تاريخ ابن خلدون
المولد الكريم وبدء
الوحي
ثم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل لاثنتي عشرة ليلة خلت
من ربيع الأوّل، لأربعين سنة من ملك كسرى أنوشروان وقيل لثمان وأربعين،
ولثمانمائة واثنتين وثمانين لذي القرنين. وكان عبد الله أبوه غائبا
بالشام وانصرف فهلك بالمدينة، وولد سيّدنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم بعد مهلكه بأشهر قلائل، وقيل غير ذلك.
وكفله جدّه عبد المطلب بن هاشم وكفالة الله من ورائه، والتمس له
الرضعاء واسترضع في بني سعد من بني هوازن، ثم في بني نصر بن سعد أرضعته
منهم حليمة بنت أبي ذؤيب عبد الله بن الحرث بن شحنة بن رزاح بن ناظرة
بن خصفة بن
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: فلم يدخل دين.
[2] وفي النسخة الباريسية: عبدتك به.
[3] وفي نسخة ثانية: من ذلك.
(2/407)
قيس [1] ، وكان ظئره [2] منهم الحارث بن
عبد العزى وقد مرّ ذكرهما في بني عامر بن صعصعة، وكان أهله يتوسمون فيه
علامات الخير والكرامات من الله، ولما كان من حديث رسول الله صلى الله
عليه وسلم شق الملكين بطنه واستخراج العلقة السوداء من قلبه وغسلهم
حشاه وقلبه بالثلج ما كان، وذلك لرابعة من مولده، وهو خلف البيوت يرعى
الغنم فرجع إلى البيت منتقع [3] اللون، وظهرت حليمة على شأنه فخافت أن
يكون أصابه شيء من اللمم [4] فرجعته إلى أمه. واسترابت آمنة برجعها
إياه بعد حرصها على كفالته فأخبرتها الخبر، فقالت: كلّا والله لست أخشى
عليه. وذكرت من دلائل كرامة الله له وبه كثيرا.
وأزارته أمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة أخوال جدّه عبد المطلب
من بني عديّ بن النجار بالمدينة، وكانوا أخوالا لها أيضا. وهلك عبد
المطلب لثمان سنين من ولادته، وعهد به إلى ابنه أبي طالب فأحسن ولايته
وكفالته، وكان شأنه في رضاعه وشبابه ومرباه عجبا. وتولّى حفظه وكلاءته
من مفارقة أحوال الجاهلية، وعصمته من التلبس بشيء منها حتى لقد ثبت
أنه: مرّ بعرس مع شباب قريش، فلمّا دخل على القوم أصابه غشي النوم، فما
أفاق حتى طلعت الشمس وافترقوا. ووقع له ذلك أكثر من مرّة. وحمل الحجارة
مع عمه العبّاس لبنيان الكعبة وهما صبيان، فأشار عليه العبّاس بحملها
في إزاره، فوضعه على عاتقه وحمل الحجارة فيه وانكشف، فلما حملها على
عاتقه سقط مغشيا عليه، ثم عاد فسقط فاشتمل إزاره وحمل الحجارة كما كان
يحملها. وكانت بركاته تظهر بقومه وأهل بيته ورضعائه في شئونهم كلها.
وحمله عمه أبو طالب الى الشام وهو ابن ثلاث عشرة وقيل ابن سبع عشرة،
فمرّوا ببحيرا الراهب عند بصرى فعاين الغمامة تظله والشجر [5] تسجد له،
فدعا القوم وأخبرهم بنبوّته وبكثير من شأنه في قصة مشهورة. ثم خرج
ثانية الى الشام تاجرا بمال خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى مع
غلامها ميسرة ومروا بنسطور الراهب، فرأى ملكين يظلّانه من الشمس فأخبر
ميسرة بشأنه، فأخبر بذلك خديجة فعرضت
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: قصيّة بن نصر.
[2] ظأر المرأة على ولد غيرها: عطفها عليه- ظأرت المرأة: اتخذت ولدا
ترضعه (قاموس) .
[3] وفي نسخة ثانية: ممتقع اللون.
[4] اللمم: الجنون (قاموس) .
[5] وفي النسخة الباريسية: والحجر.
(2/408)
نفسها عليه، وجاء أبو طالب فخطبها الى
أبيها فزوجه، وحضر الملأ من قريش، وقام أبو طالب خطيبا فقال: «الحمد
للَّه الّذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضئ [1] معدّ وعنصر
مضر وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا وجعلنا أمناء بيته وسوّاس حرمه
وجعلنا الحكّام على الناس وأنّ ابن أخي محمد بن عبد الله من قد علمتم
قرابته وهو لا يوزن بأحد إلّا رجح به فان كان في المال قلّ فإنّ المال
ظلّ زائل وقد خطب خديجة بنت خويلد وبذل لها من الصداق ما عاجله وآجله
من مالي كذا وكذا وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل» . ورسول
الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ابن خمس وعشرين سنة وذلك بعد الفجار
بخمس عشرة سنة.
وشهد بنيان الكعبة لخمس وثلاثين من مولده حين أجمع كل قريش على هدمها
وبنائها، ولما انتهوا إلى الحجر تنازعوا أيهم يضعه وتداعوا للقتال،
وتحالف بنو عبد الدار على الموت [2] ثم اجتمعوا وتشاوروا، وقال أبو
أمية حكموا أول داخل من باب المسجد فتراضوا على ذلك. ودخل رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذا الأمين، وبذلك كانوا يسمّونه، فتراضوا
به وحكموه. فبسط ثوبا ووضع فيه الحجر وأعطى قريشا أطراف الثوب، فرفعوه
حتى أدنوه من مكانه، ووضعه عليه السلام بيده [3] . وكانوا أربعة عتبة
بن ربيعة بن عبد شمس، والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، وأبو
حذيفة بن المغيرة بن عمر بن مخزوم، وقيس بن عدي السهمي. ثم استمرّ على
أكمل الزكاء والطهارة في أخلاقه، وكان يعرف بالأمين، وظهرت كرامة الله
فيه وكان إذا أبعد في الخلاء لا يمرّ بحجر ولا شجر إلا ويسلم عليه.
بدء الوحي
ثم بدئ بالرؤيا الصالحة فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح، ثم
تحدّث الناس بشأن ظهوره ونبوّته، ثم حببت إليه العبادة والخلوة بها
فكان يتزوّد للانفراد حتى جاء الوحي بحراء لأربعين سنة من مولده وقيل
لثلاث وأربعين. وهي حالة يغيب
__________
[1] الأصل والعدن (قاموس) .
[2] وفي النسخة الباريسية: وتحالف بنو عبد الدار وبنو عدي على الموت.
[3] وفي النسخة الباريسية: واعطى أشراف قريش جنباته فرفعوه حتى أدنوه
من مكانه وفي الكامل ج 2، ص 45: فقال: هلمّوا إليّ ثوبا، فأوتي به،
فأخذ الحجر الأسود فوضعه فيه ثمّ قال: لتأخذ كلّ قبيلة بناحية من الثوب
ثم ارفعوه جميعا، ففعلوا. فلمّا بلغوا به موضعه وضعه بيده ثم بني عليه.
(2/409)
فيها عن جلسائه وهو كائن معهم، فأحيانا
يتمثل له الملك رجلا فيكلمه ويعي قوله، وأحيانا يلقي عليه القول،
ويصيبه أحوال الغيبة عن الحاضرين من الغط والعرق وتصببه كما ورد في
الصحيح من أخباره، قال: وهو أشدّ علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال.
وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول. فأصابته تلك الحالة
بغار حراء وألقى عليه: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ
الْإِنْسانَ من عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ
بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ 96: 1- 5» . وأخبر
بذلك كما وقع في الصحيح. وآمنت به خديجة وصدّقته وحفظت عليه الشأن. ثم
خوطب بالصلاة وأراه جبريل طهرها، ثم صلّى به وأراه سائر أفعالها. ثم
كان شأن الاسراء من مكة الى بيت المقدس من الأرض إلى السماء السابعة
الى سدرة المنتهى وأوحى إليه ما أوحى، ثم آمن به عليّ ابن عمه أبي طالب
وكان في كفالته من أزمة أصابت قريشا وكفل العبّاس جعفرا أخاه، فجعفر
أسنّ [1] عيال أبي طالب. فأدركه الإسلام وهو في كفالته فآمن وكان يصلّي
معه، في الشعاب مختفيا من أبيه حتى إذ ظهر عليهما أبو طالب دعاه رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا أستطيع فراق ديني ودين آبائي، ولكن
لا ينهض إليك شيء تكره ما بقيت، وقال لعليّ: الزمه فإنه لا يدعو إلّا
لخير.
فكان أوّل من أسلم خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى، ثم أبو بكر،
وعليّ بن أبي طالب، كما ذكرنا، وزيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وبلال بن حمامة مولى أبي بكر، ثم عمر بن عنبسة السلمي،
وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية. ثم أسلم بعد ذلك قوم من قريش اختارهم
الله لصحابته من سائر قومهم وشهد لكثير منهم بالجنة. وكان أبو بكر
محبّبا سهلا وكانت رجالات قريش تألفه فأسلم على يديه من بني أميّة
عثمان بن عفّان بن أبي العاص بن أمية، ومن عشيرة بنى عمرو بن كعب بن
سعيد بن تيم طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو، ومن بني زهرة بن قصيّ
سعد بن أبي وقّاص واسمه مالك بن وهب بن مناف بن زهرة وعبد الرحمن بن
عوف بن عوف بن عبد الحرث بن زهرة، ومن بني أسد بن عبد العزى الزبير بن
العوام بن خويلد بن أسد وهو ابن صفية عمة النبيّ صلى الله عليه وسلم،
ثم أسلم من بني الحرث بن فهر أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح بن
هلال
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: فجعفر من عيال أبي طالب.
(2/410)
بن أهيب بن ضبة بن الحرث، ومن بني مخزوم بن
يقظة بن مرة بن كعب أبو سلمة عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن
مخزوم، ومن بني جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب عثمان بن مظعون بن حبيب بن
وهب بن حذافة بن جمح وأخوه قدامة، ومن بني عدي سعيد بن زيد بن عمرو بن
نفيل بن عبد الله بن قرط بن رياح [1] بن عدي وزوجته فاطمة أخت عمر بن
الخطاب بن نفيل وأبوه زيد هو الّذي رفض الأوثان في الجاهلية ودان
بالتوحيد وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه يبعث يوم القيامة أمة وحده. ثم
أسلم عمير أخو سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه ابن
غافل بن حبيب بن شمخ بن فار بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحرث بن
تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة حليف بنى زهرة، كان يرعى غنم عقبة بن أبي
معيط وكان سبب إسلامه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حلب من غنمه
شاة حائلا فدرّت [2] . ثم أسلم جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب وامرأته
أسماء بنت عميس بن النعمان بن كعب بن ملك بن قحافة الخثعميّ، والسائب
بن عثمان بن مظعون، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس واسمه
مهشم، وعامر بن فهيرة أزدى وفهيرة أمه مولاة أبي بكر. وأفد بن عبد الله
بن عبد مناف تميمي من حلفاء بني عدي. وعمار بن ياسر عنسي بن مذحج مولى
أبي مخزوم [3] وصهيب بن سنان من بني النمر بن قاسط حليف بني جدعان.
ودخل الناس في الدين أرسالا وفشا الإسلام وهم ينتحلون [4] به ويذهبون
إلى الشعاب فيصلون.
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصدع بأمره ويدعوه إلى دينه
بعد ثلاث سنين من مبدإ الوحي، فصعد على الصفا ونادى يا صباحاه فاجتمعت
إليه قريش، فقال: لو أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أما كنتم
تصدقوني؟ قالوا: بلي.
قال: فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد. ثم نزل قوله وأنذر عشيرتك
الأقربين.
وتردّد إليه الوحي بالنذارة [5] ، فجمع بني عبد المطلب وهم يومئذ
أربعون على طعام
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: ابن رزاح.
[2] وفي نسخة ثانية: فعدّت.
[3] وفي نسخة ثانية: مولى لبني مخزوم.
[4] وفي نسخة ثانية: ينتجعون به.
[5] الأصح ان يقول الوحي النزير أي الوحي القليل.
(2/411)
صنعه لهم عليّ بن أبي طالب بأمره، ودعاهم إلى الإسلام ورغبهم وحذرهم
وسمعوا كلامه وافترقوا.
ثم إنّ قريشا حين صدع وسبّ الآلهة وعابها نكروا ذلك منه ونابذوه
وأجمعوا على عداوته، فقام أبو طالب دونه محاميا ومانعا، ومشت إليه رجال
قريش يدعونه الى النصفة عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس، وأبو
البختري [1] بن هشام بن الحرث ابن أسد بن عبد العزى، والأسود بن المطلب
بن أسد بن عبد العزى، والوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم،
وأبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة ابن أخي الوليد، والعاصي بن وائل بن
هشام بن سعد بن سهم، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج بن علي بن حذيفة بن سعد
بن سهم، والأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة. فكلموا أبا
طالب وعادوه فردّهم ردّا جميلا، ثم عادوا إليه فسألوه النصفة فدعا
النبي صلى الله عليه وسلم الى بيته بمحضرهم وعرضوا عليه قولهم فتلا
عليهم القرآن وأيأسهم من نفسه وقال لأبي طالب: يا عمّاه لا أترك هذا
الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه. واستعبر وظنّ أنّ أبا طالب بدا له
في أمره، فرقّ له أبو طالب وقال يا ابن أخي قل ما أحببت فو الله لا
أسلمك أبدا. |