تاريخ ابن خلدون
الخبر عن دولة يونان
والروم وأنسابهم ومصايرهم
كان هؤلاء الأمم من أعظم أمم العالم وأوسعهم ملكا وسلطانا، وكانت لهم
الدولتان العظيمتان للإسكندر والقياصرة من بعده الذين صبحهم الإسلام
وهم ملوك بالشام، ونسبهم جميعا إلى يافث باتفاق من المحقّقين، إلا ما
ينقل عن الكندي في نسب يونان إلى عابر بن فالغ وأنه خرج من اليمن بأهله
وولده مغاضبا لأخيه قحطان فنزل ما بين الافرنجة والروم فاختلط نسبه
بهم، وقد ردّ عليه أبو العبّاس الناشيء في ذلك بقوله:
تخلط يونان بقحطان ضلّة ... لعمري لقد باعدت بينهما جدّا
ولذلك يقال إنّ الإسكندر من تبّع، وليس شيء من ذلك بصحيح، وإنما الصحيح
نسبهم إلى يافث، ثم إنّ المحقّقين ينسبون الروم جميعا إلى يونان
الإغريقيون منهم والطينيون. ويونان معدود في التوراة من ولد يافث
لصلبه، واسمه فيها يافان بفاء تقرب من الواو، فعرّبته العرب الى يونان.
وأمّا هروشيوش فجعل الغريقيين خمس طوائف منتسبين إلى خمسة من أبناء
يونان وهم: كيتم وحجيلة وترشوش ودودانم وإيشاي، وجعل من شعوب إيشاي
سجينيّة وأثناش وشمالا وطشّال ولجدمون. ونسب الروم اللطينيين فيهم ولم
يعين نسبهم في أحد من الخمسة، ونسب الافرنج إلى غطرما بن عومر بن يافث،
وقال: إن الصقالبة إخوانهم في نسبه، وقال: إنّ الملك كان في هذه
الطوائف لبني أشكان بن غومر والملوك منهم هؤلاء الغريقيون قبل يونان
وغيرهم. ونسب القوط الى ماداي بن يافث وجعل من إخوانهم الأرمن، ثم نسب
القوط مرّة أخرى إلى ماغوغ بن يافث وجعل اللطينيين من إخوانهم في ذلك
النسب. ونسب القاللّين منهم إلى رفنّا بن غومار، ونسب إلى طوبال بن
يافث الأندلس والإيطاليين والأركاديّين، ونسب إلى طبراش بن يافث أجناس
الترك. واسم الغريقيين عنده يشمل أبناء يونان كلهم كما ذكره، وينوّع
الروم إلى الغريقيين واللطينيين.
وقال ابن سعيد فيما نقله من تواريخ المشرق عن البيهقي وغيره: إنّ يونان
هو ابن علجان بن يافث، قال: ولذلك يقال لهم العلوج ويشركهم في هذا
النسب سائر
(2/218)
أهل الشمال من غير الترك، وإنّ الشعوب
الثلاثة من ولد يونان، فالإغريقيون من ولد أغر يقش بن يونان والروم من
ولد رومي بن يونان واللطينيون من ولد لطين بن يونان، وإنّ الإسكندر من
الروم منهم والله أعلم. ونحن الآن نذكر أخبار الدولتين الشهيرتين منهم
مبلغ علمنا والله الموفق للصواب سبحانه وتعالى.
(2/219)
الخبر عن دولة يونان والإسكندر منهم وما
كان لهم من الملك والسلطان الى انقراض أمرهم
هؤلاء اليونانيون المتشعّبون إلى الغريقيين واللطينيين- كما قلناه-
اختصوا بسكنى الناحية الشمالية من المعمور مع إخوانهم من سائر بني يافث
كلهم كالصقالبة والترك والافرنجة من ورائهم وغيرهم من شعوب يافث، ولهم
منها الوسط ما بين جزيرة الأندلس إلى بلاد الترك بالمشرق طولا وما بين
البحر المحيط والبحر الرومي عرضا، فمواطن اللطينيين منهم في الجانب
الغربي ومواطن الغريقيين منهم في الجانب الشرقي والبحر بينهما خليج
القسطنطينية. وكان لكل واحد من شعبي الغريقيين واللطينيين منهم دولة
عظيمة مشهورة في العالم.
واختص الغريقيون باسم اليونانيين، وكان منهم الإسكندر المشهور الذكر
أحد ملوك العالم، وكانت ديارهم كما قلناه بالناحية الشرقية من خليج
القسطنطينية بين بلاد الترك ودروب الشام، ثم استولى على ما وراء ذلك من
بلاد الترك والعراق والهند، ثم جال أرمينية وما وراءها من بلاد الشام
وبلاد مقدونية ومصر والاسكندرية، وكان ملوكهم يعرفون بملوك مقدونية.
وذكر هروشيوش مؤرّخ الروم من شعوب هؤلاء الغريقيين بنو لجدمون وبنو
أنتناش، قال: وإليهم ينسب الحكماء الأنتاشيون وهم ينسبون لمدينتهم أجدة
أنتاش، قال:
ومن شعوبهم أيضا بنو طمّان ولجدمون كلهم بنو شمالا بن إيشاي، وقال في
موضع آخر: لجدمون أخو شمالا.
وكانت شعوب هذه الأمّة قبل الفرس والقبط وبني إسرائيل متفرّقة بافتراق
شعوبها، وكان بينهم وبين إخوانهم اللطينيين فتن وحروب، ولما استفحل ملك
فارس لعهد الكينيّة أرادوهم على الطاعة لهم، فامتنعوا وغزتهم فارس،
فاستصرخوا عليهم بالقبط فسالموهم إلى محاربة الغريقيين حتى أذلّوهم
وأخذوا الجزى منهم وولّوا عليهم. ويقال:
إنّ أفريدون ولّى عليهم ابنه، وأنّ جدّه الإسكندر لأبيه من أعقابه.
ويقال: أن بخت نصّر لما ملك مصر والمغرب أنفوه بالطاعة وكانوا يحملون
خراجهم إلى ملك فارس عددا من كرات الذهب أمثال البيض ضريبة معلومة
عليهم في كل سنة، ولما فرغوا
(2/220)
من شأن أهل فارس وأنفوا ملكهم بالجزى
والطاعة صرفوا وجوههم إلى حرب اللطينيين، ثم استفحل أمر الإيشاءيّين من
الغريقيّين ولم يكن قوامهم إلا الجرمونيّون، فغلبوهم وغلبوا بعدهم
اللطينيين والفرناسيين والأركاديين، واجتمع إليهم سائر شعوب الغريقيين
واعتز سلطانهم وصار لهم الملك والدولة.
وقال ابن سعيد: إنّ الملك استقرّ بعد يونان في ابنه أغريقش في الجانب
الشرقي من خليج قسطنطينية، وتوالى الملك في ولده وقهروا اللطينيين
والروم ودال ملكهم في أرمينية، وكان من أعظمهم هرقل الجبّار بن ملكان
بن سلقوس بن أغريقش، يقال: إنه ضرب الإتاوة على الأقاليم السبعة. وملك
بعده ابنه يلاق وإليه تنسب الأمّة اليلاقيّة وهي الآن باقية على بحر
سودان. واتصل الملك في عقب يلاق إلى أن ظهر إخوانهم الروم واستبدّوا
بالملك، وكان أولهم هردوس بن منطرون بن رومي بن يونان فملك الأمم
الثلاثة وصار اسمه لقبا لكل من ملك بعده، وسمّت به يهود الشام كل من
قام بأمرها منهم. ثم ملك بعده ابنه هرمس، فكانت له حروب مع الفرس إلى
أن قهروه وضربوا عليه الإتاوة، فاضطرب حينئذ أمر اليونانيين وصاروا
دولا وممالك. وانفرد الاغريقيون برئيس لهم، وصنع مثل ذلك اللطينيون،
إلّا أنّ اللقب بملك الملوك كان لملك الروم، ثم ملك بعده ابنه مطريوش
فحمل الإتاوة لملك الفرس لاشتغاله بحرب اللطينيين والإغريقيين. وملك
بعده ابنه فيلفوش [1] وكانت أمّه من ولد سرم من ولد أفريدون الّذي
ملّكه أبوه على اليونان، فظهر وهدم مدينة إغريقيّة وبنى مدينة مقدونية
في وسط الممالك بالجانب الغربي من الخليج. وكان محبّا للحكمة فلذلك كثر
الحكماء في دولته. ثم ملك من بعده ابنه الإسكندر وكان معلمه من الحكماء
أرسطو.
وقال هروشيوش: إنّ أباه فيلفوش إنما ملك بعد الإسكندر بن تراوش أحد
ملوكهم العظماء، وكان فيلفوش صهرا له على أخته لينبادة بنت تراوش، وكان
له منها الإسكندر الأعظم. قال: وكان ملك الإسكندر بن تراوش لعهد أربعة
آلاف وثمانمائة من عهد الخليقة ولعهد أربعمائة أو نحوها من بناء رومة،
وهلك وهو محاصر لرومة قتله اللطينيون عليها لسبع سنين من دولته. فولي
أمر الغريقيين والروم من بعده صهره على أخته لينبادة فيلفوش ابن آمنة
بن هركلش، واختلفوا عليه فافترق أمرهم
__________
[1] هو فيلبس المقدوني والد الإسكندر.
(2/221)
وحاربهم إلى أن انقادوا وغلبهم على سائر
أوطانهم. وأراد بناء القسطنطينية فمنعه الجرمانيّون بما كانت لهم،
فقاتلهم حتى استلحمهم، واجتمع إليه سائر الروم والغريقيين من بني
يونان، وملك ما بين ألمانية وجبال ارمينية. وكان الفرس لذلك العهد قد
استولوا على الشام ومصر فاعتزم فيلفوش على غزو الشام، فاغتاله في طريقه
بعض اللطينيين وقتله بثأر كان له عنده. ووليّ من بعده ابنه الإسكندر
فاستمرّ على مطالبة بلاد الشام، وبعث إليه ملوك فارس في الخراج على
الرسم الّذي كان لعهد أبيه فيلفوش، فبعث إليه الإسكندر إني قد ذبحت تلك
الدجاجة التي كانت تبيض الذهب وأكلتها. ثم زحف إلى بلاد الشام واستولى
عليها وفتح بيت المقدس وقرّب فيه القربان وذلك لعهد مائتين وخمسين من
فتح بخت نصّر إيّاها، وامتعض أهل فارس لانتزاعه إياها من ملكتهم، فزحف
إليه دارا في ستين ألفا من الفرس ولقيه الإسكندر في ستمائة ألف من قومه
فغلبهم وفتح كثيرا من مدن الشام ورجع إلى طرسوس، فزحف إليه دارا ولقيه
عليها فهزمه الإسكندر وافتتح طرسوس. ومضى وبنى الإسكندرية.
ثم تزاحف مع دارا وهزمه وقتله وتخطي إلى فارس فملك بلادها وهدم مدينة
الملك بها وسبى أهلها، وأشار عليه معلمه أرسطو بأن يجعل الملك في
أسافلهم لتتفرق كلمتهم ويخلص إليه أمرهم، فكاتب الإسكندر ملوك كل ناحية
من الفرس والنبط والعرب وملّك على كل ناحية وتوجه فصاروا طوائف في
ملكهم، واستبدّ كل واحد منهم بجهة كان ملكها لعقبه ومعلمه أرسطو هذا من
اليونانيين وكان مسكنه أثينا وكان كبير حكماء الخليقة غير منازع، أخذ
الحكمة عن أفلاطون اليوناني، كان يعلم الحكمة وهو ماش تحت الرّواق
المظلّل له من حرّ الشمس فسمى تلاميذه بالمشّاءين. وأخذ أفلاطون عن
سقراط ويعرف بسقراط الدّنّ بسكناه في دنّ من الخزف اتخذه لرهبانيّته،
وقتله قومه أهل يونان مسموما لمّا نهاهم عن عبادة الأوثان، وكان هو أخذ
الحكمة عن فيثاغورس منهم، ويقال: إنّ فيثاغورس أخذ عن تاليس حكيم
ملطية، وأخذ تاليس عن لقمان. ومن حكماء اليونانيين دميقراطيس،
وأنكيثاغورس كان مع حكمته مبرزا في علم الطب وبعث فيه بهمن ملك الفرس
إلى يونان فامتنع من إيفاده عليه ضمانة به، وكان من تلامذته جالينوس
لعهد عيسى عليه السلام ومات بصقليّة ودفن بها.
(2/222)
ولما استولى الإسكندر على بلاد فارس
تخطّاها إلى بلاد السند فملكها وبنى بها مدينة سمّاها الإسكندرية، ثم
زحف إلى بلاد الهند فغلب على أكثرها وحاربه فور ملك الهند فانهزم وأخذه
الإسكندر أسيرا بعد حروب طويلة، وغلب على جميع طوائف الهنود وملك بلاد
الصين والسند وذللت إليه الملوك وحملت إليه الهدايا والخراج من كل
ناحية، وراسله ملوك الأرض من إفريقية والمغرب والافرنجة والصقالبة
والسودان. ثم ملك بلاد خراسان والترك، واختط مدينة الإسكندرية عند مصب
النيل في البحر الرومي، واستولى على الملوك يقال: على خمسة وثلاثين
ملكا. وعاد إلى بابل فمات بها، يقال مسموما سمّه عامله على مقدونية
لأنّ أمّه شكته إلى الإسكندر فتوعده فأهدى له سمّا وتناوله فمات
لاثنتين وأربعين سنة من عمره، بعد أن ملك اثنتي عشرة سنة، سبعا منها
قبل مقتل دارا وخمسا بعده.
قال الطبري: ولما مات عرض الملك على ابنه إسكندروس فاختار الرهبانية،
فملّك يونان عليهم لوغوس من بيت الملك ولقبه بطليموس. قال المسعودي: ثم
سارت هذه التسمية لكل من يملك منهم ومدينتهم مقدونية وينزلون
الاسكندرية، وملك منهم أربعة عشر ملكا في ثلاثمائة سنة.
وقال ابن العميد: كان قسّم الملك في حياته بين أربعة من أمرائه بطليموس
فليادا [1] كان على الاسكندرية ومصر والمغرب، وفيلفوس بمقدونية وما
إليها من ممالك الروم وهو الّذي سمّ الإسكندر، ودمطرس بالشام، وسلقنوس
[2] بفارس والمشرق. فلما مات استبدّ كلّ واحد بناحيته.
وكتب أرسطو شرح كتاب هرمس وترجمه من اللسان المصري إلى اليوناني، وشرح
ما فيه من العلوم والحكمة والطلسمات. وكتاب الأسطماخيس يحتوي على عبادة
الأول، وذكر فيه أنّ أهل الأقاليم السبعة كانوا يعبدون الكواكب
السيّارة. كل إقليم لكوكب، ويسجدون له ويبخّرون ويقرّبون ويذبحون،
وروحانية ذلك الكوكب تدبرهم بزعمهم. وكتاب الأستماطس يحتوي على فتح
المدن والحصون بالطلسمات والحكم، ومنها طلسمات لا نزال المطر وجلب
المياه. وكتب الأشطرطاش في الاختيارات على سرى القمر في المنازل
والاتصالات، وكتب أخرى في منافع
__________
[1] وفي نسخة اخرى: بطليموس فلدلغوس.
[2] وفي نسخة اخرى سلقوس.
(2/223)
وخواص الأعضاء الحيوانيات والأحجار
والأشجار والحشائش.
وقال هروشيوش: إنّ الّذي ملك بعد الإسكندر صاحب عسكره بطليموس بن لاوي،
فقام بأمرهم ونزل الاسكندرية واتخذها دارا لملكهم. ونهض كلمش بن
الإسكندر وأمّه بنت دارا ولينبادة أمّ الإسكندر وساروا إلى صاحب
أنطاكية واسمه فمشاندر فقتلهم. واختلف الغريقيون على بطليموس وافترق
أمره وحارب كل واحد منهم ناحيته، إلى أن غلبهم جميعا واستقام أمره، ثم
زحف إلى فلسطين وتغلب على اليهود وأثخن فيهم بالقتل والسبي والأسر،
ونقل رؤساءهم إلى مصر، ثم هلك لأربعين سنة من ملكه. وولي بعده ابنه
فلديغيش، وأطلق أسرى اليهود من مصر، وردّ الأواني إلى البيت وحباهم
بآنية من الذهب وأمرهم بتعليقها في مسجد القدس، وجمع سبعين من أحبار
اليهود ترجموا له التوراة من اللسان العبراني الى اللسان الرومي
واللطيني، ثم هلك فلديغيش لثمان وثلاثين سنة من ملكه.
وولي بعده ابنه أنطريس ويلقب أيضا بطليموس لقبهم المخصوص بهم الى آخر
دولتهم، فانعقدت السلم بينه وبين أهل إفريقية على مدعيون ملك قرطاجنّة،
ووفد عليه وعقد معه الصلح عن قومه، وزحف قوّاد رومة إلى الغريقيين
ونالوا منهم. ثم هلك أنطريس لست وعشرين سنة من ملكه، وولي بعده أخوه
فلوباذي فزحف إليه قواد رومة فهزمهم وجال في ممالكهم، ثم كانت حروبه
معهم بعدها سجالا.
وزحف إلى اليهود فملك الشام عليهم وولّى الولاة من قبله فيهم وأثخن
بالقتل والسبي فيهم، يقال: إنه قتل منهم نحوا من ستين ألفا، وهلك لسبع
عشرة سنة من ملكه.
ووليّ بعده ابنه إيفانش وعلى عهده كانت فتنة أهل رومة وأهل افريقية
التي اتصلت نحوا من عشرين سنة، وافتتح أهل رومة صقلّيّة وأجاز قوّادهم
إلى إفريقية وافتتحوا قرطاجنّة، كما نذكر في أخبارهم، وهلك إيفانش
لأربع وعشرين سنة من دولته.
وولي بعده بالإسكندرية ابنه فلو ماطر فزحف الغريقيون إلى رومة، وكان
فيهم صاحب مقدونية وأهل أرمينيّة والعراق وظاهرهم ملك النوبة واجتمعوا
لذلك، فغلبهم الرومانيون وأسروا صاحب مقدونية، وهلك فلو ماطر لخمس
وثلاثين سنة من ملكه. وولي بعده ابنه إيرياطش وعلى عهده استفحل ملك أهل
رومة واستولوا على الأندلس وأجازوا البحر إلى قرطاجنة بإفريقية فملكوها
وقتلوا ملكها أشدريال وخرّبوا مدينتها بعد أن عمرت تسعمائة سنة من
بنائها كما نذكر في أخبارها. وزحف أيضا أهل
(2/224)
رومة إلى الغريقيين فغلبوهم وملكوا عليهم
مدينتهم قرنطة من أعظم مدنهم، يقال:
إنها كانت ثانية قرطاجنة.
ثم هلك إيرياطش لسبع وعشرين سنة من مدته وولي بعده ابنه شوطار سبع عشرة
سنة وعلى عهده استفحل ملك أهل رومة ومهدوا الأندلس، وملك بعده أخوه
الإسكندر عشر سنين، ثم ابنه ديونشيس مائة وثلاثين سنة وعلى عهده استولى
الرومانيون على بيت المقدس ووضعوا الجزيرة على اليهود، وزحف قيصر يولش
[1] من قوادهم إلى الافرنجة ولمياش أيضا من قوادهم إلى الفرس فغلبوهم
جميعا وما حولهم إلى أنطاكية واستولوا على ما كان لهم من ذلك. وخرج
الترك من بلادهم فأغاروا على مقدونية فردّهم هامس قائد الرومانيين
بالمشرق على أعقابهم.
وهلك ديونشيس فوليت بعده ابنته كلابطرة سنتين فيما قال هروشيوش لخمسة
آلاف ونيف من مبدإ الخليقة ولسبعمائة سنة من بناء رومة، وعلى عهدها
استبد قيصر يولش بملك رومة وغلب عليها القواد أجمع ومحا دولتهم منها
وذلك بعد مرجعه من حرب الافرنج، ثم سار الى المشرق فملك إلى أرمينية
ونازعه مبانش هنالك فهزمه قيصر، وفرّ مبانش الى مصر مستنجدا ملكتها وهي
يومئذ كلابطره، فبعثت برأسه الى قيصر خوفا منه، فلم يغنها ذلك وزحف
قيصر إليها فملك مصر والإسكندرية من كلابطره هذه وانقرض ملك
اليونانيين، وولّى قيصر على مصر والاسكندرية وبيت المقدس من قبله وذلك
لسبعمائة أو نحوها من بناء رومة ولخمسة آلاف من مبدإ الخليقة.
وذكر البيهقي: إن كلابطره زحفت إلى أرض اللطينيين وقهرتهم، وأرادت
العبور إلى الأندلس فحال دونها الجبل الحاجز بين الأندلس والإفرنج
فاستعملت في فتحه الحيل [2] والنار حتى نفذت إلى الأندلس، وإنّ مهلكها
كان على يد أوغسطس يولش [3] ثاني القياصرة. وكذا ذكر المسعودي وأن ملكت
لاثنتين وعشرين سنة، وكان زوجها أنطونيوس مشاركا لها في ملك مقدونية
ومصر، وأن قيصر أوغسطس زحف إليهم فهلك زوجها انطونيوس في حروبه، ثم
أراد التحكّم في كلابطره ليستولي
__________
[1] وفي نسخة اخرى: قيصر يوليوس.
[2] (ورد في تاج العروس: الحول والحيل والحول، كعنب هو الحذق وجودة
النظر والقدرة على دقة التصرف) .
[3] وفي نسخة أخرى: اوغسطوس يوليوس.
(2/225)
على حكمتها إذ كانت بقية الحكماء من آل
يونان، فخطبها وتحيّلت في إهلاكه وإهلاك نفسها بعد أن اتخذت بعض
الحيّات القاتلة التي بين الشام والحجاز وأطلقتها بمجلسها بين رياحين
نصبتها هنالك، ولمست الحيّات فهلكت لحينها وأقامت بمكانها كأنها جالسة،
ودخل أوغسطس لا يشعر بذلك حتى تناول من تلك الرياحين ليشمها فأصابته
الحيّة وهلك لحينه وتمت حيلتها عليه. وانقرض ملك اليونانيين بهلاكها،
وذهبت علومهم إلّا ما بقي بأيدي حكمائهم في كتب خزائنهم حتى بحث عنها
المأمون وأمر باستخراجها فترجمت له من هروشيوش.
وأمّا ابن العميد فعدّ ملوك مصر والإسكندرية بعد الإسكندر أربعة عشر
آخرهم كلابطره كلهم يسمّون بطليموس، كما قال المسعودي. ولم يذكر ملوك
المشرق منهم بعد الإسكندر ولا ملوك الشام ولا ملوك مقدونية الذين قسم
الملك فيهم كما ذكرناه إلا بذكر ملك أنطاكية من اليونانيين ويسمّيه
أنطيوخس كما ذكرناه الآن، وذكر في أسماء ملوك مصر هؤلاء وفي عددهم
خلافا كثيرا إلّا أنه سمّى كل واحد منهم بطليموس، فقال في بطليموس
الأوّل: إنّه أخو الإسكندر أو مولاه اسمه فلافاذافسد أو أرنداوس أو
لوغس أو فيليبس ملك سبعا وقيل أربعين، قال: وفي عصره بنى سلقيوس وأظنه
ملك المشرق منهم قمامة وحلب وقنّسرين وسلوقية والاذقية، قال:
ومنها كان الكوهن الأعظم بالقدس سمعان بن خونيّا [1] وبعده أخوه
ألعازر، قال:
وفي التاسعة من ملك لوغش جاء أنطيوخس المعظّم إلى بلد اليهود
واستعبدهم، وفي الحادية عشر حارب الروم فغلبوه وأسروه وأخذوا منه ابنه
أقفاقس رهينة، وفي الثالثة عشر تزوج أنطيوخس كلابطره بنت لوغش زوّجها
له أبوها وأخذ سورية بلاد المقدس في مهرها، وفي التاسعة عشر وثب أهل
فارس والمشرق على ملكهم فخلعوه وولّوا ابنه ثم هلك لوغش.
قال ابن العميد: بعد مائة وإحدى وثلاثين سنة لليونان ملك بطليموس بن
الإسكندروس ويلقّب غالب أثور، وملك مصر والإسكندرية والبلاد الغربية
إحدى وعشرين سنة وقيل ثمانيا وثلاثين سنة ويسمّى أيضا فيلادلفوس أي محب
أخيه، وهو الّذي استدعى أحبار اليهود وعلماءهم الاثنين وسبعين يترجموا
[2] له التوراة وكتب
__________
[1] وفي الإنجيل: سمعان بن يونا.
[2] الأصح ان يقول ليترجموا.
(2/226)
الأنبياء من العبرانية إلى اليونانية
وقابلوها بنسخهم فصحت، وكان من هؤلاء الأحبار سمعان المذكور أوّلا وعاش
الى أن حمل على ذراعيه في الهيكل ومات ابن ثلاثمائة وخمسين، وكان منهم
ألعازر الّذي قتله أنطيوخس على امتناعه عن السجود لصنمه وقتله ابن
سبعين سنة. ويظهر من هذا أنّ بطليموس هو تلماي وإنّه من ملوك مقدونية
وملك مصر لأنّ ابن كريّون قال: وفي ذلك الزمان كان تلماي من أهل
مقدونية ملك مصر وكان يحبّ العلوم، فاستدعى من اليهود سبعين من أحبارهم
وترجموا له التوراة وكتب الأنبياء، وكان في عصره صادوق الكوهن انتهى.
وملك خمسا وأربعين سنة.
وملك بعده بطليموس الأرنبا وقيل اسمه رغادي وقيل راكب الأنبر ملك أربعا
وعشرين، وقيل سبعا وعشرين، وهو الّذي بنى ملعب الخيل بإسكندرية الّذي
أحرق في عصر زينون قيصر. وملك بعده بطليموس محب أخيه ويقال: أوغسطس
ويقال فيلادلفس ملك ست عشرة، وكان في عصره أخميم الكوهن. وملك بعده
بطليموس الصائغ، ويقال: أخيه [1] ملك خمس سنين وقيل خمسا وعشرين، وعلى
عهده كان اليهود الكوهن وكان ضالّا غشوما وقتله بعض خدمه خنقا. وملك
بعده بطليموس محب أبيه، وقيل اسمه كلا فاطر [2] ملك سبع عشرة سنة وأخذ
الجزية من اليهود. وملك بعده بطليموس المظفّر وقيل الغالب وقيل محب
أمّه ملك عشرين وقيل أربعا وعشرين، وفي التاسعة عشرة من ملكه خرج
متيتيّا بن يوحنّا بن شمعون الكوهن الأعظم ويعرف بحشمناي من بني
يوناداب من نسل هارون، بعث أنطيخوس ملك انطاكية ابنه ألغايش بالعساكر
إلى القدس فاعمل الحيلة في ملكها وقتل العازر والكوهن وحمل بني إسرائيل
على السجود لآلهته، فهرب متيتيا في جماعة من اليهود الى الجبال، حتى
إذا خرجت عساكر يونان رجع إلى القدس ومرّ بالمذبح فوجد يهوديا يذبح
خنزيرا عليه، وثار باليونانيين فقتل قائدهم وأخرجهم واستبدّ بملك القدس
كما ذكرناه في أخباره.
ثم ملك بطليموس كلاباطر أي محب أبيه خمسا وعشرين سنة وقيل عشرين، وكان
في أيامه بالقدس يهود ابن متيتيّا وبعده أخوه يوناداب وبعده أخوه شمعون
وبعده
__________
[1] الأصح ان يقول اخوه.
[2] وفي نسخة اخرى: فيلوباطر.
(2/227)
أخوه هرقانوس واسمه يوحنّان وهو أوّل من
تسمّى بالملك من بن حشمناي، وبعث ابنه يوحنّا بالعساكر لقتال قيدونوس
قائد أنطيخوس فغلبه، وارتفع عن اليهود الخراج الّذي كانوا يعطونه لملوك
سورية من أيام فيلفوس [1] ملك المشرق. وملك بعده بطليموس أرغادي أي
الفاضل وقيل بطليموس الصايغ وقيل سانيطر ملك عشرين وقيل ثلاثا وعشرين
وقيل ثلاثة عشر، ولعهده جدّد أنطيخوس بناء أنطاكية وسمّاها باسمه،
ولعهده كان ملك هرقانوس على القدس وبنيه الثلاثة وخرّب مدينة السامرة
سبسطية، ولعهده أيضا زحف أنطيخوس [2] إلى القدس وحاصرها، فصانعه
هرقانوس بثلاثمائة كرة من الذهب استخرجها من قبر داود عليه السلام.
ثم ملك على مصر والاسكندرية بطليموس المخلص وقيل مقروطون وقيل شعري ملك
ثماني عشرة وقيل عشرين وقيل سبعا وعشرين، ولعهده كان الإسكندروس تلماي
بن هرقانوس سابع بني حشمناي بالقدس، وكانت فرقة اليهود عندهم ثلاثة:
الربّانيون ثم القرّاءون وهم في الإنجيل زنادقة [3] وهم في الإنجيل
الكتبة. ثم [4] على مصر بطليموس محب أمّه وقيل الإسكندروس وقيل قيقتس
وقيل الإسكندر وقيل ابن المخلص ملك عشر سنين لا غير، ولعهده كانت
الإسكندرة ملكة على بيت المقدس، ولعهده بطلت مملكة سورية لمائتين وسبع
عشرة سنة من ملك يونان، وقتل بطليموس هذا قتله أهل إهراقية وأحرقوه. ثم
ملك على مصر بطليموس فيناس وقيل إيزيس وقيل المنفي، لأنّ كلابطرة
الملكة نفته عن الملك وملك ثمان سنين وقيل ثلاثا وعشرين يوما وقيل
ثمانية عشر يوما، وبعضهم أسقطه من البطالسة ولم يذكره. ثم ملك على مصر
بطليموس يوناشيش إحدى وعشرين سنة وقيل إحدى وثلاثين وقيل ثلاثين،
ولعهده كان أرستبلوس وأخوه هرقانوس على القدس.
ثم ملك على مصر كلابطره بنت ديوناشيش ومعنى هذا الاسم الساكنة على
الصخرة ملكت ثلاثين وقيل اثنتين وعشرين وكانت حاذقة، وفي الثالثة من
ملكها حفرت خليج الإسكندرية وجرى فيه الماء وبنت باسكندرية هيكل زحل
والعاروص وبنت
__________
[1] وفي نسخة اخرى: فيلبوس.
[2] وفي نسخة اخرى: انطيوخوس.
[3] بياض بالأصل ومكان البياض (ثم الحيسيد) كما في مكان آخر من الكتاب.
[4] الواضح انه سقطت كلمة أثناء النسخ فتصبح الجملة. «ثم ملك على مصر»
.
(2/228)
مقياسا بأخميم وآخر بمدينة أنصنا، وفي
الرابعة من ملكها ملك برومة أغانيوس أوّل القياصرة ملك أربعا ثم يوليوس
بعده ثلاثا، ثم أغسطس بن مونوجس فاستولى على الممالك والنواحي وبلغ
خبره إليها فحصّنت بلادها وبنت حائطا من الفرماء إلى النوبة شرقي النيل
وحائطا آخر من إسكندرية إلى النوبة غربيّ النيل وهو حائط العجوز لهذا
العهد. وبعض أوغسطس العساكر إلى مصر مع قائده أنطريوس ومعه مترداب [1]
ملك الأرمن، فخادعت كلابطره أنطريوس وأوعدته بتزويجها فقتل رفيقه
مترداب وتزوّجها وعصى أوغسطس، فسار أوغسطس إليها وملك مصر وقتل كلا
بطرة وولديها وقائده بطريوس [2] الّذي تزوجها. يقال: إنّها وضعت له
سمّا في مجلسها وأن أوغسطس تناوله ومات، والله أعلم. وانقرضت مملكة
يونان من مصر والاسكندرية والمغرب بملكها وصارت هذه الممالك للروم إلى
حين الفتح الإسلامي، انتهى كلام ابن العميد.
والخلاف الّذي ينقله عن جماعة مؤرخيهم يذكر منهم سعيد بن بطريق ويوحنّا
فم الذهب والمنجّبي وابن الراهب وابو فانيوس. والظاهر أنهم من مؤرخي
النصارى والبقاء للَّه الواحد القهّار سبحانه لا إله غيره ولا معبود
سواه.
__________
[1] وفي نسخة اخرى: متردات
[2] هذا الاسم ورد: أنطريوس وبطريوس في الصفحة ذاتها.
(2/229)
الخبر عن اللطينيين
وهم الكيتم المعرفون بالروم من أمم يونان وأشياعهم وشعوبهم وما كان لهم
من الملك والغلب وذكر الدولة التي فيهم للقياصرة وأولية ذلك ومصايره
هذه الأمّة من أشهر أمم العالم وهي ثانية الغريقيين عند هروشيوش
ويجتمعان في نسب يونان، وثالثتهم عند البيهقي ويجتمعون في نسب يونان بن
علجان بن يافث، واسم الروم يشملهم ثلاثتهم لما كان الروم أهل المملكة
العظمى منهم، ومواطن هؤلاء اللطينيين بالناحية الغربية من خليج
القسطنطينية إلى بلاد الافرنجة فيما بين البحر المحيط والبحر الرومي من
شماليه. وملك هذه الأمّة قديما [1] كانت لهم مدينة اسمها طروبة، وذكر
هروشيوش أنّ أوّل من ملك من اللطينيين ألفنس بن شطرنش بن أيّوب وذلك
لعهد دائرة بني إسرائيل وقد مرّ ذكرها في آخر الألف الرابع من مبدإ
الخليقة. وملك من بعده ابنه بريامش واتصل الملك في عقب الفنس هذا
وإخوته وكان منهم كرمنس بن مرسية بن شيبن بن مزكة الّذي ألف حروف
اللسان اللطيني وأثبتها ولم تكن قبله، وذلك على عهد يؤاثير بن كلعاد من
حكّام بني إسرائيل بعد أربعة آلاف وخمسين من مبدإ الخليقة.
وكان بين هؤلاء اللطينيين وبين الغريقيين إخوانهم فتن طويلة، وعلى يدهم
خربت طروبة مدينة اللطينيين لعهد أربعة آلاف ومائة وعشرين من مبدإ
الخليقة أيام عبدون ملك بني إسرائيل وقد مرّ ذكره، وكان ملكهم يومئذ
أناش من عقب بريامش بن ألفنس بن شطرنش، وولي بعده ابنه أشكانيش بن أناش
وهو الّذي بنى مدينة ألبا.
ثم اتصل الملك فيهم إلى أن افترق أمرهم، ثم كان من أعقابهم برقاش أيام
انقراض ملك الكلدانيّين، وصار للمازنيّين والقضاعيّين على عهد عزيّاه
بن أمصيا من ملوك بني إسرائيل ولعهد أربعة آلاف ومائة وعشرين سنة من
مبدإ الخليقة، فصار الأمر في اللطينيين لبرقاش هذا بتولية ملك
المازنيّين ما كان لهم وللسريانيّين قبلهم من الصيت في العالم والتفوّق
على الملوك بنسبهم وعصبيتهم. ثم اتصل الملك لابنه ولحافديه روملّوس
وأماش [2] وهما اللذان اختطا مدينة رومة وذلك لعهد أربعة آلاف وخمسمائة
__________
[1] الأصح ان يقول قديم.
[2] وفي نسخة اخرى: داموس.
(2/232)
سنة من مبدإ الخليقة وعلى عهد حزقيّا بن
آحاز ملك بني إسرائيل، ولأربعمائة ونيف من خراب مدينة طروبة. وكان طول
مدينة رومة من الشمال إلى الجنوب عشرين ميلا في عرض اثني عشر ميلا،
وارتفاع سورها ثمانية وأربعون ذراعا في عرض عشرة أذرع، وكانت من أحفل
مدن العالم، ولم تزل دار مملكة اللطينيين والقياصرة منهم حتى صبحهم
الإسلام وهي في ملكهم.
وكان اللطينيون بعد روملّس وأماش وانقراض عقبهم قد سئموا ولاية الملوك
عليهم فعزلوهم وصار أمرهم شورى بين الوزراء وكانوا يسمونهم القنشلش
ومعناه الوزراء بلغتهم، وكان عددهم سبعين على ما ذكر هروشيوش. ولم يزل
أمرهم على ذلك مدّة سبعمائة سنة إلى أن استبدّ عليهم قيصر بولش [1] بن
غايش أوّل ملوك القياصرة كما نذكر بعد.
وكانت لهم حروب مع الأمم المجاورة لهم من كل جهة فحاربوا اليونانيّين
ثم حاربوا الفرس من بعدهم، واستولوا على الشام ومصر ثم ملكوا جزيرة
الأندلس ثم جزيرة صقلّيّة ثم أجازوا إلى إفريقية فملكوها وخرّبوا
قرطاجنّة، وأجاز أهل إفريقية إليهم وحاصروا رومة واتصلت الفتن بينهم
عشرين سنة أو نحوها على ما نذكر.
وذهب جماعة من الأخباريّين إلى أن الروم من ولد عيصو بن إسحاق عليه
السلام، قال ابن كريّون: كان لليفاز بن عيصو ولد اسمه صفوا ولما خرج
يوسف من مصر ليدفن أباه يعقوب في مدينة الخليل عليه السلام اعترضه بنو
عيصو وقاتلوه، فهزمهم وأسر منهم صفوا بن أليفاز وبعثه إلى إفريقية،
فصار عند ملكها، واشتهر بالشجاعة.
وحدثت الفتنة بين أغنياس وبين الكيتم وراء البحر فأجاز إليهم أغنياس في
أهل إفريقية وأثخن فيهم، وظهرت شجاعة صفوا بن أليفاز، ثم هرب صفوا إلى
الكيتم وعظم بينهم وحسن أثره في أهل إفريقية وفي الأمم المجاورة لكيتم
من أموال وغيرها فزوّجوه وملّكوه عليهم، قال: وهو أوّل من ملك في بلاد
أسبانيا، وأقام ملكا خمسا وخمسين سنة. ثم عدّ ابن كريّون بعد ستة عشر
ملكا من أعقابه آخرهم روملّس باني رومة، وكان لعهد داود عليه السلام،
وخاف منه فوضع مدينة رومة وبنى على جميعها هياكله ونسبت المدينة إليه
وسمّيت باسمه وسمّى أهلها الروم نسبة إليها.
__________
[1] وفي نسخة ثانية: قيصر يوليوس.
(2/233)
ثم عدّ بعد روملّس خمسة من الملوك اغتصب
خامسهم رجلا في زوجه فقتلت نفسها، وقتله زوجها في الهيكل. وأجمع أهل
رومة أن لا يولّوا عليهم ملكا وقدّموا شيوخا ثلاثمائة وعشرين يدبّرون
ملكهم، فاستقام أمرهم كما يجب، إلى أن تغلّب قيصر وسمّى نفسه ملكا،
فصاروا من بعده يسمّون ملوكا انتهى كلام ابن كريون.
وهو مناقض لما قاله هروشيوش، فإنه زعم أنّ بناء رومة كان لعهد داود
عليه السلام، وهروشيوش قال: إنه كان لعهد حزقيّا رابع عشر ملوك بني
يهوذا من لدن داود عليه السلم، وبين المدّتين تفاوت، وخبر هروشيوش
مقدّم لأن واضعيه مسلمان كانا يترجمان لخلفاء الإسلام بقرطبة وهما
معروفان ووضعا الكتاب. فاللَّه أعلم بحقيقة الأمر في ذلك.
الخبر عن فتنة الكيتم مع أهل إفريقية
وتخريب قرطاجنة ثم بناؤها على الكيتم وهم اللطينيون
كان بناء قرطاجنة هذه قبل بناء رومة باثنتين وسبعين سنة، قال هرشيوش:
على يدي ديدن بن أليثا من نسل عيصو بن إسحاق. وكان بها أمير يسمّى
ملكون وهو الّذي بعث إلى الإسكندر بطاعته عند استيلائه على طرسوس، ثم
صار ملك إفريقية إلى أملقا من ملوكهم فافتتح صقلّيّة وهاجت الحرب بينه
وبين الرومانيين وأهل الاسكندرية بسبب أهل سردانيّة [1] وذلك لخمسين
سنة من بناء رومة، ثم وقعت السلم بينهم وهي السلم التي وفد فيها عتّون
من ملوك إفريقية على أنطريطش ملك مقدونية وإسكندرية وهو ملك الروم
الأعظم. ثم ولى بقرطاجنّة أملقا ابنه أنبيل فأجاز إلى بلاد الإفرنج
وغلبهم على بلادهم، وزحف إليه قواد رومة فوالى عليهم الهزائم وبعث أخاه
أشدربال [2] إلى الأندلس فملكها، وخالفه قوّاد الرومانيين إلى إفريقية
بعد أن ملكوا من حصون صقلّيّة أربعين أو نحوها، ثم أجازوا إلى إفريقية
فملكوها وقتلوا غشّول خليفة أنبيل فيها وافتتحوا مدينة جردا. وخرج
آخرون من قوّاد رومة إلى الأندلس فهزموا أشدربال واتّبعوه إلى أن
قتلوه. وفّر أخوه أنبيل عن بلادهم بعد ثلاث عشرة
__________
[1] وهي جزيرة سردينية.
[2] وفي نسخة اخرى: اشدريال.
(2/234)
سنة من إجازته إليهم، وبعد أن حاصر رومة
وأثخن في نواحيها فلحق بإفريقية ولقيه قوّاد أهل رومة الذين أجازوا إلى
إفريقية فهزموه وحاصروه بقرطاجنّة، حتى سأل الصلح على أن يغرم لهم
ثلاثة آلاف قنطار من الفضّة فأجابوه إليه.
وسكنت الحرب بينهم ثم ظاهر بعد ذلك أنبيل صاحب إفريقية ملوك
السريانيّين على حرب أهل رومة فهلك في حربهم مسموما. وبعد أن تخلص أهل
رومة من تلك الحروب رجعوا إلى الأندلس فملكوها، ثم أجازوا البحر إلى
قرطاجنّة ففتحوها وقتلوا ملكها يومئذ أنبيل وخرّبوها لتسعمائة سنة من
بنائها وسبعمائة لبناء رومة.
ثم دارت الحرب بين أهل رومة وملك النوبة، واستظهر ملك النوبة بالبربر
بعد أن هزمه أهل رومة واتبعوه الى قفصة فملكوها واستولوا على ذخيرتها،
وهي من بناء أركلش الجبّار ملك الروم، وهزمهم أهل رومة فخافهم ملك
البربر من ملوك النوبة إلى أن هلك في أسرهم. وكانت هذه الحروب لعهد
بطليموس الإسكندر، بعد أن كان قوّاد رومة اجتمعوا على بناء قرطاجنّة
وتجديدها لاثنتين وعشرين سنة من خرابها فعمرت واتصل بها لأهل رومة ملك
على ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى.
الخبر عن ملوك القياصرة من الكيتم وهم
اللطينيون ومبدإ أمورهم ومصاير أحوالهم
لم يزل أمر هؤلاء الكيتم وهم اللطينيون راجعا إلى الوزراء منذ سبعمائة
سنة، كما قلناه من عهد بناء رومة أو قبلها بقليل كما قال هروشيوش،
تقترع الوزراء في كل سنة فيخرج قائد منهم إلى كل ناحية كما توجبه
القرعة فيحاربون أمم الطوائف ويفتحون الممالك. وكانوا أوّلا يعطون
إخوانهم من الروم اليونانيين طاعة معروفة بعد الفتن والمحاربة، حتى إذا
هلك الإسكندر وافترق أمر اليونانيين والروم وفشلت ريحهم وقعت فتنة
هؤلاء اللطينيين وهم الكيتم مع أهل افريقية، واستولوا عليها مرارا
وخرّبوا قرطاجنّة ثم بنوها كما ذكرناه. وملكوا الأندلس وملكوا الشام
وأرض الحجاز وقهروا العرب بالحجاز وافتتحوا بيت المقدس وأسروا ملكها
يومئذ من اليهود وهو أرستبلوس ابن الإسكندر ثامن ملوك بني حشمناي
وغرّبوه الى رومة وولّوا قائدهم على الشام، ثم
(2/235)
حاربوا ألغماس فكانت حربهم سجالا، إلى أن
خرج بولس [1] بن غايش ومعه ابن عمه لو جيار بن مدكة إلى جهة الأندلس،
وحارب من كان بها من الإفرنج والجلالقة إلى أن ملك برطانية [2] واشبونة
[3] ورجع إلى رومة، واستخلف على الأندلس أكتبيان ابن أخيه يونان. فلما
وصل إلى رومة وشعر الوزراء أنه يروم الاستبداد عليهم فقتلوه.
فزحف اكتبيان ابن أخيه من الأندلس فأخذ بثأره وملك رومة واستولى على
أرض قسطنطينية وفارس وإفريقية والأندلس، وعمه يولش [4] هو الّذي تسمّى
قيصر فصار سمة لملوكهم من بعده. وأصل هذا الاسم جاشر فعرّبته العرب إلى
قيصر، ولفظ جاشر مشترك عندهم فيقال جاشر للشعر وزعموا أنّ يولش ولد
شعره نام يبلغ عينيه، ويقال أيضا للمشقوق جاشر، وزعموا أنّ قيصر ماتت
أمّه وهي مقرب [5] فبقر بطنها واستخرج يولس، والأوّل أصحّ وأقرب إلى
الصواب.
وكانت مدّة يولس قيصر خمس سنين، ولما ولّى قيصر أكتبيان [6] ابن أخته
انفرد بملك الناحية الشمالية من الأرض، ووفد عليه رسل الملوك بالمشرق
يرغبون في ولايته ويضرعون إليه في السلم فاسعفهم، ودانت له أقطار
الأرض، وضرب الإتاوة على أهل الآفاق من الصغر. وكان العامل على اليهود
بالشام من قبله هيردوس بن أنظفتر، وعلى مصر ابنه غايش. وولد المسيح
لاثنتين وأربعين سنة خلت من ملكه. وهلك قيصر أكتبيان لست وخمسين من
ملكه بعد سبعمائة وخمسين سنة لبناء رومة وخمسة آلاف ومائتين لمبدإ
الخليقة انتهى كلام هروشيوش.
وأما ابن العميد مؤرخ النصارى فذكر عن مبدإ هؤلاء القياصرة أنّ أمر
رومة كان راجعا إلى الشيوخ الذين يدبّرون أمرهم، وكانوا ثلاثمائة
وعشرين رجلا لأنهم كانوا حلفوا أن لا يولّوا عليهم ملكا، فكان تدبيرهم
يرجع إلى هؤلاء وكانوا يقدّمون واحدا منهم ويسمّونه الشيخ، وانتهى
تدبيرهم في ذلك الزمان إلى أغانيوس فدبّرهم أربع
__________
[1] وفي نسخة اخرى: يوليوس بن غايش.
[2] هي بريتانيا مقاطعة فرنسية تقع في الشمال الغربي.
[3] وهي لشبونة في الأندلس.
[4] وهو يوليوس قيصر.
[5] الحامل التي قرب ولادها (قاموس) .
[6] هو أوكتاف.
(2/236)
سنين، وهو الّذي سمّي قيصر لأن أمّه ماتت
وهو جنين في بطنها فبقروا بطنها وأخرجوه، ولما كبر انتهت إليه رياسة
هؤلاء الشيوخ برومة أربع سنين، ثم وليّ من بعده يوليوس قيصر ثلاث سنين،
ثم وليّ من بعده أوغسطس قيصر بن مرنوخس، قال: ويقال إن أوغسطس قيصر كان
أحد قواد الشيخ مدبر رومة، وتوجه بالعساكر لفتح المغرب والأندلس
ففتحهما وعاد إلى رومة فملك عليهم، وطرد الشيخ من رياسته بها وتدبيره
ووافقته الناس على ذلك. وكان للشيخ نائب بناحية المشرق يقال له فمقيوس،
فلما بلغه ذلك زحف بعساكره إلى رومة فخرج إليه أوغسطس فهزمه وقتله
واستولى على ناحية المشرق. وسير عساكره إلى فتح مصر مع قائدين من
قوّاده هما أنطونيوس ومترداب ملك الأرمن بدمشق، فتوجها إلى مصر وبها
يومئذ كلابطره الملكة من بقية البطالسة ملوك يونان بالإسكندرية ومصر،
فحصّنت بلادها وبنت بدعوتي النيل حائطين مبدؤهما من النوبة إلى
الإسكندرية غربا وإلى الفرما شرقا وهو حائط العجوز لهذا العهد. ثم
داخلت القائد أنطونيوس وخادعته بالتزويج فتزوّجها وقتل رفيقه مترداب
وعصي على أوغسطس، فزحف إليه وقتله وملك مصر وقتل كلابطره وولديها وكان
يسميان الشمس والقمر، وملك مصر والإسكندرية وذلك لاثنتي عشرة سنة من
ملكه.
قال ولاثنتين وأربعين سنة من ملك أوغسطس ولد المسيح بعد مولد يحيى
بثلاثة أشهر. وذلك لتمام خمسة آلاف وخمسمائة سنة من سنيّ العالم
ولاثنتين وثلاثين من ملك هيردوس بالقدس، وقيل لخمس وثلاثين من مملكته،
والكلّ متفقون على أنها لاثنتين وأربعين من ملك أوغسطس. قال: وسياقة
التاريخ تقتضي أنها خمسة آلاف وخمسمائة شمسية من مبدإ العالم لأن من
آدم إلى نوح ألفا وستمائة، ومن نوح إلى الطوفان ستمائة، ومن الطوفان
إلى إبراهيم ألفا واثنتين وسبعين سنة، ومن إبراهيم إلى موسى أربعمائة
وخمسا وعشرين، ومن موسى إلى داود عليهما السلام سبعمائة وستين، ومن
داود إلى الإسكندر سبعمائة وستين سنة، ومن الإسكندر إلى مولد المسيح
ثلاثمائة وتسع عشرة سنة. هكذا ذكر ابن العميد وأنها تواريخ النصارى
وفيها نظر، ويظهر من كلامه أن قيصر الّذي سمّاه أوغسطس، وذكر أنّ
المسيح ولد لاثنتين وأربعين من ملكه هو الّذي سمّاه هيردوس قيصر
أكتبيان وجعل مهلكه لخمسة آلاف ومائتين من مبدإ الخليقة. وعند ابن
العميد أن ملكه لخمسة آلاف وخمسمائة وخمس عشرة
(2/237)
والله أعلم بالحق من ذلك.
ثم ولي من بعد طباريش [1] قيصر وكان وادعا واستولى على النواحي، وعلى
عهده كان شأن المسيح وبغى اليهود عليه ورفعه الله من الأرض، وأقام
الحواريّون من بعده واليهود يضطهدونهم ويحبسونهم على إظهار أمرهم، وكان
بلاطس النبطي الّذي كان قائدا على اليهود يسعى إلى طباريش بأخبار
المسيح وبغى اليهود عليه وعلى يوحنا المعمدان، وتبعتهم الحواريّون من
بعده بالأذيّة، وأراه [2] انهم على حق فأمر بتخلية سبيلهم، وهمّ بالأخذ
بدينهم فمنعه من ذلك قومه. ثم قبض على هيردوس وأحضره إلى رومة ثم نفاه
الى الأندلس فمات بها، ثم ولي مكانته أغرباس ابن أخيه، وافترق
الحواريون في الآفاق لإقامة الدين وحمل الأمم على عبادة الله. ثم قتل
طباريش قيصر أغرباس ملك اليهود الى أشرّ من حالهم وقتلوا أتباع
الحواريين من الروم.
ومات طباريش لثلاث وعشرين من ملكه بعد أن جدّد مدينة طبرية، فيما قال
ابن العميد، واشتقّ اسمها من اسمه وملك من بعده غاينس قيصر. وقال
هيروشيوش: هو أخو طباريش وسمّاه غاينس فليفة من أكتبيان، وقال: هو رابع
القياصرة وأشدّهم وأراد اليهود على نصب وثنه ببيت المقدس فمنعوه. وقال
ابن العميد: ووقعت في أيامه شدّة على النصارى وقتل يعقوب أخاه يوحنّا
من الحواريين وحبس بطرس رئيسهم ثم هرب إلى انطاكية فأقام بها، وقدم
هراديوس بطركا عليها وهو أوّل البطاركة فيها. ثم توجه إلى رومة لسنتين
من ملك غانيس فدبّرها خمسا وعشرين سنة ونصب فيها الأساقفة، وتنصّرت
امرأة من بيت الملك فعضدت النصارى، ولقي النصارى الذين بالقدس شدائد من
اليهود وكان الأسقف عليهم يومئذ يعقوب بن يوسف الخطيب.
وقال ابن العميد عن المسبحي: إن فيلقس [3] ملك مصر غزا اليهود لأوّل
سنة من ملك غانيس واستعبدهم سبع سنين، قال وفي الرابعة من ملكه أمر
عامله على اليهود بسورية وهي أورشاليم. وهي بيت المقدس- أن ينصب
الأصنام في محاريب اليهود، ووثب عليه بعض قوّاده فقتله.
وملك من بعده قلوديش قيصر، قال هروشيوش: هو ابن طباريش وعلى عهده
__________
[1] هو طيباريوس.
[2] الضمير يعود إلى الله.
[3] وفي نسخة ثانية: فيليبس.
(2/238)
كتب متّى الحواريّ إنجيله في بيت المقدس
بالعبرانية، قال ابن العميد، ونقله يوحنّا ابن زبدي إلى الروميّة، قال:
وفي أيامه كتب بطرس رأس الحواريّين إنجيله بالرومية ونسبه إلى مرقص
تلميذه، وكتب لوقا من الحواريين إنجيله بالرومية وبعث به إلى بعض
الأكابر من الروم وكان لوقا طبيبا. ثم عظم الفساد بين اليهود ولحق
ملكهم أغرباس برومة فبعث معه أقلوديش عساكر الروم فقتلوا من اليهود
خلقا، وحملوا إلى أنطاكية ورومة منهم سبيا عظيما وخربت القدس وانجلى
أهلها فلم يولّ عليهم القياصرة أحدا لخرابها، وافترقت اليهود على فرق
كثيرة أعظمها سبعة. قال ولسبع من ملك أقلوديش دخلت بطريقة من الروم في
دين النصارى على يد شمعون الصفا، وسمعت منه بالصليب، فجاءت إلى القدس
لإظهاره، ورجعت إلى رومة.
وهلك أقلوديش قيصر لأربع عشرة سنة من ملكه وملك من بعده ابنه نيرون.
قال هروشيوش: هو سادس القياصرة، وكان غشوما فاسقا، وبلغه أن كثيرا من
أهل رومة أخذوا بدين المسيح فنكر ذلك وقتلهم حيث وجدوا، وقتل بطرس رأس
الحواريين، وأقام أريوس بطركا برومة مكان بطرس من بعد خمس وعشرين سنة
مضت لبطرس في كرسيها وهو رأس الحواريين ورسول المسيح إلى رومة، وقتل
مرقص الإنجيليّ بالإسكندرية لاثنتي عشرة من ملكه وكان هنالك منذ سبع
سنين بها مساعدا إلى النصرانية بالإسكندرية ومصر وبرقة والمغرب، وولي
مكانه حنانيّا [1] ويسمى بالقبطيّة جنبار وهو أول البطارقة بها واتخذ
معه الأقسّة الاثني عشر.
قال ابن العميد عن المسبحي: وفي الثانية من ملك نيرون عزل بلخس القاضي،
كان على اليهود من جهة الروم، وولّى مكانه قسطس القاضي، وقتل بوثار
رئيس الكهنونيّة بالمقدس، ومات القاضي قسطس فثار اليهود على من كان
بالمقدس من النصارى وقتلوا أسقفهم هنالك وهو يعقوب بن يوسف النجّار،
وهدموا البيعة وأخذوا الصليب والخشبتين ودفنوها إلى أن استخرجتها هلانة
أم قسطنطين كما نذكر بعد.
وولي مكان يعقوب النجّار ابن عمه شمعون بن كنابا، ثم ثار بهم اليهود
وأخرجوهم من المقدس لعشر من ملك نيرون فأجازوا الأردن وأقاموا هنالك.
وبعث نيرون قائده أسباشيانس، وأمر بقتل اليهود وخراب القدس وتحصّن
اليهود منه وبنوا عليهم ثلاثة حصون، وحاصرهم أسباشيانس وخرّب جميع
حصونهم وأحرقها وأقام عليهم سنة
__________
[1] وفي الإنجيل: حننيا.
(2/239)
كاملة. وقال هروشيوش: إنّ نيرون قيصر انتقض
عليه أهل مملكته فخرج عن طاعته أهل برطانية من أرض الجوف، ورجع أهل
أرمينية والشام الى طاعة الفرس. فبعث صهره على أخته وهو يشبشيان بن
لوجيه فسار إليهم في العساكر وغلبهم على أمرهم.
ثم زحف الى اليهود بالشام وكانوا قد انتقضوا فحاصرهم بالقدس، وبينما هو
في حصاره إذ بلغه موت نيرون لأربع عشرة سنة من ملكه، ثار به جماعة من
قوّاده فقتلوه، وكان قد بعث قائدا الى جهة الجوف والأندلس، فافتتح
برطانية ورجع إلى رومة بعد مهلك نيرون قيصر فملكه الروم عليهم، وأنه
قتل أخاه يشبشيان فأشار عليه أصحابه بالانصراف إلى رومة. وبشّره رئيس
اليهود وكان أسيرا عنده بالملك، ويظهر أنه يوسف بن كريّون الّذي مرّ
ذكره، فانطلق إلى رومة وخلّف ابنه طيطش على حصار القدس فافتتحها وخرّب
مسجدها وعمرانها كما مرّ ذكره. قال: وقتل منهم نحوا من ستمائة ألف ألف
[1] مرتين وهلك في حصارها جوعا نحو هذا العدد، وبيع من سراريهم في
الآفاق نحو من تسعين ألفا، وحمل منهم إلى رومة نحوا من مائة ألف
استبقاهم لفتيان الروم يتعلمون المقاتلة فيهم ضربا بالسيوف وطعنا
بالرماح. وهي الجلوة الكبرى كانت لليهود بعد ألف ومائة وستين سنة من
بناء بيت المقدس ولخمسة آلاف ومائتين وثلاثين من مبدإ الخليقة
ولثمانمائة وعشرين من بناء رومة. فكان معه إلى أن افتتحها وكان المستبد
بها بعد مهلك نيرون قيصر، وانقطع ملك آل يولس قيصر لمائة وست عشرة سنة
من مبدإ دولتهم، واستقام ملك يشبشيان في جميع ممالك الروم وتسمّى قيصر
كما كان من قبل أهـ. كلام هروشيوش.
وقال ابن العميد: إن أسباشيانس لما بلغه وهو محاصر للقدس أنّ نيرون
هلك، ذهب بالعساكر الذين معه، وبشّره يوسف بن كريّون كهنون طبرية من
اليهود بأنّ مصير ملك القياصرة إليه، ثم بلغه أنّ الروم بعد مهلك نيرون
ملّكوا غليان بن قيصر فأقام عليهم تسعة أشهر، وكان رديء السيرة، وقتله
بعض خدمه غيلة، وقدّموا عوضه أنّون ثلاثة أشهر ثم خلعوه، وملّكوا
أبطالس ثمانية أشهر، فبعث أسباشيانس وهو
__________
[1] انتقد ابن خلدون في مقدمته لهذا التاريخ اخبار المؤرخين الهواهية
البعيدة عن المعقول، وهذا العدد الّذي ذكره ابن خلدون بعيد جدا عن
المعقول، لأن الستمائة ألف ألف مكررة يعني انها تساوي 1200 مليون وهذا
رقم خيالي وربما تكون كلمة الألف الثانية مكررة من الناسخ فيكون العدد
ستمائة ألف مكررة اي حوالي مليون ومائتي ألف. وهو رقم معقول.
(2/240)
الّذي سمّاه هروشيوش يشبشيان قائدين إلى
رومة فحاربوا أبطانش وقتلوه. وسار أسباشيانس إلى رومة وبعت إليه طيطش
المحاصر للقدس بالأموال والغنائم والسبي، قال وكانت عدّة القتلى ألف
ألف والسبي تسعمائة ألف، واحتمل الخوارج الذين كانوا في نواحي القدس مع
الأسرى، وكان يلقي منهم كل يوم للسباع فرائس إلى أن فنوا. قال: ولما
ملك طيطش بيت المقدس رجع النصارى الذين كانوا عبروا إلى الأردن فبنوا
كنيسة بالمقدس وسكنوا، وكان الأسقف فيهم سمعان بن كلوبا ابن عمّ يوسف
النجّار وهو الثاني من أساقفة المقدس.
ثم هلك أسباشيانس وهو يشبشيان لتسع سنين من ملكه وملك بعده ابنه طيطش
قيصر سنتين وقيل ثلاثا. قال ابن العميد: لأربعمائة من ملك الإسكندر.
وقال هروشيوش: كان متفنّنا في العلوم ملتزما للخير عارفا باللسان
الغريقيّ واللطيني، وولي بعده أخوه دومريان خمس عشرة سنة، قال هروشيوش:
وهو ابن أخت نيرون قيصر، قال: وكان غشوما كافرا وأمر بقتل النصارى فعل
خاله نيرون، وحبس يوحنا الحواري، وأمر بقتل اليهود من نسل داود حذرا أن
يملكوا، وهلك في حروب الإفرنج وسمّاه ابن العميد دانسطيانوس، وقال: ملك
ست عشرة سنة وقيل تسعا، وكان شديدا على اليهود وقتل أبناء ملوكهم، وقيل
له إنّ النصارى يزعمون أنّ المسيح يأتي ويملك فأمر بقتلهم، وبعث [1] عن
أولاد يهوذا بن يوسف من الحواريّين وحملهم إلى رومة مقيّدين، وسألهم عن
شأن المسيح، فقالوا إنّما يأتي عند انقضاء العالم فخلّى سبيلهم. وفي
الثالثة من دولته طرد بطرك إسكندرية لسبع وثمانين سنة للمسيح، وقدم
مكانه ملموا فأقام ثلاث عشرة سنة ومات فولى مكانه كرماهو.
قال ابن العميد عن المسبحي: ولعهده كان أمر ليونيوس صاحب الطّلسمات
برومة، فنفى ذوسطيالوس جميع الفلاسفة والمنجّمين من رومة وأمر أن لا
يغرس بها كرم، ثم هلك ذو سطيالوس، وهو الّذي سمّاه هروشيوش دومريان،
وقال: هلك في حروب الإفرنج، وملك بعده برما ابن أخيه طيطش نحوا من
سنتين وسمّاه ابن العميد تاوداس، وقال: إنّ المسبحيّ سمّاه قارون، قال:
ويسمّى أيضا برسطوس، وقال ملك على الروم سنة أو سنة ونصفا وأحسن السيرة
وأمر بردّ من كان منفيّا من النصارى وخلاهم ودينهم ورجع يوحنّا
الإنجيلي إلى أفسس بعد ست سنين. وقال هروشيوش:
__________
[1] مقتضى السياق: وبحث.
(2/241)
أطلقه من السجن. قال: ولم يكن له ولد فعهد
بالملك إلى طريانس من عظماء قوّاده وكان من أهل مالقة فولي بعده وتسمّى
قيصر. قال ابن العميد: واسمه أنديانوس، وسمّاه المسبحي طرينوس وملك على
الروم باتفاق المؤرخين سبع عشرة سنة، وقتل سمعان بن كلاويّا أسقف بيت
المقدس وأغناطيوس بطرك أنطاكية. ولقي النصارى في أيامه شدّة وتتبع
أئمتهم بالقتل واستعبد عامّتهم، وهو ثالث القياصرة بعد نيرون في هذه
الدولة. ولعهده كتب يوحنّا إنجيله برومة في بعض الجزائر السادسة من
ملكه وكان قد رجع اليهود الى بيت المقدس فكثروا بها وعزموا على
الانتقاض، فبعث عساكره وقتل منهم خلقا كثيرا. وقال هروشيوش: إنّ الحرب
طالت بينه وبين اليهود، فخرّبوا كثيرا من المدن إلى عسقلان ثم إلى مصر
والإسكندرية فانهزموا هنالك وقتلوا وزحفوا بعدها إلى الكوفة، فأثخن
فيهم بالقتل وخضد من شوكتهم.
قال ابن العميد: وفي تاسعة من ملكه مات كوثبانو بطرك الإسكندرية لإحدى
عشرة سنة من ولايته، وولي مكانه أمرغو اثنتي عشرة سنة أخرى [1] . وقال
بطليموس صاحب كتاب المجسطي: إنّ شيلوش الحكيم رصد برومة في السنة
الأولى من ملك طرنيوس وهو أندريانوس [2] لأربعمائة وإحدى وعشرين
للإسكندر ولثمانمائة وخمس وأربعين لبخت نصّر. وقال ابن العميد: خرج
عليه خارجيّ ببابل فهلك في حروبه لتسع عشرة سنة من ولايته كما قلناه،
فولي من بعد أندريانوس إحدى وعشرين سنة، وقال ابن العميد عن ابن بطريق
عشرين سنة. وقال هروشيوش: إنّه أثخن في اليهود، ثم بنى مدينة المقدس
وسمّاها إيلياء. وقال ابن العميد: كان شديدا على النصارى وقتل منهم
خلقا، وأخذ الناس بعبادة الأوثان، وفي ثامنة ملكه خرّب بيت المقدس وقتل
عامّة أهلها وبنى على باب المدينة عمودا وعليه لوح نقش فيه مدينة
إيلياء. ثم زحف إلى الخارجيّ الّذي خرج على طرنيوس قبله فهزمه إلى مصر
وألزم أهل مصر حفر خليج من مجرى النيل إلى مجرى القلزم وأجرى فيه الحلو
[3] ، ثم ارتد بعد ذلك، وجاء الفتح والدولة الإسلامية فألزمهم عمرو بن
العاص حفره حتى جرى فيه الماء ثم انسد لهذا العهد.
__________
[1] وفي نسخة اخرى: عشر سنوات اخرى.
[2] هو أدريانوس.
[3] ربما يكون قد سقط من الناسخ كلمة الماء فتصبح الجملة: «واجرى فيه
الماء الحلو» .
(2/242)
وكان أندريانوس هذا قد بنى مدينة القدس
ورجع إليها اليهود وبلغه أنهم يرومون الانتقاض، وأنهم ملكوا عليهم
زكريّا من أبناء الملوك، فبعث إليهم العساكر وتتبعهم بالقتل وخرّب
المدينة حتى عادت صحراء، وأمر أن لا يسكنها يهودي، وأسكن اليونان بيت
المقدس، وكان هذا الخراب لثلاث وخمسين سنة من خراب طيطش الّذي هو
الجلوة الكبرى. وامتلأ القدس من اليونان وكانت النصارى يتردّدون إلى
موضع القبر والصليب يصلّون فيه، وكانت اليهود يرمون عليه الزبل
والكناسات، فمنعهم اليونان من الصلاة فيه وبنوا هنالك هيكلا على اسم
الزهرة.
وقال ابن العميد عن المسبحي: وفي الرابعة من ملك أندريانوس بطل الملك
من الرّها وتداولتها القضاة من قبل الروم، وبنى أندريانوس بمدينة
أثينوس [1] بيتا ورتب فيه جماعة من الحكماء لمدارسة العلوم، قال: وفي
خامسة ملكه قدم نسطس بطركا على إسكندرية وكان حكيما فاضلا فلبث إحدى
عشرة سنة ثم مات، وقدم مكانه أمانيق في سادسة عشر من ملك أندريانوس
فلبث إحدى عشرة سنة وهو سابع البطارقة. ثم مات أندريانوس لإحدى وعشرين
من ملكه كما مرّ، وولي ابنه أنطونيش. قال هروشيوش: ويسمّى قيصر الرحيم.
وقال ابن العميد: ملك اثنتين وعشرين. وقال الصعيديّون إحدى وعشرين.
قال: وفي خامسة ملكه قدم مرتيانو بطركا بإسكندرية وهو الثامن منهم،
فلبث تسع سنين ومات، وكان فاضل السيرة.
وقدم بعده كلوتيانو فلبث أربع عشرة سنة، ومات في سابعة ملكه أوراليانوس
بعده وكان محبوبا. وقال بطليموس صاحب المجسطي: إنه رصد الاعتدال
الخريفيّ في ثالثة ملك أنطونيوس، فكان لأربعمائة وثلاث وستين بعد
الإسكندر.
ثم هلك أنطونيوس لاثنتين وعشرين كما مرّ، فملك من بعده أوراليانس. قال
هروشيوش: وهو أخو أنطونيوس وسمّاه أورالش وأنطونيوس الأصغر، وقال: كانت
له حروب مع أهل فارس وبعد أن غلبوا على أرمينية وسورية من ممالكه
فدفعهم عنهما وغلبهم في حروب طويلة، وأصاب الأرض على عهده وباء عظيم،
وقحط الناس سنتين، واستسقى لهم النصارى فأمطروا وارتفع الوباء والقحط
بعد أن كان اشتدّ على النصارى وقتل منهم خلقا، وهي الشدّة الرابعة من
بعدت نيرون.
قال ابن العميد: وفي السابعة من ملكه قدم على الإسكندرية البطرك
أغريبوس،
__________
[1] هي مدينة أثنيا.
(2/243)
فلبث اثني عشر سنة ومات في تاسعة عشر من
ملك أنطونيوس الأصغر، قال وفي أيامه ظهرت مبتدعة من النصارى واختلفت
أقوالهم وكان منهم ابن ديصان وغيره، فجاهدهم أهل الحق من الأساقفة
وأبطلوا بدعتهم.
وهلك أنطونيوس هذا لتسع عشرة من ملكه. وفي عاشرة ملكه ظهر أردشير بن
بابك أوّل ملوك الساسانيّة واستولى على ملك الفرس، وكان صاحب الحضر
متملّكا على السواد فغلبه وملك السواد وقتله وقصّته معروفة. وكان لعهده
جالينوس المشهور بالطبّ وكان ربي معه، فلما بلغه أنه ملك على الروم قدم
عليه من بلاد اليونان وأقام عنده، وكان لعهده أيضا ديمقراطس الحكيم،
ولأوّل سنة من ملكه قدم بليانس بطركا على إسكندرية وهو الحادي عشر من
بطاركتها فلبث فيهم عشر سنين ومات.
وولي مكانه ديمتريوس فلبث فيهم ثلاثا وثلاثين سنة ومات كمودة قيصر
لثلاثة عشر كما قلناه. فولي من بعده ورمتيلوس ثلاثة أشهر. قال ابن
العميد: وسمّاه ابن بطريق فرطنوش. وقال: وملك ثلاثة أشهر وسمّاه غيره
فرطيخوس. وسمّاه الصعيديّون برطانوس ومدّة ملكه باتفاقهم شهران. وقال
هروشيوش: اسمه اللبيس بن طيجليس وهو عمّ كمودة قيصر، قال وولي سنة
واحدة وقتله بعض قوّاده وأقام في الملك ستة أشهر وقتل.
قال ابن العميد: وملك بعده يوليانس قيصر شهرين ومات، ثم ولي سوريانوس
قيصر وسمّاه بعضهم سورس [1] وسمّاه هروشيوش طباريش بن أرنت بن أنطونيش،
واختلفوا في مدّته، فقال ابن العميد عن ابن بطريق: سبع عشرة سنة، وقال
المسبحي: ثمان عشرة، وعن أبي فانيوس ستة عشرة، وعن ابن الراهب ثلاث
عشرة، وعن الصعيديين سنتين. قال وملك في رابعة من ملك أردشير واشتدّ
على النصارى وفتك فيهم وسار إلى مصر والإسكندرية فقتلهم وهدم كنائسهم
وشرّدهم كل مشرّد، وبنى بالإسكندرية هيكلا سمّاه هيكل الآله. قال
هروشيوش: وهي الشدّة الخامسة من بعد شدّة نيرون. قال: ثم انتقض عليه
اللطينيون ولم يزل محصورا إلى أن هلك. وملك من بعده أقطونيش. قال ابن
العميد عن ابن بطريق: ست سنين، وعن المسبحيّ: سبع سنين. وسماه أنطونيش
قسطس. قال: وكان ابتداء ملكه عندهم لخمس وعشرين وخمسمائة من ملك
__________
[1] وفي نسخة اخرى: سويرس.
(2/244)
الإسكندر، ولعهده سار أردشير ملك الفرس إلى
نصّيبين فحاصرها وبنى عليها حصنا، ثم بلغه أنّ خارجا خرج عليه بخراسان،
فاجفل عنهم بعد المصالحة على أن لا يتعرّضوا لحصنه، فلما رحل بنوا من
وراء الحصن وأدخلوه في مدينتهم، ورجع أردشير فنازلهم وامتنعوا عليه،
فأشار بعض الحكماء بأن يجمع أهل العلم فيدعون الله دعوة رجل واحد،
ففعلوا فملك الحصن لوقته. وقال هروشيوش: لمّا ولي أنطونيش ضعف عن
مقاومة الفرس فغلبوا على أكثر مدن الشام ونواحي أرمينية وهلك في حروبهم
وولي بعده مفريق بن مركة وقتله قوّاد رومة لسنة من ملكه وكذا قال ابن
العميد، وسمّاه ابن بطريق بقرونشوش، والمسبحي هرقليانوس. قالوا جميعا:
وملك من بعده أنطونيش. قال ابن العميد عن ابن بطريق وابن الراهب: ثلاث
سنين، وعن المسبحيّ والصعيديين: أربع سنين، قال: وفي أوّل سنة من ملكه
بنيت مدينة عمّان بأرض فلسطين، وملك سابور بن أردشير مدنا كثيرة من
الشام.
ومات أنطونيش فملك من بعده إسكندروس لثلاث وعشرين من ملك سابور بن
أردشير فملك على الروم ثلاث عشرة سنة وكانت أمّه محبة في النصارى. وقال
هروشيوش: ملك عشرين سنة وكانت أمّه نصرانية وكانت النصارى معه في سعة
من أمرهم. قال ابن العميد: وفي سابعة ملكه قدم [1] تاوكلّا بطركا
بالإسكندرية وهو الثالث عشر من البطاركة فلبث فيهم ست عشر سنة ومات.
قال هروشيوش: ولعشر من ملكه غزا فارس فقتل سابور بن أردشير وانصرف
ظافرا فثار عليه أهل رومة وقتلوه.
وملك من بعده مخشميان بن لوجية ثلاث سنين، ولم يكن من بيت الملك وإنّما
ولوه لأجل حرب الإفرنج واشتدّ على النصارى الشّدّة السادسة من بعد
نيرون. وأمّا ابن العميد فسماه فقيموس ووافق على الثلاث سنين في مدّته
وعلى ما لقي النصارى منه، وأنّه قتل منه سرحبوس في سلمية وواجوس في
بالس على الفرات، وقتل بطرك انطاكية فسمع أسقف بيت المقدس بقتله فهرب
وترك الكرسي. قال: وفي ثالثة ملكه ملك سابور بن أردشير خلاف ما زعم
هروشيوش من أنه قتله.
ثم هلك فقيموس أرمشميان وولي من بعده يونيوس ثلاثة أشهر وقتل فيما قال
ابن العميد، وقال: سمّاه أبو فانيوس لوكس قيصر وابن بطريق بلينايوس ولم
يذكره
__________
[1] بمعنى مضى على وجوده زمن طويل.
(2/245)
هروشيوش. ثم ملّك عرديانوس قيصر، قال ابن
العميد عن ابن بطريق وابن الراهب: أربع سنين، وعن المسبحيّ
والصعيديّين: ست سنين، وسمّاه أبو فانيوس فودينوس والصعيديّون قرطانوس.
قال: وكان ملكه لإحدى وخمسين وخمسمائة من ملك الإسكندر. وقال هروشيوش:
غرديار بن بليسان. قال: وملك سبع سنين وطالت حروبه مع الفرس وكان ظافرا
عليهم وقتله أصحابه على نهر الفرات، قال وولي بعده فلفش [1] بن أولياق
بن أنطونيش سبع سنين وهو ابن عم الإسكندر الملك قبله وأوّل من تنصّر من
ملوك الروم. وقال ابن العميد عن الصعيديّين: ملك ست سنين وقيل تسع
سنين، وكان ملكه لخمس وخمسين وخمسمائة من ملك الإسكندر وآمن بالمسيح.
وفي أول سنة من ملكه قدم دنوشيوش بطركا بالإسكندرية وهو رابع عشر
البطاركة بها فلبث تسع عشرة سنة، ولعهد فيلفش هذا قدم غرديانوس أسقفا
على بيت المقدس بعد هروب مركيوس ثم عاد من هروبه فأقام شريكا معه سنة
واحدة، ومات غرديانوس فانفرد مركيوش أسقفا ببيت المقدس عشر سنين، قال:
وقتل فيلفش قيصر قائد من قواده يقال له دافيس وملك مكانه خمس سنين.
وقال عن المسبحيّ وابن الراهب سنة، وعن ابن بطريق سنتين. قال: وكان
يعبد الأصنام ولقي النصارى منه شدّة، وكان من أولاد الملوك، وقتل بطرك
رومة وأجاز من مدينة قرطاجنّة إلى مدينة أفسس وبنى بها هيكلا وحمل
النصارى على السجود له، قال: وفي أيامه كانت قصّة فتية أهل الكهف
وظهروا بعده في أيام تاودوسيوس.
وأمّا هروشيوش فسماه داجية بن مخشميان، وقال: ملك سنة واحدة، وكانت على
النصارى في أيامه الشدّة السابعة، وقتل بطرك رومة منهم.
ووليّ من بعده غالش قيصر سنتين واستباح في قتل النصارى وباء عظيم أقفلت
له المدن. وقال هروشيوش: هو غالش بن يولياش، وقال ابن بطريق: إنّ
يولياش كان شريكا له في ملكه ومات قبله. قال ابن العميد: إحدى عشرة سنة
لسبعين وخمسمائة من ملك الإسكندر. وقال هروشيوش وابن بطريق: ملك خمس
عشرة سنة واسمه غاليوش، وقال المسبحيّ: خمس عشرة سنة، وسماه داقيوس
وغاليوش ابنه. وقال آخرون: اسمه أورليوش وملك خمس سنين. وقال أبو
فانيوس: اسمه غليوس وملك أربع عشرة سنة. وقال الصعيديّون ملك كذلك
واسمه أوراليونوس.
__________
[1] وفي نسخة اخرى: فيلبّس.
(2/246)
قال ابن العميد: وكان يعبد الأصنام ولقي
النصارى منه شدّة في أوّل سنة من ملكه قدم مكتميوش [2] بطركا
بالإسكندرية وهو الخامس عشر من بطاركتها فلبث اثنتي عشرة سنة ومات، وفي
خامسة ملكه قدم إسكندروس أسقفا ببيت المقدس ثم قتله بعد سبع سنين وبعث
ابنه في عساكر الروم لغزو الفرس، فانهزم وحمل أسيرا إلى كسرى بهرام
فقتله. وقال هرشيوش: ولي غلينوس خمسة عشر سنة فاشتدّ على النصارى الأمر
وقتلهم وقتل معهم بطرك بيت المقدس، وكانت له حروب مع الفرس أسره في
بعضها ملكهم سابور ثم من عليه وأطلقه، ووقع في أيامه برومة وباء عظيم
فرفع طلبه عن النصارى بسببه، وفي أيامه خرج القوط من بلادهم وتغلبوا
على بلاد الغريقيين ومقدونية وبلاد النبط، وكان هؤلاء القوط يعرفون
بالسنسبين وكانت مواطنهم في ناحية بلاد السريانيين، فخرجوا لعهد غلنوش
هذا وغلبوا كما قلناه على بلاد الغريقيين ومقدونية وعلى مرية.
وهلك غلينوش قتيلا على يد قواد رومة، ثم ملك أقاويدوش قيصر سنة واحدة،
وقال ابن العميد عن المسبحيّ سنة وتسعة أشهر لثمانين وخمسمائة
للإسكندر. وفي أوّل سنة من ملكه قدم يونس السميصانيّ بطركا بأنطاكيّة
فلبث ثمان سنين وكان يقول بالوحدانيّة ويجحد الكلمة بالروح، ولما مات
اجتمع الأساقفة بأنطاكيّة وردوا مقالته. وقال هروشيوش: ولي بعد غلينوش
فلوديش بن يلاريان بن موكله فنسبه هكذا، وقال فيه من عظماء القواد. ولم
يكن من بيت الملك ودفع القوط المتغلّبين عن مقدونية من منذ خمس عشرة
سنة عليها، ومات لسنتين من ملكه وهذا كما قال المسبحي.
وقال هروشيوش: ولي بعده أخوه نطيل سبع عشرة يوما وقتله بعض القواد، ولم
يذكر ذلك ابن العميد. ثم ملك بعده أوريليانس ست سنين وسمّاه ابن بطريق
أوراليوس والمسبحيّ أرينوس وأبو فانيوس أوليوس وهروشيوش أوليان بن
بلنسيان.
وقال: ملك خمس سنين، قال ابن العميد: وفي الرابعة من ملكه قدم تاونا
بطركا بالإسكندرية سادس عشر البطاركة فلبث عشر سنين. وكان النصارى
يقيمون الدين خفية، فلمّا صار بطركا قابل الروم ولاطفهم بالهدايا
فأذنوا له في بناء كنيسة مريم وأعلنوا فيها بالصلاة، قال: وفي سادسة
ملكه ولد قسطنطين. وقال هروشيوش: إنّ
__________
[2] وفي نسخة اخرى: مكسيموس.
(2/247)
أورليان بن بلنسيان هذا حارب القوط فظفر
بهم وجدّد بناء رومة واشتدّ على النصارى تاسعة بعد نيرون ثم قتل. فولي
بعده طانيش بن إلياس وملك قريبا من السنة. وقال ابن العميد: اسمه
طافسوس وملك ستة أشهر. وقال ابن بطريق: اسمه طافساس وملك تسعة أشهر.
ثم ملك فروفش قيصر خمس سنين، وقال أبو فانيوس: اسمه فروش، وقال ابن
بطريق وابن الراهب والصعيديّون ست سنين، وقال المسبحيّ سبع سنين وسمّاه
ألاكيوس وأرفيون، وسمّاه ابن بطريق بروش، وسماه هروشيوش فاروش بن
أنطويش. قال: وتغلب على كثير من بلاد الفرس، وقال ابن العميد: كان ملكه
لسابعة من ملك سابور ذي الأكتاف ولخمسمائة واثنتين وتسعين من ملك
الإسكندر، وكان شديدا على النصارى وقتل منهم خلقا كثيرا وهلك هو وأبناه
في الحرب.
وقال هروشيوش: ولما هلك فاروش ولي من بعده ابنه مناربان وقتل لحينه،
ولم يذكره ابن العميد. ثم ملك بقلاديانوش إحدى وعشرين سنة، وقال
المسبحيّ:
عشرين سنة، وقال غيره: ثماني عشرة سنة، وملك لخمسمائة وخمس وتسعين
للإسكندر، وقال غيرهم: كان اسمه عربيطا وارتقى في أطوار الخدمة عند
القياصرة إلى أن استخلصه فاريوش وجعله على خيله وكان حسن المزمار.
ويقال أنّ الخيل كانت ترقص طربا لمزاميره، وعشقته بنت فاريوش الملك،
ولما مات أبوها وإخوتها ملّكها الروم عليهم فتزوجته وسلمت له في الملك،
فاستولى على جميع ممالك الروم وما والاها، وقسطنطش ابن عمه على بلاد
أشيّا وبيزنطية، وأقام هو بأنطاكيّة وله الشام ومصر الى أقصى المغرب.
وفي تاسعة عشر من ملكه انتقض أهل مصر والاسكندرية فقتل منهم خلقا ورجع
إلى عبادة الأصنام وأمر بغلق الكنائس، ولقي النصارى منه شدّة وقتل
القسيس مار جرس [1] وكان من أكابر أبناء البطارقة، وقتل ملقوس منهم
أيضا. وفي عاشرة ملكه قدم مار بطرس بطركا بالإسكندرية فلبث عشر سنين
وقتله، وجعل مكانه تلميذه إسكندروس، وكان كبير تلامذته اريوش كثيرا
لمخالفة [2] له فسخطه وطرده، ولما مات مار بطرس رجع أريوش عن المخالفة
فأدخله إسكندروس إلى الكنيسة وصيّره قسّا.
__________
[1] هو القديس مار جرجس.
[2] ومقتضى السياق «وكان كبير تلامذته أريوش يوشي به كثيرا لمخالفته
له» .
(2/248)
قال ابن العميد: وفي أيام دقلاديانوس خرج
قسطنطش ابن عمّه ونائبة على بيزنطيا وأشيّا ورأى هلانة، وكانت تنصّرت
على يد أسقف الرّها، فأعجبته وتزوّجها وولدت له قسطنطين، وحضر
المنجّمون لولادته فأخبروا بملكه، فأجمع ديقلاديانوس على قتله فهرب إلى
الرّها. ثم جاء بعد موت ديقلاديانوس فوجد أباه قسطنطش قد ملك على الروم
فتسلّم الملك من يده على ما نذكر، وهلك ديقلاديانوس لعشرين سنة من ملكه
ولستمائة وستة عشرة سنة من ملك الإسكندر وملك من بعده ابنه مقسيمانوس
[1] قال ابن بطريق: سبع سنين، وقال المسبحيّ وابن الراهب: سنة واحدة.
قالوا وكان شريكه في الملك مقطوس، وكان أشدّ كفرا من ديقلاديانوس، ولقي
النصارى منهما شدّة وقتلا منهم خلقا كثيرا، وفي أول سنة من ملكه قدم
الإسكندروس تلميذ مار بطرس الشهير بطركا بالإسكندرية، فلبث فيهم ثلاثا
وعشرين سنة.
وعلى عهد مقسيمانوس تذكر تلك الخرافة بين المؤرخين من أن سابور ملك
الفرس دخل أرض الروم متنكرا، وحضر مكان مقسيمانوس وسجنه في جلد بقرة
وسار إلى مملكة فارس وسابور في ذلك الجلد وهرب منه، ولحق بفارس وهزم
الروم، في حكاية مستحيلة وكلها أحاديث خرافة. والصحيح منه أنّ سابور
سار إلى مملكة الروم فخرج إليه مقسيمانوس واستولى على ملكه كما نذكر
بعد. وأمّا هروشيوش فلما ذكر مناربان قيصر بن قاريوس وأنّه ملك بعد
أبيه وقتل لحينه، ثم قال وقام بملكهم ديوقاريان وثأر من قاتله، خرج
عليه أقرير بن قاريوس فقتله ديوقاريان بعد حروب طويلة، ثم انتقض عليه
أهل ممالكه وثار الثوار ببلاد الإفرنجة والأندلس وإفريقية ومصر، وسار
إليه سابور ذو الأكتاف فدفع ديوقاريان إلى هذه الحروب كلها مخشميان
هركوريش وصيّره قيصر، فبدأ أوّلا ببلاد الإفرنجة فغلب الثوار بها
وأصلحها وكان الثائر الّذي بالأندلس قد ملك برطانية سبع سنين فقتله بعض
أصحابه ورجعت برطانية إلى ملك ديوقاريان، ثم استعمل مخشميان خليفة
ديوقاريان صهره قسطنطش وأخاه مخشمس ابني وليتنوس، فمضى مخشمس إلى
إفريقية وقهر الثوار بها وردّها إلى طاعة الرومانيين، وزحف ديوقاريان
قيصر الأعظم إلى مصر والإسكندرية فحصر الثائر بها إلى أن ظفر به وقتله،
ومضى قسطنطش إلى اللمانيّين في ناحية بلاد الافرنج فظفر بهم بعد حروب
طويلة. وزحف مخشميان خليفة ديوقاريان إلى سابور ملك الفرس
__________
[1] هو مكسيمانوس.
(2/249)
فكانت حروبه معه سجالا حتى غلبه وأصاب منه،
واستأصل مدينة غورة والكوفة من بلاده سبيا وقتلا ورجع إلى رومة. ثم
سرّحه ديوقاريان قيصر إلى حروب أهل غالش من الإفرنجة، فأثخن فيهم قتلا
وسبيا، ثم اشتدّ ديوقاريان على النصارى الشدّة العاشرة بعد نيرون وأثخن
فيهم بالقتل ودام ذلك عليهم عشر سنين.
ثم اعتزل ديوقاريان وخليفته مخشميان الملك ورفضاه ودفعاه إلى قسطنطش بن
وليتنوش وأخيه مخشمس ويسمّى غلاريس، فاقتسما ملك الرومانيين، فكان
لمخشمس غلاريس ناحية الشرق وكان لقسطنطش ناحية المغرب وكانت إفريقية
وبلاد الأندلس وبلاد الافرنج في ملكته [1] . وهلك ديوقاريان ومخشميان
معتزلين عن الملك بناحية الشام وأقام قسطنطش في الملك، ثم هلك ببرطانية
وأقام بملك اللطينيين من بعده ابنه قسطنطين. انتهى كلام هروشيوش.
ويظهر أنّ هذا الملك الّذي سمّاه ابن العميد ديقلاديانوس هو الّذي
سمّاه هروشيوش ديوقاريان، والخبر من بعد ذلك متشابه والأسماء مختلفة
ولا يخفى عليك وضع كل اسم في مكانه من الآخر والله سبحانه وتعالى أعلم.
الخبر عن القياصرة المتنصرة من اللطينيين
وهم الكيتم واستفعال ملكهم بقسطنطينية ثم بالشام بعدها إلى حين الفتح
الإسلامي ثم بعد إلى انقراض أمرهم
هؤلاء الملوك القياصرة المتنصرة من أعظم ملوك العالم وأشهرهم وكان لهم
الاستيلاء على جانب البحر الرومي من الأندلس إلى رومة إلى القسطنطينية
إلى الشام إلى مصر والإسكندرية إلى إفريقية والمغرب، وحاربوا الترك
والفرس بالمشرق والسودان بالمغرب من النبويّة فمن وراءهم. وكانوا أوّلا
على دين المجوسيّة، ثم بعد ظهور الحواريّين ونشر دين النصرانية بأرضهم
وتسلطهم عليهم بأرضهم مرة بعد أخرى أخذوا بدينهم. وكان أول من أخذ به
قسطنطين بن قسطنطش بن وليتنوس [2] وأمّه هلانة بنت مخشميان قيصر خليفة
ديوقاريان قيصر الثالث والثلاثون من القياصرة، وقد
__________
[1] الأصح ان يقول ملكه.
[2] هو ولتينوس.
(2/250)
مرّ ذكره آنفا. وإنّما سعى هذا الدين دين
النصرانيّة نسبة إلى ناصرة القرية التي كان فيها مسكن عيسى عليه السلام
عند ما رجع من مصر مع أمّه. وأمّا نسبه إلى نصران فهو من أبنية
المبالغة ومعناه أنّ هذا الدين في غير أهل عصابة فهو دين من ينصره من
أتباعه.
ويعرف هؤلاء القياصرة ببني الأصفر وبعض الناس ينسبهم إلى عيصو بن إسحاق
وقد أنكر ذلك المحقّقون وأبوه. وقال أبو محمد بن حزم عند ذكر إسرائيل
عليه السلام كان لإسحاق عليه السلام ابن آخر غير يعقوب واسمه عيصاب،
وكان بنوه يسكنون جبال السراة من الشام إلى الحجاز، وقد بادوا جملة
إلّا أن قوما يذكرون أنّ الروم من ولده وهو خطأ وإنما وقع لهم هذا
الغلط لأنّ موضعهم كان يقال له أروم فظنّوا أنّ الروم من ذلك الموضع
وليس كذلك، لأنّ الروم إنّما نسبوا إلى روملّس باني رومة وربما يحتجون
بأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في غزوة تبوك للحرث بن قيس: هل لك
في جلاد بني الأصفر؟ ولا حجة فيه لاحتمال أن يريد بني عيصاب على
الحقيقة لأن قصده كان إلى ناحية السراة وهو مسكن بني عيصو (قلت) : مسكن
عيصو هؤلاء كان يقال له أيذوم، بالذال المعجمة إلى الظاء أقرب فعرّبتها
العرب راء، ومن هنا جاء الغلط والله تعالى أعلم. وهذا الموضع يقال له
يسعون أيضا والاسمان في التوراة.
قال ابن العميد: خرج قسطنطين المؤمن على مقسيمانوس فهزمه، ورجع إلى
رومة وازدحم العسكر على الجسر فوقع بهم في البحر وغرق مقسمانوس مع من
غرق، ودخل قسطنطين رومة وملكها بعد أن أقام ملكا على بيزنطية من بعد
أبيه ستا وعشرين سنة، فبسط العدل ورفع الجور. وخرج قائده يسكن ناحية
قسطنطينيّة، وولّاه على رومة وأعمالها وألزمه بإكرام النصارى، ثم انتقض
عليه وقتل النصارى وعبد الأصنام، وكان فيمن قتل ماريادس بطرك بطارقة،
فبعث قسطنطين العساكر إلى رومة لحربه فساقوه أسيرا وقتله.
ثم تنصّر قسطنطين في مدينة نيقيا لاثنتي عشر من ملكه وهدم بيوت الأصنام
وبنى الكنائس، ولتاسع عشرة من ملكه كان مجمع الأساقفة بمدينة نيقية
ونفى أريوس، كما ذكرنا ذلك كله من قبل وأنّ رئيس هذا المجمع كان
إسكندروس بطرك الاسكندرية، وفي الخامسة عشر من رياسته توفي بعد المجمع
بخمسة أشهر. وقال ابن بطريق كانت ولاية إسكندروس في الخامسة من ملك
قسطنطين وبقي ست عشرة
(2/251)
سنة وقتل في السادسة والعشرين من ملك
ديقلاديانوس وأنه كان على عهد أوسانيوس أسقف قيساريّة. قال المسبحيّ:
مكث بطركا ثلاثا وعشرين وكسر صنم النحاس الّذي هو هيكل زحل بإسكندرية،
وجعل مكانه كنيسة فهدمها العبيديّون عند ملكهم إسكندريّة. وقال ابن
الراهب: إنّ إسكندروس البطرك ولي أول سنة من ملك قسطنطين فمكث اثنتين
وعشرين سنة وعلى عهده جاءت هلانة أم قسطنطين لزيارة بيت المقدس وبنت
الكنائس وسألت عن موضع الصليب فأخبرها مقاريوس الأسقف: إنّ اليهود
أهالوا عليه التراب والزبل فأحضرت الكهنونيّة وسألتهم عن موضع الصليب
وسألتهم رفع ما هنالك من الزبل ثم استخرجت ثلاثة من الخشب وسألت أيتها
خشبة المسيح، فقال لها الأسقف: علامتها أنّ الميت يحيا بمسيسها، فصدّقت
ذلك بتجربتها، واتخذوا ذلك اليوم عيدا لوجود الصليب، وبنت على الموضع
كنيسة القمامة [1] ، وأمرت مقاريوس الأسقف ببناء الكنائس وكان ذلك
لثلاثمائة وثمان وعشرين من مولد المسيح عليه السلام.
وفي حادية وعشرين من ملك قسطنطين كان مهلك إسكندروس البطرك، وولي مكانه
تلميذه أثناسيوس كانت أمّه تنصّرت على يده فربى ابنها عنده وعلمه وولي
بطركا مكانه وسعى به أصحاب أريوس إلى الملك بعده مرتين بقي فيهما على
كرسيه ثم رجع. وحمل قسطنطين اليهود بالقدس على النصرانية فأظهروها
وافتتحوا في الامتناع من أكل الخنزير، فقتل منهم خلقا وتنصّر بعضهم،
فزعموا أنّ أخبار اليهود نقصوا من سني مواليد الآباء نحوا من ألف
وخمسمائة سنة ليبطلوا مجيء المسيح في السوابيع التي ذكر دانيال أنّ
المسيح يظهر عندها، وأنها لم يحن وقتها وأنّ التوراة الصحيحة هي التي
فسّرها السبعون من أحبار اليهود [2] ملك مصر. وزعم ابن العميد أن
قسطنطين أحضرها واطلع منها على النقض الّذي قاله، قال: وهي التوراة
التي بيد النصارى الآن.
قال ثم أمر قسطنطين بتجديد مدينة بيزنطية وسمّاها قسطنطينية باسمه
وقسّم ممالكه بين أولاده، فجعل لقسطنطين قسطنطينية وما والاها،
لقسطنطين الآخر بلاد الشام الى أقصى المشرق، ولقسطوس الثالث رومة وما
والاها. قال وملك خمسين سنة منها
__________
[1] هي كنيسة القيامة.
[2] بياض بالأصل ومقتضى السياق: فسرها السبعون من أحبار اليهود
وأرسلوها الى ملك مصر.
(2/252)
ست وعشرون بيزنطية قبل غلبة مقسميانوس
ومنها أربع وعشرون بعد استيلائه على الروم، وتنصّر في اثنتي عشرة من
آخر ملكه، وهلك لستمائة وخمسين للإسكندر.
قال هروشيوش: كان قسطنطين بن قسنطش على دين المجوسية، وكان شديدا على
النصارى، ونفى بطرك رومة فدعا عليه وابتلى بالجذام، ووصف له في مداواته
أن ينغمس في دماء الأطفال، فجمع منهم لذلك عددا ثم أدركته الرقة عليهم
فأطلقهم، فرأى في منامه من يحضّه على الاقتداء بالبطرك فردّه إلى رومة
وبريء من الجذام. وجنح من حينئذ إلى دين النصرانية، ثم خشي خلاف قومه
في ذلك، فارتحل الى القسطنطينية ونزلها وشيّد بناءها وأظهر ديانة
المسيح، وخالف أهل رومة فرجع إليهم وغلبهم على أمرهم وأظهر دين
النصرانية، ثم جاهد الفرس حتى ممالكهم. ولعشرين سنة من ملكه خرجت طائفة
من القوط إلى بلاده فأغاروا وسبوا فزحف إليهم وأخرجهم من بلاده. ثم رأى
في منامه عربا وبنودا على تمثال الصلبان وقائلا يقول هذه علامة الظفر
لك، فخرجت أمه هلانة إلى بيت المقدس لطلب آثار المسيح وبنت الكنائس في
البلدان ورجعت ثم هلك قسطنطين لإحدى وثلاثين سنة من ملكه أهـ. كلام
هروشيوش.
ثم ولي قسطنطين الصغير بن قسطنطين وسمّاه هروشيوش قسطنش. قال ابن
العميد: ملك أربعا وعشرين سنة وكان أخوه قسطوس برومية بولاية أبيهما
ففي خامسة من ملك قسطنطين بعث العساكر فقتل مقنيطوس وأتباعه وولى على
رومة من جهته فكانت له صاغية إلى أريوش فأخذ بمذهبه، وغلبت تلك المقالة
على أهل قسطنطينية وأنطاكية ومصر والإسكندرية، وغلب أتباع أريوش على
الكنائس ووثبوا على بطرك اسكندرية ليقتلوه فهرب كما مرّ، ثم هلك لأربع
وعشرين سنة من ملكه.
وولي ابن عمه يولياش. وقال هروشيوش بن منخشمطش قال: وملك سنة واحدة.
وقال ابن العميد: ملك سنتين باتفاق لثلاثة من ملك سابور وكان كافرا
وقتل النصارى وعزلهم عن الكنائس وأطرحهم من الديوان وسار لقتال الفرس
فمات من سهم أصابه. وقال هروشيوش: تورط في طريقه في مفازة ضلّ فيها عن
سبيله فتقبض عليه أعداؤه وقتلوه.
قال هروشيوش: وولي بعده بليان بن قسطنطين سنة أخرى، وزحف إلى الفرس
وملكهم يومئذ سابور، فحجم عن لقائهم، فصالحهم ورجع وهلك في طريقه. ولم
(2/253)
يذكر ابن العميد بليان هذا وإنّما قال: ملك
من بعد يوليانوس الملك يوشانوس واحدة باتفاق في سادسة عشر من ملك
سابور، وكان مقدّم عساكر يوليانوس، فلما قتل اجتمعوا إليه وبايعوه
واشترط عليهم الدخول في النصرانية فغلبوه، وأشار سابور بتوليته ونصب له
صليبا في العسكر، ولما ولي نزل على نصّيبين للفرس ونقل الروم الّذي بها
إلى آمد ورجع إلى كرسيّ مملكتهم، فردّ الأساقفة إلى الكنائس، ورجع فيمن
رجع أثناشيوش بطرك اسكندرية، وطلب منه أن يكتب له أمانة أهل مجمع
نيقية، فجمع الأساقفة وكتبوها وأشار عليه بلزومها. ولم يذكر هروشيوش
يوشانوش هذا وذكر مكانه آخر قال: وسمّاه بلنسيان بن قسنطش. قال: وقاتل
أمما من القوط والافرنجة وغيرهم، قال: وافترق القوط في أيامه فرقتين
على مذهبي أريوش وأمانة نيقية، قال: وفي أيامه ولي داماش بطركا برومة
ثم هلك بالفالج، وملك بعده أخوه واليس أربع سنين وعمل على مذهب أريوش
واشتدّ على أهل الأمانة وقتلهم. وثار عليه بأهل إفريقية بعض النصارى مع
البربر فأجاز إليهم البحر وحاربهم فظفر بالثائر وقتله بقرطاجنّة، ورجع
إلى قسنطينية فحارب القوط والأمم من ورائهم وهلك في حروبهم.
وقال ابن العميد في قيصر الّذي قتل واليس وسمّاه واليطنوس: إنه ملك
اثنتي عشرة سنة فيما حكاه ابن بطريق وابن الراهب، وحكى عن المسبحيّ
خمسة عشر سنة، وأنّ أخاه والياش كان شريكه في الملك وأنه كان مباينا
وأنه ملك لستمائة وست وسبعين للإسكندر وسبع عشرة لسابور كسرى. قال: وفي
أيامه وثب أهل اسكندرية على أثناشيوش البطرك ليقتلوه فهرب وقدّموا
مكانه لوقيوس وكان على رأي أريوش، ثم اجتمع أهل الأمانة بعد خمسة أشهر
ورجعوه إلى كرسيه وطردوا لوقيوس، وأقام أثناشيوش بطركا إلى أن مات،
فولوا بعده تلميذه بطرس سنتين، ووثب به أصحاب لوقيوس فهرب ورجع لوقيوس
الى الكرسي فأقام ثلاث سنين. ثم وثب به أهل الأمانة ورجّعوا بطرس وما
لسنة من رجعته ولقي من داريانوس قيصر ومن أصحاب أريوش شدائد ومنحنا.
وقال المسبحيّ: كان واليطينوس يديدن بالأمانة، وأخوه واليش يدين بمذهب
أريوش أخذه عن ثاودكيس أسقف القسطنطينية، وعاهده على إظهاره، فلما ملك
نفى جميع أساقفة الأمانة وسار أريوس اسقف أنطاكية بإذنه إلى
الاسكندرية، فحبس بطرس البطرك وأقام مكانه أريوش من أهل سميساط،
(2/254)
وهرب بطرس من السجن وأقام برومة.
وكانت بين واليطينوس قيصر وبين سابور كسرى فتنة وحروب وهلك في بعض
حروبه معهم، وولي بعده أخوه واليش. قال ابن العميد عن ابن الراهب:
سنتين، وعن أبي فانيوس ثلاث سنين وسمّاه والاس. وقال: هو أبو الملكين
اللذين تركا الملك وترهّبا وسمّى مكسينوس ودوقاديوس، قال: وفي الثانية
من ملكه بعث طيماناوس أخا بطرس بطركا على إسكندرية فلبث فيهم سبع سنين
ومات، وفي سادسة ملكه كان المجمع الثاني بقسطنطينية وقد مرّ ذكره. وفي
أيام واليس قيصر هذا مات بطرك قسطنطينية فبعث أغريوس أسقف يزناروا
وولّاه مكانه فوليه أربع سنين ومات. ثم خرج على واليش خارج من العرب
فخرج إليه فقتل في حروبه.
ثم ولي أغراديانوس قيصر، قال ابن العميد، وهو أخو واليش وكان والنطوس
بن واليش شريكا له في الملك وملك سنة واحدة، وقال عن أبي فانيوس سنتين،
وعن ابن بطريق ثلاث سنين، وذكر عن ابن المسبحيّ وابن الراهب: أن
تاوداسيوس الكبير كان شريكا لهما وأنّ ابتداء ملكهم لستمائة وتسعين من
ملك الإسكندر، وأنه ردّ جميع ما نفاه واليش قبله من الأساقفة إلى كرسيه
وخلّى كل واحد مكانه.
ومات أغراديانوس وابن أخيه في سنة واحدة، قال ابن العميد. وملك بعدهما
تاوداسيوس سبع عشرة سنة باتفاق لستمائة وتسعين من ملك الإسكندر، ولإحدى
وثلاثين من ملك سابور كسرى، وفي سادسة ملكه مات أثناشيوش، بطرك
اسكندرية فولي مكانه كاتبه تاوفيلا، وكان بطرك القسطنطينية يوحنّا فم
الذهب، وأسقف قبرص أبو فانيوس كان يهوديا وتنصّر. قال: وكان لتاوداسيوس
ولدان أرقاديوس وبرباريوس، قال: وفي خامسة عشر من ملكه ظهر الفتية
السبعة أهل الكهف الذين قاموا أيام دقيانوس ولبثوا في نومهم ثلاثمائة
سنة وتسع سنين كما قصّه القرآن، ووجد معهم صندوق النحاس والصحيفة التي
أودع البطريق فيها خبرهم، وبلغ الأمر إلى قيصر تاوداسيوس فبعث في طلبهم
فوجدهم قد ماتوا، فأمر أن يبنى عليهم كنيسة ويتخذ يوم ظهورهم عيدا. قال
المسبحيّ: وكان أصحاب أريوس قد استولوا على الكنائس منذ أربعين سنة
فأزالهم عنها ونفاهم وأسقط من عساكره كل من يديدن بتلك المقالة، وعقد
المجمع الثاني بقسطنطينية لمائتين وخمسين سنة من مجمع نيقية، وقرّر فيه
الأمانة الأولى بنيقية وعهدوا أن لا يزاد فيها ولا ينقص. وفي خامسة
(2/255)
عشر من ملكه مات سابور بن سابور وملك بعده
بهرام. ثم هلك تاوداسيوس لسبع عشرة سنة من ملكه.
وأمّا هروشيوش فقال بعد ذكر واليش: وملك بعده وليطانش ابن أخيه فلنسيان
ست سنين وهو الموفى أربعين عددا من ملوك القياصرة، قال واستعمل طودوشيش
بن أنطيونش بن لوخيان على ناحية المشرق فملك الكثير منها، ثم همّ أهل
رومة على قائدهم فقتلوه وخلعوا وليطانش الملك، فلحق بطودوشيش بالمشرق
فسلّم إليه في الملك، فأقبل طودوشيش إلى رومة وقتل الثائر بها واستقل
بملك القياصرة، وهلك لأربع عشرة سنة من ولايته، فولي ابنه أركاديش.
ويظهر من كلام هروشيوش أن طودوشيش هو تاوداسيوس الّذي ذكره ابن العميد،
لأنهما متفقان في أنّ ابنه أركاديش ومتقاربان في المدة، فلعل وليطانش
الّذي ذكره هروشيوش هو أغراديانوس الّذي ذكره ابن العميد أهـ.
قال ابن العميد: وملك أركاديش ولد تاوداسيوس الأكبر ثلاث عشرة سنة
باتفاق في ثالثة ملك بهرام بن سابور وكان مقيما بالقسطنطينية، وولي
أخاه أنوريش على رومة، قال: وولد لأركاديش ابن سمّاه طودوشيش باسم
أبيه، ولما كبر طلب معلمه أريانوس ليعلم ولده، فهرب إلى مصر وترهّب،
ورغّبه بالمال فأبى وأقام في مغارة بالجبل المقطم على قرية طرا ثلاث
سنين، ومات فبنى الملك على قبره كنيسة وديرا يسمى دير القصير، ويقال:
دير البغل. وفي أيامه غرق أبو فانيوس بمرجعه إلى قبرص، ومات يوحنّا فم
الذهب بطرك القسطنطينية وكان نفاه أركاديش بموافقة أبي فانيوس، ودعا كل
منهما على صاحبه فهلكا. وفي التاسعة من ملك أركاديش مات بهرام بن سابور
وملك ابنه يزدجرد.
ثم هلك أركاديش وملك من بعده طودوشيش الأصغر ابن أركاديش ثلاث عشرة
سنة، وولّى أخاه أنوريش على رومة، فاقتسما ملك اللطينيّين، وانتقض
لعهديهما قومس إفريقية وخالفه إلى طاعة القياصرة فحدثت بإفريقية فتنة
لذلك. ثم غلب القومس أخاه فلحق بقبرص وترهّب بها، ثم زحف القوط. إلى
رومة وفرّ عنها أنوريش فحاربوها ودخلوها عنوة واستباحوها ثلاثا وتجافوا
عن أموال الكنائس. قال: ولما هلك أركاديش قيصر استبدّ أخوه أنوريش
بالملك خمس عشرة سنة وأحسن في دفاع القوط عن رومة وهلك، فولي من بعده
طودوشيش ابن أخيه أركاديش ولم يذكر ابن
(2/256)
العميد أنوريش وإنّما ذكر بعد أركاديش ابنه
طودوشيش وسمّاه الأصغر، قال:
وملك اثنتين وأربعين سنة باتفاق في خامسة ملك يزدجرد، وكانت بينه وبين
الفرس حروب كثيرة. قال: وفي أوّل سنة من ملكه مات تاوفيلا بطرك
إسكندرية فولي مكانه كيرلّوس ابن أخته، في سابعة عشر من ملكه قدم
نسطوريش بطركا بالقسطنطينية فأقام أربع سنين وظهرت عنه العقيدة التي
دان بها وقد تقدّمت، وبلغت مقالته إلى كيرلّس بطرك الإسكندرية، فخاطب
في ذلك بطرك رومة وأنطاكية وبيت المقدس، ثم اجتمعوا بمدينة أفسيس في
مائتي أسقف وأجمعوا على كفرنسطوريش ونفوه، فنزل أخميم من صعيد مصر
وأقام بها سبع سنين، وأخذ بمقالته نصارى الجزيرة والموصل إلى الفرات ثم
العراق وفارس إلى المشرق، وولّى طودوشيش بالقسطنطينية مقسيموس عوضا عن
نسطورس فأقام بها ثلاث سنين. وفي ثامنة وثلاثين من ملك طودوشيش الأصغر
مات كيرلّس بطرك الإسكندرية وولي مكانه ديسقرس، ولقي شدائد من مرقيان
الملك بعده. وفي سادسة عشرة من ملك طودوشيش الأصغر مات يزدجرد كسرى
وولي ابنه بهرام جور، وكانت بينه وبين خاقان ملك الترك وقائع ثم عدل عن
حروبهم ودخل إلى أرض الروم فهزمه طودوشيش وملك ابنه يزدجرد. قال
هروشيوش: وفي أيام طودوشيش الأصغر تغلب القوط على رومة وملكوها وهلك
ملكهم أبطريك كما نذكر في أخبارهم، ثم صالحوا الروم على أن يكون لهم
الأندلس فانقلبوا إليها وتركوا رومة انتهى.
قال ابن العميد: ثم ملك مرقيان بعده ست سنين باتفاق وتزوّج أخت
طودوشيش، وسمّاه هروشيوش مركيان بن مليكة. قالوا: وكان في أيامه المجمع
الرابع بمقدونية، وقد تقدّم ذكره، وإنّه كان بسبب ديقوس بطرك إسكندرية
وما أحدث من البدعة في الأمانة، فأجمعوا على نفيه وجعلوا مكانه برطارس،
وافترقت النصارى إلى ملكيّة وهم أهل الأمانة فنسبوا إلى مركيان قيصر
الملك الّذي جمعهم وعهد بأن لا يقبل ما اتفق عليه أهل المجمع
الخلقدوني، وإلى يعقوبية وهم أهل مذهب ديسقوس وتقدّم الكلام في تسميتهم
يعقوبية، وإلى نسطوريّة وهم نصارى المشرق. وفي أيام مركيان سكن شمعون
الحبيس الصومعة بأنطاكيّة وترهّب وهو أوّل من فعل ذلك من النصارى، وعلى
عهده مات يزدجرد كسرى.
ومات مركيان قيصر لست سنين من ملكه وملك بعده لاون الكبير. قال ابن
العميد:
(2/257)
لسبعمائة وسبعين من ملك الإسكندر ولثانية
من ملك نيرون، ملك ست عشرة سنة.
ووافقه هروشيوش على مدّته، وقال فيه ليون بن شمخليّة. قال ابن العميد:
وكان على مذهب الملكيّة ولما سمع أهل اسكندرية بموت مركيان وثبوا على
برطارس البطرك فقتلوه بعد ست سنين من ولايته وأقاموا مكانه طيماناوس،
وكان يعقوبيّا فجاء قائد من قسطنطينية بعد ثلاث سنين من ولايته فنفاه،
وأبدل عنه سورس من الملكيّة وأقام تسع سنين. ثم عاد طيماناوس بالأمر
لاون قيصر [1] ، ويقال: إنه بقي بطركا اثنتين وعشرين سنة. ولثانية عشر
من ملك لاون زحف الفرس إلى مدينة آمد وحاصروها وامتنعت عليهم، وفي
أيامه مات شمعون الحبيس صاحب العمود.
ثم هلك لاون قيصر لست عشرة سنة من ملكه. قال ابن العميد: ووليّ من بعده
لاون الصغير وهو أبو زينون الملك بعده. وقال ابن بطريق: هو ابن سينون
وكان يعقوبيّا وملك سنة واحدة. ولم يذكره هروشيوش وإنّما ذكر زينون
الملك بعده، وسمّاه سينون بالسين المهملة. وقال ملك سبع عشرة سنة. وقال
ابن العميد مثله ولثمانية عشر من ملك نيرون ولسبعمائة وسبع وثمانين
للإسكندر، قال: وكان يعقوبيّا وخرج عليه ولده ورجل من قرابته وحاربهما
عشرين شهرا ثم قتلهما واتباعهما ودخل قسطنطينية ووجد بطركها وكان رديء
العقيدة قد غير كتب الكنيسة وزاد ونقّص، فكتب زينون قيصر إلى بطرك رومة
وجمع الأساقفة فناظروه ونفوه. وفي سابعة ملك زينون مات طيماناوس بطرك
اسكندرية فولي مكانه بطرس وهلك بعد ثمان سنين، فولي مكانه أثناسيوس
وهلك لسبع سنين وكان قيّما ببعض البيع في بطركيته. قال المسبحيّ: وفي
أيام زينون احترق ملعب الخيل الّذي بناه بطليموس الأرنبا بالإسكندرية.
وقال ابن بطريق: وفي أيام زينون هاجت الحرب بين نيرون والهياطلة وهزموه
في بعض حروبهم، ورد الكرّة عليه بعض قواده كما في أخبارهم، ومات نيرون
وتنازع الملك ابناه قياد ويلاش. وفي عاشرة من ملك زينون غلب يلاش أخاه
واستقلّ بالملك ولحق أخوه قياد بخاقان ملك الترك، ثم هلك يلاش لأربع
سنين ورجع قياد واستولى على مملكة فارس وذلك في أربعة عشر من ملك زينون
فأقام ثلاثا وأربعين سنة.
وهلك زينون لسبع عشرة من ولايته، فملك بعده نسطاس سبعا وعشرين سنة في
__________
[1] مقتضى السياق: بالأمر للاون قيصر.
(2/258)
أربعة من ملك قيادة ولثمانمائة وثلاث
للإسكندر، وكان يعقوبيّا وسكن حماة ولذلك أمر أن تشيّد وتحصّن فبنيت في
سنتين. وعهد لأول ملكه أن يقتل كل امرأة كاتبة، وفي ثالثة ملكه أمر
ببناء مدينة في المكان الّذي قتل فيه دارا فوق نصّيبين. ثم وقعت الحرب
بينه وبين الأكاسرة وخرّب قياد مدينة آمد ونازلت عساكر الفرس إسكندرية
وأحرقوا ما حولها من البساتين والحصون، وقتل بين الأمّتين خلق كثير.
وفي سادسة ملكه مات أثناسيوس بطرك الاسكندرية فصيّر مكانه يوحنّا وكان
يعقوبيّا ومات لتسع سنين، فصيّر بعده يوحنّا الحسن ومات بعد إحدى عشرة.
وفي أيام نسطاس قدم ساريوس بطركا بأنطاكيّة وكان كلاهما على أمّة
ديسقوس. وفي سابعة وعشرين من ملك نسطاس قدم ساريوس بطركا بأنطاكيّة.
ومات يوحنّا بطرك اسكندرية فولّى مكانه ديسقوس الجديد ومات لسنتين
ونصف.
وقال سعيد بن بطريق: إن إيليا بطرك المقدس كتب إلى نسطاس قيصر يسأله
الرجوع إلى الملكيّة ويوضح له الحق في مذهبهم، وصبا إليه في ذلك جماعة
من الرهبان، فأحضرهم وسمع كلامهم وبعث إليهم بالأموال للصدقات وعمارة
الكنائس. وكان بقسطنطينية رجل على رأي ديسقوس فمضى إلى نشطانش قيصر
ومضى وأشار عليه باتباع مذهب ديسقوس وأن يرفض المجمع الخلقدوني. فقبل
ذلك منه وبعث إلى جميع أهل مملكته، وبلغ ذلك بطرك أنطاكية فكتب إلى
نشطانش قيصر بالملامة على ذلك فغضب ونفاه، وجعل مكانه بأنطاكيّة سويوس
وبلغ ذلك إلى إيليا بطرك القدس، فجمع الرهبان ورؤساء الديور في نحو
عشرة آلاف ولعنوا سويوس وأجرموه والملك نشطانش معه. فنفاه نشطانش إلى
إيليا وذلك في ثالثة وعشرين من ملكه، فاجتمع جميع البطاركة والأساقفة
من الملكيّة وأجرموا نشطانش الملك وسويوس وديسقوس إمام اليعقوبية
ونسطورس. قال ابن بطريق: وكان لسويوس تلميذ اسمه يعقوب البرادعي يطوف
البلاد داعيا إلى مقالة سويوس ودسيقوس فنسب اليعاقبة إليه. وقال ابن
العميد: وليس كذلك لأنّ اليعاقبة سمّوا بذلك من عهد ديسقوس كما مرّ.
ثم هلك نشطانش لسبع وعشرين من ملكه، وملك بعده يشطيانش قيصر لثمانية
وثلاثين من ملك قياد بن نيرون ولثمانية وثلاثين للإسكندر، وملك تسع
سنين باتفاق. وقال هروشيوش سبعا. وقال المسبحيّ: كان معه شريك في ملكه
اسمه
(2/259)
يشطيان. وفي ثالثة ملكه غزت الفرس بلاد
الروم فوقعت بين الفرس والروم حروب كثيرة، وزحف كسرى في آخرها لثمانية
من ملك يشطيانش ومعه المنذر ملك العرب، فبلغ الرّها وغلب الروم وغرق من
الفريقين في الفرات خلق كثير وحمل الفرس أسارى الروم وسباياهم، ثم وقع
الصلح بينهما بعد موت قيصر. وفي تاسعة ملكه أجاز البربر من المغرب إلى
رومة وغلبوا عليها. قال ابن بطريق: وكان يشطيانش على دين الملكيّة فرد
كل من نفاه نشطانش قبله منهم، وصيّر طيماناوس بطركا بالإسكندرية وكان
يعقوبيّا فلبث فيهم ثلاث سنين، وقيل سبع عشرة سنة.
وقال ابن الراهب: كان يشطيانش خلقدونيّا ونفى طيماناوس البطرك عن
إسكندرية وجعل مكانه أيوليناريوس وكان ملكيا، وعقد مجمعا بالقسطنطينية
يريد جمع الناس على رأي الخلقدونية مذهبه، وأحضر شاويرش بطرك أنطاكية
وأسقفة المشرق فلم يوافقوه، فاعتقل بطرك أنطاكية سنين ثم أطلقه فسار
إلى مصر وبقي مختفيا في الديور.
ثم وصل أيوليناريوس بطرك إسكندرية ومعه كتاب الأمانة الخلقدونية، فقبل
الناس منه وتبعوا مذهبه فيها وصاروا إليه.
وهلك يشطيانش لتسع سنين من ملكه ثم ملك يشطينانش قيصر لإحدى وأربعين من
ملك قياد ولثمانمائة وأربعين للإسكندر وكان ملكيّا وهو ابن عمّ يشطيانش
الملك قبله. وقال المسبحيّ: بل كان شريكه كما مرّ وملك أربعين سنة
باتفاق. وقال أبو فانيوس: ثلاثا وثلاثين. وفي سابعة ملكه غزا كسرى بلاد
الروم وأحرق إيليا وأخذ الصليب الّذي كان فيها، وفي حادية عشر من ملكه
عصت السامريّة عليه فغزاهم وخرّب بلادهم، وفي سادسة عشر من ملكه غزا
الحارث بن جبلة أمير غسان والعرب ببرية الشام وغزا بلاد الأكاسرة وهزم
عساكرهم وخرّب بلادهم ولقيه بعض مرازبة كسرى فهزمهم وردّ السبي منهم،
ثم وقع الصلح بين فارس والروم وتوادعوا. وفي خمس وثلاثين من ملك
يشطينانش عهد بأن يتخذ عيد الميلاد في رابع وعشرين من كانون، وعيد
الغطاس [1] في ست منه، وكانا من قبل ذلك جميعا في سادس كانون. وقال
المسبحيّ: أراد يشطينانش حمل الناس على رأي الملكيّة، فأحضر طيماناوس
بطرك اسكندرية وكان يعقوبيّا، وأراده على ذلك فامتنع فهمّ بقتله، ثم
أطلقه فرجع إلى مصر مختفيا ثم نفاه بعد ذلك وجعل مكانه بولس، وكان
ملكيّا فلم
__________
[1] عيد الظهور الإلهي عند المسيحيين.
(2/260)
يقبله اليعاقبة وأقام على ذلك سنين.
قال سعيد بن بطريق: ثم بعث قيصر قائدا من قوّاده اسمه يوليناريوس وجعله
بطرك إسكندرية فدخل الكنيسة بزيّ الجند ثم لبس زيّ البطاركة وقدّس.
فهموا به فصار إلى سياستهم فاقصروا ثم حملهم على رأي اليعقوبيّة وقتل
من امتنع وكانوا مائتين.
وفي أيام يشطينانش هذا ثار السامرة بأرض فلسطين وقتلوا النصارى وهدموا
كنائسهم فبعث العساكر وأثخنوا فيهم وأمر ببناء الكنائس كما كانت، وكانت
كنيسة بيت لحم صغيرة فأمر بأن يوسّع فيها فبنيت كما هي لهذا العهد. وفي
عهده كان المجمع الخامس بقسطنطينية بعد مائة وثلاث وستين من الجمع
الخلقدوني ولتاسعة وعشرين من ملك يشطينانش وقد مر ذكر ذلك. وفي عهد
قيصر هذا مات أيوليناريوس القائد الّذي جعل بطركا بإسكندرية لسبع عشرة
سنة من ولايته، وهو كان رئيس هذا المجمع، وجعل مكانه يوحنّا وكان
أمانيّا وهلك لثلاث سنين، وانفرد اليعاقبة بالإسكندرية وكان أكثرهم
القبط وقدموا عليهم طودوشيوش بطركا لبث فيهم اثنتين وثلاثين سنة، وجعل
الملكيّة بطركهم داقيانوس وطردوا طودوشيوش من كرسيه ستة أشهر، ثم أمر
يشطينانش قيصر بأن يعاد فأعيد وطلب منه المغامسة أن يقدّم دقيانوش بطرك
الملكية على الشمامسة فأجابهم. ثم كتب يشطينانش الى طودوشيوش البطرك
باجتماع المجمع الخلقدوني أو يترك البطركية، فتركها ونفاه وجعل مكانه
بولس التنسي فلم يقبله أهل إسكندرية ولا ما جاء به. ثم مات وغلقت كنائس
القبط اليعقوبيّة ولقوا شدائد من الملكيّة ومات طودوشيوش البطرك في
سابعة وثلاثين من ملكة يشطيانش وجعل مكانه باسكندرية بطرس ومات بعد
سنتين.
قال ابن العميد: وسار كسرى أنوشروان في مملكة يشطيانش قيصر إلى بلاد
الروم وحاصر أنطاكية وفتحها وبنى قبالتها مدينة سمّاها رومة ونقل إليها
أهل انطاكية. ثم هلك يشطيانش وملك بعده يوشطونش قيصر لست وثلاثين من
ملك أنوشروان ولثمانمائة وثمانين للإسكندر فملك ثلاثة عشر سنة. وقال
هروشيوش إحدى عشرة سنة. ولثانية من ملكه مات بطرس ملك إسكندرية فجعل
مكانه داميانو فمكث ستا وثلاثين سنة وخربت الديور على عهده، وفي
الثانية عشر من ملكه مات كسرى أنوشروان بعد أن كان بعث العساكر من
الديلم مع سيف بن ذي يزن من التبابعة ففتحوا اليمن وصارت للأكاسرة. ثم
هلك يوشطونش قيصر لإحدى عشرة أو ثلاث
(2/261)
عشرة من ملكه. وملك بعده طباريش قيصر
لثالثة من ملك هرمز ابن أنوشروان ولثمانمائة واثنتين وتسعين للإسكندر،
فملك ثلاث سنين عند ابن بطريق وابن الراهب، وأربعا عند المسبحيّ.
ولعهده انتقض الصلح بين الروم وفارس واتصلت الحرب، وانتهت عساكر الفرس
إلى رأس عين الخابور، فثار إليهم موريق من بطاركة الروم فهزمهم، ثم جاء
طباريش قيصر على أثره فعظمت الهزيمة واستحرّ [1] القتل في الفرس وأسر
الروم منهم نحوا من أربعة آلاف غرّبهم إلى جزيرة قبرص، ثم انتقض بهرام
مرزبان هرمز كسرى وطرده عن الملك بمنجع من تخوم بلاد الروم وبعث
بالصريخ إلى طباريش قيصر، فبعث إليه المدد من الفرسان والأموال. يقال
كان عسكر المدد أربعين ألفا فسار هرمز ولقيه بهرام بين المدائن وواسط
فانهزم واستبيح، وعاد هرمز إلى ملكه وبعث إلى طباريش بالأموال والهدايا
أضعاف ما أعطاه، ورد إليه ما كانت الفرس أخذته من بلادهم وسألهم [2]
وغيرها، ونقل من كان فيها من الفرس إلى بلاده. وسأله طباريش بأن يبني
هيكلين للنصارى بالمدائن وواسط فأجابه إلى ذلك.
ثم هلك طباريش قيصر وملك من بعده موريكش قيصر في السادسة لهرمز
ولثمانمائة وخمس وتسعين للإسكندر وملك عشرين سنة باتفاق المؤرّخين
فأحسن السيرة. وفي حادية عشر من ملكه بلغه عن بعض اليهود بأنطاكيّة أنه
بال [3] على صورة المسيح، فأمر بقتلهم ونفيهم. ولعهده انتقض على هرمز
كسرى قريبه بهرام وخلعه واستولى على ملكه وقتله، وسار ابنه أبرويز إلى
موريكش قيصر صريخا فبعث معه العساكر ورد أبرويز إلى ملكه، وقتل بهرام
الخارج عليه وبعث إليه بالهدايا والتحف كما فعل أبوه من قبله مع
القياصرة، وخطب أبرويز من موريكش قيصر ابنته مريم فزوّجه إيّاها
__________
[1] وفي نسخة اخرى: واستمر.
[2] كذا بياض بالأصل واتفق كل من الطبري وابن الأثير على القول: «وخاف
بهرام سطوة هرمز وخاف مثل ذلك من كان معه من الجنود فخلعوا هرمز
وأقبلوا نحو المدائن، فأظهروا الامتعاض مما كان من هرمز، وان ابنه
أبرويز أصلح للملك منه، وساعدهم على ذلك بعض من كان بحضرة هرمز، فهرب
أبرويز بهذا السبب الى أذربيجان خوفا من هرمز، فاجتمع اليه هناك عدة من
المرازبة والاصبهبذين فأعطوه بيعتهم، ووثب العظماء والاشراف بالمدائن
وفيهم بندي وبسطام خالا أبرويز فخلعوا هرمز واستولوا على الملك، ثم جرت
بينه وبين بهرام حروب اضطرت أبرويز إلى الهرب إلى الروم مستغيثا بملكها
فأخبره واستتب له الملك. (الطبري ج 2 ص 18) .
[3] وفي نسخة اخرى: انهم بالوا.
(2/262)
وبعث معها من الجهاز والأمتعة والأقمشة ما
يضيق عنه الحصر.
ثم وثب على موريكش بعض مماليكه بمداخلة قريبه البطريق قوقاص فدسه عليه
فقتله وملك على الروم وتسمّى قيصر وذلك لتسعمائة وأربع عشرة للإسكندر
وخمس عشرة لأبرويز، فملك ثماني سنين وقتل أولاد موريكش وأفلت صغير منهم
فلحق بطور سينا وترهّب ومات هنالك. وبلغ أبرويز كسرى ما جرى على موريكش
وأولاده فجمع عساكره وقصد بلاد الروم ليأخذ ثأر صهره [1] ، وبعث عساكره
مع مرزبانه خزرويه إلى القدس وعهد إليه بقتل اليهود وخراب البلد. وبعث
مرزبان آخر إلى مصر والإسكندرية، وجاء بنفسه في عساكر الفرس إلى
القسطنطينية وحاصرها وضيّق عليها، وأمّا خزرويه المرزبان فسار إلى
الشام وخرّب البلاد. واجتمع يهود طبريّة والخليل وناصرة وصور وأعانوا
الفرس على قتل النصارى وخراب الكنائس، فنهبوا الأموال وأخذوا قطعة من
الصليب، وعادوا إلى كسرى بالسبيّ وفيهم ذخريّا بطرك القدس، فاستوهبته
مريم بنت موريكش من زوجها أبرويز فوهبه إيّاها مع قطعة الصليب. ولما
خلت الشام من الروم واجتمع الفرس على القسطنطينية، تراسل اليهود من
القدس والخليل وطبرية ودمشق وقبرص، واجتمعوا في عشرين ألفا وجاءوا إلى
صور ليملكوها، وكان فيها من اليهود نحو من أربعة آلاف فتقبض بطركها
عليهم وقيدهم، وحاصرهم عساكر اليهود وهدموا الكنائس خارج صور والبطرك
يقتل المقيدين ويرمي برءوسهم إلى أن فنوا، وارتحل كسرى عن القسطنطينية
جاثيا فأجفل اليهود عن صور وانهزموا.
وقال ابن العميد: وفي رابعة من قوقاص قيصر قدم يوحنّا الرحوم بطركا على
الملكيّة باسكندرية ومصر، وإنّما سمّي الرحوم لكثرة رحمته وصدقته، وهو
الّذي عمل البيمارستان للمرضى بإسكندرية. ولما سمع بمسير الفرس هرب مع
البطريق الوالي بإسكندرية إلى قبرص فمات بها لعشر سنين من ولايته، وخلا
كرسي الملكيّة بإسكندرية سبع سنين. وكان اليعاقبة باسكندرية قدّموا
عليهم في أيام قوقاص قيصر بطركا اسمه أنشطانيوش مكث فيهم اثنتي عشرة
سنة، واستردّ ما كانت الملكيّة بإسكندرية سبع سنين. وكان اليعاقبة
باسكندرية قدّموا عليهم في أيام قوقاص قيصر بطركا اسمه أنشطانيوش مكث
فيهم اثنتي عشرة سنة، واستردّ ما كانت الملكيّة استولت عليه من الكنائس
اليعقوبية، وجاء أثناسيوس بطرك أنطاكية بالهدايا سرورا بولايته، فتلقاه
هو بالأساقفة والرهبان، واتخذت الكنيسة بمصر والشام وأقام عنده
__________
[1] موريكش هو حميّ أبرويز اي والد زوجته. ومقتضى السياق ليأخذ بثأر
حميّه.
(2/263)
أربعين يوما ورجع إلى مكانه. ومات
أنسطانيوش بعد اثنتي عشرة من ولايته لثلاثمائة وثلاثين من ملك
ديقلاديانوس.
ولمّا انتهى أبرويز في حصار القسطنطينية نهايته وضيّق عليها وعدموا
الأقوات، واجتمع البطارقة بعلوقيا وبعثوا السفن مشحونة بالأقوات مع
هرقل أحد بطاركة الروم، ففرحوا به، ومالوا إليه وداخلهم في الملك، وأنّ
قوقاص سبب هذه الفتنة، فثاروا عليه وقتلوه وملّكوا هرقل، وذلك لتسعمائة
واثنتين وعشرين للإسكندر، فارتحل أبرويز عن القسطنطينية راجعا إلى
بلاده، وملك هرقل بعد ذلك إحدى وثلاثين سنة ونصف عند المسبحيّ وابن
الراهب، واثنتين وثلاثين عند ابن بطريق.
وكانت ملكته أوّل سنة من الهجرة. وقال هروشيوش: لتسع وسمّاه هرقل بن
هرقل بن أنطونيش.
ولما تملّك هرقل بعث أبرويز بالصلح بوسيلة قتلهم موريكش فأجابهم على
تقرير الضريبة عليهم فامتنعوا فحاصرهم ست سنين أخرى إلى الثمان التي
تقدّمت، وجهدهم الجوع فخادعهم هرقل بتقرير الضريبة على أن يفرج عنهم
حتى يجمعوا له الأموال. وضربوا الموعد معه ستة أشهر، ونقض هرقل فخالف
كسرى إلى بلاده، واستخلف أخاه قسطنطين على قسطنطينية، وسار في خمسة
آلاف من عساكر الروم إلى بلاد فارس فخرّب وقتل وسبى وأخذا بني أبرويز
كسرى من مريم بنت موريكش وهما قبّاد وشيرويه. ومرّ بحلوان [1] وشهرزور
إلى المدائن ودجلة ورجع إلى أرمينية، ولما قرب من القسطنطينية، وارتحل
أبرويز كسرى إلى بلاده فوجدها خرابا وكان ذلك مما أضعف من مملكة الفرس
وأوهنها.
وخرج هرقل لتاسعة من ملكه لجمع الأموال، وطلب عامل دمشق منصور بن سرحون
فاعتذر بأنه كان يحمل الأموال إلى كسرى، فعاقبه واستخلص منه مائة ألف
دينار وأبقاه على عمله. ثم سار إلى بيت المقدس وأهدى إليه اليهود
فأمّنهم أوّلا ثم عرّفه الأساقفة والرهبان بما فعلوه في الكنائس، ورآها
خرابا وأخبروه بمن قتلوه من النصارى، فأمر هرقل بقتلهم فلم ينج منهم
إلّا من اختفى أو أبعد المفرّ إلى الجبال والبراري، وأمر بالكنائس
فبنيت.
وفي العاشرة من ملكه قدم أندراسكون بطركا لليعاقبة بإسكندرية فأقام ست
سنين
__________
[1] مدينة قديمة في العراق العجمي.
(2/264)
خربت فيها الديور، ثم مات فجعل مكانه
بنيامين فمكث سبعا وثلاثين سنة ومات، والفرس يومئذ قد ملكوا مصر
والإسكندرية. وأمّا هرقل فسار من بيت المقدس إلى مصر وملكها وقتل
الفرس، وولّى على الإسكندرية فوس وكان أمانيّا وجمع له بين البطركة
والولاية. ورأى بنيامين البطرك في نومه شخصا يقول قم فاختف إلى أن يجوز
غضب الرب فاختفى، وتقبّض هرقل على أخيه مينا وأراده على الأخذ بالأمانة
الخلقدونية فامتنع فأحرقه بالنار ورمى بجثته في البحر. ثم عاد هرقل إلى
قسطنطينية بعد أن جمع الأموال من دمشق وحمص وحماة وحلب وعمّر البلاد،
إلى أن ملك مصر عمرو بن العاص وفتحها لثلاثمائة وسبع وخمسين
لديقلاديانس، وكتب لبنيامين البطرك بالأمان فرجع إلى إسكندرية بعد أن
غاب عن كرسيّه ثلاث عشرة سنة.
قال ابن العميد: وانتقل التاريخ إلى الهجرة لإحدى عشرة من ملك هرقل
وذلك لتسعمائة وثلاث وثلاثين للإسكندر وستمائة وأربع عشرة للمسيح. قال
المسعودي:
وقيل إنّ مولده عليه السلام كان لعهد نيشطيانش الثاني الّذي ذكر إنه
نوسطيونس خمس عشرة سنة وهو الّذي ضرب السكّة الهرقليّة، وبعده مورق بن
هرقل، قال:
والمشهور بين الناس أن الهجرة وأيام الشيخين كان ملك الروم لهرقل. قال:
وفي كتب السير أن الهجرة كانت على عهد قيصر بن مورق، ثم كان بعهد ابنه
قيصر بن قيصر أيام أبي بكر، ثم هرقل بن قيصر أيام عمرو عليه كان الفتح
وهو المخرج من الشام، قال ومدّة ملكهم إلى الهجرة مائة وخمس وسبعون
سنة.
قال الطبري: مدّة ما بين عمارة المقدس بعد تخريب بخت نصّر إلى الهجرة
على قول النصارى ألف سنة وتزيد، ومن ملك الإسكندر إليها تسعمائة ونيف
وعشرين سنة، ومنه إلى مولد عيسى ثلاثمائة وثلاث سنين، وعمره إلى رفعه
اثنان وثلاثون سنة، ومن رفعه إلى الهجرة خمسمائة وخمس وثمانون سنة.
وقال هروشيوش إنّ ملك هرقل كانت الهجرة في تاسعته وسمّاه هرقل بن هرقل
بن أنطونيوس لستمائة وإحدى عشرة من تاريخ المسيح، ولألف ومائة من بناء
رومة والله تعالى أعلم.
(2/265)
الخبر عن ملوك القياصرة من لدن هرقل
والدولة الإسلامية الى حين انقراض أمرهم وتلاشي أحوالهم
قال ابن العميد وفي الثانية من الهجرة بعث أبرويز عساكره إلى الشام
والجزيرة فملكها، وأثخن في بلاد الروم، وهدم كنائس النصارى واحتمل ما
فيها من الذهب والفضة والآنية، حتى نقل الرخام الّذي كان بالمباني،
وحمل أهل الرّها على رأي اليعقوبيّة بإغراء طبيب منهم كان عنده فرجعوا
إليه وكانوا ملكيّة. وفي سابعة الهجرة بعث عساكر الفرس ومقدّمهم
مرزبانه شهريار فدوّخ بلاد الروم وحاصر القسطنطينية، ثم تغير له فكتب
إلى المرازبة معه بالقبض عليه، واتفق وقوع الكتاب بيد هرقل فبعث به إلى
شهريار فانتقض ومن معه، وطلبوا هرقل في المدد فخرج معهم بنفسه في
ثلاثمائة ألف من الروم وأربعين ألفا من الخزر الذين هم التركمان، وسار
إلى بلاد الشام والجزيرة وافتتح مدائنهم التي كان ملكها كسرى من قبل
وفيما افتتح أرمينية، ثم سار إلى الموصل فلقيه جموع الفرس وقائدهم
المرزبان فانهزموا وقتل.
وأجفل أبرويز عن المدائن واستولى هرقل على ذخائر ملكهم، وكان شيرويه بن
كسرى محبوسا فأخرجه شهريار وأصحابه وملكوه وعقدوا مع هرقل الصلح، ورجع
هرقل إلى آمد بعد أن ولّى أخاه تداوس على الجزيرة والشام، ثم سار إلى
الرّها ورد النصارى اليعاقبة إلى مذهبهم الّذي أكرهوا على تركه وأقام
بها سنة كاملة.
وعن غير ابن العميد: وفي آخر سنة ست [1] من الهجرة كتب النبي صلى الله
عليه وسلم إلى هرقل كتابه من المدينة مع دحية الكلبي يدعوه إلى
الإسلام، ونصّه على ما وقع في صحيح البخاري «بسم الله الرحمن الرحيم من
محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أمّا بعد
فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يوتك الله أجرك مرّتين فإن
تولّيت فإنّ عليك إثم الأريسيّين. «ويا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا
إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا
الله وَلا نُشْرِكَ به شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً
أَرْباباً من دُونِ الله فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا
بِأَنَّا مُسْلِمُونَ 3: 64» . فلمّا بلغه الكتاب جمع من كان بأرضه من
قريش وسألهم عن أقربهم نسبا منه فأشاروا
__________
[1] قوله ست أي وكان وصوله إلى هرقل سنة سبع كما صوّبه ابن حجر (قاله
نصر) .
(2/266)
إلى أبي سفيان بن حرب، فقال لهم: إنّي
سائله عن شأن هذا الرجل فاستمعوا ما يقوله. ثم سأل أبا سفيان عن أحوال
تجب أن تكون للنبيّ صلى الله عليه وسلم أو ينزه عنها، وكان هرقل عارفا
بذلك، فأجابه أبو سفيان عن جميع ما سأله من ذلك.
فرأى هرقل أنه نبي لا محالة مع أنه كان حزّاء ينظر في علم النجوم، وكان
عنده علم من القرآن الكائن قبل الملّة بظهور الملة والعرب، فاستيقن
بنبوّته وصحة ما يدعو إليه حسبما ذكره البخاري في صحيحه.
وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحرث بن أبي شمّر الغسّانيّ ملك
غسّان بالبلقاء من أرض الشام وعامل قيصر على العرب مع شجاع بن وهب
الأسديّ يدعوه إلى الإسلام، قال شجاع: فأتيته وهو بغوطة دمشق يهيئ
النزل لقيصر حين جاء من حمص إلى إيلياء، فشغل عني إلى أن دعاني ذات يوم
وقرأ كتابي وقال: من ينتزع مني ملكي أنا سائر إليه ولو كان باليمن. ثم
أمر بالخيول تنعل، وكتب بالخبر إلى قيصر، فنهاه عن المسير ثم أمرني
بالانصراف وزوّدني بمائة دينار.
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثامنة من الهجرة جيشه الى
الشام وهي غزوة مؤتة كان المسلمون فيها ثلاثة آلاف وأمّر عليهم زيد بن
حارثة وقال: إن أصيب فجعفر فعبد الله من رواحة. فانتهوا إلى معان من
أرض الشام، ونزل هرقل صاب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم. وانضمت
إليه جموع جذام والغيد وبهرام وبلى، وعلى بلى مالك بن زافلة، ثم زحف
المسلمون إلى البلقاء ولقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب على مؤتة فكان
التمحيص والشهادة، واستشهد زيد ثم جعفر ثم عبد الله، وانصرف خالد بن
الوليد بالناس فقدموا المدينة. ووجد النبيّ صلى الله عليه وسلم على من
قتل من المسلمين ولا كوجده على جعفر بن أبي طالب لأنه كان تلاده.
ثم أمر بالناس في السنة التاسعة بعد الفتح وحنين والطائف أن يتهيؤا
لغزو الروم فكانت غزوة تبوك، فبلغ تبوك وأتاه صاحب أيلة وجرباء وأذرح
وأعطوا الجزية وصاحب أيلة يومئذ يوحنّا بن رؤبة بن نفاثة أحد بطون جذام
وأهدى له بغلة بيضاء، وبعث خالد بن الوليد إلى دومة الجندل وكان بها
أكيدر بن عبد الملك فأصابوه بضواحيها في ليلة مقمرة فأسروه وقتلوا أخاه
وجاءوا به إلي النبي صلى الله عليه وسلم فحقن دمه وصالحه على الجزية
وردّه الى قريته. وأقام بتبوك بعض عشرة ليلة وقفل إلى المدينة وبلغ خبر
يوحنّا إلى هرقل فأمر بقتله وصلبه عند قريته أهـ من غير ابن العميد.
(2/267)
ورجعنا إلى كلامه قال: وفي الثالثة عشرة من
الهجرة جهّز أبو بكر العساكر من المسلمين العرب لفتح الشام: عمرو بن
العاص لفلسطين، ويزيد بن أبي سفيان لحمص، وشرحبيل بن حسنة للبلقاء،
وقائدهم أبو عبيدة بن الجرّاح. وبعث خالد بن سعيد بن العاص إلى سماوة
فلقيه ماهاب البطريق في جموع الروم، فهزمهم خالد إلى دمشق ونزل مرجع
[1] الصفراء، ثم أخذوا عليه الطريق ونازلوه ثانية فتجهز إلى جهة
المسلمين وقتل ابنه. وبعث أبو بكر خالد بن الوليد بالعراق يسير إلى
الشام أميرا على المسلمين فسار ونزل معهم دمشق وفتحوها كما نذكر في
الفتوحات. وزحف عمرو بن العاص إلى غيره ولقيته الروم هنالك فهزمهم
وتحصّنوا ببيت المقدس وقيساريّة.
ثم زحف عساكر الروم من كل جانب في مائتين وأربعين ألفا والمسلمون في
بضع وثلاثين ألفا، والتقوا باليرموك فانهزم الروم وقتل منهم من لا يحصى
وذلك في خامسة عشر من الهجرة. ثم تتابعت عليهم الهزائم ونازل أبو عبيدة
وخالد بن الوليد حمص فصالحوهم على الجزية. ثم سار خالد إلى قنّسرين
فلقيه منياس البطريق في جموع الروم فهزمهم، وقتل منهم خلق كثير وفتح
قنّسرين ودوّخ البلاد، ثم سار عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة فحاصروا
مدينة الرملة وجاء عمر بن الخطاب إلى الشام فعقد لأهل الرملة الصلح على
الجزية، وبعث عمرا وشرحبيل لحصار بيت المقدس فحاصروها، ولما أجهدهم
البلاء طلبوا الصلح على أن يكون أمانهم من عمر نفسه، فحضر عندهم وكتب
أمانهم ونصه: «بسم الله الرحمن الرحيم من عمر بن الخطاب لأهل إيلياء
إنهم آمنون على دمائهم وأولادهم ونسائهم وجميع كنائسهم لا تسكن ولا
تهدم» أهـ.
ودخل عمر بن الخطاب بيت المقدس وجاء كنيسة القمامة [2] فجلس في صحنها،
وحان وقت الصلاة فقال للبترك أريد الصلاة، فقال له: صلّ موضعك، فامتنع
وصلّى على الدرجة التي على باب الكنيسة منفردا، فلمّا قضى صلاته قال
للتبرك لو صليت داخل الكنيسة أخذها المسلمون بعدي وقالوا هنا صلى عمر،
وكتب لهم أن لا يجمع على الدرجة للصلاة ولا يؤذن عليها. ثم قال للبترك
أرني موضعا أبني فيه
__________
[1] وفي نسخة ثانية: موضع الصفراء.
[2] هي كنيسة القيامة.
(2/268)
مسجدا فقال: على الصخرة التي كلم الله
عليها يعقوب، ووجد عليها دما كثيرا فشرع في إزالته وتناوله بيده يرفعه
في ثوبه، واقتدى به المسلمون كافة فزال لحينه، وأمر ببناء المسجد. ثم
بعث عمرو بن العاص إلى مصر فحاصرها وأمدّه بالزبير بن العوام في أربعة
آلاف من المسلمين فصالحهم المقوقس [1] على الجزية، ثم سار إلى
الاسكندرية فحاصرها وافتتحها.
وفي السابعة عشر من الهجرة جاء ملك الروم إلى حمص في جموع النصرانية
وبها أبو عبيدة فهزمهم واستلحمهم، ورجع هرقل إلى أنطاكية، وقد استكمل
المسلمون فتح فلسطين وطبرية والساحل كله. واستنفر العرب المتنصّرة من
غسّان ولخم وجذام وقدم عليهم ماهاب البطريق وبعثه للقاء العرب، وكتب
إلى عامله على دمشق منصور بن سرحون أن يمدّه بالأموال، وكان يحقد عليه
نكبته من قبل، واستصفى ماله حين أفرج الفرج عن حصاره بالقسطنطينية لأول
ولايته، فاعتذر العامل للبطريق عن المال وهوّن عليه أمر العرب. فسار من
دمشق للقائهم ونازلهم بجابية الخولان، ثم اتبعه العامل ببعض مال جهزه
للعساكر، وجاء العسكر ليلا وأوقد المشاعل وضرب الطبول ونفخ البوقان،
فظنهم الروم عسكر العرب جاءوا من خلفهم وأنهم أحيط بهم، فأجفلوا
وتساقطوا في الوادي وذهبوا طوائف إلى دمشق وغيرها من ممالك الروم، ولحق
ماهاب بطور سيناء وترهّب إلى أن هلك. واتبع المسلمون الفل مع منصور إلى
دمشق وحاصروها ستة أشهر فرّقوا على أبوابها. ثم طلب منصور العامل
الأمان للروم من خالد فأمّنه، ودخل المدينة من الباب الشرقي، وتسامع
الروم الذين بسائر الأبواب فهربوا وتركوها، ودخل منها الأمراء الآخرون
عنوة ومنصور ينادي بأمان خالد، فاختلف المسلمون قليلا ثم اتفقوا على
أمان الروم الذين كانوا بالإسكندرية بعد ان افتتحها عمرو بن العاص
ركبوا إليه البحر ووافوه بها.
ثم هلك هرقل لإحدى وعشرين من الهجرة ولإحدى وثلاثين من ملكه، فملك على
الروم بقسطنطينية قسطنطين وقتله بعض نساء أبيه لستة أشهر من ملكه، وملك
أخوه هرقل بن هرقل، ثم تشاءم به الروم فخلعوه وقتلوه وملّكوا عليهم
قسنطينوس بن قسطنطين، فملك ست عشرة سنة ومات لسابعة وثلاثين من الهجرة.
وفي أيامه غزا
__________
[1] وهو قيرس وزير هرقل وبطريرك الاسكندرية ومتولي شئون مصر لما فتحها
عمرو بن العاص سنة 639 م.
(2/269)
معاوية بلاد الروم سنة أربع وعشرين وهو
يومئذ أمير على الشام في خلافة عمر بن الخطاب، فدوّخ البلاد وفتح منها
مدنا كثيرة وقفل، ثم أغزى عساكر المسلمين إلى قبرص في البحر ففتح منها
حصونا وضرب الجزية على أهلها سنة سبع وعشرين. وكان عمرو بن العاص لما
فتح الاسكندرية كتب لبنيامين بطرك اليعاقبة بالأمان، فرجع بعد ثلاث
عشرة من مغيبه، وكان ولّاه هرقل في أوّل الهجرة كما قدمنا. وملك الفرس
مصر والاسكندرية عشر سنين عند حصار قسطنطينية أيام هرقل، ثم غاب عن
الكرسي عند ما ملك الفرس وقدموا الملكيّة، وبقي غائبا ثلاث عشرة سنة
أيام الفرس عشرة وثلاث من ملكة المسلمين، ثم أمّنه عمرو بن العاص فعاد
ثم مات في تاسعة وثلاثين من الهجرة، وخلفه في مكانه أغاثوا فملك سبع
عشرة سنة.
ولما هلك قسنطينوس بن قسطنطين في سابعة وثلاثين من الهجرة كما قلناه
ملك على الروم في القسطنطينية ابنه يوطيانوس فمكث اثني عشرة سنة وتوفي
سنة خمسين، فملك بعده طيباريوس ومكث سبع سنين، وفي أيامه غزا يزيد بن
معاوية القسطنطينية في عساكر المسلمين وحاصرها مدّة ثم أفرج عنها،
واستشهد أبو أيوب الأنصاري في حصارها ودفن في ساحتها [1] ، ولما قفل
عنها توعدهم بتعطيل كنائسهم بالشام إن تعرّضوا لقبره.
ثم قتل طيباريوس قيصر سنة ثمان وخمسين وملك أوغسطس قيصر، وفي أيام
ولايته مات أغاثوا بطرك اليعاقبة القبط باسكندرية وقدم مكانه يوحنّا.
ثم قتل أوغسطس قيصر ذبحه بعض عبيده سنة [2] ، وملك ابنه أصطفانيوس وكان
لعهد عبد الملك بن مروان. وفي سنة خمس وستين من الهجرة زاد عبد الملك
في المسجد الأقصى وأدخل الصخرة في الحرم. ثم خلع أصطفانيوس ثم ملك بعده
لاون ومات
__________
[1] وفي الكامل ج 3 ص 459: «وتوفي أبو أيوب الأنصاري عند القسطنطينية
فدفن بالقرب من سورها، فأهلها يستسقون به..» .
[2] لم يحدد ابن الأثير السنة التي ملك فيها أوغسطس ولا السنة التي
توفي فيها وهناك تباين في الأسماء يقول:
«ثم ملك قسطنطين بن قسط ثلاث عشرة سنة بعض أيام معاوية وأيام يزيد
وابنه معاوية ومروان بن الحكم وصدرا من أيام عبد الملك. ثم ملك اسطيناس
المعروف بالأخرم تسع سنين أيام عبد الملك ثم خلعه الروم وخرموا أنفه،
ثم ملك بعده لونطيش ثلاث سنين أيام عبد الملك ... » . اما ابن أبي
اصيبعة فيقول في كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء عن اوسابيوس
القيسراني الّذي كان اسقف قيسارية:
«وملك بعد يوليوس قيصر اوغسطس قيصر وكانت مدته ستا وخمسين سنة وستة
أشهر وفي سنة ثلاث وأربعين من ملكه ولد المسيح عليه السلام» .
(2/270)
سنة ثمان وسبعين، وملك طيباريوس سبع سنين
ومات سنة ست وثمانين، فملك سطيانوس وذلك في أيام الوليد بن عبد الملك،
وهو الّذي بنى مسجد بني أمية بدمشق، يقال إنه أنفق فيه أربعمائة صندوق
في كل صندوق أربعمائة عشر ألف دينار، وكان فيه من جملة الفعلة اثنا عشر
ألف مرخّم، ويقال كانت فيه ستمائة سلسلة من الذهب لتعليق القناديل
فكانت تغشى عيون الناظرين وتفتن المسلمين فأزالها عمر بن عبد العزيز
وردّها إلى بيت المال. وكان الوليد لما اعتزم على الزيادة في المسجد
أمر بهدم كنيسة النصارى وكانت ملاصقة للمسجد فأدخلها فيه، وهي معروفة
عندهم بكنيسة مار يوحنّا، ويقال إنّ عبد الملك طلبهم في ذلك فامتنعوا،
وإن الوليد بذل لهم فيها أربعين ألف دينار فلم يقبلوا، فهدمها ولم
يعطهم شيئا، وشكوا أمرها إلى عمر بن عبد العزيز وجاءوه بكتاب خالد بن
الوليد وعهده أن لا تخرّب كنائسهم ولا تسكن، فراودهم على أخذ الأربعين
ألفا التي بذل لهم الوليد فأبوا، فأمر أن تردّ عليهم فعظم ذلك على
الناس، وكان قاضيه أبو داريس [1] الخولانيّ فقال لهم: تتركون هذه
الكنيسة في الكنائس التي في [2] العنوة في المدينة وإلا هدمناها،
فأذعنوا وكتب لهم عمر الأمان على ما بقي من كنائسهم.
وفي سنة ست وسبعين بعث كاتب الخراج إلى سليمان بن عبد الملك بأنّ مقياس
حلوان بطل فأمر ببناء مقياس في الجزيرة بين الفسطاط والجزيرة فهو لهذا
العهد.
وفي سنة إحدى ومائة من الهجرة ملك تدّاوس على الروم سنة ونصفا، ثم ملك
بعده لاون أربعا وعشرين سنة، وبعده ابنه قسطنطين. وفي سنة ثلاث عشرة
ومائة غزا هشام بن عبد الملك الصائفة اليسرى، وأخوه سلمان الصائفة
اليمنى، ولقيهم قسطنطين في جموع الروم فانهزموا وأخذ أسيرا ثم أطلقوه
بعد. وفي أيام مروان بن محمد وولاية موسى بن نصير لقي النصارى
بالإسكندرية ومصر شدّة وأخذوا بغرامة المال واعتقل بطرك الاسكندرية أبي
ميخايل، وطلب بجملة من المال فبذلوا موجودهم وانطلقوا يستسعون ما يحصل
لهم من الصدقة، وبلغ ملك النوبة ما حل بهم فزحف في مائة ألف من العساكر
إلى مصر، فخرج إليه عامل مصر، فرجع من غير قتال. وفي أيام
__________
[1] وفي نسخة اخرى: ابو إدريس الخولانيّ.
[2] كذا بياض بالأصل ولم يذكر ابن الأثير ولا الطبري ومقتضى سياق
الجملة: «في الكنائس التي تركت لكم وكانت من الأماكن التي أخذت عنوة في
المدينة» .
(2/271)
هشام ردّت كنائس الملكيّة من أيدي
اليعاقبة، وولي عليهم بطرك قريبا من مائة سنة، وكانت رياسة البطرك فيها
لليعاقبة وكانوا يبعثون الأساقفة للنواحي، ثم صارت النوبة من ورائهم
للحبشة يعاقبة.
ثم ملك بالقسطنطينية رجل من غير بيت الملك اسمه جرجس، فبقي أيام
السفّاح والمنصور وأمره مضطرب، ثم مات وملك بعده قسطنطين بن لاون وبنى
المدن وأسكنها أهل أرمينية وغيرها. ثم مات قسطنطين بن لاون وملك ابنه
لاون، ثم هلك لاون وملك بعده نقفور.
وفي سنة سبع وثمانين ومائة غزا الرشيد هرقلة ودوّخ جهاتها، وصالحه
نقفور ملك الروم على الجزية فرجع إلى الرقة وأقام شاتيا وقد كلب البرد،
وأمن نقفور من رجوعهم فانتقض، فعاد إلى الرشيد وأناخ عليه حتى قرّر
الموادعة والجزية عليه ورجع.
ودخلت عساكر الصائفة بعدها من درب الصفصاق فدوّخوا أرض الروم، وجمع
نقفور ولقيهم فكانت عليه هزيمة شنعاء قتل فيها أربعون ألفا ونجا نقفور
جريحا. وفي سنة تسعين ومائة دخل الرشيد بالصائفة إلى بلاد الروم في
مائة وخمسة وثلاثين ألفا سوى المطوّعة، وبث السرايا في الجهات، وأناخ
على هرقلة ففتحها، وبلغ سبيها ستة عشر ألفا، وبعث نقفور بالجزية فقبل
وشرط عليهم أن لا يعمر هرقلة.
وهلك نقفور في خلافة الأمين وولي ابنه أستبران قيصر، وغزا المأمون سنة
خمس عشرة ومائتين إلى بلاد الروم ففتح حصونا عدّة ورجع إلى دمشق. ثم
بلغه أنّ ملك الروم غزا طرسوس والمصيصة وقتل منها نحوا من ألف وستمائة
رجل، فرجع وأناخ على أنطواغوا حتى فتحها صلحا، وبعث المعتصم ففتح
ثلاثين من حصون الروم، وبعث يحيى بن أكثم بالعساكر فدوّخ أرضهم، ورجع
المأمون إلى دمشق. ثم دخل بلاد الروم وأناخ على مدينة لؤلؤة مائة يوم
وجهّز إليها العساكر مع عجيف مولاه، ورجع ملك الروم فنازل عجيفا،
فأمدّه المأمون بالعسكر فرحل عنه ملك الروم وافتتح لؤلؤة صلحا. ثم سار
المأمون إلى بلاد الروم ففتح سلعوس والبروة وبعث ابنه العبّاس بالعساكر
فدوّخ أرضهم وبنى مدينة الطوليّة ميلاد في ميل وجعل لها أربعة أبواب.
ثم دخل غازيا بلاد الروم ومات في غزاته سنة ثمان عشرة ومائتين. وفي
أيامه غلب قسطنطين على مملكة الروم وطرد ابن نقفور عنها، وفي سنة ثلاث
وعشرين ومائتين فتح المعتصم عمّورية وقصّتها معروفة في أخباره. أهـ
كلام ابن العميد. وأغفلنا من
(2/272)
كلامه أخبار البطاركة من لدن فتح
الاسكندرية لأنّا رأيناه مستغنى عنه وقد صارت بطركيتهم الكبرى التي
كانت بالإسكندرية بمدينة رومة، وهي هنالك للملكيّة ويسمّونه البابا
ومعناه أبوا الآباء، وبقي ببلاد مصر بطرك اليعاقبة على المعاهدين من
النصارى بتلك الجهات وعلى ملوك النوبة والحبشة.
وأمّا المسعودي فذكر ترتيب هؤلاء القياصرة من بعد الهجرة والفتح كما
ذكره ابن العميد، قال: والمشهور بين الناس أنّ الهجرة وأيام الشيخين
كان ملك الروم فيها لهرقل، قال: وفي كتب أهل السير أن الهجرة كانت على
عهد قيصر بن مورق، ثم كان بعده ابنه قيصر بن قيصر أيام أبي بكر، ثم
هرقل بن قيصر أيام عمر، وعليه كان الفتح وهو المخرج من الشام أيام أبي
عبيدة وخالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان فاستقرّ بالقسطنطينية. وبعده
مورق بن هرقل أيام عثمان، وبعده مورق بن مورق أيام علي ومعاوية، وبعده
قلفط بن مورق آخر أيام معاوية وأيام يزيد ومروان بن الحكم وكان معاوية
يراسله ويراسل أباه مورق، وكانت تختلف إليه علامة نياق وبشّره مورق
بالملك وأخبره أنّ عثمان يقتل وأنّ الأمر يرجع إلى معاوية، وهادي ابنه
قلفط حين سار إلى حرب عليّ رضي الله عنه، ثم نزلت جيوش معاوية مع ابنه
الزيد قسطنطينية وهلك عليها في حصاره أبو أيوب الأنصاري. ثم ملك من بعد
قلفط بن مورق لاون بن قلفط أيام عبد الملك بن مروان، وبعده جيرون بن
لاون أيام الوليد وسليمان وعمر بن عبد العزيز. ثم غشيهم المسلمون في
ديارهم وغزوهم في البر والبحر، ونازل مسلمة القسطنطينية، واضطرب ملك
الروم وملّك عليهم جرجيس بن مرعش وملك تسع عشرة سنة ولم يكن من بيت
الملك. ولم يزل أمرهم مضطربا إلى أن ملك عليهم قسطنطين بن ألبون وكانت
أمّه مستبدّة عليه لمكان صغره، ومن بعده نقفور بن استيراق أيام الرشيد
وكانت له معه حروب وغزاه الرشيد فأعطاه الانقياد ودفع إليه الجزية، ثم
نقض العهد فتجهّز الرشيد إلى غزوة ونزل هرقلة وافتتحها سنة تسعين ومائة
وكانت من أعظم مدائن الروم، وانتقاد نقفور بعد ذلك وحمل الشروط. وملك
بعده استيراق بن نقفور أيام الأمين، وغلب عليه قسطنطين ابن قلفط وملك
أيام المأمون، وبعده نوفيل أيام المعتصم واستردّ زبطرة ونازل عمّورية
وافتتحها وقتل من كان بها من أمم النصرانية. ثم ملك ميخايل بن نوفيل
أيام الواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين، ثم تنازع الروم وملكوا عليهم
نوفيل بن ميخاييل،
(2/273)
ثم غلب على الملك بسيل الصقلبي ولم يكن من
بيت الملك وكان ملكه أيام المعتز والمهتدي وبعضا من أيام المعتمد، ومن
بعده إليون بن بسيل بقية أيام المعتمد وصدرا من أيام المعتضد. ومن بعده
الإسكندروس ونقموا سيرته فخلعوه وملّكوا أخاه لاوي بن إليون بقية أيام
المعتضد والمكتفي وصدرا من أيام المقتدر، ثم هلك وملك ابنه قسطنطين
صغيرا وقام بأمره أرمنوس بطريق البحر وزوّجه ابنته ويسمى الدمستق وهو
الّذي كان يحارب سيف الدولة ملك الشام من بني حمدان، واتصل ذلك أيام
المقتدر والقاهر والراضي والمتّقي. وافترق أمر الروم وأقام بعض
بطارقتهم ويعرف أستفانس في بعض النواحي وخوطب بالملك أرمنوس بطركا
بكرسي القسطنطينية. إلى هنا انتهى كلام المسعودي. وقال عقبه: فجميع سني
الروم المتنصرة من أيام قسطنطين بن هلانة إلى عصرنا وهو حدود
الثلاثمائة والثلاثين للهجرة خمسمائة سنة وسبع سنين، وعدد ملوكهم أحد
وأربعون ملكا، قال: فيكون ملكهم إلى الهجرة مائة وخمسا وسبعين سنة. أهـ
كلام المسعودي.
وفي تاريخ ابن الأثير: إنّ أرمانوس لما مات ترك ولدين صغيرين، وكان
الدمستق على عهده قوقاش وملك ملطية من يد المسلمين بالأمان سنة اثنتين
وعشرين وثلاثمائة وكان أمر الثغور لسيف الدولة بن حمدان، وملك قوقاش
مرعش وعرزرية وحصونهما وأوقع بجابية طرسوس مرارا، وسار سيف الدولة في
بلادهم فبلغ خرشنة وصارخة ودوّخ البلاد وفتح حصونا عدّة ثم رجع. ثم
ولّى أرمانوس نقفور دمستقا، واسم الدمستق عندهم على من يلي شرقي الخليج
حيث ملك ابن عثمان لهذا العهد، فأقام نقفور دمستقا، وهلك أرمانوس وترك
ولدين صغيرين، وكان نقفور غائبا في بلاد المسلمين فلمّا رجع اجتمع إليه
زعماء الروم وقدّموه لتدبير أمر الولدين وألبسوه التاج، وسار إلى بلاد
المسلمين سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة إلى حلب فهزم سيف الدولة وملك
البلد وحاصر القلعة فامتنعت عليه، وقتل ابن أخت الملك في حصارها فقتل
جميع الأسرى الذين عنده.
ثم بنى سنة ست وخمسين مدينة بقيسارية ليجلب منها على بلاد الإسلام،
فخافه أهل طرسوس واستأمنوا إليه فسار إليهم وملكها بالأمان وملك
المصيصة عنوة. ثم بعث أخاه في العساكر سنة تسع وخمسين إلى حلب فملكها،
وهرب أبو المعالي بن سيف الدولة إلى البرية، وصالحه مرعويه بعد أن
امتنع بالقلعة ورجع. ثم أن أمّ
(2/274)
الملكين ابني أرمانوس اللذين كانا مكفولين
له، استوحشت منه وداخلت في قتله ابن الشميشق فقتله سنة ستين. وقام ابن
أرمانوس الأكبر وهو بسيل بتدبير ملكه، وجعل ابن الشميشق دمستقا وقام
على الأورق أخي نقفور، وعلى ابنه ورديس بن لاون واعتقلهما. وسار إلى
الرّها وميافارقين، وعاث في نواحيهما، وصانعه أبو تغلب بن حمدان صاحب
الموصل بالمال فرجع. ثم خرج سنة اثنتين وستين، فبعث أبو تغلب ابن عمه
أبا عبد الله بن حمدان فهزمه وأسره وأطلقه. وكان لأمّ بسيل أخ قام
بوزارتها فتحيّل في قتل ابن الشميشق بالسّمّ.
ثم ولّى بسيل بن أرمانوس سقلاروس دمستقا، فعصى عليه سنة خمس وستين وطلب
الملك لنفسه، وغلبه بسيل. ثم خرج على بسيل ورد بن منير من عظماء
البطارقة، واستجاش بأبي تغلب بن حمدان وملكوا الأطراف، وهزم عساكر بسيل
مرّة بعد مرّة، فأطلق ورديس لاون وهو ابن أخي نقفور من معقلة وبعثه في
العساكر لقتاله فهزمه ورديس، ولحق ورد بن منير بميافارقين صريخا بعضد
الدولة، وراسله بسيل في شأنه فجنح عضد الدولة إلى بسيل وقبض على ورديس
واعتقله ببغداد، ثم أطلقه ابنه صمصام الدولة لخمس سنين من اعتقاله،
وشرط عليه إطلاق أسرى المسلمين، والنزول عن حصون عدّة من معاقل الروم،
وأن لا يغير على بلاد الإسلام. وسار فاستولى على ملطية ومضى إلى
القسطنطينية فحاصرها وقتل ورديس بن لاون، واستنجد بسيل بملك الروم
وزوّجه أخته ثم صالح وردا على ما بيده. ثم هلك ورد بعد ذلك بقليل
واستولى بسيل على أمره وسار إلى قتال البلغار فهزمهم وملك بلادهم وعاث
فيها أربعين سنة. واستمدّه صاحب حلب أبو الفضائل بن سيف الدولة، فلما
زحف إليه منجوتكين صاحب دمشق من قبل الخليفة بمصر سنة إحدى وثمانين،
فجاء بسيل لمدده وهزمه منجوتكين ورجع مهزوما ورجع منجوتكين الى دمشق،
ثم عاود الحصار فجاء بسيل صريخا لأبي الفضائل فأجفل منجوتكين من مكانه
على حلب، وسار إلى حمص وشيزر فملكها وحاصر طرابلس، وصالحه ابن مروان
على ديار بكر. ثم بعث الدوقس الدمستق إلى أمامه فبعث إليه صاحب مصر أبا
عبد الله بن ناصر الدولة بن حمدان في العساكر فهزمه وقتله.
ثم هلك بسيل سنة عشر وأربعمائة لنيّف وسبعين من ملكه وملك بعده أخوه
قسطنطين وأقام تسعا ثم هلك عن ثلاث بنات، وفملّك الروم عليهم الكبرى
منهنّ وأقام بأمرها
(2/275)
ابن خالها أرمانوس وتزوّجت به فاستولى على
مملكة الروم. وكان خاله ميخاييل متحكما في دولته ومداخلا لأهله فمالت
إليه الملكة وحملته على قتل أرمانوس، فقتله واستولى على الأمر. ثم
أصابه الصرع وأذاه فعمد لابن أخته واسمه ميخاييل أيضا وكان أرمانوس قد
خرج سنة إحدى وعشرين إلى حلب في ثلاثة آلاف مقاتل، ثم خار عن اللقاء
فاضطرب ورجع واتبعه العرب فنهبوا عساكره، وكان معه ابن الدوقس من عظماء
البطارقة فارتاب وقبض عليه. وخرج سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة في جموع
الروم فملك الرّها وسروج وهزم عساكر ابن مروان.
ولما ملك ميخاييل سار إلى بلاد الإسلام فلقيه الدربريّ صاحب الشام من
قبل العلويّة فهزمه واقتصر الروم بعدها عن الخروج إلى بلاد الإسلام.
وملّك ميخاييل ابن أخته كما قلناه وقبض على أخواله وقرابتهم وأحسن
السيرة في المملكة، ثم طلب زوجته في الخلع فأبت، فنفاها إلى بعض
الجزائر واستولى على المملكة سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة. ونكر عليه
البترك ما وقع فيه فهمّ بقتله ودخل بعض حاشيته في ذلك، ونمى الخبر الى
البترك فنادى في النصرانية بخلعه وحاصره في قصره واستدعى الملكة التي
خلعها ميخاييل من مكانها وأعادوها إلى الملك فنفت ميخاييل كما نفاها
أوّلا.
ثم اتفق البترك والروم على خلع الملكة بنت قسطنطين وملّكوا أختها
الأخرى تودورة وسلّموا ميخاييل لها، ثم وقعت الفتنة بين شيعة تودورة
وشيعة ميخاييل واتصلت، وطلب الروم أن يملكوا عليهم من يمحو هذه الفتنة
وأقرعوا على المرشحين فخرجت القرعة على قسطنطين منهم فملّكوه أمرهم،
وتزوّج بالملكة الصغيرة تودورة وجعلت أختها الكبرى على ما بذلته لها
وذلك سنة أربع وثلاثين وأربعمائة.
ثم توفي قسطنطين سنة ست وأربعين، وملك على الروم أرمانوس وقارن ذلك
بظهور الدولة السّلجوقيّة واستيلاء طغرلبك على بغداد، فردّد الغزو
إليهم من ناحية أذربيجان، ثم سار ابنه الملك آلب أرسلان وملك مدنا من
بلاد الكرخ [1] منها مدينة آي وأثخن في بلادهم. ثم سار ملك الروم الى
منبج وهزم ابن مرداس وابن حسّان وجموع العرب، فسار آلب أرسلان إليه سنة
ثلاث وستين وخرج أرمانوس في مائتي ألف من الروم والعرب والدوس والكرخ
ونزل على نواحي أرمينية، فزحف إليه آلب أرسلان من أذربيجان فهزمه وحصل
في أسره ثم فاداه على مال يعطيه وأجروه عليه وعقد معه
__________
[1] وفي نسخة اخرى: بلاد الكرج.
(2/276)
صلحا. وكان أرمانوس لمّا انهزم وثب ميخاييل
بعده على مملكة الروم، فلما انطلق من الأسر ورجع دفعه ميخاييل عن الملك
والتزم أحكام الصلح الّذي عقده مع آلب أرسلان وترهب أرمانوس إلى هنا
انتهى كلام ابن الأثير.
ثم استفحل ملك الافرنج بعد ذلك واستبدّوا بملك رومة وما وراءها، وكان
الروم لما أخذوا بدين النصرانية حملوا عليه الأمم المجاورين لهم طوعا
وكرها، فدخل فيه طوائف من الأمم منهم الأرمن وقد تقدّم نسبهم إلى ناحور
أخي إبراهيم عليه السلام وبلدهم أرمينيّة وقاعدتها خلاط، ومنهم الكرج
وهم من شعوب الروم وبلادهم الخزر ما بين أرمينية والقسطنطينية شمالا في
جبال ممتنعة، ومنه الجركس في جبال بالعدوة الشرقية من بحر نيطش وهم من
شعوب الترك، ومنهم الروس في جزائر ببحر نيطش وفي عدوته الشمالية ومنه
البلغار نسبة إلى مدينة لهم في العدوة الشمالية أيضا من بحر نيطش،
ومنهم البرجان أمّة كبيرة متوغلون في الشمال لا تعرف أخبارهم لبعدها،
وهؤلاء كلهم من شعوب الترك.
وأعظم من أخذ به من الأمم الافرنج وقاعدة بلادهم فرنجة، ويقولون فرنسة
بالسين وملكهم الفرنسيس، وهم في بسائط على عدوة البحر الرومي من شمالية
وجزيرة الأندلس من ورائهم في المغرب تفصل بينهم وبينها جبال متوعرة ذات
مسالك ضيقة يسمونها ألبون وساكنها الجلالقة من شعوب الافرنج، وهؤلاء
فرنسة أعظم ملوك الافرنجة بالعدوة الشمالية من هذا البحر، واستولوا من
الجزيرة البحرية منه على صقلّيّة وقبرص وأقريطش وجنوة، واستولوا أيضا
على قطعة من بلاد الأندلس إلى برشلونه، واستفحل ملكهم بعد القياصرة
الأول.
ومن أمم الافرنجة البنادقة وبلادهم حفافي خليج يخرج من بحر الروم
متضايقا إلى ناحية الشمال ومغربا بعض الشيء على سبعمائة ميل من البحر
وهذا الخليج مقابل لخليج القسطنطينية، وفي القرب منه وعلى ثمان مراحل
من بلاد جنوة، ومن ورائها مدينة رومة حاضرة الافرنجة ومدينة ملكهم وبها
كرسي البطرك الأكبر الّذي يسمونه البابا. ومن أمم الافرنجة الجلالقة
وبلادهم الأندلس وهؤلاء كلهم دخلوا في دين النصرانية تبعا للروم إلى من
دخل فيه منهم من أمم السودان والحبشة والنوبة، ومن كان على ملكة الروم
من برابرة العدوة بالمغرب مثل نغزاوة وهوارة بإفريقية والمصامدة
بالمغرب الأقصى، واستفحل ملك الروم ودين النصرانية.
(2/277)
ولما جاء الله بالإسلام وغلب دينه على
الأديان وكانت مملكة الروم قد انتشرت في حفافي البحر الرومي من عدوتيه،
فانتزعوا منهم لأوّل أمرهم عدوته الجنوبية كلّها من الشام ومصر
وإفريقية والمغرب وأجازوا من خليج طنجة فملكوا الأندلس كلّها من يد
القوط والجلالقة وضعف أمر الروم وملكهم بعد الانتهاء إلى غايته شأن كل
أمّة. ثم شغل الافرنجة بما دهمهم من العرب في الأندلس والجزائر بما
كانوا يتخيمونهم ويردّدون الصوائف إلى بسائطهم أيام عبد الرحمن الداخل
وبنيه الأندلس، وعبد الله الشيعي وبنيه بإفريقية. وملكوا عليهم جزائر
البحر الرومي التي كانت لهم مثل صقلّيّة وميورقة ودانية وأخواتها، إلى
أن فشل ربح الدولتين وضعف ملك العرب، فاستفحل الافرنجة ورجعت لهم
واسترجعوا ما ملكه المسلمون إلّا قليلا بسيف البحر الرومي مضايق العرض
في طول أربع عشرة مرحلة واستولوا على جزائر البحر كلّها، ثم سموا إلى
الشام وبيت المقدس مسجد أنبيائهم ومطلع دينهم فسربوا إليه آخر المائة
الخامسة، وتواثبوا على الأمصار والحصون وسواحله. ويقال: إنّ المستنصر
العبيديّ هو الّذي دعاهم لذلك وحرّضهم عليه لما رجى فيه من اشتغال ملوك
السلجوقيّة بأمرهم، وإقامتهم سدا بينه وبينهم عند ما سموا إلى ملك
الشام ومصر.
وكان ملك الافرنجة يومئذ اسمه بردويل [1] وصهره زجار [2] ملك صقلّيّة
من أهل طاعته، فتظاهروا على ذلك وساروا إلى القسطنطينية سنة إحدى
وتسعين ليجعلوها طريقا إلى الشام، فمنعهم ملك الروم يومئذ ثم أجازهم
على أن يعطوه ملطية إذا ملوكها فقبلوا شرطه. ثم ساروا إلى بلاد ابن
قلطمش، وقد استولى يومئذ على مرية وأعمالها وأرزن الروم وأقصر وسيواس،
وافتتح تلك الأعمال كلّها عند هبوب ريح قومه على السلجوقيّة، ثم حدثت
الفتنة بينهم وبين الروم بالقسطنطينية، واستنجد كل منهم بملوك المسلمين
في ثغور الشام والجزيرة، وعظمت الفتن في تلك الآفاق ودامت الحال على
ذلك نحوا من مائة سنة وملك الروم بالقسطنطينية في تناقص واضمحلال.
وكان زجار صاحب صقلّيّة يغزو القسطنطينية من البحر ويأخذ ما يجد في
مرساها من سفن التجار وشواني [3] المدينة، ولقد دخل جرجي بن ميخاييل
صاحب أسطوله الى
__________
[1] وهو بودوان.
[2] وفي نسخة اخرى: روجيه.
[3] الشونة: المركب المعد للجهاد.
(2/278)
مينا القسطنطينية سنة أربع وأربعين
وخمسمائة ورمى قصر الملك بالسهام، فكانت تلك أنكى على الروم من كل
ناحية.
ثم كان استيلاء الإفرنج على القسطنطينية آخر المائة السادسة وكان من
خبرها أنّ ملك الروم بالقسطنطينية أصهر إلى الفرنسيس عظيم ملوك الافرنج
في أخته فزوّجها له الفرنسيس وكان له منها ابن ذكر، ثم وثب بملك الروم
أخوه فسمله وملك القسطنطينية مكانه. ولحق الابن بخاله الفرنسيس صريخا
[1] به على عمه فوجده قد جهز الأساطيل الارتجاع بيت المقدس، واجتمع
فيها ثلاثة من ملوك الافرنجة بعساكرهم دوقس البنادقة صاحب المراكب
البحرية وفي مراكبه كان ركوبهم، وكان شيخا أعمى نقّادا ذا ركب والمركس
[2] مقدّم الفرنسيس وكيدفليد وهو أكبرهم، فأمر الفرنسيس بالجواز على
القسطنطينة ليصلحوا بين ابن أخته وبين عمّه ملك الروم، فلمّا وصلوا إلى
مرسى القسطنطينية، خرج عمّه وحار بهم فهزموه ودخلوا البلد وهرب الى
أطراف البلد وقتل حاضروه وأضرموا النار في البلد، فاشتغل الناس بها
وأدخل الصبي بشيعته، فدخل الافرنج معه وملكوا البلد وأجلسوا الصبي في
ملكه وساء أثرهم في البلد، وصادروا أهل النعم وأخذوا أموال الكنائس،
وثقلت ووطأتهم على الروم فعقلوا الصبي وأخرجوهم واستدعوا ملكهم عمّ
الصبيّ من مكان مقرّه وملّكوه عليهم.
وحاصرهم الإفرنج فاستنجد بسليمان بن قليج أرسلان صاحب قونية وبلاد
الروم شرقي الخليج، وكان في البلد خلق من الإفرنج، فقبل أن يصل سليمان
ثاروا فيها وأضرموا النيران حتى شغل بها الناس، وفتحوا الأبواب فدخل
الإفرنج واستباحوها ثمانية أيام حتى أقفرت، واعتصم الروم بالكنيسة
العظمى منها وهي مموقيا [3] . ثم خرجت جماعة القسيسين والأساقفة
والرهبان، وفي أيديهم الإنجيل والصلبان فقتلوهم أجمعين، ولم يراعوا لهم
ذمّة ولا عهدا، ثم خلعوا الصبي واقترعوا ثلاثتهم على الملك فخرجت
القرعة على كيدفليد كبيرهم فملّكوه على القسطنطينية وما يجاورها،
وجعلوا لدوقس البنادقة الجزائر البحرية مثل أقريطش ورودس وغيرهما،
وللمركيس مقدم
__________
[1] أي مستغيثا.
[2] الدوقس وهو الدوق والمركس هو المركيز.
[3] هي كنيسة أياصوفيا أهـ.
(2/279)
الفرنسيس البلاد التي في شرقي الخليج. ثم
تغلّب عليها بطريق من بطارقة الروم اسمه لشكري ودفع عنها الإفرنج وبقيت
بيده واستولى بعدها على القسطنطينية، وكان اسمه ميخاييل، وفي كتاب
المؤيد صاحب حماة أنه أقام ببعض الحصون. ثم بنيت القسطنطينية وملكها
وفّر الافرنج في مراكبهم وملك الروم وقتل الّذي كان ملكا قبله، وتوفي
سنة إحدى وثمانين وستمائة وعقد معه الصلح المنصور قلاون صاحب مصر
والشام لذلك العهد.
قال: وملك بعده ابنه ماند ويلقّب الدوقس وشهرتهم جميعا اللشكري [1] ثم
انقرضت دولة بني قليج أرسلان، وملك أعمالهم التتر كما نذكر في أخبارهم،
وبقي بني اللشكري ملوكا على القسطنطينية إلى هذا العهد، وملك شرقي
الخليج بعد انقضاء دولة التتر من بلاد الروم ابن عثمان جقّ أمير
التركمان، وهو الآن متحكّم على صاحب القسطنطينية ومتغلب على نواحيه من
سائر جهاته. هذا ما بلغنا من أخبار الروم من أوّل دولتهم منذ يونان
والقياصرة لهذا العهد. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
الخبر عن القوط وما كان لهم من الملك بالأندلس الى حين الفتح الإسلامي
وأوّلية ذلك ومصايره
هذه الأمة من أمم أهل الدولة العظيمة المعاصرة لدول الطبقة الثانية من
العرب وقد ذكرناهم عقب اللطينيين لأنّ الملك صار إليهم من بينهم كما
ذكرناه، وسياقة الخبر عنهم أنهم كانوا يعرفون في الزمن القديم
بالسيسيين [2] نسبة إلى الأرض التي كانوا يعمّرونها بالمشرق فيما بين
الفرس واليونان، وهم في نسبهم إخوة الصين من ولد ماغوغ بن يافث، وكانت
لهم مع الملوك السريانيّين حروب موصوفة زحف إليهم فيها مومن مالي ملك
سريان فدافعوه لعهد إبراهيم الخليل عليه السلام، ثم كانت لهم حروب مع
الفرس عند تخريب بيت المقدس وبناء رومة، ثم غلبهم الإسكندر وصاروا في
ملكته واندرجوا في قبائل الروم ويونان. ثم لما ضعف أمر الروم بعد
الإسكندر وتغلبوا على بلاد الغريقيّين ومقدونية ونبطة أيام غلبنوش بن
بارايان من ملوك القياصرة وكانت
__________
[1] وفي نسخة ثانية: السلكري.
[2] وهم السكيثيون.
(2/280)
بينه [1] وبينه حروب سجال، ثم غلبهم
القياصرة من بعده وظفروا بهم، حتى إذا انتقل القياصرة إلى القسطنطينية
وفشل أمرهم برومة زحف إليها هؤلاء القوط واقتحموها عنوة فاستباحوها. ثم
خرجوا عنها أيام طودوشيش بن أركاديش [2] بعد حروب كثيرة، وكان أميرهم
لذلك العهد أنطرك كما ذكرناه، ومات لعهد طودوشيش وأراد أن يجعل اسمه
سمة الملوك برومة منهم مكان سمة قيصر، فاختلف عليه أصحابه في ذلك فرجع
عنه، ثم صالح الرومانيين على أن يكون له ما يفتح من بلاد الأندلس لما
كان امر الرومانيين قد ضعف عن الأندلس ولحق بها ثلاث طوائف من
الغريقيّين فاقتسموا ملكها وهم الأبيون والشوانيّون والقندلش وباسم
قندلس سميت الأندلس.
وكان بالأندلس من قبلهم الأرباريّون من ولد طوال بن يافث وهم إخوة
الأنطاليس، سكنوها من بعد الطوفان وصاروا إلى طاعة أهل رومة، حتى دخل
إليهم هؤلاء الطوالع من الغريقيين عند ما اقتحم القوط مدينة رومة
وغلبوا الأمم الذين كانوا بها من ولد طوال. وقد يقال: إنّ هؤلاء
الطوالع كلهم من ولد طوال بن يافث وليسوا من الغريقيّين، واقتسم هؤلاء
الطوالع ملكها وكانت جليقية لقندلش ولشبونة وماردة وطليطلة ومرسية
لشوانش وكانوا أشرافهم. وكانت إشبيليّة وقرطبة وجيان وطالعة للأبيق
وأميرهم عندريقش أخو لشيقش أربعين سنة حين زحف إليهم القوط من رومة،
وكان قد ولي عليهم بعد أطفانش ملك آخر منهم اسمه طشريك وقتله
الرومانيون، وولي مكانه منهم ماستة ثلاث سنين وزوّج أخته من طودوشيش
ملك الرومانيين وصالحه على أن يكون له ما يفتحه من الأندلس. ثم مات
وولي مكانه لزريق ثلاث عشرة سنة وهو الّذي زحف إلى الأندلس وقتل ملوكها
وطرد الطوائف الذين كانوا بها فأجازوا إلى طنجة وتغلبوا على بلاد
البربر وصرفوا البربر الذين كانوا بالعدوة عن طاعة القسطنطين إلى
طاعتهم، فلم يزالوا على ذلك إلى دولة يشتيانش [3] نحوا من ثمانين سنة،
ثم هلك طورديق [4] ملك القوط بالأندلس وولي مكانه [5]
__________
[1] مقتضى السياق: كانت بينهم وبينه.
[2] وفي نسخة اخرى: طودوسيوس بن أركاديوس.
[3] وهو يوستنيانوس.
[4] وفي نسخة اخرى: طوريق.
[5] بياض بالأصل وهو أدولف.
(2/281)
سبع عشرة سنة، وانتقض عليه البسكتس إحدى
طوائف القوط فزحف إليهم وردّهم إلى طاعته ثم هلك.
وولي بعده الديك ثلاثا وعشرين سنة، وكانت الافرنج لعهده قد طمعوا في
ملك الأندلس وأن يغلبوا عليها القوط، فجمعوا لهم وملكوا على أنفسهم
منهم، فزحف إليهم الديك في أمم القوط إلى أن توغل في بلاد الافرنج
فغلبوه وقتلوه وعامة أصحابه.
وكانت القوط قبل دخولهم إلى الأندلس فرقتين كما ذكرنا في دولة بلنسيان
بن قسطنطين من القياصرة المتنصّرة، وكانت إحدى الفرقتين قد أقامت
بمكانها من نواحي رومة فلما بلغهم خبر الديك صاحب الأندلس منهم امتعضوا
لذلك، وكان أميرهم طورديك منهم، فزحف إلى الافرنج وغلبهم على ما كانوا
لملكونه من الأندلس، ودخل القوط الذين كانوا بالأندلس في طاعته فولّى
عليهم ابنه أشتريك ورجع إلى مكانه من نواحي رومة، فزحف الافرنج إلى
محاربة أشتريك حتى غلبوه على طلوسة من ناحيتهم.
وهلك أشتريك بعد خمس سنين من ملكه وولي عليهم بعده بشليقش أربع سنين،
ثم بعده طودريق إحدى وستين سنة وقتله بعض أصحابه بأشبيليّة، وولي بعده
أبرليق خمس سنين، وبعده طودس ثلاث عشرة سنة، وبعده طودشكل سنتين، وبعده
أيلة خمس سنين وانتقض عليه أهل قرطبة فحاربهم وتغلب عليهم. وبعده طنجاد
خمس عشرة سنة، وبعده ليولة سنة واحدة، وبعده لوبليدة ثماني عشرة سنة
وانتقضت عليه الأطراف فحاربهم وسكنهم ونكر عليه النصارى تثليث أريش
وراودوه على الأخذ بتوحيدهم الذين [1] يزعمونه فأبى وحاربهم فقتل. وولي
ابنه زدريق ست عشرة سنة ورجع إلى توحيد النصارى بزعمهم وهو الّذي بنى
البلاد المنسوبة إليه بقرطبة. ولما هلك ولي بعده على القوط ليوبة
سنتين، وبعده تبديقا عندمار سنتين، وبعده شيشوط ثماني سنين وعلى عهده
كان هرقل ملك قسطنطينية والشام، ولعهده كانت الهجرة.
وهلك شيشوط ملك القوط وولي بعده زدريق آخر منهم ثلاثة أشهر، وبعده شتلة
ثلاث سنين، وبعده سنشادش خمس سنين، وبعده خنشوند سبع سنين، وبعده
وجنشوند ثلاثا وعشرين سنة، ولهذه العصور ابتدأ ضعف الأحكام للقوط.
وبعده
__________
[1] مقتضى السياق: الّذي.
(2/282)
مانيه ثمان سنين، وبعده لوري ثمان سنين، وبعده ايقه ست عشرة سنة، وبعده
غطسة أربع عشرة سنة وهو الّذي وقع من قصته مع ابنه يليان عامل طنجة ما
وقع.
ثم بعده زدريق سنتين وهو الّذي دخل عليه المسلمون وغلبوه على ملك القوط
وملكوا الأندلس، ولذلك العهد كان الوليد بن عبد الملك حسبما نذكره عند
فتح الأندلس إن شاء الله تعالى.
هذه سياقة الخبر عن هؤلاء القوط نقلته من كلام هروشيوش وهو أصح ما
رأيناه في ذلك والله سبحانه وتعالى الموفق المعين بفضله وكرمه لا ربّ
غيره ولا مأمول إلّا خيره. |