تاريخ ابن خلدون

وحشة كيبغا ومقتل الشجاعي
ثم انّ الشجاعي لطف محله من الناصر واختصه بالمداخلة وأشار عليه بالقبض على جماعة من الأمراء فاعتقلهم وفيهم سيف الدين كرجي وسيف الدين طونجي وطوى ذلك عن كيبغا وبلغه الخبر وهو في موكب بساحة القلعة وكان الأمراء يركبون في خدمته فاستوحش وارتاب بالشجاعي وبالناصر ثم جاء بعض مماليك الشجاعي الى كيبغا في الموكب وجرد سيفه لقتله فقتله مماليكه وتأخر هو ومن كان معه من الأمراء عن دخول القلعة وتقبضوا على سوس الجاشنكير استاذ دار وبعثوا به الى الاسكندرية ونادوا في العسكر فاجتمعوا وحاصروا القلعة وبعث اليهم السلطان أميرا فشرطوا عليه أن يمكنهم من الشجاعي فامتنع وحاصروه سبعا واشتدّ القتال وفرّ من كان بقي في القلعة من العسكر الى كيبغا وخرج الشجاعي لمدافعتهم فلم يغن شيئا ورجع الى السلطان وقد خامرة الرعب فطلب أن بحبس نفسه فمضى به المماليك الى السجن وقتلوه في طريقهم وبلغ الخبر الى كيبغا ومن كان معه فذهبت عنهم الهواجس واستأمنوا للسلطان فأمنهم واستحلفوه فحلف لهم ودخلوا الى القلعة وأفاض كيبغا العطاء في الناس وأخرج من كان في الطباق من المماليك بمداخلة الشجاعي فأنزلهم الى البلد بمقاصر الكسرو دار الوزارة والجوار وكانوا نحوا من تسعة آلاف فأقاموا بها ولما كان المحرّم فاتح سنة أربع وتسعين استعدوا ليلة وركبوا فيها جميعا وأخرجوا من كان في السجون ونهبوا بيوت الأمراء واعجلهم الصبح عن تمام قصدهم وباكرهم الحاجب بهادر ببعض العساكر فهزمهم وافترقوا وتقبض على كثير منهم فأخذ منهم العقاب مأخذه قتلا وضربا وعزلا وأفرج عن عز الدين ايبك الأفرم وأعيد الى وظيفته أمير جندار ثم هلك قريبا واستحكم أمر السلطان ونائبة كيبغا وهو مستبدّ عليه واستمرّ الحال على ذلك الى أن كان ما نذكره أن شاء الله تعالى والله تعالى ولىّ التوفيق.
خلع الناصر وولاية كيبغا العادل
ولما وقعت الوحشة بين كيبغا والشجاعي وتلتها هذه الفتنة استوحش كيبغا في ظاهر أمره وانقطع عن دار النيابة متمارضا وتردّد السلطان لعيادته ثم حمل بطانته على الاستبداد بالملك

(5/467)


والجلوس على التخت وكان طموحا لذلك من أوّل أمره فجمع الأمراء ودعاهم الى بيعته فبايعوه وخلع الناصر وركب الى دار السلطان فجلس على التخت وتلقب بالعادل وأخرج السلطان من قصور الملك وكان مع أمّه ببعض الحجر وولى حسام الدين لاشين نائبا والصاحب فخر الدين عمر بن عبد العزيز الخليلي الدار وزيرا نقله اليها من النظر في الديوان لعلاء الدين ولى العهد ابن قلاون وعز الدين ايبك الأفرم الصالحي أمير جندار وبهادر الحلبي أمير حاجب وسيف الدين منماص أستاذ دار وقسم امارة الدولة بين مماليكه وكتب الى نواب الشام بأخذ البيعة فأجابوا بالسمع والطاعة وقبض على عز الدين ايبك الخازندار نائب طرابلس وولى مكانه فخر الدين ايبك الموصلي وكان الخازندار ينزل حصن الأكراد ونزل الموصلي بطرابلس وعادت دار امارة ثم وفد سنة خمس وتسعين على العادل كيبغا طائفة من التتر يعرفون بالاربدانية ومقدّمهم طرنطاي كان مداخلا لبدولي كنجاب ابن عمه ملك التتر فلما سار الملك الى غازان خافه طرنطاي وكانت احياؤه بين غازان والموصل وأوعز غازان الى التتر الذين من مارتكن فأخذ الطرق عليهم وبعث قط قرا من أمرائه للقبض على طرنطاي ومن معه من أكابر قبيله فسار لذلك في ثمانين فارسا فقتله طرنطاي وأصحابه وعبروا الفرات الى الشام واتبعهم التتر من ديار بكر فكرّوا عليهم فهزموهم وأمر العادل سنجر الدوادار أن يتلقاهم بالرحب واحتفل نائب دمشق لقدومهم ثم ساروا الى مصر فتلقاهم شمس الدين قراسنقر وكانوا يجلسون مع الأمراء بباب القلعة فأنفوا لذلك وكان سببا لخلع العادل كما نذكر ووصل على أثرهم بقية قومهم بعد أن مات منهم كثير ثم رسخوا في الدولة وخلطهم الترك بأنفسهم وأسلموا واستخدموا أولادهم وخلطوهم بالصهر والولاء والله سبحانه وتعالى أعلم.
خلع العادل كيبغا وولاية لاشين المنصور
كان أهل الدولة نقموا على السلطان كيبغا العادل تقديم مماليكه عليهم ومساواة الاربدانية من التتر بهم فتفاوضوا على خلعه وسار الى الشام في شوّال سنة خمس وتسعين فعزل عز الدين ايبك الحموي نائب دمشق واستصفاه وولى مكانه سيف الدين عزلو من مواليه ثم سار الى حمص متصيدا ولقيه المظفر صاحب حماة فأكرمه ورده الى بلده وسار الى مصر والأمراء مجمعون خلعه والفتك بمماليكه وانتهى الى العوجاء من أرض فلسطين وبلغه عن بيسري الشمسي انه كاتب التتر فنكر عليه واغلظ له في الوعيد وارتاب الأمراء من ذلك وتمشت

(5/468)


رجالاتهم واتفقوا وركب حسام الدين لاشين وبدر الدين بيسري وشمس الدين قراسنقر وسيف الدين قفجاق وبهادر الحلبي الحاجب وبكتاش الفخري وببليك الخازندار واقوش الموصلي وبكتمر السلحدار وسلار وطغجي وكرجي ومعطاي ومن انضاف اليهم بعد أن بايعوا لاشين وقصدوا مخيم بكتوت الأزرق فقتلوه وجاءهم ميحاص فقتلوه أيضا وركب السلطان كيبغا في لفيفه فحملوا عليه فانهزم الى دمشق وبايع القوم لاشين ولقبوه المنصور وشرطوا عليه أن لا ينفر عنهم برأي فقبل وسار الى مصر ودخل القلعة ولما وصل كيبغا الى دمشق لقيه نائبة سيف الدين عزلو وأدخله القلعة واحتاط على حواصل لاشين والأمراء الذين معه وأمّن جماعة من مواليه ووصلت العساكر التي كانت مجرّدة بالرحبة ومقدّمهم جاغان وكانوا قد داخلوا لاشين في شأنه ونزلوا ظاهر دمشق واتفقوا على بيعة لاشين وأعلنوا بدعوته وانحلّ أمر العادل وسأل ولاية صرخد وألقي بيده فحبس بالقلعة لسنتين من ولايته وبعث الأمراء ببيعتهم للاشين ودخل سيف الدين جاغان الى القلعة ثم وصل كتاب لاشين ببعثه الى مصر وبعث الى كيبغا بولاية صرخد كما سأل ووصل قفجق المنصوري نائبا عن دمشق وأفرج لاشين بمصر عن ركن الدين بيبرس الجاشنكير وغيره من المماليك وولى قراسنقر نائبا وسيف الدين سلار أستاذ دار وسيف الدين بكتمر السلحدار أمير جاندار وبهادر الحلبي صاحب [1] وأقر فخر الدين الخليلي على وزارته ثم عزله وولى مكانه شمس الدين سنقر الأشقر وقبض على قراسنقر النائب وسيف الدين سلار استاذ دار آخر سنة ست وتسعين وولى مكانه سيف الدين منكوتمر الحسامي مولاه واستعمل سيف الدين قفجق المنصوري نائبا ثم أمر بتجديد عمارة جامع ابن طولون وندب لذلك علم الدين سنجر الدوادار وأخرج للنفقة فيه من خالص ماله عشرين ألف دينار ووقف عليه املاكا وضياعا ثم بعث سنة تسع وسبعين بالناصر محمد بن قلاون الى الكرك مع سيف الدين سلار أستاذ دار وقال لزين الدين بن مخلوف فقيه بيته هو ابن استاذي وأنا نائبة في الأمر ولو علمت أنه يقوم بالأمر لأقمته وقد خشيت عليه في الوقت فبعثته الى الكرك فوصلها في ربيع وقال النووي انه بعث معه جمال الدين بن أقوش ثم قبض السلطان في هذه السنة على بدر الدين بيسري الشمسي بسعاية منكوتمر نائبة لان لاشين أراد أن يعهد اليه بالأمر فردّه بيسري عن ذلك وقبحه عليه فدس منكوتمر بعض مماليك بيسري وانهوا الى السلطان أنه يريد الثورة فقبض عليه آخر ربيع الثاني من السنة وأودعه السجن فمات في محبسه وقبض في هذه السنة على
__________
[1] بياض في الأصل، ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على اسم هذه القاطعة أو البلدة.

(5/469)


بهادر الحلبي وعلى عز الدين ايبك الحموي ثم أمر في هذه السنة بردّ الأقطاعات في النواحي وبعث الأمراء والكتاب لذلك وتولّى ذلك عبد الرحمن الطويل مستوفي الدولة وقال مؤرّخ حماة المؤيد كانت مصر منقسمة على أربعة وعشرين قيراطا أربعة منها للسلطان والكلف والرواتب وعشرة للامراء والإطلاقات والزيادات وعشرة للاجناد الجلقة فصيروها عشرة للامراء والإطلاقات والزيادات والأجناد وأربعة عشر للسلطان فضعف الجيش وقال النووي قرّر للخاص في الروك الجيزة واطفج ودمياط ومنفلوط والكوم الأحمر وحولت السنة الخراجية من سنة ست وتسعين وهذا في العدد انما هو بعد انقضاء ثلاثة وثلاثين سنة واحدة وهي تفاوت ما بين السنين الشمسية والقمرية وهو حجة ديوان الجيش في انقضاء التفاوت الجيشي وهو تحويل بالأقلام فقط وليس فيه نقص شيء ثم أقطعت البلاد بعد الروك واستثنيت المراتب الجسرية والرزق الأحباسية انتهى كلام النووي رحمه الله والله تعالى أعلم.
فتح حصون سيس
ولما ولي سيف الدين منكوتمر النيابة وكانت مختصا بالسلطان استولى على الدولة وطلب من السلطان أن يعهد له بالملك فنكر ذلك الأمراء وثنوا عنه السلطان فتنكر لهم منكوتمر وأكثر السعاية فيهم حتى قبض على بعضهم وتفرق الآخرون في النواحي وبعث السلطان جماعة منهم سنة سبع وتسعين لغزو سيس وبلاد الأرمن كان منهم بكتاش أمير سلاح وقراسنقر وبكتمر السلحدار وتدلار وتمراز ومعهم الالفي نائب صفد في العساكر ونائب طرابلس ونائب حماة ثم أردفهم بعلم الدين سنجر الدوادار وجاءت رسل صاحب سيس وأغاروا عليها ثلاثة أيام واكتسحوها ثم مرّوا ببغراس ثم بمرج انطاكية وأقاموا بها ثلاثا ومرّوا بجسر الحديد ببلاد الروم ثم قصدوا تل حمدون فوجدوها خاوية وقد انتقل الأرمن الذين بها الى قلعة النجيمة وفتحوا قلعة مرعش وحاصروا قلعة النجيمة أربعين يوما وافتتحوها صلحا وأخذوا أحد عشر حصنا منها المصيصة وحموم وغيرهما واضطرب أهلها من الخوف فأعطوا طاعتهم ورجع العساكر الى حلب وبلغ السلطان لاشين أنّ التتر قاصدون الشام فجهز العساكر الى دمشق مع جمال الدين أقوش الأفرم وأمره أن يخرج العساكر من دمشق الى حلب مع قفجق النائب فسار الى حمص وأقام بها ثم بلغهم الخبر برجوع التتر ووصل أمر السلطان الى سيف الدين الطباخي نائب حلب بالقبض على بكتمر السلحدار والالفي نائب صفد وجماعة

(5/470)


من الأمراء بحلب بسعاية بكتمر وحاول الطباخي ذلك فتعذر عليه وبرز تدلار الى بسار فتوفي بها وأقام الآخرون وشعروا بذلك فلحقوا بقفجق النائب على حمص فآمنهم وكتب الى السلطان يشفع فيهم فأبطأ جوابه وعزله سيف الدين كرجي وعلاء الدين ايدغري من اجارتهم فاستراب وولى السلطان مكانه على دمشق جاغان فكتب الى قفجق بطلبهم فنفروا وافترق عسكره وعبر الفرات الى العراق ومعه أصحابه بعد أن قبضوا على نائب حمص واحتملوه ولحقهم الخبر بقتل السلطان لاشين وقد تورطوا في بلاد العدوّ فلم يمكنهم الرجوع ووفدوا على غازان بنواحي واسط وكان قفجق من جند التتر وأبوه من جند غازان خصوصا ولما وقعت الفتنة بين لاشين وغازان وكان فيروز أتابك غازان مستوحشا من سلطانه فكاتب لاشين في اللحاق به واطلع سلطانه على كتبه فأرسل الى قطلو شاه نائب حران فقبض على فيروز وقتله وقتل غازان أخويه في بغداد والله تعالى أعلم.
مقتل لاشين وعود الناصر محمد بن قلاون الى ملكه
كان السلطان لاشين قد فوض امر دولته الى مولاه منكوتمر فاستطال وطمع في الاستبداد ونكره الأمراء كما قدّمناه فأغرى السلطان بهم وشردهم كلّ مشرد بالنكبة والبعاد وكان سيف الدين كرجي من الجاشنكير ومقدّما عليهم كما كان قراسنقر مع الأشرف وكان جماعة المماليك معصوصبين عليه وسعى منكوتمر في نيابته على القلاع التي افتتحت من الأرمن ببلاد سيس فاستعفى من ذلك وأسرّها في نفسه وأخذ في السعاية على منكوتمر وظاهره على أمره قفجي من كبار الجاشنكيرية وكان لطقجي صهر من كبار الجاشنكيرية اسمه طنطاي أغلظ له منكوتمر يوما في المخاطبة فامتعض وفزع الى كرجي وطقجي فاتفقوا على اغتيال السلطان وقصدوه ليلا وهو يلعب بالشطرنج وعنده حسام الدين قاضي الحنفية فأخبره كرجي بغلق الأبواب على المماليك فنكره ولم يزل يتصرّف أمامه حتى ستر سيفه بمنديل طرحه عليه فلما قام السلطان لصلاة العتمة نحاها عنه وعلاه بالسيف وافتقد السلطان سيفه فتعاوروه بسيوفهم حتى قتلوه وهموا بقتل القاضي ثم تركوه وخرج كرجي الى طقجي بمكان انتظاره وقصدوا منكوتمر وهو بدار النيابة فاستجار بطقجي فأجاره وحبسه بالجبّ ثم راجعوا رأيهم واتفقوا على قتله فقتلوه وكان مقتل لاشين في ربيع سنة ثمان وتسعين وكان من موالي علي بن المعز ايبك فلما غرب للقسطنطينية تركه بالقاهرة واشتراه المنصور قلاون من القاضي بحكم البيع على الغائب بألف درهم وكان يعرف بلاشين الصغير لانه كان هناك لاشين آخر أكبر منه وكان نائبا

(5/471)


بحمص ولما قتل اجتمع الأمراء وفيهم ركن الدين بيبرس الجاشنكير وسيف الدين سلار أستاذ دار وحسام الدين لاشين الرومي وقد وصل على البريد من بلاد سيس جمال الدين أقوش الأفرم وقد عاد من دمشق بعد ان أخرج النائب والعساكر الى حمص وعز الدين ايبك الخزندار وبدر الدين السلحدار فضبطوا القلعة وبعثوا الى الناصر محمد بن قلاون بالكرك يستدعونه للملك فاعتزم طقجي على الجلوس على التخت واتفق وصول الأمراء الذين كانوا بحلب منصرفين من غزاة سيس وفيهم سيف الدين كرجي وشمس الدين سرقنشاه ومقدمهم بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح فأشار الأمراء على طقجي بالركوب للقائهم فأنف أولا ثم ركب ولقيهم وسألوه عن السلطان فقال قتل فقتلوه وكان كرجي عند القلعة فركب هاربا وأدرك عند القرافة وقتل ودخل بكتاش والأمراء للقلعة لحول من غزاة سيس ثم اجتمعوا بمصر وكان الأمر دائرا بين سلار وبيبرس وايبك الجامدار وأقوش الأفرم وبكتمر أمير جندار وكرت الحاجب وهم ينتظرون وصول الناصر من الكرك وكتبوا الى الأمراء بدمشق بما فعلوه فوافقوا عليه ثم قبضوا على نائبها جاغان الحسامي وتولى ذلك بهاء الدين قرا ارسلان السيفي فاعتقل ومات لايام قلائل فبعث الأمراء بمصر مكانه سيف الدين قطلوبك المنصوري ثم وصل الناصر محمد بن قلاون الى مصر في جمادى سنة ثمان وتسعين فبايعوا له وولى سلار نائبا وبيبرس أستاذ دار وبكتمر الجوكندار أمير جندار وشمس الدين الأعسر وزيرا وعزل فخر الدين بن الخليلي بعد أن كان أقرّه وبعث على دمشق جمال الدين أقوش الافرم عوضا عن سيف الدين قطلوبك واستدعاه الى مصر فولاه حاجبا وبعث على طرابلس سيف الدين كرت وعلى الحصون سيف الدين كراي وأقرّ بليان الطباخي على حلب وأفرج عن قراسنقر المنصوري وبعثه على الضبينة ثم نقله الى حماة عند ما وصله وفاة صاحبها المظفر آخر السنة وخلع على الأمراء وبث العطايا والأرزاق واستقرّ في ملكه وبيبرس وسلار مستوليان عليه والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده.
الفتنة مع التتر
قد كنا قدّمنا ما كان من فرار قفجق نائب دمشق الى غازان وحدوث الوحشة بين المملكتين فشرع غازان في تجهيز العساكر الى الشام وبعث شلامش بن امال بن بكو في خمسة وعشرين ألفا في عساكر المغل ومعه أخوه قطقطو وأمره بالمسير من جهة سيس فسار لذلك ثم حدّثته نفسه بالملك فخاضع وطلب الملك لنفسه وكاتب ابن قزمان أمير التركمان فسار اليه في

(5/472)


عشرة آلاف فارس وسار في ستين ألف فارس وسار الى سيواس فامتنعت عليه وكتب الى صاحب مصر مع مخلص الرومي يستنجده فبعث الى نائب دمشق بانجاده وبلغ الخبر غازان فبعث لقتاله مولاي من أمراء التتر في خمسة وثلاثين ألف فارس ولحقه الى سيواس فانتقض عليه العسكر ورجع التتر الى مولاي ولحق التركمان بالجبال ولحق هو بسيس في فل من العسكر وسار الى دمشق ثم الى مصر وسأل من السلطان لاشين أن يمده بعسكر ينقل به عياله الى الشام فأمر السلطان نائب حلب أن ينجده على ذلك فبعث معه عسكرا عليهم بكتمر الحلبي وساروا الى سيواس فاعترضهم التتر وهزموهم وقتل الحلبي ونجا شلامش الى بعض القلاع فاستنزله غازان وقتله واستقرّ أخوه قطقطو ومخلص وأقطع لهما وانتظما في عسكر مصر والله تعالى أعلم.
واقعة التتر على الناصر واستيلاء غازان على الشام ثم ارتجاعه منه
قد كنا قدّمنا ما حدث من الوحشة بين التتر وبين الترك بمصر وقدّمنا من أسبابها ما قدّمناه فلما بويع الناصر بلغه أنّ غازان زاحف الى الشام فتجهز وقدّم العساكر مع قطلبك الكبير وسيف الدين غزّار، وسار على أثرهم آخر سنة ثمان وسبعين وانتهى الى غزة فنمي اليه أنّ بعض المماليك مجمعون للتوثب عليه وأنّ الاربدانية الذين وفدوا من التتر على كيبغا داخلوهم في ذلك وبينهما هو يستكشف الخبر إذ بمملوك من أولئك قد شهر سيفه واخترق صفوف العساكر وهم مصطفون بظاهر غزة فقتل لحينه وتتبع أمرهم من هذه البادرة حتى ظهرت حليتها فسبق الاربدانية ومقدّمهم طرنطاي وقتل بعض المماليك وحبس الباقون بالكرك ورحل السلطان الى عسقلان ثم الى دمشق ثم سار ولقي غازان ما بين سلمية وحمص بمجمع المروج ومعه الكرج والأرمن في مقدّمته أمراء الترك الذين هربوا من الشام وهم قفجق المنصوري وبكتمر السلحدار وفارس الدين البكي وسيف الدين غزار فكانت الجولة منتصف ربيع فانهزمت ميمنة التتر وثبت غازان ثم حمل على القلب فانهزم الناصر واستشهد كثير من الأمراء وفقد حسام الدين قاضي الحنفية وعماد الدين إسماعيل ابن الأمير وسار غازان الى حمص فاستولى على الذخائر السلطانية وطار الخبر الى دمشق فاضطرب العامّة وثار الغوغاء وخرج المشيخة الى غازان يقدمهم بدر الدين بن جماعة وتقيّ الدين بن تيمية وجلال الدين القزويني وبقي البلد فوضى وخاطب المشيخة غازان في الأمان فقال قد خالفكم الى بلدكم

(5/473)


كتاب الأمان ووصل جماعة من أمرائه فيهم إسماعيل ابن الأمير والشريف الرضي وقرأ كتاب الأمان ويسمونه بلغاتهم الفرمان وترجل الأمراء بالبساتين خارج البلد وامتنع علم الدين سلحدار بالقلعة فبعث اليه إسماعيل يستنزله بالأمان فامتنع فبعث اليه المشيخة من أهل دمشق فزاد امتناعا ودس اليه الناصر بالتحفظ وأنّ المدد على غزة ووصل قفجق بكتمر فنزلوا الميدان وبعثوا الى سنجر صاحب القلعة في الطاعة فأساء جوابهم وقال لهم أنّ السلطان وصل وهزم عساكر التتر التي اتبعته ودخل قفجق الى دمشق فقرأ عهد غازان له بولاية دمشق والشام جميعا وجعل اليه ولاية القضاء وخطب لغازان في الجامع وانطلقت أيدي العساكر في البلد بأنواع جميع العيث وكذا في الصالحية والقرى التي بها والمزّة وداريا وركب ابن تيمية الى شيخ الشيوخ نظام الدين محمود الشيبانيّ وكان نزل بالعادلية فأركبه معه الى الصالحية وطردوا منها أهل العيث وركب المشيخة الى غازان شاكين فمنعوا من لقائه حذرا من سطوته بالتتر فيقع الخلاف ويقع وبال ذلك على أهل البلد فرجعوا الى الوزير سعد الدين ورشد الدين فأطلقوا لهم الأسرى والسبي وشاع في الناس أنّ غازان أذن للمغل في البلد وما فيه ففزع الناس الى شيخ الشيوخ وفرضوا على أنفسهم أربعمائة ألف درهم مصانعة له على ذلك وأكرهوا على غرمها بالضرب والحبس حتى كلت ونزل التتر بالمدرسة العادلية فأحرقها ارجواش نائب القلعة ونصب المنجنيق على القلعة بسطح جامع بني أمية فأحرقوه فأعيد عمله وكان المغل يحرسونه فانتهكوا حرمة المسجد بكلّ محرّم من غير استثناء وهجم أهل القلعة فقتلوا النجار الّذي كان يصنع المنجنيق وهدم نائب القلعة ارجواش ما كان حولها من المساكن والمدارس والابنية ودار السعادة وطلبوا ما لا يقدرون عليه وأمتهن القضاة والخطباء وعطلت الجماعات والجمعة وفحش القتل والسبي وهدمت دار الحديث وكثير من المدارس ثم قفل الى بلده بعد ان ولى على دمشق والشام قفجق وعلى حماة وحمص بكتمر السلحدار وعلى صفد وطرابلس والساحل فارس الدين البكي وخلف نائبة قطلو شاه في ستين ألف حامية للشام واستصحب وزيره بدر الدين بن فضل الله وشرف الدين ابن الأمير وعلاء الدين بن القلانسي وحاصر قطلو شاه القلعة فامتنعت عليه فاعتزم على الرحيل وجمع له قفجق الأوغاد في جمادى من السنة وبقي قفجق منفردا بأمره فأمن الناس بعض الشيء وأمر مماليكه ورجعت عساكر التتر من اتباع الترك بعد ان وصلوا الى القدس وغزة والرملة واستباحوا ونهبوا وقائدهم يومئذ مولاي من أمراء التتر فخرج اليه ابن تيمية واستوهبه بعض الأسرى فأطلقهم وكان الملك الناصر لما وصل الى القلعة ووصل معه كيبغا العادل وكان حضر

(5/474)


معه المعركة من محلّ نيابته بصرخد فلما وقعت الهزيمة سار مع السلطان الى مصر وبقي في خدمة النائب سلار وجرّد السلطان العساكر وبث النفقات وسار الى الصالحية وبلغه رحيل غازان من الشام ووصل اليه بليان الطباخي نائب حلب على طريق طرابلس وجمال الدين الافرم نائب دمشق وسيف الدين كراي نائب طرابلس واتفق السلطان في عساكرهم وبلغه أنّ قطلو شاه نائب غازان رحل من الشام على أثر غازان فتقدّم بيبرس وسار في العساكر ووقعت المراسلة بينه وبين قفجق وبكتمر والبكي فأذعنوا للطاعة ووصلوا الى بيبرس وسلار فبعثوا بهم الى السلطان وهو في الصالحية في شعبان من السنة فركب للقائهم وبالغ في تكرمتهم والاتطاع لهم وولى قفجق على الشوبك ورحل عائدا الى مصر ودخل بيبرس وسلار الى مصر وقرّروا وفي ولايتها جمال الدين أقوش الافرم بدمشق وفي نيابة حلب قراسنقر المنصوري الجوكندار لاستعفاء بليان الطباخي عنها وفي طرابلس سيف الدين قطلبك وفي حماة كيبغا العادل وفي قضاء دمشق بدر الدين بن جماعة لوفاة امام الدين بن سعد الدين القزويني وعاد بيبرس وسلار الى مصر منتصف شوّال وعاقب الافرم كلّ من استخدم للتتر من أهل دمشق وأغزى عساكره جبل كسروان والدرزية لما نالوا من العسكر عند الهزيمة وألزم أهل دمشق بالرماية وحمل السلاح وفرضت على أهل دمشق ومصر الأموال عن بعث الخيالة والمساكن لاربعة أشهر وضمان للقرى وكثر الإرجاف سنة سبعمائة بحركة التتر فتوجه السلطان الى الشام بعد أن فرض على الرعية أموالا واستخرجها لتقوية عساكره وأقام بظاهر غزة أياما يؤلف فيها الأمصار ثم بعث ألفي فارس الى دمشق وعاد الى مصر منسلخ ربيع الآخر وجاء غازان بعساكره وأجفلت الرعايا أمامه حتى ضاقت بهم السبل والجهات فنزل ما بين حلب ومرس ونازلها واكتسح البلاد الى انطاكية وجبل السمر وأصابهم هجوم البرد وكثرة الامطار والوحل وانقطعت الميرة عنهم وعدمت الأقوات وصوعت المراعي من كثرة الثلج وارتحلوا الى بلادهم وكان السلطان قد جهز العساكر كما قلنا الى الشام صحبة بكتمر السلحدار نائب صفد وولى مكانه سيف الدين فنحاص المنصوري ثم وقعت المراسلة بين السلطان الناصر وبين غازان وجاءت كتبه وبعث الناصر كتبه ورسله وولى السلطان على حمص فارس الدين البكي والله سبحانه وتعالى أعلم.

(5/475)


وفاة الخليفة الحاكم وولاية ابنه المستكفي والغزاة الى العرب بالصعيد
ثم توفي الخليفة الحاكم بأمر الله أحمد وهو الّذي ولاه الظاهر وبايع له سنة ستين فتوفي سنة احدى وسبعمائة لإحدى وأربعين سنة من خلافته وقد عهد لابنه أبي الربيع سليمان فبايع له الناصر ولقبه المستكفي وارتفعت شكوى الرعايا في الصعيد من الاعراب وكثر عيثهم فجهز السلطان العساكر مع شمس الدين قراسنقر فاكتسحهم وراجعوا الطاعة وقرّر عليهم مالا حملوه ألف ألف وخمسمائة ألف درهم وألف فرس واحدا وألفي جمل اثنين وعشرة آلاف ألف رأس من الغنم وأظهروا الاستكانة ثم أظهروا النفاق فسار اليهم كافل المملكة سلار وبيبرس في العساكر فاستلحموهم وأبادوهم وأصابوا أموالهم ونعمهم ورجعوا واستأذن بيبرس في قضاء فرضه فخرج حاجا وكان أبو نمى أمير مكة قد توفي وقام بأمره في مكة ابناه رميثة وخميصة واعتقلا أخويهما عطيفة وأبا الغيث فنقبا السجن وجاءا الى بيبرس مستعديين على أخويهما فقبض عليهما بيبرس وجاء بهما الى القاهرة وفي سنة ستين وسبعمائة بعدها خرجت الشواني مشحونة بالمقاتلة الى جزيرة أرواد في بحر طرطوس وبها جماعة من الافرنج قد حصنوها وسكنوها فملكوها وأسروا أهلها وخربوها وأذهبوا آثارها والله تعالى ولىّ التوفيق.
تقرير العهد لأهل الذمة
حضر في سنة سبعمائة وزير من المغرب في غرض الرسالة فرأى حال أهل الذمة وترفهم وتصرفهم في أهل الدولة فنكره وقبح ذلك واتصل بالسلطان نكيره فأمر بجمع الفقهاء للنظر في الحدود التي تقف عندها أهل الذمّة بمقتضى عهود المسلمين لهم عند الفتح وأجمع الملاء فيهم على ما نذكر وهو أن يميز بين أهل الذمة بشعار يخصهم فالنصارى بالعمائم السود واليهود بالصفر والنساء منهن بعلامات تناسبهن وأن لا يركبوا فرسا ولا يحملوا سلاحا وإذا ركبوا الحمير يركبونها عرضا ويتنحون وسط الطريق ولا يرفعوا أصواتهم فوق صوت المسلمين ولا يعلوا بناءهم على بناء المسلمين ولا يظهروا شعائرهم ولا يضربوا بالنواقيس ولا ينصروا مسلما ولا يهودوه ولا يشتروا من الرقيق مسلما ولا من سباه مسلم ولا من جرت عليه سهام المسلمين ومن دخل منهم الحمام يجعل في عنقه جرسا يتميز به ولا ينقشوا فص الخاتم

(5/476)


بالعربي ولا يعلموا أولادهم القرآن ولا يخدّموا في أعمالهم الشاقة مسلما ولا يرفعوا النيران ومن زنا منهم بمسلمة قتل وقال البترك بحضرة العدول حرمت على أهل ملتي وأصحابي مخالفة ذلك والعدول عنه وقال رئيس اليهود أوقعت الكلمة على أهل ملتي وطائفتي وكتب بذلك إلى الأعمال (ولنذكر) في هذا الموضع نسخة كتاب عمر بالعهد لأهل الذمّة بعد كتاب نصارى الشام ومصر اليه ونصه هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى أهل الشام ومضر لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا على أنفسنا أن لا تحدث في مدائننا ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ولا علية ولا صومعة راهب ولا نجدّد ما خرب منها ولا ما كان في خطط وأن نوسع أبوابنا للمارّة ولبني السبيل وأن ننزل من مرّ بنا من المسلمين ثلاث ليال نطعمهم ولا نؤوي في كنائسنا ولا في منازلنا جاسوسا ولا نكتم عيبا للمسلمين ولا نعلم أولادنا القرآن ولا نظهر شرعنا ولا ندعو اليه أحدا ولا نمنع أحد من ذي قرابتنا الدخول في دين الإسلام إن أرادوه وأن نوقر المسلمين ونقوم لهم في مجالسنا إذا أرادوا الجلوس ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا نتسمى بأسمائهم ولا نتكنى بكناهم ولا نركب السروج ولا نتقلد بالسيوف ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله معنا ولا ننقش على خواتمنا بالعربية وأن نجز مقدّم رءوسنا ونكرم نزيلنا حيث كنا وأن نشدّ الزنانير على أوساطنا ولا نظهر صلباننا ولا نفتح كنفنا في طريق المسلمين ولا أسواقهم ولا نضرب بنواقيسنا في شيء من حضرة المسلمين ولا نخرج شعانيننا ولا طواغيتنا ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ولا نوقد النيران في طريق المسلمين ولا أسواقهم ولا نجاورهم بموتانا ولا نتخذ من الرقيق ما جرت عليه سهام المسلمين ولا نطلع في منازلهم ولا نعلي منازلنا فلما أتى عمر بالكتاب زاد فيه ولا نضرب أحدا من المسلمين شرطنا ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا وقبلنا عليه الأمان فإن نحن خلفنا في شيء مما شرطنا لكم علينا وضمناه على أنفسنا وأهل ملتنا فلا ذمّة لنا عليكم وقد حلّ بنا ما حلّ بغيرنا من أهل المعاندة والشقاق فكتب عمر رضي الله عنه أمض ما سألوه وألحق فيه حرفا اشترطه عليهم مع ما اشترطوه من ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده وعلى أحكام هذا الكتاب جرت فتاوى الفقهاء في أهل الذمّة نصا وقياسا وأمّا كنائسهم فقال أبو هريرة أمر عمر بهدم كل كنيسة استحدثت بعد الهجرة ولم يبق الا ما كان قبل الإسلام وسير عروة بن محمد فهدم الكنائس بصنعاء وصالح القبط على كنائسهم وهدم بعضها ولم يبق من الكنائس الا ما كان قبل الهجرة وفي اباحة رمّها وإصلاحها لهم خلاف معروف بين الفقهاء والله تعالى ولىّ التوفيق
.

(5/477)


إيقاع الناصر بالتتر على شقحب
ثم تواترت الأخبار سنة اثنتين وسبعمائة بحركة التتر وأنّ قطلو شاه وصل الى جهة الفرات وأنه قدم كتابه الى نائب حلب بأنّ بلادهم محلة وأنهم يرتادون المراعي بنواحي الفرات فخادع بذلك عن قصده ويوهم الرعية أن يحفلوا من البسائط ثم وصلت الأخبار بإجازتهم الفرات فأجفل الناس أمامهم كل ناحية ونزل التتر مرعش وبعث العساكر من مصر مددا لأهل الشام فوصلوا الى دمشق وبلغهم هنالك أنّ السلطان قازان وصل في جيوش التتر الى مدينة الرحبة ونازلها فقدّم نائبها قرى وعلوفة واعتذر له بأنه في طاعته الى أن يرد الشام فإن ظفر به فالرحبة أهون شيء وأعطاه ولده رهينة على ذلك فأمسك عنه ولم يلبث أن عبر الفرات راجعا إلى بلاده وكتب إلى أهل الشام كتابا مطوّلا ينذرهم فيه أن يستمدّوا عسكر السلطان أو يستجيشوه ويخادعهم بلين القول وملاطفته وتقدّم قطلو شاه وجوبان الى الشام بعساكر التتر يقال في تسعين ألفا أو يزيدون وبلغ الخبر الى السلطان فقدم العساكر من مصر وتقدّم بيبرس كافل المملكة الى الشأم والسلطان وسلار على اثره ومعهم الخليفة أبو الربيع وساروا في التعبية ودخل بيبرس دمشق وكان النائب بحلب قراسنقر المنصوري وقد اجتمع اليه كيبغا العادل نائب حماة وأسد الدين كرجي نائب طرابلس بمن معهم من العساكر فأغار التتر على القرينين وبها أحياء من التركمان كانوا أجفلوا أمامهم من الفرات فاستاقوا أحياءهم بما فيها واتبعهم العساكر من حلب فأوقعوا بهم واستخلصوا أحياء التركمان من أيديهم وزحف قطلو شاه وجوبان بجموعهما الى دمشق يظنان أن السلطان لم يخرج من مصر والعساكر والمسلمون مقيمون بمرج الصفر وهو المسمى بشقحب مع ركن الدين بيبرس ونائب دمشق أقوش الافرم ينتظرون وصول السلطان فارتابوا لزحف التتر وتأخروا عن مراكزهم قليلا وارتاعت الرعايا من تأخرهم فأجفلوا الى نواحي مصر وبينما هم كذلك إذ وصل السلطان في عساكره وجموعه غرّة رمضان من السنة فرتب مصافه وخرج لقصدهم فالتقى الجمعان بمرج الصفر وحمل التتر على ميمنة السلطان فثبت الله أقدامهم وصابروهم الى أن غشيهم الليل واستشهد جماعة في الجولة ثم انهزم التتر ولجئوا الى الجبل يعتصمون به واتبعهم السلطان فأحاط بالجبل الى أن أظلّ الصباح وشعر المسلمون باستماتتهم فأفرجوا لهم من بعض الجوانب وتسلل معظمهم مع قطلو شاه وجوبان وحملت العساكر الشامية على من بقي منهم

(5/478)


فاستلحموهم وأبادوهم واتبعت الخيول آثار المنهزمين وقد اعترضتهم الا وحال بما كان السلطان قدّم إلى أهل الأنهار بين أيديهم فبثقوها ووحلت خيولهم فيها فاستوعبوهم قتلا وأسرا وكتب السلطان الى قازان بما يجدّد عليه الحسرة ويملأ قلبه رعبا وبعث البشائر الى مصر ثم دخل الى دمشق وأقام بها عيد الفطر وخرج لثالثه منها الى مصر فدخلها آخر شوّال في موكب حفل ومشهد عظيم وقر الإسلام بنصره وتيمن بنقيب نوّابه وأنشده الشعراء في ذلك وفي هذه السنة توفي كيبغا العادل نائب حماة وهو الّذي كان ولىّ الملك بمصر كما تقدّم ذكره فدفن بدمشق وتوفي أيضا بليان الجوكندار نائب حمص وتوفي أيضا القاضي تقيّ الدين بن دقيق العيد بمصر لولايته ست سنين بها وولى مكانه بدر الدين بن جماعة وهلك قازان ملك التتر يقال أصابته حمى حادّة للهزيمة التي بلغته فهلك وولىّ أخوه خربندا وفيها أفرج السلطان عن رميثة وحميصة ولدى الشريف أبي نمى وولاهما بدلا من أخويهما عطيفة وأبي الغيث والله تعالى أعلم.

(5/479)


أخبار الأرمن أخبار الأرمن وغزو بلادهم وادعاؤهم الصلح ثم مقتل ملكهم صاحب سيس على يد التتر
قد كان تقدّم لنا ذكر هؤلاء الأرمن وأنهم وإخوتهم الكرج من ولد قويل بن ناحور بن آزر وناحور أخوا إبراهيم عليه السّلام وكانوا أخذوا بدين النصرانية قبل الملة وكانت مواطنهم أرمينية وهي منسوبة إليهم وقاعدتها خلاط وهي كرسيّ ملكهم ويسمى ملكهم النكفور ثم ملك المسلمون بلادهم وضربوا الجزية على من بقي منهم واختلف عليهم الولاة ونزلت بهم الفتن وخرجت خلاط فانتقل ملكهم إلى سيس عند الدروب المجاورة لحلب وانزووا إليها وكانوا يؤدّون الضريبة للمسلمين وكان ملكهم لعهد نور الدين العادل قليج بن اليون وهو صاحب ملك الدروب واستخدم للعادل وأقطع له ملك المصيصة وأردن وطرسوس من يد الروم وأبقاه صلاح الدين بعد العادل نور الدين على ما كان عليه من الخدمة وغدر في بعض السنين بالتركمان فعزاهم صلاح الدين وأخنى عليهم حتى أذعنوا ورجع إلى حاله من أداء الجزية والطاعة وحسن الجوار بثغور حلب ثم ملكهم لعهد الظاهر هيثوم بن قسطنطين ابن يأنس ويظهر أنه من أعقاب قليج أو من أهل بيته ولما ملك هلاكو العراق والشام دخل هيثوم في طاعته وأقرّه على سلطانه وأجلب مع التتر في غزواتهم على الشام وغزا سنة اثنتين وستين صاحب بلاد الروم من التتر واستنفر معه بني كلاب من أعراب حلب وعاثوا في نواحي عنتاب ثم ترهب هيثوم بن قسطنطين ونصب ابنه للملك وبعث الظاهر العساكر سنة أربع وستين ومعه قلاون المنصور صاحب حماة إلى بلادهم فلقيهم ليون في جموعه قبل الدربند فانهزم وأسروا خرّب العساكر مدينة سيس وبذل هيثوم الأموال والقلاع في فداء ابنه ليون فشرط عليه الظاهر أن يستوهب سنقر الأشقر وأصحابه من أبغا بن هلاكو وكان هلاكو أخذهم من سجن حلب فاستوهبهم وبعث بهم وأعطى خمسا من القلاع منها رغبان ومرزبان لما توفي هيثوم سنة تسع وستين وملك بعده ابنه ليون وبقي الملك في عقبه وكان بينهم وبين الترك نفرة واستقامة لقرب جوارهم من حلب والترك يردّدون العساكر إلى بلادهم حتى أجابوا بالصلح على الطاعة والجزية وشحنة التتر مقيم عندهم بالعساكر من قبل شحنة بلاد الروم ولما توفي ليون ملك بعده ابنه هيثوم ووثب عليه أخوه سنباط فخلعه وحبسه بعد أن سمل عينه الواحدة وقتل أخاهما الأصغر يروس ونازلت عساكر الترك لعهده

(5/480)


قلعة حموض من قبل العادل كيبغا فاستضعف الأرمن سنباط وهموا به فلحق بالقسطنطينية وقدموا عليهم أخاه رندين فصالح المسلمين وأعطاهم مرعش وجميع القلاع على جيحان وجعلوهم تخما ورجعت العساكر عنهم ثم أفرج رندين عن أخيه هيثوم الأعور سنة تسع وستين فأقام معه قليلا ثم وثب برندين ففرّ إلى القسطنطينية وأقام هيثوم بسيس في ملك الأرمن وقدم ابن أخيه تروس معسول أتابكا واستقامت دولته فيهم وسار مع قازان في وقعته مع الملك الناصر فعاث الأرمن في البلاد واستردّوا بعض قلاعهم وخربوا تل حمدون فلما هزم الناصر التتر سنة اثنتين وسبعمائة بعث العساكر إلى بلادهم فاسترجعوا القلاع وملكوا حمص واكتسحوا بسائط سيس وما إليها ومنع الضريبة المقرّرة عليهم فأنفذ نائب حلب قراسنقر المنصوري سنة سبع وستمائة العساكر إليهم مع أربعة من الأمراء فعاثوا في بلادهم واعترضهم شحنة التتر بسيس فهزموهم وقتل أميرهم وأسر الباقون وجهز العساكر من مصر مع بكتاش الفخري أمير سلاح من بقية البحرية وانتهوا إلى غزة وخشي هيثوم مغبة هذه الحادثة فبعث إلى نائب حلب بالجزية التي عليهم لسنة خمس وقبلها وتوسل بشفاعته إلى السلطان فشفعه وأمنه وكان شحنة التتر ببلاد الروم لهذا العهد أرفلي وكان قد أسلم لما أسلم ابغا وبنى مدرسة بأذنة وشيد فيها مئذنة ثم حدث بينه وبين هيثوم صاحب سيس وحشة فسعى فيه هيثوم عند خربندا ملك التتر بأنه مداخل لأهل الشام وقد واطأهم على ملك سيس وما إليها واستشهد له بالمدرسة والمئذنة وكتب بذلك إلى أرفلي بعض قرابته فأسرّها في نفسه واغتاله في صنيع دعاه إليه وقبض على وافد من مماليك الترك كان عند هيثوم من قبل نائب حلب يطلب الجزيرة المقررة عليه وهو آيدغدي الشهرزوريّ ولم يزل في سجن التتر الى أن فرّ من محبسه بتوريز سنة عشر وسبعمائة ونصب لملك سيس أوشني بن ليون وسار ارفلي إلى خربندا فسابقه ألتاق أخو هيثوم بنسائه وولده مستعدين عليه فتفجع لهم خربندا وسط أرفلي وقتله وأقر أوشين أخاه في ملكه لسيس فبادر إلى مراسلة الناصر بمصر وتقرير الجزية عليه كما كانت وما زال يبعثها مع الأحيان والله تعالى أعلم.
مراسلة ملك المغرب ومهاداته
كان ملك المغرب الأقصى من بني مرين المتولين أمره من بعد الموحدين وهو يوسف بن يعقوب بن عبد الحق قد بعث الى السلطان الناصر سنة أربع وسبعمائة رسوله علاء الدين آيدغدي الشهرزوريّ من الشهرزورية المقربين هنالك أيام الظاهر بيبرس ومعه هدية حافلة من الخيل

(5/481)


والبغال والإبل وكثير من ماعون المغرب وسائر طرفه جملة من الذهب العين في ركب عظيم من المغاربة ذاهبين لقضاء فرضهم فقابلهم السلطان بأبلغ وجوه التكرمة وبعث معهم أميرا لإكرامهم وقراهم في طريقهم حتى قضوا فرضهم وعاد الرسول آيدغدي المذكور من حجه سنة خمس فبعث السلطان معه مكافأة هديتهم بما يليق بها من النفاسة وعين لذلك أميرين من بابه آيدغدي البابلي وآيدغدي الخوارزمي كل منهما لقبه علاء الدين فانتهوا إلى يوسف بن يعقوب بمكانه من حصار تلمسان كما هو في ربيع الآخر سنة ست قابلهم بما يجب لهم ولمرسلهم وأوسع لهم في الكرامة والحباء وبعثهم إلى ممالكه بفاس ومراكش ليتطوّفا بها ويعاينا مسرّتها وهلك يوسف بن يعقوب بمكانه من حصار تلمسان وانطلق الرسولان المذكوران من فاس راجعين من رسالتهما في رجب سنة سبع في ركب عظيم من أهل المغرب اجتمعوا عليهم لقصد الحج ولقوا السلطان أبا ثابت البزولي [1] من بعد يوسف بن يعقوب في طريقهم فبالغ في التكرمة والإحسان إليهم وبعث إلى مرسلهم الملك الناصر بهدية أخرى من الخيل والبغال والإبل ثم مرّوا بتلمسان وبها أبو زيان وأبو حمو ابنا عثمان بن يغمراس فلم يصرفا إليهما وجها من القبول وطلبا منهما خفير يخفرهما إلى تخوم بلادهما لما كانت نواحي تلمسان قد اضطربت بعد مهلك يوسف بن يعقوب وما كان من شأنه فبعث معهما بعض العرب فلم يغن عنهم واعترضهم في طريقهم أشرار حصن من زغبة بنواحي المرية فبالغوا في الدفاع فلم يغن عنهم واستولى الأشرار على الركب بما فيه ونهبوا جميع الحجاج ورسل الملك الناصر معهم وخلصوا برءوسهم إلى الشيخ بكر بن زغلي شيخ بني يزيد بن زغبة بوطن حمزة بنواحي بجاية فأوصلهم إلى السلطان بجباية أبي البقاء خالد من ولد الأمير أبي زكريا يحيى ابن عبد الواحد بن أبي حفص ملوك إفريقية فكساهم وحملهم إلى حضرة تونس وبها السلطان أبو عصيدة محمد بن يحيى الواثق من بني عمه فبالغ في تكرمتهم وسافر معهم إبراهيم ابن عيسى من بني وسنار أحد أمراء بني مرين كان أميرا على الغزاة بالأندلس وخرج لقضاء فرضه فمرّ بتونس واستنهضه سلطانها على الإفرنج بجزيرة جربة فسار اليها بقومه ومعه عبد الحق بن عمر بن رحو من أعيان بني مرين وكان الشيخ أبو يحيى زكريا بن أحمد اللحياني يحاصرها في عسكر تونس فأقام معهم مدّة ثم استوحش أبو يحيى اللحياني من سلطانه بتونس فلحق بطرابلس وساروا جميعا إلى مصر وتقدّم السلطان بإكرامهم حتى قضوا فرضهم وعادوا إلى المغرب واستمدّ أبو يحيى اللحياني السلطان الناصر فأمدّه بالأموال والمماليك وكان سببا لاستيلائه على الملك بتونس كما نذكره في أخباره أن شاء الله تعالى.
__________
[1] وفي نسخة ثانية الجزولي.

(5/482)


وحشة الناصر من كافلية بيبرس وسلار ولحاقه بالكرك وخلعه والبيعة لبيبرس
ثم عرضت وحشة بين السلطان الناصر وبين كافليه بيبرس وسلار سنة سبع فامتنع من العلامة على المراسم وتردّدت بينه وبينهم السعاة بالعتاب وركب بعض الأمراء في ساحة القلعة من جوف الليل ودافعهم الحامية في جوف الليل وافترقوا وامتعض السلطان لذلك وازداد وحشة ثم سعى بكتمر الجوكندار في إصلاح الحال وحمل السلطان على تغريب بعض الخواص من مماليكه إلى القدس وكان بيبرس ينسب إليهم هذه الفتنة ونشأتها من أجلهم ففرّ بهم السلطان وأعتب الأميرين ثم أعيد الموالي من القدس إلى محلهم من خدمتهم واتهم السلطان الجوكندار في سعايته فسخطه وأبعده وبعثه نائبا عن صفد ثم غص بما هو فيه من الحجر والاستبداد وطلب الحج فهجره بيبرس وسلار وسار على الكرك سنة ثمان وودعه الأمراء واستصحب بعضا منهم فلما مرّ بالكرك دخل القلعة وأخرج النائب جمال الدين أقوش الأشرف إلى مصر وبعث عن أهله وولده كانوا مع المحمل الحجازي فعادوا إليه من العقبة وصرف الأمراء الذين توجهوا معه وأظهر الانقطاع بالكرك للعبادة وأذن لهم في إقامة من يصلح لأمرهم فاجتمعوا بدار النيابة وتشاوروا واتفقوا على أن يكون بيبرس سلطانا عليهم وسلار على نيابته وبايعوا بيبرس في شوّال سنة ثمان ولقبوه المظفر وقلده الخليفة أبو الربيع وكتب للناصر بنيابة الكرك وعينت له إقطاع يختص بها وقام سيف الدين سلار بالنيابة على عادة من قبله وأقرّ أهل الوظائف والرتب على مراتبهم وبعث أهل الشام بطاعتهم واستقرّ بيبرس في سلطانه والله تعالى أعلم.
انتقاض الأمير بيبرس وعود الناصر إلى ملكه
ولما دخلت سنة تسع هرب بعض موالي الناصر فلحقوا بالكرك وقلق الظاهر بيبرس المظفر وبعث في أثرهم فلم يدركوهم واتهم آخرون فقبض عليهم ونشأت الوحشة لذلك واتصلت المكاتبة من الأمراء الذين بالشام إلى السلطان بالكرك وخرج من مكانه يريد النهوض إليهم ثم رجع ووصل كتاب نائب دمشق أقوش الافرم فسكن الحال وبعث الجاشنكير بيبرس إلى السلطان برسالة مع الأمير علاء الدين مغلطاي أيدغلي وقطلوبغا تتضمن الإرجاف فثارت لها حفائظه وعاقب الرسولين وكاتب أمراء الشام يتظلم من بيبرس وأصحابه بمصر ويقول

(5/483)


سلمت لهم في الملك ورضيت بالضنك رجاء الراحة فلم يرجعوا عني وبعثوا إليّ بالوعيد وأنهم فعلوا ما فعلوا بأولاد المعز أيبك وبيبرس الظاهر ومثل ذلك من القول ويستنجدهم ويمتّ إليهم بوسائل التربية والعتق في دفاع هؤلاء عنه والا لحقت ببلاد التتر وبعث بهذه الرسالة مع بعض الجند كان مستخدما بالكرك من عهد أقوش الاشرفي وأقام هنالك وكان مولعا بالصيد فاتصل بالسلطان في مصايده وبث إليه ذات يوم شكواه فقال أنا أكون رسولك الى أمراء الشام فبعث إليهم بهذه الرسالة فامتعضوا وأجابوه بالطاعة كما يجب منهم وسار السلطان الى البلقاء وأرسل جمال الدين أقوش الأفرم نائب دمشق إلى مصر فأخبر الجاشنكير بيبرس بالحال واستمدّه بالعساكر للدفاع فبعث إليه بأربعة آلاف من العساكر مع كبار الأمراء وأزاح عللهم وأنفق في سائر العساكر بمصر وكثر الإرجاف وشغبت العامّة وتعين مماليك السلطان للخروج إلى النواحي استرابة بمكانهم ووصل الخبر برجوع السلطان من البلقاء إلى الكرك لرأي رآه واستراب لرجعته سائر أصحابه وحاشيته وخاف أن يهجمهم عساكر مصر بما كان يشاع عندهم من اعتزام بيبرس على ذلك ثم دسّ السلطان إلى مماليكه وشيع إليهم فأجابوه وأعاد الكتاب إلى نواب الشام مثل شمس الدين آقسنقر نائب حلب وسيف الدين نائب حمص فأجابوه بالسمع والطاعة وبعث نائب حلب ولده إليه واستنهضوه للوصول فخرج من الكرك في شعبان سنة تسع ولحق به طائفة من أمراء دمشق وبعث النائب أقوش أميرين لحفظ الطرقات فلحقا بالسلطان وكتب بيبرس الجاشنكير إلى نواب الشام بالوقوف مع جمال الدين أقوش نائب دمشق والاجتماع على السلطان الناصر عن دمشق فأعرضوا ولحقوا بالسلطان وسار أقوش إلى البقاع والشقيف واستأمن إلى السلطان فبعث إليه بالأمان مع أميرين من أكابر أمرائه وسار إلى دمشق فدخلها وهي خالصة يومئذ لسيف الدين بكتمر أمير جامدار جاءه من صفد وهاجر إلى خدمته فتلقاه وجازاه أحسن الجزاء ثم وصل أقوش الأفرم فتلقاه السلطان بالميرة والتكرمة وأقرّه على نيابة دمشق واضطربت أمور الجاشنكير بمصر وخرجت طائفة من مماليك السلطان هاربين إلى الشام فسرّح في أثرهم العساكر فأدركوهم ونال الهاربون منهم قتلا وجراحة ورجعوا وتجمعت وثاب العامّة والغوغاء وأحاطوا بالقلعة وجاهروا بالخلعان وقبض على بعضهم وعوقب فلم يزدهم إلا عتوّا وتحاملا وارتاب الجاشنكير لحاله واجتمع الناس للحلف وحضر الخليفة وجدّد عليه وعليهم الحلف وبعث نسخة البيعة لتقرأ بالجامع يوم الجمعة فصاح الناس بهم وهموا أن يحصبوهم على المنبر فرجع إلى النفقة وبذل المال واعتزم على المسير إلى الشام وقدم

(5/484)


أكابر الأمراء فلحقوا بالسلطان من دمشق منتصف رمضان وقدم بين يديه أميرين من أمراء غزة فوصلاها واجتمعت إليه العرب والتركمان وبلغ الخبر إلى الجاشنكير فجمع إليه شمس الدين سلار وبدر الدين بكتوت الجوكندار وسيف الدين السلحدار وفاوضهم في الأمر فرأوا أنّ الخرق قد اتسع ولم يبق إلا البدار بالرغبة إلى السلطان أن يقطعه الكرك أو حماة أو صهيون ويتسلم السلطان ملكه فأجمعوا على ذلك وبعثوا بيبرس الدوادار وسيف الدين بهادر بعد أن أشهد الجاشنكير بالخلع وخرج من القلعة الى أطفيح بمماليكه فلم يستقرّ بها وتقدّم قاصدا أسوان واحتمل ما شاء من المال والذخيرة وخيول الإصطبل وقام بحفظ القلعة صاحبه سيف الدين سلار وكاتب السلطان يطالعه بذلك وخطب للسلطان على المنابر ودعي باسمه على المآذن وهتف باسمه العامّة في الطرقات وجهز سلار سائر شعار السلطنة ووصلت رسل الجاشنكير إلى السلطان بما طلب فأسعفه بصهيون وردّهم إليه بالأمان والولاية ووافى السلطان عيد الفطر بالبركة ولقيه هنالك سيف الدين سلار وأعطاه الطاعة ودخل السلطان إلى القلعة وجلس باقي العيد بالإيوان جلوسا فخما واستحلف الناس عامّة وسأله سلار في الخروج إلى إقطاعه فأذن له بعد أن خلع عليه فخرج ثالث شوّال وأقام ولده بباب السلطان ثم بعث السلطان الأمراء إلى أخميم فانتزعوا من الجاشنكير ما كان احتمله من المال والذخيرة وأوصلوها إلى الخزائن ووصل معهم جماعة من مماليكه كانوا أمراء واختاروا الرجوع إلى السلطان وولى السلطان سيف الدين بكتمر الجوكندار أمير جاندار نائبا بمصر وقراسنقر المنصوري نائبا بدمشق وبعث نائبها الأفرم نائبا بصرخد وسيف الدين قفجق نائبا بحلب وسيف الدين بهادر نائبا بطرابلس وخرجوا جميعا إلى الشام وقبض السلطان على جماعة من الأمراء ارتاب بهم وولى على وزارته فخر الدين عمر بن الخليلي عوضا عن ضياء الدين أبي بكر ثم انصرف بيبرس الجاشنكير متوجها إلى صهيون وبها بهادر [1] بها الأشجعيّ موكل به إلى حيث قصد ورجع عنه الأمراء الذين كانوا عنده إلى السلطان فاستضاف بعضهم إلى مماليكه واعتقل بعضهم ثم بدا للسلطان في أمره وبعث إلى قراسنقر وبهادر وهما مقيمان بغزة ولم ينفصلا إلى الشام أن يقبضا عليه فقبضا عليه وبعثا به إلى القلعة آخر ذي القعدة فاعتقل ومات هنالك والله تعالى وليّ التوفيق.
__________
[1] بياض بالأصل وفي أخبار البشر ج 4 ص 58: ثم أن بيبرس المذكور قصد الى صهيون حسبما كان قد سأله فبرز من أطفيح إلى السويس وسار إلى الصالحية، ثم سار منها حتى وصل إلى موضع بأطراف غزة يسمى العنصر قريب الداروم، وكان قراسنقر متوجها إلى دمشق نائبا بها على ما استقر عليه الحال فوصل إليه المرسوم بالقبض على بيبرس الجاشنكير.

(5/485)


خبر سلار ومآل أمره
لما انتقل السلطان إلى ملكه بمصر وكان لسلار من السعي في أمره وتمكين سلطانه ما ذكرناه وكانت له سوء بال عند السلطان يعتني برعيها له وكانت الشويك من أقطاعه فرغب إلى السلطان في المسير إليها والتخلي فيها فأذن له وخلع عليه وزاده في أقطاعه وأقطاع مماليكه وأتبعه مائة من الطواشية بأقطاعهم وسار من مصر إلى الشويك في شوّال سنة ثمان وسبعمائة ثم بعث له داود المقسور بالكرك مضافا إلى الشويك وباللواء وبخلعة مذهبة ومركب ثقيل ومنطقة مجوهرة وأقام هنالك فلما كانت سنة عشر بعدها نمى إلى السلطان عن جماعة من الأمراء أنهم معتزمون على الثورة وفيهم أخو سلار فقبض عليهم جميعا وعلى شيع سلار وحاشيته الذين بمصر وبعث علم الدين الخوالي لاستقدامه من الكرك تأنيسا له وتسكينا فقدم في ربيع من السنة واعتقل إلى أن هلك في معتقله واستصفيت أمواله وذخائره بمصر والكرك وكانت شيئا لا يعبر عنه من الأموال والفصوص واللآلي والدروع والكراع والإبل ويقال أنه كان يغلّ كل يوم من أقطاعه وضياعه ألف دينار وأمّا أوليته فإنه لما خلص من أسر التتر صار مولى لعلاء الدين علي بن المنصور قلاون ولما مات صار لأبيه قلاون ثم لابنه الأشرف ثم لأخيه محمد بن الناصر وظهر في دولهم كلها وكان بينه وبين لاشين مودّة فاستخدم له وعظم في دولته متقربا في المراكب متحرّيا لمحبة السلطان إلى أن انقرض أمره ويقال أنه لما احتضر في محبسه قيل له قد رضي عنك السلطان فوثب قائما ومشى خطوات ثم مات والله أعلم.
انتقاض النواب بالشام ومسيرهم إلى التتر وولاية تنكز على الشام
كان قفجق نائب حلب قد توفي بعد أن ولاه السلطان فنقل مكانه إلى حلب [1] الكرجي من حماة سنة عشر فتظلم الناس منه فقبض عليه ونقل إليها قراسنقر المنصوري من نيابة دمشق وولى مكانه بدمشق سيف الدين كراي المنصوري سنة إحدى عشرة ثم سخطه واعتقله وولى مكانه بدمشق جمال الدين أقوش الأشرفي نقله إليها من الكرك
__________
[1] بياض بالأصل وفي أخبار البشر ج 4 ص 60: واتفق عند ذلك موت سيف الدين قبجق نائب السلطنة بحلب في يوم السبت سلخ جمادى الأولى، فلما وصل خبر موته إلى الأبواب الشريفة أنعم السلطان بنيابة السلطنة بحلب على استدمر موضع سيف الدين قبجق.

(5/486)


وتوفي بها محمد [1] نائب طرابلس فنقل إليها أقوش الأفرم من صرخد ثم قبض على بكتمر الجوكندار نائب مصر وحبسه بالكرك وجعل مكانه في الثانية بيبرس الدوادار ثم ارتاب قراسنقر نائب حلب فهرب إلى البرية واجتمع مع مهنا بن عيسى ويقال أنه استأذن السلطان في الحج فأذن له فلما توسط البرية استوعرها فرجع فمنعه الأمراء الذين بحلب من دخولها إلا بإذن السلطان فرجع إلى الفرات وبعث مهنا بن عيسى شافعا له عند السلطان فقبله وردّه إلى نيابة حلب ثم بلغ السلطان أنّ خربندار ملك التتر زاحف إلى الشام فجهز العساكر من مصر وتقدّم إلى عساكر الشام بأن يجتمعوا معهم بحمص فارتاب قراسنقر وخرج من حلب وعبر الفرات ثم راجع نفسه واستأمن السلطان على ان يقيم بالفرات فأقطعه السلطان الشويك يقيم بها فلم يفعل وبقي بمكان من الفرات مع مهنا بن عيسى ثم ارتاب جماعة من الأمراء فلحقوا به وفيهم أقوش الأفرم نائب طرابلس وأمضوا عزمهم على اللحاق بخربندا فوصلوا إلى ماردين فتلقاهم صاحبها بالكرامة وحمل إليهم تسعين ألف درهم ورتب لهم الأتاوات ثم ساروا إلى خلاط إلى أن جاءهم إذن خربندا فساروا إليه واستحثوه للشام وبلغ الخبر إلى السلطان فأتهم الأمراء الذين في خدمته بالشام بمداخلة قراسنقر وأصحابه فاستدعاهم وبعث على حلب سيف الدين [2] مكان قراسنقر وعلى طرابلس بكتمر الساقي مكان أقوش وبعث على العرب فضل بن عيسى مكان أخيه مهنا ووصل الأمراء إلى مصر فقبض عليهم جميعا وعلى أقوش الأشرفي نائب دمشق وولى مكانه تنكز الناصري سنة اثنتي عشرة وجعل له الولاية على سائر الممالك الإسلامية وقبض على نائبة بمصر بيبرس الدوادار وحبسه بالكرك وولى مكانه أرغون الدوادار وعسكر بظاهر القلعة وارتحل بعد عيد الفطر من السنة فلقيه الخبر أثناء طريقه بأن خربندا وصل إلى الرحبة ونازلها وانصرف عنها راجعا فانكفأ السلطان إلى دمشق وفرق العساكر بالشام ثم سار إلى الكرك واعتزم على قضاء فرضه تلك السنة وخرج حاجا من الكرك ورجع سنة ثلاث عشرة إلى الشام وبعث إلى مهنا بن عيسى يستميله وعاد الرسول بامتناعه ثم لحق سنة ست عشرة بخرابندا وأقطعه بالعراق وأقام هنالك فلم يرجع إلا بعد مهلك خربندا والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
[1] بياض بالأصل، ولم نعثر بالمراجع التي بين أيدينا على الاسم الكامل لنائب طرابلس في تلك السنة.
[2] بياض بالأصل، وفي أخبار البشر ج 4 ص 67: وفيها قرر السلطان سيف الدين سودي الجمدار (الأشرفي ثم الناصري) في نيابة السلطنة بحلب المحروسة موضع قراسنقر.

(5/487)


رجوع حماة إلى بني المظفر شاهنشاه بن أيوب ثم لبني الأفضل منهم وانقراض أمرهم
قد كان تقدّم لنا أن حماة كانت من أقطاع تقيّ الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب أقطعه إياها عمه صلاح الدين بن أيوب سنة أربع وسبعين وخمسمائة فلم تزل بيده إلى أن توفي سنة سبع وثمانين وخمسمائة فأقطعها ابنه ناصر الدين محمدا ولقبه المنصور وتوفي سنة سبع عشرة وستمائة بعد عمه صلاح الدين والعادل فوليها ابنه قليج أرسلان ويلقب الناصر سنة ست وعشرين وكان أخوه المظفر ولي عهد أبيه عند الكامل بن العادل فجهزه بالعساكر من دمشق وملكها من يد أخيه وأقام بها إلى أن هلك سنة ثلاث وأربعين وولي ابنه محمد ويلقب المنصور ولم يزل في ولايتها إلى أن سار يوسف بن العزيز ملك الشام من بني أيوب هاربا إلى مصر أيام التتر فسار معه المنصور صاحب حماة وأخوه الأفضل ثم خشي من الترك بمصر فرجع إلى هلاكو واستمرّ المنصور إلى مصر فأقام بها وملك هلاكو الشام وقتل الناصر وسائر بني أيوب كما مرّ ثم سار قطز إلى الشام عند ما رجع هلاكو عنه عند ما شغل عنه بفتنة قومه فارتجعه من ملكة التتر وولى على قواعده وأمصاره وردّ المنصور إلى حماة فلم يزل واليا عليها وحضر واقعة على التتر بحمص سنة ثلاثين وكان يتردّد إلى مصر سائر أيامه ويخرج مع البعوث إلى بلاد الأرمن وغيرها ويعسكر مع ملوك مصر متى طلبوه لذلك ثم توفي ثلاث وثمانين وأقرّ قلاون ابنه المظفر على ما كان أبوه وجرى هو معهم على سننه إلى أن توفي سنة ثمان وتسعين عند ما بويع الناصر محمد بن قلاون بعد لاشين، وانقطع عقب المنصور فولى السلطان عليها قراسنقر من أمراء الترك نقله إليها من الضبينة وأمره باستقرار بني أيوب وسائر الناس على أقطاعاتهم ثم كان استيلاء قازان على الشام ورجوعه سنة تسع وتسعين ومسير بيبرس وسلار وانتزاع الشام من التتر وكان كيبغا العادل الّذي ملك مصر وخلعه لاشين نائبا بصرخد فجلا في هذه الوقائع وتنصح لبيبرس وسلار وحضر معهم بدمشق فولوه على حماة وغزا بالعساكر بلاد الأرمن وحضر هزيمة التتر مع الناصر سنة اثنتين وسبعمائة فرجع إلى حماة فمات بها وولى السلطان بعده سيف الدين قفجق استدعاه إليها من أقطاعه بالشويك وكان الأفضل علاء الدين أخو المنصور صاحب حماة توفي أيام أخيه المنصور وخلف ولدا اسمه إسماعيل ولقبه عماد الدين ونشأ في دولتهم عاكفا على العلم والأدب حتى توفر منهما حظه وله كتاب في التاريخ مشهور ولما رجع السلطان الناصر من الكرك إلى كرسيه وسطا ببيبرس وسلار راجع نظره في الإحسان إلى أهل هذا البيت واختار منهم عماد الدين إسماعيل هذا

(5/488)


وولاه على حماة مكان قومه ست عشرة وسبعمائة وكان عند رجوعه إلى ملكه قد ولّى نيابة حلب سيف الدين قفجق وجعل مكانه بحماة أيدمر الكرجي وتوفي قفجق فنقل أيدمر من حماة إلى حلب مكانه وولى إسماعيل على حماة كما قلناه ولقبه المؤيد ولم يزل عليها إلى أن توفي سنة اثنتين وثلاثين وولى الناصر ابنه الأفضل محمد برغبة أبيه إلى السلطان في ذلك ثم مات الملك الناصر في ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وقام بعده بالأمر مولاه قوص ونصب ابنه أبا بكر محمدا فكان أوّل شيء أحدثه عزل الأفضل من حماة وبعث عليها مكانه صقر دمول النائب وسار الأفضل إلى دمشق فمات بها سنة اثنتين وأربعين وانقرضت إيالة بني أيوب من حماة والبقاء للَّه وحده لا ربّ غيره ولا معبود سواه.
غزو العرب بالصعيد وفتح ملطية وآمد
ثم خرج السلطان سنة ثلاث عشرة فعسكر بالأهرام موريا بالنزهة وقد بلغه ما نزل بالصعيد من عيث العرب وفسادهم في نواحيه وإضرارهم بالسابلة فسرح العساكر في كل ناحية منه وأخذ الهلاك منهم مأخذه الى ان تغلب عليهم واستباحهم من كل ناحية وشرد بهم من خلفهم ثم سرّح العساكر سنة أربع عشرة بعدها إلى ملطية وهي للأرمن وملكها عنوة. وسار لذلك تنكز نائب دمشق بعساكر الشام وستة من أمراء مصر ونازلوها في محرّم سنة خمس عشرة وبها جموع من نصارى الأرمن والعربان وقليل من المسلمين تحت الجزية فقاتلوهم حتى ألقوا باليد واقتحموها عنوة واستباحوها وجاءوا بملكها مع الأسرى فأبقاه السلطان وأنعم عليه ثم نمي عنه أنه يكاتب ملوك العراق فحبسه ثم بعث السلطان العساكر من حلب سنة خمس عشرة إلى عرقية من أعمال آمد ففتحوها وجاءت العساكر سنة سبع عشرة ثانية إلى آمد ففتحوها واستباحوها وغنموا منها أموالا جمة والله تعالى ينصر من يشاء من عباده.
الولايات
وفي سنة خمس عشرة سخط السلطان سيف الدين نمر نائب طرابلس الّذي وليها بعد أقوش الأفرم وأمدّه به وسيق معتقلا إلى مصر وولى مكانه سيف الدين كستاي ثم هلك فولى مكانه شهاب الدين قرطاي نقله إليها من نيابة حمص وولى نيابة حمص سيف الدين أقطاي ثم قبض سنة ثمان عشرة على طغاي الحسامي من الجاشنكيرية وصرف نائبا الى صفد مكان بكتمر الحاجب ثم سخطه فأحضره معتقلا وحبسه بالإسكندرية وبعث على صفد سيف

(5/489)


الدين أقطاي نقله إليها من حمص وبعث على حمص بدر الدين بكتوت القرماني والله تعالى أعلم.
العمائر
ابتدأ السلطان سنة إحدى عشرة وسبعمائة ببناء الجامع الجديد بمصر وأكمله ووقف عليه الأوقاف المغلة ثم أمر سنة أربع عشرة ببناء القصر الأبلق من قصور الملك فجاء من أفخر المصانع الملوكية وفي سنة ثمان عشرة أمر بتوسعة جامع القلعة فهدم ما حوله من المساكن وزيد فيه إلى الحدّ الّذي هو عليه بهذا العهد ثم أمر في سنة ثلاث وعشرين بعمارة القصور لمنازله بسرياقوس وبنى بإزائها الخانقاه الكبيرة المنسوبة إليه وفي سنة ثلاث وثلاثين أمر بعمارة الإيوان الضخم بالقلعة وجعله مجلس ملكه وبيت كرسيه ودعاه دار العدل والله تعالى أعلم.
حجات السلطان
وحج الملك الناصر محمد بن قلاون في أيام دولته ثلاث حجات أوّلا سنة ثلاث عشرة عند ما انقرض قراسنقر نائب حلب وأقوش الأفرم نائب طرابلس ومهنا بن عيسى أمير العرب وجاء خربندا إلى الشام ورجع من الرحبة فسار السلطان من مصر إلى الشام وبلغه رجوع خربندا فسار من هناك حاجا وقضى فرضه سنة ثلاث عشرة ورجع إلى الشام ثم حج الثانية سنة تسع عشرة ركب إليها من مصر في أواخر ذي القعدة ومعه المؤيد صاحب حماة والأمير محمد ابن أخت علاء الدين ملك الهند صاحب دلى [1] ولما قضى حجه انطلق الأمير محمد ابن أخت علاء الدين من هناك إلى الهند على اليمن ورجع إلى مصر فأفرج عن رميثة أمير مكة من بني حسن وعن المعتقلين بمحبسه ووصله ووصلهم ثم حج الثالثة سنة اثنتين وثلاثين ومعه الأفضل بن المؤيد صاحب حماة على عادة أبيه في مراكبة السلطان وقفل من حجه سنة ثلاث وثلاثين فأمر بعمل باب الكعبة مصحفا بالفضة أنفق فيه خمسة وثلاثين ألف درهم وفي منصرفه من هذه الحجة مات بكتمر الساقي من أعظم أمرائه وخواصه ويقال أنه سمه وهو من مماليك بيبرس الجاشنكير وانتقل إلى الناصر فجعله أمير السقاة وعظمت منزلته عنده ولطفت خلته حتى كانا لا يفترقان إمّا في بيت السلطان وإمّا في بيته وكان حسن السياسة في الغاية وخلف بعد وفاته من الأموال والجواهر والذخائر ما يفوت الحصر والله تعالى وليّ التوفيق بمنه وكرمه.
__________
[1] أظنها دلهي.

(5/490)


أخبار النوبة وإسلامهم
قد تقدّم لنا غزو الترك إلى النوبة أيام الظاهر بيبرس والمنصور قلاون لما كان عليهم من الجزية التي فرضها عمرو بن العاص عليهم وقرّرها الملوك بعد ذلك وربما كانوا يماطلون بها أو يمتنعون من أدائها فتغزوهم عساكر المسلمين من مصر حتى يستقيموا وكان ملكهم بدنقلة أيام سارت العساكر من عند قلاون إليها سنة ثمانين وستمائة واسمه سمامون ثم كان ملكهم لهذا العهد اسمه آي لا أدري أكان معاقبا لسمامون أو توسط بينهما متوسط وتوفي آي سنة ست عشرة وسبعمائة وملك بعده في دنقلة أخوه كربيس ثم نزع من بيت ملوكهم رجل إلى مصر اسمه نشلى وأسلم فحسن إسلامه وأجرى له رزقا وأقام عنده فلما كانت سنة ست عشرة امتنع كربيس من أداء الجزية فجهز السلطان إليه العساكر وبعث معها عبد الله نشلى المهاجر إلى الإسلام من بيت ملكهم فخام كربيس عن لقائهم وفرّ إلى بلد الأبواب ورجعت العساكر إلى مصر واستقر نشلى في ملك النوبة على حاله من الإسلام وبعث السلطان إلى ملك الأبواب في كربيس فبعث به إليه وأقام بباب السلطان ثم أنّ أهل النوبة اجتمعوا على نشلى وقتلوه بمالأة جماعة من العرب سنة تسع وبحثوا عن كربيس ببلد الأبواب فألفوه بمصر وبلغ الخبر إلى السلطان فبعثه إلى النوبة فملكها وانقطعت الجزية بإسلامهم ثم انتشرت أحياء العرب من جهينة في بلادهم واستوطنوها وملكوها وملئوها عيثا وفسادا وذهب ملوك النوبة إلى مدافعتهم فعجزوا ثم ساروا إلى مصانعتهم بالصهر فافترق ملكهم وصار لبعض أبناء جهينة من أمّهاتهم على عادة الأعاجم في تمليك الأخت وابن الأخت فتمزق ملكهم واستولى أعراب جهينة على بلادهم وليس في طريقه شيء من السياسة الملوكية للآفة التي تمنع من انقياد بعضهم إلى بعض فصاروا شيعا لهذا العهد ولم يبق لبلادهم رسم للملك وإنما هم الآن رجالة بادية يتبعون مواقع القطر شأن بوادي الأعراب ولم يبق في بلادهم رسم للملك لما أحالته صبغة البداوة العربية من صبغتهم بالخلطة والالتحام والله غالب على أمره والله تعالى ينصر من يشاء من عباده.
بقية أخبار الأرمن إلى فتح إياس ثم فتح سيس وانقراض أمرهم
قد كنا قدّمنا أخبار الأرمن إلى قتل ملكهم هيثوم على يد آيدغدي شحنة التتر ببلاد الروم

(5/491)


سنة سبع واستقرار الملك بسيس لأخيه أو سير بن ليون وكان بينه وبين قزمان ملك التركمان مصاف سنة تسع عشرة فهزمه قزمان ولم يزل أوسير بن ليون ملكا عليهم إلى سنة اثنتين وسبعين فهلك ونصبوا للملك بعده ابنه ليون صغيرا ابن اثنتي عشرة سنة وكان الناصر قد طلب أوسير أن ينزل له عن القلاع التي تلي الشام فاتسع وجهز إليه عساكر الشام فاكتسحوا بلاده وخربوها وهلك أوسير على أثر ذلك ثم أمر الناصر كيبغا نائب حلب بغزو سيس فدخل إليها بالعساكر سنة ست وثلاثين واكتسح جهاتها وحصر قلعة النقير وافتتحها وأسر من الأرمن عدّة يقال بلغوا ثلاثمائة وبلغ خبرهم الى النصارى باياس فثاروا بمن عندهم من المسلمين وأحرقوهم غضبا للأرمن لمشاركتهم في دين النصرانية ولم يثبت أن بعث إلى السلطان دمرداش بن جوبان شحنة المغل ببلاد الروم يعرّفه بدخوله في الإسلام ويستنفر عساكره لجهاد نصارى الأرمن فأسعفه بذلك وجهز إليه عساكر الشام من دمشق وحلب وحماة سنة سبع وثلاثين ونازلوا مدينة إياس ففتحوها وخربوها ونجافلهم إلى الجبال فاتبعتهم عساكر حلب وعادوا إلى بلادهم ثم سار سنة إحدى وستين بندمر الخوارزمي نائب حلب لغزو سيس ففتح أذنة وطرسوس والمصيصة ثم قلعتي كلال والجرائدة وسنباط كلا وتمرور وولى نائبين في أذنة وطرسوس وعاد إلى حلب وولى بعده على حلب عشقيم النصارى فسار سنة ست وسبعين وحصر سيس وقلعتها شهرين إلى أن نفدت أقواتهم وجهدهم الحصار فاستأمنوا ونزلوا على حكمه فخرج ملكهم النكفور وأمراؤه وعساكره الى عشقيم فبعث بهم الى مصر واستولى المسلمون على سيس وسائر قلاعها وانقرضت منها دولة الأرمن والبقاء للَّه وحده انتهى.
الصلح مع ملوك التتر وصهر الناصر مع ملوك الشمال منهم
كان للتتر دولتان مستفحلتان إحداهما دولة بني هلاكو آخذ بغداد والمستولي على كرسي الإسلام بالعراق وأصارها هو وبنوه كرسيا لهم ولهم مع ذلك عراق العجم وفارس وخراسان وما وراء النهر ودولة بني دوشي خان بن جنكزخان بالشمال متصلة إلى خوارزم بالمشرق إلى القرم وحدود القسطنطينية بالجنوب وإلى أرض بلغار بالمغرب وكان بين الدولتين فتن وحروب كما تحدث بين الدول المتجاورة وكانت دولة الترك بمصر والشام مجاورة لدولة بني هلاكو وكان يطمعون في ملك الشام ويردّدون الغزو إليه مرّة بعد اخرى ويستميلون أولياءهم وأشياعهم من العرب والتركمان فيستظهرون بهم عليهم كما رأيت ذلك في أخبارهم وكانت

(5/492)


بين ملوكهم من الجانبين وقائع متعدّدة وحروبهم فيها سجال وربما غلبوا من الفتنة بين دولة بني دوشي وبين بني هلاكو ولبعدهم عن فتنة بني دوشي خان لتوسط الممالك بين مملكتهم ومملكة مصر والشام فتقع لهم الصاغية إليهم وتتجدّد بينهم المراسلة والمهاداة في كل وقت ويستحث ملك الترك ملك صراي من بني دوشي خان لفتنة بني هلاكو والأجلاب عليهم في خراسان وما إليها من حدود مملكتهم ليشغلوهم عن الشام ويأخذوا بحجزتهم عن النهوض إليه وما زال ذلك دأبهم من أوّل دولة الترك وكانت رغبة بني دوشي خان في ذلك أعظم يفتخرون به على بني هلاكو ولما ولي صراي أنبك من بني دوشي خان سنة ثلاث عشرة وكان نائبا ببلاد الروم قطلغمير وفدت عليه الرسل من مصر على العادة فعرض لهم قطلغمير بالصهر مع السلطان الناصر ببعض نساء ذلك البيت على شرطية الرغبة من السلطان في ظاهر الأمر والتمهل منهم في إمضاء ذلك وزعموا أنّ هذه عادة الملوك منهم ففعل السلطان ذلك وردّد الرسل والهدايا أعواما ستة الى أن استحكم ذلك بينهم وبعثوا اليه بمخطوبته طلبناش بنت طغاجي بن هند وابن بكر بن دوشي سنة عشرين مع كبير المغل وكان مقلدا يحمل على الأعناق ومعهم جماعة من أمرائهم وبرهان الدين أمام أزبك ومرّوا بالقسطنطينية فبالغ لشكري في كرامتهم يقال أنه أنفق عليهم ستين ألف دينار وركبوا البحر من هناك إلى الإسكندرية ثم ساروا بها إلى مصر محمولة على عجلة وراء ستور من الذهب والحرير يجرّها كديش يقود، اثنان من مواليها في مظهر عظيم من الوقار والتجلة ولما قاربوا مصر ركب للقائهم النائبان أرغون وبكتمر الساقي في العساكر وكريم الدين وكيل السلطان وأدخلت الخاتون إلى القصر واستدعى ثالث وصولها القضاة والفقهاء وسائر الناس على طبقاتهم إلى الجامع بالقلعة وحضر الرسل الوافدون عندهم بعد أن خلع عليهم وانعقد النكاح بين وكيل السلطان ووكيل أزبك وانفضّ ذلك المجمع وكان يوما مشهودا ووصلت رسل أبي سعيد صاحب بغداد والعراق سنة اثنتين وعشرين وفيهم قاضي توريز يسألون الصلح وانتظام الكلمة واجتماع اليد على إقامة معالم الإسلام من الحج وإصلاح السابلة وجهاد العدوّ فأجاب السلطان إلى ذلك وبعث سيف الدين أيتمش المحمدي لأحكام العقد معهم وامتضاء إيمانهم فتوجهه لذلك بهدية سنية وعاد سنة ثلاث وعشرين ومعه رسل أبي سعيد ومعه جوبان لمثل ذلك فتمّ ذلك وانعقد بينهم وقد كانت قبل ذلك تجدّدت الفتنة بين أبي سعيد وصاحب صراي نفرة من أزبك صاحب صراي من تغلب جوبان على أبي سعيد وفتكه في المغل وكانت بين جوبان وبين سبول صاحب خوارزم وما وراء النهر فتنة ظهر فيها أزبك

(5/493)


وأمدّه بالعساكر فاستولى أزبك على أكثر بلاد خراسان وطلب من الناصر بعد الالتحام بالصهر المظاهرة على أبي سعيد وجوبان فأجابه إلى ذلك ثم بعث إليه أبو سعيد في الصلح كما قلناه فآثره وعقد له وبلغ الخبر إلى أزبك ورسل الناصر عنده فأغلظ في القول وبعث بالعتاب واعتذر له الناصر بأنهم إنما دعوه لإقامة شعائر الإسلام ولا يسع التخلف عن ذلك فقبل ثم وقعت بينه وبين أبي سعيد مراوضة في الصلح بعد أن استردّ جوبان ما ملكه أزبك من خراسان فتوادع كل هؤلاء الملوك واصطلحوا ووضعوا أوزار الحرب حينا من الدهر إلى أن تقلبت الأحوال وتبدّلت الأمور والله مقلب الليل والنهار.
مقتل أولاد بني نمى أمراء مكة من بني حسن
قد تقدّم لنا استيلاء قتادة على مكة والحجاز من يد الهواشم واستقرارها لبنيه إلى أن استولى منهم أبو نمي وهو محمد بن أبي سعيد علي بن قتادة ثم توفي سنة اثنتين وسبعمائة وولي مكانه ابناه رميثة وخميصة واعتقلا أخويهما عطيفة وأبا الغيث ولما حج الأميران كافلا المملكة بيبرس وسلار هربا إليهما من مكان اعتقالهما وشكيا ما نالهما من رميثة وخميصة فأشكاهما الأميران واعتقلا رميثة وخميصة وأوصلاهما إلى مصر ووليا عطيفة وأبا الغيث وبعثا بهما إلى السلطان صحبة الأمير أيدمر الكوكبي الّذي جاء بالعساكر معهما ثم رضي السلطان عنهما وولاهما مكان رميثة وخميصة وبعث معهما العساكر ثانيا سنة ثلاث عشرة وفرّ رميثة وخميصة عن البلاد ورجع العسكر وأقام أبو الغيث وعطيفة فرجع إليهما رميثة وخميصة وتلاقوا فانهزم أبو الغيث وعطيفة فسارا إلى المدينة في جوار منصور بن حماد فأمدّهما ببني عقبة وبني مهدي ورجع إلى حرب رميثة وخميصة فاقتتلوا ثانيا ببطن مرو فانهزم أبو الغيث وقتل واستمرّ رميثة وخميصة ولحق بهما أخوهما عطيفة وسار معهما ثم تشاجروا سنة خمس عشر ولحق رميثة بالسلطان مستعديا على أخويه فبعث معه العساكر ففرّ خميصة بعد أن استصفى أهل مكة وهرب إلى السبعة مدن ولحقته العساكر فاستلحق أهل تلك المدن ولقيهم فانهزموا ونجا خميصة بنفسه ثم رجعت العساكر فرجع وبعث رميثة يستنجد السلطان فبعث إليه العساكر ففرّ خميصة ثم رجع واتفق مع أخويه رميثة وعطيفة ثم لحق عطيفة بالسلطان سنة ثمان عشرة وبعث معه العساكر فتقبضوا على رميثة وأوصلوه معتقلا فسجن بالقلعة واستقرّ عطيفة بمكة وبقي خميصة مشردا ثم لحق بملك التتر ملك العراق خربندا واستنجده على ملك الحجاز فانجده بالعساكر وشاع بين الناس أنه داخل الروافض الذين عند خربندا في

(5/494)


إخراج الشيخين من قبريهما وعظم ذلك على الناس ولقبه محمد بن عيسى أخو مهنا حسبة وامتعاضا للدين وكان عند خربندا فاتبعه واعترضه وهزمه ويقال أنه أخذ منه المعاول والفؤوس التي أعدوها لذلك وكان سببا لرضا السلطان عنه وجاء خميصة إلى مكة سنة ثماني عشرة وبعث الناصر العساكر اليه فهرب وتركها ثم أطلق رميثة سنة تسع عشرة فهرب إلى الحجاز ومعه وزيره علي بن هنجس فرد من طريقه واعتقل وأفرج عنه السلطان بعد مرجعه من الحج سنة عشرين ثم أن خميصة استأمن السلطان سنة عشرين وكان معه جماعة من المماليك هربوا إليه فخاموا أن يحضروا معه إلى السلطان فاغتالوه وحضروا وكان السلطان قد أطلق رميثة من الاعتقال فأمكنه منهم فثأر من المباشر قتل أخيه وعفا عن الباقين ثم صرف السلطان رميثة إلى مكة وولاه مع أخيه عطيفة واستمرّت حالهما ووفد عطيفة سنة إحدى وعشرين على الأبواب ومعه قتادة صاحب الينبع يطلب الصريخ على ابن عمه عقيل قاتل ولده فأجابه السلطان وجهز العساكر لصريخه وقويل كل منهما بالأكراد وانصرفوا وفي سنة إحدى وثلاثين وقعت الفتنة بمكة وقتل العبيد جماعة من الأمراء والترك فبعث السلطان آيدغمش ومعه العساكر فهرب الشرفاء والعبيد وحضر رميثة وبذل الطاعة وحلف متبرئا مما وقع فقبل منه السلطان وعفا له عنها واستمرّت حاله على ذلك إلى أن هلك سنة [1] وتداولت الإمارة بين ابنيه عجلان وبقية ثم استبدّ عجلان كما نذكره [2] في أخبارهم وورثتها بنوه لهذا العهد كما نذكره مرتبا في أخبارهم إن شاء الله تعالى.
حج ملك التكرور
كان ملك السودان بصحراء المغرب في الإقليم الأوّل والثاني منقسما بين أمم من السودان أولهم مما يلي البحر المحيط أمّة صوصو وكانوا مستولين على غانة ودخلوا في الإسلام أيام الفتح وذكر صاحب كتاب زجار في الجغرافيا أنّ بني صالح من بني عبد الله بن الحسن بن الحسن كانت لهم بها دولة وملك عظيم ولم يقع لنا في تحقيق هذا الخبر أكثر من هذا وصالح من بني حسن مجهول وأهل غانة منكرون أن يكون عليهم ملك لأحد غير صوصو ثم يلي أمة صوصو أمة مالي من شرقهم وكرسي ملكهم بمدينة بني ثم من بعدهم شرقا عنهم أمّة كوكو ثم التكرور بعدهم وفيما بينهم وبين النوبة أمّة كانم وغيرها وتحولت الأحوال باستمرار العصور
__________
[1] بياض بالأصل، ولم نعثر على سنة هلاكه في المراجع التي بين أيدينا.
[2] قوله كما نذكره هذا قد تقدم في المجلد الرابع مفصلا مع اختلاف يسير في بعض الأسماء.

(5/495)


فاستولى أهل مالي على ما وراءهم وبين أيديهم من بلاد صوصو وكوكو وآخر ما استولوا عليه بلاد التكرور واستفحل ملكهم إلى الغاية وأصبحت مدينتهم بني حاضرة بلاد السودان بالمغرب ودخلوا في دين الإسلام منذ حين من السنين وحج جماعة من ملوكهم وأوّل من حج منهم برمندار وسمعت في ضبطه من بعض فضلائهم برمند أنه وسبيله في الحج هي التي اقتفاها ملوكهم من بعده ثم حج منهم منسا ولي بن ماري جاطة أيام الظاهر بيبرس وحج بعده منهم مولاهم صاكوره وكان تغلب على ملكهم وهو الّذي افتتح مدينة كوكو ثم حج أيام الناصر وحج من بعده منهم منسا موسى حسبما ذلك مذكور في أخبارهم عند دول البربر عند ذكر صنهاجة ودولة لمتونة من شعوبهم ولما خرج منسا موسى من بلاد المغرب للحج سلك على طريق الصحراء وخرج عند الأهرام بمصر وأهدى إلى الناصر هدية حفيلة يقال أنّ فيها خمسين ألف دينار وأنزله بقصر عند القرافة الكبرى وأقطعه إياها ولقيه السلطان بمجلسه وحدثه ووصله وزوّده وقرب إليه الخيل والهجن وبعث معه الأمراء يقومون بخدمته إلى أن قضى فرضه سنة أربع وعشرين ورجع فأصابته في طريقه بالحجاز نكبة تخلصه منها أجله وذلك أنه ضل في الطريق عن المحمل والركب وانفرد بقومه عن العرب وهي كلها مجاهل لهم فلم يهتدوا إلى عمران ولا وقفوا على مورد وساروا على السمت إلى أن نفذوا عند السويس وهم يأكلون لحم الحيتان إذا وجدوها والأعراب تتخطفهم من أطرافهم إلى أن خلصوا ثم جدّد السلطان له الكرامة ووسع له في الحباء وكان أعدّ لنفقته من بلاده فيما يقال مائة حمل من التبر في كل حمل ثلاثة قناطير فنفدت كلها وأعجزته النفقة فاقترض من أعيان التجار وكان في صحبته منهم بنو الكويك فاقرضوه خمسين ألف دينار واتباع منهم القصر الّذي أقطعه السلطان وأمضى له ذلك وبعث سراج الدين بن الكويك معه وزيره يرد له منه ما أقرضه من المال فهلك هنالك وأتبعه سراج الدين آخرا بابنه فمات هنالك وجاء ابنه فخر الدين أبو جعفر بالبعض وهلك منسا موسى قبل وفاته فلم يظفروا منه بشيء انتهى والله سبحانه وتعالى أعلم.
أنجاد المجاهد ملك اليمن
قد تقدّم لنا استبداد علي بن رسول فملك بعد مهلك سيده يوسف أتسز بن الكامل بن العادل بن أيوب ويلقب المسعود وكان علي بن رسول أستاذ داره ومستوليا على دولته فلما هلك سنة ست وعشرين وستمائة نصب ابن رسول ابنه موسى الأشرف لملكه وكفله قريبا

(5/496)


واستولى ابن رسول وأورث ملكه باليمن لبنيه لهذا العهد وانتقل الأمر للمجاهد منهم علي بن داود والمؤيد بن يوسف المظفر بن عمر بن المنصور بن علي بن رسول سنة إحدى وعشرين وانتقض عليه جلال الدين ابن عمه الأشرف فظهر عليه المجاهد واعتقله ثم انتقض عليه عمه المنصور سنة ثلاث وعشرين وحبسه وأطلق من محبسه واعتقل عمه المنصور وكان عبد الله الظاهر بن المنصور قائما بأمر أبيه ومنازلة المجاهد سنة أربع وعشرين بالصريخ إلى الناصر سليمان الترك بمصر وكان هو وقومه يعطونهم الطاعة ويبعثون إليهم الإتاوة من الأموال والهدايا وطرف اليمن وما عونه فجهز لهم الناصر صحبة بيبرس الحاجب وطبنال من أعظم أمرائه فساروا إلى اليمن ولقيهم المجاهد بعدن فأصلحوا بين الفريقين على أن تكون [1] ويستقرّ المجاهد في سلطانه باليمن ومالوا على كل من كان سببا في الفتنة فقتلوهم ودوّخوا اليمن وحملوا أهله على طاعة المجاهد ورجعوا إلى محلهم من الأبواب السلطانية والله تعالى ولي التوفيق.
ولاية أحمد ابن الملك الناصر على الكرك
ولما استفحل ملك السلطان الناصر واستمرّ وكثر ولده طمحت نفسه إلى ترشيح ولده لتقرّ عينه بملكهم فبعث كبيرهم أحمد إلى قلعة الكرك سنة ست وعشرين ورتب الأمراء المقيمين بوظائف السلطان فسار إلى الكرك وأقام بها أربع سنين ممتعا بالملك والدولة وأبوه قرير العين بامارته في حياته ثم استقدمه سنة ثلاثين وأقام فيه سنة الختان واحتفل في الصنيع به وختن معه من أبناء الأمراء والخواص جماعة انتقاهم ووقع اختياره عليهم ثم صرفه إلى مكان إمارته بالكرك فأقام بها إلى أن توفي الملك الناصر وكان ما نذكره والله تعالى أعلم.
وفاة مرداش بن جوبان شحنة بلاد الروم ومقتله
كان جوبان نائب مملكة التتر مستوليا على سلطانه أبي سعيد بن خربندا لصغره وكانت حاله مع أبيه خربندا قريبا من الاستيلاء فولى على مملكة بلاد الروم دمرداش ثم وقعت الفتنة بينهم وبين ملك الشمال أزبك من بني دوشي خان على خراسان وسار جوبان من بغداد سنة تسع وعشرين لمدافعته كما يأتي في أخبارهم وترك عند السلطان أبي سعيد ببغداد ابنه خواجا
__________
[1] بياض بالأصل في جميع النسخ، ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على تصويب هذه العبارة.

(5/497)


دمشق فسعى به أعداؤه وأنهوا عنه قبائح من الأفعال لم يحتملها له فسطا به وقتله وبلغ الخبر إلى أبيه جوبان فانتقض وعاجله أبو سعيد بالمسير إلى خراسان فتفرّقت عنه أصحابه وفرّ فأدرك بهراة وقتل وأذن السلطان أبو سعيد لأهله أن ينقلوه إلى التربة التي اختطها بالمدينة النبويّة لدفنه فاحتملوه ولم يتوقفوا على إذن صاحب مصر فمنعهم صاحب المدينة ودفنوه بالبقيع ولما بلغ الخبر بمقتله إلى ابنه دمرداش في إمارته ببلاد الروم خشي على نفسه فهرب إلى مصر وترك مولاه أرتق مقيما لأمر البلد وأنزله بسيواس ولما وصل إلى دمشق وركب النائب لتلقيه وسار معه إلى مصر فأقبل عليه السلطان وأحله محل الكرامة وكان معه سبعة من الأمراء ومن العسكر نحو ألف فارس فأكرمهم السلطان وأجرى عليهم الأرزاق وأقاموا عنده وجاءت على أثره رسل السلطان أبي سعيد وطلبه بذمّة الصلح الّذي عقده مع الملك الناصر وأوضحوا لعلم السلطان من فساد طويته وطوية أبيه جوبان وسعيهم في الأرض بالفساد ما أوجب إعطاءه باليد وشرط السلطان عليهم إمضاء حكم الله تعالى في قراسنقر نائب حلب الّذي كان فرّ سنة اثنتي عشرة مع أقوش الأفرم إلى خربندا وأغروه بملك الشام ولم يتم ذلك وأقاموا عند خربندا وولي أقوش الأفرم على همذان فمات بها سنة ست عشرة فولي صاحبه قراسنقر مكانه بهمذان فلما شرط عليهم السلطان قتله كما قتل دمرداش أمضوا فيه حكم الله تعالى وقتلوه جزاء بما كان عليه من الفساد في الأرض والله متولي جزائهم ثم وصل على أثر ذلك ابن السلطان أبي سعيد ومعه جماعة من قومه في تأكيد الصلح والإصهار من السلطان فقوبلوا بالكرامة التي تليق بهم واتصلت المراسلة والمهاداة بين هذين السلطانين إلى أن توفيا والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
وفاة مهنا بن عيسى أمير العرب بالشأم وأخبار قومه
هذا الحيّ من العرب يعرفون بآل فضل رحالة ما بين الشام والجزيرة وتربة نجد من أرض الحجاز يتقلبون بينها في الرحلتين وينتسبون في طيِّئ ومعهم أحياء من زبيد وكلب وهذيل ومذحج أحلاف لهم ويناهضهم في الغلب والعدد آل مراد يزعمون أنّ فضلا ومرادا أبناء ربيعة ويزعمون أيضا أنّ فضلا ينقسم ولده بين أل مهنا وآل علي وأنّ آل فضل كلهم بأرض حوران فغلبهم عليها آل مراد وأخرجوهم منها فنزلوا حمص ونواحيها وأقامت زبيد من أحلافهم بحوران فهم بها حتى الآن لا يفارقونها قالوا ثم اتصل آل فضل بالدول السلطانية وولوهم على أحياء العرب وأقطعوهم على إصلاح السابلة بين الشام والعراق فاستظهروا

(5/498)


برياستهم على آل مراد وغلبوهم على المشاتي فصار عامّة رحلتهم في حدود الشام قريبا من التلول والقرى لا ينجعون إلى البرية إلا في الأقل وكانت معهم أحياء من أفاريق العرب مندرجون في لفيفهم وحلفهم من مذحج وعامر وزبيد كما كان آل فضل إلا أن أكثر من كان مع آل مراد من أولئك الأحياء وأوفرهم عدة بنو حارثة بن سنبس إحدى شعوب طيِّئ هكذا ذكر لي الثقة عندي من رجالتهم وبنو حارثة هؤلاء متغلبون لهذا العهد في تلول الشام لا يجاوزونها إلى العمران ورياسة آل فضل لهذا العهد لبني مهنا وينسبونه هكذا مهنا بن مانع ابن جديلة بن فضل بن بدر بن ربيعة بن علي بن مفرج بن بدر بن سالم بن جصة بن بدر ابن سميع ويقفون عند سميع ويقول رعاؤهم أنّ سميعا هذا هو الّذي ولدته العباسة أخت الرشيد من جعفر بن يحيى البرمكي وحاشى للَّه من هذه المقالة في الرشيد وأخته وفي انتساب كبراء العرب من طيِّئ إلى موالي العجم من برمك وأنسابهم ثم أنّ الوجدان يحيل رياسة هؤلاء على هذا الحي إن لم يكونوا من نسبتهم وقد تقدّم مثل ذلك في مقدّمة الكتاب وكان مبدأ رياستهم من أوّل دولة بني أيوب قال العماد الأصبهاني في كتاب البرق السامي نزل العادل بمرج دمشق ومعه عيسى بن محمد بن ربيعة شيخ الأعراب في جموع كثيرة انتهى وكانت الرئاسة قبلهم لعهد الفاطميين لبني جراح من طيِّئ وكان كبيرهم مفرج بن دغفل ابن جراح وكان من إقطاعه الرملة وهو الّذي قبض على افتكين مولى بني بويه لما انهزم مع مولاه بختيار بالعراق وجاء به إلى المعز فأكرمه ورقاه في دولته ولم يزل شأن مفرج هكذا وتوفى سنة أربع وأربعمائة وكان من ولده حسان ومحمود وعلى وجران وولي حسان بعده وعظم صيته وكان بينه وبين خلفاء الفاطميين نفرة واستجاشة وهو الّذي هدم الرملة وهزم قائدهم هاروق التركي وقتله وسبى نساءه وهو الّذي مدحه التهامي وقد ذكر المسيحي وغيره من مؤرخي دولة العبيديين في قرابة حسان بن مفرج فضل بن ربيعة بن حازم بن جراح وأخاه بدر بن ربيعة ولعل فضلا هذا هو جدّ آل فضل وقال ابن الأثير وفضل بن ربيعة بن حازم كان آباؤه أصحاب البلقاء والبيت المقدّس وكان فضل تارة مع الإفرنج وتارة مع خلفاء مصر ونكره لذلك طغركين أتابك دمشق وكافل بني تتش وطرده من الشام فنزل على صدقة بن مزيد وحالفه ووصله حين قدم من دمشق بتسعة آلاف دينار فلما خالف صدقة بن مزيد على السلطان محمد بن ملك شاه سنة خمسمائة وما بعدها ووقعت بينهما الفتنة اجتمع فضل هذا وقرواش بن شرف الدولة مسلم بن قريش صاحب الموصل وبعض أمراء التركمان كانوا أولياء صدقة فساروا في الطلائع بين يدي الحرب وهربوا الى السلطان

(5/499)


فأكرمهم وخلع عليهم وأنزل فضل بن ربيعة بدار صدقة بن مزيد ببغداد حتى إذا سار السلطان لقتال صدقة استأذنه في الخروج إلى البرية ليأخذ بحجزة صدقة فأذن له وعبر إلى الأنبار ولم يرجع للسلطان بعدها انتهى كلام ابن الأثير ويظهر من كلامه وكلام المسيحي أنّ فضلا هذا وبدرا من آل جراح من غير شك ويظهر من سياقة هؤلاء نسبهم أنّ فضلا هذا هو جدهم لأنهم ينسبونه فضل بن علي بن مفرج وهو عند الآخرين فضل بن علي بن جراح فلعل هؤلاء نسبوا ربيعة إلى مفرج الّذي هو كبير بني الجراح لطول العهد وقلة المحافظة على مثل هذا من البادية الغفل وأما نسبة هذا الحي في طيِّئ فبعضهم يقول أن الرئاسة في طيِّئ كانت لأياس بن قبيصة من بني سنبس بن عمرو بن الغوث بن طيِّئ وإياس هو الّذي ملكه كسرى على الحيرة بعد آل المنذر عند ما قتل النعمان بن المنذر وهو الّذي صالح خالد بن الوليد على الحيرة ولم تزل الرئاسة على طيِّئ في بني قبيصة هؤلاء صدرا من دولة الإسلام فلعل آل فضل هؤلاء وآل الجراح من أعقابهم وإن كان انقرض أعقابهم فهم من أقرب الحي إليه لأنّ الرئاسة في الأحياء والشعوب إنما تتصل في أهل العصبية والنسب كما مرّ أوّل الكتاب وقال ابن حزم عند ما ذكر أنساب طيِّئ أنهم لما خرجوا من اليمن نزلوا أجا وسلمى وأوطنوهما وما بينهما ونزل بنو أسد ما بينهما وبين العراق وفضل كثير منهم وهم بنو خارجة بن سعد بن عبادة من طيِّئ ويقال هم جديلة نسبة إلى أمّهم بنت تيم الله وحبيش والأسعد إخوتهم رحلوا عن الجبلين في حرب الفساد فلحقوا بحلب وحاضر طيِّئ وأوطنوا تلك البلاد إلا بني رمان ابن جندب بن خارجة بن سعد فإنّهم أقاموا بالجبلين فكان يقال لأهل الجبلين الجبليون ولأهل حلب وحاضر طيِّئ من بني خارجة السهليون انتهى فلعل هذه أحياء الذين بالشام من بني الجراح وآل فضل من بني خارجة هؤلاء الذين ذكر ابن حزم أنهم انتقلوا إلى حلب وحاضر طيِّئ لأنّ هذا الموطن أقرب إلى مواطنهم لهذا العهد من مواطن بني الجراح بفلسطين من جبل أجا وسلمى الذين هما موطن الآخرين والله أعلم أيّ ذلك يصح من أنسابهم ولنرجع الآن إلى سرد الخبر عن رياسة آل فضل أهل هذا البيت منذ دولة بني أيوب فنقول كان الأمير منهم لعهد بني أيوب عيسى بن محمد بن ربيعة أيام العادل كما قلناه ونقلناه عن العماد الأصبهاني الكاتب ثم كان بعده حسام الدين مانع بن خدينة بن غصينة بن فضل وتوفي سنة ثلاثين وستمائة وولي عليهم بعده ابنه مهنا ولما ارتجع قطز ثالث ملوك الترك بمصر وملك الشام من يد التتر وهزم عسكرهم بعين جالوت أقطع سلميّة لمهنا بن مانع وانتزعها من عمل المنصور بن المظفر بن شاهنشاه صاحب حماة ولم أقف على تاريخ وفاة مهنا ثم ولي

(5/500)


الظاهر على أحياء العرب بالشام عند ما استفحل أمر الترك وسار إلى دمشق لتشييع الخليفة الحاكم عم المستعصم لبغداد فولى العرب عيسى بن مهنا بن مانع ووفر له الإقطاعات على حفظ السابلة وحبس ابن عمه زامل بن علي بن ربيعة من آل علي لإعناته وأعراضه ولم يزل أميرا على أحياء العرب وصلحوا في أيامه لأنه خالف أباه في الشدّة عليهم وهرب إليه سنقر الأشقر سنة تسع وتسعين وكاتبوا أبغا واستحثوه لملك الشام وتوفي عيسى بن مهنا سنة أربع وثمانين فولى المنصور قلاون بعده ابنه مهنا ثم سار الأشرف بن قلاون إلى الشام ونزل حمص ووفد عليه مهنا بن عيسى في جماعة من قومه فقبض عليه وعلى ابنه موسى وأخويه محمد وفضل ابني عيسى بن مهنا وبعث بهم إلى مصر فحبسوا بها حتى أفرج عنهم العادل كيبغا عند ما جلس على التخت سنة أربع وتسعين ورجع إلى إمارته ثم كان له في أيام الناصر نفرة واستجاشة وميل إلى ملوك التتر بالعراق ولم يحضر شيئا من وقائع غازان ولما انتقض سنقر وأقوش الأفرم وأصحابهما سنة اثنتي عشرة وسبعمائة لحقوا به وساروا من عنده إلى خربندا واستوحش هو من السلطان وأقام في أحيائه منقبضا عن الوفادة ووفد أخوه فضل سنة اثنتي عشرة فرعى له حق وفادته وولاه على العرب مكان أخيه مهنا وبقي مهنا مشرّدا ثم لحق سنة ست عشرة بخربندا ملك التتر فأكرمه وأقطعه بالعراق وهلك خربندا في تلك السنة فرجع إلى أحيائه وأوفد ابنيه أحمد وموسى وأخاه محمد بن عيسى مستعتبين للناصر ومتطارحين عليه فأكرم وفادتهم وأنزلهم بالقصر الأبلق وشملهم بالإحسان وأعتب مهنا ورده على إمارته وإقطاعه وذلك سنة سبع عشرة وحج هذه السنة ابنه عيسى وأخوه محمد وجماعة من آل فضل اثنا عشر ألف راحلة ثم رجع مهنا إلى ديدنه في ممالأة التتر والإجلاب على الشام واتصل ذلك منه فنقم السلطان عليه وسخطه قومه أجمع وكتب إلى نواب الشام سنة عشرين بعد مرجعه من الحج فطرد آل فضل عن البلاد وأدال منهم آل علي عديدة نسبهم وولي منهم على أحياء العرب محمد بن أبي بكر وصرف إقطاع مهنا وولده إلى محمد وولده فأقام مهنا على ذلك مدّة ثم وفد سنة إحدى وثلاثين مع الأفضل بن المؤيد صاحب حماة متوسلا به ومتطارحا على السلطان فأقبل عليه وردّ عليه إقطاعه وإمارته وذكر لي بعض أكابر الأمراء بمصر ممن أدرك وفادته أو حدّث عنها أنه تجافى في هذه الوفادة عن قبول شيء من السلطان حتى أنه ساق من النياق المحلوبة واستقاها وأنه لم يغش باب أحد من أرباب الدولة ولا سألهم شيئا من حاجته ثم رجع إلى أحيائه وتوفي سنة أربع وثلاثين فولي ابنه مظفر الدين موسى وتوفي سنة اثنتين وأربعين عقب مهلك الناصر وولي مكانه أخوه سليمان ثم هلك سليمان

(5/501)


سنة ثلاث وأربعين فولي مكانه شرف الدين عيسى ابن عمه فضل بن عيسى ثم توفي سنة أربع وأربعين بالقدس ودفن عند قبر خالد بن الوليد رضي الله عنه وولي مكانه اخوه سيف بن فضل. ثم عزله السلطان بمصر الكامل بن الناصر سنة ست وأربعين، وولي مكانه مهنا بن عيسى ثم جمع سيف بن مهنا ولقيه فياض بن مهنا فانهزم سيف ثم ولي السلطان حسين بن الناصر في دولته الأولى وهو في كفالة بيقاروس أحمد بن مهنا فسكنت الفتنة بينهم ثم توفي سنة تسع وأربعين فولي مكانه أخوه فياض وهلك سنة اثنتين وستين فولي مكانه أخوه خيار بن مهنا ولاه حسين بن الناصر في دولته الثانية ثم انتقض سنة خمس وستين وأقام سنين بالقفر ضاحيا إلى أن شفع فيه نائب حماة فأعيد إلى إمارته ثم انتقض سنة سبعين فولى السلطان الأشرف مكانه ابن عمه زامل بن موسى بن عيسى وجاء إلى نواحي حلب واجتمع إليه بنو كلاب وغيرهم وعاثوا في البلاد وعلى حلب يومئذ قشتمر المنصوري فبرز إليهم وانتهى إلى مخيمهم واستاق نعمهم وتخطي إلى الخيام فاستماتوا دونها وهزموا عساكره وقتل قشتمر وابنه في المعركة وتولى ذلك زامل بيده وذهب إلى القفر منتقضا فولي مكانه معيقيل بن فضل بن عيسى ثم بعث معيقيل صاحبه سنة إحدى وسبعين يستأمن لخيار فأمنه ثم وفد خيار بن مهنا سنة خمس وسبعين فرضي عنه السلطان فأعاده إلى إمارته ثم توفي سنة سبع وسبعين فولي أخوه قارة إلى أن توفي سنة إحدى وثمانين فولي مكانه معيقيل بن فضل بن عيسى وزامل بن موسى بن مهنا شريكين في إمارتهما ثم عزلا لسنة من ولايتهما وولي بصير بن جبار بن مهنا واسمه محمد وهو لهذا العهد أمير على آل فضل وجميع أحياء طيِّئ والله تعالى أعلم.
وفاة أبي سعيد ملك العراق وانقراض أمر بني هلاكو
ثم توفي أبو سعيد ملك العراق من التتر ابن خربندا بن ابغو بن ابغا بن هلاكو بن طولى خان بن جنكزخان سنة ست وثلاثين وسبعمائة لعشرين سنة من ملكه ولم يعقب فانقرض بموته ملك بني هلاكو وصار الأمر بالعراق لسواهم وافترق ملك التتر في سائر ممالكهم كما نذكر في أخبارهم ولما استبدّ ببغداد الشيخ حسن من أسباطهم كثر عليه المنازعون فبعث رسله إلى الناصر قبل وفاته يستنجده على أن يسلم له بغداد ويعطي الرهن في العساكر حتى يقضي بها في أعدائه فأجابه الناصر إلى ذلك ثم توفي قريبا فلم يتم والأمر للَّه وحده
.

(5/502)


وصول هدية ملك المغرب الأقصى مع رسله وكريمته صحبة الحاج
كان ملك بني مرين بالمغرب الأقصى قد استفحل لهذه العصور وصار للسلطان أبي الحسن علي بن السلطان أبي سعيد عثمان بن السلطان أبي يوسف بن يعقوب بن عبد الحق جدّ ملوكهم وأسف إلى ملك جيرانهم من الدول فزحف إلى المغرب الأوسط وهو في ملكة بني عبد الواد أعداء قومه من زنانة وملكهم أبو تاشفين عبد الرحمن بن أبي حمو موسى ابن أبي سعيد عثمان بن السلطان يغمر أسن بن زيان جدّ ملوكهم أيضا وكرسيه تلمسان سبعة وعشرين سهرا ونصب عليها المجانيق وأدار بالأسوار سياجا لمنع وصول الميرة والأقوات إليها وتقرى أعمالها بلدا بلدا فملك جميعها ثم افتتحها عنوة آخر رمضان سنة سبع وثلاثين ففض جموعها وقتل سلطانها عند باب قصره كما نذكره في أخبارهم ثم كتب للملك الناصر صاحب مصر يخبره بفتحها وزوال العائق عن وفادة الحاج وأنه ناظر في ذلك بما يسهل سبيلهم ويزيل عللهم وكانت كريمة من كرائم أبيه السلطان أبي سعيد ومن أهل فراشه قد اقتضت منه الوعد بالحج عند ما ملك تلمسان فلما فتحها وأذهب عدوّه منها جهز تلك المرأة للحج بما يناسب قرابتها منه وجهز معها للملك الناصر صاحب مصر هدية فخمة مشتملة على خمسمائة من الجياد المغربيات بعدتها وعدّة فرسانها من السروج واللجم والسيوف وظرف المغرب وما عونه من شتى أصنافه ومن ثياب الحرير والصوف والكتان وصنائع الجلد حتى ليزعموا أنه كان فيها من أواني الخزف وأصناف الدرّ والياقوت وما يشبههما في سبيل التودّد وعرض أحوال المغرب على سلطان المشرق ولعظم قدر هذه الوافدة عند الناصر أوفد معها من عظماء قومه ووزرائه وأهل مجلسه فوفدوا على الناصر سنة ثمان وثلاثين وأحلهم بأشرف محل من التكرمة وبعث من إصطبلاته ثلاثين خطلا من البغال يحملون الهدية من بحر النيل سوى ما تبعها من البخاتي والجمال وجلس لهم في يوم مشهود ودخلوا عليه وعرضوا الهدية فعمّ بها أهل دولته إحسانا في ذلك المجلس واستأثر منها على ما زعموا بالدرّ والياقوت فقط ثم فرّقهم في منازله وأنزلهم دار كرامته وقد هيئت بالفرش والماعون ووفر لهم الجرايات واستكثر لهم من الأزودة وبعث أمراء في خدمتهم إلى الحجاز حتى قضوا فرضهم في تلك السنة وانقلبوا إلى سلطانهم فجهز الناصر معهم هدية إلى ملك المغرب تشتمل على ثياب الحرير المصنوعة بالإسكندرية وعين منها الجمل المتعارف في كل سنة الخزانة السلطان وقيمته لذلك

(5/503)


العهد خمسون ألف دينار وعلى خيمة من خيم السلطان المصنوعة بالشام فيها أمثال البيوت والقباب والكفات مرساة أطرافها في الأرض بأوتاد الحديد والخشب كأنها قباب مائلة وعلى خيمة مؤزر باطنها من ثياب الحرير العراقية وظاهرها من ثياب القطن الصرافية مستجادة الصنعة بين الحدل والأوتاد أحسن ما يراه من البيوت وعلى صوان من الحرير مربع الشكل يقام بالحدل الحافظ ظله من الشمس وعلى عشرة من الجياد المقربات الملوكية بسروج ولجم ملوكية مصنوعة من الذهب والفضة مرصعة باللآلئ والفصوص وبعث مع تلك الجياد خدم يقومون ببنائها المتعارف فيها ووصلت الهدية إلى سلطان المغرب فوقعت منه أحسن المواقع وأعاد الكتب والرسل بالشكر واستحكمت المودّة بين هذين السلطانين واتصلت المهاداة إلى أن مضيا لسبيلهما والله تعالى وليّ التوفيق.
وفاة الخليفة أبي الربيع وولاية ابنه
قد ذكرنا أيام الظاهر وأنه أقام خليفة بمصر من ولد الراشد وصل يومئذ من بغداد واسمه أحمد بن محمد وذكرنا نسبه هنالك إلى الراشد وأنه بويع له بالخلافة سنة ستين وستمائة ولقبه الحاكم فلم يزل في خلافته إلى أن توفي سنة إحدى وسبعمائة وقد عهد لابنه سليمان فبايع له أهل دولة الناصر الكافلون لها ولقبوه المستكفي فبقي خليفة سائر أيام الناصر ثم تنكر له السلطان سنة ست وثلاثين لشيء نمي له عن بنيه فأسكنه بالقلعة ومنعه من لقاء الناس فبقي حولا كذلك ثم ترك سبيله ونزل إلى بيته ثم كثرت السعاية في بنيه فغربه سنة ثمان وثلاثين إلى قوص هو وبنيه وسائر أقاربه وأقام هنالك إلى أن هلك سنة أربعين قبل مهلك الناصر وقد عهد بالخلافة لابنه أحمد ولقبه الحاكم فلم يمض الناصر عهده في ذلك لأنّ أكثر السعاية المشار إليها كانت فيه فنصب للخلافة بعد المستكفي ابن عمه إبراهيم بن محمد ولقبه الواثق وهلك لأشهر قريبة فاتفق الأمراء بعده على إمضاء عهد المستكفي في ابنه أحمد فبايعوه سنة إحدى وأربعين وأقام في الخلافة إلى سنة ثلاث وخمسين فتوفي وولي أخوه أبو بكر ولقب المعتضد ثم هلك سنة ثلاث وستين لعشرة أشهر من خلافته ونصب بعده ابنه محمد ولقب المتوكل ونورد من أخباره في أماكنها ما يحضرنا ذكره والله سبحانه وتعالى أعلم بغيبه.
نكبة تنكز ومقتله
كان تنكز مولى من موالي لاشين اصطفاه الناصر وقرّبه وشهد معه وقائع التتر وسار معه إلى

(5/504)


الكرك وأقام في خدمته مدّة خلعه ولما رجع إلى كرسيه ومهد أمور ملكه ورتب الولاية لمن يرضاه من أمرائه بعث تنكز إلى الشام وجعله نائبا بدمشق ومشارفا لسائر بلاد الروم ففتح ملطية ودوّخ بلاد الأرمن وكان يتردّد بالوفادة على السلطان يشاوره وربما استدعاه للمفاوضة في المهمات واستفحل في دفاع التتر وكيادهم ولما توفي أبو سعيد وانقرض ملك بني هلاكو وافترق أمر بغداد وتورين وكانا معا يحاورانه ويستنجدانه وسخطه بعضهم فراسل السلطان بغشه وادّهانه في طاعته وممالأة أعدائه وشرع السلطان في استكشاف حاله وكان قد عقد له على بنته فبعث دواداره باجار يستقدمه للأعراس بها وكان عدوّا له للمنافسة والغيرة فأشار على تنكز بالمقام وتخلية عن السلطان وغشه في النصيحة وحذر السلطان منه فبعث الملك الناصر إلى طشتمر نائب صفد أن يتوجه إلى دمشق ويقبض عليه فقبض عليه سنة أربعين لثمان وعشرين سنة لولايته بدمشق وبعث الملك الناصر مولاه لشمك إلى دمشق في العساكر فاحتاط على موجودة وكان شيئا لا يعبر عنه من أصناف المتملكات وجاء به مقيدا فاعتقل بالإسكندرية ثم قتل في محبسه والله تعالى أعلم.
وفاة الملك الناصر وابنه أنوك قبله وولاية ابنه أبي بكر ثم كجك
ثم توفي الملك الناصر محمد بن المنصور قلاون أمجد ما كان ملكا وأعظم استبدادا توفي على فراشه في ذي الحجة آخر إحدى وأربعين وسبعمائة بعد أن توفي قبله بقليل ابنه أنوك فاحتسبه وكانت وفاته لثمان وأربعين سنة من ولايته الأولى في كفالة طنبغا ولاثنتين وثلاثين من حين استبداده يأمره بعد بيبرس وصفا الملك له وولي النيابة في هذه ثلاثة من أمرائه بيبرس الدوادار المؤرخ ثم بكتمر الجوكندار ثم أرغون الدوادار ولم يول أحد النيابة بعده وبقيت الوظيفة عطلا آخر أيامه وأمّا دواداريّه فأيدمر ثم سلار ثم الحلي ثم يوسف بن الأسعد ثم بغا ثم طاجار وكتب عنه شرف الدين بن فضل الله ثم علاء الدين بن الأمير ثم محيي الدين بن فضل الله ثم ابنه شهاب الدين ثم ابنه الآخر علاء الدين وولي القضاء في دولته تقي الدين بن دقيق العيد ثم بدر الدين بن جماعة وإنما ذكرت هذه الوظائف وإن كان ذلك ليس من شرط الكتاب لعظم دولة الناصر وطول أمدها واستفحال دولة الترك عندها وقدّمت الكتاب على القضاة وإن كانوا أحق بالتقديم لأنّ الكتاب أمس بالدولة فإنّهم من أعوان الملك ولما اشتدّ المرض بالسلطان وكان قوصون أحظى عظيم من أمرائه فبادر القصر في مماليكه

(5/505)


متسلحين وكان بشتك يضاهيه فارتاب وسلح أصحابه وبدا بينهما التنافس ودس بشتك الشكوى إلى السلطان فاستدعاهما وأصلح بينهما وأراد أن يعهد بالملك إلى قوصون فامتنع فعهد لابنه أبي بكر ومات فمال من عماله بشتك إلى ولاية أحمد صاحب الكرك وأبى قوصون إلا الوفاء بعهد السلطان ثم رجع إليه بشتك بعد مراوضة فبويع أبو بكر ولقب المنصور وقام بأمر الدولة قوصون وردفه قطلوبغا الفخري فولوا على نيابة السلطان طقردمر وبعثوا على حلب طشتمر وعلى حمص أخضر عوضا عن طغراي وأقرّوا كيبغا الصالحي على دمشق ثم استوحش بشتك من استبداد قوصون وقطلوبغا دونه فطلب نيابة دمشق وكان يعجب بها من يوم دخلها للحوطة على تنكز فاستعفوه فلما جاء للوداع قبض عليه قطلوبغا الفخري وبعث به إلى الإسكندرية فاعتقل بها ثم أقبل السلطان أبو بكر على لذاته ونزع عن الملك وصار يمشي في سكك المدينة في الليل متنكرا مخالطا للسوقة فنكر ذلك الأمراء وخلعه قوصون وقطلوبغا لسبعة وخمسين يوما من بيعته وبعثوا به إلى قوص فحبس بها وولوا أخاه كجك ولقبوه الأشرف وعزلوا طقردمر عن النيابة وقام بها قوصون وبعثوا طقردمر نائبا على حماة وأدالوا به من الأفضل بن المؤيد فكان آخر من وليها من بني المظفر وقبضوا على طاجار الدويدار وبعثوا به إلى الاسكندرية فغرق في البحر وبعثوا بقتل بشتك في محبسه بالإسكندرية والله تعالى ينصر من يشاء من عباده.
مقتل قوصون ودولة أحمد بن الملك الناصر
لما بلغ الخبر إلى الأمراء بالشام باستبداد قوصون على الدولة غصوا من مكانه واعتزموا على البيعة لأحمد بن الملك الناصر وكان يومئذ بالكرك مقيما منذ ولاه أبوه إمارتها كما قدّمناه فكاتبه طشتمر نائب حمص وأخضر نائب حلب واستدعاه إلى الملك وبلغ الخبر إلى مصر فخرج قطلوبغا في العساكر لحصار الكرك وبعثوا إلى طنبغا الصالحي نائب دمشق فسار في العساكر إلى حلب للقبض على طشتمر نائب حمص وأخضر وكان قطلوبغا الفخري قد استوحش من صاحبه قوصون وغص باستبداده عليه فلما فصل بالجند من مصر بعث بيعته إلى أحمد بن الملك الناصر بالكرك وسار إلى الشام فأقام دعوته في دمشق ودعا إليها طقرمرد نائب حماة فأجابه وقدم عليه وانتهى الخبر إلى طنبغا نائب دمشق وهو يحاضر حلب فافرج عنها ودعاه قطلوبغا إلى بيعة أحمد فأبى فانتقض عليه أصحابه وسار إلى مصر واستولى قطلوبغا الفخري على الشام أجمع بدعوة أحمد وبعث إلى الأمراء بمصر فأجابوا إليها

(5/506)


واجتمع آيدغمش وآق سنقر السلاري وغازي ومن تبعهم من الأمراء على البيعة لأحمد واستراب بهم قوصون كافل المملكة وهمّ بالقبض عليهم وشاور طنبغا اليحياوي من عنده من أصحابه في ذلك فغشوه وخذلوه وركب القوم ليلا وكان آيدغمش عنده بالإصطبل وهو أمير الماصورية وهمّ قوصون بالركوب فخذله وثنى عزمه ثم ركب معهم واتصلت الهيعة ونادى في الغوغاء بنهب بيوت قوصون فنهبوها وخربوها وخربوا الحمامات التي بناها بالقرافة تحت القلعة ونهب شيخها شمس الدين الأصبهاني فسلبوه ثيابه وانطلقت أيدي الغوغاء في البلد ولحقت الناس منهم مضرات في بيوتهم واقتحموا بيت حسام الدين الغوري قاضي الحنفية فنهبوه وسبوا عياله وقادهم إليه بعض من كان يحنق عليه من الخصوم فجرت عليه معرّة من ذلك ثم اقتحم آيدغمش وأصحابه القلعة وتقبضوا على قوصون وبعثوا به إلى الإسكندرية فمات في محبسه وكان قوصون قد أخرج جماعة من الأمراء للقاء طنبغا الصالحي فسار قراسنقر السلاري في أثرهم وتقبض عليهم وعلى الصالحي وبعث بهم جميعا إلى الإسكندرية فيما بعد سنة خمس وأربعين وبعث لأحمد بن الملك الناصر وطير إليه بالخبر وتقبض على جماعة من الأمراء واعتقلهم ثم قدم السلطان أحمد من الكرك في رمضان سنة اثنتين وأربعين ومعه طشتمر نائب حمص وأخضر نائب حلب وقطلوبغا الفخري فولى طشتمر نائبا بمصر وقطلوبغا الفخري بعثه إلى دمشق نائبا ثم قبض على أخضر لشهر أو نحوه وقبض على آيدغمش وآق سنقر السلاري ثم ولى آيدغمش على حلب وبلغ الخبر إلى قطلوبغا الفخري قبل وصوله إلى دمشق فعدل إلى حلب وأتبعته العساكر فلم يدركوه وتقبض على آيدغمش بحلب وبعث به إلى مصر فاعتقل مع طشتمر وارتاب الأمراء بأنفسهم واستوحش السلطان منهم انتهى والله أعلم.
مسير السلطان أحمد إلى الكرك واتفاق الأمراء على خلعه والبيعة لأخيه الصالح
ولما استوحش الأمراء من السلطان وارتاب بهم ارتحل إلى الكرك لثلاثة أشهر من بيعته واحتمل معه طشتمر وآيدغمش معتقلين واستصحب الخليفة الحاكم واستوحش نائب صفد بيبرس الأحمدي وسار إلى دمشق وهي يومئذ فوضى فتلقاه العسكر وأنزلوه وبعث السلطان في القبض عليه فأبى من إعطاء يده وقال إنما الطاعة لسلطان مصر وأمّا صاحب الكرك فلا وطالت غيبة السلطان أحمد بالكرك واضطرب الشام فبعث إليه الأمراء بمصر في

(5/507)


الرجوع إلى دار ملكه فامتنع وقال هذه مملكتي أنزل من بلادها حيث شئت وعمد إلى طشتمر وآيدغمش الفخري فقتلهما فاجتمع الأمراء بمصر وكبيرهم بيبرس العلاني وأرغون الكاملي وخلعوه وبايعوا لأخيه إسماعيل في محرّم سنة ثلاث وأربعين ولقبوه الصالح فولى آق سنقر السلاري ونقل آيدغمش الناصري من نيابة حلب إلى نيابة دمشق وولى مكانه بحلب طقرمرد ثم عزل آيدغمش من دمشق ونقل إليها طقرمرد وولي بحلب طنبغا المارداني ثم هلك المارداني فولى مكانه طنبغا اليحياوي واستقامت أموره والله تعالى وليّ التوفيق.
ثورة رمضان بن الناصر ومقتله وحصار الكرك ومقتل السلطان أحمد
ثم أن بعض المماليك داخل رمضان بن الملك الناصر في الثورة بأخيه وواعدوه قبة النصر فركب إليهم وأخلفوه فوقف في مماليكه ساعة يهتفون بدعوته ثم استمرّ هاربا إلى الكرك وأتبعه العسكر مجدّين السير في الطريق وجاءوا به فقتل بمصر وارتاب السلطان بالكثير من الأمراء وتقبض على نائبة آق سنقر السلاري وبعث به إلى الإسكندرية فقتل هنالك وولى مكانه إنجاح الملك ثم سرّح العساكر سنة أربع وأربعين لحصار الكرك مترادفة ونزع بعض العساكر عن السلطان أحمد من الكرك فلحقوا بمصر وكان آخر من سار من الأمراء لحصار الكرك قماري ومساري سنة خمس وأربعين فأخذوا بمخنقه ثم اقتحموا عليه وملكوه وقتلوه فكان لبثه بالملك في مصر ثلاثة أشهر وأياما وانتقل إلى الكرك في محرّم سنة ثلاث وأربعين إلى أن حوصر ومثل به وتوفي في أيامه طنبغا المارداني نائب حلب فولي مكانه طنبغا اليحياوي وسيف الدين طراي الجاشنكير نائب طرابلس فولي مكانه آق سنقر الناصري والله تعالى أعلم.
وفاة الصالح بن الناصر وولاية أخيه الكامل
ثم توفي الملك الصالح إسماعيل بن الملك الناصر حتف أنفه سنة ست وأربعين لثلاث سنسن وثلاثة أشهر من ولايته وبويع بعده أخوه زين الدين شعبان ولقب الكامل وقام بأمره أرغون العلاوي وولي نيابة مصر وعرض إنجاح الملك إلى صفد ثم ردّه من طريقه معتقلا إلى دمشق وبعث إلى القماري الكبير فبعثه إلى حبس الإسكندرية واستدعى طقرمرد نائب دمشق وكجك الأشرف المخلوع بن الناصر الّذي ولاه قوصون وهلك إنجاح الملك الجوكندار في محبسه بدمشق انتهى والله أعلم
.

(5/508)


مقتل الكامل وبيعة أخيه المظفر حاجي
كان السلطان الكامل قد أرهف حده في الاستبداد على أهل دولته فرارا مما يتوهم فيهم من الحجر عليه فتراسل الأمراء بمصر والشام وأجمعوا الإدالة منهم وانتقض طنبغا اليحياوي ومن معه بدمشق سنة سبع وأربعين وبرز في العساكر يريد مصر وبعث الكامل منجو اليوسفي يستطلع أخبارهم فحبسه اليحياوي واتصل الخبر بالكامل فجرّد العساكر إلى الشام واعتقل حاجي وأمير حسين بالقلعة واجتمع الأمراء بمصر للثورة وركبوا إلى قبة النصر مع أيدمر الحجازي وآق سنقر الناصري وأرغون شاه فركب إليهم الكامل في مواليه ومعه أرغون العلاوي نائبة فكانت بينهما جولة هلك فيها أرغون العلاوي ورجع الكامل إلى القلعة منهزما ودخل من باب السرّ مختفيا وقصد محبس أخويه ليقتلهما فحال الخدام دونهما وغلقوا الأبواب وجمع الذخيرة ليحملها فعاجلوه عنها ودخلوا القلعة وقصدوا حاجي بن الناصر فأخرجوه من معتقله وجاءوا به فبايعوه ولقبوه المظفر وافتقدوا الكامل وتهدّدوا جواريه بالقتل فدلوا عليه واعتقل مكان حاجي بالدهشة وقتل في اليوم الثاني وأطلق حسين وقام بأمر المظفر حاجي أرغون شاه والحجازي وولوا طقتمر الأحمدي نائبا بحلب والصلاحي نائبا بحمص وحبس جميع موالي الكامل وأخرج صندوق من بيت الكامل قيل أنّ فيه السحر فأحرق بمحضر الأمراء ونزع المظفر حاجي إلى الاستبداد كما نزع أخوه فقبض على الحجازي والناصري وقتلهما لأربعين يوما من ولايته وعلى أرغون شاه وبعثه نائبا إلى صفد وجعل مكان طقتمر الأحمدي في حلب تدمر البدري وولى على نيابة الحاج أرقطاي وأرهف حده في الاستبداد وارتاب الأمراء بمصر والشام وانتقض اليحياوي بدمشق سنة ثمان وأربعين وداخله نواب الشام في الخلاف ووصل الخبر إلى مصر فاجتمع الأمراء وتواعدوا للوثوب ونمي الخبر إلى المظفر فأركب مواليه من جوف الليل وطافوا بالقلعة وتداعى الأمراء إلى الركوب واستدعاهم من الغد إلى القصر وقبض على كلّ من اتهمه منهم بالخلاف وهرب بعضهم فأدرك بساحة البلد واعتقلوا جميعا وقتلوا من تلك الليلة وبعث بعضهم إلى الشام فقتلوا بالطريق وولى من الغد مكانهم خمسة عشر أميرا ووصل الخبر إلى دمشق فلاذ اليحياوي بالمغالطة يخادع بها وقبض على جماعة من الأمراء وكان السلطان المظفر قد بعث الأمير الجبقا من خاصته إلى الشام عند ما بلغه انتقاض طنبغا اليحياوي يستطلع أخباره فحمل الناس على طاعة المظفر وأغراهم باليحياوي حتى قتلوه وبعثوا برأسه إلى مصر وسكنت الفتنة واستوسق الملك للمظفر والله سبحانه وتعالى أعلم
.

(5/509)


مقتل المظفر حاجي بن الناصر وبيعة أخيه حسن الناصر ودولته الأولى
قد كنا قدّمنا أنّ السلطان بعث جبقا إلى الشام حتى مهده ومما أثر الخلاف منه ورجع إلى السلطان سنة ثمان وأربعين وقد استوسق أمره فوجد الأمراء مستوحشين من السلطان ومنكرين عليه اللعب بالحمام فتنصح له بذلك يريد إقلاعه عنه فسخط ذلك منه وأمر بالحمام فذبحت كلها وقال لجبقا أنا أذبح خياركم كما ذبحت هذه فاستوحش جبقا وغدا على الأمراء والنائب بيقاروس [1] وثاروا بالسلطان وخرجوا إلى قبة النصر وركب المظفر في مواليه والأمراء الذين معه قد داخلوا الآخرين في الثورة ورأيهم واحد في خلعه فبعث إليهم الأمير شيخو يتلطف لهم فأبوا إلّا خلعه فجاءهم بالخبر ثم رجع إليهم وزحف معهم ولحق بهم الأمراء الذين مع المظفر عند ما تورّط في اللقاء وحمل عليه بيقاروس فأسلمه أصحابه وأمسكه باليد فذبحه في تربة أمّه خارج القلعة ودفن هناك ودخلوا القلعة في رمضان من السنة وأقاموا عامّة يومهم يتشاورون فيمن يولونه حتى همّ أكثر الموالي بالثورة والركوب إلى قبة النصر فحينئذ بايعوا حسن بن الملك الناصر ولقبوه الناصر بلقب أبيه فوكل بأخيه حسين ومواليه لنفسه ونقل المال الّذي بالحوش فوضعه بالخزانة وقام بالدولة ستة من الأمراء وهم شيخو وطاز والجبقا وأحمد شادي الشرنخاناه وأرغون الإسماعيلي والمستبدّ عليهم جميعا بيقاروس ويعرف بالقاسمي فقتل الحجازي وآق سنقر القائمين بدولة المظفر بمحبسهما بالقلعة وولي بيقاروس نائبا بمصر فكان أرقطاي وأرغون شاه نائبا بحلب مكان تدمر البدري ثم نقله إلى دمشق منذ مقتل اليحياوي وولى مكانه بحلب إياس الناصر ثم تقبض بيقاروس على رفيقه أحمد شادي الشرنخاناه وغرّبه إلى صفد وأبعد الجبقا من رفقته وبعثه نائبا على طرابلس وبعث أرغون الإسماعيلي منهم نائبا على حلب وفي هذه السنة وقعت الفتنة بينه وبين مهنا بن عيسى ولقيه فهزمه ووفد أحمد أخوه على السلطان فولاه إمارة العرب وهدأت الفتنة بينهم ثم هلك سنة تسع وأربعين بعدها وولى أخوه فياض كما مرّ في أخبارهم والله تعالى أعلم.
__________
[1] بياض في جميع النسخ ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا للتصويب.

(5/510)


مقتل أرغون شاه نائب دمشق
كان خبر هذه الواقعة الغريبة أنّ الجبقا بعثوه نائبا على طرابلس وسار صحبة إياس الحاجب نائبا على حلب سنة خمسين وانتهوا إلى دمشق ونمي إلى الجبقا عن أرغون شاه أنه تعرض لبعض حرمه بصنيع جمع فيه نسوان أهل الدولة بدمشق فكتب إليه ليلا وطرقه في بيته فلما خرج إليه قبض عليه وذبحه في ربيع وصنع مرسوما سلطانيا دافع به الناس والأمراء واستصفى أمواله ولحق بطرابلس وجاء الأمر من مصر باتباعه وإنكار المرسوم الّذي أظهروه فزحفت العساكر من دمشق وقبضوا على الجبقا وإياس الحاجب بطرابلس وجاءوا بهما إلى مصر فقتلا وولي الشمس الناصري نيابة دمشق مع أرغون شاه وصلب أرغون الكافلي وذلك في جمادى سنة خمسين وأصل أرغون شاه من بلاد الصين جلب إلى السلطان أبي سعيد ملك التتر ببغداد فأعطاه للأمير خواجا نائب جوبان وأهداه خواجا للملك الناصر فحظي عنده وقدّمه رأس نوبة وزوّجه بنت عبد الواحد ثم ولاه الكامل استاذ دار ثم عظمت مرتبته أيام المظفر وجعل نائبا في صفد ثم في حلب. ولمّا حبس طنبغا اليحياوي على دمشق بسعاية الجبقا كما مرّ ولّى أرغون شاه بدمشق والله سبحانه وتعالى أعلم.
نكبة بيقاروس
ثم إنّ السلطان حسن شرع في الاستبداد وقبض على منجك اليوسفي استاذ داره وعلى السلحدار واعتقلهما من غير مشورة بيقاروس وأصحابه وكان لمنجك اختصاص ببيقاروس وأخوه معه فارتاب واستأذن السلطان في الحج هو وطاز فأذن لهما ودس إلى طاز بالقبض على بيقاروس وسار لشأنهما فلما نزلا بالينبع قبض طاز على بيقاروس فخرج ورغب إليه في أن يتركه يحج مقيدا فتركه فلما قضى نسكه ورجعوا حبسه طاز بالكرك بأمر السلطان وأفرج عنه بعد ذلك وولي نيابة حلب وانتقض بها كما نذكر بعد أن شاء الله تعالى وبلغ خبر اعتقاله إلى أحمد شادي الشرنخاناه بصفد فانتقض وجهز السلطان إليه العساكر فقبض عليه وجيء به إلى مصر فاعتقل بالإسكندرية وقام بالدولة مغلطاي من أمرائها والله تعالى أعلم.
واقعة الظاهر ملك اليمن بمكة واعتقاله ثم إطلاقه
كان ملك اليمن وهو المجاهد علي بن داود المؤيد قد جاء إلى مكة حاجا سنة إحدى وخمسين

(5/511)


وهي السنة التي حج فيها طاز وشاع في الناس عنه أنه يروم كسوة الكعبة فتنكر وفد المصريين لوفد اليمنيين ووقعت في بعض الأيام هيعة في ركب الحاج فتحاربوا وانهزم المجاهد وكان بيقاروس مقيدا فأطلقه وأركبه ليستعين به فجلا في تلك الهيعة وأعيد إلى اعتقاله ونهب حاج اليمن وقيد المجاهد إلى مصر فاعتقل بها حتى أطلق في دولة الصالح سنة اثنتين وخمسين وتوجه معه قشتمر المنصوري ليعيده إلى بلاده فلما انتهى إلى الينبع أشيع عنه أنه همّ بالهرب فقبض عليه قشتمر المنصوري وحبسه بالكرك ثم أطلق بعد ذلك وأعيد إلى ملكه والله أعلم.
خلع حسن الناصر وولاية أخيه الصالح
لما قبض السلطان حسن على بيقاروس وحبسه وتنكر لأهل دولته ورفع عليهم مغلطاي واختصه واستوحشوا لذلك وتفاوضوا وداخل طاز وهو كبيرهم جماعة من الأمراء في الثورة وأجابه إلى ذلك بيقو الشمسي في آخرين واجتمعوا لخلعة وركبوا في جمادى سنة اثنتين وخمسين فلم يمانعهم أحد وملكوا أمرهم ودخلوا القلعة وقبض طاز على حسن الناصر واعتقله وأخرج أخاه حسينا من اعتقاله فبايعه ولقبه الصالح وقام بحمل الدولة وأخرج بيقو الشمسي إلى دمشق وبيقر إلى حلب أسيرين وانفرد بالأمر ثم نافسه أهل الدولة واجتمعوا على الثورة وتولى كبر ذلك مغلطاي ومنكلي وبيبقا القمري وركبوا فيمن اجتمع إليهم إلى قبة النصر للحرب فركب طاز وسلطانه الصالح في جموعه وحمل عليهم ففض جمعهم وأثخن فيهم وقبض على مغلطاي ومنكلي فحبسهما بالإسكندرية وأفرج عن منجك وعن شيخو وجعله أتابكه على العساكر وأشركه في سلطانه وولى سيف الدين ملاي نيابته واختص سرغتمش ورقاه في الدولة وقبض على الشمسي المحمدي نائب دمشق ونقل إليها لمكانه أرغون الكاملي من حلب وأفرج عن بيقاروس بالكرك وبعثه مكانه إلى حلب ثم تغير منجك واختفى بالقاهرة والله تعالى أعلم.
انتقاض بيقاروس واستيلاؤه على الشام ومسير السلطان إليه ومقتله
قد تقدّم لنا ذكر بيقاروس وقيامه بدولة حسن الأولى ونكبته في طريقه إلى الحج بالكرك ولما أطلقه طاز وولاه على حلب أدركته المنافسة والغيرة من طاز واستبداده بالدولة فحدّثته نفسه

(5/512)


بالخلاف وداخل نواب الشام ووافقه في ذلك بلكمش نائب طرابلس وأحمد شادي الشرنخاناه نائب صفد وخالفه أرغون الكاملي نائب دمشق وتمسك بالطاعة وتعاقد هؤلاء على الخلاف مع شيخو وسرغتمش في رجب سنة ثلاث وخمسين ثم دعا بيقاروس العرب والتركمان إلى الموافقة فأجابه جبار بن مهنا من العرب وقراجا بن العادل من التركمان في جموعهما وبرز من حلب بقصد دمشق فأجفل عنها أرغون النائب إلى غزة واستخلف عليها الجبقا العادلي ووصل بيقاروس فملكها وامتنعت القلعة فحاصرها وكثر العيث من عساكره في القرى وسار السلطان الصالح وأمراء الدولة من مصر في العساكر في شعبان من السنة وأخرج معه الخليفة المعتضد أبا الفتح أبا بكر بن المستكفي وعثر بين يدي خروجه على منجك ببعض البيوت لسنة من اختفائه فبعث به سرغتمش إلى الإسكندرية وبلغ بيقاروس خروج السلطان من مصر فأجفل عن دمشق وثار العوام بالتركمان فأثخنوا فيهم ووصل السلطان إلى دمشق ونزل بالقلعة وجهز العساكر في إتباع بيقاروس فجاءوا بجماعة من الأمراء الذين كانوا معه فقتل السلطان بعضهم ثالث الفطر وحبس الباقين وولى على دمشق الأمير عليا المارداني ونقل منها أرغون الكاملي إلى حلب وسرّح العساكر في طلب بيقاروس مع مغلطاي الدوادار وعاد إلى مصر فدخلها في ذي القعدة من السنة وسار مغلطاي في طلب بيقاروس وأصحابه فأوقع بهم وتقبض على بيقاروس وأحمد وقطلمش وقتلهم وبعث برءوسهم إلى مصر أوائل سنة أربع وخمسين وأوعز السلطان إلى أرغون الكاملي نائب حلب بأن يخرج في العساكر لطلب قراجا بن العادل مقدم التركمان فسار إلى بلده البلسين فوجدها مقفرة وقد أجفل عنها فهدمها أرغون وأتبعه إلى بلاد الروم فلما أحسّ بهم أجفل ولحق بابن أرشا قائد المغل في سيواس ونهب العساكر أحياءه واستاقوا مواشيه ثم قبض عليه ابن ارشا قائد المغل وبعث به إلى مصر فقتل بها وسكنت الفتنة وأطلق المعتقلون بالإسكندرية وتأخر منهم مغلطاي ومنجك أياما ثم أطلقا وغربا إلى الشام والله تعالى أعلم.
واقعة العرب بالصعيد
وفي أثناء هذه الفتن كثر فساد العرب بالصعيد وعيثهم وانتهبوا الزروع والأموال وتولى كبر ذلك الأحدب وكثرت جموعه فخرج السلطان في العساكر سنة أربع وخمسين ومعه طاز وسار شيخو في المقدمة فهزم العرب واستلحم جموعهم وامتلأت أيدي العساكر بغنائمهم وخلص السلطان من الظهر والسلاح ما لا يعبر عنه وأسر جماعة منهم فقتلوا وهرب الأحدب

(5/513)


حتى استأمن بعد رجوع السلطان فأمنه على أن يمتنعوا من ركوب الخيل وحمل السلاح ويقبلوا على الفلاحة والله تعالى أعلم.
خلع الصالح وولاية حسن الناصر الثانية
كان شيخو أتابك العساكر قد ارتاب بصاحبه طاز فداخل الأمراء بالثورة بالدولة وتربص بها إلى أن خرج طاز سنة خمس وخمسين إلى البحيرة متصيدا وركب إلى القلعة فخلع الصالح ابن بنت تنكز وقبض عليه وألزمه بيته لثلاث سنين كوامل من دولته وبايع لحسن الناصر أخيه وأعاده إلى كرسيه وقبض على طاز فاستدعاه من البحيرة فبعثه إلى حلب نائبا وعزل أرغون الكاملي فلحق بدمشق حتى تقبض عليه سنة ست وخمسين وسيق إلى الإسكندرية فحبس بها وبلغ الخبر بوفاة الشمسي الأحمدي نائب طرابلس وولى مكانه منجك واستبدّ شيخو بالدولة وتصرّف بالأمر والنهي وولى على مكة عجلان بن رميثة وأفرده بإمارتها وكانت له الولاية والعزل والحلّى والعقد سائر أيامه وأعتمده الملوك من النواحي شرقا وغربا بالمخاطبات وكان رديفه في حمل الدولة سرغتمش من موالي السلطان والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده بمنه.
مهلك شيخو ثم سرغتمش بعده واستبداد السلطان بأمره
لم يزل شيخو مستبدّا بالدولة وكافلا للسلطان حتى وثب عليه يوما بعض الموالي بمجلس السلطان في دار العدل في شعبان سنة ثمان وخمسين أعتمده في دخوله من باب الإيوان وضربه بالسيف ثلاثا أصاب بها وجهه ورأسه وذراعيه فخرّ لليدين ودخل السلطان بيته وانفضّ المجلس واتصلت الهيعة بالعسكر خارج القلعة فاضطربوا واقتحم موالي شيخو القلعة الى الإيوان يتقدمهم خليل بن قوصون وكان ربيبه لأنّ شيخو تزوّج بأمه فاحتمل شيخو الى منزله وأمر الناصر بقتل المملوك الّذي ضربه فقتل ليومه وعاده الناصر من الغد وتوجل من الوثبة أن تكون بأمره وأقام شيخو عليلا الى أن هلك في ذي القعدة من السنة وهو أوّل من سمي الأمير الكبير بمصر واستقلّ سرغتمش رديفه بحمل الدولة وبعث عن طاز فأمسكه بحلب وحبسه بالإسكندرية وولى مكانه الأمير عليا المارداني نقله اليها من دمشق وولى مكانه بدمشق منجك اليوسفي ثم تقبض السلطان على سرغتمش في رمضان سنة تسع وخمسين وعلى جماعة من الأمراء معه مثل مغلطاي الدوادار وطشتمر القاسمي الحاجب وطنبغا الماجاري وخليل

(5/514)


بن قوصون ومحا السلحدار وغيرهم وركب مواليه وقاتلوا مماليك السلطان في ساحة القلعة صدر نهار ثم انهزموا وقتلوا واعتقل سرغتمش وجماعته المنكوبون بالإسكندرية وقتل بمحبسه لسبعين يوما من اعتقاله وتخطت النكبة إلى شيعته وأصحابه من الأمراء والقضاة والعمال وكان الّذي تولى نكبة هؤلاء كلهم بأمر السلطان منكلي بيبقا الشمسي ثم استبدّ السلطان بملكه واستولى على أمره وقدم مملوكه بيبقا القمري وجعله أمير ألف وأقام في الحجابة الجاي اليوسفي ثم بعثه الى دمشق نائبا واستقدم منجك نائب دمشق فلما وصل الى غزة استتر واختفى فولى الناصر مكانه بدمشق الأمير عليا المارداني نقله من حلب وولى على حلب سيف الدين بكتمر المؤمني ثم أدال من علي المارداني في دمشق باستدمر ومن المؤمني في حلب بمندمر الحوراني وأمره السلطان سنة احدى وستين بغزو سيس وفتح أذنة وطرسوس والمصيصة في حصون أخرى وولى عليها ورجع فولاه السلطان نيابة دمشق مكان استدمر وولى على حلب أحمد بن القتمري ثم عثر بدمشق سنة احدى وستين على منجك بعد أن نال العقاب بسببه جماعة من الناس فلما حضر عفا عنه السلطان وأمدّه وخيره في النزول حيث شاء من بلاد الشام وأقام السلطان بقية دولته مستبدّا على رجال دولته وكان يأنس بالعلماء والقضاة ويجمعهم في بيته متبذلا ويفاوضهم في مسائل العلم ويصلهم ويحسن اليهم ويخالطهم أكثر ممن سواهم الى أن انقرضت دولته والبقاء للَّه وحده.
ثورة بيبقا ومقتل السلطان حسن وولاية منصور بن المظفر حاجي في كفالة بيبقا
كان بيبقا هذا من موالي السلطان حسن وأعلاهم منزلة عنده وكان يعرف بالخاصكي نسبة الى خواص السلطان وكان الناصر قد رقاه في مراتب الدولة وولاه الإمارة ثم رفعه الى الأتابكية وكان لجنوحه إلى الاستبداد كثيرا ما يبوح بشكاية مثل ذلك فأحضره بعض الليالي بين حرمه وصرفه في جملة من الخدمة لبعض مواليه وقادها فأسرها بيبقا في نفسه واستوحش وخرج السلطان سنة اثنتين وستين إلى كوم برّى وضرب بها خيامه وأذن للخاصكي في مخيمه قريبا منه ثم نمي عنه خبر الانتقاض فأجمع القبض عليه واستدعاه فامتنع من الوصول وربما أشعره داعيه بالاسترابة فركب اليه الناصر بنفسه فيمن حضره من مماليكه وخواص أمرائه تاسع جمادى من السنة وبرز اليه بيبقا وقد أنذر به واعتدله فصدقه القتال في ساحة مخيمه

(5/515)


وانهزم أصحاب السلطان عنه ومضى الى القلعة وبيبقا في اتباعه فامتنع الحراس بالقلعة من اخافة طارقة جوف الليل فتسرّب في المدينة واختفى في بيت الأمير ابن الأزكشي بالحسينية وركب الأمراء من القاهرة مثل ناصر الدين الحسيني وقشتمر المنصوري وغير هما لمدافعة بيبقا فلقيهم ببولاق وهزمهم واجتمع ثانية وثالثة وهزمهم وتنكر الناصر مع ايدمر الدوادار يحاولان النجاة الى الشام واطلع عليهما بعض المماليك فوشى بهما إلى بيبقا فبعث من أحضره فكان آخر العهد به ويقال انه امتحنه قبل القتل فدله على أموال السلطان وذخائر وذلك لست سنين ونصف من تملكه ثم نصب بيبقا للملك محمد بن المظفر حاجي ولقبه المنصور وقام بكفالته وتدبير دولته وجعل طنبغا الطويل رديفه وولى قشتمر المنصوري نائبا وغشتمر أمير مجلس وموسى الأزكشي أستاذ دار وأفرج عن القاسمي وبعثه نائبا بالكرك وأفرج عن طاز وقد كان عمي فبعثه الى القدس بسؤاله ثم الى دمشق ومات بها في السنة بعدها وأقرّ عجلان في ولاية مكة وولى على عرب الشام جبار بن مهنا وأمسك جماعة من الأمراء فحبسهم والله تعالى أعلم.
انتقاض استدمر بدمشق
ولما اتصل بالشام ما فعله بيبقا وأنه استبدّ بالدولة وكان استدمر نائبا بدمشق كما قدّمناه امتعض لذلك وأجمع الانتقاض وداخله في ذلك مندمر والبري ومنجك اليوسفي واستولى على قلعة دمشق وسار في العساكر ومعه السلطان المنصور ووصل الى دمشق واعتصم القوم بالقلعة وتردّدت بينهما القضاة بالشام حتى نزلوا على الأمان بعد أن حلف بيبقا فلما نزلوا اليه بعث بهم الى الإسكندرية فحبسوا بها وولى الأمير المارداني نائبا بدمشق وقطلوبغا الأحمدي نائبا بحلب مكان أحمد بن القتمري بصفد وعاد السلطان المنصور وبيبقا إلى مصر والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفاة الخليفة المعتضد بن المستكفي وولاية ابنه المتوكل
قد تقدّم لنا أنّ الخليفة المستكفي لما توفي قبل وفاة الملك الناصر عهد لابنه أحمد ولقبه الحاكم وأنّ الناصر عدل عنه إلى إبراهيم بن محمد عمّ المستكفي ولقبه الواثق فلما توفي الناصر آخر سنة احدى وأربعين أغار الأمراء القائمون بالدولة والأمير أحمد الحاكم ابن المستكفي ولي عهده فلم يزل في خلافته إلى أن هلك سنة ثلاث وخمسين لأوّل دولة الصالح سبط

(5/516)


تنكز وولي بعده أخوه أبو الفتح أبو بكر بن المستكفي ولقب المعتضد ثم توفي سنة ثلاث وستين لعشرة أعوام من خلافته وعهد إلى ابنه أحمد فولى مكانه ولقب المستكفي والله تعالى أعلم.
خلع المنصور وولاية الأشرف
ثم بدا لبيبقا الخاصكي في أمر المنصور محمد بن حاجي فخلعه استرابة به في شعبان سنة أربع وستين لسبعة وعشرين شهرا من ولايته ونصب مكانه شعبان بن الناصر حسن بن الملك الناصر وكان أبوه قد توفي في ربيع الآخر من تلك السنة وكان آخر بني الملك الناصر فمات فولي ابنه شعبان ابن عشر سنين ولقبه الأشرف وتولى كفالته وفي سنة خمس وستين عزل المارداني من دمشق وولى مكانه منكلي بغا نقله من حلب وولى مكانه قطلوبغا الاحمدي وتوفي قطلوبغا فولى مكانه غشقتمر المارداني ثم عزل غشقتمر سنة ست وستين فولى مكانه سيف الدين فرجي وأوعز اليه سنة سبع وستين أن يسير في العساكر لطلب خليل بن قراجا بن العادل أمير التركمان فيحضره معتقلا فسار اليه وامتنع في خرت برت فحاصره أربعة أشهر واستأمن خليل بعدها وجاء إلى مصر فأمنه السلطان وخلع عليه وولاه ورجع إلى بلده وقومه والله تعالى أعلم.
واقعة الإسكندرية
كان أهل جزيرة قبرص من أمم النصرانية وهم من بقايا الروم وانما ينتسبون لهذا العهد إلى الافرنج لظهور الافرنج على سائر أمم النصرانية والا فقد نسبهم هروشيوش إلى كيتم وهم الروم عندهم ونسب أهل رودس إلى دوداتم وجعلهم اخوة كيتم ونسبهما معا إلى رومان وكانت على أهل قبرص جزية معلومة يؤدّونها لصاحب مصر وما زالت مقرّرة عليهم من لدن فتحها على يد معاوية أمير الشام أيام عمر وكانوا إذا منعوا الجزية يسلط صاحب الشام عليهم أساطيل المسلمين فيفسدون مراسيها ويعيثون في سواحلها حتى يستقيموا لأداء الجزية وتقدّم لنا آنفا في دولة الترك أنّ الظاهر بيبرس بعث اليها سنة تسع وستين وستمائة اسطولا من الشواني وطرقت مرساها ليلا فتكسرت لكثرة الحجارة المحيطة بها في كل ناحية ثم غلب لهذه العصور أهل جنوة من الافرنج على جزيرة رودس حازتها من يد لشكري صاحب القسطنطينية سنة ثمان وسبعمائة وأخذوا بمخنقها وأقام أهل قبرص معهم بين فتنة وصلح وسلم وحرب آخر أيامهم وجزيرة قبرص هذه على مسافة يوم وليلة في البحر قبالة طرابلس منصوبة على سواحل الشام

(5/517)


ومصر واطلعوا بعض الأيام على غرّة في الإسكندرية وأخبروا حاجبهم وعزم على انتهاز الفرصة فيها فنهض في أساطيله واستنقر من سائر الافرنج ووافى مرساها سابع عشر من المحرّم سنة سبع وستين في اسطول عظيم يقال بلغ سبعين مركبا مشحونة بالعدّة والعدد ومعه الفرسان المقاتلة بخيولهم فلما أرسى بها قدّمهم الى السواحل وعبّى صفوفه وزحف وقد غص الساحل بالنظارة برزوا من البلد على سبيل النزهة لا يلقون بالا لما هو فيه ولا ينظرون مغبة أمره لبعد عهدهم بالحرب وحاميتهم يومئذ قليلة وأسوارهم من الرماة المناضلين دون الحصون خالية ونائبها القائم بمصالحها في الحرب والسلم وهو يومئذ خليل بن عوام غائب في قضاء فرضه فما هو الا أن رجعت تلك الصفوف على التعبية ونضحوا العوام بالنبل فأجفلوا متسابقين إلى المدينة وأغلقوا أبوابها وصعدوا إلى الأسوار ينظرون ووصل القوم إلى الباب فأحرقوه واقتحموا المدينة واضطرب أهلها وماج بعضهم في بعض ثم أجفلوا إلى جهة البرّ بما أمكنهم من عيالهم وولدهم وما اقتدروا عليه من أموالهم وسالت بهم الطرق والأباطح ذاهبين في غير وجه حيرة ودهشة وشعر بهم الأعراب أهل الضاحية فتخطفوا الكثير منهم وتوسط الأفرنج المدينة ونهبوا ما مرّوا عليه من الدور وأسواق البر ودكاكين الصيارفة ومودعات التجار وملئوا سفنهم من المتاع والبضائع والذخيرة والصامت واحتملوا ما استولوا عليه من السبي والأسرى وأكثر ما فيهم الصبيان والنساء ثم تسايل اليهم الصريخ من العرب وغيرهم فانكفأ الافرنج إلى أساطيلهم وانكمشوا فيها بقية يومهم وأقلعوا من الغد وطار الخبر إلى كافل الدولة بمصر الأمير بيبقا فقام في ركائبه وخرج لوقته بسلطانه وعساكره ومعه ابن عوام نائب الإسكندرية منصرفه من الحج وفي مقدمته خليل بن قوصون وقطلوبغا الفخري من أمرائه وعزائمهم مرهفة ونياتهم في الجهاد صادقة حتى بلغهم الخبر في طريقهم باقلاع العدوّ فلم يثنه ذلك واستمرّ إلى الإسكندرية وشاهد ما وقع بها من معرّة الخراب وآثار الفساد فأمر بهدم ذلك وإصلاحه ورجع ادراجه إلى دار الملك وقد امتلأت جوانحه غيظا وحنقا على أهل قبرص فأمر بإنشاء مائه اسطول من الأساطيل التي يسمونها القربان معتزما على غزو قبرص فيها بجميع من معه من عساكر المسلمين بالديار المصرية واحتفل في الاستعداد لذلك واستكثر من السلاح وآلات الحصار وكمل غرضه من ذلك كله في رمضان من السنة لثمانية أشهر من الشروع فيه فلم بقدر على تمام غرضه من الجهاد لما وقع من العوائق كما نقصه والله تعالى ولىّ التوفيق
.

(5/518)


ثورة الطويل ونكبته
كان طنبغا الطويل من موالي السلطان حسن وكانت وظيفته في الدولة أمير سلاح وهو مع ذلك رديف بيبقا في أمره وكان يؤمّل الاستبداد ثم حدثت له المنافسة والغيرة من بيبقا كما حدثت لسائر أهل الدولة عند ما استكمل أمره واستفحل سلطانه وداخلوا الطويل في الثورة وكان دوادار السلطان ارغون الأشقري وأستاذ دار المحمدي وبيناهم في ذلك خرج الطويل للسرحة بالعباسية في جمادى سنة سبع وستين وفشا الأمر بين أهل الدولة فنمي إلى بيبقا واعتزم على إخراج الطويل إلى الشام وأصدر له المرسوم السلطاني بنيابة دمشق وبعث به اليه وبالخلعة على العادة مع ارغون الأشقري الدوادار وروس المحمدي أستاذ دار من المداخلين له ومعه ارغون الأرقي وطنبغا العلائي من أصحاب بيبقا فردّهم الطويل وأساء عليهم وواعد بيبقا قبة النصر فهزمهم وقبض على الطويل والأشقري والمحمدي وحبسوا بالإسكندرية ثم شفع للسلطان في الطويل في شهر شعبان من السنة وبعثه إلى القدس ثم أطلق الأشقري والمحمدي وبعث بهما إلى الشام وولى مكان الطويل طيدمر الباسلي ومكان الأشقري في الدويدارية طنبغا الأبي بكري ثم عزله بيبقا العلائي وولى مكانه روس العادل المحمدي وكان جماعة من الأمراء أهل وظائف في الدولة قد خرجوا مع الطويل وحبسوا فولى في وظائفهم أمراء آخرين ممن لم تكن له وظيفة واستدعى منكلي بيبقا الشمسي نائب دمشق الى مصر يطلبه فقدم نائبا بحلب مكان سيف الدين برجي وأذن له في الاستكثار من العساكر وجعلت رتبته فوق نائب دمشق وولى مكانه بدمشق اقطمر عبد العزيز انتهى والله تعالى أعلم.
ثورة المماليك ببيبقا ومقتله واستبداد استدمر
كان طنبقا قد طال استبداده على السلطان وثقلت وطأته على الأمراء وأهل الدولة وخصوصا على مماليكه وكان قد استكثر من المماليك وأرهف حدّه لهم في التأديب وتجاوز الضرب فيهم بالعصا إلى جدع الأنوف واصطلام الآذان فكتموا الأمر في نفوسهم وضمائرهم لذلك وطووا على الغش وكان كبير خواصه استدمر واقتفان الاحمدي ووقع في بعض الأيام بمثل هذه العقوبة في أخي استدمر فاستوحش له وارتاب وداخل سائر الأمراء في الثورة يرون فيها نجاتهم منهم وخلصوا النجوى مع السلطان فيه واقتضوا منه الاذن وسرّح السلطان بيبقا إلى

(5/519)


البحيرة في عام ثمان وسبعين وانعقد هؤلاء المماليك المتفاوضون في الثورة بمنزل الطرّانة وبيتوا له ونمي اليه خبرهم ورأى العلامات التي قد أعطيها من أمرهم فركب مكرا في بعض خواصه وخاض النيل إلى القاهرة وتقدّم إلى نواتية البحر أن يرسوا سفنهم عند العدوة الشرقية ويمنعوا العبور كل من يرومه من العدوة الغريبة وخالفه استدمر واقتفان إلى السلطان في ليلتهم وبايعوه على مقاطعة بيبقا ونكبته ولما وصل بيبقا إلى القاهرة جمع من كان بها من الأمراء والحجاب من مماليكه وغيرهم وكان بها ايبك البدري أمير ماخورية فاجتمعوا عليه وكان يقتمر النظامي وارغون ططن بالعباسية سارحين فاجتمعوا اليه فخلع الأشرف ونصب أخاه أتوك ولقبه المنصور وأحضر الخليفة فولاه واستعدّ للحرب وضرب مخيمة بالجزيرة الوسطى على البحر ولحق به من كانت له معه طاغية من الأمراء الذين مع السلطان بصحابة أو أمر أو ولاية مثل بيبقا العلائي الدوادار ويونس الرمام وكمشيقا الحموي وخليل بن قوصون ويعقوب شاه وقرابقا البدري وابتغا الجوهري ووصل السلطان الأشرف من الطرّانة صبيحة ذلك اليوم على التعبية قاصدا دار ملكه وانتهى إلى عدوة البحر فوجدها مقفرة من السفن فخيم هنالك وأقام ثلاثا وبيبقا وأصحابه قبالتهم بالجزيرة الوسطى ينفحونهم بالنبل ويرسلون عليهم الحجارة من المجانيق وصواعق الأنفاط وعوالم النظارة في السفن الى أن تتوسط فيركبونها ويحركونها بالمجاذيف ناحية الى السلطان حتى كملت منها عدّة وأكثرها من القربان التي أنشأها بيبقا وأجاز فيها السلطان وأصحابه إلى جزيرة الفيل وسار على التعبية وقد ملأت عساكره وتابعه بسيط الأرض وتراكم القتام بالجوّ وغشيت سحابه موكب بيبقا وأصحابه فتقدّموا للدفاع وصدقتهم عساكر السلطان القتال فانفضوا عن بيبقا وتركوه أوحش من وتد في قلاع فولى منهزما ومرّ بالميدان فصلى ركعتين عند بابه واستمرّ إلى بيته والعوام ترجمه في طريقه وسار السلطان في تعبيته إلى القلعة ودخل قصره وبعث عن بيبقا فجيء به واعتقل بحبس القلعة سائر يومه فلما غشي الليل ارتاب المماليك بحياته وجاءوا إلى السلطان يطلبونه وقد أضمروا الفتك به وأحضره السلطان وبينما هو مقبل على التضرّع للسلطان ضربه بعضهم فأبان رأسه وارتاب من كان منهم خارج القصر في قتله فطلبوا معاينته ولم يزالوا يناولون رأسه من واحد إلى واحد حتى رماه آخرهم في مشعل كان بإزائه ثم دفن وفرغ من أمره وقام بأمر الدولة استدمر الناصري ورديفه بيبقا الاحمدي ومعهما بحماس الطازي وقرابقا الصرغتمشي وتغري بدمشق المتولون كبر هذه الفعلة وتقبضوا على الأمراء الذين عدلوا عنهم إلى بيبقا فحبسوهم بالإسكندرية وقد مرّ ذكرهم وعزل خليل بن قوصون وألزم بيته وولوا أمراء مكان المحبوسين

(5/520)


وأهل وظائف من كانت له واستقرّ أمر الدولة على ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم.
واقعة الاجلاب ثم نكبتهم ومهلك استدمر وذهاب دولته
ثم تنافس هؤلاء القائمون بالدولة وحبسوا قرابقا السرغتمشي صاحبهم وامتعض له تغري بدمشق وداخل بعض الأمراء في الثورة ووافقه ايبك البدري وجماعة معه وركب منتصف رجب سنة ثمان وستين للحرب فركب له استدمر وأصحابه فتقبضوا عليهم وحبسوهم بالإسكندرية وعظم طغيان هؤلاء الاجلاب وكثر عيثهم في البلد وتجاوزهم حدود الشريعة والملك وفاوض السلطان أمراءه في شأنهم فأشاروا بمعاجلتهم وحسم دائهم فنبذ السلطان اليهم العهد وجلس على كرسيه بالأساطيل وتقدّم الى الأمراء بالركوب فركب الجائي اليوسفي وطغتمر النظامي وسائر أمراء السلطان ومن استخدموه من مماليك بيبقا وتحيز اليهم ايبقا الجلب وبحماس الطازي عن صاحبهما استدمر وركب لقتالهم استدمر وأصحابه وسائر الاجلاب وحاصروا القلعة إلى أن خرج عند الطلحساه السلطانية فاختل مركز الأمراء وفارقهم المستخدمون عندهم من مماليك بيبقا فانقض جمعهم وانهزموا وثبت الجائي اليوسفي وارغون التتر في سبعين من مماليكهم فوقفوا قليلا ثم انهزموا إلى قبة النصر وقتل دروط ابن أخي الحاج الملك وقبض على ايبقا الجلب جريحا وعلى طغتمر النظامي وعلى بحماس الطازي والجائي اليوسفي وارغون التتر وكثير من أمراء الألوف ومن دونهم واستولى استدمر وأصحابه الاجلاب على السلطان كما كانوا وولى مكان المحبوسين من الأمراء وأهل الوظائف وعاد خليل بن قوصون على أمرته وعزل قشتمر عن طرابلس وحبس بالإسكندرية واستبدل بكثير من أمراء الشام واستمرّ الحال على ذلك بقية السنة والاجلاب على حالهم في الاستهتار بالسلطان والرعية فلما كان محرّم سنة تسع وستين عادوا إلى الاجلاب على الدولة فركب أمراء السلطان إلى استدمر يشكونهم ويعاتبونهم في شأنهم فقبض على جماعة منهم كسر بهم الفتنة وذلك يوم الأربعاء سادس صفر فلما كان يوم السبت عاودوا الركوب ونادوا بخلع السلطان فركب السلطان في مماليكه ونحو المائتين والتف عليهم العوامّ وقد حنقوا على الاجلاب بشراشرهم فيهم وركب استدمر في الاجلاب على التعبية وهم ألف وخمسمائة وجاءوا من وراء القلعة على عادتهم حتى شارفوا القوم فأحجموا ووقفوا وأدلفتهم الحجارة من أيدي العوامّ بالمقاليع وحملت عليهم العساكر فانهزموا وقبض على قرابقا السرغتمشي وجماعة معه فحبسوا بالخزانة

(5/521)


ثم جيء باستدمر أسيرا وشفع فيه الأمراء فشفعهم السلطان وأطلقه باقيا على أتابكيته ونزل إلى بيته بقبض الكيس وكان خليل بن قوصون تولى آتابكا في تلك الفترة فأمره السلطان أن يباكر به لحبسه من الغد فركب خليل إلى بيته وحمله على الانتقاض على أن يكون الكرسي لخليل بعلاقة نسبته إلى الملك الناصر من أمّه فاجتمع منهم جماعة من الاجلاب وركبوا بالرميلة فركب اليهم السلطان والأمراء في العساكر فانهزموا وقتل كثير منهم وبعثوا بهم إلى الاسكندرية فحبسوا بها وقتل كثير ممن أسر في تلك الواقعة منهم وطيف بهم على الجمال في أقطار المدينة ثم تتبع بقية الاجلاب بالقتل والحبس بالثغور القاصية وكان ممن حبس منهم بالكرك برقوق العثماني الّذي ولي الملك بعد ذلك بمصر وبركة الجولاني وطنبغا الجوباني وجركس الخليلي ونعنع وأقاموا كلهم متلفين بين السجن والنفي إلى أن اجتمع شملهم بعد ذلك كما نذكره واستبدّ السلطان بأمره بعض الشيء وأفرج عن الجائي اليوسفي وطغتمر النظامي وجماعة من المسجونين من أمرائه وولى الجائي أمير سلاح وولى بيبقا المنصوري وبكتمر المحمدي من أمراء الاجلاب في الاتابكية شريكين ثم نمي عنهما أنهما يرومان الثورة واطلاق المسجونين من الاجلاب والاستبداد على السلطان فقبض عليهما وبعث عن منكلي بغا الشمسي من حلب وأقامه في الاتابكية واستدعى أمير على المارداني من دمشق وولاه النيابة وولى في جميع الوظائف استبدالا وإنشاء بنظره واختياره وكان منهم مولاه ارغون الاشرفي وما زال يرقيه في الوظائف إلى أن جعله أتابك دولته وكان خالصته كما سنذكر وولى على حلب مكان منكلي بغا طنبغا الطويل وعلى دمشق مكان المارداني بندمر الخوارزمي ثم اعتقله وصادره على مائة ألف دينار ونفاه إلى طرسوس وولى مكانه منجك اليوسفي نقله اليها من طرابلس وأعاد اليها غشقتمر المارداني كما كان قبله ثم توفي طنبغا الطويل بحلب آخر سنة تسع وستين بعد أن كان يروم الانتقاض فولى مكانه استبغا الأبو بكري ثم عزله سنة سبعين وولى مكانه قشتمر المنصوري والله تعالى ولىّ التوفيق بمنه وفضله.
مقتل قشتمر المنصوري بحلب في واقعة العرب
كان جماز بن مهنا أمير العرب من آل فضل قد انتقض وولى السلطان مكانه ابن عمه نزال بن موسى بن عيسى واستمر جماز على خلافه ووطئ بلاد حلب أيام المصيف واجتمع اليه بنو كلاب وامتدّت أيديهم على السابلة فخرج اليهم نائب حلب قشتمر المنصوري في عساكره فأغار على أحيائه واستاق نعمهم ومواشيهم وشره إلى اصطلامهم فتذامروا دون

(5/522)


احيائهم وكانت بينه وبينهم جولة أجلت عن قشتمر المنصوري وابنه محمد قتيلين ويقال قتلهما يعبر بن جماز ورجعت عساكر الترك منهزمين إلى حلب وذهب جماز إلى القفر ناجيا به وولى السلطان على العرب معيقيل بن فضل ثم استأمن له جماز بن مهنا وعاود الطاعة فأعاده السلطان إلى إمارته والله تعالى أعلم.
استبداد الجائي اليوسفي ثم انتقاضه ومقتله
لما أذهب السلطان الأشرف أثر الاجلاب من دولته وقام بعض الشيء بأمره فاستدعى منكلي بغا من حلب وجعله أتابكا وأمير علي المارداني من دمشق وجعله نائبا وولى الجائي اليوسفي أمير سلاح وولى اصبغا عبد الله دوادار بعد أن كان الاجلاب ولوا في الدوادارية منهم واحد بعد واحد ثم سخطه وولى مكانه اقطمر الصباحي وعمر سائر الخطط السلطانية بمن وقع عليه اختياره ورقى مولاه ارغون شاه في المراتب من واحدة إلى أخرى إلى أن أربى به على الاتابكية كما يأتي وولى بهادر الجمالي أستاذ دار ثم أمير الماخورية تردّد بينهما ثم استقرّ آخرا في الماخورية وولى محمد بن اسقلاص أستاذ دار وولى بيبقا الناصري الحجابة بعد وظائف أخرى نقله منها وزوّج أمّه الجائي اليوسفي فعلت رتبته بذلك في الدولة واستغلظ أمره وأغلظ له الدوادار يوما في القول فنفي وولى مكانه منكوتمر عبد الغني ثم عزل سنة اثنتين وسبعين لسنة من ولايته وولى السلطان مكانه طشتمر العلائي الّذي كان دوادارا لبيبقا واستقرّت الدولة على هذا النمط والجائي اليوسفي مستبدّ فيها ووصل قود منجك من الشام سنة أربع وسبعين بما لا يعبر عنه اشتمل على الخيل والبخاتي المجللة والجمال والهجن والقماش والحلاوات والحلي والطرف والمواعين حتى كان فيها من الكلاب الصائدة والسباع والإبل ما لم ير مثله في أصنافه ثم وصل قود قشتمر المارداني من حلب على نسبة ذلك والله تعالى أعلم.
انتقاض الجائي اليوسفي ومهلكه واستبداد الأشرف بملكه من بعده
لم تزل الدولة مستقرّة على ما وصفناه إلى أن هلك الأمير منكلي بغا الأتابك منتصف سنة أربع وسبعين واستضاف الجائي اليوسفي الأتابكية إلى ما كان بيده ورتبته أشدّ من ذلك كله وهو القائم المستبدّ بها ثم توفيت أمّ السلطان وهي في عصمته فاستحق منها ميراثا دعاه لؤم

(5/523)


الأخلاق فيه إلى المماحكة في المخلف وتجافى السلطان له عن ذلك الا أنه كان ضيق الصدر شرس الأخلاق فكان يغلظ القول بما يخشن الصدور فأظلم الجوّ بينه وبين السلطان وتمكنت فيه السعاية وذكرت هذه انتقاضه الأول وذلك أنه كان سخط في بعض النزعات على بعض العوام من البلد فامر بالركوب إلى العامّة وقتلهم فقتل منهم كثير ونمي الخبر إلى السلطان على ألسنة أهل البصائر من دولته وعذلوه عنده فاستشاط السلطان وزجره وأغلظ له فغضب وركب إلى قبة النصر منتقضا وذهب السلطان في مداراة آمره إلى الملاطفة واللين وكان الأتابك منكلي بغا يوم ذاك حيا فأوعز السلطان اليه فرجع وخلع عليه وأعاده إلى أحسن ما كان فلما بدرت هذه الثانية حذر السلطان بطانته من شأنه وخرج هو منتقضا وركب في مماليكه بساحة القلعة وجلس السلطان وتردّدت الرسل بينهما بالملاطفة فأصرّ واستكبر ثم أذن السلطان لمماليكه في قتاله وكان أكثرهم من الاجلاب مماليك بيبقا وقد جمعهم السلطان واستخدمهم في جملة ابنه أمير علي ولى عهده فقاتلوه في محرّم سنة خمس وتسعين وكان موقفه في ذلك المعترك إلى حائط الميدان المتصل بالأساطيل فنفذت له المقاتلة من داخل الأساطيل ونضحوه بالسهام فتنحى عن الحائط حتى إذا حل مركزه ركبوا خيولهم وخرجوا من باب الأساطيل وصدقوا عليه الحملة فانهزم إلى بركة الحبش ورجع من وراء الجبل إلى قبة النصر فأقام بها ثلاثا والسلطان يراوضه وهو يشتط وشيعه يتسللون عنه ثم بعث اليه السلطان لمة من العسكر ففر أمامهم إلى قليوب واتبعوه فخاض البحر وكان آخر العهد به ثم أخرج شلوه ودفن وأسف السلطان لمهلكه ونقل أولاده إلى قصره ورتب لهم ولحاشيته الأرزاق في ديوانه وقبض على من اتهمه بمداخلته وأرباب وظائفه فصودروا كلهم وعزلوا وغربوا إلى الشام واستبدّ السلطان بأمره واستدعى ايدمر القرّي الدوادار وكان نائبا بطرابلس فولاه أتابكا مكان الجائي ورفع رتبته وولى أرغون شاه وجعله أمير مجلس وولى سرغتمش من مواليه أمير سلاح واختص بالسلطان طشتمر الدوادار وناصر الدين محمد بن اسقلاص أستاذ دار فكانت أمور الدولة منقسمة بينهما وتصاريفها تجري بساستهما إلى أن كان ما نذكره والله تعالى ولىّ التوفيق.
استقدام منجك للنيابة
كان أمير علي المارداني قد توفي سنة اثنتين وسبعين وبقيت وظيفته خلوا لمكان الجائي اليوسفي وأحكامه ولما هلك سنة خمس وسبعين ولى السلطان اقطمر عبد الغني نائبا ثم بدا له أن يولي في النيابة منجك اليوسفي لما رآه فيه من الأهلية لذلك والقيام به ولتقلبه في الامارة منذ عهد

(5/524)


الناصر حسن وأنه كان من مواليه أخا لبيبقاروس وطاز وسرغتمش فهو بقية المناجب فلما وقع نظره عليه بعث في استقدامه بيبقا الناصري من أمراء دولته وولى مكانه بندمر الخوارزمي وأعاد عشقتمر إلى حلب مكانه ووصل منجك إلى مصر آخر سنة خمس وسبعين ومعه مماليكه وحاشيته وصهر روس المحمدي فاحتفل السلطان في تكرمته وأمر أهل الدولة بالركوب لتلقيه فتلقاه الأمراء والعساكر وأرباب الوظائف من القضاة والفقهاء والدواوين وأذن له في الدخول من باب السرّ راكبا وخاصة السلطان مشاة بين يديه حتى نزل عند مقاعد الطواشية بباب القصر حيث يجلس مقدم المماليك ثم استدعى إلى السلطان فدخل وأقبل عليه السلطان وشافهه بالنيابة المطلقة وفوّض اليه الولاية والعزل في سائر المراتب السلطانية من الوزراء والخواص والقضاة والأوقاف وغيرها وخلع عليه وخرج ثم قرر تقليده بذلك في الإيوان ثاني يوم وصوله فكان يوما مشهودا وولى الأشرف في ذلك اليوم بيبقا الناصري الذين قدم به حاجبا ثم سافر عشقتمر نائب حلب آخر سنة ست وسبعين بعدها بالعساكر إلى بلاد الأرمن ففتح سائر أعمالها واستولى على ملكها النكفور بالأمان فوصل بأهله وولده إلى الأبواب السلطانية ورتب لهم الأرزاق وولى السلطان على سيس وانقرض منها ملك الأرمن وتوفي منجك آخر هذه السنة فولى السلطان اقتمر الصاجي المعروف بالحلى ثم عزله ورفع مجلسه وولى مكانه اقتمر الالقني ثم توفي جبار بن مهنا أمير العرب بالشام فولى السلطان ابنه يعبرا مكانه ثم توفي أمير مكة من بني حسن فولى الأشرف مكانه واستقرّت الأمور على ذلك والله أعلم.
الخبر عن مماليك بيبقا وترشيحهم في الدولة
كان السلطان الأشرف بعد أن سطا بمماليك بيبقا تلك السطوة وقسمهم بين القتل والنفي وأسكنهم السجون وأذهب أثرهم من الدولة بالجملة أرجع جملة منهم بعد ذلك وعاتبه منكلي ابغا في شأنهم وأنّ في اتلافهم قص جناح الدولة وانهم ناشئة من الجند يحتاج الملك لمثلهم فندم على من قتل منهم وأطلق من بقي من المحبوسين بعد خمس من السنين وسرّحهم إلى الشام يستخدمون عند الأمراء وكان فيمن أطلق الجماعة بحبس الكرك وهم برقوق العثماني وبركة الجوباني وطنبقا الجوباني وجركس الخليلي ونعنع فأطلقوا إلى الشام ودعا منجك صاحب الشام كبراءهم إلى تعليم المماليك ثقافة الرمح وكانوا بصراء بها فأقاموا عنده مدّة أخبرني بذلك الطنبقا الجوباني أيام اتصالي به قال وأقمنا عند منجك إلى أن استدعاه السلطان الأشرف وكتب اليه الجائي اليوسفي بمثل ذلك فاضطرب في أيهما يجيبه فيها ثم أراد أن يخرج من العهدة فردّ الأمر إلينا فأبينا الا امتثال أمره فتحير ثم اهتدى إلى أن يبعث إلى

(5/525)


الجائي اليوسفي ودس إلى قرطاي كافل الأمير علي بن السلطان وكان صديقه بطلبنا من الجائي بخدمة ولىّ العهد وصانع الجهتين بذلك قال وصرنا إلى وليّ العهد فعرضنا على السلطان أبيه واختصنا عنده بتعليم الثقافة لمماليكه إلى أن دعانا السلطان يوم واقعة الجائي وهو جالس بالاصطبل فندبنا لحربه وذكرنا حقوقه وأزاح عللنا بالجياد والاسلحة فجلبنا في قتله إلى أن انهزم وما زال السلطان بعدها يرعى لنا ذلك ويقدّمنا انتهى خبر الجوباني وكان طشتمر الدوادار قد لطف محله عند الأشرف وخلاله وجهه وكان هواه في اجتماع مماليك بيبقا في الدولة يستكثر بهم فيما يؤمّله من الاستبداد على السلطان فكان يشير في كل وقت على الأشرف باستقدامهم من كل ناحية واجتماعهم عصابة للدولة يخادع بذلك عن قصده وكان محمد بن اسقلاص استاذ دار يساميه في الدولة ويزاحمه في مخالصة الأشرف ولطف المحل عنده ينهى السلطان عن ذلك ويحذره مغبة اجتماعهم فغص طشتمر بذلك وكان عند السلطان مماليك دونه من مماليكه الخاصكية شبابا قد اصطفاهم وهذبهم وخالصهم بالمحبة والصهر ورشحهم للمراتب وولى بعضهم وكان الأكابر من أهل الدولة يفضون اليهم بحاجاتهم ويتوسلون بمساعيهم فصرف طشتمر اليهم وجه السعاية وغشي مجالسهم وأغراهم بابن اسقلاص وانه يصدّ السلطان أكثر الأوقات عن أغراضهم منه ويبعد أبواب الانعام والصلات منه وصدّق ذلك عندهم كثرة حاجاتهم في وظيفته وتقرّر الكثير منها عليهم عنده فوغرت صدورهم منه وأغروا به السلطان باطباق إغراء طشتمر ظاهرا حتى تمت عليهم نكبته وجمعت الكلمة وقبض عليه منتصف جمادى سنة سبع وثمانين ونفاه إلى القدس فخلا لطشتمر وجه السلطان وانفرد بالتدبير واجتمع المماليك البيبقاوية من كل ناحية حتى كثروا أهل الدولة وعمروا مراتبها ووظائفها واحتازوها من جوانبها إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم.
حج السلطان الأشرف وانتقاض المماليك عليه بالعقبة وما كان مع ذلك من ثورة قرطاي بالقاهرة وبيعة الأمير علي ولي العهد ومقتل السلطان اثر ذلك
لما استقرّ السلطان في دولته على أكمل حالات الاستبداد والظهور وإذعان الناس لطاعته في كلّ ناحية وأكمل الله له الامتاع بملكه ودنياه سمت نفسه إلى قضاء فرضه فأجمع الحج سنة

(5/526)


ثمان وسبعين وتجهز لذلك واستكثر من الرواحل المستجادة والزودة المثقلة من سائر الأصناف واستعدّ للسفر واحتفل في الابهة بما لم يعهد مثله واستخلف ابنه ولي العهد في ملكه وأوصى النائب اكتمر عبد النبي بمباكرة بابه والانتهاء إلى مراسمه وأخرج بني الملك الناصر المحجوبين بالقلعة مع سرد الشيخوني إلى الكرك يقيمون به إلى منصرفه وتجهز الخليفة العباسي محمد المتوكل بن المعتضد والقضاة للحج معه وجهز جماعة من الأمراء أهل دولته وأزاح عللهم وملأ بمعروفه حقائبهم وخرج ثاني عشر شوّال في المراكب والقطارات يروق الناظرين كثرة ومخافة وزينة والخليفة والقضاة والأمراء حفا فيه وبرز النظارة حتى العواتق من خدورهنّ وتجللت بمركبهم البسيطة وماجت الأرض بهم موجا وخيم بالبركة منزل الحاج وأقام بها أياما حتى فرغ الناس من حاجاتهم وارتحل فما زال ينتقل في المنازل إلى العقبة ثم أقام فيها على عادة الحاج وكان في نفوس المماليك وخصوصا البيبقاوية وهم الأكثر شجى يتشوّقون به إلى الاستبداد من الدولة فتنكروا واشتطوا في اقتضاء أرزاقهم والمباشرون يعللونهم وانتهى أمرهم إلى الفساد ثم طلبوا العلوفة المستقبلة إلى دار الازلم فاعتذر المباشرون بأنّ الأقوات حملت إلى أمام فلم يقبلوا وكشفوا القناع في الانتقاض وباتوا ليلتهم على تعبية واستدعى الأشرف طشتمر الدوادار وكان كبيرهم ففاوضه في الأمر ليفك من عزمهم فأجمل العذر عنهم وخرج اليهم فخرجوا ثم ركبوا من الغد واصطفوا واركبوا طشتمر معهم ومنعوه من معاودة السلطان وتولى كبر ذلك منهم مبارك الطازي وسراي تمر المحمدي وبطلقمر العلائي وركب السلطان في خاصته يظنّ أنهم يرعوون أو يحنح اليه بعضهم فأبوا الا الاحفاف على قتاله ونضحوا موكبه بالنبل لما عاينوه فرجع إلى خيامه منهزما ثم ركب البحر في لفيف من خواصه ومعه ارغون شاه الاتابك وبيبقا الناصري ومحمد بن عيسى صاحب الدرك من لفائف الاعراب أهل الضاحية وفي ركابه جماعة الشباب الذين أنشأهم في مخالصته ورشحهم للوظائف في دولته كما مرّ وخام الفل الى القاهرة وقد كان السلطان عند ما سافر عن القاهرة ترك بها جماعة من الأمراء والمماليك مقيمين في وظائفهم كان منهم قرطاي الطازي كافل أمير علي ولى العهد واقتمر الخليلي وقشتمر واستدمر السرغتمشي وايبك البدري وكان شيطان من التمردة قد أوحى إلى قرطاي بأنه يكون صاحب الدولة بمصر فكان يتشوّف لذلك ويترصد له وربما وقع بينه وبين وزير الدولة منازعة في جراية مماليك مكفوله وليّ

(5/527)


العهد وعلوفاتهم أغلظ له فيها الوزير فوجم وأخذ في أسباب الانتقاض وداخل في ذلك بعض أصحابه وواعدهم ثالث ذي القعدة وتقدّم إلى داية وليّ العهد ليلة ذلك اليوم بأن يصلح من شأنه ويفرغ عليه ملابس السلطان ويهيئه لجلوس التخت وركب هو صبيحة ذلك اليوم ووقف بالرميلة عند مصلى العيد وتناول قطعة من ثوب فنصبها لواء وكان صبيان المدينة قد شرعوا في اتخاذ الدبادب والطبيلات للعيد فأمر بتناول بعضها منهم وقرعت بين يديه وتسايل الناس اليه من كل أوب ونزل من كان بطباق القصر وغرفه وبالقاهرة من المماليك واجتمعوا اليه حتى كظ ذلك الفضاء وجاءوا تعادي بهم الخيل فاستغلظ لفيفهم ثم اقتحم القلعة في جمعه من باب الاصطبل إلى بيت مكفوله وليّ العهد أمير علي عند باب الستارة يطلبونه وقبضوا على زمام الذود وكانوا عدّة حتى أحضروا وليّ العهد وجاءوا به على الأكتاف إلى الإيوان فأجلسوه على التخت وأحضروا ايدمر نائب القلعة فبايع له ثم أنزلوه إلى باب الاصطبل وأجلسوه هناك على الكرسي واستدعى الأمراء القائمين بالقاهرة فبايعوه وحبس بعضهم بالقلعة وبعث اكتمر الحلي إلى الصعيد يستكشف أحواله واختص منهم ايبك فجعله رديفا في دولته وباتوا كذلك وأصبحوا يسائلون الركبان ويستكشفون خبر السلطان وكان السلطان لما انهزم من العقبة سار ليلتين وجاء إلى البركة آخر الثانية وجاءه الخبر بواقعة القاهرة وما فعله قرطاي وتشاوروا فأشار محمد بن عيسى بقصد الشام وأشار آخرون بالوصول إلى القاهرة وسار السلطان اليها واستمرّوا إلى قبة النصر وتهافتوا عن رواحلهم بالطلاح وقد أنهكهم التعب وأضناهم السير فما هو الا أن وقعوا لمناكبهم وجنوبهم وغشيهم النعاس وجاء الناصري إلى السلطان الأشرف من بينهم فتنصح له بأن يتسلل من أصحابه ويتسرب في بعض البيوت بالقاهرة حتى يتبين له وجه مذهبه وانطلق بين يديه فقصد بعض النساء ممن كان ينتاب قصده واختفى فظن النجاة في ذلك وفارقه الناصري يطلب نفقا في الأرض وقد كانوا بعثوا من قبة النصر بعض المماليك عنهم روائد يستوضحون الخبر فأصبحوا بالرميلة أمام القلعة وتعرف الناس أنه من الحاج فرفعوه إلى صاحب الدولة وعرض عليه العذاب حتى أخبره عن السلطان وأنه وأصحابه بقبة النصر مصر عين من غشي النوم فطار اليهم شراد العسكر مع استدمر السرغتمشي والجمهور في ساقتهم حتى وقفوا اليهم في مضاجعهم وافتقدوا السلطان من بينهم وقتلوهم جميعا وجاءوا برءوسهم ووجموا لافتقاد السلطان ونادوا بطلبه وعرضوا العذاب والقتل على محمد بن عيسى صاحب الدرك فتبرّأ وحبس رهينة من ثقاته ثم جاءت امرأة إلى ايبك فدلته عليه في بيت جارتها فاستخرجوه من

(5/528)


ذلك البيت ودفعوه إلى ايبك فامتحنه حتى دلهم على الذخيرة والأموال ثم قتلوه خنقا وجدّدوا البيعة لابنه الأمير عليّ ولقبوه المنصور واستقلّ بدولته كافله من قبل الأمير قرطاي ورديفه ايبك البدري واستقرّ الأمر على ذلك.
مجيء طشتمر من العقبة وانهزامه ثم مسيره إلى الشام وتجديد البيعة للمنصور بأذن الخليفة وتقديمه
لما انهزم السلطان من العقبة ومضى إلى القاهرة اجتمع أهل الثورة على قشتمر وألقوا اليه القياد ودعوا الخليفة إلى البيعة له فتفادى من ذلك ومضى الحاج من مكة مع أمير المحمل بهادر الجمالي على العادة ورجع القضاة والفقهاء إلى القدس وتوجه طشتمر والأمراء إلى مصر لتلافي السلطان أو تلفه فلقيهم خبر مهلكه بعجرود وما كان من بيعة ابنه واستقلال قرطاي بالملك فثاب لهم رأي آخر في حرب أهل الدولة وساروا على التعبية وبعثوا في مقدّمتهم قطلقتمر ولقي طلائع مصر فهزمهم وسار في اتباعهم الى ساحة القلعة فلم يشعر الا وقد تورّط في جمهور العسكر فتقبضوا عليه وكان قرطاي قد بعث عن اقتمر الصاحبي الحنبلي من الصعيد ويرجع في العساكر لحرب قشتمر وأصحابه فبرز اليهم والتقوا في ساحة القلعة وانهزم قشتمر إلى الكيمان بناحية مصر ثم استأمن فأمنوه واعتقلوه ثم جمع الناس ليوم مشهود وحضر الخليفة والأمراء والقضاة والعلماء وعقد الخليفة للمنصور بن الأشرف وفوّض اليه وقام قرطاي بالدولة وقسم الوظائف فولى قشتمر اللفاف واستأمر السرغتمشي دوادار وايبك البدري أمير مجلس وقرطاي الطازي رأس نوبة واياس الصرغتمشي دوادار وايبك البدري أمير الماخورية وسردون جركس أستاذ دار واقتمر الحنبلي نائبا وجعل له الأقطاع للاجناد والأمراء والنواب وأفرج عن طشتمر العلائي الدوادار واقطعه الاسكندرية وأحضر بني الملك الناصر من الكرك مع حافظهم سردون الشيخوني وولاه حاجبا وكذلك قلوط الصرغتمشي وأصاب الناس في آخر السنة طاعون إلى أوّل سنة تسع وسبعين فهلك طشتمر اللفاف الأتابك وولي مكانه قرطاي الطازي في وظيفته واستدعى بيبقا الناصري من الشام فاختصه الأمير الكبير قرطاي بالمخالصة والمشاورة.
نكبة قرطاي واستقلال ايبك بالدولة ثم مهلكه
كان ايبك الغزي هذا قد ردف قرطاي في حمل الدولة من أوّل ثورتهم وقيامهم على

(5/529)


السلطان فخالصه وخلطه بنفسه في الاصهار اليه وكان ايبك يروم الاستبداد بشأن أصحابه وكان يعرف من قرطاي عكوفه على لذاته وانقسامه مع ندمائه فعمل قرطاي في صفر سنة تسع وسبعين ضيافة في بيته وجمع ندماءه مثل سودون جركس ومبارك الطازي وغيرهم واهدى له ايبك نبيذا أذيب فيه بعض المرقدات فباتوا يتعاطونه حتى غلبهم السكر على أنفسهم ولم يفيقوا فركب ايبك من ليلته وأركب السلطان المنصور معه واختار الأمر لنفسه واجتمع اليه الناس وأفاق قرطاي بعد ثلاث وقد انحلت عنه العقدة واجتمع الناس على ايبك فبعث اليه قرطاي يستأمن فأمنه ثم قبض عليه فسيره إلى صفد واستقل ايبك بالملك والدولة ثم بلغه منتصف صفر من السنة انتقاض طشتمر بالشام وانتقاض الأمراء هنالك في سائر الممالك على الخلاف معه فنادى في الناس بالمسير إلى الشام فتجهزوا وسرح المقدمة آخر صفر مع ابنه أحمد وأخيه قطلوفجا وفيها من مماليكه ومماليك السلطان وجماعة من الأمراء كان منهم الأميران برقوق وبركة المستبدان بعد ذلك ثم خرج ايبك ثاني ربيع في الساقة بالسلطان والأمراء والعساكر وانتهوا إلى بلبيس وثار الأمراء الذين كانوا مع أخيه في المقدّمة ورجع اليه منهزما فأجفل راجعا إلى القلعة بالسلطان والعساكر وخرج عليه ساعة وصوله يوم الإثنين جماعة من الأمراء وهم قطلتمر العلائي الطويل والطنبقا السلطاني والنعناع وواعدوه قبة النصر فسرّح اليهم العساكر مع أخيه قطلوفجا فأوقعوا به وتقبضوا عليه وبلغ الخبر إلى ايبك فسرّح من حضره من الأمراء للقائهم وهم أيدمر الشمسي واقطمر عبد الغني وبهادر الجمالي ومبارك الطازي في آخرين ولما تواروا عنه ركب هو هاربا إلى كيمان مصر واتبعه ايدمر القنائي فلم يقف له على خبر ودخل الأمراء من قبة النصر إلى الاصطبل وامضوا الأمراء إلى قطلتمر العلائي وهم يحاذونه وأشير عليه بخلع المنصور والبيعة لمن يقوم على هذا الأمر من أبناء السلطان فأبى ثم وصل صبيحة الثلاثاء الأمراء الذين ثاروا فجاء أخو ايبك في مقدّمة العسكر وفيهم بيبقا الناظري ودمرداش اليوسفي وبلاط من أمراء الألوف وبرقوق وبركة وغيرهما من الطلخامات فنازعوهم الأمر وغلبوهم عليه وبعثوا بهم إلى الإسكندرية معتقلين وفوّض الأمراء إلى بيبقا الناظري فقام بأمرهم وهو شعاع وآراؤهم مختلفة ثم حضر يوم الأحد التاسع من ربيع ايبك صاحب الدولة وظهر من الاختفاء وجاء إلى بلاط منهم وأحضره عند بيبقا الناظري فبعث به إلى الإسكندرية فحبسه بها وكان بيبقا الناظري يختصّ برقوق وبركة المفاوضة استرابة بالآخرين فاتفق رأيهم على أن يستدعي طشتمر من الشام وينصبوه للامارة فبعثوا اليه بذلك وانتظروه
.

(5/530)


استبداد الأميرين أبي سعيد برقوق وبركة بالدولة من بعد ايبك ووصول طشتمر من الشأم وقيامه بالدولة ثم نكبته
لما تغلب هؤلاء الأمراء على الدولة ونصبوا بيبقا الناظري ولم يمضوا له الطاعة بقي أمرهم مضطربا وآراؤهم مختلفة وكان برقوق وبركة أبصر القوم بالسياسة وطرق التدبير وكان الناظري يخالصهما كما مرّ فتفاوضوا في القبض على هؤلاء المتصدّين للمنازعة وكبح شكائمهم وهم دمرداش اليوسفي وترباي الحسيني وافتقلاص السلجوقي واستدمر ابن العثماني في آخرين من نظرائهم وركبوا منتصف صفر وقبضوا عليهم أجمعين وبعثوا بهم إلى الاسكندرية فحبسوهم بها واصطفوا بلاطا منهم وولوه الامارة وخلطوه بأنفسهم وأبقوا بيبقا الناظري على أتابكيته كما كان وأنزلوه من القلعة فسكن بيت شيخو قبالته وولى برقوق أمير الماخورية ونزل باب الاصطبل وولى بركة الجوباني أمير مجلس واستقرّت الدولة على ذلك وكان طشتمر نائب الشام قد انتقض واستبدّ بأمره وجمع عساكر الشام وأمراءه واستنفر العرب والتركمان وخيم بظاهر دمشق يريد السير إلى مصر وبرز ايبك من مصر بالسلطان والعساكر يريد الشام لمحاربته فكان ما قدّمناه من نكبته وخروج الأمراء عليه ومصيرهم إلى جماعة البيبقاوية الطائرين بايبك ومقدّمهم بيبقا الناظري ثم تفاوض بيبقا الناظري مع برقوق وبركة في استدعاء طشتمر فوافقاه ونظراه رأيا وفيه طلب الصلح من الذين معه وحسم الداء منه بكونهم في مصر فكتبوا اليه بالوصول إلى مصر للاتابكية وتدبير الدولة وانه شيخ البيبقاوية وكبيرهم فسكنت نفسه لذلك ووضع أوزار الفتنة وسار الى مصر فلما وصلها اختلفوا في أمره وتعظيمه وأركبوا السلطان إلى الزيدانية لتلقيه ودفعوا الأمراء اليه وأشاروا له إلى الاتابكية ووضعوا زمام الدولة في يده فصار اليه التولية والعزل والحلّ والعقد وولى بيبقا الناظري أمير سلاح مكان سباطا وبعثوا بلاطا إلى الكرك لاستقلال طشتمر بمكانه وولى بندمر الخوارزمي نائبا بدمشق على سائر وظائف الدولة وممالك الشام كما اقتضاه نظره ووافق عليه استاذ دار برقوق وبركة وولى ايبك اليوسفي فرتب برقوق رأس نوبه مكان الناصري واستمرّ الحال على ذلك وبرقوق وبركة أثناء هذه الأمور يستكثران من المماليك استغلاظا لشوكتهما واكتنافا لعصبيتهما أن يمتدّ الأمير إلى مراتبهما فيبذلان الجاه لتابعهما ويوفران الاقطاع لمن يستخدم لهما ويخصان بالإمرة من يجنح من أهل الدولة اليهم والى أبوابهما وانصرفت الوجوه عن سواهما وارتاب طشتمر بنفسه في ذلك وأغراه أصحابه بالتوثب بهذين الأميرين

(5/531)


فلما كان ذو الحجة سنة تسع وسبعين استعجل أصحابه على غير روية وبعثوا اليه فأحجم وقعد عن الركوب واجتمع برقوق وبركة بالاصطبل فركن اليه وقاتل مماليك طشتمر بالرميلة ساعة من نهار وانهزموا وافترقوا واستأمن طشتمر فأمنوه واستدعوه إلى القلعة فقبضوا عليه وعلى جماعة من أصحابه منهم اطلمش الارغوني ومدلان الناصري وأمير حاج بن مغلطاي ودواداره أرغون وبعث بهم إلى الإسكندرية فحبسوا بها وبعث معهم بيبقا الناصري كذلك ثم أفرج عنه لايام وبعثه نائبا على طرابلس ثم أفرج عن طشتمر بعد ذلك إلى دمياط ثم إلى القدس إلى أن مات سنة سبع وثمانين واستقامت الدولة للاميرين بعد اعتقالهما وخلت لهما من المنازعين وولى الأمير برقوق اتابكا وولى الماخورية الجابي الشمسي وولى قريبه انيال أمير سلاح مكان بيبقا الناصري وولى أقتمر العثماني دوادار مكان اطلمش الارغوني وولى الطنبقا الجوباني رأس نوبة ثانيا ودمرداش أمير مجلس وتوفي بيبقا النظامي نائب حلب فولى مكانه عشقتمر المارداني ثم استأذن عشقتمر فأذن له وحبس بالإسكندرية وولى مكانه بحلب تمرتاشي الحسيني الدمرداشي ثم أفرج عنه وأقام بالقدس قليلا ثم استدعاه بركة وأكرم نزله وبعثه نائبا الى حلب.
ثورة انيال ونكبته
كان انيال هذا أمير سلاح وكان له مقام في الدولة وهو قريب الأمير برقوق وكان شديد الانحراف على الأمير بركة ويحمل قريبه على منافرته ولا يجيبه إلى ذلك فاعتزم على الثورة وتحين لها سفر الأمير بركة إلى البحيرة يتصيد فركب الأمير برقوق في بعض تلك الأيام متصديا بساحة البلد فرأى ان قد خلاله الجوّ فركب وعمد إلى باب الاصطبل فملكه ومعه جماعة من مماليكه ومماليك الأمير برقوق وتقبضوا على أمير الماخورية جركس الخليلي واستدعوا السلطان المنصور ليظهروه للناس فمنعه المقدّمون من باب الستارة وجاء الأمير برقوق من صيده ومعه الاتابك الشمسي فوصلوا الى منزله خارج القلعة وأفرغوا السلاح على سائر مماليكهم وركبوا إلى ساحة الاصطبل ثم قصدوا إلى الباب فأحرقوه وتسلق الأمير قرطاي المنصوري من جهة باب السرّ وفتحه لهم فدخلوا منه ودافعوا انيال وانتقض عليه المماليك الذين كانوا معه من مماليك الأمير برقوق ورموه بالسهام فانهزم ونزل إلى بيته جريحا وأحضر إلى الأمير برقوق فاعتذر له بانه لم يقصد بفعلته الا التغلب على بركة فبعث به إلى الاسكندرية معتقلا وأعاد بيبقا الناصري أمير سلاح كما كان واستدعي لها من نيابة طرابلس

(5/532)


ووصل الخبر إلى بركة فأسرع الكرّ من البحيرة وانتظم الحال ونظروا في الوظائف التي خلت في هذه الفتنة فعمروها بمن يقوم بها واختصوا بها من حسن غناؤه في هذه الواقعة مثل قردم وقرط وذلك سنة احدى وثمانين واقام انيال معتقلا بالإسكندرية ثم أفرج عنه في صفر سنة اثنتين وثمانين وولى على طرابلس ثم توفي منكلي بقا الاحمدي نائب حلب فولى انيال مكانه ثم تقبض عليه آخر السنة وحبس بالكرك وولى مكانه بيبقا الحمدي نائب دمشق فولى مكانه بندمر الخوارزمي ثم توفي سنة احدى وثمانين جيار بن المهنا أمير العرب بالشام فولى مكانه معيقل بن فضل بن عيسى وزامل بن موسى بن عيسى شريكين ثم عزلا وولى يعبر بن جيار.
ثورة بركة ونكبته واستقلال الأمير برقوق بالدولة
كان هذا الأمير بركة يعادل الأمير برقوق في حمل الدولة كما ذكرناه وكان أصحابه يفوّضون اليه الاستبداد في الأموال وكان الأمير برقوق كثير التثبت في الأمور والميل إلى المصالح فيعارضهم في الغالب ويضرب على أيديهم في الكثير من الأحوال فغصوا بمكانه وأغروا بركة بالتوثب والاستقلال بالأمر وسعوا عنده باشمس من كبار أصحاب الأمير برقوق وأنه يحمل برقوق على مقاطعة بركة ويفسد ذات بينهما وأنه يطلب الأمر لنفسه وقد اعتزم على الوثوب عليهما فجاء بركة بذلك إلى الأمير برقوق وأراد القبض على اشمس فمنعه الأمير برقوق ودفع عنه وعظم انحراف بركة على أشمس ثم عن الأمير برقوق وسعى في الإصلاح بينهما الأكابر حتى كمال الدين شيخ التكية والخلدي شيخ الصوفية من أهل خراسان وجاءوا بأشمس إلى بركة مستعتبا فأعتبه وخلع عليه ثم عاود انحرافه ثانية فمسح أعطافه وسكن وهو مجمع الثورة والفتك ثم عاود حاله تلك ثالثة واتفق أن صنع في بيت الأمير برقوق لسرور وليمة في بعض أيام الجمعة في شهر ربيع سنة اثنتين وثمانين وحضر عنده أصحاب بركة كلهم وأهل شوكته وقد جاءه النصيح بأنّ بركة قد أجمع الثورة غداة يومه فقبض الأمير برقوق على من كان عنده من أصحاب بركة ليقص جناحه منهم وأركب حاشيته للقبض عليه واصعد بدلان الناصري على مئذنة مدرسة حسن فنضحه بالنبل في اصطبله وركب بركة إلى قبة النصر وخيم بها ونودي في العامّة بنهب بيوته فنهبوها للوقت وخرّبوها وتحيز اليه بيبقا الناصري فخرج معه وجلس الأمير برقوق بباب القلعة من ناحية الاصطبل وسرّح الفرسان للقتال واقتتلوا عامّة يومهم فزحف بركة على تعبيتين إحداهما لبيبقا الناصري وخرج الاق الشعبانيّ للقائه وأشمس للقاء بيبقا الناصري فانهزم أصحاب بركة ورجع إلى قبة النصر وقد اثخنوا بالجراح

(5/533)


وتسلل أكثرهم إلى بيته وأقام الليل ثم دخل إلى جامع البلدة وبات به ونمي إلى الأمير برقوق خبره فأركب اليه الطنبقا الجوباني وجاء به إلى القلعة وبعث به الأمير برقوق الى الاسكندرية فحبس بها الى ان قتله النائب بها صلاح الدين بن عزام وقتل به في خبر يأتي شرحه ان شاء الله تعالى وتقبض على بيبقا الناصري وسائر شيعته من الأمراء وأودعهم السجون إلى أن استحالت الأحوال وولى وظائفهم من أوقف عليه نظره من أمراء الدولة وأفرج عن انيال الثائر قبله وبعثه نائبا على طرابلس واستقل بحمل الدولة وانتظمت به أحوالها واستراب سندمر نائب دمشق لصحابته مع بركة فتقبض عليه وعلى أصحابه بدمشق وولى نيابة دمشق عشقتمر ونيابة حلب انيال وولى اشمس الاتابكية مكان بركة والاق الشعبانيّ أمير سلاح والطنبقا الجوباني أمير مجلس وابقا العثماني دوادار وجركس الخليلي أمير الماخورية والله تعالى وليّ التوفيق.
انتقاض أهل البحيرة وواقعة العساكر
كان هؤلاء الظواعن الذين عمروا الدولة من بقايا هوارة ومزاتة وزنانة يعمرونها بمن تحت أيديهم من هذه القبائل وغيرهم ويقومون بخراج السلطان كل سنة في ابانه وكانت الرئاسة عليهم حتى في أداء الخراج لبدر بن سلام وآبائه من قبله وهو من زناتة احدى شعوب لواتة وكان للبادية المنتبذين مثل أبي ذئب شيخ أحياء مهرانة وعسرة ومثل بني التركية أمراء العرب بعقبة الاسكندرية اتصال بهم لاحتياجهم إلى الميرة من البحيرة ثم استخدموا لأمراء الترك في مقاصدهم وأموالهم واعتزوا بجاههم وأسفوا على نظائرهم من هوارة وغيرهم ثم حدثت الزيادة في وظائف الجباية كما هي طبيعة الدول فاستثقلوها وحدّثتهم أنفسهم بالامتناع منها لما عندهم من الاعتزاز فأرهقوا في الطلب وحبس سلام بالقاهرة وأجفل ابنه بدر الى الصعيد بالقبلية واعترضته هناك عساكر السلطان فقاتلهم وقتل الكاشف في حربه وسارت اليه العساكر سنة ثمانين مع الاق الشعبانيّ وأحمد بن بيبقا وانيال قبل ثورته فهربوا وعاثت العساكر في مخلفهم ورجعوا وعاد بدر إلى البحيرة وشغلت الدولة عنهم بما كان من ثورة انيال وبركة بعده واتصل فساد بدر وامتناعه فخرجت اليه العساكر مع الاتابك اشمس والأمير سلام والجوباني أمير مجلس وغيرهم من الأمراء الغربية ونزلت العساكر البحيرة واعتزم بدر على قتالهم فجاءهم النذير بذلك فانتبذوا عن الخيام وتركوها خاوية ووقفوا على مراكزهم حتى توسط القوم المخيم وشغلوا بنهبه فكرّت عليهم العساكر فكادوا

(5/534)


يستلحمونهم ولم يفلت منهم الا الأقل وبعث بدر بالطاعة واعتذر بالخوف وقام بالخراج فرجعت العساكر وولى بكتمر الشريف على البحيرة ثم استبدل منه بقرط بن عمر ثم عاد بدر إلى حاله فخرجت العساكر فهرب أمامها وعاث القرط فيهم وقتل الكثير من رجالهم وحبس آخرين ورجع عن بدر أصحابه مع ابن عمه ومات ابن شادي وطلب الباقي الأمان فأمنوا وحبس رجال منهم وضمن الباقون القيام بالخراج واستأمن بدر فلم يقبل فلحق بناحية الصعيد واتبعته العساكر فهرب واستبيح مخلفه واحياؤه ولحق ببرقة ونزل على أبي ذئب فأجاره واستقام أمر البحيرة وتمكن قرط من جبايتها وقتل رحاب وأولاد شادي وكان قرطاي يستوعب رجالتهم بالقتل وأقام بدر عند أبي ذئب يتردّد ما بين احيائه وبين الواحات حتى لقيه بعض أهل الثأر عنده فثأروا منه سنة تسع وثمانين وذهب مثلا في الآخرين والله تعالى أعلم.
مقتل بركة في محبسه وقتل ابن عزام بثأره
كان الأمير بركة استعمل أيام إمارته خليل بن عزام استاذ داره ثم اتهمه في ماله وسخطه ونكبه وصادره على مال امتحنه عليه ثم أطلقه فكان يطوي له على النكث ثم صار بركة إلى ما صار اليه من الاعتقال بالإسكندرية وتولي ابن عزام نيابتها فحاول على حاجة نفسه في قتل بركة ووصل إلى القاهرة متبرئا من أمره متخوفا من مغبته ورجع وقد طوى من ذلك على الدغل ثم حمله الحقد الكامن في نفسه على اغتياله في جنح الليل فأدخل عليه جماعة متسلحين فقتلوه وزعم انه أذن له في ذلك وبلغ الخبر إلى كافل الدولة الأمير برقوق وصرّح مماليكه بالشكوى اليه فأنكر ذلك وأغلظ على ابن عزام وبعث دواداره الأمير يونس يكشف عن سببه واحضار ابن عزام فجاء به مقيدا وأوقفه على شنيع مرتكبه في بركة فحلف الأمير ليقادنّ منه به وأحضر إلى القلعة في منتصف رجب من سنة اثنتين وثمانين فضرب بباب القلعة أسواطا ثم حمل على جمل مشتهرا وأنزل إلى سوق الخيل فتلقاه مماليك بركة فتناولوه بالسيوف إلى أن تواقعت اشلأوه بكل ناحية وكان فيه عظة لمن يتعظ أعاذنا الله من درك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء انتهى.
وفاة السلطان المنصور عليّ بن الأشرف وولاية الصالح أمير حاج
كان هذا السلطان عليّ بن الأشرف قد نصبه الأمير قرطاي في ثورته على أبيه الأشرف وهو

(5/535)


ابن اثنتي عشرة سنة فلم يزل منصورا والأمر ينتقل من دولة كما ذكرناه إلى أن هلك لخمس سنين من ولايته في صفر سنة ثلاث وثمانين فحضر الأمير برقوق واستدعى الأمراء واتفقوا على نصب أخيه أمير حاج ولقبوه الصالح وأركبوه إلى الإيوان فأجلسوه على التخت وقلده الخليفة على العادة وجعل الأمير برقوق كافله في الولاية والنظر للمسلمين لصغره حينئذ عن القيام بهذه العهدة وأفتى العلماء يومئذ بذلك وجعلوه من مضمون البيعة وقرئ كتاب التقليد على الأمراء والقضاة والخاصة والعامة في يوم مشهود وانفضّ الجمع وانعقد أمر السلطان وبيعته وضرب فيها للأمير برقوق بسهم والله تعالى مالك الأمور.
وصول أنس الغساني والد الأمير برقوق وانتظامه في الأمراء
أصل هذا الأمير برقوق من قبيلة جركس الموطنين ببلاد الشمال في الجبال المحيطة بوطء القفجاق والروس واللان من شرقيها المطلة على بسائطهم ويقال انهم من غسان الداخلين إلى بلاد الروم مع أميرهم جبلة بن الأيهم عند ما أجفل هرقل إلى الشام وسار إلى القسطنطينية وخبر مسيره من أرض الشام وقصته مع عمر بن الخطاب رضى الله عنه متناقلة معروفة بين المؤرّخين وأمّا هذا الرأي فليس على ظاهره وقبيلة جركس من الترك معروفة بين النسابين ونزولهم بتلك المواطن قبل دخول غسان وتحقيق هذا الرأي أن غسان لما دخلوا مع جبلة إلى هرقل أقاموا عنده ويئسوا من الرجوع لبلادهم وهلك هرقل واضطرب ملك الروم وانتشرت الفتنة هنالك في ممالكهم واحتاجت غسان إلى الحلف للمدافعة في الفتن وحالفوا قبائل جركس ونزلوا في بسيط جبلهم من جانبه الشرقيّ مما يلي القسطنطينية وخالطوهم بالنسب والصهر واندرجوا فيهم حتى تلاشت احياؤهم وصاروا إلى تلك الأماكن وأووا من البسائط إلى الجبال مع جركس فلا يبعد مع هذا أن تكون أنسابهم تداخلت معهم ممن انتسب إلى غسان من جركس وهو مصدّق في نسبه ويستأنس له بما ذكرناه فهو نسبة قوية في صحته والله تعالى أعلم وجلب هذا الأمير برقوق على عهد الأمير بيبقا عثمان قراجا من التجار المعروفين يومئذ بتلك الجهات فملكه بيبقا وربي في اطباق بيته وأوى من قصده وشدّ في الرماية والثقافة وتعلم آداب الملك وانسلخ من جلدة الخشونة وترشح للرّياسة والامارة والسعادة تشير اليه والعناية الربانية تحوم عليه ثم كان ما ذكرناه من شأن مماليك بيبقا ومهلك

(5/536)


كبيرهم يومئذ استدمر وكيف تقسموا بين الجلاء والسجن وكان الأمير برقوق أعزه الله تعالى ممن أدركه التمحص فلبث في سجن الكرك خمس سنين بين أصحاب له منهم فكانت تهوينا لما لقي من بوائقه وشكرا له بالرجوع إلى الله ليتم ما قدّر الله فيه من حمل أمانته واسترعاء عباده ثم خلص من ذلك المحبس مع أصحابه وخلى سبيله فانطلقوا إلى الشام واستخلصهم الأمير منجك نائب الشام يومئذ وكان بصيرا مجربا فألقى محبته وعنايته على هذا الأمير لما رأى عليه من علامات القبول والسعادة ولم يزل هناك في خالصته إلى أن هجس في نفس السلطان الأشرف استدعاء المرشحين من مماليكه وهذا الأمير يقدمهم وأفاض فيهم الإحسان واستضافهم لولده الأمير علي ولم يكن الا أيام وقد انتقض الجائي القائم بالدولة وركب على السلطان فأحضرهم السلطان الأشرف وأطلق أيديهم في خيوله المقربة وأسلحته المستجادة فاصطفوا منها ما اختاروه وركبوا في مدافعة الجائي وصدقوه القتال حتى دافعوه على الرميلة ثم اتبعوه حتى ألقى نفسه في البحر فكان آخر العهد به واحتلوا بمكان من أثرة السلطان واختصاصه فسوّغ لهم الاقطاعات وأطلق لهم الجرايات ولهذا الأمير بين يديه من بينهم مزيد مكانة ورفيع محل إلى أن خرج السلطان الأشرف إلى الحج وكان ما قدّمناه من انتقاض قرطاي واستبداده ثم استبداد ايبك من بعده وقد عظم محل هذا الأمير من الدولة ونما عزه وسمت رتبته ثم فسد أمر أيبك وتغلب على الأمر جماعة من الأمراء مفترقي الاهواء وخشي العقلاء انتقاض الأمر وسوء المغبة فبادر هذا الأمير وتناول الحبل بيده وجعل طرفه في يد بركة رديفه فأمسك معه برهة من الأيام ثم اضطرب وانتقض وصار إلى ما صار اليه من الهلاك واستقل الأمير برقوق بحمل الدولة والعناية الربانية تكفله والسعادة تواخيه وكان من جميل الصنع الرباني له أن كيّف الله غريبة في اجتماع شمل أبيه به فقدم وفد التجار بابيه من قاصية بلادهم بعد أن أعملوا الحيلة في استخلاصه وتلطفوا في استخراجه وكان اسمه أنس فاحتفل ابنه الأمير برقوق من مبرته وأركب العساكر وسائر الناس على طبقاتهم لتلقيه واعدّ الخيام بسرياقوس لنزوله فحضروا هنالك جميعا في ثاني ذي الحجة سنة اثنتين وثمانين وجلس الأمير أنس الوافد صدر المجلس وهم جميعا حفافيه من القضاة والأمراء ونصب السماط فطعم الناس وانتشروا ثم ركبوا إلى البلد وقد زينت الأسواق وأوقدت الشموع وماجت السكك بالنظارة من عالم لا يحصيهم الا خالقهم وكان يوما مشهودا وأنزله بالاصطبل تحت المدينة الناصرية ونظمه السلطان في أقربائه وبني عمه وبني إخوانه واجتمع شملهم به وفرض لهم الأرزاق وقرّرهم في الوظائف ثم مات هذا الأب الوافد وهو الأمير

(5/537)


أنس رحمه الله في أواسط [1] وثمانين بعد أن أوصى بحجة إسلامه وشرفت مراتب الامارة بمقامه ودفنه السلطان بتربة الدوادار يونس ثم نقله إلى المدفن بجوار المدرسة التي أنشاها بين القصرين سنة ثمان وثمانين والله يؤتي الملك من يشاء
خلع الصالح أمير حاج وجلوس الأمير برقوق على التخت واستبداده بالسلطان
كان أهل الدولة من البيبقاوية من ولي منهم هذا الأمير برقوق قد طمعوا في الاستبداد وظفروا بلذة الملك والسلطان ورتعوا في ظل الدولة والأمان ثم سمت أحوالهم إلى أن يستقل أميرهم بالدولة ويستبد بها دون الاصاغرين المنتصبين بالمملكة وربما أشار بذلك بعض أهل الفتيا يوم بيعة أمير حاج وقال لا بدّ أن يشرك معه في تفويض الخليفة الأمير القائم بالدولة لتشدّ الناس إلى عقدة محكمة فأمضى الأمير على ذلك وقام الأمير بالدولة فأنس الرعية بحسن سياسته وجميل سيرته واتفق أنّ جماعة من الأمراء المختصين بهذا الصبي المنصوب غصوا بمكان هذا الأمير وتفاوضوا في الغدر به وكان متولي ذلك منهم ابقا العثماني دوادار السلطان ونمي الخبر اليه بذلك فتقبض عليهم وبعث ابقا إلى دمشق على إمارته وغرّب الآخرين إلى قوص فاعتقلوا هنالك حتى أنفذ الله فيهم حكمه وأشفق الأمراء من تدبر مثل هؤلاء عليهم وتفاوضوا في محو الأصاغر من الدست وقيامه بأمرهم مستقلا فجمعهم لذلك في تاسع عشر رمضان سنة أربع وثمانين وحضر الخاصة والعامة من الجند والقضاة والعلماء وأرباب الشورى والفتيا وأطبقوا على بيعته وعزل السلطان أمير حاج فبعث اليه أميرين من الأمراء فأدخلوه إلى بيته وتناولوا السيف من يده فأحضروها ثم ركب هذا السلطان من مجلسه بباب الاصطبل وقد لبس شعار السلطنة وخلعة الخلافة فدخل إلى القصور السلطانية وجلس بالقصر الأبلق على التخت وأتاه الناس بيعتهم أرسالا وانعقد أمره يومئذ ولقب الملك الظاهر وقرعت الطبول وانتشرت البشائر وخلع على أمراء الدولة مثل أشمس الأتابك والطنبقا الجوباني أمير مجلس وجركس الخليلي أمير الماخورية وسودون الشيخوني نائبا والطنبقا المعلم أمير سلاح ويونس النوروي دوادار وقردم الحسيني رأس نوبة وعلى كتابه أوحد الدين بن ياسين كاتب سرّه أدال به من بدر الدين بن فضل الله كاتب سرّ السلطان من قبل وعلى جميع أرباب
__________
[1] بياض بالأصل، ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على هذه السنة.

(5/538)


الوظائف من وزير وكاتب وقاض ومحتسب وعلى مشاهير العلم والفتيا والصوفية وانتظمت الدولة أحسن انتظام وسرّ الناس بدخولهم في ايالة السلطان يقدر للأمور قدرها ويحكم أو أخيها واستأذنه الطنبقا الجوباني أمير مجلس في الحج تلك السنة وأذن له فانطلق لقضاء فرضه وعاد انتهى والله تعالى أعلم.
مقتل قرط وخلع الخليفة ونصب ابن عمه الواثق للخلافة
كان قرط بن عمر من التركمان المستخدمين في الدولة وكان له أقدام وصرامة رقابهما إلى محل من مرادفة الأمراء في وجوههم ومذاهبهم ودفع إلى ولاية الصعيد ومحاربة أولاد الكنز من العرب الجائلين في نواحي أسوان فكان له في ذلك غناء وأحسن في تشريدهم عن تلك الناحية ثم بعث إلى البحيرة واليا عند انتقاض بدر بن سلام وفراره ومرجع العساكر من تمهيدها فقام بولايتها وتتبع آثار أولئك المنافقين وحسم عللهم وحضر في ثورة انيال فجلا في ذلك اليوم لشهامته واقدامه وكان هو المتولي تسوّر الحائط وإحراق الباب الظهراني الّذي ولجوا عليه وامسكوه فكان يمت بهذه الوسائل اجمع والسلطان يرعى له الا انه كان ظلوما غشوما فكثرت شكايات الرعايا والمتظلمين به فتقبض عليه لأوّل بيعته وأودعه السجن ثم عفا عنه وأطلقه وبقي مباكرا باب السلطان مع الخواص والأولياء وطوى على الغث وتربص بالدولة ونمي عنه أنه فاوض الخليفة المتوكل بن المعتضد في الانتقاض والاجلاب على الدولة بالعرب المخالفين بنواحي برقة من أهل البحيرة وأصحاب بدر بن سلام وأن يفوّض الخليفة الأمر إلى سوى هذا السلطان القائم بالدولة وانه داخل في ذلك بعض ضعفاء العقول من أمراء الترك ممن لا يؤبه له فأحضرهم من غداته وعرض عليهم الحديث فوجموا وتناكروا وأقر بعضهم واعتقل الخليفة بالقلعة وأخرج قرط هذا لوقته فطيف به على الجمل مسمرا ابلاغا في عقابه ثم سيق إلى مصرعه خارج البلد وقدّ بالسيف نصفين وضم الباقون إلى السجون وولى السلطان الخلافة عمر بن إبراهيم الواثق من أقاربه وهو الّذي كان الملك الناصر ولى أباه إبراهيم بعد الخليفة أبي الربيع وعزل عن ابنه أحمد كما مرّ وكان هذا كله في ربيع سنة خمس وثمانين وولى مكانه أخوه زكريا ولقب المعتصم واستقرّت الأحوال إلى أن كان ما نذكره أن شاء الله تعالى.

(5/539)


نكبة الناصري واعتقاله
كان هذا الناصري من مماليك بيبقا وأرباب الوظائف في أيامه وكان له مع السلطان الظاهر ذمة وداد وخلة من لدن المربى والعشرة فقد كانوا أترابا بها وكانت لهم دالة عليه لعلوّ سنه وقد ذكرنا كيف استبدّوا بعد ايبك ونصبوا الناصري أتابكا ولم يحسن القيام عليها وجاء طشتمر بعد ذلك فكان معه حتى في النكبة والمحبس ثم أشخص إلى الشام وولى على طرابلس ثم كانت ثورة انيال ونكبته في جمادى سنة احدى وثمانين فاستقدمهم من طرابلس وولى أمير سلاح مكان انيال واستخلصه الأمير بركة وخلطه بنفسه وكانت نكبته فحبس معه ثم أشخص إلى الشام وكان انيال قد أطلق من اعتقاله وولى على حلب سنة اثنتين وثمانين مكان منكلي بقري الاحمدي فأقام بها سنة أو ونحوها ثم نمي عنه خبر الانتقاض فقبض عليه وحبس بالكرك وولى مكانه على حلب بيبقا الناصري في شوّال سنة ثلاث وثمانين وقعد الظاهر على التخت لسنة بعدها واستبدّ بملك مصر وكان الناصري لما عنده من الدالة يتوقف في إنفاذ أوامره لما يراه من المصالح بزعمه والسلطان ينكر ذلك ويحقده عليه وكان له مع الطنبقا الجوباني أمير مجلس أحد أركان الدولة حلف لم يغن عنه وأمر السلطان بالقبض على سولي بن بلقادر حين وفد عليه بحلب فأبي من ذلك صونا لوفائه بزعمه ودس بذلك إلى سولي فهرب ونجا من النكبة ووفد على السلطان سنة خمس وثمانين وجدّد حلفه مع الجوباني ومع أشمس الأتابك ورجع إلى حلب ثم خرج بالعساكر إلى التركمان آخر سنة خمس وثمانين دون إذن السلطان فانهزم وفسدت العساكر ونجا بعد ثالثة جريحا وأحقد عليه السلطان هذه كلها ثم استقدمه سنة سبع وثمانين فلما انتهى إلى سرياقوس تلقاه بها أستاذ دار فتقبض عليه وطير به إلى الإسكندرية فحبس بها مدة عامين وولى مكانه بحلب الحاجب سودون المظفر وكان عيبة نصح للسلطان وعينا على الناصري فيما يأتيه ويذره لانه من وظائف الحاجب للسلطان في دولة الترك خطة البريد المعروفة في الدول القديمة فهو بطانة السلطان بما يحدث في عمله ويعترض شجا في صدر من يروم الانتقاض من ولاته وكان هذا الحاجب سودون هو الّذي ينمي أخباره إلى السلطان ويطلعه على مكامن مكره فلما حبس الناصري بالإسكندرية ولاه مكانه بحلب وارتاب الجوباني من نكبة الناصري لما كان بينهما من الوصلة والحلف فوجم واضطرب وتبين السلطان منه النكر فنكبه كما نذكره بعد إن شاء الله تعالى وأقصاه والله أعلم
.

(5/540)


إقصاء الجوباني إلى الكرك ثم ولايته على الشام بعد واقعة بندمر
أصل هذا الأمير الجوباني من قبائل الترك واسمه الطنبقا وكان من موالي بيبقا الخاصكي المستولي على السلطان الأشرف وقد مرّ ذكره ربي في قصره وجوّ عزه ولقن الخلال والآداب في كنفه وكانت بينه وبين السلطان خلة ومصفاة اكسبتها له تلك الكفالة بما كانا رضيعي ثديها وكوكبي أفقها وتربي مرقاها وقد كان متصلا فيما قبله بينهما من لدن المربى في بلادهم واشتمل بعضهم على بعض واستحكم الاتحاد حتى بالعشرة أيام التمحيص والاغتراب كما مرّ فلقد كان معتقلا معه بالكرك أيام المحنة خمسا من السنين أدال الله لهذا السلطان حزنها بالمسرّة والنحوسة بالسعادة والسجن بالملك وقسمت للجوباني بها شائبة من رحمة الله وعنايته في خدمة السلطان بدار الغربة والمحنة وألفته به في المنزل الخشن لتعظم له الوسائل وتكرم الاذمة والعهود
أنّ الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن
ثم كان انطلاقهما إلى الشام ومقامهما جميعا واستدعاؤهما إلى دار الملك ورقيمها في درج العز والتغريب كذلك وكان للسلطان أصحاب سراة يمتون اليه بمثل هذه الوسائل وينتظمون في ملكها وكان متميز الرتبة عنهم سابقا في مرقى درجات العز أمامهم مجلبا في الحلبة التي فيها طلقهم إلى أن ظفر بالملك واستولى على الدولة وهو يستتبعهم في مقاماته ويوطئهم عقبه ويذلل لهم الصعاب فيقتحمونها ويجوز لهم الرتب فيستهمون عليها ثم اقتعد منبر الملك والسلطان واستولى على كرسيه وقسم مراتب الدولة ووظائفها بين هؤلاء الأصحاب وآثر الجوباني منهم بالصفاء والمرباع فجعله أمير مجلسه ومعناه صاحب الشورى في الدولة وهو ثاني الأتابك وتلو رتبته فكانت له القدم العالية من أمرائه وخلصائه والحظ الوافر من رضاه وإيثاره وأصبح أحد الأركان التي بها عمد دولته بأساطينها وأرسى ملكه بقواعدها إلى أن دبت عقارب الحسد إلى مهاده وحوّمت شباة السعاية على قرطاسه وارتاب السلطان بمكانه وأعجل الحزم على إمهاله فتقبض عليه يوم الاثنين لسبع بقين من سنة سبع وثمانين وأودعه بعض حجر القصر عامّة يومه ثم أقصاه الى الكرك وعواطف الرحمة تنازعه وسجايا الكرم والوفاء تقض من سخطه ثم سمح وهو بالخير أسمح وجنح وهو الى الأدنى من الله أجنح فسرح اليه من الغد بمرسوم النيابة على تلك الأعمال فكانت غريبة لم يسمع بمثلها من حلم

(5/541)


هذا السلطان وأناته وحسن نيته وبصيرته وكرم عهده وجميل وفائه وانطلقت الألسن بالدعاء له وامتلأت القلوب بالمحبة وعلم الأولياء والخاصة والشيع والكافة انهم في كفالة أمن ولطف وملكة إحسان وعدل ثم مكث حولا يتعقب أحواله ويتتبع سيره وأخباره طاويا شأنه في ذلك عن سائر الأولياء إلى أن وقف على الصحيح من أمره وعلم خلوص مصادقته وجميل خلوصه فاخفق سعي الداعين وخابت ظنون الكاشحين وأداله العتبى من العتاب والرضا من النكرى واعتقد أن يمحو عنه هواجس الاسترابة والاستيحاش ويردّه إلى أرفع الامارة وبينما هو يطوي على ذلك ضميره ويناجي سره إذ حدثت واقعة بندمر بالشام فكانت ميقاتا لبدر السعادة وعلما على فوزه بذلك الحظ كما نذكر أن شاء الله تعالى وخبر هذه الواقعة أنّ بندمر الخوارزمي كان نائبا بدمشق وقد مرّ ذكره غير مرّة وأصله من الخوارزمية اتباع خوارزم شاه صاحب العراق عند استيلاء التتر وافترقوا عند مهلكه على يد جنكزخان في ممالك الشام واستخدموا لبني أيوب والترك أوّل استبدادهم بمصر وكان هذا الرجل من أعقاب أصلهم وكان له نجابة جذبت بضيعة ونصب عند الأمراء من سوقه فاستخدم بها إلى أن ترشح للولاية في الأعمال وتداول امارة دمشق مع منجك اليوسفي وعشقتمر الناصري وكان له انتقاض بدمشق عند تغلب الخاصكي وحاصره واستنزله بأمانة ثم أعيد إلى ولايته ثم تصرّمت تلك الدول وتغلب هذا السلطان على الأمر ورادفه فيه فولوه على دمشق وكانت صاغيته مع بركة فلما حدث انتقاض بركة كتب اليه والى بقري بدمشق أولياؤه هنالك بالاستيلاء على القلعة وكتب برقوق إلى نائب القلعة يحذرهم فركب جنتمر أخو طاز وابن جرجي ومحمد بيك وقاتلوه ثلاثا ثم أمسكوه وقيدوه ومعه بقري بن برقش وجبريل مرتبه وسيقوا إلى الاسكندرية فحبسوا فلما قتل بركة أطلق بندمر ومن كان حبس من أصحاب بركة مثل بيبقا الناصري ودمرداش الأحمدي ثم استخلصه السلطان برقوق وردّه إلى عمله الأول بعد جلوسه على التخت والشام له وكان جماعا للأموال شديد الظلامة فيها متحيلا على استخلاصها من أيدي أهلها بما يطرق لهم من أسباب العقاب مصانعا للحاشية بماله من حاميته إلى أن سئم الناس ايالته وترحمت القلوب منه وكان بدمشق جماعة من الموسوسين المسامرين لطلب العلم بزعمهم متهمون في عقيدتهم بين مجسم ورافضي وحلولي جمعت بينهم أنساب الضلال والحرمان وقعدوا عن نيل الرتب بما هم فيه تلبسوا بإظهار الزهد والنكير على الخلق حتى على الدولة في توسعة بطلان الأحكام والجباية عن الشرع إلى السياسة التي تداولها الخلفاء وأرخص فيها العلماء وأرباب الفتيا وحملة الشريعة بما تمس اليه الحاجة من

(5/542)


الوازع السلطاني والمعونة على الدفاع وقديما نصبت الشرطة الصغرى والكبرى ووظيفة المظالم ببغداد دار السلام ومقرّ الخلافة وايوان الدين والعلم وتكلم الناس فيها بما هو معروف وفرضت أرزاق العساكر في أثمان البياعات عن حاجة الدولة الاموية فليس ذلك من المنكر الّذي يعتدّ بتغييره فلبس هؤلاء الحمقى على الناس بأمثال هذه الكلمات وداخلوا من في قلبه مرض من الدولة وأوهموا أن قد توثقوا من الحل والعقد في الانتقاض فرية انتحلوها وجمعا انهوه نهايته وعدوا على كافل القلعة بدمشق وحاميتها يسألونهم الدخول معهم في ذلك لصحابة كانت بين بعضهم وبينه فاعتقلهم وطالع السلطان بأمرهم وتحدث الناس أنهم داخلوا في ذلك بندمر النائب بمداخلة بعضهم كابنه محمد شاه ونمي الخبر بذلك إلى السلطان فارتاب به وعاجله بالقبض والتوثق منه ومن حاشيته ثم أخرج مستوفي الأموال بالحضرة لاستخلاص ما احتازه من أموال الرعايا واستأثر به على الدولة وأحضر هؤلاء الحمقى ومن بسوء سيرتهم مقتدون إلى الأبواب العالية فقذفوا في السجون وكانوا أحق بغير ذلك من أنواع العذاب والنكال وبعث السلطان لعشقتمر الناصري وكان مقيما بالقدس أن يخرج نائبا على دمشق فتوجه اليها وأقام رسم الامارة بها أياما ظهر فيها عجزه وبين عن تلك الرتبة قعوده بما أصابه من وهن الكبر وطوارق الزمانة والضعف حتى زعموا أنه كان يحمل على الفراش في بيته إلى منعقد حكمه فعندها بعث السلطان عن هذا الأمير الجوباني وقد خلص من الفتن ابريزه وأينع بنفحات الرضا والقبول عوده وأفرح بمطالعة الانس والقرب روعه فجاء من الكرك على البريد وقد أعدت له أنواع الكرامة وهيئ له المنزل والركاب والفرش والثياب والآنية والخوان والخرثيّ والصوان واحتفل السلطان لقدومه وتلقيه بما لم يكن في أمله وقضى الناس العجب من حلم هذا السلطان وكرم عهده وجميل وفائه وتحدّث به الركبان ثم ولاه نيابة دمشق وبعثه لكرسيها مطلق اليد ماضي الحكم عزيز الولاية وعسكر بالزيدانية ظاهر القاهرة ثالث ربيع الأوّل من سنة سبع وثمانين وارتحل من الغد وسعادة السلطان تقدّمه ورضاه ينقله إلى أن قارب دمشق والناس يتلقونه أرسالا ثم دخل المدينة غرة ربيع الثاني وقد احتفل الناس لقدومه وغصت السكك بالمتنزهين وتطاول إلى دولته أرباب الحدود وتحدّث الناس بجمال هذا المشهد الحفيل وتناقلوا خبره واستقل بولاية دمشق وعناية السلطان تلاحظه ومذاهب الطاعة والخلوص تهديه بحسن ذكره وأفاض الناس الثناء في حسن اختياره وجمال مذهبه وأقام السلطان في وظيفته أحمد ابن الأمير بيبقا فكان أمير مجلس والله غالب على أمره
.

(5/543)


هدية صاحب افريقية
كان السلطان لهذا العهد بإفريقية من الموحدين ومن أعقاب الأمير أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص الهنتاتي المستبدّ بإفريقية على بني عبد المؤمن ملوك مراكش أعوام خمس وعشرين وستمائة وهو أحمد بن محمد بن أبي بكر بن يحيى بن إبراهيم أبي زكريا سلسلة ملوك كلهم ولم تزل ملوك المغرب على القدم ولهذا العهد يعرفون لملوك الترك بمصر حقهم ويوجبون لهم الفضل والمزية بما خصهم الله من ضخامة الملك وشرف الولاية بالمساجد المعظمة وخدمة الحرمين وكانت المهاداة بينهم تتصل بعض الأحيان ثم تنقطع بما يعرض في الدولتين من الأحوال وكان لي اختصاص بذلك السلطان ومكان من مجلسه ولما رحلت إلى هذا القطر سنة أربع وثمانين واتصلت بهذا السلطان بمصر الملك الظاهر سألني عنه لأوّل لقيه فذكرته له بأوصافه الحميدة وما عنده من الحب والثناء ومعرفة حقه على المسلمين أجمع وعلى الملوك خصوصا في تسهيل سبيل الحج وحماية البيت للطائفين والعاكفين والركع السجود أحسن الله جزاءه ومثوبته ثم بلغني أنّ السلطان بإفريقية صدّ أهلي وولدي عن اللحاق بي اغتباطا بمكاني وطلبا لفيئتي إلى بابه ورجوعي فتطارحت على هذا السلطان في وسيلة شفاعة تسهل منه الاذن فاسعفني بذلك وخاطبت ذلك السلطان كان الله له أغبطه بمودّة هذا السلطان والعمل على مواصلته ومهاداته كما كان بين سلفهم في الدولتين فقبل مني وبادر إلى اتحافه بمقرّبات أفليس عندنا في المغرب تحفة تطرف بها ملوك الشرق الا الجياد العرب وأمّا ما سوى ذلك من أنواع الطرف والتحف بالمغرب فكثير لديهم أمثاله ويقبح أن يطرف عظماء الملوك بالتافه المطروح لديهم واختار لتلك سفينته التي أعدّها لذلك وأنزل بها أهلي وولدي بوسيلة هذا السلطان أيده الله لسهولة سبيل البحر وقرب مسافته فلما قاربوا مرسى الاسكندرية عاقتهم عواصف الرياح عن احتلال السفينة وغرق معظم ما فيها من الحيوان والبضائع وهلك أهلي وولدي فيمن هلك ونفقت تلك الجياد وكانت رائعة الحسن صافية النسب وسلم من ذلك المهلك رسول جاء من ذلك السلطان لمدّ العهد وتقرّر المودّة فتلقى بالقبول والكرامة وأوسع النزل والقرى ثم اعتزم على العودة إلى مرسلة فانتقي السلطان ثيابا من الوشيّ المرقوم من عمل العراق والاسكندرية يفوت القيمة واستكثر منها واتحف بها السلطان ملك افريقية على يد هذا الرسول على عادة عظماء الملوك في اتحافهم وهداياهم وخاطبت ذلك السلطان معه يحسن الثناء على قصده وجميل موقع هديته من السلطان واستحكام

(5/544)


مودّته له وأجابني بالعذر من الموقع وأنه مستأنف من الإتحاف للسلطان واستحكام مودّته لما يسره الحال فلما قدم الحاج من المغرب سنة ثمان وثمانين وصل فيهم من كبار الغرب بدولته وأبناء الأعاظم المستبدّين على سلفه عبيد بن القائد أبي عبد الله محمد بن الحكيم بهدية من المقرّبات رائقة الحلي رائعة الأوصاف منتخبة الأجناس والأنساب غريبة الألوان والأشكال فاعترضها السلطان وقابلها بالقبول وحسن الموقع وحضر الرسول بكتابه فقرئ وأكرم حامله وأنعم عليه بالزاد لسفر الحج وأوصى أمراء المحمل فقضى فرضه على أكمل الأحوال وكانت أهمّ أمنياته ثم انقلب ظافرا بقصده وإعادة السلطان إلى مرسلة بهدية نحو من الاولى من أجناس تلك الثياب ومستجادها مما يجاوز الكثيرة ويفوت واستحكمت عقدة المودّة بين هذين السلطانين وشكرت الله على ما كان فيها من أثر مسعاي ولو قلّ وكان وصل في جملة الحاج من المغرب كبير العرب من هلال وهو يعقوب بن علي بن أحمد أمير رياح الموطنين بضواحي قسنطينة وبجاية والزاب في وفد من بنيه وأقربائه ووصل في جملتهم أيضا عون بن يحيى بن طالب بن مهلهل من الكعوب أحد شعوب سليم الموطنين بضواحي تونس والقيروان والجريد وبنو أبيه فقضوا فرضهم أجمعون وانقلبوا إلى مواطنهم أواسط شهر ربيع الآخر من سنة تسع وثمانين واطردت أحوال هذه الدولة على أحسن ما يكون والله متولي أمرها بمنه وكرمه انتهى.
حوادث مكة وأمرائها
قد تقدّم لنا أنّ ملك مكة سار في هذه الاعصار لبني قتادة من بني مطاعن الهواشم بني حسن وذلك منذ دولة الترك وكان ملكهم بها بدويا وهم يعطون الطاعة لملك مصر ويقيمون مع ذلك الدولة العباسية للخليفة الّذي ينصبه الترك بمصر إلى أن استقرّ أمرها آخر الوقت لأحد بن عجلان من رميثة بن أبي نمى أعوام سنة ستين وسبعمائة بعد أبيه عجلان فأظهر في سلطانه عدلا وتعففا عن أموال الناس وقبض أيدي أهل العيث والظلم وحاشيتهم وعبيدهم وخصوصا عن المجاورين وأعانه على ذلك ما كان له من الشوكة بقوّة أخواله ويعرفون بني عمر من اتباع هؤلاء السادة ومواليهم فاستقام أمره وشاع بالعدل ذكره وحسنت سيرته وامتلأت مكة بالمجاورين والتجار حتى غصت بيوتها بهم وكان عنان ابن عمه مقامس بن رميثة ومحمد ابن عمه مقامس بن رميثة ينفسون عليه ما آتاه الله من الخير ويحدون في أنفسهم إذ ليس يقسم لهم برضاهم في أموال جبايته فتنكروا له وهموا بالانتقاض فتقبض

(5/545)


عليهم وكان لهم حلف مع أخيه محمد بن عجلان فراوده على تركهم أو حبسهم فحبسوا ولبثوا في محبسهم ذلك حولا أو فوقه ثم نقبوا السجن ليلا وفرّوا فأدركوا من ليلتهم وأعيدوا الى محبسهم وأفلت منهم عنان بن مقامس وخجا إلى مصر سنة ثمان وثمانين صريخا بالسلطان وعن قليل وصل الخبر بوفاة أحمد بن عجلان على فراشه وأنّ أخاه كبيش بن عجلان نصب ابنه محمدا مكانه وقام بأمره وانه عمد إلى هؤلاء المعتقلين فسمهم صونا للامر عنهم لمكان ترشيحهم فنكر السلطان ذلك وسخطه من فعلاتهم وافتياتهم ونسب إلى كبيش وأنه يفسد مكة بالفساد بين هؤلاء الأقارب ولما خرج الحاج سنة ثمان وثمانين أوصى أمير حاج بعزل الصبيّ المنصوب والاستبدال عنه بابن عنان بن مقامس والقبض على كبيش ولما وصل الحاج إلى مكة وخرج الصبيّ لتلقي المحمل الخلافيّ وقد أرصد الرجال حفافيه للبطش بكبيش وأميره المنصوب فقعد كبيش عن الحضور وجاء الصبيّ وترجل عن فرسه لتقبيل الخف من راحلة المحمل على العادة فوثب به أولئك المرصدون طعنا بالخناجر يظنونه كبيشا ثم غابوا فلم يوقف لهم على خبر وتركوه طريحا بالبطحاء ودخل الأمير إلى الحرم فطاف وسعي وخلع على عنان بن مقامس الامارة على عادة من سلف من قومه ونجا كبيش إلى جدّة من سواحل مكة ثم لحق بأحياء العرب المنتبذين ببقاع الحجاز صريخا فقعدوا عن نصرته وفاء بطاعة السلطان وافترق أمره وخذله عشيرة وانقلب الأمير بالحاج إلى مصر فعنفه السلطان على قتله الصبيّ فاعتذر بافتيات أولئك الرجال عليه فعذره وجاء كبيش بعد منصرف الحاج وقد انضم اليه أوباش من العرب فقعد بالمرصد يخيف السابلة والركاب والمسافرين ثم زحف إلى مكة وحاصرها أوّل سنة تسع وثمانين وخرج عنان بن مقامس بعض الأيام وبارزه فقتله واضطرب الأمر بمكة وامتدّت أيدي عنان والأشرار معه إلى أموال المجاورين فتسلطوا عليها ونهبوا زرع الأمراء هنالك وزرع السلطان للصدقة وولى السلطان علي بن عجلان واعتقله حسما لمادّة طوارق الفساد عن مكة واستقرّ الحال على ذلك إلى أن كانت فتنة الناصر كما نذكر أن شاء الله تعالى انتهى.
انتقاض منطاش بملطية ولحاقه بسيواس ومسير العساكر في طلبه
كان منطاش هذا وتمرتاي الدمرداشي الّذي مرّ ذكره أخوين لتمراز الناصري من موالي الملك

(5/546)


الناصر محمد بن قلاون وربيا في كفالة أمّهما وكان اسم تمرتاي محمدا وهو الأكبر واسم منطاش أحمد وهو الأصغر واتصل تمرتاي بالسلطان الأشرف وترقى في دولته في الوظائف الى أنّ وليّ بحلب سنة ثمانين وكانت واقعته مع التركمان وذلك انه وفد عليه أمراؤهم فقبض عليهم لما كان من عيثهم في النواحي واجتمعوا فسار اليهم وأمدّه السلطان بعساكر الشام وحماة وانهزموا أمامهم الى الدربند ثم كرّوا على العساكر فهزموها ونهبوها في المضايق وتوفي تمرتاي سنة اثنتين وثمانين وكان السلطان الظاهر برقوق يرعى لهما هذا الولاء فولى منطاش على ملطية ولما قعد على الكرسي واستبدّ بالسلطان بدت من منطاش علامات الخلاف فهمّ به ثم راجع ووفد وتنصل للسلطان وكان سودون باق من أمراء الألوف خالصة للسلطان ومن أهل عصبيته وكان من قبل ذلك في جملة الأمير تمرتاي فرعا لمنطاش حق أخيه وشفع له عند السلطان وكفل حسن الطاعة منه وانه يخرج على التركمان المخالفين ويحسم علل فسادهم وانطلق الى قاعدة عمله بملطية ثم لم تزل آثار العصيان بادية عليه وربما داخل أمراء التركمان في ذلك ونمي الخبر الى السلطان فطوى له وشعر هو بذلك فراسل صاحب سيواس قاعدة بلاد الروم وبها قاض مستبدّ على صبيّ من أعقاب بني أرشي ملوكها من عهد هلاكو قد اعصوصب عليه بقية من احياء التتر الذين كانوا حامية هنالك مع الشحنة فيها كما نذكره ولما وصلت رسل منطاش وكتبه الى هذا القاضي بادر بإجابته وبعث رسلا وفدا من أصحابه في إتمام الحديث معه فخرج منطاش الى لقائهم واستخلف على ملطية دواداره وكان مغفلا فخشي مغبة ما يرومه صاحبه من الانتقاض فلاذ بالطاعة وتبرّأ من منطاش وأقام دعوة السلطان في البلد وبلغ الخبر الى منطاش فاضطرب ثم استمرّ وسار مع وفد القاضي الى سيواس فلما قدم عليه وقد انقطع الحبل في يده أعرض عنه وصار الى مغالطة السلطان عما أتاه من مداخلة منطاش وقبض عليه وحبسه وسرح السلطان سنة تسع وثلاثين عساكره مع يونس الدوادار وقردم رأس نوبة والطنبقا الرماح أمير سلاح وسودون باق من أمراء الألوف وأوعز الى الناصري فأتى وطلب أن يخرج معهم بعساكره الى انيال اليوسفي من أمراء الألوف بدمشق وساروا جميعا وكان يومئذ ملك التتر بما وراء النهر وخراسان تمر من نسب جفطاي قد زحف الى العراقين وآذربيجان وملك توريز عنوة واستباحها وهو يحاول ملك بغداد فسارت هذه العساكر تورّي بغزوه ودفاعه حتى إذا بلغوا حلب أتى اليهم الخبر بأنّ تمر رجع بعساكره لخارج خرج عليه بقاصية ما وراء النهر فرجعت عساكر السلطان الى جهة سيواس واقتحموا تخومها على حين غفلة من أهلها فبادر القاضي الى اطلاق منطاش لوقته

(5/547)


وقد كان أيام حبسه يوسوس اليه بالرجوع عن موالاة السلطان وممالأته ولم يزل يفتل له في الذروة والغارب حتى جنح الى قوله فبعث لأحياء التتر الذين كانوا ببلاد الروم فيئة ابن اريثا ابن أوّل فسار اليهم واستجاشهم على عسكر السلطان وحذرهم استئصال شأفتهم باستئصال ملك ابن اريثا وبلده ووصلت العساكر خلال ذلك الى سيواس فحاصروها أياما وضيقوا عليها وكادت أن تلقي باليد ووصل منطاش أثر ذلك باحياء التتر فقاتلهم العساكر ودافعوهم ونالوا منهم وجلا الناصري في هذه الوقائع وأدرك العساكر الملل والضجر من طول المقام وبطء الظفر وانقطاع الميرة بتوغلهم في البلاد وبعد الشقة فتداعوا للرجوع ودعوا الأمراء إليه فجنح لذلك بعضهم فانكفئوا على تعبيتهم وسار بعض التتر في اتباعهم فكرّوا عليهم واستلحموهم وخلصوا الى بلاد الشام على أحسن حالات الظهور ونية العود ليحسموا علل العدوّ ويمحوا أثر الفتنة والله تعالى أعلم.
نكبة الجوباني واعتقاله بالإسكندرية
كان الأمراء الذين حاصروا سيواس قد لحقهم الضجر والسآمة من طول المقام وفزع قردم الطنبقا [1] المعلم منهم الى الناصري مقدم العساكر بالشكوى من السلطان فيما دعاهم اليه من هذا المرتكب وتفاوضوا في ذلك مليا وتداعوا الى الإفراج عن البلد بعد أن بعثوا الى القاضي بها واتخذوا عنده يدا بذلك وأوصوه بمنطاش والإبقاء عليه ليكون لهم وقوفا للفتنة وعلم يونس الدوادار أنهم في الطاعة فلم يسعه خلافهم ففوّض لهم ولما انتهى الى حلب غدا عليه دمرداش من أمرائها فنصح له بأن الجوباني نائب دمشق مداخل للناصر في تمريضه في الطاعة وأنهما مصرّان على الخلاف وقفل يونس الى مصر فقص على السلطان نصيحته واستدعى دمرداش فشافه السلطان بذلك واطلع منه على جلي الخبر في شأنهما وكان للجوباني مماليك أوغاد قد أبطرتهم النعمة واستهواهم الجاه وشرهوا الى التوثب وهو يزجرهم فصاروا الى اغرائه بالحاجب يومئذ طرنطاي فقعد في بيته عن المجلس السلطاني وطير بالخبر الى مصر فاستراب الجوباني وسابقه بالحضور عند السلطان لينضح عنه ما علق به من الأوهام وأذن له في ذلك فنهض من دمشق على البريد في ربيع سنة تسعين ولما انتهى الى سرياقوس أزعج اليه استاذ داره بهادر المنجكي فقبض عليه وطير به السفن الى الاسكندرية وأصبح السلطان من الغد فقبض على قردم والطنبقا المعلم وألحقهما به فحبسوا هنالك جميعا
__________
[1] كذا بالأصل ويرد هذا الاسم تارة طنبقا وطورا الطنبغا وهو لقب تركي.

(5/548)


وانحسم ما كان يتوقع من انتقاضهم وولى السلطان مكان الجوباني بدمشق طرنطاي الحاجب ومكان قردم بمصر ابن عمه مجماس ومكان المعلم دمرداش واستمرّ الحال على ذلك.
فتنة الناصري واستيلاؤه على الشام ومصر واعتقال السلطان بالكرك
لما بلغ الناصري بحلب اعتقال هؤلاء الأمراء استراب واضطرب وشرع في أسباب الانتقاض ودعا اليه من يشيع الشر وسماسرة الفتن من الأمراء وغيرهم فأطاعوه وافتتح أمره بالنكير للأمير سودون المظفري والانحراف عنه لما كان منه في نكبته وإغراء السلطان به ثم ولايته مكانه ومن وظائف الحاجب في دولة الترك خطة البريد المعروفة في الدول القديمة فهو يطالع السلطان بما يحدث في عمله ويعترض شجى في صدر من يريد الانتقاض من ولاته فأظلم الجوّ بين هؤلاء الرهط وبين المظفري وتفاقم الأمر وطير بالخبر الى السلطان فأخرج للوقت دواداره الأصغر تلكتمر ليصلح بينهما ويسكن الثائرة وحين سمعوا بمقدمه ارتباوا وارتبكوا في أمرهم وقدم تلكتمر فتلقاه الناصري وألقى اليه كتاب السلطان بالندب الى الصلح مع الحاجب والإغضاء له فأجاب بعد أن التمس من حقائب تلكتمر مخاطبة السلطان وملاطفته للأمراء حتى وقف عليه ثم غلب عليه أولئك الرهط من أصحابه بالفتك بالحاجب فأطاعهم وباكرهم تلكتمر بدار السعادة ليتمّ الصلح بينهم وتذهب الهواجس والنفرة فدعاه الناصر الى بعض خلواته وبينما هو يحادثه وإذا بالقوم قد وثبوا على الحاجب وفتكوا به وتولى كبر ذلك انبقا الجوهري واتصلت الهيعة فوجم تلكتمر ونهض الى محل نزوله واجتمع الأمراء الى الناصري واعصوصبوا عليه ودعاهم الى الخلعان فأجابوا وذلك في محرم سنة احدى وتسعين واتصل الخبر بطرابلس وبها جماعة من الأمراء يرومون الانتقاض منهم بدلار الناصري عميد الفتن فتولى كبرها وجمع الذين تمالئوا عليها وعمدوا الى الإيوان السلطاني المسمى بدار السعادة وقبضوا على النائب وحبسوه ولحق بدلار الناصري في عساكر طرابلس وأمرائها وفعل مثل ذلك أهل حلب وحمص وسائر ممالك الشام وسرّح السلطان العساكر لقتالهم فسارا يتمش الاتابك ويونس الدوادار والخليلي جركس أمير الماخورية وأحمد بن بيبقا أمير مجلس وايدكاز صاحب الحجاب فيمن اليهم من العسارك وانتخب من أبطال مماليكهم وشجعانهم خمسمائة مقاتل واستضافهم الى الخليلي وعقد لهم لواءه المسمى

(5/549)


بالشاليش وأزاح عللهم وعلل سائر العساكر وساروا على التعبية منتصف ربيع السنة وكان الناصري لما فعل فعلته بعث عن منطاش وكان مقيما بين أحياء التتر منذ رجوع العساكر عن سيواس فدعاه ليمسك معه حبل الفتنة والخلاف فجاء وملأه مبرة وإحسانا واستنفر طوائف التركمان والعرب ونهض في جموعه يريد دمشق وطرنطاي نائبها يواصل تعريف السلطان بالاخبار ويستحث العساكر من مصر على خلع نائبها الأمير الصفوي وبينه وبين الناصر علاقة وصحبة فاسترابوا به وتقبضوا عليه ونهبوا بيته وبعثوا به حبيسا الى الكرك وولوا مكانه محمد باكيش بن جند التركماني كان مستخدما عند بندمر هو وأبوه وولي لهذا العهد على نابلس وما يجاورها فنقلوه الى غزة ثم تقدّموا الى دمشق واختاروا من القضاة وفدا أوفدوه على الناصري وأصحابه للإصلاح فلم يجيبوا وأمسكوا الوفد عندهم وساروا للقاء ولما تراءى الجمعان بالمرج نزع أحمد بن بيبقا وايدكاز الحاجب ومن معهما الى القوم فساروا معهم واتبعهم مماليك الأمراء وصدق القوم الحملة على من بقي فانفضوا ولجأ ايتمش الى قلعة دمشق فدخلها وكان معه مكتوب السلطان بذلك متى احتاج اليه وذهب يونس حيران وقد أفرده مماليكه فلقيه عنقا أمير الأمراء وكان عقد له بعض النزعات أيام سلطانه فتقبض عليه وأحيط بجركس الخليلي ومماليك السلطان حوله وقد أبلوا في ذلك الموقف واستلحم عامّتهم فخلص بعض العدوّ اليه وطعنه فأكبه ثم احتز رأسه وذهب ذلك الجمع شعاعا وافترقت العساكر في كل وجه وجيء بهم أسرى من كلّ ناحية ودخل الناصري وأصحابه دمشق لوقتهم واستولوا عليها وعاثت عساكرهم من العرب والتركمان في نواحيها وبعث اليهم عنقا يستأذنهم في أمر يونس فأمر بقتله فقتله وبعث اليهم برأسه وأوعزوا الى نائب القلعة بحبس ايتمش عنده وفرّقوا المحبوسين من أهل الواقعة على السجون بقلعة دمشق وصفد وحلب وغيرها وأظهر ابن باكيش دعوته بغزة وأخذ بطاعتهم ومرّ به انيال اليوسفي من أمراء الألوف بدمشق ناجيا من الوقعة الى مصر فقبض عليه وحبسه بالكرك واستعدّ السلان للمدافعة وولى دمرداش اتابكا مكان ايتمش وقرماش الجندار دوادار مكان يونس وعمر سائر المراتب عمن فقد منها وأطلق الخليفة المعتقل المتوكل بن المعتضد وأعاده الى خلافته وعزل [1] المنصوب مكانه وأقام الناصري وأصحابه بدمشق أياما ثم أجمعوا المسير الى مصر ونهضوا اليها بجموعهم وعميت أنباؤهم حتى أطلت مقدمتهم على بليس ثم تقدّموا الى بركة الحاج وخيموا بها لسبع من جمادى الأخيرة من السنة وبرز السلطان في مماليكه ووقف
__________
[1] بياض بالأصل، وسوف يتضح لنا فيما يلي أن الخليفة المعزول هو أمير حاج بن الأشرف.

(5/550)


أمام القلعة بقية يومه والناس يتسايلون الى الناصري من العساكر ومن العامّة حتى غصت بهم بسائط البركة واستأمن أكثر الأمراء مع السلطان الى الناصري فأمنهم واطلع السلطان على شأنهم وسارت طائفة من العسكر وناوشوهم القتال وعادوا منهزمين الى السلطان وارتاب السلطان بأمره وعاين انحلال عقدته فدس الى الناصري بالصلح وبعث اليه بالملاطفة وأن يستمرّ على ملكه ويقوم بدولته خدمه وأعوانه وأشار بأن يتوارى بشخصه أن يصينه أحد من غير البيبقاوية بسوء فلما غشيه الليل أذن لمن بقي معه من مماليكه في الانطلاق ودخل الى بيته ثم خرج متنكرا وسرى في غيابات المدينة وباكرهم الناصري وأصحابه القلعة فاستولوا عليها ودعوا أمير حاج ابن الأشرف فأعادوه الى التخت كما كان ونصبوه للملك ولقبوه المنصور وبادروا باستدعاء الجوباني والأمراء المعتقلين بالإسكندرية فأغذوا السير ووصلوا ثاني يومهم وركب الناصري وأصحابه للقائهم وأنزل الجوباني عنده بالاصطبل وأشركه في أمره وأصبحوا ينادون بطلب السلطان الظاهر بقية يومهم ذلك ومن الغد حتى دلّ عليه بعض مماليك الجوباني وحين رآه قبل الأرض وبالغ في الأدب معه وحلف له على الأمان وجاء به الى القلعة فأنزله بقاعة الغصة واشتوروا في أمره وكان حرص منطاش وزلار على قتله أكثر من سواهما وأبى الناصري والجوباني الا الوفاء بما اعتقد معهم واستقرّ الجوباني أتابك والناصري رأس النوبة الكبرى ودمرداش الاحمدي أمير سلاح وأحمد بن بيبقا أمير مجلس والابقا العثماني دوادار وانبقا الجوهري استاذدار وعمرت الوظائف والمراتب ثم بعثوا زلار نائبا على دمشق وأخرجوه اليها وبعثوا كتبقا البيبقاوي على حلب وكان السلطان قد عزله عن طرابلس واعتقله بدمشق فلما جاء في جملة الناصري بعثه على حلب مكانه وقبضوا على جماعة من الأمراء فيهم النائب سودون باق وسودون الطرنطاي فحبسوا بعضهم بالإسكندرية وبعثوا آخرين الى الشام فحبسوا هنالك وتتبعوا مماليك السلطان فحبسوا أكثرهم وأشخصوا بقيتهم الى الشام يستخدمون عند الأمراء وقبضوا على استاذدار محمود قهرمان الدولة وقارون القصري فصادروه على ألف ألف درهم ثم أودعوه السجن وهم مع ذلك يتشاورون في مستقرّ السلطان بين الكرك وقوص والاسكندرية حتى أجمعوا على الكرك ووروا بالإسكندرية حذرا عليه من منطاش فلما أزف مسيره قعد له منطاش عند البحر رصدا وبات عامة ليله وركب الجوباني مع السلطان من القلعة وأركب معه صاحب الكرك موسى بن عيسى في لمة من قومه يوصلونه الى الكرك وسار معه برهة من الليل مشيعا ثم رجع وشعر منطاش من أمره وطوى على الغش وأخذ ثياب الثورة كما يذكر ونجا السلطان الى الكرك في

(5/551)


فلّ من غلمانه ومواليه ووكل الناصري به حسن الكشكي من خواصه وولاه على الكرك وأوصاه بخدمته ومنعه ممن يرومه بسوء فتقدّمه الى الكرك وأنزله القلعة وهيأ له النزول بما يحتاج اليه وأقام هنالك حتى وقع من لطائف الله في أمره ما يذكر بعد أن شاء الله تعالى وجاء الخبر أن جماعة من مماليك الظاهر كانوا مختفين منذ الوقعة فاعتزموا على الثورة بدمشق وانهم ظفروا بهم وحبسوا جميعا ومنه أيبقا الصغير والله تعالى أعلم.
ثورة منطاش واستيلاؤه على الأمر ونكبة الجوباني وحبس الناصري والأمراء البيبقاوية بالإسكندرية
كان منطاش منذ دخل مع الناصري الى مصر متربصا بالدولة طاويا جوانحه على الغدر لأنهم لم يوفروا حظه من الاقطاع ولم يجعلوا له اسما في الوظائف حين اقتسموها ولا راعى له الناصري حق خدمته ومقارعته الأعداء وكان ينقم عليه مع ذلك إيثاره الجوباني واختصاصه فاستوحش وأجمع الثورة وكان مماليك الجوباني لما حبس أميرهم وانتقض الناصري بحلب لحقوا به وجاءوا في جمله واشتملوا على منطاش فكان له بهم في ذلك السفر أنس وله اليهم صفو فداخل جماعة منهم في الثورة وحملهم على صاحبهم وتطفل على الجوباني في المخالصة بغشيان مجلسه وملابسة ندمائه وحضور مائدته وكان البيبقاوية جميعا ينقمون على الناصري ويرون أنه مقصر في الرواتب والاقطاع وطووا من ذلك على النكث ودعاهم منطاش الى التوثب فكانوا اليه أسرع وزينوه له وقعدوا عنه عند الحاجة ونمي الخبر الى الناصري والجوباني فعزموا على اشخاص منطاش الى الشام فتمارض وتخلف في بيته أياما يطاولهم ليحكم التدبير عليهم ثم عدا عليه الجوباني يوم الاثنين وقد أكمن في بيته رجالا للثورة فقبضوا على الجوباني وقتلوه لحينه وركب منطاش الى الرميلة فنهب مراكب الأمراء بباب الاصطبل ووقف عند مئذنة المدرسة الناصرية وقد شحنها ناشبة ومقاتلة مع أمير من أصحابه ووقف في حمايتهم واجتمع اليه من داخله في الثورة من الاشرفية وغيرهم واجتمع اليه من كان بقي من مماليك الظاهر واتصلت الهيعة فركب الأمراء البيبقاوية من بيوتهم ولما أفضوا الى الرميلة وقفوا ينظرون مآل الحال وبرز الناصري من الاصطبل فيمن حضر وأمر الأمراء بالحملة عليهم فوقفوا فأحجم هو عن الحملة وتخاذل أصحابه وأصحاب منطاش ومال الى الناصري مماليك الجوباني لنكبة صاحبهم فهدّدهم منطاش بقتله فافترقوا وتحاجز الفريقان آخر النهار وباكروا شأنهم من الغد وحمل الناصري فانهزم وأقاموا على ذلك ثلاثا

(5/552)


وجموع منطاش في تزايد ثم انفض الناس عن الناصري عشية الأربعاء لسبعين يوما من دخول القلعة واقتحمها عليه منطاش ونهب بيوته وخزائنه وذهب الناصري حيران وأصحابه يرجعون عنه وباكر البيبقاوية مجلس منطاش من الغد فقبض عليهم وسيق من تخلف منهم عن الناصري أفذاذا وبعث بهم جميعا الى الاسكندرية وبعث جماعة ممن حبسهم الناصري الى قوص ودمياط ثم جدّد البيعة لأمير حاج المنصور ثم نادى في مماليك السلطان بالعرض وقبض على جماعة منهم وفرّ الباقون وبعث بالمحبوسين منهم الى قوص وصادر جماعة من أهل الأموال وأفرج عن محمود استاذدار وخلع عليه ليوليه في وظيفته ثم بدا له في أمره وعاود مصادرته وامتحانه واستصفى منه أموالا عظيمة يقال ستين قنطارا من الذهب ولما استقلّ بتدبير الدول عمر الوظائف والمراتب وولى فيها بنظره وبعث عن الاشقتمري من الشام وكان أخوه تمرتاي قد آخى بينهما فولاه النيابة الكبرى وعن استدمر بن يعقوب شاه فجعله أمير سلاح وعن انبقا الصفوي فولاه صاحب الحجاب واختص الثلاثة بالمشورة وأقامهم أركانا للدولة وكان إبراهيم بن بطلقتمر أمير جندار قد داخله في الثورة فرعى له ذلك وقدّمه في أمراء الألوف ثم بلغه أنه تفاوض مع الأمراء في الثورة به واستبداد السلطان فقبض عليه ثم أشخصه الى حلب على إمارته هناك وكان قد اختص ارغون السمندار وألقى عليه محبته وعنايته فغشيه الناس وباكروا بابه وعظم في الدولة صيته ثم نمي عنه أنه من المداخلين لإبراهيم أمير جندار فسطا به وامتحنه أن له على هؤلاء المداخلين لإبراهيم فلاذ بالإنكار وأقام في محبسه وأفرج عن سودون النائب فجاء الى مصر فألزمه بيته واستمرّ الحال على ذلك انتهى.
ثورة بذلار بدمشق
ولما بلغ الخبر الى بذلار بدمشق باستقلال منطاش بالدولة أنف من ذلك وارتاب وداخلته الغيرة جمع الانتقاض وكاتب نواب الممالك بالشام في حلب وغيرها يدعوهم الى الوفاق فأعرضوا عنه وتمسكوا بطاعتهم وكان الأمير الكبير بدمشق جنتمر أخوطاز يداخل الأمراء هناك في التوثب به وتوثق منهم للدولة وبلغ الخبر الى بذلار فركب في مماليكه وشيعته يروم القبض عليه فلم يتمكن من ذلك واجتمعوا وظاهرهم عامّة دمشق عليه فقاتلوه ساعة من نهار ثم أيقن بالغلب والهلكة فألقى بيده وقبضوا عليه وطيروا بالخبر الى منطاش وهو صاحب الدولة فأمر باعتقاله وهلك مريضا في محبسه وولى منطاش جنتمر نيابة دمشق واستقرّت الأحوال على ذلك والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده
.

(5/553)


خروج السلطان من الكرك وظفره بعساكر الشام وحصاره دمشق
ولما بلغ الخبر الى السلطان الظاهر بالكرك بأنّ منطاش استقلّ بالدولة وحبس البيبقاوية جميعا وأذال منهم بأصحابه أهمته نفسه وخشي غائلته ولم يكن عند منطاش لأول استقلاله أهمّ من شأنه وشأن السلطان فكتب الى حسن الكشكي نائب الكرم بقتله وقد كان الناصري أوصاه في وصيته حين وكله به أن لا يمكنه ممن يرومه بسوء فتجافى عن ذلك واستدعى البريدي وفاوض أصحابه وقاضي البلد وكاتب السر فأشاروا بالتحرّز من دمه جهد الطاقة فكتب الى منطاش معتذرا بالخطر الّذي في ارتكابه دون اذن السلطان والخليفة فأعاد عليه الكتاب مع كتاب السلطان والخليفة بالاذن فيه واستحثه في الاجهاز عليه فأنزل البريدي وعلله بالوعد وطاوله يرجو المخلص من ذلك وكانوا يطوون الأمر عن السلطان شفقة وإجلالا فشعر بذلك وأخلص اللجأ الى الله والتوسل بإبراهيم الخليل لأنه كان يراقب مدفنه من شباك في بيته وانطلق غلمانه في المدينة حتى ظفروا برجال داخلوهم في حسن الدفاع عن السلطان وأفاضوا فيهم فأجابوا وصدقوا ما عاهدوا عليه واتعدوا لقتال البريدي وكان منزله بإزاء السلطان فتوافوا ببابه ليلة العاشر من رمضان وهجموا عليه فقتلوه ودخلوا برأسه الى السلطان وشفار سيوفهم دامية وكان النائب حسن الكشكي يفطر على سماط السلطان تأنيسا لهم فلما رآهم دهش وهموا بقتله فأجاره السلطان وملك السلطان أمره بالقلعة وبايعه النائب وصدع اليه أهل المدينة من الغد فبايعوه ووفد عليه عرب الضاحية من بني عقبة وغيرهم فأعطوه طاعتهم وفشا الخبر في النواحي فتساقط اليه مماليكه من كلّ جهة وبلغت أخباره الى منطاش فأوعز الى ابن باكيش نائب غزة أن يسير في العساكر الى الكرك وتردّد السلطان بين لقائه أو النهوض الى الشام ثم أجمع المسير الى دمشق فبرز من الكرك منتصف شوّال فعسكر بالقبة وجمع جموعه من العرب وسار في ألف أو يزيدون من العرب والترك وطوى المراحل الى الشام وسرّح جنتمر نائب دمشق العساكر لدفاعه فيهم أمراء الشام وأولاد بندمر فالتقوا بشقحب وكانت بينهم واقعة عظيمة أجلت عن هزيمة أهل دمشق وقتل الكثير منهم وظفر السلطان بهم واتبعهم الى دمشق ونجا الكثير منهم الى مصر ثم أحس السلطان بأن ابن باكيش وعساكره في اتباعه فكرّ اليهم وأسرى ليلته وصبحهم على غفلة في عشر ذي القعدة فانهزموا ونهب السلطان وقومه جميع ما معهم وامتلأت أيديهم واستفحل أمره ورجع الى

(5/554)


دمشق ونزل بالميدان وثار العوام وأهل القبيبات ونواحيها بالسلطان وقصدوه بالميدان فركب ناجيا وترك أثقاله فنهبها العوام وسلبوا من لقوة من مماليكه ولحق بقبة بلبغا فأقام بها وأغلقوا الأبواب دونه فأقام يحاصرهم الى محرّم سنة اثنتين وتسعين وكان كمشيقا الحموي نائب حلب قد أظهر دعوته في عمله وكاتبه بذلك عند ما نهض من الكرك الى الشام كما نذكره ولما بلغه حصاره لدمشق تجهز للقائه واحتمل معه ما يزيح علل السلطان من كل صنف وأقام له أبهة ووصل اينال اليوسفي وقجماش ابن عمّ السلطان وجماعة من الأمراء كانوا محبوسين بصفد وكان مع نائبها جماعة من مماليك السلطان يستخدمون فغدروا به وأطلقوا من كان من الأمراء في سجن صفد كما نذكر ولحقوا بالسلطان وتقدّمهم اينال وهو محاصر لدمشق فأقاموا معه والله تعالى أعلم.
ثورة المعتقلين بقوص ومسير العساكر اليهم واعتقالهم
ولما بلغ الخبر الى الأمراء المحبوسين بقوص خلاص السلطان من الاعتقال واستيلاؤه على الكرك واجتماع الناس اليه فثاروا بقوص أوائل شوّال من السنة وقبضوا على الوالي بها وأخذوا من مودع القاضي ما كان فيه من المال وبلغ خبرهم الى مصر فسرّح اليهم العساكر ثم بلغه أنهم ساروا الى أسوان وشايعوا الوالي بها حسن بن قرط فلحن [1] لهم بالوعد وعرض بالوفاق فطمعوا واعتزموا أن يسيروا من وادي القصب من الجهة الشرقية الى السويس ويسيروا من هناك الى الكرك ولما وصل خبر ابن قرط أخر منطاش سندمر بن يعقوب شاه ثامن عشرين [2] من السنة وانكفأ جموعه وسار على العدوة الشرقية في جموعه لاعتراضهم فوصل الى قوص وبادر ابن قرط فخالفه الى منطاش بطاعته فأكرمه وردّه على عمله فوافى ابن يعقوب شاه بقوص وقد استولى على النواحي واستنزل الأمراء المخالفين ثم قبض عليهم وقتل جميع من كان معهم من مماليك السلطان الظاهر ومماليك ولاة الصعيد وجاء بالامراء الى مصر فدخل بهم منتصف ذي الحجة من السنة فأفرج عن أربعة منهم سوماي اللاي وحبس الباقين والله تعالى أعلم.
__________
[1] لحن اي أشار قال الشاعر:
ولقد لحنت لكم لكيما تفهموا ... واللحن يفهمه ذوو الألباب
ورحم الله المؤرخ غلبت عليه صناعة الترسل فكأن كتابه هذا كتاب تاريخ وأدب فهو نعم الأدب (من خط الشيخ العطار)
[2] بياض بالأصل ومكان البياض اسم الشهر ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على اسم هذا الشهر.

(5/555)


ثورة كمشيقا بحلب وقيامه بدعوة السلطان
قد كنا قدّمنا أن الناصري ولى كمشيقا رأس نوبة نيابة حلب ولما استقل منطاش بالدولة ارتاب ودعاه بذلار لما ثار بدمشق الى الوفاق فامتنع ثم بلغه الخبر بخلاص السلطان من الاعتقال بالكرك فأظهر الانتقاض وقام بدعوة السلطان وخالفه إبراهيم بن أمير جندار واعصوصب عليه أهل باقوسا من أرباض حلب فقاتلهم كمشيقا جميعا وهزمهم وقتل القاضي ابن أبي الرضا وكان معه في ذلك الخلاف واستقل بأمر حلب وذلك في شوّال من السنة ثم بلغه أن السلطان هزم عساكر دمشق وابن باكيش وانه مقيم بقبة بلبغبا محاصرا لدمشق بعد ان نهبوا أثقاله وأخرجوه من الميدان فتجهز من حلب اليه في العساكر والحشود وجهز له جميع ما يحتاج اليه من المال والأقمشة والسلاح والخيل والإبل وخيام الملك بفرشها وما عونها وآلات الحصار وتلقاه السلطان وبالغ في تكرمته وفوض اليه في الاتابكية والمشورة وقام معه محاصرا لدمشق واشتدّ الحصار على أهل دمشق بعد وصوله واستكثار السلطان من المقاتلة وآلات الحصار وخرب كثيرا من جوانبها بحجارة المجانيق وتصدّعت حيطانها وأضرم كثيرا من البيوت على أربابها فاحترقت واستولى الخراب والحريق على القبيبات أجمع وتفاحش فيها واشتدّ أهل القتال والدفاع من فوق الأسوار وتولى كبر ذلك منهم قاضي الشافعية أحمد بن القرشي بما أشار عليهم وفاه أهل العلم والدين بالنكير فيه وكان منطاش لما بلغه حصار دمشق بعث طنبقا الحلي دوادار الأشرف بمدد من المال يمدّ به العساكر هنالك وأقام معهم ثم بعث جنتمر الى أمير آل فضل يعبر بن جبار يستنجد به فجاء لقتالهم وسار كمشيقا نائب حلب فلقيه وفض جموعه وأسر خادمه وجاء به أسيرا فمن عليه السلطان وأطلقه وكساه وحمله وردّه الى صاحبه واستمرّ حصار دمشق الى أن كان ما نذكره ان شاء الله تعالى.
ثورة انيال بصفد بدعوة السلطان
كان انيال لما انهزم يوم واقعة دمشق فرّ الى مصر ومرّ بغزة فاعتقله ابن باكيش وحبس بالكرك فلما استولى الناصري أشخصه الى صفد فحبس بها مع جماعة من الأمراء وولى على صفد قلطبك النظامي فاستخدم جماعة من مماليك برقوق واتخذ منهم بلبغا السالمي دوادار فلما بلغه خلاص السلطان من الاعتقال ومسيره الى الشام داخل بلبغا مماليك استاذه قطلوبقا في

(5/556)


الخلاف واللحاق بالسلطان وهرب منهم جماعة فركب قطلوبقا في اتباعهم وأبقى بلبغا السالمي دوادار وحاجب صفد فأطلقوا انيال وسائر المحبوسين من السلطان فملك أنيال القلعة ورجع قطلوبقا من اتباع الهاربين فوجدهم قد استولوا وامتنعوا وارتاب من مماليكه فسار عن صفد ونهب بيته ومخلفه ولحق بالشام فلقي الأمراء المنهزمين أمام السلطان بشقحب قاصدين مصر فسار معهم ولحق انيال بالسلطان من صفد بعد أن ضبطها واستخلف عليها وأقام مع السلطان والله تعالى أعلم.
مسير منطاش وسلطانه أمير حاجي الى الشام وانهزامهم ودخول منطاش الى دمشق وظفر السلطان الظاهر بأمير حاجي والخليفة والقضاة وعوده لملكه
ولما تواترت الأخبار بهزيمة عساكر الشام وحصار السلطان الظاهر دمشق وظهور دعوته في حلب وصفد وسائر بلاد الشام ثم وصلت العساكر المنهزمون وأولاد بندمر ونائب صفد واستحثوه وتواترت كتب جنتمر نائب دمشق وصريخه أجمع منطاش أمره حينئذ على المسير الى الشام فتجهز ونادى في العساكر وأخرج السلطان والخليفة والقضاة والعلماء سابع عشر ذي الحجة سنة احدى وتسعين وخيموا بالريدانية [1] من ناحية القاهرة حتى أزاح العلل واستخلف على القاهرة دواداره صراي تمر وأطلق يده في الحلّ والعقد والتولية والعزل واستخلف على القلعة بكا الاشرفي وعمد الى خزانة من خزائن الذخيرة بالقلعة فسدّ بابها ونقبها من أعلاها حتى صارت كهيئة الجب ونقل اليها من كان في سجنه من أهل دولة السلطان ونقل سودون النائب الى القلعة فأنزله بها وأمر بالقبض على من بقي من مماليك السلطان حيث كانوا فتسرّبوا في غيابات المدينة ولاذوا بالاختفاء وأوعز بسدّ كثير من أبواب الدروب بالقاهرة فسدّت ورحل في الثاني والعشرين من الشهر بالسلطان وعساكره على التعبية وطووا المراحل ونمي اليه أثناء طريقه أنّ بعض مماليك السلطان المستخدمين عند الأمراء مجمعون على التوثب ومداخلون لغيرهم فأجمع السطوة بهم ففرّوا ولحقوا بالسلطان ولما بلغ خبره مسيرهم السلطان وهو محاصر دمشق ارتحل في عساكره الى لقائهم ونزل قريبا من شقحب وأصبحوا
__________
[1] الريدانية بالراء المهملة المسماة الآن بالحصوة خارج القاهرة (من خط الشيخ العطار) .

(5/557)


على التعبية وكمشيقا بعساكر حلب في ميمنة السلطان ومنطاش قد عبى جيشه وجعل السلطان أمير حاجي والخليفة والقضاة والرماة من ورائهم ووقف معهم تمارتمر رأس نوبة وسندمر بن يعقوب شاه أمير سلاح ووقف هو في طائفة من مماليكه وأصحابه في حومة المعترك فلما تراءى الجمعان حمل هو وأصحابه على ميمنة السلطان ففضوها وانهزم كمشيقا الى حلب ومرّوا في اتباعه ثم عطفوا على مخيم السلطان فنهبوه وأسروا قجماش ابن عمه كان هناك جريحا ثم حطم السلطان على الّذي فيه أمير حاجي والخليفة والقضاة فدخلوا في حكمه ووكل بهم واختلط الفريقان وصاروا في عمى من أمرهم والسلطان في لمة من فرسانه يخترق جوانب المعترك ويحطم الفرسان ويشردهم في كل ناحية وشرّاد مماليكه وأمرائه يتساقطون اليه حتى كثف جمعه ثم حمل على بقية العسكر وهم ملتئمون على الصفدي فهزمهم ولحقوا بدمشق وضرب خيامه بشقحب ولما وصل منطاش الى دمشق أوهم النائب جنتمر أنّ الغلب له وأنّ السلطان أمير حاجي على الأثر ونادى في العساكر بالخروج في السلاح لتلقيه وخرج من الغد موريا بذلك فركب اليهم السلطان في العساكر فهزمهم وأثخن فيهم واستلحم كثيرا من عامّة دمشق ورجع السلطان الى خيامه وبعث أمير حاجي بالتبري من الملك والعجز عنه والخروج اليه من عهدته فأحضر الخليفة والقضاة فشهدوا عليه بالخلع وعلى الخليفة بالتفويض الى السلطان والبيعة له والعود الى كرسيه وأقام السلطان بشقحب تسعا واشتدّ كلب البرد وافتقدت الأقوات لقلة الميرة فأجمع العود الى مصر ورحل يقصدها وبلغ الخبر الى منطاش فركب لاتباعه فلما أطلّ عليه أحجم ورجع واستمرّ السلطان لقصده وقدم حاجب غزة للقبض على ابن باكيش فقبض عليه ولما وافى السلطان غزة ولى عليها مكانه وحمله معتقلا وسار وهو مستطلع أحوال مصر حتى كان ما نذكره ان شاء الله تعالى.
ثورة بكا والمعتقلين بالقلعة واستيلاؤهم عليها بدعوة السلطان الظاهر وعوده الى كرسيه بمصر وانتظام أمره
كان منطاش لما فصل الى الشام بسلطانه وعساكره كما مرّ واستخلف على القاهرة دواداره سراي تمر وأنزله بالاصطبل وعلى القلعة بكا الاشرفي ووكله بالمعتقلين هنالك فأخذوا أنفسهم بالحزم والشدّة وبعد أيام نمي اليهم أنّ جماعة من مماليك السلطان مجتمعون للثورة وقد داخلوا مماليكهم فبيتوهم وقبضوا عليهم بعد جولة دافع فيها المماليك عن أنفسهم ثم تقبضوا على من داخلهم من مماليكهم وكانوا جماعة كثيرة وحدثت لهم بذلك رتبة واشتداد في الحزم فنادوا

(5/558)


بالوعيد لمن وجد عنده أحد من مماليك السلطان ونقلوا ابن أخت السلطان من بيت أمه الى القلعة وحبسوه وأوعزوا بقتل الأمراء المعتقلين بالفيوم فقتلوا وعميت عليهم أنباء منطاش والعساكر وبعثوا من يقتص لهم الطريق ويسائل الركبان واعتزموا على قتل المسجونين بالقلعة ثم تلاوموا في ذلك ورجعوا الى التضييق عليهم ومنع المتردّدين بأقواتهم فضاقت أحوالهم وضجروا وأهمتهم أنفسهم وفي خلال ذلك عثر بعضهم على منفذ الى سرب تحت الأرض يقضي الى حائط الاسطبل ففرحوا بذلك وتنسموا ريح الفرج ولما أظلتهم ليلة الأربعاء غرّة صفر سنة اثنتين وتسعين مرّوا في ذلك السرب فوجدوا فيه آلة النقب فنقبوا الحائط وأفضوا الى أعلى الاسطبل وتقدّم بهم خاصكي من أكابر الخاصكية وهجموا على الحراس فثاروا اليهم فقتلوا بعضهم بالقيود من أرجلهم وهرب الباقون ونادوا شعبان بكا نائب القلعة يوهمون أنه انتقض ثم كسروا باب الاسطبل الأعلى والأسفل وأفضوا الى منزل سراي تمر فأيقظه لغطهم وهلع من شأن بكا فأرمى نفسه من السور ناجيا ومرّ بالحاجب قطلوبقا ولحق بمدرسة حسن وقد كان منطاش أنزل بها ناشبة من التركمان لحماية الاسطبل وأجرى لهم الأرزاق وجعلهم لنظر تنكز رأس نوبة ثم هجم أصحاب بكا على بيت سراي تمر فنهبوا ماله وقماشه وسلاحه وركبوا خيله واستولوا على الاسطبل وقرعوا الطبول ليلتهم وقاتلهم بكا من الغد وسرب الرجال الى الطبلخانات فملكها ثم أزعجوه عنها وزحف سراي تمر وقطلوبغا الحاجب الى الاسطبل لقتالهم وبرزوا اليهم فقاتلوهم واعتصموا بالمدرسة واستولى بكا على أمره وبعث الى باب السر من المدرسة ليحرقه فاستأمن اليه التركمان الذين به فأنزلهم على الأمان وسرّب أصحابه في البلد لنهب بيوت منطاش وأصحابه فعاثوا فيها وتسلل اليه مماليك السلطان المختفون بالقاهرة فبلغوا ألفا أو يزيدون ثم استأمن بكا من الغد فأمنه سودون النائب وجاء به الى الناصري أمير سلاح ودمرداش وكان عنده فحبسهما بكا ثم وقف سودون على مدرسة حسن والأرض تموج بعوالم النظارة فاستنزل منها سراي تمر وقطلوبغا الحاجب فنزلا على أمانه وهمّ العوالم بهما فحال دونهما وجاء بهما الى بكا فحبسهما وركب سودون يوم الجمعة في القاهرة ونادى بالأمان والخطبة للسلطان فخطب له من يومه وأمر بكا بفتح السجون وإخراج من كان فيها في حبس منطاش وحكام تلك الدولة وهرب الوالي حسن بن الكوراني خوفا على نفسه لما كان شيعة لمنطاش على مماليك السلطان ثم عثر عليه بكا وحبسه مع سائر شيعة منطاش وأطلق جميع الأمراء الذين حبسهم بمصر ودمياط والفيوم ثم بعث الشريف عنان بن مقامس أمير بني حسن بمكة وكان محبوسا وخرج معهم فبعثه مع أخيه

(5/559)


أيبقا على الهجن لاستكشاف خبر السلطان ووصل يوم الأحد بعدها كتاب السلطان مع ابن صاحب الدرك سيف بن محمد بن عيسى العائدي باعداد الميرة والعلوفة في منازل السلطان على العادة وقص خبر الواقعة وأنّ السلطان توجه الى مصر وانتهى الى الرملة ثم وصل أيبقا أخو بكا يوم الأربعاء ثامن صفر بمثل ذلك وتتابع الواصلون من عسكر السلطان ثم نزل بالصالحية وخرج السلطان لتلقيه بالعكرشة ثم أصبح يوم الثلاثاء رابع صفر في ساحة القلعة وقلده الخليفة وعاد الى سريره ثم بعث عن الأمراء الذين كان حبسهم منطاش بالإسكندرية وفيهم الناصري والجوباني وابن بيبقا وقرادمرداش وأبغا الجوهري وسودون باق وسودون الطرنطاي وقردمر المعلم في آخرين متعدّدين واستعتبوا للسلطان فأعتبهم وأعادهم الى مراتبهم وولى انيال اليوسفي اتابكا والناصري أمير سلاح والجوباني رأس نوبة وسودون نائبا وبكاداودار وقرقماش استاذ دار وكمشيقا الخاصكي أمير مجلس وتطلميش أمير الماخورية وعلاء الدين كاتب سر الكرك كاتب سرّه بمصر وعمر سائر المراتب والوظائف وتوفي قرقماش فولى محمود استاذ داره الأوّل ورعى له سوابق خدمته ومحنة العدوّ له في محبته وانتظم أمر دولته واستوثق ملكه وصرف نظره الى الشام وتلافيه من مملكة العدوّ وفساده والله تعالى أعلم.
ولاية الجوباني على دمشق واستيلاؤه عليها من يد منطاش ثم هزيمته ومقتله وولاية الناصري مكانه
لما استقرّ السلطان على كرسيه بالقاهرة وانتظمت أمور دولته صرف نظره الى الشام وشرع في تجهيز العساكر لازعاج العدوّ منه وعين الجوباني لنيابة دمشق ورياسة العساكر والناصري لحلب لأنّ السلطان كان عاهد كمشيقا على اتابكية مصر وعين قرادمرداش لطرابلس مأمونا القلحطاوي لحماة فولى في جميع ممالك الشام ووظائفه وأمرهم بالتجهيز ونودي في العساكر بذلك وخرجوا ثامن جمادى الاولى من سنة اثنتين وتسعين وكان منطاش قد اجتهد جهده في طي خبر السلطان بمصر عن أمرائه وسائر عساكره وما زال يفشو حتى شاع وظهر بين الناس فانصرف هواهم الى السلطان وبعث في أثناء ذلك الأمير ايمازتمر نائبا على حلب فاجتمع اليه أهل كانفوسا وحاصر كمشيقا بالقلعة نحوا من خمسة أشهر وشدّ حصارها وأحرق باب القلعة والجسر ونقب سورها من ثلاثة مواضع واتصل القتال بين الفريقين في أحد الأنقاب لشهرين على ضوء الشموع ثم بعث العساكر الى بعلبكّ مع محمد بن سند مر في نفر من قرابته وجنده فقتلهم منطاش بدمشق أجمعين ثم أوعز الى قشتمر الأشرفي نائب طرابلس بالمسير

(5/560)


الى حصار صفد فسار اليها وبرز اليه جندها فقاتلوه وهزموه فجهز اليها العساكر مع ابقا الصفدي كبير دولته فسار اليها في سبعمائة من العساكر وقد كان لما تيقن عنده استيلاء السلطان على كرسيه بمصر جنح الى الطاعة والاعتصام بالجماعة وكاتب السلطان بمغارمه ووعده فلما وصل الى صفد بعث الى نائبها بطاعته وفارق أصحاب منطاش ومن له هوى فيه وصفوا اليه وبات ليلته بظاهر صفد وارتحل من الغد الى مصر فوصلها منتصف جمادى الأخيرة وأمراء الشام معسكرون مع الجوباني بظاهر القلعة فأقبل السلطان عليه وجعله من أمراء الألوف ولما رجع أصحابه من صفد الى دمشق اضطرب منطاش وتبين له نكر الناس وارتاب بأصحابه وقبض على جماعة من الأمراء وعلى جنتمر نائب دمشق وابن جرجي من أمراء الألوف وابن قفجق الحاجب وقتله والقاضي محمد بن القرشي في جملة من الأعيان واستوحش الناس ونفروا عنه واستأمنوا الى السلطان مثل محمد بن سندمر وغيره وهرب كاتب السر بدر الدين بن فضل الله وناظر الجيش وقد كانوا يوم الواقعة على شقحب لحقوا بدمشق يظنون أنّ السلطان يملكها يومه ذلك فبقوا في ملكة منطاش وأجمعوا الفرار مرّة بعد أخرى فلم يتهيأ لهم وشرع منطاش في الفتك بالمنتمين الى السلطان من المماليك المحبوسين بالقلعة وغيرهم وذبح جماعة من الجراكسة وهمّ بقتل اشمس فدفعه الله عنه وارتحل الأمراء من مصر في العساكر السلطانية الى الشام مع الجوباني يطوون المراحل والأمراء من دمشق يلقونهم في كل منزلة هاربين اليهم حتى كان آخر من لقيهم ابن نصير أمير العرب بطاعة أبيه ودخلوا حدود الشام ثم ارتبك منطاش في أمره واستقرّ الخوف والهلع والاسترابة بمن معه فخرج منتصف جمادى الأخيرة هاربا من دمشق في خواصه وأصحابه ومعه سبعون حملا من المال والأقمشة واحتمل معه محمد بن اينال وانتقض عليه جماعة من المماليك فرجعوا به الى أبيه وكان يعبر بن جبار أمير آل فضل مقيما في أحيائه ومعه أحياء آل مر وأميرهم عنقا، فلحق بهم هنالك منطاش مستجيرا فأجاروه ونزل معهم ولما فصل منطاش عن دمشق خرج أشمس من محبسه وملك القلعة ومعه مماليك السلطان معصوصبون عليه وأرسل الجوباني بالخبر فاغذ السير الى دمشق وجلس بموضع نيابته وقبض على من بقي من أصحاب منطاش وخدمه مع من كان حبس هو معهم ووصل الطنبقا الحلبي ودمرداش اليوسفي من طرابلس وكان منطاش استقدمهم وهرب قبل وصولهم وبلغ الخبر الى ايمازتمر وهو يحاصر حلب وأهل كانفوسا معصوصبون عليه فأجفل ولحق بمنطاش وركب كمشيقا من القلعة اليهم بعد أن أصلح الجسر وأركب معه الحجاب وقاتل أهل كانفوسا ومن معهم من أشياع منطاش

(5/561)


ثلاثة أيام ثم هزموهم وقتل كمشيقا منهم أكثر من ثمانمائة وخرب كانفوسا فأصبحت خرابا وعمر القلعة وحصنها وشحنها بالأقوات وبعث الجوباني العساكر الى طرابلس وملكوها من يد قشتمر الأشرفي نائب منطاش من غير قتال وكذلك حماة وحمص ثم بعث الجوباني نائب دمشق وكافل الممالك الشامية الى يعبر بن جبار أمير العرب بإسلام منطاش وإخراجه من أحيائه فامتنع واعتذر فبرز من دمشق بالعساكر ومعه الناصري وسائر الأمراء ونهض الى مصر فلما انتهوا الى حمص أقاموا بها وبعثوا الى يعبر يعتذرون اليه فلج واستكبر وحال دونه وبعث اليه اشمس خلال ذلك من دمشق بأن جماعة شيعة بندمر وجنتمر يرومون الثورة فركب الناصري الى دمشق وكبسهم وأثخن فيهم ورجع الى العسكر وارتحلوا الى سلمية واستمرّ يعبر في غلوائه وتردّدت الرسل بينهما فلم تغن ثم كانت بين الفريقين حرب شديدة وحملت العساكر على منطاش والعرب فهزموهم الى الخيام واتبع دمرداش منطاش حتى جاوز به الحيّ وارتحلت العرب وحملوا بطانتهم على العسكر فلم يثبتوا لحملتهم وكان معهم آل على بجموعهم فنهبوهم من ورائهم وانهزموا وأفرد الجوباني مماليكه فأسره العرب وسيق الى يعبر فقتله ولحق الناصري بدمشق وأسر جماعة من الأمراء وقتل منهم أيبقا الجوهري ومأمون المعلم في عدد آخرين ونهب العرب مخيمهم وأثقالهم ودخل الناصري الى دمشق فبات ليلته وباكر من الغد آل علي في أحيائهم فكبسهم واستلحم منهم جماعة فثأر منهم بما فعلوه في الواقعة ثم بعث اليه السلطان بنيابة دمشق منتصف شعبان من السنة فقام بأمرها وأحكم التصريف في حمايتها والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده.
اعادة محمود الى أستاذيةالدار واستقلاله في الدولة
هذا الرجل من ناشئة الترك وولدانهم ومن أعقاب كراي المنصوري منهم شب في ظل الدولة ومرعى نعمها ونهض بنفسه الى الاضطلاع والكفاية وباشر كثيرا من أعمال الأمراء والوزراء حتى أوفى على ثنية النجابة وعرضته الشهرة على اختيار السلطان فعجم عوده ونقد جوهره ثم الحق به أغراض الخدمة ببابه فأصاب شاكلة الرمية ومضى قدما في مذاهب السلطان مرهف الحدّ قوي الشكيمة فصدق ظنه وشكر اختياره ثم دفعه الى معاينة الحبس وشدّ الدواوين من وظائف الدولة فجلا فيهما وهلك خلال ذلك استاذ الدار بهادر المنجكي سنة تسعين فأقامه السلطان مكانه قهرمانا لداره ودولته وانتضاره على دواوين الجباية من قراب اختياره ونقده جماعة للأموال غواصا على استخراج الحقوق السلطانية قارمنا للكنوز

(5/562)


اكسيرا للنقود مغناطيسا للقنية يسابق أقلام الكتاب ويستوفي تفاصيل الحساب بمدارك الهامة وتصوّر صحيح وحدس ثاقب لا يرجع الى حذاقة الكتاب ولا الى أيسر الأعمال بل يتناول الصعاب فيذللها ويحوم على الأغراض البعيدة فيقربها وربما يحاضر بذكائه في العلوم فينفذ في مسائلها ويفحم جهابذتها موهبة من الله اختصه بها ونعمة أسبغ عليه لبوسها فقام بما دفع اليه السلطان من ذلك وأدرّ خروج الجباية فضاقت افنية الحواصل والخزائن بما تحصل وتسرّب اليها وكفى السلطان مهمة في دولته ومماليكه ورجاله بما يسوّغ لهم من نعمه ويوسع من أرزاقه وعطائه حتى أزاح عللهم بتوالي إنفاقه وقرّت عين السلطان باصطناعه وغص به الدواوين والحاشية ففوّقوا اليه سهام السعاية وسلطوا عليه السنة المتظلمين فخلص من ذلك خلوص الإبريز ولم تعلق به ظنة ولا حامت عليه ريبة ثم طرق الدولة ما طرقها من النكبة والاعتقال وأودعته المحنة غيابات السجون وحفت به أنواع المكاره واصطلمت نعمته واستصفيت أمواله في المصادرة والامتحان حتى زعموا أن الناصري المتغلب يومئذ استأثر منه بخمسة قناطير من دنانير الذهب ومنطاش بعده بخمسة وخمسين ثم خلص ابريزه من ذلك السبك وأهل قمره بعد المحاق واستقل السلطان من نكبته وطلع بأفق مصره وتمهد أريكة ملكه ودفعه لما كان بسبيله فأحسن الكرّة في الكفاية لمهمه وتوسيع عطاياه وأرزاقه وتمكين أحوال دولته وتسرّيت الجباية من غير حساب ولا تقرير الى خزائنه وأحسن النظر في الصرف والخرج بحزمه وكفايته حتى عادت الأمور الى أحسن معهودها بيمن تعبيته وسديد رأيه وصلابة عوده وقوّه صرامته مع بذل معروفه وجاهه لمن تحت يده وبشاشته وكفايته لغاشيته وحسن الكرامة لمنتابه ومقابلة من يأتي اليه بكرم مقاصده فأصبح طرازا للدولة وتاجا للخواص وقذفه المنافسون بخطإ العسايات فزلت في جهات حلم السلطان وجميل اغتباطه وتثبته حتى أعيتهم المذاهب وانسدّت عليهم الطرق ورسخت قدمه في الدولة واحتل من السلطان بكرم العهد والذمة ووثق بغنائه واضطلاعه فرمى اليه مقاليد الأمور وأوطأ عقبه أعيان الخاصة والجمهور وأفرده في الدولة بالنظر في الأمور حسبانا وتقديرا وجمعا وتقريرا وكنزا موفرا وصرفا لا يعرف تبذيرا وبطرا وفي الإنهاء بالعزل والإهانة مشهورا مع ما يمتاز به من الأمر والشأن وسموّ مرتبته على مرّ الأزمان وهو على ذلك لهذا العهد عند سفر السلطان الى الشام لمدافعة سلطان المغل كما مرّ ذكره والله متولي الأمور لا رب غيره
.

(5/563)


مسير منطاش ويعبر الى نواحي حلب وحصارها ثم مفارقة يعبر وحصاره عنتاب ثم رجوعه
ولما انهزمت العساكر بسلمية كما قلنا ارتحل يعبر في أحيائه ومعه منطاش وأصحابه الى نواحي حلب وسار يعبر الى بلد سرمين من اقطاعه ليقسمها في قومه على عادتهم وكان كمشيقا نائب حلب قد أقطعها الجند من التركمان في خدمته فلما وافاها يعبر هربوا الى حلب فلقوا في طريقهم احمد بن المهدار في العساكر وقد نهض الى يعبر فرجعوا عنه ولقيهم علي بن يعبر فقاتلوه وهزموه وقتلوا بعض أصحابه صبرا ورجع يعبر الى أحيائه وارتحلوا الى حلب فحاصروها وضيقوا عليها أيام رمضان ثم راجع يعبر نفسه وراسل كمشيقا نائب حلب في الطاعة واعتذر عما وقع منه وطوق الذنب بالجوباني وأصحابه أهل الواقعة وسال الأمان مع حاجبه عبد الرحمن فأرسله كمشيقا الى السلطان وأخبره بما اشترط يعبر فأجابه السلطان الى سؤاله وشعر بذلك منطاش بمكانه من حصار حلب فارتاب وخادع يعبر الى الغارة على التركمان بقربهم فأذن للعرب في المسير معه وسار معه منهم سبعمائة فلما جاوز الدربند أرجلهم عن الخيل وأخذها ولحق بالتركمان ونزل بمرعش بلد أميرهم سولي ورجع العرب مشاة الى يعبر فارتحل الى سبيله راجعا وسار منطاش الى عنتاب من قلاع حلب ونائبها محمد بن شهري فملكها واعتصم نائبها بالقلعة أياما ثم ثبت منطاش وأثخن في أصحابه وقتل جماعة من أمرائه وكانت العساكر قد جاءت من حلب وحماة وصفد لقتاله فهرب الى مرعش وسار منها الى بلاد الروم واضمحل أمره وفارقه جماعة من أصحابه الى العساكر وراجعوا طاعة السلطان آخر ذي القعدة من سنة اثنتين وسبعين وبعث سولي بن دلقادر أمير التركمان في عشر ذي الحجة يستأمن الى السلطان فأمنه وولاه على البلستين كما كان والله سبحانه وتعالى أعلم.
قدوم كمشيقا من حلب
قد كان تقدّم لنا أنّ كمشيقا الحموي رأس نوبة بيبقا كان نائبا بطرابلس وأنّ السلطان عزله وحبسه بدمشق فلما استولى الناصري على دمشق أطلقه من الاعتقال وجاء في جملته إلى مصر فلما ولي على مماليك الشام وأعمالها ولاه على حلب مكانه منتصف إحدى وسبعين ولما استقل السلطان من النكبة وقصد دمشق كما مرّ أرسل كمشيقا إليه بطاعته ومشايعته على أمره وأظهر دعوته في حلب وما اليها من اعماله ثم سار السلطان الى دمشق وحاصرها وامدّه كمشيقا بجميع

(5/564)


ما يحتاج إليه ثم جاءه بنفسه في عساكر حلب صريخا وحمل إليه جميع حاجاته وأزاح علله وأقام له رسوم ملكه وشكر السلطان أفعاله في ذلك وعاهده على أتابكية مصر ثم كانت الواقعة على شقحب فانهزم كمشيقا إلى حلب فامتنع بها وحاصره يماز تمر أتابك منطاش أشهرا كما مرّ ثم هرب منطاش من دمشق إلى العرب فأفرج أيمازتمر عن حلب ثم كانت واقعة الجوباني ومقتله وزحف منطاش ويعبر إلى حلب فحاصروها مدّة ثم وقع الخلاف بينهما وهرب منطاش إلى بلاد التركمان ورجع يعبر إلى بلده سلمية واستأمن إلى السلطان ورجع إلى طاعته منتصف شوّال ولما أفرجوا عن حلب نزل كميشقا من القلعة ورمّ خرابها وخرب بانقوسا واستلحم أهلها وأخذ في إصلاح أسوار حلب ورمّ ما ثلم منها وكانت خرابا من عهد هلاكو وجمع له أهل حلب ألف ألف درهم للنفقة فيه وفرغ منه لثلاثة أشهر ولما استوسق أمر السلطان وانتظمت دولته بعث إليه يستدعيه في شهر ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين وولى مكانه في حلب قرادمرداش نقله إليها من طرابلس وولى مكانه أنيال الصغير فسار كمشيقا من حلب ووصل مصر تاسع صفر سنة ثلاث وتسعين فاهتز له السلطان وأركب الأمراء للقائه مع النائب ثم دخل إلى السلطان فحياه وبالغ في تكرمته وتلقاه بالرحب ورفع مجلسه فوق الأتابك انيال وأنزله بيت منجك وقد هيأ فيه من الفرش والماعون والخرثيّ ما فيه للمنزل ثم بعث إليه بالأقمشة وقرّب إليه الجياد بالمراكب الثقيلة وتقدّم للأمراء أن يتحفوه بهداياهم فتناغوا في ذلك وجاءوا من وراء الغاية وحضر في ركابه من أمراء الشام الطنبقا الأشرفي وحسن الكشكي فأكرمهما السلطان واستقرّ كمشيقا بمصر في أعلى مراتب الدولة إلى أن توفي أنيال الأتابك في جمادى أربع وتسعين فولاه السلطان مكانه كما عاهده عليه بشقحب وجعل إليه نظر المارستان على عادة الأتابكية واستمرّ على ذلك لهذا العهد والله سبحانه وتعالى أعلم بغيبه.
استقدام أيتمش
كان أيتمش النجاشي أتابك الدولة قد نكبه السلطان وسار في العساكر إلى الشام منتصف ربيع إحدى وتسعين لقتال الناصري وأصحابه لما انتقض عليه وكانت الواقعة بينهم بالمرج من نواحي دمشق وانهزمت العساكر ونجا أيتمش إلى قلعة دمشق ومعه كتب السلطان في دخولها متى اضطر إليه فامتنع بها وملكها الناصري من الغد بطاعة نائبها ابن الحمصي فوكل بايتمش وأقام حبيسا موسعا عليه ثم سار الناصري إلى مصر وملكها وعاد السلطان إلى كرسيه

(5/565)


في صفر سنة اثنتين وتسعين كما فصل ذلك من قبل وأيتمش في أثناء ذلك كله محبوس بالقلعة ثم زحف الجوباني في جمادى الأخيرة وخلص أيتمش من اعتقاله وفتق مماليك السلطان السجن الّذي كانوا فيه بقلعة دمشق وخرجوا واعصوصبوا على أيتمش قبل مجيء الجوباني وبعث إليه بالخبر وبعث الجوباني إلى السلطان بمثل ذلك فتقدّم إليه السلطان بالمقام بالقلعة حتى يفرغ من أمر عدوّه ثم كان بعد ذلك واقعة الجوباني مع منطاش والعرب ومقتله وولاية الناصري على دمشق مكانه ثم افترق العرب وفارقهم منطاش إلى التركمان وانتظمت ممالك الشام في ملكة السلطان واستوسق ملكه واستفحلت دولته فاستدعي الأمير أيتمش من قلعة دمشق وسار لاستدعائه قنوباي من مماليك السلطان ثامن ربيع الأوّل سنة ثلاث وتسعين ووصل إلى مصر رابع جمادى الأولى من السنة ووصل في ركابه حاجب الحجاب بدمشق ومعه الأمراء الذين حبسوا بالشام منهم جنتمر نائب دمشق وابنه وابن أخته وأستاذ داره طنبقا ودمرداش اليوسفي نائب طرابلس والطنبقا الحلي والقاضي أحمد بن القريشي وفتح الدين بن الرشيد وكاتب السرّ في ست وثلاثين نفرا من الأمراء وغيرهم ولما وصل أيتمش قابله السلطان بالتكرمة والرحب وعرض الحاجب المساجين الّذي معه ووبخ السلطان بعضهم ثم حبسوا بالقلعة حتى نفذ فيهم قضاء الله وقتلوا مع غيرهم ممن أوجبت السياسة قتلهم والله تعالى مالك الأمور لا رب سواه انتهى.
هدية إفريقية
كان السلطان قد حصل بينه وبين سلطان إفريقية أبي العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر بن أبي حفص الموحدي مودّة والتئام وكانت كثيرا ما تجدّدها الهدايا من الجانبين ونذكرها إن شاء الله تعالى ولما بلغ الخبر إلى تونس بما كان من نكبة السلطان وما كان أمره امتعض له هذا السلطان بتونس وتفجع لشأنه وأقام يستطلع خبره ويستكشف من الجار التي تحضر إلى مصر من أهل تونس أنباءه حتى وقف على الجليّ من أمره وما كيف الله من أسباب السعادة في خلاصه وعوده إلى كرسيه فملأ السرور جوانحه وأوفد عليه بالتهنئة رسوله بهدية من القربات على سبيل الوداد مع خالصة من كبراء الموحدين محمد بن أبي هلال فوصل في العشر الأواخر من رمضان سنة اثنتين وتسعين فتلقاه السلطان بالكرامة وركب محمود استاذ داره ليتلقاه عند نزوله من البحر بساحل بولاق وأنزل ببيت طشتمر بالرميلة قبالة الإصطبل وأجريت عليه النفقة بما لم يجر لأمثاله ورغب من السلطان في الحج فحج وأصحب هدية

(5/566)


إلى مرسلة من ثياب الوشي والديباج والسلاح بما لم يعهده مثلها وانصرف آخر ربيع سنة ثلاث وتسعين والله تعالى أعلم بغيبه.
حصار منطاش دمشق ومسير السلطان من مصر إليه وفراره ومقتل الناصري
لم يزل منطاش شريدا عند التركمان منذ فارق العرب ولما كان منتصف سنة ثلاث وتسعين اعتزم على قصد دمشق ويقال أن ذلك كان بإغراء الناصري يخادعه بذلك ليقبض عليه فسار منطاش من مرعش على نواحي حلب وتقدّم خبره إلى حماة فهرب نائبها إلى طرابلس ودخل منطاش حماة ونادى فيها بالأمان ثم سار منها إلى حمص كذلك ثم إلى بعلبكّ وهرب نائبها إلى دمشق فخرج الناصري نائب دمشق في العساكر لمدافعته وسار على طريق الريداني فخالفه منطاش إلى دمشق وقدم إليها أحمد شكار بن أبي بندمر فثار شيعة الخوارزمية والبندمرية وفتحوا له أبواب البلد ومرّ باصطبلات فقاد منها نحوا من ثمانمائة فرس وجاء منطاش من الغد على أثره فنزل بالقصر الأبلق وأنزل الأمراء الذين معه في البيوت حوالي القصر وفي جامع شكن وجامع بيبقا وشرع في مصادرة الناس والفريضة عليهم وأقام يومه في ذلك وإذا بالناصري قد وصل عساكره فاقتتلوا عشية ذلك اليوم مرات ومن الغد كذلك وأقام كل واحد منهما في حومته والقتال متصل بينهما سائر رجب وشعبان ولما بلغ الخبر إلى السلطان ارتاب بالناصري واتهمه بالمداهنة في أمر منطاش وتجهز لقصد الشام وأدى في العساكر بذلك عاشر شعبان وقتل أهل الخلاف من الأمراء المحبوسين وأشخص البطالين من الأمراء إلى الإسكندرية ودمياط وخرج يوم عشرين شعبان فخيم بالريدانية حتى أزاح علل العساكر وقضوا حاجاتهم واستخلف على القاهرة الأتابك كمشيقا الحموي وأنزله الإصطبل وجعل له التصرّف في التولية والعزل وترك بالقاهرة من الأمراء جماعة لنظر الأتابك وتحت أمره وأنزل النائب سودون بالقلعة وترك بها ستمائة من مماليكه الأصاغر وأخرج معه القضاة الأربعة والمفتين وارتحل غرة رمضان من السنة بقصد الشام وجاء الخبر رابع الشهر بأنّ منطاش لما بلغه مسيرة السلطان من مصر هرب من دمشق منتصف شعبان مع عنقا بن [1] أمير آل مراء الصريخ منطاش فكانت بينهما وقعة انهزم فيها الناصري وقتل
__________
[1] كذا بياض بالأصل، ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على اسم والد عنقا.

(5/567)


جماعة من أمراء الشام نحو خمسة عشر فيهم إبراهيم بن منجك وغيره ثم خرج الناصري من الغد في إتباع منطاش وقد ذكر له أن الفلاحين نزعوا من نواحي دمشق واحتاطوا به فركب إليه منطاش ليقاتله ففارقه أتابكه يماز تمر إلى الناصري في أكثر العساكر وولي هاربا ورجع الناصري إلى دمشق وأكرم ايمازتمر وأجمل له الوعد وجاءه الخبر بأنّ السلطان قد دخل حدود الشام فسار ليلقاه فلقيه بقانون وبالغ السلطان في تكرمته وترجل حين نزوله وعانقه وأركبه بقربة وردّه إلى دمشق ثم سار في أثره إلى أن وصل دمشق وخرج الناصري ثانية ودخل إلى القلعة ثاني عشر رمضان من السنة والأمراء مشاة بين يديه والناصري راكب معه يحمل الخبز على رأسه وبعث يعبر في كتاب نائب حماة بالعذر عما وقع منه وأنه اتهم الناصري في أمر منطاش فقصد حسم الفتنة في ذلك واستأمن السلطان وضمن له إحضار منطاش من حيث كان فأمنه وكتب إليه بإجابة سؤاله ولما قضى عيد الفطر برز من دمشق سابع شوّال إلى حلب في طلب منطاش ولقيه أثناء طريقه رسول سولي بن دلقادر أمير التركمان بهديته واستئمانه وعذره عن تعرضه لسيس وأنه يسلمها لنائب حلب فقبل السلطان منه وأمنه ووعده بالجميل ثم وفد عليه أمراء آل مهنا وآل عيسى في الطاعة ومظاهرة السلطان على منطاش ويعبر وأنهما نازلان بالرحبة من تخوم الشام فأكرم السلطان وفادتهم وتقبل طاعتهم وسار إلى حلب ونزل بالقلعة منها ثاني شوّال ثم وصل الخبر إلى السلطان بأن منطاش فارق يعبرا ومرّ ببلاد ماردين فواقعته عساكر هناك وقبضوا على جماعة من أصحابه وخلص هو من الواقعة إلى سالم الرودكاري من أمراء التركمان فقبض عليه وأرسل إلى السلطان يطالعه بشأنه ويطلب بعض أمراء السلطان قراد مرداش نائب حلب في عساكره إلى سالم الرودكاري لإحضار منطاش وأتبعه بالناصري وأرسل الأتابك إلى ماردين لإحضار من حصل من أصحاب منطاش وانتهى أنيال إلى رأس العين وأتى أصحاب سلطان ماردين وتسلم منهم أصحاب منطاش وكتب سلطانهم بأنه معتمل في مقاصد السلطان ومرتصد لعدوّه وانتهى قراد مرداش إلى سالم الرودكاري وأقام عنده أربعة أيام في طلب منطاش وهو يماطله فأغار قراد مرداش عليه ونهب أحياءه وفتك في قومه وهرب هو ومنطاش إلى سنجار وجاء الناصري على أثر ذلك ونكر على دمرداش ما أتاه وارتفعت الملاجة بينهما حتى همّ الناصري به ورفع الآلة بضربه ولم يحصل أحد منهم بطائل ورجعوا بالعساكر إلى السلطان وكتب إليه سالم الرودكاري بالعذر عن أمر منطاش وأن الناصري كتب إليه وأمره بالمحافظة على منطاش وأن فيه زبونا للترك فجلس السلطان بالقلعة جلوسا ضخما سادس ذي الحجة من السنة

(5/568)


واستدعى الناصري فوبخه ثم قبض عليه وعلى ابن أخيه كشلي ورأس نوبة شيخ حسن وعلى أحمد بن الهمدار الّذي أمكنه من قلعة حلب وأمر بقتله وقشتمر الأشرفي الّذي وصل من ماردين معهم وولى على نيابة دمشق مكانه بطا الدوادار وأعطى إقطاعه لقراد مرداش وأمره بالمسير إلى مصر وولى مكانه بحلب حلبان رأس نوبة وولى أبا يزيد دوادارا مكان بطا ورعى له وسائله في الخدمة وتردّده في السفارة بينه وبين الناصري أيام ملك الناصري وأجلب على مصر وأشار عليه الناصري بالانتقاء كما ذكرناه فاختفى عند أصحاب أبي يزيد هذا بسعايته في ذلك ثم ارتحل من حلب ووصل إلى دمشق منتصف ذي الحجة وقتل بها جماعة من الأمراء أهل الفساد يبلغون خمسة وعشرين وولى على العرب محمد بن مهنا وأعطى إقطاع يعبر لجماعة من التركمان وقفل إلى مصر ولقيه الأتابك كمشيقا والنائب سودون والحاجب سكيس ثم دخل إلى القلعة على التعبية منتصف المحرّم سنة أربع وتسعين في يوم مشهود ووصل الخبر لعاشر دخوله بوفاة بطا نائب دمشق فولي مكانه سودون الطرنطاي ثم قبض في منتصف صفر على قراد مرداش الأحمدي وهلك في محبسه وقبض على طنبقا المعلم وقردم الحسيني وجاء الخبر أواخر صفر من السنة بأنّ جماعة من المماليك مقدمهم إيبقا دوادار بذلار لما هلك بطا واضطرب أصحابه وهرب بعضهم عمد هؤلاء المماليك إلى قلعة دمشق وهجموا عليها وملكوها ونقبوا السجن وأخرجوا المعتقلين به من أصحاب الناصري ومنطاش وهم نحو المائة وركبت العساكر إليها وحاصروها ثلاثا ثم هجموا على الباب فأحرقوه ودخلوا إلى القلعة فقبضوا عليهم أجمعين وقتلوهم وفرّ إيبقا دوادار بذلار في خمسة نفر وانحسمت عللهم ثم وصل الخبر آخر شعبان من السنة بوفاة سودون الطرنطاي فولى السلطان مكانه كمشيقا الأشرفي أمير مجلس وولى مكان كمشيقا أمير شيخ الخاجكي انتهى والله سبحانه وتعالى أعلم.
مقتل منطاش
كان منطاش فرّ مع سالم الرودكاري إلى سنجار وأقام معه أياما ثم فارقه ولحق بيعبر فأقام في أحيائه وأصهر إليه بعض أهل الحي بابنته فتزوّجها وأقام معهم ثم سار أوّل رمضان سنة أربع وتسعين وعبر الفرات إلى نواحي حلب وأوقعت به العساكر هناك وهزموهم وأسروا جماعة من أصحابه ثم طال على يعبر أمر الخلاف وضجر قومه من افتقاد الميرة من التلول فأرسل حاجبه يسأل الأمان وأنه يمكن من منطاش على أن يقطع أربع بلاد منها المعرة فكتب له الدوادار

(5/569)


أبو يزيد على لسانه بالإجابة الى ذلك ثم وفد محمد بن [1] سنة خمس وتسعين فأخبر أنه كان مقيما بسلمية في أحيائه ومعه التركمان المقيمون بشيزر فركبوا إليهم وهزموهم وضرب بعض الفرسان منطاش فأكبه وجرحه ولم يعرف في المعركة لسوء صورته بما أصابه من الشظف والحفاء فأردفه ابن يعبر ونجابه وقتل منهم جماعة منهم ابن بردعان وابن أنيال وجيء برءوسهما إلى دمشق وأوعز السلطان إلى أمراء الشام أن يخرجوا بالعساكر وينفوه إلى أطراف البلاد لحمايتها حتى يرفع الناس زروعهم ثم زحف يعبر ومنطاش في العساكر أوّل جمادى الأخيرة من السنة إلى سلمية فلقيهم نائب حلب ونائب حماة فهزموهما ونهبوا حماه وخالفهم نائب حلب إلى أحياء يعبر فأغار عليها ونهب سوادها وأموالها واستاق نعمها ومواشيها وأضرم النار فيما بقي وأكمن لهم ينتظر رجوعهم وبلغهم الخبر بحماة فأسرعوا الكر إلى أحيائهم فخرج عليهم الكمناء وأثخنوا فيهم وهلك بين الفريقين خلق من العرب والأمراء والمماليك ثم وفد على السلطان أواخر شعبان عامر بن طاهر بن جبار طائعا للسلطان ومنابذا لعمه وذكوان بن يعبر على طاعة السلطان وأنهم يمكنون من منطاش متى طلب منهم فأقبل عليه السلطان وأثقل كاهله بالإحسان والمواعيد ودس معه إلى بني يعبر بإمضاء ذلك ولهم ما يختارونه فلما رجع عامر ابن عمهم طاهر بمواعيد السلطان تفاوضوا مع آل مهنا جميعا ورغبوهم فيما عند السلطان ووصفوا ما هم فيه من الضنك وسوء العيش بالخلاف والانحراف عن الطاعة وعرضوا على يعبر بأن يجيبهم إلى إحدى الحسنيين من إمساك منطاش أو تخلية سبيلهم إلى طاعة السلطان ويفارقهم هو إلى حيث شاء من البلاد فجزع لذلك ولم يسعه خلافهم وأذن لهم في القبض على منطاش وتسليمه إلى نواب السلطان فقبضوا عليه وبعثوا إلى نائب حلب فيمن يتسلمه واستحلفوه على مقاصدهم من السلطان لهم ولأبيهم يعبر فحلف لهم وبعث إليهم بعض أمرائه فامكنوه منه وبعثوا معه الفرسان والرجالة حتى أوصلوه ودخل إلى حلب في يوم مشهود وحبس بالقلعة وبعث السلطان أميرا من القاهرة فاقتحمه وقتله وحمل رأسه وطاف به في ممالك الشام وجاء به إلى القاهرة حادي عشر رمضان سنة خمس وتسعين فعلقت على باب القلعة ثم طيف بها مصر والقاهرة وعلقت على باب زويلة ثم دفعت إلى أهله فدفنوها آخر رمضان من السنة والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
__________
[1] بياض بالأصل في جميع النسخ ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على اسم والده.

(5/570)


حوادث مكة
قد كان تقدّم لنا أنّ عنان بن مقامس ولاه السلطان على مكة بعد مقتل محمد بن أحمد بن عجلان في موسم سنة ثمان وثمانين وأن كنيش بن عجلان أقام على خلافه وحاصره بمكة فقتل في حومة الحرب سنة تسع بعدها وساء أثر عنان وعجز عن مغالبة الأشراف من بني عمه وسواهم وامتدّت أيديهم إلى أموال المجاورين وصادروهم عليها ونهبوا الزرع الواصل في الشواني من مصر إلى جدّة للسلطان والأمراء والتجار ونهبوا تجار اليمن وساءت أحوال مكة بهم وبتابعهم وطلب الناس من السلطان إعادة بني عجلان لإمارة مكة ووفد على السلطان بمصر سنة تسع وثمانين صبيّ من بني عجلان اسمه علي فولاه على إمارة مكة وبعثه مع أمير الحاج وأوصاه بالإصلاح بين الشرفاء ولما وصل الأمير إلى مكة يومئذ قرقماش خشي الإشراف منه واضطرب عنان وركب للقائه ثم توجس الخيفة وكرّ راجعا وأتبع الأشراف واجتمعوا على منابذة علي بن عجلان وشيعته من القواد والعبيد ووفد عنان بن مقامس على السلطان سنة تسعين فقبض عليه وحبسه ولم يزل محبوسا إلى أن خرج مع بطا عند ثورته بالقلعة في صفر سنة ثنتين وتسعين وبعثه مع أخيه إيبقا يستكشف خبر السلطان كما مرّ وانتظم أمر السلطان بسعاية بطا في العود إلى إمارته رعيا لما كان بينهما من العشرة في البحر وأسعفه السلطان بذلك وولاه شريكا لعلي بن عجلان في الإمارة فأقاما كذلك سنتين وأمرهما مضطرب والأشرف مصوصبون على عنان وهو عاجز عن الضرب على أيديهم وعلي بن عجلان مع القواد والعبيد كذلك وأهل مكة على وجل من أمرهم في ضنك من اختلاف الأيدي عليهم ثم استقدمهم السلطان سنة أربع وتسعين فقدموا أوّل شعبان من السنة فأكرمهما ورفع مجلسهما ورفع مجلس علي على سائرهم ولما انقضى الفطر ولي علي بن عجلان مستقلا واستبلغ في الإحسان إليه بأصناف الأقمشة والخيول والممالك والحبوب وأذن له في الجراية والعلوفة فوق الكفاية ثم ظهر عليه بعد شهر وقد أعدّ الرواحل ليلحق بمكة هاربا فقبض عليه وحبسه بالقلعة وسار علي بن عجلان إلى مكة وقبض على الأشراف لتستقيم إمارته ثم خودع عنهم فأطلقهم فنفروا عنه ولم يعاودوا طاعته فاضطرب أمره وفسد رأيه وهو مقيم على ذلك لهذا العهد والله غالب على أمره أنه على كل شيء قدير
.

(5/571)


وصول أحياء من التتر وسلطانهم إلى صاحب بغداد واستيلاؤه عليها ومسير السلطان بالعساكر إليه
كان هؤلاء التتر من شعوب الترك وقد ملكوا جوانب الشرق من تخوم الصين إلى ما وراء النهر ثم خوارزم وخراسان وجانبيها إلى سجستان وكرمان جنوبا وبلاد القفجاق وبلغار شمالا ثم عراق العجم وبلاد فارس وأذربيجان وعراق العرب والجزيرة وبلاد الروم إلى أن بلغوا حدود الفرات واستولوا على الشام مرة بعد أخرى كما تقدّم في أخبارهم ويأتي إن شاء الله تعالى وكان أوّل من خرج منهم ملكهم جنكزخان أعوام عشر وستمائة واستقلوا بهذه الممالك كلها ثم انقسمت دولته بين بنيهم فيها فكان لبني دوشي خان منهم بلاد القفجاق وجانب الشمال بأسره ولبني هلاكو بن طولي خان خراسان والعراق وفارس وأذربيجان والجزيرة وبلاد الروم ولبني جفطاي خوارزم وما إليها واستمرّت هذه الدول الثلاث إلى هذا العهد في مائة وثمانين سنة انقرض فيها ملك بني هلاكو في سنة أربعين من هذه المائة بوفاة أبي سعيد أخرهم ولم يعقب وافترق ملكه بين جماعة من أهل دولته في خراسان وأصبهان وفارس وعراق العرب وأذربيجان وتوريز وبلاد الروم فكانت خراسان للشيخ ولي وأصبهان وفارس وسجستان للمظفر الأزدي وبنيه وخوارزم وأعمالها إلى تركستان لبني جفطاي وبلاد الروم لبني أرشا مولى من موالي دمرداش بن جوبان وبغداد وأذربيجان والجزيرة للشيخ حسن بن حسين بن أيبغا بن أيكان وأيكان سبط أرغون بن أبغا بن هلاكو ولبنيه وهو من كبار المغل في نسبه ولم يزل ملكهم المفترق في هذه الدول متناقلا بين أعقابهم إلى أن تلاشى واضمحل واستقرّ ملك بغداد وأذربيجان والجزيرة لهذا العهد لأحمد بن أويس ابن الشيخ حسن سبط أرغون كما في أخبار يأتي شرحها في دول التتر بعد ولما كان في هذه العصور ظهر بتركستان وبخارى فيما وراء النهر أمير اسمه تمر في جموع من المغل والتتر ينسب هو وقومه إلى جفطاي لا أدري هو جفطاي بن جنكزخان أو جفطاي آخر من شعوب المغل والأوّل أقرب لما قدّمته من ولاية جفطاي بن جنكزخان على بلاد ما وراء النهر لعهد أبيه وان اعترض معترض بكثرة هذا الشعب الّذي مع تمر وقصر المدّة أنّ هذه المدّة من لدن جفطاي تقارب مائتي سنة لأنّ جفطاي كان لعهد أبيه جنكزخان يقارب الأربعين فهذه المدّة أزيد من خمسة من العصور لأنّ العصر أربعون سنة وأقل ما يتناسل من الرجل في العصر عشرة من الولد فإذا ضوعفت العشرة بالضرب خمس مراتب كانت مائة ألف وأن فرضنا أنّ المتناسلين تسعة لكل عصر بلغوا في

(5/572)


الخمسة عصور إلى نحو من سبعين ألفا وإن جعلناها ثمانية بلغوا فوق الاثنين وثلاثين وإن جعلناهم سبعة بلغوا ستة عشر ألفا والسبعة أقل ما يمكن من الرجل الواحد لا سيما مع البداوة المقتضية لكثرة النسل والستة عشر ألفا عصابة كافية في استتباع غيرها من العصائب حتى تنتهي إلى غاية العساكر ولما ظهر هذا فيما وراء النهر عبر إلى خراسان فملكها من يد الشيخ ولي صاحبها أعوام أربعة وثمانين بعد مراجفات وحروب وهرب الشيخ ولي إلى توريز فعمد إليه تمر في جموعه سنة سبع وثمانين وملك توريز وأذربيجان وخربها وقتل الشيخ ولي في حروبه ومر بأصبهان فأعطوه طاعة معروفة وأطلّ بعد توريز على نواحي بغداد فأرجفوا منه وواقعت عساكره بأذربيجان جموع الترك أهل الجزيرة والموصل وكانت الحروب بينهم سجالا ثم تأخر إلى ناحية أصبهان وجاءه الخبر بخارج خرج عليه من قومه يعرف بقمر الدين تطمش ملك الشمال من بني دوشي خان بن جنكزخان وهو صاحب كرسي صراي أمدّه بأمواله وعساكره فكرّ راجعا إلى بلده وعميت أنباؤه إلى سنة خمس وتسعين ثم جاءت الأخبار بأنه غلب قمر الدين الخارج عليه ومحا أثر فساده واستولى على كرسي صراي فكر تمر راجعا وملكها ثم خطى إلى أصبهان وعراق العجم وفارس وكرمان فملك جميعها من يد بني المظفر اليزدي بعد حروب هلك فيها ملوكهم وبدّدت جموعهم وراسله صاحب بغداد أحمد بن أويس وصانعه بالهدايا والتحف فلم يغن عنه وما زال يخادعه بالملاطفة والمراسلة إلى أن فتر عزم أحمد وافترقت عساكره فصمد إليه يغذ السير حتى انتهى إلى دجلة وسبق النذير إلى أحمد فأسرى من ليلة ومرّ بجسر الحلة فقطعه وصبح مشهد علي ووافى تمر وعساكره دجلة يوم الحادي والعشرين من شوّال سنة خمس وتسعين وأجازوا دجلة سبحا ودخلوا بغداد واستولوا عليها وبعث العساكر في إتباع أحمد فلحقوا بأعقابه وخاضوا إليه النهر عند الجسر المقطوع وأدركوه بالمشهد فكرّ عليهم في جموعه وقتل الأمير الّذي كان في إتباعه ورجعوا عنه بعد أن كانوا استولوا على جميع أثقاله ورواحله بما فيها من الأموال والذخيرة فرجعوا بها ونجا أحمد إلى الرحبة من تخوم الشام فأراح بها وطالع نائبها السلطان بأمره فأخرج إليه بعض خواصه بالنفقات والأزواد ليستقدمه فقدم به إلى حلب آخر ذي القعدة فأراح بها وطرقه مرض أبطأ به عن مصر وجاءت الأخبار بأنّ تمرعاث في مخلفه واستصفى ذخائره واستوعب موجود أهل بغداد بالمصادرات لأغنيائهم وفقرائهم حتى مستهم الحاجة وأقفرت جوانب بغداد من العيث ثم قدم أحمد بن أويس على السلطان بمصر في شهر ربيع سنة ست وتسعين مستصرخا به على طلب ملكه والانتقام من عدوّه فأجاب السلطان صريخه

(5/573)


ونادى في عساكره بالتجهز إلى الشام وقد كان تمر بعد ما استولى على بغداد زحف في عساكره إلى تكريت فأولى المخالفين وعثاء الحرابة ورصد السابلة وأتاح عليها بجموعه أربعين يوما فحاصرها حتى نزلوا على حكمه وقتل من قتل منهم ثم خربها وأسرها ثم انتشرت عساكره في ديار بكر إلى الرها ووقفوا عليها ساعة من نهار فملكوها واشفوا نعمتها وافترق أهلها وبلغ الخبر إلى السلطان فخيم بالريدانية أياما أزاح فيها علل عسكره وأفاض العطاء في مماليكه واستوعب الحشد من سائر أصناف الجند واستخلف على القاهرة النائب مودود وارتحل إلى الشام على التعبية ومعه أحمد بن أويس صاحب بغداد بعد أن كفاه مهمه وسرب النفقات في تابعه وجنده ودخل دمشق آخر جمادى الأولى وقد كان أوعز إلى جلبان نائب حلب بالخروج إلى الفرات واستيعاب العرب والتركمان للإقامة هنالك رصدا للعدوّ فلما وصل إلى دمشق وفد عليه جلبان وطالعة بمهماته وما عنده من أخبار القوم ورجع لإنفاذ أوامره والفصل فيما يطالعه فيه وبعث السلطان على أثره العساكر مددا له مع كميشقا الأتابك وتلكمش أمير سلاح وأحمد بن بيبقا وكان العدوّ قد شغل بحصار ماردين فأقام عليها أشهرا ثم ملكها وعاثت عساكره فيها وامتنعت عليه قلعتها فارتحل عنها إلى ناحية بلاد الروم ومرّ بقلاع الأكراد فأغارت عساكره عليها واكتسحت نواحيها والسلطان لهذا العهد وهو شعبان سنة ست وتسعين مقيم بدمشق مستجمع للوثبة به متى استقبل جهته والله ولي الأمور وهذا آخر ما انتهت إليه دولة الترك بانتهاء الأيام وما يعلم أحد ما في غد والله مقدّر الأمور وخالقها
.

(5/574)


دولة بني رسول الخبر عن دولة بني رسول مولى بني أيوب الملوك باليمن بعدهم ومبدإ أمرهم وتصاريف أحوالهم
قد كان تقدّم لنا كيف استولى بنو أيوب على اليمن واختلف عليها الولاة منهم إلى أن ملكها من بني المظفر شاهنشاه بن أيوب حافده سليمان بن [1] ابن المظفر وانتقض أيام العادل سنة اثنتي عشرة وستمائة فأمر العادل ابنه الكامل خليفته على مصر أن يبعث ابنه يوسف المسعود إلى اليمن وهو أخو الصالح ويلقب بالتركي أطس ويقال أقسنس وقد تقدّم ذكر هذا اللقب فملكها المسعود من يد سليمان وبعث به معتقلا الى مصر وهلك جهاد الإفرنج بدمياط سنة سبع وأربعين وهلك العادل أخو المسعود سنة خمس عشرة وستمائة وولي بعده ابنه الكامل وجدّد العهد إلى يوسف المسعود على اليمن وحج المسعود سنة تسع عشرة وكان من خبره في تأخير أعلام الخليفة عن أعلامه ما مرّ في أخبار دولتهم ثم جاء سنة عشرين إلى مكة وأميرها حسن بن قتادة من بني مطا عن إحدى بطون بني حسن فجمع لقتاله وهزمه المسعود وملك مكة وولى عليها ورجع إلى اليمن فأقام به ثم طرقه المرض سنة ست وعشرين فارتحل إلى مكة واستخلف على اليمن علي بن رسول التركماني أستاذ داره ثم هلك المسعود بمكة لأربع عشرة سنة من ملكه وبلغ خبر وفاته إلى أبيه وهو محاصر دمشق ورجع ابن قتادة إلى مكة ونصب علي بن رسول على اليمن موسى بن المسعود ولقبه الأشرف وأقام مملكا على اليمن إلى أن خلع وخلف المسعود ولد آخر اسمه يوسف ومات وخلفه ابنه واسمه موسى وهو الّذي نصبه الترك بعد أيبك ثم خلعوه ثم خلع علي بن رسول موسى الأشرف بن المسعود واستبدّ بملك اليمن وأخذه بدعوة الكامل بمصر وبعث أخويه رهنا على الطاعة ثم هلك سنة تسع وعشرين وولي ابنه المنصور عمر بن علي بن رسول ولما هلك علي بن منصور ولى بعده الكامل ابنه عمر ثم توفي الكامل سنة خمس وثلاثين وشغل بنو أيوب بالفتنة بينهم فاستغلظ سلطان عمر باليمن وتلقب المنصور ومنع الإتاوة التي كان يبعث بها إلى مصر فأطلق صاحب مصر العادل بن الكامل عمومته الذين كان أبوه رهنهم على الطاعة لينازعوه في الأمر فغلبهم
__________
[1] بياض بالأصل وفي أخبار البشر ج 4 ص 116: سليمان بن سعد الدين شاهنشاه بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب.

(5/576)


وحبسهم وكان أمر الزيدية بصفد قد خرج من بني الرسي وصار لبني سليمان بن داود كما مرّ في أخبارهم ثم بويع من بني الرسي أحمد بن الحسين من بني الهادي يحيى بن الحسن بن القاسم الرسي بايع له الزيدية بحصن ملا وكانوا من يوم أخرجهم السليمانيون من صفد قد أووا إلى جبل مكانه فلما بويع أحمد بن الحسين هذا لقبوه الموطئ وكان تحصن بملا وكان الحديث شائعا بين الزيدية بأنّ الأمر يرجع إلى بني الرسي وكان أحمد فقيها أديبا عالما بمذهب الزيدية مجتهدا في العبادة وبويع سنة خمس وأربعين وستمائة وأهمّ عمر بن رسول شأنه فشمر لحربه وحاصره بحصن ملامدة ثم أفرج عنه وجهز العساكر لحصاره من الحصون المجاورة له ولم يزل قائما بأمره إلى أن وثب عليه سنة ثمان وأربعين جماعة من مماليكه بممالأة بني أخيه حسن فقتلوه لثمان عشرة سنة من ولاية المظفر يوسف بن عمر ولما هلك المنصور علي بن رسول كما قلناه قام بالأمر مكانه ابنه المظفر شمس الدين يوسف وكان عادلا محسنا وفرض الإتاوة عليه لملوك مصر من الترك لما استقلوا بالملك وما زال يصانعهم بها ويعطيهم إياها وكان لأوّل ملكه امتنع عليه حصن الدملوة فشغل بحصاره وتمكن أحمد الموطئ الثائر بحصن ملامن الزيدية من أعقاب بني الرسي فملك عشرين حصنا من حصون الزيدية وزحف إلى صفد فملكها من يد السليمانيين ونزل له أحمد المتوكل إمام الزيدية منهم فبايعه وأمنه ولما كانوا في خطابة لم يزل في كل عصر منهم إمام كما ذكرناه في أخبارهم قبل ولم يزل المظفر واليا على اليمن إلى أن هلك بغته سنة أربع وتسعين لست وأربعين سنة من ملكة الأشرف عمر بن المظفر يوسف ولما هلك المظفر يوسف كما قلناه وولي بعده ابنه الأشرف ممهد الدين عمر وكان أخوه داود واليا على الشحر فدعا لنفسه ونازعه الأمر فبعث الأشرف عساكره وقاتلوه وهزموه وقبضوا عليه وحبسه واستمرّ الأشرف في ملكه إلى أن سمته جاريته فمات سنة ست وتسعين لعشرين شهرا من ولايته [1] أخوه داود بن المظفر المؤيد يوسف ولما هلك الأشرف بن عمر بن المظفر يوسف أخرج أخاه مؤيد الدين داود من معتقله وولوه عليهم ولقبوه المؤيد وافتتح أمره بقتل الجارية التي سمت أخاه وما زال يواصل ملوك الترك بهداياه وصلاته وتحفه والضريبة التي قررها سلفه وانتهت هديته سنة إحدى عشرة وسبعمائة إلى مائتي وقر بعير بالثياب والتحف وطرف اليمن ومائتين من الجمال والخيل ثم بعث سنة خمس عشرة بمثل ذلك وفسد ما بينه وبين ملوك الترك بمصر وبعث بهديته سنة ثمان عشرة فردّوها عليه ثم هلك سنة إحدى وعشرين وسبعمائة لخمس وعشرين سنة من
__________
[1] بياض بالأصل وفي أخبار البشر ج 4 ص 33: وتوفي والملك المؤيد داود في الاعتقال مقيدا.

(5/577)


ملكه وكان فاضلا شافعيّ المذهب وجمع الكتب من سائر الأمصار فاشتملت خزانته على مائة ألف مجلد وكان يتفقد العلماء بصلاته ويبعث لابن دقيق العيد فقيه الشافعية بمصر جوائزه ولما توفي المؤيد داود سنة إحدى وعشرين كما قلناه قام بملكه ابنه المجاهد سيف الدين علي ابن اثنتي عشرة سنة والله وارث الأرض ومن عليها.
ثورة جلال الدين بن عمر الأشرف وحبسه
ولما ملك المجاهد علي شغل بلذاته وأساء السيرة في أهل المناصب الدينية بالعزل والاستبدال بغير حق فنكره أهل الدولة وانتقض عليه جلال الدين ابن عمه عمر الأشرف وزحف إليه وكانت بينهما حروب ووقائع كان النصر فيها للمجاهد وغلب على جلال الدين وحبسه والله تعالى أعلم.
ثورة جلال الدين ثانيا وحبس المجاهد وبيعة المنصور أيوب بن المظفر يوسف
وبعد أن قبض المجاهد على جلال الدين ابن عمه الأشرف وحبسه لم يزل مشتغلا بلهوه عاكفا على لذاته وضجر منه أهل الدولة وداخلهم جلال الدين في خلعه فوافقوه فرحل إلى [1] سنة اثنتين وعشرين فخرج جلال الدين من محبسه وهجم عليه في بعض البساتين وفتك بحرمة وقبض عليه وبايع لعمه المنصور أيوب بن المظفر يوسف واعتقل المجاهد عنده في نفر وأطلق جلال الدين ابن عمه والله تعالى أعلم بغيبه.
__________
[1] بياض بالأصل، وفي تاريخ أخبار البشر ج 4 ص 91 وفيها سنة 722 ليلة الثلاثاء في ذي الحجة توفي بمرض ذات الجنب بتعز الملك المؤيد هزبر الدين داود بن المظفر يوسف بن عمر بن علي بن رسول، فاتفق أرباب الدولة وأقاموا ولده علي ولقب بالملك المجاهد سيف الإسلام بن داود المذكور، وهو إذ ذاك أول ما قد بلغ. ثم خرج عليه عمه الملك المنصور أيوب ولقبه زين الدين أخو داود في سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة فملك اليمن واعتقل ابن أخيه سيف الإسلام. وقعد المنصور في مملكة اليمن دون ثلاثة أشهر، ثم هجم من العسكر وأخرجوا سيف الإسلام وأعادوه إلى ملك اليمن واعتقلوا عمه المنصور أيوب، وبقي أمر مملكة اليمن مضطربا غير منتظم الأحوال.

(5/578)


خلع المنصور أيوب ومقتله وعود المجاهد إلى ملكه ومنازعة الظاهر بن المنصور أيوب له
ولما جلس المجاهد بقلعة تعز واستقل المنصور بالملك اجتمع شيعة المجاهد وهجموا على المنصور في بيته بتعز وحبسوه وأخرجوا المجاهد وأعادوه إلى ملكه ورجع أهل اليمن لطاعته وكان أسد الدين عبد الله بن المنصور أيوب بالدملوة فعصى عليه وامتنع بها وكتب إليه المجاهد يهدّده بقتل أبيه فلج واتسع الخرق بينهما وعظمت الفتنة وافترق عليهما العرب وكثر عيثهم وكثر الفساد وبعث المنصور من محبسه إلى ابنه عبد الله أن يسلم الدملوة خوفا على نفسه من القتل فأبى عبد الله من ذلك وأساء الردّ على أبيه ولما يئس المجاهد منه قتل أباه المنصور أيوب بن المظفر في محبسه واجتمع أهل الدملوة وكبيرهم الشريف ابن حمزة وبايعوا أسد الدين عبد الله بن المنصور أيوب وبعث عسكرا مع الشهاب الصفوي إلى زبيد فحاصروها وفتحوها وجهز المجاهد عساكره إليها مع قائده علي بن الدوادار ولما قاربوا زبيد أصابهم سيل وبيتهم أهل زبيد فنالوا منهم وأسروا أمراءهم واتهم المجاهد قائده علي بن الدوادار بمداخلة عدوه فكتب إليه أن يسير إلى عدن لتحصيل مواليها وكتب إلى والي عدن بالقبض عليه ووقع الكتاب بيد الظاهر فبعث به إلى الدوادار فرجع إلى عدن وحاصرها وفتحها وخطب بها للظاهر سنة ثلاث وعشرين وملك عدن بعدها ثم استمال صاحب صنعاء وحوض فقاموا بدعوة الظاهر وبعث المجاهد إلى مذحج والأكراد يستنجدهم فلم ينجدوه وهو بحصن المعدية وكتب الظاهر إلى أشراف مكة وقاضيها نجم الدين الطبري بأن الأمر قد استقرّ له باليمن والله تعالى ولي التوفيق لا رب سواه.
وصول العساكر من مصر مددا للمجاهد واستيلاؤه على أمره وصلحه مع الظاهر
ولما غلب الظاهر بن المنصور أيوب على قلاع اليمن وانتزعها من المجاهد وحاصره بقلعة المعدية، بعث المجاهد سنة أربع وعشرين بصريخه إلى السلطان بمصر من الترك الناصر محمد بن قلاون سنة خمس وعشرين، فبعث إليه العساكر مع بيبرس الحاجب وانيال من أمراء دولته، ووصلوا إليه سنة خمس وعشرين فسار إليهم المجاهد من حصن المعدية بنواحي عدن

(5/579)


إلى تعز فاستأمن إليه أهلها فأمنهم وراسلوا الظاهر في الصلح فأجاب على أن تكون له الدملوة، وتحالفوا على ذلك. وطلب أمراء الترك الشهاب الصفوي الّذي أنشأ الفتنة بين المجاهد والظاهر فامتنع عن إجابتهم فركب بيبرس وهجم عليه في خيمته وقتله بسوق الخيل بتعز، واثخنوا في العصاة على المجاهد في كل ناحية حتى أطاعوا، وتمهد له الملك ورجعت العساكر إلى مصر سنة ست وعشرين والله سبحانه وتعالى أعلم.
نزول الظاهر للمجاهد عن الدملوة ومقتله
ولما استقام الأمر للمجاهد باليمن واستخلفه الظاهر على الدملوة أخذ المجاهد في تأنيسه واحكام الوصلة به حتى اطمأن، وهو يفتل له في الذروة والغارب حتى نزل له عن الدملوة وولى عليها من قبله وصار الظاهر في جملته. ثم قبض عليه وحبسه بقلعة تعز. ثم قتله في محبسه سنة أربع وثلاثين والله تعالى أعلم.
حج المجاهد علي بن المؤيد داود وواقعته مع أمراء مصر واعتقاله بالكرك تم إطلاقه ورجوعه إلى ملكه
ثم حج المجاهد سنة إحدى وخمسين أيام حسن الناصري الأولى وهي السنة التي حج فيها طاز كافل المملكة أميرا وحج بيبقاروس الكافل الآخر مقيدا لأن السلطان أمر طاز بالقبض عليه في طريقه. فلما قبض عليه رغب منه أن يخلي سبيله لأداء فرضه فأجابه وحج مقيدا. وجاء المجاهد ملك اليمن للحج وشاع عنه أنه يروم كسوة الكعبة فتنكر أمراء مصر وعساكرها لأهل اليمن ووقعت في بعض الأيام هيعة في ركب اليمن فتحاربوا وانهزم وذهب سواده وركب أهل اليمن كافة وأطلق بيبقاروس للقتال فجلا في تلك الوقعة وأعيد إلى اعتقاله. وحمل المجاهد إلى مصر معتقلا فحبس ثم أطلق سنة اثنتين وخمسين في دولة الصالح. وبعثوا معه قشتمر المنصوري إلى بلاده. فلما انتهى إلى الينبع ظهر عليه قشتمر بأنه يروم الهرب فرده وحبسه بالكرك. ثم أطلق بعد ذلك وأعيد إلى ملكه، وأقام على مهاداة صاحب مصر وصانعته إلى أن توفي سنة ست وستين لاثنتين وأربعين سنة من ملكه.

(5/580)


ولاية الأفضل عباس بن المجاهد علي
ولما توفي المجاهد سنة ست وستين ولي بعده ابنه عباس واستقام له ملك اليمن إلى أن هلك سنة ثمان وسبعين لاثنتي عشرة سنة من ملكه والله تعالى أعلم.
ولاية المنصور محمد بن الأفضل عباس
ولما توفي الأفضل عباس بن المجاهد سنة ثمان وسبعين ولي بعده ابنه المنصور محمد واستولى على أمره واجتمع جماعة من مماليكه سنة اثنتين وثمانين للثورة به وقتله وأطلع على شأنهم فهربوا إلى الدملوة وأخذهم العرب في طريقهم وجاءوا بهم وعفا عنهم واستمرّ في ملكه إلى أن هلك والله تعالى أعلم.
ولاية أخيه الأشرف بن الأفضل عباس
ولما توفي المنصور محمد بن الأفضل سنة [1] ولي أخوه الأشرف إسماعيل واستقام أمره وهو صاحب اليمن لهذا العهد لسنة ست وتسعين والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
__________
[1] بياض بالأصل ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على هذه السنة.

(5/581)


الخبر عن دولة التتر من شعوب الترك وكيف تغلبوا على الممالك الإسلامية وانتزوا على كرسي الخلافة ببغداد وما كان لهم من الدول المفترقة وكيف أسلموا بعد ذلك ومبدإ أمورهم وتصاريف أحوالهم
قد تقدّم لنا ذكر التتر وأنهم من شعوب الترك وأنّ الترك كلهم ولد كومر بن يافث على الصحيح، وهو الّذي وقع في التوراة. وتقدم لنا ذكر أجناس الترك وشعوبهم وعددنا منهم الغزّ الذين منهم السلجوقية والهياطلة الذين منهم القلج، وبلاد الصغد قريبا من سمرقند ويسمون بها أيضا. وعددنا منهم الخطا والطغرغر وهم التتر، وكانت مساكن هاتين الأمتين بأرض طمغاج، ويقال أنها بلاد تركستان وكاشغر وما إليها من وراء النهر وهي بلاد ملوكهم في الإسلام، وعددنا منهم الخزلجية والغور والخزر والخفشاخ وهم القفجاق ويمك والعلان ويقال الآن وجركس واركش. وعدّ صاحب روجار في كتابه على الجغرافيا العسسه والتغزغزية والخرخيرية والكيماكية والخزلجية والخزر والخلج وبلغار ويمناك وبرطاس وسنجرت وخرجان وأنكز، وذكر مساكن أنكر في بلاد البنادقة من أرض الروم وجمهور هذه الأمم من الترك فيما وراء الهز شرقا إلى البحر المحيط بين الجنوب والشمال من الإقليم الأول إلى السابع، والصين في وسط بلادهم.
وكانت الصين أولا لبني صيني إخوانهم من بني يافث. ثم صار لهم واستولوا على معظمه إلا قليلا من أطرافه على ساحل البحر، وهم رجاله كما مرّ في ذكرهم أول الكتاب وفي دولة السلجوقية وأكثرهم من المفازة التي بين الصين وبلاد تركستان. وكان لهم قبل الإسلام دولة، ولهم مع الفرس حروب مذكورة وملكهم لذلك العهد في بني فراسيان. وكان بينهم وبين العرب لأول الفتح حروب طويلة قاتلوهم على الإسلام، فلم يجيبوا فأثخنوا فيهم، وغلبوهم على أطراف بلادهم وأسلم ملوكهم على بلادهم وذلك من بعد القرن الأول.
وكانت لهم في الإسلام دولة ببلاد تركستان وكاشغر، ولا أدري من أي شعوبهم كان هؤلاء الملوك.
وقد قيل فيهم أنهم من ولد قراسيان ولا يعرف شعب فراسيان فيهم، وكان هؤلاء الملوك يلقبون بالخاقان بالخاء والقاف سمة لكل من يملك منهم، مثل كسرى للفرس وقيصر

(5/583)


للروم. وأسلم ملوكهم بعد صدر من الملة على بلادهم وملكهم فأقاموا بها، وكان بينهم وبين بني سامان الملوك القائمين فيما وراء النهر بدولة بني العبّاس حرب وسلم اتصلت حالهم عليها إلى أن تلاشت دولتهم ودولة بني سامان جميعا. وقام محمود بن سبكتكين من موالي بني سامان بدولتهم وملكهم فيما وراء النهر وخراسان.
وقد ظهر لذلك العهد بنو سلجوق وغلبوا ملوك الترك على أمرهم وأصبحوا في عداد ولاتهم شأن الدول البادية الجديدة مع الدول القديمة الحاضرة، ثم قارعوا بني سبكتكين وغلبوهم على ملكهم فيما بعد المائة الرابعة واستولوا على ممالك الإسلام بأسرها، وملكوا ما بين الهند ونهاية المعمور في الشمال وما بين الصين وخليج القسطنطينية في الغرب، وعلى اليمن والحجاز والشام وفتحوا كثيرا من بلاد الروم واستفحلت دولتهم بما لم تنته إليه دولة بعد العرب والخلفاء في الملة. ثم تلاشت دولتهم وانقرضت بعد مائتين من السنين شأن الدول وسنة الله في العباد.
وكانوا بعد خروج السلجوقية إلى خراسان قد خلفتهم في بلاد بضواحي تركستان وحدود الصين. ولم يقدر ملوك الخانية بتركستان على دفاعهم لعجزهم عن ذلك فكان أرسلان خان ابن محمد بن سليمان ينزلهم مسالح على الدروب ما بينه وبين الصين، ويقطعهم على ذلك ويوقع بهم على الفساد والعيث ثم زحف من الصين ملك الترك الأعظم كوخان سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة، ولحقت به أمم الخطا ولقيهم الخان محمود بن محمد بن سليمان بن داود بن بقراخان صاحب تركستان وما وراء النهر من الخانية، وهو ابن أخت السلطان سنجر بن ملك شاه صاحب خراسان من ملوك السلجوقية فهزموه. وبعث بالصريخ إلى خاله سنجر، فاستنفر ملوك خراسان وعساكر المسلمين وعبر جيحون للقائهم، وسارت إليه أمم التتر والخطا وتواقعوا في صفر سنة ست وثلاثين وخمسمائة، وانهزم سنجر وأسرت زوجته ثم أطلقها كوخان ملك الترك، واستولى على ما وراء النهر.
ثم مات كوخان سنة سبع وثلاثين وملكت بعده بنته، ثم ماتت فملكت بعدها أمها زوجة كوخان وابنه محمد، ثم انقرض ملكهم واستولى الخطا على ما وراء النهر. ثم غلب على خوارزم علاء الدين محمد بن تكش كما قدمناه، ويلقب هو وأبوه بخوارزم شاه. وكان ملوك الخانية ببلادهم فيما وراء النهر فاستصرخوا به على الخطا لما كثر من عيثهم وفسادهم، فأجاب صريخهم وعبر النهر سنة ست وستمائة، وملكهم يومئذ كبير السن بصير في الحرب فلقيهم فهزموه وأسر خوارزم شاه ملكهم طانيكوه وحبسه بخوارزم، وملك سائر بلاد الخطا

(5/584)


إلى أوركندا، وأنزل به نوابه وزوّج أخته من الخان صاحب سمرقند وأنزل معه شحنة كما كانت للخطأ وعاد إلى بلاده.
وثار ملك الخانية بالشحنة بعد رجوعه بسنة وقتلهم، وهمّ بقتل زوجته أخت خوارزم شاه وحاصره بسمرقند واقتحمها عليه عنوة وقتله في جماعة من أقاربه، ومحا أثر الخانية وملكهم مما وراء النهر، وأنزل في سائر البلد نوابه. وكانت أمة التتر من وراء الخطا هؤلاء قد نزلوا في حدود الصين ما بينها وبين تركستان، وكان ملكهم كشلي خان ووقع بينهم وبين الخطا من العداوة والحروب، يقع بين الأمم المتجاورة. فلما بلغهم ما فعله خوارزم شاه بالخطا أرادوا الانتقام منهم، وزحف كشلي خان في أمم التتر إلى الخطا لينتهز الفرصة فيهم، فبعث الخطا إلى خوارزم شاه يتلطفون له ويسألونه النصر من عدوهم قبل أن يستحكم أمره وتضيق عنه قدرتهم وقدرته. وبعث إليه كشلي ملك التتر بمثل ذلك فتجهز يوهم كل واحد من الفريقين أنه له وأقام منتبذا عنهما وقد تواقعوا وانهزم الخطا فمال مع التتر عليهم واستلحموهم في كل وجه ولم ينج منهم إلا قليل تحصنوا بين جبال في نواحي تركستان وقليل آخرون لحقوا بخوارزم شاه فكانوا معه وبعث خوارزم شاه إلى كشلي خان ملك التتر يعتدّ عليه بهزيمة الخطا وأنها إنما كانت بمظاهرته فأظهر له الاعتراف وشكره ثم نازعه في بلادهم وأملاكهم وبعث خوارزم شاه بحربهم ثم علم أنه لا طاقة له بهم فمكث يراوغهم عن اللقاء وكشلي خان يعذله في ذلك وهو يغالطه واستولى كشلي خان خلال ذلك على كاشغر وبلاد تركستان وبلاساغون ثم عمد خوارزم شاه إلى الشاش وفرغانة وأسبيجاب وقاشان وما حولها من المدن التي لم يكن في بلاد الله أنزه ولا أحسن عمارة فجلا أهلها إلى بلاد المسلمين وخرب جميعها خوفا أن يملكها التتر بعد ذلك وخرج على كشلي خان طائفة أخرى يعرفون بالمغل وملكه جنكزخان فشغل كشلي خان بحربهم عن خوارزم شاه وعبر النهر إلى خراسان ونزل خوارزم إلى أن كان من أمره ما نذكره والله سبحانه وتعالى أعلم.
استيلاء التتر على ممالك خوارزم شاه فيما وراء النهر وخراسان ومهلك خوارزم شاه وتولية محمد بن تكش
ولما رحل السلطان إلى خراسان استولى على الممالك ما بينه وبين بغداد من خراسان ومازندران وباميان وغزنة إلى بلاد الهند وغلب الغورية على ما بأيديهم ثم ملك الريّ وأصبهان وسائر

(5/585)


بلاد الجبل وسار إلى العراق وبعث إلى الخليفة في الخطبة كما كانت لملوك بني سلجوق فامتنع الخليفة من ذلك كما مرّ ذلك كله في أخبار دولتهم ثم عاد من العراق سنة ست عشرة وستمائة واستقرّ بنيسابور فوفدت عليه رسل جنكزخان بهدية من نقرة المعدنين ونوافج المسك وحجر اليشم والثياب الخطائية المنسوجة من وبر الإبل البيض ويخبر أنه ملك الصين وما بينها من بلاد الترك ويطلب الموادعة والإذن للتجار بالتردّد لمتاجرهم من الجانبين وكان في خطابه إطراء السلطان خوارزم شاه بأنه مثل أعز أولاده فاستنكف السلطان من ذلك وامتعض له وأجمع عداوته واستدعى محمودا الخوارزمي من رسل جنكزخان واصطنعه ليكون عينا له على صاحبه واستخبره عما قاله في كتابه من أنه ملك الصين واستولى على مدينة طوغاج فصدّق له ذلك وسأله عن مقدار العساكر فقللها وغشه في ذلك ثم نكر عليه الخطاب بالولد ثم صرف الرسل بما طلبوه من الموادعة والإذن للتجار ووصل على أثر ذلك بعض التجار من بلادهم إلى أطرار وبها أنيال خان ابن خال السلطان خوارزم شاه فعثر على أموالهم ورفع إلى السلطان أنهم عيون على البلاد وليسوا بتجار فأمره بالاحتياط عليهم ففعل وأخذ أموالهم وقتلهم خفية وفشا الخبر إلى جنكزخان فبعث بالنكير على السلطان في ذلك وقال له إن كان فعله أنيال خان فابعثه إليّ وتهدّده على ذلك في كتابه فانزعج السلطان لها وقتل الرسل وبلغ الخبر إلى جنكزخان فسار في العساكر إلى بلاده وجبى السلطان من سمرقند خراج سنتين حصن به أسوار سمرقند وجبى ثالثة استخدم بها الفرسان لحمايتها ثم سار للقاء جنكزخان فكانت بينهما واقعة عظيمة هلك فيها كثير من الفريقين فكبسهم وهو غائب عنهم ورجع خوارزم شاه إلى جيحون وأقام عليه وفرّق عساكره في أعمال ما وراء النهر بخارى وسمرقند وترمذ وأنزل آبنايخ من أكبر أمرائه وأصحاب دولته في بخارى وجهلهم لنظره ثم جاء جنكزخان إليه فعبر النهر مجفلا وقصد جنكزخان أطرار فحاصرها وملكها غلابا وأسر أميرها أنيال خان الّذي قتل التجار فأذاب الفضة في أذنيه وعينيه ثم حاصر بخارى وملكها على الأمان وقاتلوا معه القلعة حتى خربها ثم غدر بهم فقتلهم وسباهم وفعل مثل ذلك في سمرقند سنة تسع عشرة ثم كتب كتابا إلى أمراء خوارزم شاه قرابة أمه كأنها أجوبة عن كتبهم إليه باستدعائه والبراءة من خوارزم شاه وذمّه بعقوق أمّه فبسط آمالهم في كتبه ووعد تركمان خاتون أمّ السلطان وكانت في خوارزم فوعدها بزيارة خراسان وأن تبعث من يستخلفه على ذلك وبعث بالكتب من يعترض بها للسلطان فلما قرأها ارتاب بأمّه وبقرابتها فاستوحشوا ووقع التقاطع والنفرة ولما استولى جنكزخان على ما وراء النهر ونجا نائب بخارى في الفل

(5/586)


أجفل السلطان وعبر جيحون ورجع عنه طوائف الخطا الذين كانوا معه وتخاذل الناس وسرّح جنكزخان العساكر في أثره نحوا من عشرين ألفا كانوا يسمونهم التتر المغربة لتوغلهم في البلاد غربي خراسان إلى بلاد القفجاق ووصل السلطان إلى نيسابور فلم يلبث بها وارتحل إلى مازندان والتتر في أثره ثم انتهى إلى همذان فكبسوه هنالك وفرقوا جموعه ونجا إلى جبال طبرستان فأقام بقرية بساحل البحر في فل من قومه ثم كبسه التتر أخرى فركب البحر إلى جزيرة في بحيرة طبرستان وخاضوا في أثره فغلبهم الماء ورجعوا وأقام خوارزم شاه بالجزيرة ومرض بها ومات سنة سبع عشرة وستمائة وعهد لابنه جلال الدين سكري ولما بلغ خبر اجفاله إلى أمّه تركمان خاتون بخوارزم خرجت سارية واعتصمت بقلعة أيلاز من مازندان ورجع التتر عن إتباع خوارزم شاه فافتتحوا قلاع مازندان وملكوها وملكوا قلعة أيلاز صلحا وأسروا أمّ السلطان وبناته وتزوّجهنّ التتر وتزوّج دوشي خان بن جنكزخان واحدة وبقيت تركمان خاتون أسيرة عندهم في ذل وخمول والله سبحانه وتعالى أعلم.
مسير التتر المغربة بعد خوارزم شاه إلى العراق وأذربيجان واستيلاؤهم عليها إلى بلاد قفجاق والروس وبلاد الخزر
ولما رجع التتر المغربة من اتباع خوارزم شاه سنة سبع عشرة عادوا إلى همذان وانتسفوا ما مروا عليه، وصانعهم أهل همذان بما طلبوه، ثم ساروا إلى سنجار كذلك، ثم إلى قومس فامتنعوا منهم وحاصروها وملكوها غلابا وقتلوا أكثر من أربعين ألفا ثم ساروا الى آذربيجان وصانعهم صاحب تبريز وانصرفوا الى موقان ومروا ببلاد الكرج فاكتسحوها وجمعوا لهم فهزموهم واثخنوا فيهم وذلك آخر سنة سبع عشرة ثم عادوا إلى مراغة فملكوها عنوة في صفر سنة ثمان عشرة واستباحوها ورحلوا عنها إلى أربل، وبها مظفر الدين كوكبري. واستمد صاحب الموصل فأمده بالعساكر. ثم استدعاهم الخليفة الناصر إلى دقوقا للمدافعة عن العراق مع عساكره وولى عليهم مظفر الدين صاحب أربل فخام عن لقائهم وخاموا عن لقائه.
وساروا إلى همذان وبها شحنتهم فامتنعوا من مصانعتهم وقاتلوهم فملكوها عنوة واستباحوها واستلحموا أهلها، ورجعوا إلى أذربيجان فملكوا أردبيل واستباحوها وخربوها وساروا إلى تبريز، وقد فارقها أزبك بن البهلوان إلى نقجوان فصانعوهم بالأمان، وساروا إلى

(5/587)


بيلقان وملكوها عنوة وافحشوا في القتل والمثلة واكتسحوا جميع الضاحية. ثم ساروا إلى كنجة قاعدة أرّان فصانعهم أهلها فساروا إلى بلاد الكرج فهزموهم وحاصروهم بقاعدتهم تفليس، وردهم كثرة الأوعار عن التوغل فيها.
ثم قصدوا دربند شروان وحاصروا مدينة سماجي ودخلوه عنوة وملكوه واستباحوه، وأعجزهم الدربند عن المسير فراسلوا شروان في الصلح، فبعث إليهم رجالا من أصحابه فقتلوا بعضهم وقتلوا الباقين أذلاء. وأفضوا من الدربند إلى أرض أسحمة، وبها من القفجاق واللاز والغز وطوائف من الترك مسلمون وكفار أمم لا تحصى. ولم يطيقوا مغالبتهم لكثرتهم فرجعوا إلى التضريب بينهم حتى استولوا على بلادهم. ثم اكتسحوها وأوسعوهم قتلا وسبيا وفر أكثرهم إلى بلاد الروس وراءهم واعتصم الباقون بالجبال والغياض. وانتهى التتر إلى مدينتهم الكبرى سرداق على بحر نيطش المتصل بخليج القسطنطينية وهي مادتهم وفيها تجارتهم فملكها التتر وافترق أهلها في الجبال وركب أهلها البحر إلى بلاد الروم في إيالة بني قليج أرسلان.
ثم سار التتر سنة عشرين وستمائة من بلاد قفجاق إلى بلاد الروس المجاورة لها، وهي بلاد فسيحة وأهلها يدينون بالنصرانية فساروا إلى مدافعتهم في تخوم بلادهم، ومعهم جموع من القفجاق أياما. ثم انهزموا واثخن فيهم التتر قتلا وسبيا ونهبا، وركبوا السفن هاربين إلى بلاد الإسلام وتركوا بلادهم فاكتسحها التتر، ثم عادوا عنها وقصدوا بلغار آخر السنة.
واجتمع أهلها وساروا للقائهم بعد أن أكمنوا لهم ثم استطردوا أمامهم وخرج عليهم الكمناء من خلفهم فلم ينج منهم إلا القليل. وارتحلوا عائدين إلى جنكزخان بأرض الطالقان، ورجع القفجاق إلى بلادهم واستقروا فيها. والله تعالى ولي التوفيق بمنه وكرمه.
مسير جنكزخان إلى خراسان وتغلبه على أعمالها وعلى خوارزم شاه
وكان جنكزخان بعد أن أجفل خوارزم شاه في جيحون ومسير التتر المغربة في طلبه ملك سمرقند فبعث عسكرا إلى ترمذ، وعسكرا إلى خوارزم وعسكرا إلى خراسان. وكان عسكر خوارزم أعظمها لأنها كرسي الملك ومأوى العساكر، وبعث مع العساكر ابنه جفطاي وأركطاي فحاصروها خمسة أشهر، وامتنعت فأمدهم جنكزخان بالعساكر متلاحقة، وملكوها ناحية إلى أن استوعبوا. ثم نقبوا السد الّذي يمنع ماء جيحون عنها فسال إليها

(5/588)


جيحون ففرقها وتقسم أهلها بين السند والعراق، وهكذا قال ابن الأثير. وقال النسابي كاتب جلال الدين: إن دوشي خان عرض عليهم الأمان وخرجوا إليه فقتلهم أجمعين وذلك في محرّم سنة سبع عشرة وعاد دوشي خان والعساكر إلى جنكزخان فوجدوه بالطالقان.
وأما عسكر ترمذ فساروا إليها وملكوها وتقدموا إلى كلابه من قلاع جيحون فملكوها وخربوها، وعسكر فرغانة كذلك. وأما عسكر خوارزم فعبروا إلى بلخ وملكوها على الأمان سنة سبع عشرة وأنزلوا بها شحنة. ثم ساروا إلى الزوزان وأيد حور ومازندان فملكوها وولوا عليها. ثم ساروا إلى الطالقان وحاصروا قلعة صاركوه وكانت منيعة، وجاءهم جنكزخان بنفسه بعد امتناعها ستة أشهر فحاصروها أربعة أشهر أخرى. ثم أمر بنقل الخشب والتراب ليجتمع به تل يتعالى به البلد. فلما استيقنوا الهلكة فتحوا الباب وصدقوا الحملة فنجا الخيالة وتفرقوا في البلاد والشعاب وقتل الرجالة ودخل التتر فاستباحوها. وبعث جنكزخان عسكرا إلى سبا مع صهره قفجاق نون فقتل في حصارها ثم ملكوها فاستباحوها وخربوها.
ويقال قتل فيها أكثر من سبعين ألفا. ثم بعث جنكزخان في العساكر إلى مدينة مرو، وقد كان الناجون من هذه الوقائع انزووا إليها فاجتمعوا بظاهرها أكثر من مائتي ألف لا يشكون في الظفر، فلما زحف إليهم التتر ولوا منهزمين وأثخنوا فيهم. ثم حاصروا البلد خمسة أشهر واستنزلوا أميرها على الأمان. ثم قتلوهم جميعا وحضر جنكزخان قتلهم. يقال قتل فيها سبعمائة ألف. ثم ساروا إلى نيسابور فاقتحموها عنده وقتلوا وعاثوا، ثم إلى طرابلس كذلك. ثم ساروا إلى هراة فملكوها على الأمان وأنزلوا عندهم الشحنة وعادوا إلى جنكزخان بالطالقان، وهو يرسل العساكر والسرايا في نواحي خراسان حتى أتوا عليها تخريبا، وذلك كله سنة سبع عشرة، والله تعالى أعلم.
إجفال جلال الدين ومسير التتر في إتباعه وفراره إلى الهند
ثم بعث العساكر في طلب جلال الدين وقد كان بعد مهلك أبيه وخروج تركمان خاتون من خوارزم سار إليها وملكها واجتمع إليه الناس ثم نمي إليه أنّ قرابة تركمان خاتون وهم البياروتية مالوا إلى أخيه يولغ شاه وابن أختهم وأنهم يريدون الوثوب بجلال الدين ففرّ ولحق بنيسابور وجاءت عساكر التتر إلى خوارزم فأجفل يولغ شاه وأخواه ليلحقوا به بنيسابور فأدركهم التتر وهم محاصرون قلعة قندهار فاستلحمهم ثم سار إلى غزنة فملكها من يد الثوار الذين استولوا عليها أيام هذه الفتنة وذلك سنة ثمان عشرة ولحق به أمراء أبيه الذين تغلبوا على نواحي

(5/589)


خراسان في هذه الفتنة وأزعجهم التتر عنها فحضروا مع جلال الدين كبسه التتر بقلعة قندهار ولحق فلهم بجنكزخان وبعث ابنه طولي خان لقتال جلال الدين فهزمه جلال الدين وقتله ولحق الفل من عساكره بجنكزخان فسار في أمم التتر ولقي جلال الدين فانهزم ولم يفلت من التتر إلا الأقلّ ورجع جلال الدين فنزل على نهر السند وقد كان جماعة من أمرائه انعزلوا عنه يوم الواقعة الأولى بسبب الغنائم فبعث إليهم يستألفهم فعاجله جنكزخان وقاتله ثلاثا ثم هزمه واعترضه نهر السند فاقتحمه وخلص إلى السند بعد أن قتل حرمه أجمعين وذلك سنة ثمان عشرة والله تعالى أعلم.
أخبار غياث الدين بن خوارزم شاه مع التتر
كان خوارزم شاه قد قسم الملك بين ولده فجعل العراق لغورنشاه وكرمان لغياث الدين تمر شاه فلم ينفذ إليها أيام أبيه فلما فرّ خوارزم شاه إلى ناحية الريّ لقيه ابنه غورنشاه صاحب العراق ثم كانت واقعة التترية على حدوى ولحق خوارزم شاه بجزيرة طبرستان ولحق غورنشاه بكرمان ثم رجع واستولى على أصبهان وعلى الري ثم زحف التتر إليه وحاصروه بقلعة أوند وقتلوه وكان أخوه غياث الدين بكرمان وملكه بينه وبين بقا طرابلسي أتابكه وفرّ إلى ناحية أذربيجان واستولى غياث الدين على العراق ومازندان وخوزستان فأقطع بقا طرابلسي همذان ثم سار غياث الدين إلى أذربيجان فصانعه صاحبها أزبك بن البهلوان ولحق به من كان متغلبا من أمراء أبيه بخراسان وكان أبنايخ خان نائب بخارى قد تغلب بعد الواقعة على نسا ونواحيها وجرجان وعلى شيروان وعامّة خراسان وكان تكين بهلوان متغلبا على مرو فعبر جيحون سنة سبع عشرة وكبس شحنة التتر وأتبعوه إلى شيروان ولقوا إبنايخ خان على جرجان فهزموه ونجا فلهم إلى غياث الدين على العراق والريّ وما وراءها في الجنوب من موكان وأذربيجان وبقيت خوارزم طوائف وفي كلّ ناحية منها متغلب وعساكر التتر في كلّ وقت تدوّخ بلاد العراق وغياث الدين منهمك في لذاته والله تعالى أعلم.
رجوع جلال الدين من الهند واستيلاؤه على العراق وكرمان وأذربيجان ثم زحف التتر إليه
ثم رجع جلال الدين من الهند سنة إحدى وعشرين واستولى على ملك أخيه غياث الدين

(5/590)


بالعراق وكرمان وبعث إلى الخليفة يطلب الخطبة فلم يسعف فاستعدّ لمحاربته وقد كانت بلاد الري من بعد تخريب التتر المغربة لها عاد إليها بعض أهلها وعمروها فبعث إليها جنكزخان عسكرا من التتر فخربوها ثانية وخربوا ساوة وقم وقاشان وأجفل أمامهم عسكر خوارزم شاه من همذان فخربوها واتبعوهم فكبسوهم في حدود أذربيجان ولحق بعضهم بتبريز والتتر في اتباعهم فصانعهم صاحبها أزبك بن البهلوان وبعث بهم إلى التتر الذين في أتباعهم بعد أن قتل جماعة منهم وبعث برءوسهم وبالأموال على سبيل المصانعة فرجعوا عن بلاده وسار جلال الدين إلى أذربيجان سنة اثنتين وعشرين فملكها وكانت له فيها أخبار ذكرناها في دولته ثم بلغ السلطان جلال الدين أنّ التتر زحفوا من بلادهم وراء النهر إلى العراق فنهض من تبريز للقائهم في رمضان سنة خمس وعشرين ولقيهم على أصبهان وإنفض عنه أخوه غياث الدين في طائفة من العساكر وانهزمت ميسرة التتر وسار السلطان في اتباعهم وقد أكمنوا له وأحاطوا به واستشهد جماعة ثم صدق عليهم الحملة فأفرجوا له ومضى لوجهه وانهزمت العساكر إلى فارس وكرمان وأذربيجان ورجع المتبعون للتتر من قاشان فوجدوه قد انهزم فافترقوا أشتاتا ولحق السلطان بأصبهان بعد ثمانية أيام فوجد التتر يحاصرون أصبهان فبرز إليهم في عساكرها وهزمهم وأتبعهم إلى الريّ وبعث العساكر في اتباعهم إلى خراسان ورجع إلى أذربيجان وأقام بها وكانت له فيها أخبار مذكورة في دولته والله سبحانه وتعالى أعلم
مسير التتر إلى أذربيجان واستيلاؤهم على تبريز واقعتهم على جلال الدين بآمد ومقتله
كان التتر لما استقرّوا فيما وراء النهر عمروا تلك البلاد واختطوا قرب خوارزم مدينة عظيمة تعوض منها وبقيت خراسان خاوية واستبد بالمدن فيها طوائف من الأمراء أشباه الملوك يعطون الطاعة للسلطان جلال الدين منذ جاء من الهند وانفرد جلال الدين بملك العراق وفارس وكرمان وأذربيجان وأران وما إلى ذلك وبقيت خراسان مجالا لغزاة التتر وعساكرهم وسارت طائفة منهم سنة خمس وعشرين إلى أصبهان وكانت بينهم وبين جلال الدين الواقعة كما مرّ ثم زحف جلال الدين إلى خلاط وملكها. وزحف إليه صاحبها الأشرف بن العادل من الشام وعلاء الدين كيقباد صاحب بلاد الروم، وأوقعوا به كما مرّ في أخباره سنة سبع

(5/591)


وعشرين، الواقعة التي أوهنت منه وحلّت عرى ملكه. وكان مقدم الإسماعيلية بقلعة الموت عدوا لجلال الدين بما أثخن في بلاده، وقرّر عليه وظائف الأموال، فبعث إلى التتر يخبرهم أن الهزيمة أوهنته ويحثهم على قصده، فسار إلى أذربيجان أول سنة ثلاث وعشرين.
وبلغ الخبر إلى السلطان بمسيرهم فرحل من تبريز إلى موقان وأقام بها في انتظار شحنة خراسان ومازندران، وشغل بالصيد فكبسه التتر ونهبوا معسكره، وخلص إلى نهر رأس من أرّان. ثم رجع إلى أذربيجان وشتّى بماهان. ثم جاءه النذير بمسير التتر إليه فرحل إلى أرّان وتحصن بها، وثار أهل تبريز لما بلغهم خبر الوقعة الأولى بمن عندهم من عساكر الخوارزمية وقتلوهم، ومنعهم رئيسهم الطغرياني من طاعة التتر. ووصل للسلطان جلال الدين ثم هلك قريبا فسلحوا بلادهم للتتر، وكذا فعل أهل كنجة وأهل سلعار. ثم سار السلطان إلى كنجة وارتجعها وقتل المعترضين للثورة فيها، وسار إلى خلاط واستمد الأشرف بن العادل صاحب الشام فعلله بالمواعيد، وسار إلى مصر ويئس من إنجاده فبعث إلى جيرانه من الملوك يستنجدهم مثل صاحب حلب وآمد وماردين. وجرّد عسكرا إلى بلاد الروم في خرت برت وملطية وأذربيجان فاقتحموها لما بين صاحبها كيقباد وبين الأشرف من الموالاة فاستوحش جميع الملوك من ذلك وقعدوا عن نصرته. وجاءه الخبر وهو بخلاط أن التتر زحفوا إليه فاضطرب في رحله، وبعث أتابكه أو ترخان في أربعة آلاف فارس طليعة، فرجع وأخبره أن التتر رجعوا من حدود ملازكرد، وأشار عليه قومه بالمسير إلى أصفهان، وزيّن له صاحب آمد قصد بلاد الروم وأطمعه في الاستيلاء عليها ليتصل بالقفجاق ويستظهر بهم على التتر، ووعده الإمداد بنفسه يروم الانتقام من صاحب بلاد الروم لما ملك من قلاعه فخيم وعدل عن أصفهان ونزل بآمد. وبعث إليه التركمان بالنذير وأنهم رأوا نيران التتر فاتهم خبرهم. وصحبه التتر على آمد منتصف شوال سنة ثمان وعشرين وأحاطوا بخيمته، وحمل عليهم أتابكه أوترخان وكشفهم عن الخيمة. وركب السلطان وأسلم أهله وسواده، ورد أو ترخان العساكر وانتبذ ليتوارى عن عين العدو. وسار أوترخان الى أصفهان واستولى عليها الى أن ملكها التتر من يده سنة تسع وثلاثين. وذهب السلطان منجفلا [1] وقد امتلأت الدربندات والمضايق بالمفسدين من غير صنوفهم بالقتل والنهب، فأشار عليه أوترخان بالرجوع، فرجع إلى قرية من قرى ميافارقين ونزل في بيدرها وفارقه أو ترخان إلى حلب.
وهجم التتر على السلطان بالبيدر وقتلوا من كان معه، وهرب فصعد إلى جبل الأكراد وهم
__________
[1] ذهب ... (لغة ابن خلدون) .

(5/592)


مترصدون الطرق للنهب فسلبوه وهموا بقتله. وشعر بعضهم أنه السلطان فمضى به إلى بيته ليخلصه إلى بعض النواحي، ودخل البيت في مغيبه بعض سفلتهم وهو يريد الثأر من الخوارزمية بأخ له قتل بخلاط فقتله، ولم يغن عنه أهل البيت. ثم انتشر التتر بعد هذه الواقعة في سواد آمد وأرزن وميافارقين وسائر ديار بكر فاكتسحوها وخربوها، وملكوا مدينة أسعرد عنوة فاستباحوها بعد حصار خمسة أيام، ومرّوا بميافارقين فامتنعت، ثم وصلوا إلى نصيبين فاكتسحوا نواحيها، ثم إلى سنجار وجبالها والخابور. ثم ساروا إلى أيدس فأحرقوها، ثم إلى أعمال خلاط فاستباحوا هاكري وأرجيش. وجاءت طائفة أخرى من أذربيجان إلى أعمال أربل ومرّوا في طريقهم بالتركمان الأيوبيّة والأكراد الجوزقان فنهبوا وقتلوا، وخرج إليهم والي أربل مستمدا أهلها وعساكر الموصل فلم يدركوهم فعادوا وبقيت البلاد قاعا صفصفا. والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
التعريف بجنكزخان وقسمة الأعمال بين ولده وانفراده بالكرسي في قراقوم [1] وبلاد الصين
هذا السلطان جنكزخان هو سلطان التتر لعهده ثم من المغل أحد شعوبهم، وفي كتاب لشهاب الدين بن فضل الله: أنه من قبيلة أشهر قبائل المغل وأكبرهم، (وزايه التي بين الكاف والخاء ليست صريحة وإنما مشتملة بالصاد فينطق بها بين الصاد والزاي) وكان اسمه تمرجين ثم أصاروه جنكزخان تمام الاسم وهو بمعنى الملك عندهم. وأما نسبته فهي هكذا: جنكز بن بيسوكي بن بهادر بن تومان برتيل خان بن تومينه بن باد سنقر بن تيدوان ديوم بن بقا بن مودنجة، أحد عشر اسما أعجميا صعبة الضبط وهذا منحاها. وفي كتاب ابن فضل الله فيما نقله عن شمس الدين الأصفهاني إمام المعقولات بالمشرق أخذها عن أصحاب نظير الدين الطوسي قال: أنّ مودنجة اسم امرأة وهي جدتهم من غير أب.
قالوا: وكانت متزوجة وولدت ولدين اسم أحدهما بكتوت والآخر بلكتوت، ويقال لولدها بنو الدلوكية. ثم مات زوجها وتأيمت وحملت وهي أيم فنكر عليها أقرباؤها فذكرت أنها رأت بعض الأيام نورا دخل في فرجها ثلاث مرات، وطرأ عليها الحمل
__________
[1] قراقوم: بفتح القاف والراء المهملة وألف وقاف مضمومة وواو ساكنة وميم، معناه الرمل الأسود بالتركية. قال ابن سعيد: وقراقوم كانت قاعدة التتر، وفي جهاتها بلاد المغل، وهم خالصة التتر ومنها خاناتهم (تقويم البلدان لأبي الفداء) .

(5/593)


بعده. وقالت لهم: إن في حملها ثلاثة ذكور، فإن صدق ذلك عند الوضع وإلا فافعلوا ما بدا لكم. فوضعت ثلاثة توائم من ذلك الحمل فظهرت براءتها بزعمهم، اسم أحدهم: برقد والآخر قونا والثالث نجعو وهو جد جنكزخان الّذي في عمود نسبه كما مرّ، وكانوا يسمونهم النورانيين نسبة الى النور الّذي ادعته. ولذلك يقولون جنكزخان ابن الشمس.
وأما أوليته فقال يحيى بن أحمد بن علي النسابي كاتب جلال الدين خوارزم شاه في تاريخ دولته أنّ مملكة الصين متسعة ودورها مسيرة تسعة أشهر وهي منقسمة من قديم الزمان على تسعة أجزاء كلّ جزء منها مسيرة شهر ويتولى ملك كل جزء منها ملك يسمى بلغتهم خان ويكون نائبا عن الخان الأعظم قال وكان الأعظم الّذي عاصر خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش يقال له طرخان توارثها عن آبائه وكان مقيما بطوغاج وهي وسط الصين وكان جنكزخان من أولئك الخانات الستة وكان من سكان البدو ومن أهل النجدة والشرف وكان مشتاه فارعون من بلاد الصين وكان من خاناتهم أيضا ملك آخر اسمه دوشي خان كان متزوّجا بزوجة جنكزخان واتفقت وفاته فحضر جنكزخان يوم وفاة زوجها دوشي خان فولته مكانه وحملت قومها على طاعته وبلغ الخبر إلى الخان الأعظم طرخان فنكر ذلك وزحف إليهم فقاتلوه وهزموه وغلبوه على أثر بلاده ثم صالحهم عليها وأقام متغلبا ثم مات بقية الخانات الستة وانفرد جنكزخان بأمرهم جميعا وأصبح ملكهم وكان بينه وبين خوارزم شاه من الحروب ما قدّمناه وفي كتاب ابن فضل الله محكيا عن الصاحب علاء الدين عطاء وحدّثه به قال كان ملك عظيم من التتر في قبيلة عظيمة من قبائلهم يدعى أزبك خان وكان مطاعا في قومه فاتصل به جنكزخان فقرّبه واستخلصه ونافسه قرابة السلطان وسعوا به عنده حتى استفسدوه عليه وطوى له وتربص به وسخط أزبك خان على مملوكين عنده فاستجارا بجنكزخان فأجارهما وضمن لهما أمانه وأطلعاه على رأي السلطان فيه فاستوحش وحذر وثبة السلطان فأجفل أمامه وأتبعه السلطان في عساكره فلما أدركه كرّ عليه جنكزخان فهزمه وغنم سواده وما معه ثم استمرّت العداوة وانتبذ عن السلطان واستألف العساكر والأتباع وأفاض فيهم الإحسان فاشتدّت شوكته ودخل في طاعته قبيلتان عظيمتان من المغل وهما أورات ومنفورات فعظمت جموعه وأحسن إلى المملوكين اللذين حذراه من أزبك خان ورفع رتبتهما وكتب لهما العهود بما اختاراه وكتب فيها أن يستمرّ ذلك لهما إلى تسعة بطون من أعقابهما ثم جهز العساكر لحرب أزبك خان فهزمه وقتله واستولى على مملكة التتر بأسرها ولما

(5/594)


توطأ أمره تسمى جنكزخان وكان اسمه تمرجين كما مرّ وكتب لهم كتابا في السياسة سماه السياسة الكبيرة ذكر فيه أحكام السياسة في الملك والحروب والأحكام العامّة شبه أحكام الشرائع وأمر أن يوضع في خزانته وأن تختص بقرابته ولم يكن يؤتى بمثله وإنما كان دينه ودين آبائه وقومه المجوسية حتى ملكوا الأرض واستفحلت دولتهم بالعراق والشمال وما وراء النهر وأسلم من ملوكهم من هداه الله للإسلام كما نذكره إن شاء الله تعالى فدخلوا في عدد ملوك الإسلام إلى أن انقرضت دولهم وانقضت أيامهم والبقاء للَّه وحده وأما ولده فكثير وهو الّذي يقتضيه حال بداوته وعصبيته إلا أنّ المشهور منهم أربعة أولهم دوشي خان ويقال جرجي وثانيهم جفطاي ويقال كداي وثالثهم أوكداي ويقال أوكتاي ورابعهم طولي بين التاء والطاء والثلاثة الأول لأمّ واحدة وهي أوبولى بنت تيكي من كبار المغل وعدّ شمس الدين الأصبهاني الأربعة فقال جرجي وكداي وطولي وأوكداي وقال نظام الدين يحيى بن الحليم نور الدين عبد الرحمن الصيادي كاتب السلطان أبي سعيد فيما نقله عنه شهاب الدين بن فضل الله أنّ كداي هو جفطاي وجرجي هو طوشي فلما ملك جنكزخان البلاد قسم الممالك فكان لولده طوشي بلاد فيلاق إلى بلغار وهي دست القفجاق وأضاف إليه أران وهمذان وتبريز ومراغة وعيرلان وكتاي حدود آمد وقوباق وما أدري تفسير هذه وجعله ولي عهده وعين لجفطاي من الأيقور إلى سمرقند وبخارى وما وراء النهر ولم يعين لطولي شيئا وعين لأخيه أوتكين نوى بلاد أبخت ولا أدري معنى هذا الاسم ولما استفحل ملكه واستولى على هذه الممالك جلس على التخت وانتقل إلى وطنه القديم بين الخطا وإلا يقور وهو تركستان وكاشغر وفي ذلك الوطن مدينة قراقوم وبها كان كرسيه ومكانه بين أعمال ولده مكان المركز من الدائرة وكان كبير ولده طوشي ويقال دوشي ومات في حياته وخلف من الولد ناخوا وبركة وداوردة وطوفل هكذا قال ابن الحكيم وقال شمس الدين ناظو وبركة فقط ومات طولي أيضا في حياته في حربه مع جلال الدين خوارزم شاه بنواحي غزنة وخلف من الولد منكو قبلاي وأزبيك وهلاكو والله تعالى أعلم بغيبه وأحكم
.

(5/595)


ملوك التخت بقراقوم من بعد جنكزخان
قال ابن فضل الله ولما هلك جنكزخان استقلّ أوكد اي بالتخت وبدست القفجاق وما معه وكان أصغر ولده وانتقل إلى قراقوم بمكانهم الأصلي فاعطى وقراياق التي كانت بيده لابنه كفود ولم يتمكن كداي وهو جفطاي من مملكة ما وراء النهر ونازع ناظو بن دوشي خان في أران وهمذان وتبريز ومراغة وبعث أميرا من أمرائها لحمل أموالها والقبض على عماله بها وقد كان ناظو كتب اليهم بالقبض على ذلك الأمير فقبضوا عليه وحملوه إلى ناظو فطحنه وبلغ ذلك إلى كفود فسار إلى ناظو في ستمائة ألف من العساكر وهلك قبل أن يصل اليه بعشر مراحل فبعث القوم إلى ناظو أن يكون صاحب التخت فأبى وجعله لأخيه منكوفان بن طولي وبعثه اليه وأخويه معه قبلاي وهلاكو وبعث معهم أخاه بركة بن طولي في مائة ألف من العساكر ليجلسه على التخت فلما عاد من بخارى لقي الشيخ شمس الدين الباخوري من أصحاب نجم الدين كبير الصوفية فأسلم على يده وتأكدت صحبته ومعه وحرضه على التمسك بطاعة الخليفة ومكاتبته المعتصم ومبايعته ومهاداته وتردّدت الرسل بينه وبين المعتصم وتأكدت الموالاة واستقل منكوفان بالتخت وولى أولاد جفطاي عمه على ما وراء النهر إمضاء لوصية جنكزخان لأبيهم التي مات دونها ووفد عليه جماعة من أهل قزوين وبلاد الجبل يشكون ما نزل بهم من ضرر الإسماعيلية وفسادهم فجهز أخاه هلاكو لقتالهم واستئصال قلاعهم فمضى لذلك وحسن لأخيه منكوفان الاستيلاء على أعمال الخليفة فأذن له فيه وبلغ ذلك بركة فنكره على أخيه ناظو الّذي ولى منكوفان لما كان بين بركة والمعتصم من الولاية والوصلة بوصية الشيخ الباخوري فبعث ناظو إلى أخيه هلاكو بالنهي عن ذلك وأن لا يتعدّى مكانه وبلغته رسل ناظو بذلك وهو فيما وراء النهر قبل أن يفصل بالعساكر فأقام سنين امتثالا لأمره حتى مات ناظو وتولى بركة مكانه فاستأذن أخاه منكوفان ثانية وسار لقصد الملاحدة وأعمال الخليفة فأوقع بالملاحدة وفتح قلاعهم واستلحمهم وأوقع بأهل همذان واستباحهم لميلهم إلى بركة وأخيه ناظو ثم سار إلى بركة بدست القفجاق فزحف اليه بركة في جموع لا تحصى والتقيا واستمرّ القتل في أصحاب هلاكو وهمّ بالهزيمة ثم حال نهر الكرّ بين الفريقين وعاد هلاكو في البلاد واستحكمت العداوة بينهما وسار هلاكو إلى بغداد فكانت له الواقعة المشهورة كما مرّ ويأتي في أخبار دولته إنشاء الله تعالى وفي كتاب ابن فضل الله فيما نقله عن شمس الدين الأصبهاني أنّ هلاكو لم يكن مستقلا بالملك وانما كان نائبا

(5/597)


عن أخيه منكوفان ولا ضربت السكة باسمه ولا ابنه ابغا وانما ضربها منهم ارغو حين استقل فجعل اسمه في السكة مع اسم صاحب التخت قال وكان شحنة صاحب التخت لا يزال ببغداد إلى أن ملك قازان فطرد الشحنة وأفرد اسمه في السكة وقال ما ملكت البلاد الا بسيفي وبيت جنكزخان يرون أنّ بني هلاكو انما كانوا ثوارا وجنكزخان لم يملك طولي شيئا وأنّ أخاه منكوفان الذين ولاه عليها انما بعثه نائبا مع أنّ منكوفان انما ولاه ناظو بن دوشي خان كما مرّ قال ونقل عن ثقات أنه لم يبق هلاكو من يحقق نسبه لكثرة ما وقع فيهم من القتل غيرة على الملك ومن نجا طلب الاختفاء بشخصه فخفي نسبه الا ما قيل في محمل المنسوب إلى بحرحي قال شمس الدين الأصبهاني ونقله عن أمير كبير منهم أنّ أوّل من استقل بالتخت جنكزخان ثم ابنه أوكداي ثم ابنه كفود بن اوكداي ثم منكوفان بن طولي ثم أخوه اربيكان ثم أخوهما قبلاي ثم دمرفاي ويقال تمرفاي ثم تربى كيزي ثم كيزقان ثم سند مرقان بن طرما لابن جنكمر بن قبلاي بن طولي انتهى كلام ابن فضل الله وعن غيره أنّ منكوفان جهز عساكر التتر أيام ملكه على التخت إلى بلاد الروم سنة [1] مع أمير من أمراء المغل اسمه بيكو فملكها من يد بني قليج ارسلان كما هو مذكور في أخبارهم فأقامت في طاعة القان إلى أن انقرض أمر المغل منها ثم بعث منكوفان العساكر لغزو بلاد الخطا مع أخيه قبلاي بعد أن عهد له بالخانية ثم سار على اثره بنفسه واستخلف أخاه الآخر ازبك على كرسي قراقوم وهلك منكوفان في طريقه ذلك على نهر الطاي من بلاد الغور سنة ثمان وخمسين فجلس ازبك على التخت وعاد قبلاي من بلاد الخطا فزحف اليه ازبك فهزمه إلى بعض النواحي واستأثر بالغنائم عن اخوته وقومه فمالوا إلى طاعة قبلاي واستدعوه فجاء وقاتل أخاه ازبك فغلبه وتقبض عليه وحبسه واستقرّ في الغانية وبلغ الخبر إلى هلاكو وهو في الشام عند ما استولى عليه فرجع لما كان يؤمّله من الغانية ولما انتهى إلى جيحون بلغه استقلال أخيه قبلاي في الغانية وتبين له عجزه عنه فسالمه وقنع بما في يده ورجع إلى العراق ثم نازع قبلاي في الغنية لآخر دولته سنة سبع وثمانين بعض بني أوكداي صاحب التخت الأول وهو قيدو بن قاشي بن كفود بن أوكداي ونزع اليه بعض أمراء قبلاي وزينوا له ذلك فسار له وبعث قبلاي العساكر للقائه مع ابنه تمقان فهزمه قيدو ورجع منهزما إلى أبيه فسخطه وطرده إلى بلاد الخطا ومات هنالك وسلط قبلاي على قيدو وكان غلب على ما وراء النهر براق بن سنتف بن منكوفان بن جفطاي من بني جفطاي ملوك ما وراء النهر بوصية أبيهم جنكزخان
__________
[1] بياض بالأصل، ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على هذه السنة.

(5/598)


فغلبه براق واستولى على ما رواء النهر ثم هلك قبلاي صاحب التخت سنة ثمان وثمانين وملك ابنه سرتموق هذا ما انتهى إلينا من أخبار ملوك التخت بقراقوم من بني جنكزخان ولم نقف على غيرها والله تعالى ولىّ التوفيق بمنه وكرمه
.

(5/599)


ملوك بني جفطاي بن جنكزخان بتركستان وكاشغر وما وراء النهر
هذا الإقليم هو مملكة الترك الاولى قبل الإسلام وأسلم ملوكهم على تركستان وكاشغر فأقاموا بها وملك بنو سامان نواحي بخارى وسمرقند واستبدّوا ومنها كان ظهور السلجوقية والتتر من بعدهم ولما استولى جنكزخان على البلاد أوصى بهذه المملكة لابنه جفطاي ولم يتمّ ذلك في حياته ومات جفطاي دونه فلما ولي منكوفان بن طولي على التخت ولى أولاد جفطاي عمه على ما وراء النهر إمضاء لوصية جنكزخان لأبيهم التي مات دونها وولى منكوفان فلما هلك ولى أخوه هلاكو ابنه مبارك شاه ثم غلب عليهم قيدو بن قاشي بن كفود بن أوكداي بن جنكزخان وانتزع ما وراء النهر من أيديهم وكان جدّه كفوك صاحب التخت وبعده ولي منكوفان فلما ولي قيدو نازع صاحب التخت يومئذ وهو قبلاي وكانت بينهما حروب وأعان قبلاي في خلالها بني جفطاي على استرجاع ملكهم وولي منهم براق بن سنتف بن منكوفان بن جفطاي وأمدّه بالعساكر والأموال فغلب قيدو بن قاشي بن كفود بن أوكداي بن جنكزخان وانتزع من صاحب التخت يومئذ واستبدّ بملك آبائه ثم هلك فولي من بعده دوا ثم من بعد دوا بنون له أربعة واحدا بعد واحد وهم كجك ثم اسعا ثم كبك ثم انجكداي ثم ولي بعد الأربعة دواتمر ثم ترماشين ثم توزون بن أوماكان بن منكوفان بن جفطاي وتخلل هؤلاء من توثب على الملك ولم ينتظم له مثل سيساور بن اركتم بن بغاتمر بن براق ولم يزل ملكهم بعد ترماشين مضطربا إلى أن ملك منهم جنقصو بن دواتمر بن حلو بن براق بن سنتف كانوا كلهم على دين المجوسية وخصوصا دين جنكزخان وعبادته الشمس وكان فيما يقال على دين النجشية فكان بنو جفطاي يعضون عليها بالنواجذ ويتبعون سياسته مثل أصحاب التخت فلما صار الملك إلى ترماشين منهم أسلم رحمه الله سنة خمس وعشرين وسبعمائة وجاهد وأكرم التجار المتردّدين وكانت تجار مصر ممنوعين من بلاده فلما بلغهم ذلك قصدوها فحمدوها ولم انقرضت دول بني جنكزخان وتلاشت في جميع النواحي ظهر في أعقاب دولة بني جفطاي هؤلاء بسمرقند وما وراء النهر ملك اسمه تمر ولا أدري كيف كان يتصل نسبه فيهم ويقال انه من غير نسبهم وانما هو متغلب على صبيّ من أعقاب ملوكهم اسمه طغتمش أو محمود درج اسمه بعد مهلك أبيه واستبدّ عليه وأنه من أمرائهم وأخبرني من لقيته من أهل الصين أنّ أباه أيضا كان في مثل مكانه من الامارة والاستبداد وما أدري أهو

(5/600)


طيبة في نسب جفطاي أو من أحلافهم واتباعهم وأخبرني الفقيه برهان الدين الخوارزمي وهو من علماء خوارزم وأعيانها قال كان لعصره وأوّل ظهوره ببخارى رجل يعرف بحسن من أمراء المغل وآخر بخوارزم من ملوك صراي أهل التخت يعرف بالحاج حسن الصوفي تهيأ وزحف إلى بخارى فملكها من يد حسن ثم إلى خوارزم وطالت حروبه مع الحاج حسن الصوفي وحاصرها مرارا وهلك حسن خلال ذلك وولي أخوه يوسف فملكها تمر من يده وخربها في حصار طويل ثم كلف بعمارتها وبناء ما خرب منها وانتظم له الملك بما وراء النهر ونزل قجارى ثم زحف إلى خراسان فملك هراة من يد صاحبها وأظنه من بقايا ملوك الغورية ثم زحف إلى مازندان وطال تمرّسه وحروبه مع صاحبها الشيخ ولي إلى أن ملكها عليه سنة أربع وثمانين ولحق الشيخ ولي بتوريز إلى أن ملكها تمر سنة ثمان وثمانين فهلك في حروبه معها ثم زحف إلى أصبهان فآتوه طاعة ممرّضة وخالفه في قومه كبير من أهل نسبه يعرف بمعمر الدين وأمدّه طغتمش صاحب التخت بصراي فكرّ راجعا وشغل بحر به إلى أن غلبه ومحا أثره وغلب طغتمش على ما بيده من البلاد ثم زحف إلى بغداد سنة خمس وتسعين فأجفل عنها ملكها أحمد بن أويس ابن الشيخ حسن المتغلب عليه بعد بني هلاكو فلحق أحمد ببر الشأم سنة ست وتسعين واستولى تمر على بغداد والجزيرة وديار بكر إلى الفرات واستعدّ ملك مصر للقائه ونزل الفرات فأحجم عنه وتأخر عنه إلى قلاع الأكراد وأطراف بلاد الروم وأناخ على قراباغ ما بين أذربيجان والأبواب ورجع خلال ذلك طغتمش صاحب التخت إلى صراي وملكه فسار اليه تمر أوّل سنة سبع وتسعين وغلبه على ملكه وأخرجه عن سائر ممالكه ثم وصل الخبر آخر السنة بظفره بطغتمش وقتله إياه واستيلائه على جميع أعماله والحال على ذلك لهذا العهد والله وارث الأرض ومن عليها وفي خبر العجم أنّ ظهوره سنة عذب يعنون سنة اثنين وسبعين وسبعمائة بحساب الجمل في حروف هذه اللفظة والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق بمنه وكرمه.

(5/601)


الخبر عن ملوك بني دوشي خان من التتر ملوك خوارزم ودست القفجاق ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم
قد تقدّم لنا أنّ جنكزخان عين هذه البلاد لابنه دوشي خان وملكه عليها وهي مملكة متسعة في الشمال آخذة من خوارزم إلى ناركند وصفد وصراي إلى مدينة ما جرى واران وسرادق وبلغار وباشقرد وجدلان وفي حدود هذه المملكة مدينة باكو من مدن شروان وعندها باب الحديد ويسمونه دمرقفو وسمر حدود هذه المملكة في الجنوب إلى حدود القسطنطينية وهي قليلة المدن كثيرة العمارة والله تعالى أعلم.

(5/602)


دوشي خان بن جنكزخان
وأوّل من وليها من التتر دوشي خان فلم يزل ملكا عليها إلى أن هلك في حياة أبيه كما مرّ سنة.
ناظو خان بن دوشي خان
ولما هلك دوشي خان ولي مكانه ابنه ناظو خان ويقال صامر خان ومعناه الملك المغير فلم يزل ملكا عليها إلى أن هلك سنة خمسين وستمائة.
طرطو بن دوشي خان
ولما هلك ناظو ولي أخوه طرطو فأقام ملكا سنتين وهلك سنة اثنتين وخمسين ولما هلك ولي مكانه أخوه بركة هكذا نقل ابن فضل الله عن ابن الحكيم وقال المؤيد صاحب حماة في تاريخه انه لما هلك طرطو هلك من غير عقب وكان لأخيه ناظو خان ولدان وهما تدان وبركة وكان مرشحا للملك فعدل عنه أهل الدولة وملكوا أخاه بركة وسارت أمّ تدان إلى هلاكو عند ما ملك العراق تستحثه لملك قومها فردّوها من الطريق وقتلوها واستمرّ بركة في سلطانه انتهى فنسب المؤيد بركة إلى ناظو خان بن دوشي خان وابن الحكيم على ما نقل ابن فضل الله جعله ابن دوشي خان نفسه وذكر المؤيد قصة إسلامه على يد شمس الدين الباخوري من أصحاب نجم الدين وانّ الباخوري كان مقيما ببخارى وبعث إلى بركة يدعوه إلى الإسلام فأسلم وبعث اليه كتابه بإطلاق يده في سائر أعماله بما شاء فردّه عليه وأعمل بركة الرحلة إلى لقائه فلم يأذن له في الدخول حتى تطارح عليه أصحابه وسهلوا الاذن لبركة فدخل وجدّد الإسلام وعاهده الشيخ على إظهاره الإسلام وان يحمل عليه سائر قومه فحملهم واتخذ المساجد والمدارس في جميع بلاده وقرب العلماء والفقهاء ووصلهم وسياق القصة على ما ذكره المؤيد يدل على أنّ إسلامه كان أيام ملكه وعلى ما ذكر ابن الحكيم أنّ إسلامه كان أيام أخيه ناظو ولم يذكر ابن الحكيم طرطو وانما ذكر بعد ناظو أخاه بركة ولم نقف على تاريخ لدولتهم حتى يرجع اليه وهذا ما أدّى اليه الاجتهاد وما بعدها مأخوذ من تاريخ المؤيد صاحب حماة من بني المظفر بن شاهنشاه بن أيوب قال ثم بعث بركة أيام سلطانه أخاه ناظو إلى ناحية الغرب للجهاد وقاتل ملك اللمان من الافرنج فانهزم ورجع ومات أسفا

(5/603)


ثم حدثت الفتنة بين بركة وبين قبلاي صاحب التخت وانتزع بركة الخاقانية من أعمال قبلاي وولى عليها سرخاد ابن أخيه ناظو وكان على دين النصرانية وداخله هلاكو في الانتقاض على عمه بركة إلى أخيه قبلاي صاحب التخت ويقطعه الخاقانية وما يشاء معها وشعر بركة بشأنه وأنّ سرخاد يحاول قتله بالسمّ فقتله وولى الخاقانية أخاه مكانه وأقام هلاكو طالبا بثأر سرخاد ووقعت الحرب بينه وبين بركة على نهر آمد سنة ستين ثم هلك هلاكو سنة ثلاث وستين وولي ابنه ابغا فسار إلى حربه وسرّح بركة للقائه سنتاي بن بانيغان بن جفطاي ونوغيثة بن تتر بن مغل بن دوشي خان فلما التقى الجمعان أحجم سنتاي ورجع منهزما وانهزم ابغا أمام نوغيثة وأثخن في عساكره وعظمت منزلة نوغيثة عند بركة وسخط بركة سنتاي وساءت منزلته عنده إلى أن هلك بركة سنة خمس وستين والله سبحانه وتعالى أعلم.
منكوتمر بن طغان بن ناظو خان
ولما هلك بركة ملك الدست بالشمال ملك مكانه منكوتمر بن طغان بن ناظو خان ابن دوشي خان وطالت أيامه وزحف سنة سبعين إلى القسطنطينية لجدة وجدها على الاشكر ملكها فتلقاه بالخضوع والرغبة ورجع عنه ثم زحف سنة ثمانين إلى الشام في مظاهرة ابغا بن هلاكو ونزل بين قيسارية وابلستين من بلاد الروم ثم أجاز الدربند ومرّ بابغا وهو منازل الرحبة وتقدّم مع أخيه منكوتمر بن هلاكو إلى حماة فنازلوها وزحف اليهم المنصور قلاون ملك مصر والشام من دمشق ولقيهم بظاهر حمص وكانت الدائرة على ملوك التتر وهلك خلق من عساكرهم وأسر آخرون وأجفل ابغا من منازلة الرحبة ورجعوا إلى بلادهم منهزمين وهلك على أثر ذلك منكوتمر ملك الشمال ومنكوتمر بن هلاكو سنة احدى وثمانين ولما هلك منكوتمر ملك مكانه ابنه تدان وجلس على كرسي ملكهم بصراي فأقام خمس سنين ثم ترهب وخرج عن الملك سنة ست وثمانين وانقطع إلى صحبة المشايخ الفقراء ولما ترهب تدان بن منكوتمر وخرج عن الملك ملك مكانه اخوه قلابغا وأجمع على غزو بلاد الكرك واستنفر نوغيثة بن تتر بن مغل بن دوشي خان وكان حاكما على طائفة من بلاد الشمال وله استبداد على ملوك بني دوشي خان فنفر معه في عساكره وكانت عظيمة ودخلوا جميعا بلاد الكرك وأغاروا عليها وعاثوا في نواحيها وفصلوا منها وقد تمكن فصل الشتاء وسلك السلطان مسافة اعتسف فيها البيداء وهلك أكثر عساكره من البرد والجوع وأكلوا دوابهم وسار نوغيثة من أقرب المسالك فنجا إلى بلاده سالما من تلك الشدّة فاتهمه السلطان قلابغا بالادهان في أمره

(5/604)


وكان ينقم عليه استبداده حتى انه قتل امرأة كنجك وكانت متحكمة في أيام أبيه وأخيه وشكت إلى نوغينة [1] فأمر بقتلها خنقا وقتل أميرا كان في خدمتها اسمه بيطرا فتنكر له قلابغا وأجمع الفتك به وأرسل يستدعيه لما طوي له عليه ونمي الخبر بذلك إلى نوغينة فبالغ في إظهار النصيحة والإشفاق على السلطان وخاطب أمّه بأنّ عنده نصائح يودّ لو ألقاها إلى السلطان في خلوة فثنت ابنها عن رأيه فيه وأشارت عليه باستدعائه والاطلاع على ما عنده وجاء نوغينة وقد بعث عن جماعة من اخوة السلطان قلابغا كانوا يميلون اليه ومنهم طغطاي وبولك وصراي وتدان بنو منكوتمر بن طغان فجاءوا معه وقد توقفوا لمّا هجم السلطان قلابغا وركب للقاء نوغينة في لمة من عسكره وجاء نوغينة وقد أكمن له طائفة من العسكر فلما التقيا تحادثا مليا وخرج الكمناء وأحاطوا بالسلطان وقتلوه سنة تسعين وستمائة واقبل طغطاي ابن منكوتمر ولما قتل قلابغا ولوا مكانه طغطاي لوقته ورجع نوغينة إلى بلاده وبعث إلى طغطاي في قتل الأمراء الذين داخلوا قلابغا في قتله فقتلهم طغطاي أجمعين ثم تنكر طغطاي لنوغينة لما كان عليه من الاستبداد وأنف طغطاي منه وأظلم الجوّ بينهما واجتمع أعيان الدولة إلى نوغينة فكان يوغر صدرهم على طغطاي واصهر إلى طاز بن منجك منهم بابنته فسار اليه طغطاي ولقيه نوغينة فهزمه واعترضه نهر مل فغرق كثير من عسكره ورجع نوغينة عن اتباعه واستولى على بلاد الشمال وأقطع سبطه قراجا بن طشتمر سنة ثمان وسبعين مدينة القرم وسار اليها لقبض أموالها فأضافوه وبيتوه وقتلوه من ليلته وبعث نوغينة العساكر إلى القرم فاستباحوها وما يجاورها من القرى والضياع وخرب سائرها وكان نوغينة كثير الإيثار لأصحابه فلما استبدّ بأمره آثر ولده على الأمراء الذين معه وحسوا عليهم وكان رديفه من ملك المغل اياجي بن قرمش وأخوه قراجا فلما آثر ولده عليهما نزعا إلى طغطاي في قومها وسار ولد نوغينة في اتباعهما فرجع بعضهم واستمرّ الباقون وقتل ولد نوغينة من رجع معه من أصحاب اياجي وقراجا وولدهم فامتعض لذلك أمراء المغل الذين معه ولحقوا بطغطاي واستحثوه لحرب نوغينة فجمع وسار اليه سنة تسع وتسعين بكو كان لك فانهزمت عساكر نوغينة وولده وقتل في المعركة وحمل رأسه إلى طغطاي فقتل قاتله وقال السوقة لا تقتل الملوك واستبيح معسكر نوغينة وبيع سباياهم وأسراهم في الأقطار وكان بمصر منهم جماعة استرقوا بها وانتظموا في ديوان جندها ولما هلك نوغينة خلفه في أعماله ابنه جكك وانتقض عليه أخوه فقتله فاستوحش لذلك أصحابه وأجمعوا الفتك به وتولى ذلك نائبة طغرلجاي وصهره على أخته طاز بن منجك ونمي الخبر بذلك اليه وهو في بلاد اللاز والروس غازيا فهرب ولحق
__________
[1] هكذا وقد وردني نسخ اخرى نوغيثة ونوغيثة.

(5/605)


ببلاده ثم لحق به عسكره فعاد إلى حربهم وغلبهم على البلاد ثم أمدّهما طغطاي على جكا بن نوغينة فانهزم ولحق ببلاد أولاق وحاول الامتناع ببعض القلاع من بلاد أولاق وفيها صهره فقبض عليه صاحب القلعة واستخدم بها الطغطاي فأمره بقتله سنة احدى وسبعمائة ونجا أخوه طراي وابنه قراكسك شريدين وخلا الجو لطغطاي من المنازعين والمخالفين واستقرّت في الدولة قدمه وقسم أعماله بين أخيه صراي بغا وبين ابنيه وأنزل منكلي بغا من ابنيه في عمل نهر طنا مما يلي باب الحديد ثم رجع صراي بن نوغينة من مفره واستذم بصراي بغا أخي طغطاي فأذمّه وأقام عنده فلما أنس به كشف له القناع عما في صدره واستهواه للانتقاض على أخيه طغطاي وكان أخوهما ازبك أكبر منه وكان مقيما عند طغطاي فركب اليه صراي بغا ليفاوضه في الشأن فاستعظمه واطلع عليه أخاهما طغطاي فأمره لوقته بإحضار أخيه صراي بغا وصراي بن نوغينة وقتلهما واستضاف عمل أخيه صراي بغا لابنه ايل بهادر ثم بعث في طلب قراكسك بن نوغينة فأبعد في ناحية الشمال واستذم ببعض الملوك هنالك ثم هلك سنة تسع وسبعمائة أخوه بذلك وابنه ايل بهادر وهلك طغطاي بعدهما سنة اثنتي عشرة والله تعالى أعلم.
أزبك بن طغرلجاي بن منكوتمر
ولما هلك طغطاي بايع نائبة قطلتمر لازبك ابن أخيه طغرلجاي بإشارة الخاتون تنوفالون زوج أبيه طغرلجاي وعاهده على الإسلام فأسلم واتخذ مسجدا للصلاة وأنكر عليه بعض أمرائه فقتله وتزوّج الخاتون بثالون وكانت المواصلة بين طغطاي وبين ملوك مصر ومات طغطاي ورسله عند الملك الناصر محمد بن قلاون فرجعوا إلى أزبك مكرمين وجدّد أزبك الولاية معه وحببه قطلتمر في بعض كرائمهم يرغبه وعين له بنت بذلك أخي طغطان وتكرّرت الرسالة في ذلك إلى أن تم الأمر وبعثوا بكريمتهم المخطوبة إلى مصر فعقد عليها الناصر وبنى بها كما مرّ في أخباره ثم حدثت الفتنة بين أزبك وبين أبي سعيد ملك التتر بالعراق من بني هلاكو وبعث أزبك عساكره إلى أذربيجان وكان بنو دوشي يدعون أنّ توريز ومراغة لهم وأنّ القان لما بعث هلاكو لغزو بلاد الإسماعيلية وفتح بغداد استكثر من العساكر وسار معه عسكر أهل الشمال هؤلاء وقرّرت لهم العلوفة بتوريز ولما مات هلاكو طلب بركة من ابنه ابغا أن يأذن له في بناء جامع تبريز ودار لنسج الثياب والطرز فأذن له فبناهما وقام بذلك ثم اصطلحوا وأعيدت فادعى بنو دوشي خان أنّ توريز ومراغة من اعمالهم

(5/606)


ولم يزالوا مطالبين بهذه الدعوة فلما وقعت هذه الفتنة بين أزبك وأبي سعيد افتتح أمره بغزو موقان فبعث العساكر اليها سنة تسعة عشر فاكتسحوا نواحيها ورجعوا وجمع جوبان على دولته وتحكمه في بني جنكزخان وأنه يأنف أن يكون براق بن سنتف بن منكوفان بن جفطاي ملكا على خوارزم فأغزاه أزبك فملك خراسان وأمدّه بالعساكر مع نائبة قطلتمر وسار سيول لذلك وبعث أبو سعيد نائبة جوبان لمدافعتهما فلم يطق وغلب سيول على كثير من خراسان وصالحه جوبان عليها وهلك سيول سنة عشرين ثم عزل أزبك نائبة قطلتمر سنة احدى وعشرين وولي مكانه عيسى كوكز ثم ردّه سنة أربع وعشرين إلى نيابته ولم تزل الحرب متصلة بين أزبك وأبي سعيد إلى أن هلك أبو سعيد سنة ست وثلاثين ثم هلك القان في هذه السنة ولما هلك أزبك بن طغرلجاي ولي مكانه ابنه جاني بك وكان أبو سعيد قد هلك قبله كما قلناه ولم يعقب وولي مكانه على العراق الشيخ حسن من أسباط ابغا بن هلاكو وافترق الملك في عمالاتهم طوائف وردد جاني بك العساكر إلى خراسان إلى أن ملكها سنة ثمان وخمسين ثم زحف إلى أذربيجان وتوريز وكان قد غلب عليها الشيخ الصغير ابن دمرداش بن جوبان وأخوه الأشرف من بعده كما يذكر في أخبارهم أن شاء الله تعالى فزحف جاني بك في العساكر إلى آذربيجان بتلك المطالبة التي كان سلفه يدعون بها فقتل الأشرف واستولى على توريز وآذربيجان وانكفأ راجعا إلى خوزستان بعد أن ولى على توريز ابنه بردبيك واعتل جاني بك في طريقه ومات.
بردبيك بن جاني
ولما اعتل جاني في ذهابه من توريز إلى خراسان طير أهل الدولة الخبر إلى ابنه بردبيك وقد استخلفه في توريز فولى عليها أميرا من قبله وأغذ السير إلى قومه ووصل إلى صراي وقد هلك أبوه جاني فولوه مكانه واستقل بالدولة وهلك لثلاث سنين من ملكه.
ماماي المتغلب على مملكة صراي
ولما هلك بردبيك خلف ابنه طغطمش غلاما صغيرا وكانت أخته بنت بردبيك تحت كبير من أمراء المغل اسمه ماماي وكان متحكما في دولته وكانت مدينة القرم من ولايته وكان يومئذ غائبا بها وكان جماعة من أمراء المغل متفرّقين في ولايات الأعمال بنواحي صراي ففرقوا الكلمة واستبدّوا بأعمالهم فتغلب حاجي شركس على ناحية منج طرخان وتغلب أهل خان

(5/607)


على عمله وايبك خان كذلك وكانوا كلهم يسمون أمراء المسيرة فلما هلك بردبيك وانقرضت الدولة واستبدّ هؤلاء في النواحي خرج ماماي إلى القرم ونصب صبيا من ولد أزبك القان اسمه عبد الله وزحف به إلى صراي فهرب منها طغطمش ولحق بمملكة أرض خان في ناحية جبال خوارزم إلى مملكة بني جفطاي بن جنكزخان في سمرقند وما وراء النهر والمتغلب عليها يومئذ السلطان تمر من أمراء المغل وقد نصب صبيا منهم اسمه محمود وطغطمش وتزوّج أمّه واستبدّ عليه فأقام طغطمش هناك ثم تنافس الأمراء المتغلبون على أعمال صراي وزحف حاجي شركس صاحب عمل منج طرخان إلى ماماي فغلبه على صراي فملكها من يده وسار ماماي إلى القرم فاستبدّ بها ولما زحف حاجي شركس من عمله بعث أرض خان عساكره من نواحي خوارزم فحاصروا منج طرخان وبعث حاجي العساكر اليهم مع بعض أمرائه فأعمل الحيلة حتى هزمهم عن منج طرخان وفتك بهم وبالأمير الّذي يقودهم وشغل حاجي شركس بتلك الفتنة فزحف اليه ايبك خان وملك صراي من يده واستبدّ بها أياما ثم هلك وولي بعده بصراي ابنه قاريخان ثم زحف اليه أرض خان من جبال خوارزم فغلبه على صراي وهرب قاريخان بن ايبك خان وعادوا إلى عملهم الأوّل واستقرّ أرض خان بصراي وماماي بالقرم ما بينه وبين صراي في مملكته وكان هذا في حدود أعوام سنة ست وسبعين وطغطمش في خلال ذلك مقيم عند السلطان تمر فيما وراء النهر ثم طمحت نفس طغطمش إلى ملك آبائه بصراي فجهز معه السلطان تمر العساكر وسار بها فلما بلغ جبال خوارزم اعترضه هناك عساكر أرض خان فقاتلوه وانهزم ورجع إلى تمر ثم هلك أرض خان قريبا من منتصف تلك السنة فخرج السلطان تمر بالعساكر مع طغطمش مددا له إلى حدود عمله ورجع واستمرّ طغطمش فاستولى على أعمال أرض خان بجبال خوارزم ثم سار إلى صراي وبها عمال أرض خان فملكها من أيديهم واسترجع ما تغلب عليه ماماي من ضواحيها وملك أعمال حاجي شركس في منج طرخان واستنزع جميع ما كان بأيدي المتغلبين ومحا أثرهم وسار إلى ماماي بالقرم فهرب أمامه ولم يوقف على خبره ثم صح الخبر بمهلكه من بعد ذلك واستوسق الملك بصراي وأعمالها لطغطمش بن بردبيك كما كان لقومه.
حروب السلطان تمر مع طغطمش صاحب صراي
قد ذكرنا فيما مرّ ظهور هذا السلطان تمر في دولة بني جفطاي وكيف أجاز من بخارى وسمرقند إلى خراسان أعوام أربعة وثمانين وسبعمائة فنزل على هراة وبها ملك من بقايا الغورية

(5/608)


فحاصرها وملكها من يده ثم زحف إلى مازندان وبها الشيخ ولي تغلب عليها بعد بني هلاكو فطالت حروبه معه إلى أن غلبه عليها ولحق الشيخ ولي بتوريز في فل من أهل دولته ثم طوى تمر الممالك طيا وزحف إلى أصبهان فآتاه ابن المظفر بها طاعته ثم إلى توريز سنة سبع وثمانين فملكها وخربها وكان قد زحف قبلها إلى دست القفجاق بصراي فملكها من يد طغطمش وأخرجه عنها فأقام بأطراف الأعمال حتى أجاز تمر إلى أصبهان فرجع إلى كرسيه وكان للسلطان تمر قريع في قومه يعرف بقمر الدين فراسله طغطمش صاحب صراي وأغراه بالانتقاض على تمر وأمدّه بالأموال والعساكر فعاث في تلك البلاد وبلغ خبره إلى تمر منصرفه من فتحه فكر راجعا وعظمت حروبه مع قمر الدين إلى أن غلبه وحسم علته وصرف وجهه إلى شانه الأوّل وقرر الزحف إلى طغطمش وسار طغطمش للقائه ومعه اغلان بلاط من أهل بيته فداخله تمر وجماعة الأمراء معه واستراب بهم طغطمش وقد حان اللقاء وتصافوا للحرب فصدم ناحية من عسكر تمر وصدم من لقي فيها وتبدد عياله وافترق الأمراء الذين داخلوا تمر وساروا إلى الثغور فاستولوا عليها وجاء طغطمش إلى صراي فاسترجعها وهرب اغلان بلاط إلى القرم فملكها وزحف اليه طغطمش في العساكر فحاصرها وخالفه أرض خان إلى صراي فملكها فرجع طغطمش وانتزعها من يده ولم تزل عساكره تختلف إلى القرم وتعاهدها بالحصار إلى أن ملكها وظفر باغلان بلاط فقتله وكان السلطان تمر بعد فراغه من حروبه مع طغطمش سار إلى أصبهان فملكها أيضا واستوعب ملوك بني المظفر وعاملهم بالقتل وانتظم له أعمالهم جميعا في مملكته ثم زحف إلى بغداد فملكها من يد أحمد بن أويس سنة خمس وتسعين كما مرّ ذكره ولحق أحمد بالسلطان الظاهر صاحب مصر مستصرخا به فخرج معه في العساكر وانتهى إلى الفرات وقد سار تمر عن بغداد إلى ماردين فحاصرها وملكها وامتنعت عليه قلعتها فعاج من هنالك إلى حصون الأكراد ثم إلى بلاد الأرمن ثم إلى بلاد الروم وبعث السلطان الظاهر صاحب مصر العساكر مددا لابن أويس فسار إلى بغداد وبها شرذمة من عسكر تمر فملكها من أيديهم ورجع الملك الظاهر إلى مصر وقد أظلّ الشتاء ورجع تمر إلى نواحي أعماله فأقام في عمل قراباق ما بين آذربيجان وهمذان والأبواب ثم بلغ الخبر إلى تمر فسار من مكانه ذلك إلى محاربة طغطمش وعميت أنباؤه مدّة ثم بلغ الخبر آخر سنة سبع وتسعين إلى السلطان فأن تمر ظفر بطغطمش وقتله واستولى على سائر أعماله والله غالب على أمره انتهى
.

(5/609)


ملوك غزنة وباميان من بني دوشي خان
كانت أعمال غزنة وباميان هذه قد صارت لدوشي خان وهي من أعمال ما وراء النهر من جانب الجنوب وتتاخم سجستان وبلاد الهند وكانت في مملكة بني خوارزم شاه فملكها التتر لأوّل خروجهم من أيديهم وملكها جنكزخان لابنه دوشي خان وصارت لابنه أردنو ثم لابنه انجبي بن أردنو وهلك على رأس المائة السابعة وخلف من الولد بيان وكبك ومنغطاي وانقسمت الأعمال بينهم وكان كبيرهم بيان في غزنة وقام بالملك بعد انجبي ابنه كبك وانتقض عليه أخوه بيان واستمدّ بطغطاي صاحب صراي فامدّه بأخيه بذلك واستنجد كبك بقندو فأمدّه ولم يغن عنه وانهزم ومات سنة تسع وسبعمائة واستولى بيان على الأعمال وأقام بغزنة وزحف اليه قوشناي ابن أخيه كبك واستمدّ بقندو وغلب عمه على غزنة ولحق بيان بطغطاي واستقرّ قوشناي بغزنة ويقال أنّ الّذي غلب عليها انما هو أخوه طغطاي ولم نقف بعد على شيء من أخبارهم والله تعالى أعلم بغيبه وأحكم.

(5/610)


ملوك التخت بصراي

(5/611)


دولة بني هولاكو دولة بني هلاكو ملوك التتر بالعراقين وخراسان ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم
قد تقدّم لنا أنّ جنكزخان عهد بالتخت وهو كرسي الملك بقراقوم لابنه أوكداي ثم ورثه من بعده كفود بن أوكداي وأنّ الفتنة وقعت بينه وبين صاحب الشمال من بني جنكزخان وهو ناظو بن دوشي خان صاحب التخت بصراي وسار اليه في جموع المغل والتتر وهلك في طريقه وسلم المغل الذين معه التخت لناظو فامتنع من مباشرته بنفسه وبعث اليه أخاه منكوفان وبعث معه بالعساكر أخويه الآخرين قبلاي وهلاكو ومعهما أخوهما بركة ليجلسه على التخت فأجلسه سنة خمسين وذكرنا سبب إسلام بركة عند مرجعه وأنّ منكوفان استقلّ بالتخت وولى بني جفطاي بن جنكزخان على بلاد ما وراء النهر إمضاء لوصية جنكزخان وبعث أخاه هلاكو لتدويخ عراق العجم وقلاع الإسماعيلية ويسمون الملاحدة والاستيلاء على ممالك الخليفة.
هلاكو بن طولي
ولما بعث منكوفان أخاه إلى العراق فسار لذلك سنة اثنتين وخمسين وستمائة وفتح الكثير من قلاعهم وضيق بالحصار مخنقهم وولى خلال ذلك في كرسي صراي بالشمال بركة بن ناظو بن دوشي خان فحدثت الفتنة بينه وبين هلاكو ونشأت من الفتنة الحرب وسار بركة ومعه نوغان بن ططر بن مغل بن دوشي خان والتقوا على نهر نول وقد جمد ماؤه لشدّة البرد وانخسف من تحته فانهزم هلاكو وهلك عامّة عسكره وقد ذكرنا أسباب الفتنة بينهما ثم رجع هلاكو إلى بلاد الإسماعيلية وقصد قلعة الموت وبها صاحبها علاء الدين فبلغه في طريقه وصية من ابن العلقميّ وزير المستعصم ببغداد في كتاب ابن الصلايا صاحب أربل يستحثه للمسير إلى بغداد ويسهل عليه أمرها لما كان ابن العلقميّ رافضيا هو وأهل محلته بالكرخ وتعصب عليهم أهل السنة وتمسكوا بأنّ الخليفة والدوادار يظاهرونهم وأوقعوا بأهل الكرخ وغضب لذلك ابن العلقمي ودس إلى ابن الصلايا بأربل وكان صديقا له بأن يستحث التتر لملك بغداد وأسقط عامة الجند يموه بانه يصانع التتر بعطائهم وسار هلاكو والتتر الى بغداد واستنفر

(5/612)


بنحو مقدّم التتر ببلاد الروم فيمن كان معه من العساكر فامتنع أوّلا ثم أجاب وسار إليه ولما أطل هلاكو على بغداد في عساكره برز للقائه أيبك الدوادار في عساكر المسلمين فهزموا عساكر التتر ثم تراجع التتر فهزموهم واعترضهم دون بغداد بثوق انبثقت في ليلتهم تلك من دجلة فحالت دونها فقتلوا أجمعين وهلك أيبك الدوادار وأسر الأمراء الذين معه ورجعوا إلى البلد فحاصروها مدّة ثم استأمن من ابن العلقميّ للمستعصم ولنفسه آملا بأنّ هلاكو يستبقيه فخرج إليه في موكب من الأعيان وذلك في محرّم سنة ست وخمسين وتقبض على المستعصم فشدخ بالمعاول في عدل تجافيا عن سفك دمه بزعمهم ويقال أنّ الّذي أحصى فيها من القتلى ألف ألف وثلاثمائة ألف واستولوا من قصور الخلافة وذخائرها على ما لا يحصره العدد والضبط وألقيت كتب العلم التي كانت في خزائنهم بدجلة معاملة بزعمهم لما فعله المسلمون بكتب الفرس عند فتح المدائن واعتزم هلاكو على إضرام بيوتها نارا فلم يوافقه أهل مملكته واستبقى ابن العلقميّ على الوزارة والرتبة ساقطة عندهم فلم يكن قصارى أمره إلا الكلام في الدخل والخرج متصرفا من تحت آخر أقرب إلى هلاكو منه فبقي على ذلك مدّة ثم اضطرب وقتله هلاكو ثم بعث هلاكو بعد فتح بغداد بالعساكر إلى ميافارقين وبها الكامل محمد بن غازي بن العادل فحاصروها سنين حتى جهد الحصار أهلها ثم اقتحموها عنوة واستلحموا حاميتها ثم بعث إليه بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل ابنه ركن الدين إسماعيل بالطاعة والهدية فتقبله وبعثه إلى القان الأعظم منكوفان بقراقوم وأبطأ على لؤلؤ خبره فبعث بالولدين الآخرين شمس الدين إسحاق وعلاء الدين بهدية أخرى ورجعوا إليه بخبر ابنه وقرب إيابه فتوجه لؤلؤ بنفسه إلى هلاكو ولقيه بأذربيجان وحضر حصار ميافارقين وجاءه ابنه ركن الدين من عند منكوفان بولاية الموصل وأعمالها ثم هلك سنة سبع وخمسين وولي ابنه ركن الدين إسماعيل ويلقب الصالح وبعث هلاكو عسكرا إلى أربل فحاصرها ستة أشهر وامتنعت فأفرجت عنها العساكر فاغتنم ابن الصلايا الفرصة ونزل عنها لشرف الدين الكردي ولحق بهلاكو فقتله وكان صاحب الشام يومئذ الناصر بن العزيز محمد بن الظاهر غازي بن صلاح الدين فلما بلغه استيلاء هلاكو على بغداد بعث إليه ابنه بالهدايا والمصانعة والعذر عن الوصول بنفسه لمكان الإفرنج من سواحل الشام فقبل هديته وعذره ورجع ابنه بالمواعيد ولم يتم لهلاكو الاستيلاء على الجزيرة وديار بكر وديار ربيعة وانتهى ملكه إلى الفرات وتاخم الشام وعبر الفرات سنة ثمان وخمسين فملك البيرة ووجد بها السعيد أخا الناصر بن العزيز معتقلا فأطلقه ورده إلى عمله بالضبينة وبانياس ثم سار إلى حلب فحاصرها

(5/613)


مدّة ثم ملكها ومن عليه وأطلقه ووجد بها المعتقلين من البحرية مماليك الصالح أيوب الذين حبسهم الناصر وهم سنقر الأشقر وتنكز وغيرهما فأطلقهم وكان معهم أمير من أكابر القفجاق لحق به واستخدم له فجعلهم معه وولى على البلاد التي ملكها من الشام ثم جهز العساكر إلى دمشق وارتحل الناصر إلى مصر ورجع عنه الصالح بن الأشرف صاحب حمص إلى هلاكو فولاه دمشق وجعل نوابه بها لنظره وبلغ الناصر إلى هلاكو ثم استوحش الخليفة من قطز سلطان مصر لما كان بينهما من الفتنة فخرج إلى هلاكو فأقبل عليه واستشاره في إنزال الكتائب بالشام فسهل له الأمر في عساكر مصر ورجع إلى رأيه في ذلك وترك نائبة كيبغا من أمراء التتر في خف من الجنود فبعث كيبغا إلى سلطان مصر وأساء رسله بمجلس السلطان في الخطاب بطلب الطاعة فقتلهم وسار إلى الشام فلقي كيبغا بعين جالوت فانهزمت عساكر التتر وقتل كيبغا أميرهم والسعيد صاحب الضبينة أخو الناصر كان حاضرا مع التتر فقبض عليه وقتل صبرا ثم بعث هلاكو العساكر إلى البيرة والسعيد بن لؤلؤ على حلب ومعه طائفة من العساكر فبعث بعضهم لمدافعة التتر فانهزموا وحنق الأمراء على السعيد بسبب ذلك وحبسوه وولوا عليهم حسام الدين الجوكندار وزحف التتر إلى حلب فأجفل عنها واجتمع مع صاحبها المنصور على حمص وزحفوا إلى التتر فهزموهم وسار التتر إلى أفامية فحاصروها وهابوا ما وراءها وارتحلوا إلى بلادهم وبلغ الخبر إلى هلاكو فقتل الناصر صاحب دمشق لاتهامه إياه فيما أشار به من الاستهانة بأهل مصر وكان هلاكو لما فتح الشام سنة ثمان وخمسين بلغه مهلك أخيه القان الأعظم منكوفان في مسيره إلى غزو بلاد الخطا فطمع في القانية وبادر لذلك فوجد أخاه قبلاي قد استقل فيها بعد حروب بدت بينه وبين أخيه أزبك تقدّم ذكرها في أخبار القان الأعظم فشغل بذلك عن أمر الشام ثم لما يئس من القانية قنع بما حصل عنده من الأقاليم والأعمال ورجع إلى بلاده والأقاليم التي حصلت بيده إقليم خراسان كرسيه نيسابور ومن مدنه طوس وهراة وترمذ وبلخ همذان ونهاوند وكنجة عراق العجم كرسيه أصبهان ومن مدنه قزوين وقم وقاشان وشهرزور وسجستان وطبرستان وطلان وبلاد الإسماعيلية عراق العرب كرسيه بغداد ومن مدنه الدينور والكوفة والبصرة أذربيجان وكرسيه توريز ومن مدنه حران وسلماس وقفجاق خوزستان كرسيها ششتر ومن مدنها الأهواز وغيرها فارس كرسيها شيراز ومن مدنها كش ونعمان ومحمل رزون والبحرين ديار بكر كرسيها الموصل ومن مدنها ميافارقين ونصيبين وسنجار واسعرد ودبيس وحران والرها وجزيرة ابن عمر بلاد الروم كرسيها قونية ومن مدنها ملطية وأقصرا وأورنكار وسيواس

(5/614)


وأنطاكية والعلايا ثم أجلاه أحمد الحاكم خليفة مصر فزحف إلى بغداد وهذا الحاكم هو عمّ المستعصم لحق بمصر بعد الواقعة ومعه الصالح بن لؤلؤ بعد أن أزاله التتر من الموصل فنصب الظاهر بيبرس أحمد هذا في الخلافة سنة تسع وخمسين وبعثه لاسترجاع بغداد ومعه الصالح بن لؤلؤ على الموصل فلما أجازوا الفرات وقاربوا بغداد كبسهم التتر ما بين هيت وغانة فكبسوا الخليفة وفرّ ابن لؤلؤ وأخواه إلى الموصل فنازلهم التتر سبعة أشهر ثم اقتحموها عليهم عنوة وقتلوا الصالح وخشي الظاهر بيبرس غائلة هلاكو ثم أن بركة صاحب الشمال قد بعث إلى الظاهر سنة ستمائة وسبعين بإسلامه فجعلها الظاهر وسيلة للوصلة معه والانجاد وأغراه بهلاكو لما بينهما من الفتنة فسار بركة لحربه وأخذ بحجزته عن الشام ثم بعث هلاكو عساكر التتر لحصار البيرة ومعه درباي من أكابر أمراء المغل وأردفه بابنه أبغا وبعث الظاهر عساكره لإنجاد أهلها فلما أطلوا على عسكر درباي وعاينهم أجفل وترك المخيم والآلة ولحق بابغا منهزما فاعتقله وسخطه ثم هلك هلاكو سنة ثنتين وستين لعشر سنين من ولايته العراق والله أعلم.
أبغا بن هلاكو
ولما هلك هلاكو ولي مكانه ابنه أبغا وسار لأوّل ولايته لحرب بركة صاحب الشمال فسرّح إليه بركة العساكر مع قريبه نوغاي بن ططر بن مغل بن دوشي خان ومع سنتف بن منكوفان ابن جفطاي بن جنكزخان وخام سنتف عن اللقاء ورجع منهزما وأقام نوغاي فهزم أبغا وأثخن في عساكره وعظمت منزلته بذلك عند بركة ثم بعث سنة إحدى وسبعين عساكره مع درباي لحصار البيرة وعبر الظاهر إليهم الفرات وهزمهم وقتل أميرين مع درباي ولحق درباي بأبغا منهزما فسخطه وأدال منه بأبطاي وفي سنة اثنتين وسبعين زحف أبغا إلى تكدار بن موجي بن جفطاي بن جنكزخان وكان صاحبه فاستنجد بابن عمه براق بن سنتف بن منكوفان بن جفطاي فأمدّه بنفسه وعساكره واستنفر أبغا عساكر الروم وأميرهم طمقان والبر واناة والتقى الجمعان ببلاد الكرج فانهزم تكدار ولجأ إلى جبل هنالك حتى استأمن ابغا فأمنه وعهد أن لا يركب فرسا فارها ولا يمس قوسا ونمي الى أبغا أنّ الظاهر صاحب مصر سار الى بلاد الروم فبعث العساكر إليها مع قائدين من قواد المغل وهما تدوان ونغوا فسارا وملك الظاهر قيسارية من تخوم بلادهم وبلغ الخبر إلى أبغا فجاء بنفسه إلى موضع الهزيمة وعاين مصارع قومه ولم يسمع ذكرا لأحد من عسكر البرواناة أنه صرع فاتهمه وبعث عنه بعد مرجعه فقتله ثم سار

(5/615)


أبغا سنة ثمانين وعبر الفرات ونازل الرحبة وبعث إلى صاحب ماردين فنزل معه هناك وكان منكوتمر ابن أخي بركة ملك صراي فسار بعساكره من المغل وحشود الكرج والأرمن والروم ومرّ بقيسارية وابلسين وأجاز الدربند إلى الرحبة فنازلها وبعث أبغا إليه بالعساكر مع أخيه منكوتمر بن هلاكو وأقام هو على الرحبة وزحف الظاهر من مصر في عساكر المسلمين فلقيهم التتر على حمص وانهزم التتر هزيمة شنعاء هلك فيها عامة عساكرهم وأجفل أبغا من حصار الرحبة وهلك أخوه منكوتمر بن هلاكو مرجعه من تلك الواقعة يقال مسموما وأنه مرّ ببعض أمرائه بجزيرة تسمى مومواغا كان يضطغن له بعض الفعلات فسقاه سما عند مروره به وهرب إلى مصر فلم يدركوه وأنهم قتلوا أبناءه ونساءه ثم هلك أبغا سنة إحدى بعدها ويقال مسموما أيضا على يد وزيره الصاحب شمس الدين الجوني مشير دولته وكبيرها حمله الخوف على ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم.
تكدار بن هلاكو ويسمى أحمد
ولما توفي أبغا كما ذكرناه وكان ابنه أرغو غائبا بخراسان فبايع المغل لأخيه تكدار فأسلم وتسمى أحمد وخاطب بذلك الملوك لعصره وأرسل إلى مصر يخبرهم ويطلب المساعدة وجاء بذلك قاضي سيواس قطب الدين الشيرازي وأتابك بلاد الروم وابن الصاحب من وراء ماردين وكان أخوه قنقرطاي مع صمغان الشحنة فبعث تكدار عن أخيه فامتنع من الإجابة وأجاره غياث الدين كنخسرو صاحب بلاد الروم فتوعده تكدار فخاف منه وسار هو وقنقرطاي إلى تكدار فقتل أخاه وحبس غياث الدين وولى مكانه أخاه عز الدين وأدال من صمغان الشحنة بأولاطو من أمراء المغل ثم جهز العساكر إلى خراسان لقتال أخيه أرغو فسار إليهم أرغو وكبسهم وهزمهم وفتك فيهم فسار تكدار بنفسه فهزم أرغو وأسره وأثخن في عساكره وقتل اثني عشر أميرا من المغل فاستوحش أهل معسكره وكانوا ينقمون عليه إسلامه فثاروا عليه وقتلوا نائبة ثم قتلوه سنة اثنتين وثمانين وبعثوا إلى أرغو بن أبغا بطاعتهم والله تعالى أعلم.
أرغو بن أبغا
ولما ثار المغل على تكدار وقتلوه وبعثوا بطاعتهم إلى أرغو فجاء وولوه أمرهم فقام بسلطانه وقتل غياث الدين كنخسرو صاحب بلاد الروم في محبسه اتهمه بمداهنته في قتل عمه

(5/616)


قنقرطاي وتقبض لأوّل ولايته على الوزير شمس الدين الجوني وكان متهما بأبيه وعمه فقتله وولى على وزارته سعد اليهودي الموصلي ولقبه سعد الدولة وكان عالما بالحكمة وولى ابنيه قازان وخربندا على خراسان لنظر نيروز أتابكه ولما فرغ من أمور ملكه وكان قد عدل عن دين الإسلام وأحب دين البراهمة من عبادة الأصنام وانتحال السحر والرياضة له ووفد عليه بعض سحرة الهند فركب له دواء لحفظ الصحة واستدامتها فأصابه منه صرع فمات سنة سبعين والله سبحانه وتعالى أعلم.
كتخاتو بن أبغا
ولما هلك أرغو بن أبغا وابناه قازان وخربندا غائبان بخراسان اجتمع المغل على أخيه كتخاتو فبايعوه وقدّموه للملك ثم ساءت سيرته وأفحش في المناكر وإباحة الحرمات والتعرض للغلمان من أبنائهم وكان في عسكره بيدو بن عمر طرغاي بن هلاكو فاجتمع إليه أمراء المغل وبايعوه سرّا وشعر بهم كتخاتو ففرّ من معسكره إلى جهة كرمان وساروا في أثره فأدركوه بأعمال غانة وقتلوه سنة ثلاث وتسعين لثلاث سنين وأشهر من ولايته والله تعالى أعلم.
بيدو بن طرغاي بن هلاكو
ولما قتل أمراء المغل كتخاتو بن أبغا بايعوا مكانه لابن عمه بيدو بن طرغاي بن هلاكو وكان قازان بن أرغو بخراسان فسار لحرب بيدو ومعه الأتابك نيروز فلما تقاربا للقاء تردّد الناس بينهما في الصلح على أن يقيم نيروز الأتابك عند بيدو واصطلحا وعاد قازان ثم أرسل نيروز الأتابك إلى قازان يستحثه فسار من خراسان ولما بلغ الخبر إلى بيدو فاوض فيه نيروز الأتابك فقال أنا أكفيكه فصبر حتى أتى إليه فسرّحه ولما وصل إلى قازان أطلعه على شأن أمراء بيدو وأنهم راغبون عنه وحرضه على المسير فامتعض لذلك بيدو وسار للقائهم فلما التقى الجمعان انتقض عليه أمراؤه بمداخلة نيروز فانهزم ولحق بنواحي همذان فأدرك هناك وقتل سنة خمس وتسعين لثمانية أشهر من ملكه والله سبحانه وتعالى أعلم.
قازان بن أرغو
ولما انهزم بيدو وقتل ملك على المغل مكانه قازان بن أرغو فجعل أخاه خربندا واليا على

(5/617)


خراسان وجعل نيروز الأتابك مدبرا لمملكته وسعى لأوّل أمره في التدبير على طرغاي من أمرائه ومواليه من المغل الّذي داخل بيدو في قتل كتخاتو الّذي تولى كبر ذلك فخافه طرغاي على نفسه وكان نازلا بين بغداد والموصل فبعث إلى كيبغا العادل صاحب مصر والشام يستأذنه في اللحاق به ثم ولى قازان على ديار بكر أميرا من أتباعه اسمه مولان فهزمه وقتل الكثير من أصحابه ونجا إلى الشام وبعث كيبغا من تلقاه وجاء به إلى مصر ودخل مجلس الملك ورفع مجلسه فيها قبل أن يسلم واستقرّ هو وقومه الأوبراتية بمصر وأقطع لهم وكان ذلك داعيا إلى الفتنة بين الدولتين ثم قتل قازان الأتابك نيروز وذلك أنه استوحش من قازان وكاتب لاشين سلطان مصر والشام المتولي بعد كيبغا وأحس نيروز بذلك فلحق بهراة مستجيرا بصاحبها وهو فخر الدين ابن شمس الدين كرت صاحب سجستان فقبض عليه فخر الدين وأسلمه إلى قطلو شاه فقتله وقتل قازان بعد ذلك أخويه ببغداد وهما حاجي ولكري وقفل السفير إليه بالكتاب من مصر ثم كان بعد ذلك مفر شلامش بن أيال بن منجو إلى مصر وكان أميرا في بلاد الروم على الطومار المحجر فيها والطومار عندهم عبارة عن مائة ألف من العساكر عن قازان فارتاب به وأرسل إلى لاشين يستأذنه في اللحاق به وبعث قازان العساكر إليه فقاتلوه وانفض عنه أكثر أصحابه ففرّ إلى مصر وترك أهله وولده وبعث معه صاحب مصر العساكر لتلقي أهله ومرّوا بسيس فاعترضه عساكر التتر هناك فهزموه وقتلوا أمير مصر الّذي معه واعتصم هو ببعض القلاع فاستنزلوه منها وبعثوا به إلى قازان فقتله وأقام أخوه قطقطو بمصر في جملة عسكرها ونشأت بهذه كلها الفتن بين قازان وأهل مصر ونزع إليه أمراء الشام فلحق نائب دمشق، وبكتمر نائب حلب والبكي الظاهري وعزاز الصالحي واسترابوا بسلطانهم الناصر محمد بن قلاون فلحقوا به واستحثوه إلى الشام وسار سنة تسع وسبعين في عساكر المغل والأرمن ومعه نائبة قطلو شاه ومولى وجاء الملك الناصر من مصر في عساكر المسلمين ولما انتهى إلى غزة أطلع على تدبير بعض المماليك عليه من أصحاب كيبغا ومداخلة الأمراء الذين هاجروا من المغل إلى مملكة مصر لهم في ذلك فسبق جميعهم وارتحل إلى حمص للقاء التتر ثم سار فصبحهم بمرج المروج والتقى الجمعان وكانت الدبرة على المسلمين واستشهد منهم عدد ونجا السلطان الى مصر وسار قازان على التعبية فملك حمص واستوعب مخلف السلطان فيها ثم تقدم إلى دمشق فملك المدينة وتقدم إلى قفجاق لجباية أموالها ولحصار القلعة وبها علاء الدين سنجر المنصور فامتنع وهدم ما حولها من العمران وفيها دار السعادة التي بها إيوان الملك وسار قازان إلى حلب فملكها وامتنعت عليه القلعة وعاثت عساكره في البلاد

(5/618)


وانتهت غاراتهم إلى غزة ولما امتنعت عليه القلاع ارتحل عائدا إلى بلده وخلف قطلو شاه في عساكر لحماية البلد وحصار القلعة ويحيى بن جلال الدين لجباية الأموال وترك قفجاق على نيابة دمشق وبكتمر على نيابة حلب وحمص وحماة وكر الملك الناصر راجعا إلى الشأم بعد أن جمع العساكر وبث العطاء وأزاح العلل وعلى مقدّمته سرمز الجاشنكير وسلار كافلا مملكته فتقدموا إلى حدود الشام وأقام هو بالصالحية واستأمن لهما قفجاق وبكتمر النائبان بدمشق وحلب وراجعا طاعة السلطان واستولى سرمز وسلار على الشام ورجع قطلو شاه إلى العراق ثم عاود قازان المسير إلى الشام سنة اثنتين وسبعين وعبر الفرات ونزل على الحربة وكاتب أهل الشام يخادعهم وقدم قطلو شاه فأغار على القدس وبها أحياء التركمان فقاتلوه ونالوا منه وتوقفوا هنالك وسار الناصر من مصر في العساكر ثالث شعبان ولقي قطلو شاه بمرج الصفر فهزمه بعد حرب شديدة وسار في إتباعهم إلى الليل فاعتصموا بجبل في طريقهم وبات المسلمون يحرسونهم ثم تسللوا وأخذ القتل منهم كل مأخذ واعترضهم الوحل من أمامهم من بثوق بثقت لهم من نهر دمشق فلم ينج منهم أحد وقدم الفل على قازان بنواحي كيلان ومرض هنالك ومات في ذي الحجة من السنة ويقال أنه مات أسفا والله تعالى أعلم بالصواب.
خربندا بن أرغو
ولما هلك قازان ولي بعده أخوه خربندا وابتدأ أمره بالدخول في دين الإسلام وتسمى بمحمد وتلقب غياث الدين وأقر قطلو شاه على نيابته ثم جهزه لقتال الكرد في جبال كيلان وقاتلهم فهزموه وقتلوه وولى مكانه جوبان بن تدوان وأقام في سلطانه حسن الدين معظما للخلفاء وكتب أسماءهم على سكته ثم صحب الروافض فساء اعتقاده وحذف ذكر الشيخين من الخطبة ونقش أسماء الأئمة الاثني عشر على سكته ثم أنشأ مدينة بين قزوين وهمذان وسماها السلطانية ونزلها واتخذ بها بيتا لطيفا بلبن الذهب والفضة وأنشأ بإزائها بستانا جعل فيه أشجار الذهب بثمر اللؤلؤ والفصوص وأجرى اللبن والعسل أنهارا وأسكن به الغلمان والجواري تشبيها له بالجنة وأفحش في التعرض لحرمات قومه ثم سار إلى الشام سنة ثلاث عشرة وعبر الفرات ونزل الرحبة ورجع ثم هلك ويقال مات مسموما على يد بعض أمرائه سنة ست عشرة والله تعالى أعلم
.

(5/619)


أبو سعيد بن خربندا
ولما هلك خربندا خلف ابنه أبا سعيد طفلا صغيرا ابن ثلاث عشرة سنة فاستصغره جوبان وأرسل إلى أزبك ملك الشمال بصراي يستدعيه لملك العراقين فحذره نائبة قطلقتمر من ذلك وبايع جوبان لأبي سعيد بن خربندا على صغره وبدأ أمره بقتل أبي الطيب رشيد الدولة فضل الله بن يحيى الهمذاني المتهم بقتل أبيه فقتله وكان مقدّما في العلوم وسريا في الغاية وله تاريخ جمع فيه أخبار التتر وأنسابهم وقبائلهم وكتبه مشجرا كما في كتابنا هذا وكان جوبان يومئذ بخراسان يقاتل عليها سيول بن براق بن سنتف بن ماسان بن جفطاي صاحب خوارزم أغراه أزبك صاحب الشمال بخراسان وأمدّه بعساكره وكان جوبان موافقا له فلما هلك خربندا طمع سيول في الاستيلاء على خراسان وكاتب أمراء المغل بدولة أبي سعيد رغبهم فأطمعوه فسار جوبان إلى الأردن ومعناه بلغتهم العسكر والمخيم وانتهى إلى أبي سعيد خبر أمرائه فقتل منهم أربعين ورجع جوبان إلى خراسان سنة ثمان عشرة وقد استولى سيول عليها وعلى طائفة من عراق العجم وبعث إليه أزبك صاحب الشمال نائبة قطلقتمر مددا في العساكر فلقيهم جوبان وكانت بينهم حروب وانتزع جوبان ما ملكه سيول من بلاد خراسان وصالحه على ما بقي ورجع ثم سار أزبك ملك الشمال إلى مراغة فأغار عليها وغنم ورجع وأتبعه جوبان في العساكر فلم يدركه وهلك سيول سنة عشرين وارتجع أبو سعيد ما كان بيده من خراسان وكان أزبك صاحب الشمال ينقم على أبي سعيد استبداد جوبان عليه وتحكمه في بني جنكزخان ويحرض أهل النواحي على جوبان ويتوقع له المهالك وأوصل الملوك في النواحي للمظاهرة على جوبان وسلطانه أبي سعيد حتى لقد صاهر صاحب مصر على مثل ذلك ولم يتم الصلح لأبي سعيد معه كما مرّ في أخبارهم وجهز أزبك العساكر سنة عشرين لحرب جوبان فحاصرهم المدني بنهر كوزل الّذي في حدود ملكهم فرجعوا ثم جهز جيشا آخر مع قطلقتمر نائبة وكان جوبان نائب أبي سعيد قد ولى على بلاد الروم ابنه دمرداش فزحف سنة إحدى وعشرين إلى بلاد سيس وافتتح منها قلاعا ثلاثا وخربها وبعث إلى الملك الناصر يطلب المظاهرة في جهاد الأرمن بسيس فبعث السلطان عساكره سنة اثنتين وعشرين ومعهم من المتطوّعة عدد وحاصروا سيس ثم انعقد الصلح سنة ثلاث وعشرين بعدها بين الملك الناصر وبين أبي سعيد واستقامت الأحوال وحج أكابر المغل من قرابة أبي سعيد ملك التتر بالعراقين واتصلت المهاداة بينهما وسار نائبة جوبان سنة خمس وعشرين الى خراسان في

(5/620)


العساكر وقد زحف إليه كبك بن سيول فجرت بينهما حروب وانهزم جوبان واستولى كبك على خراسان ثم كبسه جوبان فهزمه وأثخن في عساكره وغلبه على خراسان فعادت إلى ملكة أبي سعيد وبينما جوبان مشتغل بتلك الفتنة والحروب في نواحي خراسان إذ بلغه الخبر بأن السلطان أبا سعيد تقبض على ابنه خواجا دمشق فلما بلغه الخبر بذلك انتقض وزحف إليه أبو سعيد فافترق عنه أصحابه ولحق بهراة فقتل بها سنة ست وعشرين وأذن أبو سعيد لولده أن ينقلوا شلوه إلى تربته التي بناها بالمدينة النبويّة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ونقلوه فلم يقدر دفنه بها وتوقف أمير المدينة على اذن السلطان بمصر في ذلك فدفن بالبقيع ولما بلغ خبر جوبان لابنه دمرداش وهو أمير ببلاد الروم انزعج لذلك ولحق بمصر فيمن معه من الأمراء والعساكر وأقبل السلطان الملك الناصر عليه وأحله محل التكرمة وجاءت على أثره رسل أبي سعيد يطلب حكم الله فيه لسعيه في الفساد والفتنة وأجابه السلطان إلى ذلك على أن يفعل مثل ذلك في قراسنقر النازع إليهم من أمراء الشام فأمضى ذلك فيهما جزاء بما قدّمت أيديهما ثم تأكدت أسباب المواصلة والالتحام بين هذين السلطانين بالأصهار والمهاداة واتصل ذلك وانقطع زبون العرب وفسادهم بين المملكتين وهلك السلطان أبو سعيد سنة ست وثلاثين ولم يعقب ودفن بالسلطانية واختلف أهل دولته وانقرض الملك من بني هلاكو وافترقت الأعمال التي كانت في ملكهم وأصبحت طوائف في خراسان وفي عراق العجم وفارس وفي أذربيجان كله في عراق العرب وفي بلاد الروم كما نذكر ذلك والله وارث الأرض ومن عليها وإليه يرجعون
.

(5/621)


اضطراب دولة بني هلاكو وانقسام الملك طوائف في اعمالهم وانفراد الشيخ حسن ببغداد واستيلاء بنيه معها على توريز وما كان لهم فيها من الملك والدولة وابتدائها ومصايرها
لما هلك أبو سعيد بن خربندا ملك التتر بكرسي بغداد سنة ست وثلاثين ولم يعقب نصب أمراء المغل الوزير غياث الدين وخلع أورخان ونصب للملك موسى خان من أسباطهم وقام بدولته الشيخ حسن بن حسين بن بيبقا بن أملكان وهو ابن عمة السلطان أبي سعيد سبط أرغو بن أبغا أنزله أبو سعيد بقلعة كانج من بلاد الروم ووكل به فلما هلك أبو سعيد وانحل

(5/622)


عقاله وذهب أبو نور بن ماس عفى عليها وبلغه شأن أهل الدولة ببغداد فلم يرضه ونهض إليها فقتل علي ماسا القائم بالدولة وعزل موسى خان الملك ونصب مكانه محمد بن عنبرجي وهو الّذي تقدّم في ملوك التخت صحة نسبه إلى هلاكو واستولى الشيخ حسن على بغداد وتوريز ثم سار إليه حسن بن دمرداش من مكان إمارته وإمارة أبيه ببلاد الروم وغلبه على توريز وقتل سلطانه محمد بن عنبرجي ولحق الشيخ حسن ببغداد واستقرّ حسن بن دمرداش في توريز ونصب للملك أخت السلطان أبي سعيد اسمها صالبيك وزوجها لسليمان خان من أسباط هلاكو واستقل بملك توريز وكان يعرف بالشيخ حسن الصغير لأنّ صاحب بغداد كان يشاركه في اسمه وهو أسن وأدخل في نسب الخان فميز بالكبير وميز هذا بالصغير ولما استقل حسن الصغير بالملك والخان عنده عجز عنه الشيخ حسن الكبير وغلبته أمم التركمان بضواحي الموصل إلى سائر بلاد الجزيرة فيقال أنه أرسل إلى الملك الناصر صاحب مصر بأن يملكه بغداد ويلحق به فيقيم عنده وطلب منه أن يبعث عساكره لذلك على أن يرهن فيهم ابنه فلم يتم ذلك لما اعترضه من الأحوال وافترقت مملكة بني هلاكو فكان هو ببغداد والصغير بتوريز وابن المظفر بعراق العجم وفارس والملك حسين بخراسان واستولى على أكثرها ملك الشمال أزبك صاحب التخت بصراي من بني دوشي خان بن جنكزخان ثم استوحش الشيخ حسن من سلطانه سليمان خان فقتله واستبد ثم هلك الشيخ حسن الصغير بن دمرداش بتوريز سنة أربع وأربعين وملك مكانه أخوه الأشرف ثم هلك الشيخ حسن الكبير ببغداد سنة سبع وخمسين والله تعالى أعلم.
أويس بن الشيخ حسن
ولما هلك الشيخ حسن الكبير ببغداد ولي مكانه ابنه أويس وكان بتوريز الأشرف بن دمرداش فزحف إليه ملك الشمال جاني بك بن أزبك سنة ثمان وخمسين وملكها من يده ورجع إلى خراسان بعد أن استخلف عليها ابنه واعتقل في طريقه فكتب أهل الدولة إلى ابنه بردبيك يستحثونه للملك فأغذ السير إليهم وترك بتوريز عاملها أخبجوخ فسار إليه أويس صاحب بغداد وغلبه عليها وملكها ثم ارتجعها منه أخبجوخ وأقام بها فزحف إليه ابن المظفر صاحب أصبهان وملكها من يده وقتله وانتظم في ملكه عراق العجم وتوريز وتستر وخوزستان ثم سار أويس فانتزعها من يد ابن المظفر واستقرّت في ملكه ورجع إلى بغداد وجلس على التخت واستفحل أمره ثم هلك سنة ست وسبعين حسين بن أويس وقد خلف

(5/623)


بنين خمسة وهم الشيخ حسن وحسين والشيخ علي وأبو يزيد وأحمد وكان وزيره زكريا وكبير دولته الأمير عادل كان كافلا لحسن ومن إقطاعه السلطانية فاجتمع أهل الدولة وبايعوا لابنه حسين بتوريز وقتلوا الشيخ حسن وزعموا أنّ أباهم أويسا أوصاهم بقتله وكان الشيخ علي بن أويس ببغداد فدخل في طاعة أخيه حسين وكان قنبر علي بادك من أمرائهم نائبا بتستر وخوزستان فبايع لحسين وبعث إليه بطاعته واستولى على دولته بتوريز زكريا وزير أبيه وكان إسماعيل ابن الوزير زكريا بالشام هاربا أمام أويس فقدم على أبيه زكريا وبعث إلى بغداد ليقوم بخدمة الشيخ على فاستخلصه واستبدّ عليه فغلب شجاع بن المظفر على توريز وارتجعها منه ولما استقل حسين بتوريز كان بنو المظفر طامعين في ولايتها وقد ملكوها من قبل كما مرّ وانتزعها أويس منهم فلما توفي أويس سار شجاع إلى توريز في عساكره فأجفل عنها حسين بن أويس إلى بغداد واستولى عليها شجاع ولحق حسين بأخيه الشيخ علي ووزيره إسماعيل ببغداد مستجيشا بهما فسرّحوا معه العساكر ورجع ادراجه إليها فهرب عنها شجاع إلى خوزستان وحصن ملكه بها واستقرّ فيها.
مقتل إسماعيل واستيلاء حسين على بغداد ثم ارتجاعها منه
كان إسماعيل مستبدّا على الشيخ علي ببغداد كما قدّمناه فتوثب به جماعة من أهل الدولة منهم مبارك شاه وقنبر وقرا محمد فقتلوه وعمه أمير أحمد منتصف إحدى وثمانين واستدعوا قنبر علي بادك من تستر فولوه مكان إسماعيل واستبدّ على الشيخ علي بغداد ونكر حسين عليهم ما آتوه وسار في عساكره من توريز إلى بغداد ففارقها الشيخ علي وقنبر على بادك إلى تستر واستولى حسين على بغداد واستمدّه فاتهمه بممالأة أخيه الشيخ علي ولم يمدّه ونهض الشيخ علي من تستر إلى واسط وجمع العرب من عبادان والجزيرة فأجفل أحمد من واسط إلى بغداد وسار الشيخ علي في أثره فأجفل حسين إلى توريز واستوسق ملك بغداد للشيخ علي واستقرّ كل ببلده والله تعالى أعلم.
انتقاض أحمد واستيلاؤه على توريز ومقتل حسين
ولما رجع حسين من بغداد إلى توريز عكف على لذاته وشغل بلهوه واستوحش منه أخوه أحمد فلحق بأردبيل وبها الشيخ صدر الدين واجتمع إليه من العساكر ثلاثة آلاف أو

(5/624)


يزيدون فسار إلى توريز وطرقها على حين غفلة فملكها واختفى حسين أياما ثم قبض عليه أحمد وقتله والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده.
انتقاض عادل ومسيره لقتال أحمد
كان الأمير عادل واليا على السلطانية وكانت من أقطاعه فلما بلغه مقتل حسين امتعض له وكان عنده أبو يزيد بن أويس فسارا إلى شجاع بن المظفر اليزدي صاحب فارس يستصرخانه على الأمير أحمد بن أويس فبعث العساكر لصريخهما وبرز الأمير أحمد للقائهم ثم تقاربوا واتفقوا أن يستقرّ أبو يزيد في السلطانية أميرا ويخرج الأمير عادل عن مملكتهم ويقيم عند شجاع بفارس واصطلحوا على ذلك وعاد أبو يزيد إلى السلطانية فأقام بها وأضرّ أمراؤه وخاصته بالرعايا فسدوا بالصريخ إلى أحمد بتوريز فسار في العساكر إليه وقبض عليه وكحله وتوفي بعد ذلك ببغداد.
مقتل الشيخ علي واستيلاء أحمد على بغداد
لما قتل أحمد أخاه حسينا جمع الشيخ علي العساكر واستنفر قرا محمد أمير التركمان بالجزيرة وسار من بغداد يريد توريز فبرز أحمد للقائه واستطرد له لما كان منه فبالغ في إتباعه إلى أن خفت عساكره فكرّ مستميتا وكانت جولة أصيب فيها الشيخ علي بسهم فمات وأسر قرا محمد فقتل ورجع أحمد إلى توريز واستوسق له ملكها ونهض إليه عادل ابن السلطان أبي سعيد يروم فرصة فيه فهزمه ثم سار أحمد إلى بغداد وقد كان استبدّ بها بعد مهلك الشيخ علي خواجا عبد الملك من صنائعهم بدعوة أحمد ثم قام الأمير عادل في السلطانية بدعوة أبي يزيد وبعث إلى بغداد قائدا اسمه برسق ليقيم بها دعوته فأطاعه عبد الملك وأدخله إلى بغداد ثم قتله برسق ثاني يوم دخوله واضطرب البلد شهرا ثم وصل أحمد من توريز وخرج برسق القائد لمدافعته فانهزم وجيء به إلى أحمد أسيرا فحبسه ثم قتله وقتل عادل بعد ذلك وكفى أحمد شرّه وانتظمت في ملكه توريز وبغداد وتستر والسلطانية وما إليها واستوسق أمره فيها ثم انتقض عليه أهل دولته سنة ست وثمانين وسار بعضهم إلى تمر سلطان بني جفطاي بعد أن خرج من وراء النهر بملكه يومئذ واستولى على خراسان فاستصرخه على أحمد فأجاب صريخه وبعث معه العساكر إلى توريز فأجفل عنها أحمد إلى بغداد واستبدّ بها ذلك الثائر

(5/625)


ورجع تمر إلى مملكته الأولى وطمع طغطمش ملك الشمال من بني دوشي خان في انتزاع توريز من يد ذلك الثائر فسار إليها وملكها وزحف تمر في عساكره سنة سبع وثمانين إلى أصبهان وبعث العساكر إلى توريز فاستباحها وخربها واستولى على تستر والسلطانية وانتظمهما في أعماله وانفرد أحمد ببغداد وأقام بها.
استيلاء تمر على بغداد ولحاق أحمد بالشام
كان تمر سلطان المغل بعد أن استولى على توريز خرج عليه خارج من قومه في بلاده يعرف بقمر الدين فجاءه الخبر عنه وأنّ طغطمش صاحب كرسي صراي في الشمال أمدّه بأمواله وعساكره فكرّ راجعا من أصبهان إلى بلاده وعميت أنباؤه إلى سنة خمس وسبعين ثم جاءت الأخبار بأنه غلب قمر الدين الخارج عليه ومحا أثر فساده ثم استولى على كرسيّ صراي وأعمالها ثم خطى إلى أصبهان وعراق العجم والريّ وفارس وكرمان فملك جميعها من بني المظفر اليزدي بعد حروب هلك فيها ملوكهم وبادت جموعهم وشد أحمد ببغداد عزائمه وجمع عساكره وأخذ في الاستعداد ثم عدل إلى مصانعته ومهاداته فلم يغن ذلك وما زال تمر يخادعه بالملاطفة والمراسلة إلى أن فتر عزمه وافترقت عساكره فنهض إليه يغذ السير في غفلة منه حتى انتهى إلى دجلة وسبق النذير إلى أحمد فأسرى بغلس ليلة وحمل ما أقلته الرواحل من أمواله وذخائره وخرّق سفن دجلة ومرّ بنهر الحلة فقطعه وصبح مشهد علي ووافى تمر وعساكره دجلة في حادي عشر شوّال سنة خمس وتسعين ولم يجد السفن فاقتحم بعساكره النهر ودخل بغداد واستولى عليها وبعث العساكر في إتباع أحمد فساروا إلى الحلة وقد قطع جسرها فخاضوا النهر عندها وأدركوا أحمد بمشهد علي واستولوا على أثقاله ورواحله فكر عليهم في جموعه واستماتوا وقتل الأمير الّذي كان في إتباعه ورجع بقية التتر عنهم ونجا أحمد إلى الرحبة من تخوم الشام فأراح بها وطالع نائبها السلطان بأمره فسرّح بعض خواصه لتلقيه بالنفقات والأزواد وليستقدمه فقدم به إلى حلب وأراح بها وطرقه مرض أبطأ به عن مصر وجاءت الأخبار بأن تمرعاث في مخلفه واستصفى ذخائره واستوعب موجود أهل بغداد بالمصادرات لأغنيائهم وفقرائهم حتى مستهم الحاجة وأقفرت جوانب بغداد من العيث ثم قدم أحمد بن أويس على السلطان بمصر في شهر ربيع سنة ست وتسعين مستصرخا به على طلب ملكه والانتقام من عدوّه فأجاب السلطان صريخه ونادى في عسكره بالتجهز إلى الشام وقد كان تمر بعد ما استولى على بغداد زحف في عساكره إلى تكريت مأوى المخالفين

(5/626)


وعش الحرابة ورصد السابلة وأناخ عليها بجموعه أربعين فحاصرها حتى نزلوا على حكمه وقتل من قتل منهم ثم خربها وأقفرها وانتشرت عساكره في ديار بكر إلى الرها ووقفوا عليها ساعة من نهار فملكوها وانتسفوا نعمها وافترق أهلها وبلغ الخبر إلى السلطان فخيم بالزيدانية أياما أزاح فيها علل عساكره وأفاض العطاء في مماليكه واستوعب الحشد من سائر أصناف الجند واستخلف على القاهرة النائب سودون وارتحل إلى الشام على التعبية ومعه أحمد بن أويس بعد أن كفاه مهمه وشرب النفقات في تابعه وجنده ودخل دمشق آخر جمادى الأولى وقد كان أوعز إلى جلبان صاحب حلب بالخروج إلى الفرات واستنفار العرب والتركمان للإقامة هناك رصدا للعدو فلما وصل إلى دمشق وفد عليه جلبان وطالعة بمهماته وما عنده من أخبار القوم ورجع لإنفاذ أوامره والفصل فيما يطالعه فيه وبعث السلطان على أثره العساكر مددا له مع كمشيقا الأتابك وتكلتمش أمير سلاح وأحمد بن بيبقا وكان العدو تمر قد شغل بحصار ماردين فأقام عليها أشهرا وملكها وعاثت عساكره فيها واكتسحت نواحيها وامتنعت عليه قلعتها فارتحل عنها إلى ناحية بلاد الروم ومرّ بقلاع الأكراد فأغارت عساكره عليها واكتسحت نواحيها والسلطان لهذا العهد وهو شعبان سنة ستمائة وتسعين مقيم بدمشق مستجمع لنطاحه والوثبة به متى استقبل جهته والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق بمنه وكرمه
.

(5/627)


الخبر عن بني المظفر اليزدي المتغلبين على أصفهان وفارس بعد انقراض دولة بني هلاكو وابتداء أمورهم ومصايرها
كان أحمد المظفر من أهل يزد وكان شجاعا واتصل بالدولة أيام أبي سعيد فولوه حفظ السابلة بفارس وكان منها مبدأ أمرهم وذلك أنه لما توفي أبو سعيد سنة ست وثلاثين وسبعمائة ولم يعقب اضطربت الدولة ومرج أمر الناس وافترق الملك طوائف وغلب أزبك صاحب الشمال على طائفة من خراسان فملكها واستبدّ بهراة الملك حسين والان محمود فرشحه من أهل دولة لسلطان أبي سعيد عاملا على أصبهان وفارس فاستبدّ بأمره واتخذ الكرسي بشيراز الى ان هلك وولي بعده ابنه أبو إسحاق أمير شيخ سالكا سبيله في الاستبداد وكانت له آثار جميلة وله صنف الشيخ عضد الدين كتاب المواقف والشيخ عماد الدين الكاشي شرح كتاب المفتاح وسموهما باسمه وتغلب أيضا محمد بن المظفر على كرمان ونواحيها فصارت بيده وطمع في الاستيلاء على فارس وكان أبو إسحاق أمير شيخ قد قتل شريفا من أعيان شيراز فنادى بالنكير عليه ليتوصل إلى غرض انتزاع الملك من يده وسار في جموعه إلى شيراز ومال إليه أهل البلد لنفرتهم عن أمير شيخ لفعلته فيهم فأمكنوه من البلد وملكها واستولى على كرسيها وهرب أبو إسحاق أمير شيخ إلى أصبهان وأتبعه ففرّ منه أيضا وملك أصبهان وبث الطلب في الجهات حتى تقبض عليه وقتله قصاصا بالشريف الّذي قتله بشيراز وكان له من الولد أربعة شاه ولي ومحمود وشجاع وأحمد وتوفي شاه ولي أيام أبيه وترك ابنيه منصورا ويحيى وملك ابنه محمود أصبهان وابنه شجاع شيراز وكرمان واستبدّ عليه محمود وشجاع وخلفاه في ملكه سنة ستين وكحلاه وتولى ذلك شجاع وسار إليه محمود من أصبهان بعد أن استجاش بأويس بن حسن الكبير فأمدّه بالعساكر سنة خمس وستين وملك شيراز ولحق شجاع بكرمان من أعماله وأقام بها واختلف عليه عماله ثم استقاموا على طاعته ثم جمع بعد ثلاث سنين ورجع إلى شيراز ففارقها أخوه محمد إلى أصبهان وأقام بها إلى أن هلك سنة ست وسبعين فاستضافها شجاع إلى أعماله وأقطعها لابنه زين العابدين وزوّجه بابنة أويس التي كانت تحت محمود وولىّ على مردي ابن أخيه شاه ولي ثم هلك شجاع سنة سبع وثمانين واستقل ابنه زين العابدين بأصبهان وخلفه في شيراز وفارس منصور ابن أخيه شاه ولي وكان عادل كبير دولة بني أويس بالسلطانية كما مرّ ولحق به منصور بن شاه ولي هاربا من شيراز أمام عمه زين

(5/628)


العابدين فحبس ثم فرّ من محبسه ولحق بأحمد بن أويس مستصرخا به فصارخه وأنزله بتستر من أعماله ثم سار منها إلى شيراز ففارقها عمه زين العابدين إلى أصبهان وأخوه يحيى بيزد وعمهما أحمد بن محمد بن المظفر بكرمان ثم زحف تمر سلطان التتر من بني جفطاي بن جنكزخان سنة ثمان وثمانين وملك توريز وخربها كما مرّ في أخباره فأطاعه يحيى صاحب يزد وأحمد صاحب كرمان وهرب زين العابدين من أصبهان وملكها عليه تمر فلحق بشيراز ورجع تمر إلى بلاده فيما وراء النهر وعميت أنباؤه إلى سنة خمس وتسعين فزحف إلى بلاد فارس وجمع منصور بن شاه ولي العساكر لحربه فخادعه تمر بولايته وانكفأ راجعا إلى هراة فافترقت عساكر منصور بن شاه ولي وجاءت عيون تمر بخبر افتراقها إليه فأغذ السير وكبس منصور بن شاه ولي بظاهر شيراز وهو في قلّ من العساكر لا يجاوزون الفين فهرب الكثير من أصحابه إلى تمر واستمات هو والباقون وقاتلوا أشدّ قتال وفقد هو في المعركة فلم يوقف له على خبر وملك تمر شيراز واستضافها إلى أصبهان وولى عليها من قبله وقتل أحمد بن محمد صاحب كرمان وابنيه وولى على كرمان من قبله وقتل يحيى بن شاه ولي صاحب يزد وابنيه وولي على يزد من قبله واستلحم بني المظفر واستصفى زين العابدين بن شجاع بن محمود وهرب ابنه فلحق بخاله أحمد بن أويس وهو لهذا العهد مقيم معه بمصر والله وارث الأرض ومن عليها واليه يرجعون
.

(5/629)


الخبر عن بني ارتنا ملوك بلاد الروم من المغل بعد بني هلاكو والإلمام بمبادي أمورهم ومصايرها
قد سبق لنا أنّ هذه المملكة كانت لبني قليج أرسلان من ملوك السلجوقية وهم الذين أقاموا فيها دعوة الإسلام وانتزعوها من يد ملوك الروم أهل قسطنطينية واستضافوا إليها كثيرا من أعمال الأرض ومن ديار بكر فانفسحت أعمالهم وعظمت ممالكهم وكان كرسيهم بقونية ومن أعمالها أقصرا وأنطاكية والعلايا وطغرل ودمرلو وقراحصار ومن ممالكهم أذربيجان ومن أعمالها آق شهر وكامخ وقلعة كعونية ومن ممالكهم قيسارية ومن أعمالها نكرة [1] وعدا قلية ومنال ومن ممالكهم أيضا سيواس وأعمالها ملكوها من يد الوانشمند كما مرّ في أخبارهم ومن أعمالها نكسار وأقاسية وتوقات وقمنات وكنكرة كورية وسامسول وصغوى وكسحونية وطرخلوا وبرلوا ومما استضافوه من بلاد الأرمن خلاط وأرمينية الكبرى وأني [2] وسلطان وأرجيس وأعمالها ومن ديار بكر خرت برت وملطية وسميساط ومسارة فكانت لهم هذه الأعمال وما يتصل بها من الشمال إلى مدينة برصة ثم إلى مدينة خليج القسطنطينية واستفحل ملكهم فيها وعظمت دولتهم ثم طرقها الهرم والفشل كما يطرق الدول ولما استولى التتر على ممالك الإسلام وورثوا الدول في سائر النواحي واستقرّ التخت الأعظم لمنكوفان أخي هلاكو وجهز عساكر المغل سنة أربع وخمسين وستمائة إلى هذه البلاد وعليهم بيكو من أكابر أمرائهم وعلى بلاد الروم يومئذ غياث الدين كنخسرو بن علاء الدين كيقباد وهو الثاني عشر من ملوكهم من ولد قطلمش فنزلوا على أرزن الروم بها سنان الدين ياقوت مولى علاء الدين فملكوها بعد حصار شهرين واستباحوها وتقدّموا أمامهم ولقيهم غياث الدين بالصحراء على آق شهر وزنجان وانهزم غياث الدين واحتمل ذخيرته وعياله ولحق بقونية واستولى بيكو على مخلفه ثم سار إلى قيسارية فملكوها وهلك غياث الدين أثر ذلك وملك بعده بعهد ابنه علاء الدين كيقباد وأشرك معه أخويه في أمره وهما عز الدين كيكاوس وركن الدين قليج أرسلان وعاثت عساكر التتر في البلدا فسار علاء الدين كيقباد إلى منكوفان صاحب التخت واختلف أخواه من بعده وغلب عز الدين كيكاوس واعتقل أخاه ركن الدين بقونية وبعث في أثر أخيه علاء الدين من يستفسد له منكوفان فلم يحصل من ذلك على طائل وهلك علاء الدين
__________
[1] هي اليوم أنقره.
[2] والمشهور: وأن.

(5/630)


في طريقه وكتب منكوفان بتشريك الملك بين عز الدين وركن الدين والبلاد بينهما مقسومة فعز الدين من سيواس إلى تخوم القسطنطينية ولركن الدين من سيواس إلى أرزن الروم متصلا من جهة الشرق ببلاد التتر وأفرج عز الدين عن ركن الدين واستقرّ في طاعة التتر وسار بيكو في بلاد الروم قبل أن يرجع عز الدين فلقيه أرسلان دغمش من أمراء عز الدين فهزمه بيكو إلى قونية فأجفل عنها عز الدين إلى العلايا وحاصرها بيكو فملكها على يد خطيبها وخرج إلى بيكو فأسلمت زوجته على يده ومنع التتر من دخولها إلّا وحدانا وأن لا يتعرّضوا لأحد واستقرّ عز الدين وركن الدين في طاعة التتر ولهما اسم الملك والحكم للشحنة بيكو ولما زحف هلاكو إلى بغداد سنة ست وخمسين واستنفر بيكو وعساكره فامتنع واعتذر بمن في طريقه من طوائف الأكراد الفراسيلية والياروقية فبعث إليه هلاكو العساكر ومرّوا بأذربيجان وقد أجفل أهلها وهم قوم من الأكراد فملكوها وساروا مع بيكو إلى هلاكو وحضروا معه فتح بغداد وما بعدها ولما نزل هلاكو حلب استدعى عز الدين وركن الدين فحضرا معه فتحها وحضر معهما وزير هما معين الدين سليمان البرواناة واستحسنه هلاكو وتقدّم إلى ركن الدين بأن يكون السفير إليه عنه فلم يزل على ذلك ثم هلك بيكو مقدم التتر ببلاد الروم وولي مكانه صمقار من أمراء المغل ثم اختلف الأميران عز الدين وغياث الدين سنة تسع وخمسين واستولى عز الدين على أعمال ركن الدين فسار ومعه البرواناة إلى هلاكو صريخا فأمدّه بالعساكر وسار إلى عز الدين فهزمهم واستمدّه ثانيا فأمدّه هلاكو وانهزم عز الدين فلحق بالقسطنطينية وأقام عند صاحبها لشكري واستولى ركن الدين قليج أرسلان على بلاد الروم وامتنع التركمان الذين بتلك الأعمال بأطراف الأعمال والثغور والسواحل وطلبوا الولاية من هلاكو فولاهم وأعطاهم الله الملك فهم الملوك بها من يومئذ كما يأتي في أخبارهم إن شاء الله تعالى وأقام عز الدين بالقسطنطينية وأراد التوثب بصاحبها لشكري ووشى به أخواله من الروم فاعتقله لشكري في بعض قلاعه ثم هلك ويقال أنّ ملك الشمال منكوتمر صاحب التخت بصراي حدثت بينه وبين صاحب القسطنطينية فتنة فغزاه واكتسح بلاده ومرّ بالقلعة التي بها عز الدين معتقلا فاحتمله معه إلى صراي وهلك عنده ولحق ابنه مسعود بعد ذلك بأبغا بن هلاكو فأكرمه وولاه على بعض القلاع ببلاد الروم ثم أنّ معين الدين سليمان البرواناة ارتاب بركن الدين فقتله غيلة سنة ست وستين ونصب ابنه كنخسرو [1] للملك ولقبه غياث الدين وكان متغلبا عليه مقيما مع ذلك على طاعة التتر وربما كان يستوحش منهم فيكاتب سلطان مصر بالدخول في طاعته واطلع أبغا على كتابه بذلك إلى الظاهر بيبرس فنكره وهلك صمغار الشحنة فبعث
__________
[1] وفي نسخة اخرى: كنخسرو.

(5/631)


أبغا مكانه أميرين من أمراء المغل وهما تدوان وتوقر فتقدما سنة خمس وسبعين إلى بلاد الشام ونزلا بابلستين ومعهما غياث الدين كنجسرو وكافله البرواناة في العساكر وسار الظاهر من دمشق فلقيهم بابلستين وقد قعد البرواناة لما كان تواعد مع الظاهر عليه وهزمهم الظاهر جميعا وقتل الأميرين تدوان وتوقر في جماعة من التتر ونجا البرواناة وسلطانه فلم يصب منهم أحد واستراب السلطان بالبرواناة لذلك وملك الظاهر قيسارية كرسي بلاد الروم وعاد إلى مصر وجاء أبغا ووقف على مكانه الملحمة ورأى مصارع قومه فصدّق الريبة بممالأة الظاهر والبرواناة وأصحابه فاكتسح البلاد وخربها ورجع ثم استدعى البرواناة إلى معسكره فقتله وأقام مكانه في كفالة كنجسرو أخاه عز الدين محمدا ولم يزل غياث الدين واليا على بلاد الروم والشحنة من المغل حاكم في البلاد إلى أن ولي تكرار بن هلاكو وكان أخوه قنقرطاي مقيما ببلاد الروم مع صمغار فبعث عنه وامتنع من الوصول فأوعز إلى غياث الدين واعتقله بارزنكان وولي على بلاد الروم على الشحنة أولاكو من أمراء المغل وذلك سنة إحدى وثمانين ويقال أنّ أرغو بن أبغا هو الّذي ولىّ أولا كوشحنة ببلاد الروم بعد صمغار وأنّ تدوان وتوقر إنما بعث بهما أبغا لقتال الظاهر ولم يرسلهما شحنة ثم أقام مسعود بن عز الدين كيكاوس في سلطانه ببلاد الروم والحكم لشحنة التتر وليس له من الملك إلا اسمه إلى أن افترق واضمحلّ أمره وبقي أمراء المغل يتعاقبون في الشحنة ببلاد الروم وكان منهم أوّل المائة الثامنة الأمير علي وهو الّذي قتل ملك الأرمن هيشوش بن ليعون صاحب سيس واستعدى أخوه عليه بخربندا فأعداه وقتله كما مرّ في أخبار الأرمن في دولة الترك وكان منهم سنة عشرين وسبعمائة الأمير ألبغا ولي السلطان أبو سعيد على بلاد الروم دمرداش بن جوبان سنة ثلاث وعشرين واستفحل بها ملكه وجاهد الأرمن بسيس واستمدّ الناصر محمد بن قلاون صاحب مصر عليهم فأمدّه بالعساكر وافتتحوا إياس عنوة ورجعوا ثم نكب السلطان أبو سعيد نائبة جوبان بن بروان وقتله كما مرّ في أخبارهم وبلغ الخبر إلى دمرداش ابنه ببلاد الروم فاضطرب لذلك ولحق بمصر في عساكره وأمرائه فأقبل السلطان عليه وتلقاه بالتكرمة والإيثار وجاءت رسل أبي سعيد في اتباعه تطلب حكم الله تعالى فيه بسعيه في الفساد وإثارة الفتنة على أن يفعل مثل ذلك في قراسنقر النازع إليهم من أمراء الشام فقتلوه وقتل دمرداش بمصر وذهبا بما كسبا وكان دمرداش لما هرب من بلاد الروم إلى مصر ترك من أمرائه إرتنا وكان يسمى النوير اسم أبناء الملوك فبعث إلى أبي سعيد بطاعته فولاه على البلاد فملكها ونزل سيواس واتخذها كرسي ملكه ثم استبدّ حسن بن دمرداش بتوريز فبايع له إرتنا ثم انتقض وكاتب الملك الناصر

(5/632)


صاحب مصر ودخل في طاعته وبعث إليه بالولاية والخلع فجمع له حسن بن دمرداش وسار إليه بسيواس وسار ارتنا للقائه بصحراء كسنوك وهزمه وأسر جماعة من أمرائه وذلك سنة أربع وأربعين واستفحل ملك ارتنا من يومئذ وعجز جوبان وحسن بن دمرداش عن طلبه إلى أن توفي سنة ثلاث وخمسين وأمّا بنوه من بعده فلا أدري من ملك منهم ولا ترتيب ولايتهم إلا أنه وقع في أخبار الترك أنّ السلطان أوعز سنة ست وستين إلى نائب حلب أن يسير في العساكر لإنجاد محمد بك بن إرتنا فمضوا وظفروا وما زال إرتنا وبنوه مستبدّين ببلاد الروم وأعمالها واقتطع لهم التركمان منها بلاد الأرمن سيس وما إليها فاستولى عليها بنو دلقادر على خلافه وزحف إليه وهي في أيديهم لهذا العهد ولما خالف سعاروس من أمراء الترك سنة اثنتين وخمسين ظاهره قراجا بن دلقادر على خلافه وزحف إليه السلطان من مصر فافترقت جموعه واتبعه العساكر فقتل وبعث السلطان سنة أربع وخمسين عسكرا في طلب قراجا فساروا إلى ابلستين وأجفل عنها نائبها فنهبوا أحياءه ولحق هو بابن أرتنا بسيواس فقبض عليه وبعث به إلى السلطان بمصر فقتله واقتطع التركمان ناحية الشمال من أعمالهم إلى القسطنطينية وأثخنوا في أمم النصرانية وراءهم واستولوا على كثير من تلك الممالك وراء القسطنطينية وأميرهم لهذا العهد في عداد الملوك الأعاظم ودولتهم ناشئة متجدّدة وكان صبيا بسيواس منذ أعوام الثمانين وهو من أعقاب بني إرتنا فاستبدّ عليه قاضي البلد لما كان كافلا له بوصية أبيه ثم قتل القاضي ذلك الصبيّ أعوام اثنتين وتسعين واستبدّ بذلك وكانت هناك أحياء التتر يناهزون ثلاثين ألفا أو نحوها مقيمين بتلك النواحي دمرداش بن جوبان ومن قبله من أمراء المغل فكانوا شيعة لبني إرتنا وعصابة لهم وهم الذين استنجد بهم القاضي حين وجهت إليه عساكر مصر في طلب منطاش الثائر الّذي فر ثم لحق به وسارت عساكر مصر في طلبه سنة تسع وثمانين فاستنجد القاضي بأحياء التتر هؤلاء وجاءوا لإنجاده ورجعت عساكر مصر عنهم كما تقدّم ذلك كله في أخبار الترك والحال على ذلك لهذا العهد والله مصير الأمور بحكمته وهو على كل شيء قدير
.

(5/633)


الخبر عن الدولة المستجدّة للتركمان في شمال بلاد الروم إلى خليج القسطنطينية وما وراءه لبني عثمان وإخوته
قد تقدّم لنا في أنساب العالم ذكر هؤلاك التركمان وإنهم من ولد يافث بن نوح أي من توغرما بن كومر بن يافث كذا وقع في التوراة وذكر الفيومي من علماء بني إسرائيل ونسابتهم أنّ توغرما هم الخزر وأن الخزر هم التركمان إخوة الترك ومواطنهم فيما وجدناه من بحر طبرستان ويسمى بحر الخزر إلى جو في القسطنطينية وشرقها إلى ديار بكر وبعد انقراض العرب والأرمن ملكوا نواحي الفرات من أوّله إلى مصبه في دجلة وهم شعوب متفرّقون وأحياء مختلفون لا يحصرهم الضبط ولا يحويهم العدّ وكان منهم ببلاد الروم وجموع مستكثرة كان ملوكها يستكثرون بهم في حروبهم مع أعدائهم وكان كبيرهم فيها لعهد المائة الرابعة جق وكانت أحياؤهم متوافرة وأعدادهم متكاثرة ولما ملك سليمان بن قطلمش قونية بعد أبيه وفتح انطاكية سنة سبع وسبعين من يد الروم طالبه مسلم بن قريش بما كان له على الروم فيها من الجزية فأنف من ذلك وحدثت بينهما الفتنة وجمع قريش العرب والتركمان مع أميرهم جق وسار إلى حرب سليمان بأنطاكية فلما التقيا مال التركمان إلى سليمان لعصبية الترك وانهزم مسلم بن قريش وقتل وأقام أولئك التركمان ببلاد الروم أيام بني قطلمش موطنين بالجبال والسواحل ولما ملك التتر ببلاد الروم وأبقوا على بني قطلمش ملكهم وولوا ركن الدولة قليج أرسلان بعد أن غلب أخوه عز الدين كيكاوس وهرب إلى القسطنطينية وكان أمراء هؤلاء التركمان يومئذ محمد بك وأخاه الياس بك وصهره علي بك وقريبه سونج والظاهر أنهم من بني جق فانتقضوا على ركن الدولة وبعثوا إلى هلاكو بطاعتهم وتقرير الأثر عليهم وأن يبعث إليهم باللواء على العادة وأن يبعث شحنة من التتر يختص بهم فأسعفهم بذلك وقلدهم وهم من يومئذ ملوك بها ثم أرسل هلاكو إلى محمد بك الأمير يستدعيه فامتنع من المسير إليه واعتذر فأوعز هلاكو إلى الشحنة الّذي ببلاد الروم إلى السلطان قليج أرسلان بمحاربته فساروا إليه وحاربوه ونزع عنه صهره علي بك ووفد على هلاكو فقدمه مكان محمد صهره ولقي محمد العساكر فانهزم وأبعد في المفرّ. ثم جاء إلى قليج أرسلان مستأمنا فأمنه وسار معه إلى قونية فقتله واستقرّ صهره علي بك أميرا على التركمان وفتحت عساكر التتر نواحي بلاد الروم إلى إسطنبول والظاهر أنّ بني عثمان ملوكهم لهذا العهد من أعقاب علي بك أو أقاربه يشهد بذلك اتصال هذه الإمارة

(5/634)


فيهم مدّة هذه المائة سنة ولما اضمحلّ أمر التتر من بلاد الروم واستقرّ بنو ارتنا بسيواس وأعمالها غلب هؤلاء التركمان على ما وراء الدروب إلى خليج القسطنطينية ونزل ملكهم مدينة برصا من تلك الناحية وكان يسمى أورخان بن عثمان جق فاتخذها دارا لملكهم ولم يفارق الخيام إلى القصور وإنما ينزل بخيامه في بسيطها وضواحيها وولي بعده ابنه مر أدبك وتوغل في بلاد النصرانية وراء الخليج وافتتح بلادهم إلى قريب من خليج البنادقة وجبال جنوة وصار أكثرهم ذمّة ورعايا وعاث في بلاد الصقالبة بما لم يعهد لمن قبله وأحاط بالقسطنطينية من جميع نواحيها حتى اعتقل ملكها من أعقاب لشكري وطلب منه الذمّة وأعطاه الجزية ولم يزل على جهاد أمم النصرانية وراءه إلى أن قتله الصقالبة في حروبه معهم سنة إحدى وتسعين وسبعمائة وولي بعده ابنه أبو يزيد وهو ملكهم لهذا العهد وقد استفحل ملكهم واستنجدت بالغز دولتهم وكان قد غلب على قطعة من بلاد الروم ما بين سيواس وبلادهم من انطاكية والعلايا بحيال البحر إلى قونية بنو قرمان من أمراء التركمان وهم الذين كانوا في حدود أرمينية وجدّهم هو الّذي هزم أوشين بن ليعون ملك سيس من الأرمن سنة عشرين وسبعمائة ثم كان بين بني عثمان جق وبين بني قرمان اتصال ومصاهرة وكان ابن قرمان لهذا العهد صهر السلطان مراد بك على أخته فغلبه السلطان مراد بك على ما بيده ودخل ابن قرمون صاحب العلايا في طاعته بل والتركمان كلهم وفتح سائر البلاد ولم يبق له إلّا سيواس بلد بني ارتنا في استبداد القاضي الّذي عليها وما أدرى ما الله صانع بعد ظهور هذا الملك تمر المتغلب على ملك المغل من بني جفطاي بن جنكزخان وملك ابن عثمان لهذا العهد مستفحل بتلك الناحية الشمالية ومتسع في أقطارها ومرهوب عند أمم النصرانية هنالك ودولته مستجدّة عزيزة على تلك الأمم والأحياء والله غالب على أمره وإلى هنا انتهت أخبار الطبقة الثالثة من العرب ودولهم وهم الأمم التابعة للعرب بما تضمنه من الدول الإسلامية شرقا وغربا لهم ولمن تبعهم من العجم فلنرجع الآن إلى ذكر الطبقة الرابعة من العرب وهم المستعجمة أهل الجيل الناشيء بعد انقراض اللسان المضري ودروسه ونذكر أخبارهم ثم نخرج إلى الكتاب الثالث من الثالث في أخبار البربر ودولهم فنفرغ بفراغها من الكتاب إن شاء الله تعالى والله وليّ العون والتوفيق بمنه وكرمه.
تم طبع الجزء الخامس ويليه الجزء السادس أوّله الطبعة الرابعة

(5/635)