلت
بينه وبينهما الوحشة، وكان له ولد آخر اسمه انظفتر على اسم جدّه، وكان
قد أبعد أمّه راسيس لمكان مريم، فلما هلكت واستوحش من ولدها لطلب محل
راسيس منه، قدم ابنها أنظفتر وجعله وليّ عهده، وأخذ في السعاية على
اخوته خشية منهما بأنهما يرومان قتل أبيهما فانحرف عنهما. واتفق أن سار
الى أوغسطس قيصر ومعه ابنه إسكندر، فشكاه عنده وتبرأ الإسكندر وحلف على
براءته، فأصلح بينهما قيصر ورجع إلى القدس. وقسم القدس بين ولده
الثلاثة، ووصاهم ووصى الناس بهم، وعهد أن لا يخالطوهم خشية مما يحدث عن
ذلك، وأنظفتر مع ذلك متماد على سعايته بهما وقد داخل في ذلك عمه قدودا
وعمته سلومنت، فأغروا أباه بأخويه المذكورين حتى اعتقلهما. وبلغ الخبر
أرسلاوش ملك كفتور، وكانت بنته تحت الإسكندر، منهما فجاء إلى هيردوس
مظهرا السخط على الإسكندر والانحراف عنه وتحيّل في إظهار جراءتهما،
وأطلعه على جلية الحال وسعاية أخيه وأخته، فانكشف له الأمر وصدّقه وغضب
على أخيه قدودا، فجاء إلى أرسلاوش وأحضره عند هيردوس حتى أخبره
بمصدوقيّة الحال، ثم شفعه فيه وأطلق ولديه ورضي عنهما، وشكر لأرسلاوش
من تلطفه في تلافي هذا الأمر وانصرف إلى بلده.
ولم ينف ذلك أنظفتر عن تدبيره عليهما، وما زال يغري أباه ويدسّ له من
يغريه حتى
(2/156)
أسخطه عليهما ثانية واعتقلهما، وأمضى بهما
في بعض أسفاره مقيّدين. ونكر ذلك بعض أهل الدولة فدس أنظفتر إلى أبيه
المنكر عليّ من المدبّرين عليك، وقد ضمن لحجامك الإسكندر مالا على
قتلك. فأنزل هيردوس بهما العقاب ليتكشف الخبر، ونمي بأنّ ذلك الرجل معه
ولذعه العقاب وأقرّ على نفسه وقتل هو وأبوه والحجّام، ثم قتل هيردوس
ولديه وصلبهما على مصطبة. وكان لابنه الإسكندر ولدان من بنت أرسلاوش
ملك كفتور وهما كوبان والإسكندر، ولابنه أرستبلوس ثلاثة من الولد:
أعرباس وهيردوس وأستروبلوس. ثم ندم هيردوس على قتل ولديه، وعطف على
أولادهما فزوّج كوبان بن الإسكندر بابنة أخيه قدودا وزوّج ابنة ابنه
أرستبلوس من ابن ابنه أنظفتر، وأمر أخاه قدودا وابنه أنظفتر بكفالتهما
والإحسان اليهم، فكرها ذلك واتفقا على فسخه وقتل هيردوس متى أمكن.
وبعث هيردوس ابنه أنظفتر إلى أوغسطس قيصر، ونما الخبر إليه بأنّ أخاه
قدودا يريد قتله، فسخطه وأبعده وألزمه بيته. ثم مرض قدودا واستبدّ أخاه
هيردوس ليعوده فعاده ثم مات، فحزن عليه ثم حزن باستكشاف ما نمي إليه،
فعاقب جواريه، فأقرّت إحداهما بأن أنظفتر وقدودا كانا يجتمعان عند رسيس
أمّ أنظفتر يدبّران على قتل هيردوس على يد خازن أنظفتر، فأقرّ بمثل ذلك
وأنه بعث على السم من مصر وهو عند امرأة قدودا، فأحضرت فأقرت بأنّ
قدودا أمرها عند موته بإراقته، وأنها أبقت منه قليلا يشهد لها إن سئلت.
فكتب هيردوس الى ابنه أنظفتر بالقدوم، فقدم مستريبا بعد أن أجمع على
الهروب، فمنعه خدم أبيه. ولما حضر جمع له الناس في مشهد وحضر رسول
أغسطس وقدم كاتبه نيقالوس. وكان يحب أولاد هيردوس المقتولين ويميل
إليهما عن أنظفتر، فدفع يخاصمه حتى قامت عليه الحجة وأحضر بقية السمّ
وجرّب في بعض الحيوانات فصدق فعله، فحبس هيردوس ابنه أنظفتر حتى مرض
وأشرف على الموت، وأسف على ما كان منه لأولاده فهمّ بقتل نفسه، فمنعه
جلساؤه وأهله، وسمع من القصر البكاء والصراخ لذلك، فهمّ أنظفتر بالخروج
من محبسه ومنع، وأخبر هيردوس بذلك وأمر بقتله في الوقت فقتل. ثم هلك
بعده لخمسة أيام ولسبعين سنة من عمره وخمس وثلاثين من ملكه.
وعهد بالملك لابنه أركلاوش وخرج كاتبه نيقالوس فجمع الناس وقرأ عليهم
العهد وأراهم خاتم هيردوس عليه، فبايعوا له وحمل أباه إلى قبره على
سرير من الذهب
(2/157)
مرصع بالجوهر والياقوت وعليه ستور الديباج
منسوجة بالذهب، وأجلس مسندا ظهره إلى الأرائك والناس أمامه من الاشراف
والرؤساء، ومن خلفه الخدم والغلمان، وحواليه الجواري بأنواع الطيب إلى
أن اندرج في قبره.
وقام أركلاوش بملكه وتقرّب إلى الناس بإطلاق المسجونين، فاستقام أمره
وانطلقت الألسنة بذمّ هيردوس والطعن عليه. ثم انتقضوا على أركلاوش
بملكه بما وقع منه من القتل فيهم، فساروا إلى قيصر شاكين بذلك وعابوه
عنده بأنه ولي من غير أمره، وحضر أركلاوش وكاتبه نيقالوس بخصمهم ودفع
دعاويهم، وأشار عظماء الروم بإبقائه فملكه قيصر وأعاده الى القدس.
وأساء السيرة في اليهود وتزوّج امرأة أخيه الإسكندر وكان له أولاد منها
فماتت لوقتها. ووصلت شكاية اليهود بذلك كله إلى قيصر فبعث قائدا من
الروم الى المقدس، فقيد أركلاوش وحمله إلى رومة لسبع سنين من دولته،
وولى عليه اليهود بالقدس أخاه أنطيفس، وكان شرّا منه واغتصب امرأة أخيه
فيلقوس [1] وله منها ولدان، ونكر ذلك عليه علماء اليهود والكهنونية.
وكان لذلك العهد يوحنا بن زكريا فقتله في جماعة منهم، وهذا هو المعروف
عند النصارى بالمعمدان الّذي عمد عيسى أي طهره بماء المعمودية بزعمهم.
وفي دولة أنطيفس هذا مات أوغسطس قيصر، فملك بعده طبريانوس وكان قبيح
السيرة، وبعث قائده بعيلاس بصنم من ذهب على صورته ليسجد له اليهود
فامتنعوا، فقتل منهم جماعة، فأذنوا بحربة وقاتلوه وهزموه. وبعث
طبريانوس العساكر مع قائده إلى القدس فقبض على أنطيفس وحمله مقيدا. ثم
عزله طبريانوس إلى الأندلس فمات بها وملك بعده على اليهود أغرباس ابن
أخيه أرستبلوس المقتول، وهلك في أيامه طبريانوس قيصر وملك نيروش [2]
وكان أشرّ من جميع من تقدّمه، وأمر أن يسمّى إلا هو، وبنى المذبح
للقربان وقرّب وأطاعته الناس إلّا اليهود، وبعثوا إليه في ذلك أفيلو
الحكيم في جماعة فشتمهم وحبسهم وسخط اليهود. ثم قبحت أحواله وساءت
أفعاله وثارت عليه دولته فقتلوه، ورموا شلوه في الطريق فأكلته الكلاب.
ثم ملك بعده قلديوس قيصر وأطلق أفيلو والذين معه إلى بيت المقدس، وهدم
المذابح التي كان نيروش بناها.
__________
[1] وهو معروف باسم فيلبس.
[2] وفي نسخة ثانية نيرون.
(2/158)
وكان أغرباس حسن السيرة معظما عند القياصرة
وهلك لثلاث وعشرين سنة من دولته. وملك بعده ابنه أغرباس بأمر اليهود
وملك عشرين سنة، وكثرت الحروب والفتن في أيامه في بلاد اليهود والأرمن،
وظهرت الخوارج والمتغلبون، وانقطعت السبل وكثر الهرج داخل المدينة في
القدس. وكان الناس يقتل بعضهم بعضا في الطرقات يحملون سكاكين صغار
محدّين لها فإذا ازدحم مع صاحبه في الطريق طعنه فأهواه حتى صاروا
يلبسون الدروع لذلك، وخرج كثير من الناس عن المدينة فرارا من القتل.
وهلك ولد طبريانوس قيصر ونيروش من بعده، وملك على الروم فيلقوس قيصر
فسعى بعض الشرار عنده بأنّ هؤلاء الذين خرجوا من القدس يذمّون على
الروم، فبعث إليهم من قتلهم وأسرهم.
واشتدّ البلاء على اليهود وطالت الفتن فيهم، وكان الكهنون الكبير فيهم
لذلك العهد عنّاني، وكان له ابن اسمه العازار وكان ممن خرج من القدس
وكان فاتكا مصعلكا، وانضم إليه جماعة من الأشرار، وأقاموا يغيرون على
بلاد اليهود والأرمن وينهبون ويقتلون، وشكتهم الأرمن إلى فيلقوس قيصر،
فبعث من قيده وحمله وأصحابه إلى رومة، فلم يرجع الى القدس إلّا بعد
حين.
واشتدّ قائد الروم ببيت المقدس على اليهود وكثر ظلمه فيهم، فأخرجوه
عنهم بعد أن قتلوا جماعة من أصحابه، ولحق بمصر فلقي هنالك أغرباس ملك
اليهود راجعا من روميّة ومعه قائدان من الروم، فشكى إليه فيلقوس بما
وقع من اليهود، ومضى إلى بيت المقدس فشكى إليه اليهود بما فعل فيلقوس
وأنهم عازمون على الخلاف، وتلطف لهم في الإمساك عن ذلك حتى تبلغ شكيتهم
إلى قيصر ويعتذر منه، فامتنع العازار بن عنّاني وأبى إلا المخالفة،
وأخرج القربان الّذي كان بعثه معه نيروش قيصر من البيت، ثم عمد إلى
الروم الذين جاءوا مع أغرباس فقتلهم حيث وجدوا، وقتل القائدين. ونكر
ذلك أشياخ اليهود واجتمعوا لحرب العازر وبعثوا إلى أغرباس، وكان خارج
القدس، فبعث إليهم بثلاثة آلاف مقاتل، فكانت الحرب بينهم وبين العازار
سجالا، ثم هزمهم وأخرجهم من المدينة، وعاث في البلد وخرّب قصور الملك
ونهبها وأموالها وذخائرها، وبقي أغرباس والكهنونة والعلماء والشيوخ
خارج المقدس. وبلغهم أنّ الأرمن قتلوا من وجدوه من اليهود بدمشق
ونواحيها وبقيساريّة، فساروا إلى بلادهم وقتلوا من وجدوه بنواحي دمشق
من الأرمن. ثم
(2/159)
سار أغرباس إلى قيرش قيصر وخبّره الخبر
فامتعض لذلك، وبعث إلى كسنينا وقائده على الأرمن، وقد كان مضى إلى حرب
الفرس فدوّخها وقهرهم، وعاد إلى بلاد الأرمن فنزل دمشق فجاءه عهد قيصر
بالمسير مع أغرباس ملك اليهود إلى القدس، فجمع العساكر وسار وخرّب كل
ما مرّ عليه. ولقيه العازار الثائر بالقدس فانهزم ورجع، ونزل كسنينا
وقائد الروم فأثخن فيهم، وارتحل كسنينا إلى قيساريّة، وخرج اليهود في
اتباعهم فهزموهم، ولحق كسنينا وأغرباس بقيصر قيرش، فوافقوا وصول قائده
الأعظم اسبنانوس [1] عن بلاد الغرب، وقد فتح الأندلس ودوّخ أقطارها
فعهد إليه قيرش قيصر بالمسير إلى بلاد اليهود وأمره أن يستأصلهم ويهدم
حصونهم.
فسار ومعه ابنه طيطوش وأغرباس ملك اليهود، وانتهوا إلى أنطاكية، وتأهب
اليهود لحربهم، وانقسموا ثلاث فرق في ثلاث نواحي مع كل فرقة كهنون،
فكان عناني الكهنون الأعظم في دمشق ونواحيها، وكان ابنه العازر كهنون
بلاد أروم وما يليها إلى أيلة، وكان يوسف بن كريّون كهنون طبريّة وجبل
الخليل وما يتصل به، وجعلوا فيما بقي من البلاد من الأغوار الى حدود
مصر من يحفظها من بقية الكهنونيّة. وعمّر كل منهم أسوار حصونه ورتب
مقاتلته.
وسار اسبنانوس بالعساكر من أنطاكية فتوسط في بلاد الأرمن وأقام، وخرج
يوسف بن كريّون من طبرية فحاصر بعض الحصون بناحية الأغرباس ففتحه
واستولى عليه، وبعث أهل طبريّة من ورائه إلى الروم فاستأمنوا إليهم،
فزحف يوسف مبادرا وقتل من وجد فيها من الروم، وقبل معذرة أهل طبرية،
وبلغه مثل ذلك عن جبل الخليل فسار إليهم وفعل فيهم فعله في طبرية. فزحف
اليه اسبنانوس من عكّا في أربعين ألف مقاتل من الروم ومعه أغرباس ملك
اليهود وسارت معهم الأمم من الأرمن وغيرهم، إلا أروم فإنّهم كانوا
حلفاء لليهود منذ أيام هرقانوس. ونزل أسبنانوس بعساكره على يوسف بن
كريّون ومن معه بطبريّة فدعاهم الى الصلح، فسألوا الإمهال إلى مشاورة
الجماعة بالقدس، ثم امتنعوا وقاتلهم أسبنانوس بظاهر الحصن، فاستلمهم
حتى قل عددهم، وأغلقوا الحصن فقطع عنهم الماء خمسين ليلة، ثم بيّتهم
الروم فاقتحموا عليهم الحصن فاستلحموهم، وأفلت يوسف بن كريّون ومن معه
من الفل فامتنعوا ببطن الأعراب، وأعطاهم أسبنانوس الأمان، فمال إليه
يوسف وأبى القوم إلّا أن
__________
[1] وفي نسخة اخرى: أسبيانوس.
(2/160)
يقتلوا أنفسهم وهموا بقتله، فوافقهم على
رأيهم إلى أن قتل بعضهم بعضا ولم يبق من يخشاه، فخرج إلى أسبنانوس
مطارحا عليه، وحرّضه اليهود على قتله فأبى واعتقله وخرّب أعمال طبرية
وقتل أهلها ورجع إلى قيساريّة.
قال ابن كريّون: وفي خلال ذلك حدثت الفتنة في القدس بين اليهود داخل
المدينة، وذلك أنه كان في جبل الخليل بمدينة كوشالة يهودي اسمه
يوحنّان، وكان مرتكبا للعظائم واجتمع إليه أشرار منهم فقوي بهم على قطع
السابلة والنهب والقتل، فلما استولى الروم على كوشالة لحق بالقدس
وتألّف عليه أشرار اليهود من فل البلاد التي أخذها الروم، فتحكم على
أهل المقدس وأخذ الأموال وزاحم عنّاني الكهنون الأعظم، ثم عزله واستبدل
به رجلا من غواتهم وحمل الشيوخ على طاعته، فامتنعوا فتغلب عليهم
فقتلهم. فاجتمع اليهود إلى عنّاني الكهنون وحاربهم يوحنان وتحصنوا في
القدس، وراسله عنّاني في الصلح فأبى، وبعث إلى أروم يشتجيشهم فبعثوا
إليه بعشرين ألفا منهم، فأغلق عنّاني أبواب المدينة دونهم، وحاط بهم من
الأسوار، ثم استغفلوه وكبسوا المدينة، واجتمع معهم يوحنان فقتلوا من
وجوه اليهود نحوا من خمسة آلاف وصادروا أهل النعم على أموالهم، وبعثوا
يوحنان إلى المدن الذين استأمنوا إلى الروم فغنم أموالهم وقتل من وجد
منهم. وبعث أهل القدس في استدعاء أسبنانوس وعساكره فزحف من قيساريّة
حتى إذا توسّط الطريق خرج يوحنّان من القدس وامتنع ببعض الشعاب، فمال
إليه أسبنانوس بالعسكر وظفر بالكثير منهم فقتلوهم. ثم سار إلى بلاد
أروم ففتحها، وسبسطية بلاد السامرة ففتحها أيضا، وعمّر جميع ما فتح من
البلاد، ورجع إلى قيسارية ليزيح علله ويسير الى القدس.
ورجع يوحنّان أثناء ذلك من الشعاب، فغلب على المدينة، وعاث فيهم
بالقتل، وتحكم في أموالهم، وأفسد حريمهم.
قال ابن كريّون: وقد كان ثار بالمدينة في مغيب يوحنّان ثائرا آخر اسمه
شمعون، واجتمع إليه اللصوص والشرار حتى كثر جمعه وبلغوا نحوا من عشرين
ألفا، وبعث إليه أهل أروم عسكرا فهزمهم واستولى على الضياع ونهب
الغلال، وبعث إلى امرأته من المدينة فردّها يوحنّان من طريقها وقطع من
وجد معها، ثم أسعفوه بامرأته وسار إلى أروم فحاربهم وهزمهم، وعاد إلى
القدس فحاصرها وعظم الضرر على أهلها من شمعون خارج المدينة ويوحنّان
داخلها، ولجئوا إلى الهيكل وحاربوا يوحنّان فغلبهم
(2/161)
وقتل منهم خلقا، فاستدعوا شمعون لينصرهم من
يوحنان فدخل ونقض العهد وفعل أشرّ من يوحنّان.
قال ابن كريّون: ثم ورد الخبر إلى أسبنانوس وهو بمكانه من قيساريّة
بموت قيروش قيصر وأنّ الروم ملكوا عليهم مضعفا اسمه نطاوس فغضب
البطارقة الذين مع أسبنانوس وملكوه، وسار الى رومة وخلف نصف العسكر مع
ابنه طيطش، وقدّم بين يديه قائدين إلى رومة لمحاربة نطاوس الّذي ملكه
الروم فهزم وقتل، وسار أسبنانوس إلى اسكندرية وركب البحر منها، ورجع
طيطش الى قيساريّة إلى أن ينسلخ فصل الشتاء ويزيح العلل.
وعظمت الفتن والحروب بين اليهود داخل القدس وكثر القتل حتى سالت الدماء
في الطرقات، وقتل الكهنونية على المذبح وهم لا يقربون الصلاة في المسجد
لكثرة الدماء، وتعذر المشي في الطرقات من سقوط حجارة الرمي ومواقد
النيران بالليل، وكان يوحنّان أخبث القوم وأشرّهم.
ولما انسلخ الشتاء زحف طيطش في عساكر الروم إلى أنّ نزل على القدس وركب
إلى باب البلد يتخيّر المكان لمعسكره ويدعوهم إلى السلم، فصموا عنه
وأكمنوا له بعض الخوارج في الطريق فقاتلوه، وخلص منهم بشدّته، فعبى
عسكره من الغد ونزل بجبل الزيتون شرقي المدينة ورتّب العساكر والآلات
للحصار. واتفق اليهود داخل المدينة ورفعوا الحرب بينهم، وبرزوا إلى
الروم فانهزموا، ثم عاودوا فظهروا، ثم انتقضوا بينهم وتحاربوا ودخل
يوحنّان الى القدس يوم الفطر فقتل جماعة من الكهنونة وقتل جماعة أخرى
خارج المسجد. وزحف طيطش وبرزوا إليه فردّوه إلى قرب معسكره، وبعث إليهم
قائده نيقانور في الصلح فأصابه سهم فقتله، فغضب طيطش وصنع كبشا وأبراجا
من الحديد توازي السور وشحنها بالمقاتلة، فأحرق اليهود تلك الآلات
ودفنوها وعادوا إلى الحرب بينهم.
وكان يوحنّان قد ملك القدس ومعه ستة آلاف أو يزيدون من المقاتلة، ومع
شمعون عشرة الاف من اليهود وخمسة آلاف من أروم، وبقية اليهود بالمدينة
مع العازر وأعاط طيطش الزحف بالآلات وثلم السور الأوّل وملكه إلى
الثاني، فاصطلح اليهود بينهم وتذامروا [1] واشتدّ الحرب، وباشرها طيطش
بنفسه ثم زحف بالآلات إلى
__________
[1] تذامروا: بمعنى تلاوموا ربما عنى المؤرخ تذمّروا بمعنى تحاضّوا على
القتال.
(2/162)
السور الثاني فثلمه، وتذامر اليهود فمنعوهم
عنه ومكثوا كذلك أربعة أيام.
وجاء المدد من الجهات إلى طيطش ولاذ اليهود بالأسوار وأغلقوا الأبواب،
ورفع طيطش الحرب ودعاهم إلى المسالمة، فامتنعوا. فجاء بنفسه في اليوم
الخامس وخاطبهم ودعاهم وجاء معه يوسف بن كريّون فوعظهم ورغبهم في أمنة
الروم ووعدهم، وأطلق طيطش أسراهم فجنح الكثير من اليهود إلى المسالمة،
ومنعهم هؤلاء لرؤساء الخوارج، وقتلوا من يروم الخروج إلى الروم، ولم
يبق من المدينة ما يعصمهم إلّا السور الثالث.
وطال الحصار واشتدّ الجوع عليهم والقتل، ومن وجد خارج المدينة لرعي
العشب قتله الروم وصلبوه، حتى رحمهم طيطش ورفع القتل عمن يخرج في
ابتغاء العشب. ثم زحف طيطش إلى السور الثالث من أربع جهاته ونصب
الآلات، وصبر اليهود على الحرب وتذامر اليهود وصعب الحرب وبلغ الجوع في
الشدّة غايته، واستأمن متاي الكوهن إلى الروم وهو الّذي خرج في استدعاء
شمعون، فقتله شمعون وقتل بنيه وقتل جماعة من الكهنونيّة والعلماء
والأئمة ممن حذر منه أن يستأمن. ونكر ذلك العازر بن عنّاني ولم يقدر
على أكثر من الخروج من بيت المقدس. وعظمت المجاعة فمات أكثر اليهود،
وأكلوا الجلود والخشاش [1] والميتة، ثم أكل بعضهم بعضا، وعثر على امرأة
تأكل ابنها، فأصابت رؤساؤهم لذلك رحمة، وأذنوا في الناس بالخروج، فخرجت
منهم أمم وهلك أكثرهم حين أكلوا الطعام، وابتلع بعضهم في خروجه ما كان
له من ذهب أو جوهر ضنة به، وشعر بهم الروم فكانوا يقتلونهم ويشقون عنها
بطونهم، وشاع ذلك في توابع العسكر من العرب والأرمن فطردهم طيطش.
وطمع الروم في فتح المدينة وزحفوا إلى سورها الثالث بالآلات ولم يكن
لليهود طاقة بدفعها وإحراقها فثلموا السور، وبنى اليهود خلف الثلمة
فأصبحت منسدة، وصدمها الروم بالكبش فسقطت من الحدة، واستماتوا في تلك
الحال إلى الليل. ثم بيت الروم المدينة وملكوا الأسوار عليهم وقاتلوهم
من الغد فانهزموا الى المسجد، وقاتلوا في الحصن، وهدم طيطش البناء ما
بين الأسوار إلى المسجد ليتسع المجال. ووقف ابن كريّون يدعوهم إلى
الطاعة فلم يجيبوا، وخرج جماعة من الكهنونية فأمنهم ومنع
__________
[1] حشرات الأرض- حية الجبل (قاموس)
(2/163)
الرؤساء بقيتهم، ثم باكرهم طيطش بالقتال من
الغد فانهزموا الأقداس [2] وملك الروم المسجد وصحنه.
واتصلت الحرب أياما وهدمت الأسوار كلها وثلم سور الهيكل، وأحاط العساكر
بالمدينة حتى مات أكثرهم وفرّ كثير. ثم اقتحم عليهم الحصن فملكه ونصب
الأصنام في الهيكل ومنع من تخريبه. ونكر رؤساء الروم ذلك ودسّوا من
اضرم النار في أبوابه وسقفه، وألقى الكهنونة أنفسهم جزعا على دينهم
وحزنوا، واختفى شمعون ويوحنّان في جبل صهيون، وبعث إليهم طيطش بالأمان
فامتنعوا وطرقوا القدس في بعض الليالي، فقتلوا قائدا من قواد العسكر
ورجعوا إلى مكان اختفائهم. ثم هرب عنهم أتباعهم وجاء يوحنّان ملقيا
بيده إلى طيطش فقيده، وخرج إليه يوشع الكوهن بآلات من الذهب الخالص من
آلات المسجد فيها منارتان ومائدتان، ثم قبض على فنحاس خازن الهيكل،
فأطلعه على خزائن كثيرة مملوءة دنانير ودراهم وطيبا فامتلأت يده منها،
ورحل عن بيت المقدس بالغنائم والأموال والأسرى، وأحصى الموتى في هذه
الوقعة. قال ابن كريّون: فكان عدد الموتى الذين خرجوا على الباب للدفن
بأخبار مناحيم الموكل به مائة ألف وخمسة وعشرون ألفا وثمانمائة. وقال
غير مناحيم كانت عدّتهم ستمائة ألف دون من ألقي في الآبار، أو طرح إلى
خارج الحصن وقتل في الطرقات ولم يدفن. وقال غيره كان الّذي أحصي من
الموتى والقتلى ألف ألف ومائة ألف والسبي والأسارى مائة ألف، كان طيطش
في كل منزلة يلقي منهم إلى السباع إلى أن فرغوا. وكان فيمن هلك شمعون
أحد الخوارج الثلاثة.
وأمّا الفرّار بن عفّان فقد كان خرج من القدس عند ما قتل شمعون أمتاي
الكوهن كما ذكرنا، فلما رحل طيطش عن القدس نزل في بعض القرى وحصّنها
واجتمع إليه فل اليهود، واتصل الخبر بطيطش وهو في انطاكية، فبعث إليه
عسكرا من الروم مع قائده سلياس فحاصرهم أياما، ثم نهض الكهنونة
وأولادهم وخرجوا إلى الروم مستميتين، فقاتلوا إلى أن قتلوا عن آخرهم.
وأما يوسف بن كريّون فافتقد أهله وولده في هذه الوقائع ولم يقف لهم
بعدها على خبر وأراده طيطش على السكنى عنده برومة، فتضرّع اليه في
البقاء بأرض القدس، فأجابه إلى ذلك وتركه. وانقرضت دولة اليهود أجمع،
والبقاء للَّه وحده سبحانه وتعالى لا انقضاء لملكه..
__________
[2] الأصح ان يقول: فانهزم الاقداس.
(2/164)
|