تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، ط التوفيقية

بسم الله الرحمن الرحيم
السيرة النبوية قبل الهجرة:
ذِكْرُ نَسَبِ سَيِّدِ الْبَشَرِ:
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أَبُو الْقَاسِمِ سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَاسْمُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: شَيْبَةُ بْنُ هَاشِمٍ، وَاسْمُهُ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَاسْمُهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ قُصَيٍّ، وَاسْمُهُ زَيْدُ بْنُ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ، وَاسْمُهُ عَامِرُ بْنُ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ، وَعَدْنَانُ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَعَلَى نَبِيِّنَا وَسَلَّمَ، بِإِجْمَاعِ النَّاسِ1.
لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَ عَدْنَانَ وَبَيْنَ إِسْمَاعِيلَ مِنَ الآباء، فقيل بينهما تسعة آباء.
وقيل: بينهما سبعة آبَاءٍ، وَقِيلَ: سَبْعَةٌ، وَقِيلَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ.
لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي أَسْمَاءِ بَعْضِ الْآبَاءِ، وَقِيلَ: بَيْنَهُمَا خَمْسَةَ عَشَرَ أَبًا، وَقِيلَ: بَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ أَبًا وَهُوَ بَعِيدٌ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْعَرَبِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: مَا وَجَدْنَا مَنْ يَعْرِفُ مَا وراء عدنان ولا قحطان إلا تخرّصًا2.
__________
1 وقد ذكر الحافظ ابن كثير في "البداية" "1/ 684" نسب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عدنان، ثم قال: وهذا النسب بهذه الصفة لا خلاف فيه بين العلماء. وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" "6/ 611"، وأما من النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عدنان فمتفق عليه.
2 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 25"، وإسناده حسن، فيه ابن لهيعة، وهو وإن كان سيئ الحفظ فقد روى عنه هذا الأثر عبد الله بن وهب، وروايته عنه قوية كما في "التقريب" "3563"، وفيه أيضًا خالد بن خداش، فيه مقال لا ينزل حديثه عن رتبة الحسن، فانظر "الميزان" للمصنف "2418".

(1/19)


وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ وَبَيْنَ إِسْمَاعِيلَ ثَلَاثُونَ1، أَبًا قَالَهُ: هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ النَّسَّابَةُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَكِنْ هِشَامٌ وَأَبُوهُ مَتْرُوكَانِ2.
وَجَاءَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "كَانَ إِذَا انْتَهَى إِلَى عَدْنَانَ أَمْسَكَ وَيَقُولُ: "كَذَبَ النَّسَّابُونَ" 3 قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} 4.
وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ يَتِيمُ عُرْوَةَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ قُرَيْشٍ بِأَنْسَابِهَا وَأَشْعَارِهَا يَقُولُ: مَا وَجَدْنَا أَحَدًا يَعْلَمُ مَا وَرَاءَ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ فِي شِعْرِ شَاعِرٍ وَلَا عِلْمِ عَالِمٍ5.
قَالَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ: سَمِعْتُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ مَعَدًّا كَانَ عَلَى عَهْدِ عِيسَى بْنِ مريم -عليه السلام6.
__________
1 لم أجده عن ابن عباس -رضي الله عنه- وقد أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 24" عن محمد بن السائب الكلبي قال: بين معد وإسماعيل -صلى الله عليه وسلم- نيف وثلاثون أبا. والكلبي متروك إذا أسند، فكيف إذا لم يسند، والراوي عنه هو هشام ابنه، وهو مثله في الضعف.
2 أما هشام فقد قال الدارقطني وغيره: متروك، وقال ابن عساكر: رافضي ليس بثقة. وقال الحافظ الذهبي: لا يوثق به، انظر ترجمته في "الميزان" "9237".
وأما أبوه محمد بن السائب فهو مفسر نسابة، معروف، ولكنه متروك ومتهم بالكذب، خاصة عن أبي صالح، فقد صرح نفسه بهذا، حيث قال لسفيان: كل ما حدثتك عن أبي صالح فهو كذب. ولذلك تركه أئمة الجرح والتعديل. وانظر "الميزان" "7574".
3 إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 24"، من طريق هشام عن أبيه عن أبي صالح به، وهذا إسناد مسلسل بالضعفاء، أما أبو صالح فهو باذام، ضعيف كما في "الميزان "1032"، وهشام وأبوه كلاهما متروك، وقد صرح أبوه بالكذب في روايته عن أبي صالح كما تقدم.
4 سورة الفرقان: 38.
5 إسناده حسن: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 25"، وفي إسناده ابن لهيعة وقد رواه عنه عبد الله بن وهب، وروايته عنه قوية كما تقدم، وفيه خالد بن خداش، حسن الحديث كما تقدم، وأبو الأسود هو محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، ثقة كما في "التهذيب" "3/ 630"، وأبو بكر بن سليمان بن أبي حثمة تابعي ثقة كما في "التهذيب "4/ 488".
6 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 24"، وهشام متروك كما تقدم.

(1/20)


وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونَ الْأَوْدِيُّ إِذَا تَلَوْا: {وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ} 1 قَالُوا: كَذَبَ النَّسَّابُونَ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: مَعْنَى هَذَا عِنْدَنَا عَلَى غَيْرِ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى فِيهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ: تَكْذِيبُ مَنِ ادَّعَى إِحْصَاءَ بَنِي آدَمَ.
وَأَمَّا أَنْسَابُ الْعَرَبِ فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ بِأَيَّامِهَا وَأَنْسَابِهَا قَدْ وَعَوْا وَحَفِظُوا جَمَاهِيرَهَا وَأُمَّهَاتِ قَبَائِلِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ فُرُوعِ ذَلِكَ.
وَالَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ هَذَا الشَّأْنِ أَنَّهُ: عَدْنَانُ بْنُ أُدَدِ بْنِ مُقَوِّمِ بْنِ نَاحُورَ بْنِ تَيْرَحِ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ نَابِتِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ بْنِ آزَرَ، وَاسْمُهُ تَارَحُ بْنُ نَاحُورَ بْنِ سَارُوغَ بْنِ رَاغُو بْنِ فَالَخَ بْنِ عَيْبَرَ بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بْنِ لَمَّكِ بْنِ مَتُّوشَلَخَ بن خنوخ، وهو إدريس -عليه السلام- بن يَرْدَ بْنِ مِهْلِيلَ بْنِ قَيْنَنَ بْنِ يَانِشَ بْنِ شِيثَ بْنِ آدَمَ أَبِي الْبَشَرِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَ: وَهَذَا الَّذِي اعْتَمَدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ ابْنِ إِسْحَاقَ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَسْمَاءِ.
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا الْإِمْسَاكُ عَمَّا وَرَاءَ عَدْنَانَ إِلَى إِسْمَاعِيلَ.
وَرَوَى سَلَمَةُ الْأَبْرَشُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ هَذَا النَّسَبَ إِلَى يَشْجُبَ سَوَاءً، ثُمَّ خَالَفَهُ فَقَالَ: يَشْجُبُ بْنُ يَانِشَ بْنِ سَارُوغَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْعَوَّامِ بْنِ قِيذَارَ بْنِ نَبْتِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: يَذْكُرُونَ أَنَّ عُمُرَ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَأَنَّهُ دُفِنَ فِي الْحِجْرِ مَعَ أُمِّهِ هَاجَرَ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي خَلَّادُ بْنُ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ السَّدُوسِيُّ، عَنْ شَيْبَانَ بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ تَارَحَ بْنِ نَاحُورَ بْنِ أَشْرَعَ بْنِ أَرْغُو بْنِ فَالَخَ بْنِ عَابِرِ بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نُوحِ بْنِ لَامَكَ بْنِ مَتُّوشَلَخَ بْنِ خَنُوخَ بْنِ يَرْدَ بْنِ مِهْلَايِيلَ بْنِ قَايَنَ بْنِ أنوش بن شيث بن آدم2.
__________
1 سورة إبراهيم: 9.
2 في إسناده من لم أجد لهم تراجم.

(1/21)


وَرَوَى عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، أَنَّهُ وَجَدَ نَسَبَ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي التَّوْرَاةِ: إِبْرَاهِيمُ بْنُ تَارَحَ بْنِ نَاحُورَ بْنِ شَرْوَغَ بْنِ أَرْغُو بْنِ فَالَغَ بْنِ عَابِرِ بْنِ شَالِخَ بْنِ أَرْفَخْشَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحِ بْنِ لَمَّكَ بن متشالخ بن خنوخ -وهو إرديس- بْنُ يَارَدَ بْنِ مِهْلَايِيلَ بْنِ قَيْنَانَ بْنِ أَنُوشَ بْنِ شِيثَ بْنِ آدَمَ1.
وَقَالَ ابْنُ سعد: حدثنا هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ قَالَ: عَلَّمَنِي أَبِي وَأَنَا غُلَامٌ نَسَبَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُحَمَّدٍ، الطَّيِّبِ الْمُبَارَكِ وَلَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَاسْمُهُ شَيْبَةُ الْحَمْدِ بْنُ هِشَامٍ، وَاسْمُهُ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَاسْمُهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ قُصَيٍّ، وَاسْمُهُ: زَيْدُ بْنُ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ2.
قَالَ أَبِي: وَبَيْنَ مَعَدٍّ وَإِسْمَاعِيلَ نَيِّفٌ وَثَلَاثُونَ أَبًا، وَكَانَ لَا يُسَمِّيهِمْ وَلَا يُنْفِذُهُمْ3.
قُلْتُ: وَسَائِرُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ أَعْجَمِيَّةٌ، وَبَعْضُهَا لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ بِالْخَطِّ إِلَّا تَقْرِيبًا.
وَقَدْ قِيلَ في قوله تعالى: {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ} 4: فَصِيلَةُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَعْمَامُهُ وَبَنُو أَعْمَامِهِ، وَأَمَّا فَخِذُهُ فَبَنُو هَاشِمٍ قَالَ: وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ بَطْنُهُ، وَقُرَيْشٌ عِمَارَتُهُ، وَبَنُو كِنَانَةَ قَبِيلَتُهُ. وَمُضَرُ شَعْبُهُ.
قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: حَدَّثَنِي شَدَّادٌ أَبُو عَمَّارٍ، حَدَّثَنِي وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اصْطَفَى اللَّهُ كِنَانَةَ مَنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى هَاشِمًا مِنْ قُرَيْشٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هاشم" 5 رواه مسلم.
وأمّه آمنة وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ، فَهِيَ أَقْرَبُ نَسَبًا إِلَى كِلَابٍ مِنْ زوجها عبد الله برجل.
__________
1 إسناده ضعيف جدًّا: عبد المنعم بن إدريس متروك، ومتهم بالكذب، كما في "الميزان" "5270".
2 إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات""1/ 23، 24".
3 إسناده ضعيف جدًّا: انظر المصدر السابق.
4 سورة المعارج: 13.
5 صحيح: أخرجه مسلم "2276" في كتاب الفضائل، باب: فضل نسب النبي -صلى الله عليه وسلم- والترمذي "3626" في كتاب المناقب، باب: ما جاء في فضل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحمد "4/ 107"، وابن حبان "6242"، والبغوي في "شرح السنة" "3613".

(1/22)


مَوْلِدُهُ الْمُبَارَكُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو الْمَعَالِي أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، نا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْفَتْحِ، وَالْفَتْحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَا: أَنْبَأَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْفَقِيهُ، أنا أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ النَّقُّورِ، أنا عَلِيُّ بن عرم الْحَرْبِيُّ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الصُّوفِيُّ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، ثنا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثنا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وُلِدَ يَوْمَ الْفِيلِ"1 صَحِيحٌ2.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الْمُطَّلِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: "وُلِدْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَامَ الْفِيلِ. كنا لدين"3 أخرجه الترمذي، وإسناده حسن.
__________
1 أخرجه الحاكم في "مستدرك" "4180"، والبيهقي في "الدلائل" "1/ 75"، من طريق حجاج بن محمد به. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" "1/ 96": رواه البزار والطبراني ورجاله موثقون. وانظر التعليق الآتي.
2 قلت: في هذا التصحيح بحث، فإن أبا إسحاق مدلس كما في "طبقات المدلسين" "ص31" للحافظ ابن حجر، وكذلك كان قد اختلط كما في "التقريب" "5065"، ولعل تصحيح الحافظ الذهبي له لأنه ورد من طريق آخر، فقد أخرجه ابن أبي شيبةكما في "البداية" "1/ 691"، عن عفان بن سعيد بن مينا عن جابر وابن عباس به، وهذا إسناد رجاله ثقات، ولكنه منقطع بين عفان وسعيد بن جبير، فهو يصلح لمتابعة الطريق الأول، وبذلك يتقوى الحديث، والله أعلم.
3 إسناده ضعيف: أخرجه الترمذي "3639"، في كتاب المناقب، باب: ما جاء في ميلاد النبي -صلى الله عليه وسلم- وابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 165"، وابن سعد في "الطبقات" "1/ 47" والطبري في تاريخه "1/ 453" والحاكم في "مستدركه" "4183" والبيهقي في "الدلائل" "1/ 76-77" وأبو نعيم في "الدلائل" "ص91" وابن حبان في "الثقات" "1/ 14"، وقال الألباني: ضعيف الإسناد.
قلت: وأما تحسين الحافظ الذهبي لإسناده ففيه نظر، فإن المطلب بن عبد الله مقبول كما في "التقريب" "6711"، ومعنى ذلك أنه إذا توبع فتقبل روايته، وإلا فإسناده لين، وقد تفرد بالرواية عنه ابن إسحاق كما في "التهذيب" "4/ 93-94" ووثقه ابن حبان، وابن حبان معروف عند أهل العلم بتساهله في التوثيق، حيث إنه يوثق من لم يعرف بجرح أو تعديل، ومثل هذا الموثق، إذا تُفرد عنه فلا نستطيع عندئذ أن نقبل روايته، والله أعلم بالصواب.

(1/23)


وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ: ثنا سُلَيْمَانُ النَّوْفَلِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَامَ الْفِيلِ، وَكَانَتْ عُكَاظُ بَعْدَ الْفِيلِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ، وَبُنِيَ الْبَيْتُ عَلَى رَأْسِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً مِنَ الْفِيلِ. وَتَنَبَّأَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنَ الْفِيلِ1.
قَالَ شَبَّابٌ الْعُصْفُرِيُّ: ثنا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ، ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عِمْرَانَ، حَدَّثَنِي الزُّبَيْرُ بْنُ مُوسَى، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، سَمِعْتُ قِبَاثَ بْنَ أَشْيَمَ يَقُولُ: أَنَا أَسَنُّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ أَكْبَرُ مِنِّي، وَقَفَتْ بِي أُمِّي عَلَى رَوَثِ الْفِيلِ مُحِيلًا2 أَعْقِلُهُ، وَوُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَامَ الفيل3.
يحيى أَبُو زُكَيْرٍ، وَشَيْخُهُ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ4.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى رَأْسِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَبْعَثِهِ وَبَيْنَ أَصْحَابِ الْفِيلِ سَبْعُونَ سَنَةً5. كَذَا قَالَ.
وَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ: هَذَا وَهْمٌ لَا يَشُكُّ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَائِنَا. إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وُلِدَ عَامَ الْفِيلِ وَبُعِثَ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنَ الْفِيلِ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ جعفر بن أبي المغيرة، عن ابن أبزى قَالَ: كَانَ بَيْنَ الْفِيلِ وَبَيْنَ مَوْلِدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَشْرُ سِنِينَ6. وهذا قول منقطع7.
__________
1 مرسل: ولم أميز سليمان النوفلي والأثر أخرجه البيهقي في "الدلائل" "1/ 78".
2 محيلًا: أي متغيرًا.
3 إسناده ضعيف جدًّا، انظر التعليق الآتي.
4 أما يحيى فهو ابن محمد بن قيس، في حديثه ضعيف كما في "الميزان" "9616" وأما شيخه عبد العزيز بن عمران فهو الزهري المدني، متروك كما في "الميزان" "5119".
5 مرسل.
6 مرسل: وابن أبزى هو سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، وجعفر ويعقوب كلاهما فيه مقال.
7 يريد مقطوع، أي موقوف على هذا التابعي.

(1/24)


وَأَضْعَفُ مِنْهُ مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ1 قَالَ:
ثنا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ، ثنا الْمُسَيَّبُ بْنُ شَرِيكٍ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: حُمِلَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي عَاشُورَاءَ الْمُحَرَّمِ، وَوُلِدَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مِنْ غَزْوَةِ أَصْحَابِ الْفِيلِ2 وهذا حديث ساقط كما نرى.
وَأَوْهَى مِنْهُ مَا يُرْوَى عَنِ الْكَلْبِيِّ، وَهُوَ مُتَّهَمٌ سَاقِطٌ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ بَاذَامَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبْلَ الْفِيلِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً3. قَدْ تَقَدَّمَ مَا يُبَيِّنُ كَذِبَ هَذَا الْقَوْلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
قَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ: الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ أَنَّهُ وُلِدَ عَامَ الْفِيلِ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ حَسَنٍ، عَنْ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ مَعْرُوفِ بْنِ خَرَّبُوذَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا: وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَامَ الْفِيلِ، وَسُمِّيَتْ قُرَيْشٌ آلَ اللَّهِ وَعَظُمَتْ فِي الْعَرَبِ، وُلِدَ لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول4 وَقِيلَ: مِنْ رَمَضَانَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ.
وَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ: سَأَلَ أَعْرَابِيٌّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي صَوْمِ يَوْمِ الْإِثْنَيْنِ - قَالَ: "ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَفِيهِ أُوحِيَ إِلَيَّ" 5. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْوَقَّاصِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرُهُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وُلِدَ فِي لَيْلَةِ الاثْنَيْنِ مِنْ رَبِيعٍ الأول عند أبهرار النّهار6.
__________
1 محمد بن عثمان بن أبي شيبة على سعة علمه فقد تكلم فيه أهل العلم، بل رماه البعض بالكذب، والوضع، فانظر "الميزن" "7934".
2 إسناده ضعيف جدًّا: المسيب بن شريك متروك كما في "الميزان" "8544"، وتقدم ما قيل في محمد بن عثمان بن أبي شيبة.
3 إسناده ضعيف جدًّا.
4 مرسل: ومعروف بن خربوذ فيه مقال كما في "الميزان" "8655".
5 صحيح: أخرجه مسلم "1162/ 197" في كتاب الصيام، باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر.
6 مرسل.

(1/25)


وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ شِئْتُ مِنْ رِجَالِ قَوْمِي، عَنْ حَسَّانِ بْنِ ثابت، قال: "إني لغلام يفعة"1، إذا سَمِعْتُ يَهُودِيًّا وَهُوَ عَلَى أَطَمَةِ2 يَثْرِبَ يَصْرُخُ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ قَالُوا: وَيْلَكَ مَا لَكَ؟ قَالَ: طَلَعَ نَجْمُ أَحْمَدَ الَّذِي يُبعث بِهِ اللَّيْلَةَ3.
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ حَنَشٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وُلِدَ نَبِيُّكُمْ -صَلَّى الله عليه وسلم- يوم الإثنين ونبئ يوم الْإِثْنَيْنِ. وَخَرَجَ مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ، وَفَتَحَ مَكَّةَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ، وَنَزَلَتْ سُورَةُ الْمَائِدَةِ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ4. رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي "مُسْنَدِهِ"، وَأَخْرَجَهُ الْفَسَوِيُّ فِي "تَارِيخِهِ".
وَقَالَ شَيْخُنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الدِّمْيَاطِيُّ فِي "السِّيرَةِ" مِنْ تَأْلِيفِهِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: "وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِعَشْرِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَكَانَ قُدُومُ أَصْحَابِ الْفِيلِ قَبْلَ ذَلِكَ فِي النِّصْفِ مِنَ الْمُحَرَّمِ"5.
وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ نَجِيحٌ: "وُلِدَ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ"6.
قَالَ الدِّمْيَاطِيُّ: وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ: وَيُقَالُ: إِنَّهُ وُلِدَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ نَيْسَانَ.
وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ الْحَاكِمُ: وُلِدَ بَعْدَ الْفِيلِ بِثَلَاثِينَ يَوْمًا. قَالَهُ بَعْضُهُمْ: قَالَ: وَقِيلَ بَعْدَهُ بِأَرْبَعِينَ يومًا.
__________
1 أي قوي.
2 مكان مرتفع.
3 إسناده محتمل للتحسين: أخرجه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 165" وليس في الإسناد سوى جهالة هؤلاء الرجال، والظاهر أنهم من التابعين، وجهالتهم تُجبر بكونهم جمعًا كما في "الصحيحة" "3/ 361".
4 إسناده ضعيف: أخرجه أحمد "1/ 277"، وابن سعد في "الطبقات" "1/ 47"، وابن لهيعة سيئ الحفظ، وحديثه قوي إذا روى عنه العبادلة الذين أشار إليهم العلامة ناصر الدين الألباني في "الصحيحة" "1/ 67" وهذا الحديث من رواية موسى بن داود عن ابن لهيعة.
5 مرسل: أبو جعفر هو الباقر، محمد بن علي بن الحسين.
6 معضل: وأبو معشر هذا ضعيف كما في "التقريب" "7100".

(1/26)


قُلْتُ: لَا أُبْعِدُ أَنَّ الْغَلَطَ وَقَعَ مِنْ هُنَا عَلَى مَنْ قَالَ ثَلَاثِينَ عَامًا أَوْ أَرْبَعِينَ عَامًا، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ يَوْمًا فَقَالَ عَامًا.
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ خَتَنَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ سَابِعِهِ، وَصَنَعَ لَهُ مَأْدُبَةً وَسَمَّاهُ مُحَمَّدًا1.
وَهَذَا أَصَحُّ مِمَّا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ: أَنْبَأَ يُونُسُ بْنُ عَطَاءٍ الْمَكِّيُّ، ثنا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ الْعَدَنِيُّ، ثنا عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ الْعَبَّاسِ قَالَ: وُلِدَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَخْتُونًا مَسْرُورًا، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ وَحَظِيَ عِنْدَهُ وَقَالَ: لَيَكُونَنَّ لِابْنِي هَذَا شَأْنٌ2.
تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ سَلَمَةَ الْخَبَائِرِيُّ، عَنْ يُونُسَ، لَكِنْ أَدْخَلَ فِيهِ بَيْنَ يُونُسَ وَالْحَكَمِ: عُثْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ الصُّدَائِيَّ.
قَالَ شَيْخُنَا الدِّمْيَاطِيُّ: وَيُرْوَى عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: خَتَنَ جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا طَهَّرَ قَلْبَهُ3.
قُلْتُ: هذا منكر.
__________
1 إسناده ضعيف: الوليد بن مسلم مدلس كما في "التقريب" "7456" وقد عنعنه.
2 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 48"، وقال الحافظ ابن كثير في "البداية" "1/ 697": هذا الحديث في صحته نظر. وقال الإمام ابن القيم في "زاد المعاد" "1/ 25": إنه لا يصح.
3 ضعيف: عزاه الحافظ ابن كثير في "البداية" "1/ 697-368"، لابن عساكر، وقال: وهذا غريب جدًّا.

(1/27)


أَسْمَاءُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكُنْيَتُهُ:
الزُّهْرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنَّ لِي أَسْمَاءً: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمَيَّ، وَأَنَا الْعَاقِبُ" 1.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَالْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ رَءُوفًا رَحِيمًا.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي وَحْشِيَّةَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْحَاشِرُ، وَأَنَا الْمَاحِي، وَالْخَاتَمُ، وَالْعَاقِبُ" 2. وَهَذَا إِسْنَادٌ قَوِيٌّ حَسَنٌ.
وَجَاءَ بِلَفْظٍ آخَرَ قَالَ: "أَنَا أَحْمَدُ، وَمُحَمَّدٌ، وَالْمُقَفِّي، وَالْحَاشِرُ، وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ، وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ" 3.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ: ثنا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ عُقْبَةَ4 بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ: أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَقَالَ لَهُ: أَتُحْصِي أَسْمَاءَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّتِي كَانَ جُبَيْرٌ يَعُدُّهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، هِيَ سِتَّةٌ: مُحَمَّدٌ، وأحمد، وخاتم، وحاشر، وعاقب، وماحي5.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3533" في كتاب المناقب، باب: ما جاء في أَسْمَاءَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومسلم "2354/ 124" في كتاب الفضائل، باب: في أسمائه -صلى الله عليه وسلم- والترمذي "2849"، في كتاب الأدب، باب ما جاء في أسماء النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي "الشمائل له" "365"، وأحمد "4/ 80"، وابن سعد في "الطبقات" "1/ 49"، والطبراني في "الكبرى" "1520-1530" والبيهقي في "الدلائل" "1/ 152".
2 أخرجه أحمد "4/ 81، 84".
3 صحيح: أخرجه مسلم "2355"، في المصدر السابق، وأحمد "4/ 404"، والبيهقي في "الدلائل" "1/ 156، 157"، من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه.
4 في "المطبوعة" "عقبة، والتصحيح من المصدر الآتي.
5 عبد الله بن صالح هو كاتب الليث ضعيف، ولكنه توبع، فقد أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 49" من طريق حجبين بن المثني عن الليث بن سعد به، وهو إسناد حسن عتبة بن مسلم وثقه ابن حبان وروى عنه جمع من الثقات كما في "التهذيب" "3/ 54"، ومثله يحسن حديثه على أقل تقدير، ولذا قال الحافظ ابن حجر في "التقريب" "4442"، ثقة.

(1/28)


فَأَمَّا حَاشِرٌ فَبُعِثَ مَعَ السَّاعَةِ نَذِيرًا لَكُمْ، وأمّا عاقب فإنّه عقّب الأنبياء، وأمّا ماحي فَإِنَّ اللَّهَ مَحَا بِهِ سَيِّئَاتِ مَنِ اتَّبَعَهُ.
فَأَمَّا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُسَمِّي لَنَا نَفْسَهُ أَسْمَاءً فَقَالَ: "أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَالْحَاشِرُ، وَالْمُقَفِّي، وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَالْمَلْحَمَةِ" 1. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ وَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُرْسَلًا قَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ" 2.
وَرَوَاهُ زِيَادُ بْنُ يَحْيَى الحَسَّانِيُّ، عَنْ سُعَيْرِ بْنِ الْخِمْسِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْصُولًا.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 3.
وَقَالَ وَكِيعٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ الْأَزْرَقِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: يس مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَعَنْ بَعْضِهِمْ قَالَ: لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْقُرْآنِ خَمْسَةُ أَسْمَاءَ: مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَيس، وَطه.
وَقِيلَ: طه، لُغَةٌ لِعَكٍّ، أَيْ يَا رَجُلُ، فَإِذَا قُلْتَ لِعَكِّيٍّ: يَا رَجُلُ، لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا قُلْتَ لَهُ: طه، الْتَفَتَ إِلَيْكَ. نَقَلَ هَذَا الْكَلْبِيُّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْكَلْبِيُّ مَتْرُوكٌ. فَعَلَى هَذَا القول لا يكون طه من أسمائه.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "2355"، في كتاب الفضائل، باب: في أسمائه -صلى الله عليه وسلم- وفيه "نبي الرحمة" بدلًا من "والملحمة"، وأما هذه الرواية فأخرجها أحمد "4/ 404"، وصححها الألباني في "صحيح الجامع" "1473" والحديث أخرجه أيضا ابن سعد في "الطبقات" "1/ 49"، والطبراني في "الأوسط" "2716".
2 صحيح: أخرجه الطبراني في "الأوسط" "2981"، موصولًا من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- بلفظ "إنما بعثت رحمة مهداة" وقال الألباني في "صحيح الجامع" "2345"، صحيح.
3 سورة الأنبياء: 107.

(1/29)


وَقَدْ وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: رَسُولًا، وَنَبِيًّا أُمِّيًّا، وَشَاهِدًا، وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إلى الله بإذنه، وسراجًا منيرًا، ورءوفًا رَحِيمًا، وَمُذَكِّرًا، وَمُدَّثِّرًا وَمُزَّمِّلًا، وَهَادِيًا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَمِنْ أَسْمَائِهِ: الضَّحُوكُ، وَالْقَتَّالُ. جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "أَنَا الضَّحُوكُ أَنَا الْقَتَّالُ"1.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ2، وَفِي التَّوْرَاةِ فِيمَا بَلَغَنَا أَنَّهُ حِرْزٌ لِلْأُمِّيِّينَ، وَأَنَّ اسْمَهُ الْمُتَوَكِّلُ3.
وَمِنْ أَسْمَائِهِ: الْأَمِينُ. وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَدْعُوهُ بِهِ قَبْلَ نُبُوَّتِهِ. وَمِنْ أَسْمَائِهِ الْفَاتِحُ، وَقُثَمُ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ: تَذَاكَرُوا أَحْسَنَ بَيْتٍ قَالَتْهُ الْعَرَبُ فَقَالُوا: قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ فِي النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَشَقَّ لَهُ مِنَ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ ... فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ
وَقَالَ عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ4 قَالَ: لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: "أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ، وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَالْمُقَفِّي، وَأَنَا الْحَاشِرُ، وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ" 5 قَالَ: المقفيّ الذي
__________
1 لم أجده.
2 صحيح: أخرجه البخاري "6594" في كتاب القدر، باب: في القدر، ومسلم "2643" في كتاب القدر، باب: كيفية الخلق الآدمي، وأبو داود "4718"، في كتاب السنة، باب: في القدر، والترمذي "2144"، في كتاب القدر، باب: ما جاء أن الأعمال بالخواتيم، وابن ماجه "76" في المقدمة، باب: في القدر، وأبو نعيم في "الحلية" "8617" وابن حبان في "صحيحه" "6174"، وهو طرف من حديث خلق الإنسان في الرحم.
3 صحيح: أخرجه البخاري "2125"، في كتاب البيوع، باب: كراهية السخب في الأسواق، وأحمد "2/ 174"، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه.
وأخرجه الدارمي "6" من حديث ابن سلام -رضي الله عنه.
4 في المصدر الآتى "حذيفة" ويأتي تنبيه المصنف على ذلك.
5 حسن: أخرجه الترمذي في "الشمائل" "366"، وأحمد "5/ 405"، وابن سعد في "الطبقات" "1/ 49"، من حديث حذيفة -رضي الله عنه- وقال الألباني في "مختصر الشمائل": حسن.

(1/30)


لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ1، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي "الشَّمَائِلِ" وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَقَدْ رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، فَقَالَ عَنْ زِرٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ نَحْوَهُ.
وَيُرْوَى بِإِسْنَادٍ وَاهٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لِي عَشْرَةُ أَسْمَاءَ، فَذَكَرَ مِنْهَا الْفَاتِحَ، وَالْخَاتَمَ"2.
قُلْتُ: وَأَكْثَرُ مَا سُقْنَا مِنْ أَسْمَائِهِ صِفَاتٌ لَهُ لَا أَسْمَاءُ أَعْلَامٍ.
وَقَدْ تَوَاتَرَ أَنَّ كُنْيَتَهُ أَبُو الْقَاسِمِ.
قَالَ ابْنُ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سَمُّوا بِاسْمِي، وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي" 3 مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "لا تَجْمَعُوا اسْمِي وَكُنْيَتِي، أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ، اللَّهُ يُعْطِي وَأَنَا أُقَسِّمُ" 4.
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا ولد إبراهيم ابن النّبيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ مَارِيَةَ كَادَ يَقَعُ فِي نَفْسِهِ مِنْهُ، حَتَّى أَتَاهُ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا إِبْرَاهِيمَ5. ابْنُ لَهِيعَةَ ضعيف.
__________
1 لم أجد هذه الزيادة في المصادر السابقة، وإنما أخرجها مسلم "2354/ 125"، من قول الزهري بلفظ "قال: قلت للزهري: وما العاقب؟ قال: الذي ليس بعده نبي".
2 إسناده ضعيف جدًّا، أخرجه أبو نعيم في "الدلائل" "ص31" وفي إسناده سيف بن وهب متروك، ونقل الزبيدي في "إتحاف السادة المتقين" "7/ 163" عن ابن دحية قال: هذا السند لا يساوي شيئًا.
3 صحيح: أخرجه البخاري "6188" في كتاب الأدب، باب: قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "سَمُّوا بِاسْمِي وَلَا تكنوا بكنيتي"، ومسلم "2134" في كتاب الآداب، باب النهي عن التكني بأبي القاسم، وأبو داود "4965"، في كتاب الأدب، باب: في الرجل يتكنى بأبي القاسم وابن ماجه "3735" في كتاب الأدب، باب: الجمع بين اسم النبي -صلى الله عليه وسلم- وكنيته، وأحمد "3/ 248، 260، 270، 312، 395، 455، 457، 470، 478، 491، 519"، وابن سعد في "الطبقات" "1/ 50"، والبغوي في "شرح السنة" "3363".
4 صحيح: أخرجه الترمذي "2580" في كتاب الأدب، باب: ما جاء في كراهية الجمع بين اسم النبي -صلى الله عليه وسلم- وكنيته، وابن سعد في "الطبقات" "1/ 50"، وأحمد "2/ 433" وأبو نعيم في "الحلية" "9784" والبيهقي في "الدلائل" "1/ 163"، وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".
5 إسناده ضعيف: ابن لهيعة ضعيف الحفظ، ولا يصح من حديثه إلا ما كان من رواية العبادلة عنه كما تقدم، ولا أعلم من روى عنه هذا الحديث، وفي تعقيب المصنف على الحديث ما يشعر بأنه من طريق آخر، والله أعلم.

(1/31)


ذِكْرُ مَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ سَطِيحٍ وَخُمُودِ النِّيرَانِ لَيْلَةَ الْمَوْلِدِ وَانْشِقَاقِ الْإِيوَانِ:
قَالَ ابْنُ أبي الدّنيا وغيره:
حدثنا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ الطَّائِيُّ، أنا أَبُو يَعْلَى أَيُّوبُ بْنُ عِمْرَانَ الْبَجَلِيُّ، حَدَّثَنِي مَخْزُومُ بْنُ هَانِئٍ الْمَخْزُومِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، وَكَانَ قَدْ أَتَتْ عَلَيْهِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً قَالَ: لَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ارْتَجَسَ1 إِيوَانُ كِسْرَى، وَسَقَطَتْ مِنْهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ شُرْفَةً، وَغَاضَتْ2 بُحَيْرَةُ سَاوَةَ3، وَخَمَدَتْ نَارُ فَارِسٍ، وَلَمْ تَخْمُدْ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَلْفِ عَامٍ، وَرَأَى الْمُوبَذَانُ4 إِبِلًا صِعَابًا تَقُودُ خَيْلًا عِرَابًا قَدْ قَطَعَتْ دِجْلَةَ وَانْتَشَرَتْ فِي بِلَادِهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ كِسْرَى أَفْزَعَهُ مَا رَأَى مِنْ شَأْنِ إِيوَانِهِ فَصَبَرَ عَلَيْهِ تَشَجُّعًا، ثُمَّ رَأَى أَنْ لَا يَسْتُرَ ذَلِكَ عَنْ وُزَرَائِهِ وَمَرَازِبَتِهِ5، فَلَبِسَ تَاجَهُ وَقَعَدَ عَلَى سَرِيرِهِ وَجَمَعَهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا عِنْدَهُ قَالَ: أَتَدْرُونَ فِيمَ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ - قَالُوا: لَا إِلَّا أَنْ يُخْبِرَنَا الْمَلِكُ، فَبَيْنَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ وَرَدَ عَلَيْهِمْ كِتَابٌ بِخُمُودِ النَّارِ، فَازْدَادَ غَمًّا إِلَى غَمِّهِ، فَقَالَ الْمُوبَذَانُ:
وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ -أَصْلَحَ اللَّهُ الملك- في هذه اللّيلة، ثم قصّ على رُؤْيَاهُ فَقَالَ: أَيَّ شَيْءٍ يَكُونُ هَذَا يَا مُوبَذَانُ؟ قَالَ: حَدَثٌ يَكُونُ فِي نَاحِيَةِ الْعَرَبِ، وَكَانَ أَعْلَمَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَكَتَبَ كِسْرَى عِنْدَ ذَلِكَ:
"مِنْ كِسْرَى مَلِكِ الْمُلُوكِ إِلَى النُّعْمَانِ بن المنذر، أما بعد، فوجّه إليّ رجل عَالِمٍ بِمَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَهُ عَنْهُ. فَوَجَّهَ إِلَيْهِ بِعَبْدِ الْمَسِيحِ بْنِ حَيَّانَ بْنِ بُقَيْلَةَ الغسانيّ،
__________
1 ارتجس: رجف.
2 غاضت: جف أو نقص ماؤها.
3 ساوة: مدينة بين الري وهمذان.
4 الموبذان: القاضي.
5 مرازبته: جمع مرزبان، وهو الرئيسي من الفرس.

(1/32)


فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ: أَلَكَ عِلْمٌ بِمَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْهُ - قَالَ: لِيَسْأَلْنِي الملك فإن كان عندي علم إلا أَخْبَرْتُهُ بِمَنْ يُعْلِمُهُ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا رَأَى، فَقَالَ: عِلْمُ ذَلِكَ عِنْدَ خَالٍ لِي يَسْكُنُ مَشَارِفَ الشَّامِ يُقَالُ لَهُ سَطِيحٌ قَالَ: فَائْتِهِ فَسَلْهُ عَمَّا سَأَلْتُكَ وَائْتِنِي بِجَوَابِهِ، فَرَكِبَ حَتَّى أَتَى عَلَى سَطِيحٍ وَقَدْ أَشْفَى عَلَى الْمَوْتِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَحَيَّاهُ فَلَمْ يُحِرْ سَطِيحٌ جَوَابًا، فَأَنْشَأَ عَبْدُ الْمَسِيحِ يَقُولُ:
أَصَمُّ أَمْ يَسْمَعُ غِطْرِيفُ الْيَمَنْ ... أَمْ فَادَ فَازْلَمَّ بِهِ شَأْوُ الْعَنَنْ1
يَا فَاصِلَ الْخُطَّةِ أَعْيَتْ مَنْ وَمَنْ ... أَتَاكَ شَيْخُ الْحَيِّ مِنْ آلِ سَنَنْ2
وَأُمُّهُ مِنْ آلِ ذِئْبِ بْنِ حَجَنْ ... أَزْرَقُ نَهْمُ النَّابِ صَرَّارُ الأُذُنْ3
أَبْيَضُ فَضْفَاضُ الرِّدَاءِ وَالْبَدَنْ ... رَسُولُ قَيْلِ الْعُجْمِ يَسْرِي لِلْوَسَنْ4
تَجُوبُ بِي الْأَرْضَ عَلَنْدَاةٌ شَزَنْ ... تَرْفَعُنِي وَجَنًا وَتَهْوِي بِي وَجَنْ5
لَا يَرْهَبُ الرَّعْدَ وَلَا رَيْبَ الزَّمَنْ ... كَأَنَّمَا أُخْرِجَ مِنْ جَوْفٍ ثَكَنْ6
حَتَّى أَتَى عَارِيَ الْجَآجِي وَالْقَطَنْ ... تَلُفُّهُ فِي الرِّيحِ بَوْغَاءُ الدِّمَنْ7
فَقَالَ سَطِيحٌ: عَبْدُ الْمَسِيحِ، جَاءَ إِلَى سَطِيحٍ، وَقَدْ أَوْفَى عَلَى الضِّرِيحِ، بَعَثَكَ مَلِكُ بَنِي سَاسَانَ، لِارْتِجَاسِ الْإِيوَانِ، وَخُمُودِ النِّيرَانِ، وَرُؤْيَا الَمُوبَذَانِ، رَأَى إِبِلًا صِعَابًا، تَقُودُ خَيْلًا عِرَابًا، قَدْ قَطَعَتْ دِجْلَةَ، وَانْتَشَرَتْ فِي بِلَادِهَا، يَا عَبْدَ الْمَسِيحِ إِذَا كَثُرَتِ التِّلَاوَةُ، وَظَهَرَ صَاحِبُ الْهِرَاوَةِ، وَفَاضَ وَادِي السَّمَاوَةِ8، وَخَمَدَتْ نَارُ فَارِسَ، فَلَيْسَ الشَّامُ لِسَطِيحٍ شَامًا، يَمْلِكُ مِنْهُمْ مُلُوكٌ وَمَلِكَاتٌ، عَلَى عَدَدِ الشُّرُفَاتِ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آت. ثم قضى شطيح مَكَانَهُ، وَسَارَ عَبْدُ الْمَسِيحِ إِلَى رَحْلِهِ، وَهُوَ يَقُولُ:
شَمِّرْ فَإِنَّكَ مَاضِي الْهَمِّ شِمِّيرُ ... لَا يُفْزِعَنَّكَ تَفْرِيقٌ وَتَغْيِيرُ
إِنْ يُمْسِ مُلْكُ بَنِي سَاسَانَ أَفْرَطَهُمْ ... فَإِنَّ ذَا الدَّهْرَ أَطْوَارٌ دَهَارِيرُ
__________
1 غطريف: سيد. وفاد: مات. وأزلم: قبض.
2 الخطة: الحالة والطريقة.
3 الصرار: الشديد السمع.
4 قيل: ملك.
5 علنداة: ناقة قوية. وشزن: والوجن: الأرض الصلبة.
6 ثكن: جبل بالبادية.
7 القطن: جزء من أسفل ظهر الإنسان. وبوغاء: تراب ناعم، والدمن: الزبل والبعر.
8 وادي السماوة: يقع بين الكوفة والشام.

(1/33)


فَرُبَّمَا رُبَّمَا أَضْحَوْا بِمَنْزِلَةٍ ... تَهَابُ صَوْلَهُمُ الأُسْدُ الْمَهَاصِيرُ1
مِنْهُمْ أَخُو الصَّرْحِ بَهْرَامٌ وَإِخْوَتُهُ ... وَالْهُرْمُزَانِ وَسَابُورٌ وَسَابُورُ
وَالنَّاسُ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ فَمَنْ عَلِمُوا ... أَنْ قَدْ أَقَلَّ فَمَحْقُورٌ وَمَهْجُورُ
وَهُمْ بَنُو الْأُمِّ إِمَّا إِنْ رَأَوْا نَشَبًا ... فَذَاكَ بِالْغَيْبِ مَحْفُوظٌ وَمَنْصُورُ
وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ مَصْفُودَانِ فِي قَرَنٍ ... فَالْخَيْرُ مُتَّبَعٌ وَالشَّرُّ مَحْذُورُ2
فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى كِسْرَى أَخْبَرَهُ بِقَوْلِ سَطِيحٍ فَقَالَ كِسْرَى: إِلَى مَتَى يَمْلِكُ مِنَّا أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَلِكًا تَكُونُ أُمُورٌ، فَمَلَكَ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَمَلَكَ الْبَاقُونَ إِلَى آخِرِ خِلَافَةِ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-3. هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ غَرِيبٌ.
وَبِالْإِسْنَادِ إِلَى الْبَكَّائِيِّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: كَانَ رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرٍ مَلِكُ الْيَمَنِ بَيْنَ أَضْعَافِ مُلُوكِ التّبابعة، فرأى رؤيا وَفَظِعَ مِنْهَا، فَلَمْ يَدَعْ كَاهِنًا وَلَا سَاحِرًا وَلَا عَائِفًا وَلَا مُنَجِّمًا مِنْ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ إِلَّا جَمَعَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رُؤْيَا هَالَتْنِي فَأَخْبِرُونِي بِهَا وَبِتَأْوِيلِهَا، قَالُوا: اقْصُصْهَا عَلَيْنَا نُخْبِرْكَ بِتَأْوِيلِهَا، قَالَ: إِنِّي إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ عَنْهَا لَمْ أَطْمَئِنَّ إِلَى خَبَرِكُمْ عَنْ تَأْوِيلِهَا، إِنَّهُ لَا يَعْرِفُ تَأْوِيلَهَا إِلَّا مَنْ عَرَفَهَا، فَقِيلَ لَهُ: إِنْ كَانَ الْمَلِكُ يُرِيدُ هَذَا فَلْيَبْعَثْ إِلَى سَطِيحٍ وَشِقٍّ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَعْلَمَ مِنْهُمَا، فَبَعَثَ إِلَيْهِمَا فَقَدِمَ سَطِيحٌ قَبْلَ شِقٍّ، فَقَالَ لَهُ: رَأَيْتُ حُمَمَةً4 خَرَجَتْ مِنْ ظُلُمَةٍ، فَوَقَعَتْ بِأَرْضٍ، تِهَمَةٍ، فَأَكَلْتُ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ جُمْجُمَةٍ.
قَالَ: مَا أَخْطَأْتُ مِنْهَا شيئًا، فما تأويلها؟
فقال: أَحْلِفُ بِمَا بَيْنَ الْحَرَّتَيْنِ5 مِنْ حَنَشٍ6، لَيَهْبِطَنَّ أَرْضَكُمُ الْحَبَشُ، فَلَيَمْلِكَنَّ مَا بَيْنَ أَبْيَنَ7 إِلَى جرش8.
__________
1 المهاصير: المفترسة.
2 مصفودان: موثقان ومقيدان.
3 أخرجه البيهقي في الدلائل "1/ 126-129"، وقد بحثت كثيرًا عن ترجمة لمخزوم بن هانئ وأبيه فلم أعثر عليها، والحديث كما ترى ضعفه المصنف.
4 حممة: جمرة.
5 الحرتين: تثنية حرة، وهي الأرض ذات الحجارة السود.
6 حنش: حية.
7 أبين: موضع في جبل عدن.
8 جرش: مدينة باليمن.

(1/34)


فَقَالَ الْمَلِكُ: وَأَبِيكَ يَا سَطِيحُ إِنَّ هَذَا لنا لغائط مُوجِعٌ، فَمَتَى هُوَ كَائِنٌ أَفِي زَمَانِي أَمْ بعده؟
قال: بل بعده بحين، أكثر ن سِتِّينَ أَوْ سَبْعِينَ مِنَ السِّنِينَ، ثُمَّ يَقْتُلُونَ وَيَخْرُجُونَ هَارِبِينَ.
قَالَ: مَنْ يَلِي ذَلِكَ مِنْ إِخْرَاجِهِمْ؟
قَالَ: يَلِيهِ إِرَمُ ذِي يَزَنَ، يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ مِنْ عَدَنٍ فَلَا يَتْرُكُ أَحَدًا بِالْيَمَنِ.
قَالَ: أَفَيَدُومُ ذَلِكَ؟
قَالَ: بَلْ يَنْقَطِعُ بِنَبِيٍّ زَكِيٍّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنْ قِبَلِ الْعَلِيِّ.
قَالَ: وَمِمَّنْ هُوَ؟
قَالَ: مِنْ وَلَدِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ، يَكُونُ الْمُلْكُ فِي قَوْمِهِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ.
قَالَ: وَهَلْ لِلدَّهْرِ مِنْ آخِرٍ؟
قَالَ: نَعَمْ، يَوْمٌ يُجْمَعُ فِيهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، يَسْعَدُ فِيهِ الْمُحْسِنُونَ، وَيَشْقَى فِيهِ الْمُسِيئُونَ.
قَالَ: أَحَقٌّ مَا تُخْبِرُنِي؟
قَالَ: نَعَمْ وَالشَّفَقِ1 وَالْغَسَقِ2، وَالْفَلَقِ3 إِذَا اتَّسَقَ4، إِنَّ مَا أَنْبَأْتُكَ بِهِ لَحَقٌّ.
ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْهِ شِقٌّ، فَقَالَ لَهُ كَقَوْلِهِ لِسَطِيحٍ، وَكَتَمَهُ مَا قَالَ لِسَطِيحٍ لينظر أيتفقان قال: نعم حُمَمَةً خَرَجَتْ مِنْ ظُلُمَةٍ، فَوَقَعَتْ بَيْنَ رَوْضَةٍ وَأَكَمَةٍ، فَأَكَلْتُ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ نَسَمَةٍ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُمَا قَدِ اتَّفَقَا، فَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ، فَجَهَّزَ أَهْلَ بَيْتِهِ إِلَى الْعِرَاقِ، وَكَتَبَ لَهُمْ إِلَى مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ فَارِسَ يقال له سابور
__________
1 الشفق: الحرمة في السماء بعد غروب الشمس.
2 الغسق: ظلمة الليل.
3 الفلق: الصبح.
4 اتسق: اجتمع.

(1/35)


ابن خُرَّزَاذَ، فَأَسْكَنَهُمُ الْحِيرَةَ، فَمِنْ بَقِيَّةِ وَلَدِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ: النُّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ فَهُوَ فِي نَسَبِ الْيَمَنِ: النُّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَدِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ1.
بَابٌ مِنْهُ:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "خَرَجْتُ مِنْ لَدُنْ آدَمَ مِنْ نِكَاحٍ غير سفاح" 2. هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، فِيهِ مَتْرُوكَانِ: الْوَاقِدِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي سَبْرَةَ3.
وَوَرَدَ مِثْلُهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ عَلِيٍّ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ إِنْ صَحَّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ4.
وَقَالَ خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي الْجَدْعَاءَ قال: قلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، مَتَى كُنْتَ نَبِيًّا قَالَ: "وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ" 5.
وَقَالَ مَنْصُورُ بْنُ سَعْدٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ وَاللَّفْظُ لَهُ: ثنا بُدَيْلُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ مَيْسَرَةَ الْفَجْرِ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَتَى كُنْتَ نَبِيًّا؟ قَالَ: "وَآدَمُ بين الروح والجسد" 6.
__________
1 معضل: ذكره ابن إسحاق بدون إسناد كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 21-25".
2 حسن: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 26" وفي إسناده كما يأتي، ولكن للحديث طرق وشواهد أخرى، فقد أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 26"، من حديث عائشة -رضي الله عنها- وأخرجه الطبراني في "الأوسط" "4728" من حديث عَلِيِّ بْن أَبِي طَالِب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه- ولذلك حسنه أبو عبد الرحمن الألباني في "صحيح الجامع" "3232-3225".
3 أما الواقدي فهو محمد بن عمر بن واقد الأسلمي أحد أوعية العلم، ومع ذلك فترك أهل العلم حديثه، بل واتهمه البعض بالكذب والوضع كما يأتي في ترجمته "1486".
4 انظر تخريج الحديث السابق.
5 صحيح: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 70"، وصححه الألباني في "الصحيحة" "1856".
6 صحيح: أخرجه أحمد "5/ 59" وصححه شيخ الإسلام ابن تيمة في "مجموع الفتاوى" "2/ 147" والحافظ ابن كثير في "البداية" "1/ 767" والألباني في "الصحيحة" "1856".

(1/36)


متى وجبت له النبوة:
وقال التّرمذيّ: حدثنا الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ، ثنا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: سُئِلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَتَى وَجَبَتْ لَكَ النُّبُوَّةُ؟ قَالَ: "بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ وَنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ" 1. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ2.
قُلْتُ: لَوْلَا لِينٌ فِي الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ لَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ3.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبِرْنَا عَنْ نَفْسِكَ قَالَ: "أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى، وَرَأَتْ أُمِّي حِينَ حَمَلَتْ بِي كَأَنَّ نُورًا خَرَجَ مِنْهَا أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ" 4.
وَرُوِّينَا بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ -إِنْ شَاءَ اللَّهُ- عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ، دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةُ عِيسَى لِي، وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ" 5. وَإِنَّ أُمَّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَتْ حِينَ وضعته نورًا أضاءت منه قصور الشام.
__________
1 صحيح: أخرجه الترمذي "3629" في كتاب المناقب، باب: ما جاء في فضل النبي -صلى الله عليه وسلم- والبيهقي في "الدلائل" "2/ 130"، والخطيب البغدادي في "تاريخه" "3/ 70" و"5/ 83" وصححه الألباني في "صحيح سن الترمذي".
2 في نسخة "السنن" عندي قال: حسن صحيح غريب.
3 انظر التعليق السابق، وقد اختلف أهل العلم في معنى قول الترمذي: حسن صحيح غريب. وعليه يترتب هذا الاستنتاج، والله أعلم.
4 صحيح: أخرجه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 172، 173" وابن سعد في "الطبقات" "1/ 71".
وأخرجه أحمد "4/ 127، 184، 185" والدرامي "13" من طريق خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عمرو السلمي عن عتبة بن عبد السلمي ببعضه، وقال الحافظ ابن كثير في "البداية" "1/ 71": إسناده جيد قوي. وصححه الألباني في "الصحيحة" "1545".
5 أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" "4/ 127، 128"، وابن سعد في "الطبقات" "1/ 71" وأبو نعيم في "الحلية" "7924".

(1/37)


رَوَاهُ اللَّيْثُ، وَابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ سُوَيْدٍ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ هِلَالٍ السُّلَمِيِّ، عَنِ الْعِرْبَاضِ فَذَكَرَهُ.
وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ الْغَسَّانِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنِ الْعِرْبَاضِ نَفْسِهِ.
وَقَالَ فَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ: ثنا لُقْمَانُ بْنُ عَامِرٍ، سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ، قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، مَا كَانَ بَدْءُ أَمْرِكَ - قَالَ: "دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى، وَرَأَتْ أُمِّي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ مِنْهُ قُصُورُ الشَّامِ" 1. رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي "مُسْنَدِهِ" عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ فَرَجٍ.
قَوْلُهُ: "لَمُنْجَدِلٌ" أَيْ مُلْقًى، وَأَمَّا دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ فقوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} 2 وَبِشَارَةُ عِيسَى قَوْلُهُ: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} 3.
وقال أبو ضمرة: حدثنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "قَسَمَ اللَّهُ الْأَرْضَ نِصْفَيْنِ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمَا، ثُمَّ قَسَمَ النّصف على ثلاثة فكنت في خير ثلت مِنْهَا، ثُمَّ اخْتَارَ الْعَرَبَ مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ اخْتَارَ قُرَيْشًا مِنَ الْعَرَبِ، ثُمَّ اخْتَارَ بَنِي هَاشِمٍ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ اخْتَارَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، ثُمَّ اخْتَارَنِي مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ"4 هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ.
وَرَوَى زَحْرُ بْنُ حِصْنٍ، عَنْ جَدِّهِ حُمَيْدِ بْنِ مَنْهَبٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَدِّي خُرَيْمِ بْنَ أَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ يَقُولُ: هَاجَرْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُنْصَرَفَهُ مِنْ تَبُوكٍ، فسمعت العبّاس، يقول: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَمْتَدِحَكَ. قَالَ: "قُلْ لَا يفض اللَّهُ فَاكَ". فَقَالَ:
مِنْ قَبْلِهَا طِبْتَ فِي الظّلال وفي ... مستودع حيث يخصف الورق
__________
1 إسناده حسن: أخرجه أحمد "5/ 262" وابن سعد في "الطبقات" "1/ 71" وقال الألباني في "الصحيحة" "4/ 62": إسناده حسن.
2 سورة البقرة: 129.
3 سورة الصف: 6.
4 مرسل: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 5".

(1/38)


ثُمَّ هَبَطْتَ الْبِلَادَ لَا بَشَرٌ ... أَنْتَ وَلَا مُضْغَةٌ وَلَا عَلَقُ
بَلْ نُطْفَةٌ تَرْكَبُ السَّفِينَ وَقَدْ ... أَلْجَمَ نَسْرًا وَأَهْلَهُ الْغَرَقُ
تُنْقَلُ مِنْ صَالِبٍ إِلَى رَحِمٍ ... إِذَا مَضَى عَالَمٌ بَدَا طَبَقُ
حَتَّى احْتَوَى بَيْتُكَ الْمُهَيْمِنُ مِنْ ... خِنْدِفٍ عَلْيَاءَ تَحْتَهَا النُّطُقُ
وَأَنْتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الأ ... رض وَضَاءَتْ بِنُورِكَ الْأُفُقُ
فَنَحْنُ فِي ذَلِكَ الضِّيَاءِ وفي النّو ... ر وَسُبُلِ الرَّشَادِ تَخْتَرِقُ1
الظِّلَالُ: ظِلَالُ الْجَنَّةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ} 2. وَالْمُسْتَوْدَعُ: هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي كَانَ فِيهِ آدَمُ وَحَوَّاءُ يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنَ الْوَرَقِ، أَيْ يَضُمَّانِ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ يَتَسَتَّرَانِ بِهِ، ثُمَّ هَبَطْتَ إِلَى الدُّنْيَا فِي صُلْبِ آدَمَ، وَأَنْتَ لَا بَشَرٌ وَلَا مُضْغَةٌ.
وَقَوْلُهُ: "تَرْكَبُ السَّفِينَ" يَعْنِي فِي صُلْبِ نُوحٍ. وَصَالِبُ لُغَةٌ غَرِيبَةٌ فِي الصُّلْبِ، وَيَجُوزُ فِي الصُّلْبِ الْفَتْحَتَانِ كَسَقَمٍ وَسُقْمٍ.
وَالطَّبَقُ: الْقَرْنُ، كُلَّمَا مَضَى عَالَمٌ وَقَرْنٌ جَاءَ قَرْنٌ، وَلِأَنَّ الْقَرْنَ يُطْبِقُ الْأَرْضَ بِسُكْنَاهُ بِهَا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي الِاسْتِسْقَاءِ: "اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا طَبَقًا غَدَقًا"3 أَيْ يُطْبِقُ الْأَرْضَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} 4 أَيْ حَالًا بَعْدَ حَالٍ.
وَالنُّطُقُ: جَمْعُ نِطَاقٍ وَهُوَ مَا يُشَدُّ بِهِ الْوِسْطُ وَمِنْهُ الْمِنْطَقَةُ. أَيْ أَنْتَ أَوْسَطُ قَوْمِكَ نَسَبًا. وَجَعَلَهُ فِي عَلْيَاءَ وَجَعَلَهُمْ تَحْتَهُ نِطَاقًا. وَضَاءَتْ: لُغَةٌ فِي أضاءت.
__________
1 أخرجه الحاكم في "مستدركه" "5417".
2 سورة المرسلات: 41.
3 أخرجه أبو داود "1169" في كتاب الصلاة، باب: رفع اليدين في الاستسقاء، من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- دون "غدقا" وقال النووي في "الأذكار" "ص160"، إسناده صحيح على شرط مسلم وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود".
وأخرجه ابن ماجه "1270" في كتاب الإقامة، باب: ما جاء في الدعاء في الاستسقاء، من حديث ابن عباس -رضي الله عنه- وفيه ذكر "غدقًا"، وضعفه الألباني.
وأخرجه أيضًا "1269" في المصدر السابق، وأحمد "4/ 236" من حديث كعب بن مرة -رضي الله عنه.
4 سورة الانشقاق: 19.

(1/39)


وَأَرْضَعَتْهُ "ثُوَيْبَةُ" جَارِيَةُ أَبِي لَهَبٍ، مَعَ عَمِّهِ حمزة، ومع أبي سلمة ابن عبد الأسد المخزوميّ -رضي الله عنه-1.
رضاعه صلى الله عليه وسلم:
قَالَ شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ إِنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ وَأُمَّهَا أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ أَخْبَرَتْهُمَا قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- انكح أختي بنت أبي سفيان. قال: "أوتحبين ذَلِكَ" قُلْتُ: لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ2 وَأَحَبُّ إِلَيَّ مَنْ يُشْرِكُنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي، قَالَ: "إِنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لِي"، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّا لَنَتَحَدَّثُ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ، فَقَالَ: "وَاللَّهِ لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي مَا حَلَّتْ لِيَ، إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ، فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ" 3. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ عُرْوَةُ فِي سِيَاقِ الْبُخَارِيِّ: ثُوَيْبَةُ مَوْلَاةُ أَبِي لَهَبٍ، أَعْتَقَهَا، فَأَرْضَعَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمَّا مَاتَ أَبُو لَهَبٍ رَآهُ بَعْضُ أَهْلِهِ فِي النَّوْمِ بِشَرِّ حِيبَةٍ، يَعْنِي حَالَةً. فَقَالَ لَهُ: مَاذَا لَقِيتَ؟ قَالَ: لَمْ أَلْقَ بَعْدَكُمْ رَخَاءً، غَيْرَ أَنِّي أُسْقِيتُ فِي هَذِهِ مِنِّي بِعِتَاقَتِي ثُوَيْبَةَ. وَأَشَارَ إِلَى النُّقْرَةِ الَّتِي بَيْنَ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا4.
ثُمَّ أَرْضَعَتْهُ حَلِيمَةُ بِنْتُ أَبِي ذُؤَيْبٍ السَّعْدِيَّةُ وَأَخَذَتْهُ مَعَهَا إِلَى أَرْضِهَا، فَأَقَامَ مَعَهَا فِي بَنِي سَعْدٍ نَحْوَ أَرْبَعِ سِنِينَ، ثُمَّ ردّته إلى أمّه.
رضاعه:
قَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ جَهْمِ بْنِ أَبِي جَهْمٍ،
__________
1 انظر الحديث الآتي.
2 مخلية: منفردة.
3 صحيح: أخرجه البخاري "5101" في كتاب النكاح، باب: قوله تعالى {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} ، ومسلم "1449" في كتاب الرضاع، باب: تحريم الربيبة، وأبو داود "2056" في كتاب النكاح، باب: يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، والنسائي "6/ 94" في كتاب النكاح، باب: تحريم الربيبة التي في حجره، وابن ماجه "1939" في كتاب النكاح، باب: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وأحمد "6/ 428" وابن سعد في "الطبقات" "1/ 52" والبيهقي في "الدلائل" "1/ 148، 149".
4 مرسل: انظر التخريج السابق.

(1/40)


عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ حَلِيمَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ أُمِّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- السَّعْدِيَّةِ قَالَتْ: خَرَجْتُ فِي نِسْوَةٍ نَلْتَمِسُ الرُّضَعَاءَ بِمَكَّةَ عَلَى أَتَانٍ1، لِي قَمْرَاءَ2 قَدْ أَذَمَّتْ3 بِالرَّكْبِ، وَخَرَجْنَا فِي سَنَةٍ شَهْبَاءَ4 لَمْ تُبْقِ شَيْئًا، وَمَعَنَا شَارِفٌ5 لَنَا، وَاللَّهِ إِنْ تَبِضَّ عَلَيْنَا بِقَطْرَةٍ، وَمَعِي صَبِيٌّ لِي لَا نَنَامُ لَيْلَنَا مَعَ بُكَائِهِ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مكة لم يبق منّا امرأة عُرِضَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَأْبَاهُ، وَإِنَّمَا كُنَّا نَرْجُو كَرَامَةَ رِضَاعَةٍ مِنْ أَبِيهِ، وَكَانَ يَتِيمًا، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ صَوَاحِبِي امْرَأَةٌ إِلَّا أَخَذَتْ صَبِيًّا، غَيْرِي. فَقُلْتُ لِزَوْجِي: لَأَرْجِعَنَّ إِلَى ذَلِكَ الْيَتِيمِ فَلَآخُذَنَّهُ، فَأَتَيْتُهُ فَأَخَذْتُهُ، فَقَالَ زَوْجِي: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ فِيهِ خَيْرًا. قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ جَعَلْتُهُ فِي حِجْرِي فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ ثَدْيِي بِمَا شَاءَ مِنَ اللَّبَنِ، فَشَرِبَ وَشَرِبَ أَخُوهُ رَوِيَا، وَقَامَ زَوْجِي إِلَى شَارِفِنَا مِنَ اللَّيْلِ، فَإِذَا بِهَا حَافِلٌ، فَحَلَبَ وَشَرِبْنَا حَتَّى رَوِينَا، فَبِتْنَا شِبَاعًا رِوَاءً، وَقَدْ نَامَ صِبْيَانُنَا، قَالَ أَبُوهُ: وَاللَّهِ يَا حَلِيمَةُ مَا أَرَاكِ إِلَّا قَدْ أَصَبْتِ نَسْمَةً مُبَارَكَةً، ثُمَّ خَرَجْنَا، فَوَاللَّهِ لَخَرَجَتْ أَتَانِي أَمَامَ الرَّكْبِ قَدْ قَطَعَتْهُنَّ حَتَّى مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا أَحَدٌ، فَقَدِمْنَا مَنَازِلَنَا مِنْ حَاضِرِ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، فَقَدِمْنَا عَلَى أَجْدَبِ أَرْضِ اللَّهِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ كَانُوا لَيُسَرِّحُونَ أَغْنَامَهُمْ وَيُسَرِّحُ رَاعِيَّ غَنَمِي، فَتَرُوحُ غَنَمِي بِطَانًا لُبَّنًا حُفَّلًا، وَتَرُوحُ أَغْنَامُهُمْ جِيَاعًا، فيقولون لرعاتهم: ويلكم ألا تسرحون حيث تسرح رَاعِي حَلِيمَةَ - فَيَسْرَحُونَ فِي الشِّعْبِ الَّذِي يَسْرَحُ فِيهِ رَاعِينَا، فَتَرُوحُ أَغْنَامُهُمْ جِيَاعًا مَا بِهَا من لبن، وتروح غنمي لبّنًا حفّلًا.
شق صدره الشريف -صلى الله عليه وسلم:
فَكَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَشِبُّ فِي يَوْمِهِ شَبَابَ الصَّبِيِّ فِي الشَّهْرِ، وَيَشِبُّ فِي الشَّهْرِ شَبَابَ الصَّبِيِّ فِي سَنَةٍ، قَالَتْ: فَقَدِمْنَا عَلَى أُمِّهِ فَقُلْنَا لَهَا: رُدِّي عَلَيْنَا ابْنِي فَإِنَّا نَخْشَى عَلَيْهِ وَبَاءَ مَكَّةَ، قَالَتْ: وَنَحْنُ أَضَنُّ شَيْءٍ بِهِ مِمَّا رَأَيْنَا مِنْ بَرَكَتِهِ، قَالَتْ: ارْجِعَا بِهِ، فَمَكَثَ عِنْدَنَا شَهْرَيْنِ فَبَيْنَا هُوَ يَلْعَبُ وَأَخُوهُ خَلْفَ الْبُيُوتِ يَرْعَيَانِ بُهْمًا
__________
1 أتان: أنثى الحمار.
2 قمراء: يميل لونها إلى الخضرة.
3 أذمت: حبست.
4 شهباء: قحط.
5 شارف: ناقة.

(1/41)


لَنَا؛ إِذْ جَاءَ أَخُوهُ يَشْتَدُّ قَالَ: أَدْرِكَا أَخِي قَدْ جَاءَهُ رَجُلَانِ فَشَقَّا بَطْنَهُ، فَخَرَجْنَا نَشْتَدُّ، فَأَتَيْنَاهُ وَهُوَ قَائِمٌ مُنْتَقِعَ اللَّوْنِ، فَاعْتَنَقَهُ أَبُوهُ وَأَنَا، ثُمَّ قَالَ: مَا لَكَ يَا بُنَيَّ؟ قَالَ: أَتَانِي رَجُلَانِ فَأَضْجَعَانِي ثُمَّ شَقَّا بَطْنِي فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا صَنَعَا، فَرَجَعْنَا بِهِ. قَالَتْ: يَقُولُ أَبُوهُ: يَا حَلِيمَةُ مَا أرى هذا الغلام إلاّ أنه أضيب، فَانْطَلِقِي فَلْنَرُدَّهُ إِلَى أَهْلِهِ. فَرَجَعْنَا بِهِ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: مَا رَدَّكُمَا بِهِ؟ فَقُلْتُ: كَفَلْنَاهُ وَأَدَّيْنَا الْحَقَّ، ثُمَّ تَخَوَّفْنَا عَلَيْهِ الْأَحْدَاثَ. فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا ذَاكَ بِكُمَا، فَأَخْبِرَانِي خَبَرَكُمَا، فَمَا زَالَتْ بِنَا حَتَّى أَخْبَرْنَاهَا، قَالَتْ: فَتَخَوَّفْتُمَا عَلَيْهِ - كَلَّا وَاللَّهِ إِنَّ لِابْنِي هَذَا شَأْنًا، إِنِّي حَمَلْتُ بِهِ فَلَمْ أَحْمِلْ حَمْلًا قَطُّ كَانَ أَخَفَّ مِنْهُ وَلَا أَعْظَمَ بَرَكَةً، ثُمَّ رَأَيْتُ نُورًا كَأَنَّهُ شِهَابٌ خَرَجَ مِنِّي حِينَ وَضَعْتُهُ أَضَاءَتْ لِيَ أَعْنَاقُ الْإِبِلِ بِبُصْرَى، ثُمَّ وَضَعْتُهُ فَمَا وَقَعَ كَمَا يَقَعُ الصِّبْيَانُ، وَقَعَ وَاضِعًا يَدَيْهِ بِالْأَرْضِ رَافِعًا رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، دَعَاهُ وَالْحَقَا شَأْنَكُمَا1.
هَذَا حَدِيثٌ جَيِّدُ الْإِسْنَادِ2.
قَالَ أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ: أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى، أنا عُمَارَةُ بْنُ ثَوْبَانَ أَنَّ أَبَا الطُّفَيْلِ أَخْبَرَهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَقْبَلَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ حَتَّى دَنَتْ مِنْهُ، فَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ فَقُلْتُ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: أُمُّهُ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ3. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.
قَالَ مسلم:
حدثنا شَيْبَانُ، ثنا حَمَّادٌ، ثنا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- أَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَهُ فصرعه فشق قلبه، فاستخرج منه علقةً،
__________
1 إسناده ضعيف: أخرجه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 168-172" وجهم بن أبي جهم قال في "الميزان" "1583": لا يعرف، له قصة حليمة السعدية.
2 قلت: وقد تقدم أن في إسناده جهم بن أبي جهم وهو لا يعرف كما في "الميزان" "1583" للمصنف، وعند الحافظ الذهبي يمكن قبول رواية مثل هذا بقيود فقد قال في "الميزان" "1/ 211": ما كل من لا يعرف ليس بحجة، لكن هذا الأصل. وقال في نفس المصدر "4/ 346": الجمهور على أن من كان من المشايخ قد روى عنه جماعة ولم يأت بما ينكر عليه أن حديثه صحيح. وقال "6/ 161" عن أحد الرواة: روى عنه غير صفوان فهو شيخ محله الصدق وحديثه جيد.
وبالتالي فإذا كان الراوي غير معروف بجرح أو تعديل فالأصل أن حديثه مردود إلا بقيود ومحل بسط ذلك كتب المصطلح.
3 إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود "5144" في كتاب الأدب، باب: في بر الوالدين وقال الألباني في "ضعيف سنن أبي داود" "1102": ضعيف الإسناد.

(1/42)


فَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ لأمه1، وثم أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ، وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ، يَعْنِي مُرْضِعَتَهُ، فَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَاسْتَقْبَلُوهُ مُنْتَقِعَ اللَّوْنِ2.
قَالَ أَنَسٌ: قَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ3.
وَقَالَ بَقِيَّةُ، عَنْ بَحِيرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابن عَمْرٍو السُّلَمِيِّ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ، فَذَكَرَ نَحْوًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. وَهُوَ صَحِيحٌ أَيْضًا وَزَادَ فِيهِ: "فَرَحَّلَتْ -يَعْنِي ظِئْرَهُ- بَعِيرًا، فَحَمَلَتْنِي عَلَى الرَّحْلِ، وَرَكِبَتْ خَلْفِي حَتَّى بَلَغْنَا إِلَى أُمِّي فَقَالَتْ: أَدَّيْتُ أَمَانَتِي وَذِمَّتِي، وَحَدَّثْتُهَا بِالَّذِي لَقِيتُ، فَلَمْ يَرُعْهَا ذَلِكَ فَقَالَتْ: إِنِّي رَأَيْتُ خَرَجَ مِنِّي نُورٌ أَضَاءَتْ مِنْهُ قُصُورُ الشَّامِ"4.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُتِيتُ وَأَنَا فِي أَهْلِي، فَانْطُلِقَ بِي إِلَى زَمْزَمَ فَشُرِحَ صَدْرِي، ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَحُشِيَ بِهَا صَدْرِي" قَالَ أَنَسٌ: وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُرِينَا أَثَرَهُ "فَعَرَجَ بِي الْمَلَكُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا". وَذَكَرَ حَدِيثَ الْمِعْرَاجِ5.
وَقَدْ رَوَى نَحْوَهُ شَرِيكُ بْنُ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَيْضًا. وَأَمَّا قَتَادَةُ فَرَوَاهُ عَنْ أَنَسٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ بِنَحْوِهِ.
وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذَا لِيُعْرَفَ أَنَّ جِبْرِيلَ شَرَحَ صَدْرَهُ مَرَّتَيْنِ: فِي صِغَرِهِ ووقت الإسراء به.
__________
1 لأمه: جمعه.
2 صحيح: أخرجه مسلم "162/ 261" في كتاب الإيمان، باب: الْإِسْرَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأحمد "3/ 288".
3 هو تمام الحديث السابق.
4 إسناده ضعيف: أخرجه أحمد "4/ 184" وبقية مدلس، وقد عنعنه.
5 صحيح: أخرجه مسلم "162/ 260" في كتاب الإيمان، باب: الْإِسْرَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأخرجه البخاري "3887" في كتاب مناقب الأنصار، باب: المعراج، ومسلم "164" في المصدر السابق، والترمذي "3357" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة {أَلَمْ نَشْرَحْ} ، والنسائي "1/ 217" في كتاب الصلاة، باب: فرض الصلاة، من طريق أنس عن مالك بن صعصعة -رضي الله عنه.
وأخرجه مسلم "163" في المصدر السابق، من طريق أنس عن أبي ذر -رضي الله عنه.

(1/43)


ذكر وفاة والده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عبد المطلب
...
ذكر وفاة والده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عبد لمطلب:
وَتُوُفِّيَ "عَبْدُ اللَّهِ" أَبُوهُ وَلِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا. وَقِيلَ: أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: وَهُوَ حَمْلٌ.
تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ غَرِيبًا، وَكَانَ قَدِمَهَا لِيَمْتَارَ تَمْرًا، وَقِيلَ: بَلْ مَرَّ بِهَا مَرِيضًا رَاجِعًا مِنَ الشَّامِ، فَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَغَيْرُهُ1: "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ إِلَى غَزَّةَ فِي عِيرٍ تَحْمِلُ تِجَارَاتٍ، فَلَمَّا قَفَلُوا مَرُّوا بِالْمَدِينَةِ وَعَبْدُ اللَّهِ مَرِيضٌ فَقَالَ: أَتَخَلَّفُ عِنْدَ أَخْوَالِي بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، فَأَقَامَ عِنْدَهُمْ مَرِيضًا مُدَّةَ شَهْرٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْحَارِثَ وَهُوَ أَكْبَرُ وَلَدِهِ؛ فَوَجَدَهُ قَدْ مَاتَ؛ وَدُفِنَ فِي دَارِ النَّابِغَةِ أَحَدِ بَنِي النَّجَّارِ؛ وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَئِذٍ حَمْلٌ، عَلَى الصَّحِيحِ".
وَعَاشَ عَبْدُ اللَّهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَذَلِكَ أَثْبَتُ الْأَقَاوِيلِ فِي سِنِّهِ وَوَفَاتِهِ.
وَتَرَكَ عَبْدُ اللَّهِ مِنَ الْمِيرَاثِ أُمَّ أَيْمَنَ وَخَمْسَةَ أَجْمَالٍ وَغَنَمًا، فَوَرِثَ ذَلِكَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم.
وفاة آمنة:
وَتُوُفِّيَتْ أُمُّهُ "آمِنَةُ" بِالْأَبْوَاءِ2 وَهِيَ رَاجِعَةٌ بِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى مَكَّةَ مِنْ زيارة أخوال أبيه بن عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ سِتِّ سِنِينَ وَمِائَةِ يَوْمٍ.
وَقِيلَ: ابْنُ أَرْبَعِ سِنِينَ.
فَلَمَّا مَاتَتْ وَدُفِنَتْ، حَمَلَتْهُ أُمُّ أَيْمَنَ مَوْلَاتُهُ إِلَى مَكَّةَ إِلَى جَدِّهِ، فَكَانَ فِي كِفَالَتِهِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ جَدُّهُ، وَلِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَمَانِ سِنِينَ، فَأَوْصَى بِهِ إِلَى عمّه أبي طالب.
__________
1 مرسل.
2 الأبواء: من أعمال الفرع من المدينة.

(1/44)


قال عمرو بن عون: أنبأنا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ كِنْدِيرَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَجَجْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِذَا رَجُلٌ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيَرْتَجِزُ يَقُولُ:
رَبِّ رُدَّ إِلَيَّ رَاكِبِي مُحَمَّدَا ... يَا رَبُّ رُدَّهُ وَاصْطَنِعْ عِنْدِي يَدَا
قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ ذَهَبَ إِبِلٌ لَهُ فَأَرْسَلَ ابْنَ ابْنِهِ فِي طَلَبِهَا، وَلَمْ يُرْسِلْهُ فِي حَاجَةٍ قَطُّ إِلَّا جَاءَ بِهَا، وقد احتبس عليه، فما برحت حتى أتى مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَاءَ الْإِبِلُ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ لَقَدْ حَزِنْتُ عَلَيْكَ حُزْنًا؛ لَا تُفَارِقْنِي أَبَدًا1.
وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ، عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ حَيْدَةَ بْنَ مُعَاوِيَةَ اعْتَمَرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَذَكَرَ نَحْوًا مِنْ حَدِيثِ كِنْدِيرَ عَنْ أَبِيهِ2.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الشَّافِعِيّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبَانِ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ، حَدَّثَنِي جُلْهُمَةُ بْنُ عُرْفُطَةَ قَالَ: إِنِّي لَبِالْقَاعِ مِنْ نمرة، إذا أَقْبَلَتْ عِيرٌ مِنْ أَعْلَى نَجْدٍ، فَلَمَّا حَاذَتِ الْكَعْبَةَ إِذَا غُلَامٌ قَدْ رَمَى بِنَفْسِهِ عَنْ عَجُزِ بَعِيرٍ، فَجَاءَ حَتَّى تَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ نَادَى يَا رَبَّ البِنَيَّةِ أَجِرْنِي؛ وَإِذَا شَيْخٌ وَسِيمٌ قَسِيمٌ عَلَيْهِ بَهَاءُ الْمُلْكِ وَوَقَارُ الْحُكَمَاءِ.
فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ يَا غُلَامُ، فَأَنَا مِنْ آلِ اللَّهِ وَأُجِيرُ مَنِ اسْتَجَارَ بِهِ؟
قَالَ: إِنَّ أَبِي مَاتَ وَأَنَا صَغِيرٌ، وَإِنَّ هَذَا اسْتَعْبَدَنِي، وَقَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ أَنَّ لِلَّهِ بَيْتًا يَمْنَعُ مِنَ الظُّلْمِ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ اسْتَجَرْتُ بِهِ.
فَقَالَ لَهُ الْقُرَشِيُّ: قَدْ أَجَرْتُكَ يَا غُلَامُ، قَالَ: وَحَبَسَ اللَّهُ يَدَ الْجُنْدَعِيِّ إِلَى عُنُقِهِ.
قَالَ جُلْهُمَةُ: فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَمْرَو بْنَ خَارِجَةَ وَكَانَ قُعْدُدَ3 الْحَيِّ فَقَالَ: إِنَّ لهذا الشيخ ابنًا يعني أبا طالب.
__________
1 في سنده من لم أجد لهم ترجمة.
2إسناده ضعيف جدًّا: خارجة بن مصعب ضعيف جدًّا كما في "التهذيب" "1/ 512".
3 قعدد: جبان.

(1/45)


قَالَ فَهَوَيْتُ رَحْلِي نَحْوَ تِهَامَةَ، أَكْسَعُ بِهَا الحدود، وأعلوا بِهَا الكُدَانَ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِذَا قُرَيْشٌ عِزِينٌ1، قَدِ ارْتَفَعَتْ لَهُمْ ضَوْضَاءُ يستسقون، فقائل منهم يقول: اعتمدوا اللات والعزّى؛ وقائل يَقُولُ: اعْتَمِدُوا مَنْاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى.
وَقَالَ شَيْخٌ وَسِيمٌ قَسِيمٌ حَسَنُ الْوَجْهِ جَيِّدُ الرَّأْيِ: أَنَّى تُؤْفَكُونَ وَفِيكُمْ بَاقِيَةُ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَسُلَالَةُ إِسْمَاعِيلَ؟
قَالُوا لَهُ: كَأَنَّكَ عَنَيْتَ أَبَا طَالِبٍ. قَالَ: إِيهًا. فَقَامُوا بِأَجْمَعِهِمْ، وَقُمْتُ مَعَهُمْ فَدَقَقْنَا عَلَيْهِ بَابَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْنَا رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ مصفّر، عَلَيْهِ إِزَارٌ قَدِ اتَّشَحَ بِهِ، فَثَارُوا إِلَيْهِ فقالوا:
الاستسقاء بالنبي -صلى الله عليه وسلم:
يَا أَبَا طَالِبٍ قَحَطَ الْوَادِي، وَأَجْدَبَ الْعِبَادُ فَهَلُمَّ فَاسْتَسْقِ؛ فَقَالَ: رُوَيْدَكُمْ زَوَالَ الشَّمْسِ وَهُبُوبَ الرِّيحِ؛ فَلَمَّا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَوْ كَادَتْ، خَرَجَ أَبُو طَالِبٍ مَعَهُ غُلَامٌ كَأَنَّهُ دُجُنٌّ تَجَلَّتْ عَنْهُ سَحَابَةٌ قَتْمَاءُ، وَحَوْلَهُ أُغَيْلِمَةٌ؛ فَأَخَذَهُ أَبُو طَالِبٍ فَأَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِالْكَعْبَةِ، وَلَاذَ بِأُضْبَعِهِ الْغُلَامُ، وَبَصْبَصَتِ الْأُغَيْلِمَةُ حَوْلَهُ وَمَا فِي السَّمَاءِ قَزَعَةٌ، فأقبل السّحاب من ههنا وههنا وَأَغْدَقَ2 وَاغْدَوْدَقَ وَانْفَجَرَ لَهُ الْوَادِي، وَأَخْصَبَ النَّادِي وَالْبَادِي؛ وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ أَبُو طَالِبٍ:
وَأَبْيَضُ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... رَبِيعُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ
تَطِيفُ بِهِ الْهُلَّاكُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ ... فَهُمْ عِنْدَهُ فِي نِعْمَةٍ وَفَوَاضِلِ
وَمِيزَانُ عَدْلٍ لَا يَخِيسُ شُعَيْرَةً ... وَوَزَّانُ صِدْقٍ وَزْنُهُ غَيْرُ عَائِلِ3
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَبِيبٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَزْرَقِيُّ، حَدَّثَهُمْ سَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ، نا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ عَطَاءٍ فَقَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: كَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ أَطْوَلَ النَّاسِ قَامَةً، وَأَحْسَنَهُمْ وَجْهًا، مَا رَآهُ أَحَدٌ قَطُّ إِلَّا أَحَبَّهُ، وَكَانَ لَهُ مَفْرَشٌ فِي الحجر لا يجلس عليه غيره، ولا
__________
1 عزين: جماعات.
2 قزعة: سحابة.
3 في سنده من لم أجد له ترجمة.

(1/46)


يُجْلِسُ عَلَيْهِ مَعَهُ أَحَدٌ، وَكَانَ النَّدِيُّ مِنْ قُرَيْشٍ حَرْبُ بْنُ أُمَيَّةَ فَمَنْ دُونَهُ يَجْلِسُونَ حَوْلَهُ دُونَ الْمَفْرَشِ؛ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ غُلَامٌ لَمْ يَبْلُغْ فَجَلَسَ عَلَى الْمَفْرَشِ، فَجَبَذَهُ1 رَجُلٌ فَبَكَى؛ فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا كُفَّ بَصَرُهُ، مَا لِابْنِي يَبْكِي قَالُوا لَهُ: إِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى الْمَفْرَشِ فَمَنَعُوهُ، فَقَالَ: دَعُوا ابْنِي يَجْلِسْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُحِسُّ مِنْ نَفْسِهِ شَرَفًا، وَأَرْجُو أَنْ يَبْلُغَ مِنَ الشَّرَفِ مَا لَمْ يَبْلُغْ عَرَبِيٌّ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ2.
قَالَ: وَمَاتَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَالنَّبِيُّ، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ، وَكَانَ خَلْفَ جِنَازَةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَبْكِي حَتَّى دُفِنَ بِالْحَجُونِ3.
وَقَدْ رَعَى الْغَنَمَ:
فَرَوَى عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ رَعَى الْغَنَمَ" قَالُوا: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ" 4. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَرِّ الظَّهْرَانِ نَجْتَنِي الْكَبَاثَ5 فَقَالَ: "عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ مِنْهُ فَإِنَّهُ أطيب" قلنا: أوكنت تَرْعَى الْغَنَمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ وهل من نبيّ إلاّ وقد رَعَاهَا" 6. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
سَفَرُهُ مَعَ عَمِّهِ -إِنْ صحّ- وخبر بحيرى الراهب:
قال قراد أبو نوح: حدثنا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ وَمَعَهُ مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم-
__________
1 جبذه: جذبه.
2 إسناده ضعيف: عبد الله بن شبيب ضعيف جدًّا كما في "الميزان" "4376".
3 الحجون: جبل بمكة.
4 صحيح: أخرجه البخاري "2262" في كتاب الإجازة، باب: رعى الغنم على قراريط، وابن ماجه "2149" في كتاب التجارات، باب: الصناعات.
5 الكباث: ثمر الأراك.
6 صحيح: أخرجه البخاري "3406" في كتاب أحاديث الأنبياء، باب: قوله تعالى: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} ، ومسلم "2050" في كتاب الأشربة، باب: فضيلة الأسود من الكباث.

(1/47)


وَأَشْيَاخٌ مِنْ قُرَيْشٍ؛ فَلَمَّا أَشْرَفُوا عَلَى الرَّاهِبِ بَحِيرَى نَزَلُوا فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ لا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ، فَجَعَلَ يَتَخَلَّلُهُمْ وَهُمْ يَحِلُّونَ رِحَالَهُمْ؛ حَتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بِيَدِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ: هَذَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ، هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ هَذَا يَبْعَثُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ؛ فَقَالَ أَشْيَاخُ قُرَيْشٍ: وَمَا عِلْمُكَ بِهَذَا قَالَ: إِنَّكُمْ حِينَ أَشْرَفْتُمْ مِنَ الْعَقَبَةِ لَمْ يَبْقَ شَجَرٌ وَلَا حَجَرٌ إِلَّا خَرَّ سَاجِدًا، وَلَا يَسْجُدُونَ إِلَّا لِنَبِيٍّ لَأَعْرِفُهُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، أَسْفَلَ غُضْرُوفِ كَتِفِهِ مِثْلَ التُّفَّاحَةِ. ثُمَّ رَجَعَ فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا؛ فَلَمَّا أَتَاهُمْ بِهِ وَكَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي رِعْيَةِ الْإِبِلِ قَالَ: فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ، فَأَقْبَلَ وَعَلَيْهِ غَمَامَةٌ تُظِلُّهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْقَوْمِ وَجَدَهُمْ قَدْ سَبَقُوهُ، يَعْنِي إِلَى فَيْءِ شَجَرَةٍ، فَلَمَّا جَلَسَ مَالَ فَيْءُ الشَّجَرَةِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى فَيْءِ الشَّجَرَةِ مَالَ عَلَيْهِ.
قَالَ: فَبَيْنَا هُوَ قَائِمٌ عَلَيْهِ يُنَاشِدُهُمْ أَنْ لا يَذْهَبُوا بِهِ إِلَى الرُّومِ، فَإِنَّ الرُّومَ لَوْ رَأَوْهُ عَرَفُوهُ بِصِفَتِهِ فَقَتَلُوهُ؛ فَالْتَفَتَ فَإِذَا بِسَبْعَةِ نَفَرٍ قَدْ أَقْبَلُوا مِنَ الرُّومِ، فَاسْتَقْبَلَهُمُ الرَّاهِبُ، فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكُمْ؟ قَالُوا: جِئْنَا إِنَّ هَذَا النَّبِيَّ خَارِجٌ فِي هَذَا الشَّهْرِ، فَلَمْ يَبْقَ طَرِيقٌ إِلَّا قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ نَاسٌ، وَإِنَّا قَدْ أُخْبِرْنَا فَبُعِثْنَا إِلَى طَرِيقِكَ هَذَا، فَقَالَ لَهُمْ: هَلْ خَلَّفْتُمْ خَلْفَكُمْ أَحَدًا هُوَ خَيْرٌ مِنْكُمْ قَالُوا: لَا. إِنَّمَا أُخْبِرْنَا خَبَرَهُ بِطَرِيقِكَ هَذَا؛ قَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ أَمْرًا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَهُ، هَلْ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ رَدَّهُ؟ قَالُوا: لَا.
قال: فتابعوه وأقاموا معه، فَأَتَاهُمْ فَقَالَ: أُنْشِدُكُمُ اللَّهَ أَيُّكُمْ وَلِيُّهُ قَالَ أَبُو طَالِبٍ: أَنَا؛ فَلَمْ يَزَلْ يُنَاشِدُهُ حَتَّى رَدَّهُ أَبُو طَالِبٍ، وَبَعَثَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ بِلَالًا، وَزَوَّدَهُ الرَّاهِبُ مِنَ الْكَعْكِ وَالزَّيْتِ1.
تَفَرَّدَ بِهِ قُرَادٌ، وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَزْوَانَ، ثِقَةٌ، احْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ2؛ وَرَوَاهُ النَّاسُ عن قراد، وحسّنه التّرمذي.
__________
1 صحيح: دون ذكر "بلال" فإنه منكر: أخرجه الترمذي "3640" في كتاب المناقب: باب: ما جاء في بدء نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- وابن جرير الطبري في "تفسيره" "1/ 519"، والحاكم في "مستدركه" "4229" وقال الحافظ ابن كثير في "البداية" "1/ 722": فيه غرابة. قلت: يقصد ذكر "بلال" ويأتي تفصيل وجه الغرابة في ذكره، وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" "8/ 587": إسناده قوي. وقال الإمام ابن القيم في "زاد المعاد" "1/ 24": أن بعث بلال من الغلط الواضح، فإن بلالًا إذ ذاك لعله لم يكن موجودًا. وقال الألباني في "ضعيف سنن الترمذي" "745": صحيح لكن ذكر "بلال" فيه منكر كما قيل.
2 تأتي ترجمته "1515".

(1/48)


وَهُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ جِدًّا؛ وَأَيْنَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ؟ كَانَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ، فَإِنَّهُ أَصْغَرُ من رَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِسَنَتَيْنِ وَنِصْفٍ؛ وَأَيْنَ كَانَ بِلَالٌ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَشْتَرِهِ إِلَّا بَعْدَ الْمَبْعَثِ، وَلَمْ يَكُنْ وُلِدَ بَعْدُ؛ وَأَيْضًا، فَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ غَمَامَةٌ تُظِلُّهُ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَمِيلَ فَيْءُ الشَّجَرَةِ؟ لِأَنَّ ظِلَّ الْغَمَامَةِ يُعْدِمُ فَيْءَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَزَلَ تَحْتَهَا، وَلَمْ نَرَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَكَرَ أَبَا طَالِبٍ قَطُّ بِقَوْلِ الرَّاهِبِ، وَلَا تَذَاكَرَتْهُ قُرَيْشٌ، وَلَا حَكَتْهُ أُولَئِكَ الْأَشْيَاخُ، مَعَ تَوَفُّرِ هِمَمِهِمْ وَدَوَاعِيهِمْ عَلَى حِكَايَةِ مِثْلِ ذَلِكَ، فَلَوْ وَقَعَ لَاشْتَهَرَ بَيْنَهُمْ أَيَّمَا اشْتِهَارٍ، وَلَبَقِيَ عِنْدَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِسٌّ مِنَ النُّبُوَّةِ؛ وَلَمَا أَنْكَرَ مَجِيءَ الْوَحْيِ إِلَيْهِ، أَوَّلًا بِغَارِ حِرَاءٍ وَأَتَى خَدِيجَةَ خَائِفًا عَلَى عَقْلِهِ، وَلَمَا ذَهَبَ إِلَى شَوَاهِقِ الْجِبَالِ لِيَرْمِيَ نَفْسَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَيْضًا فَلَوْ أَثَّرَ هَذَا الْخَوْفُ فِي أَبِي طَالِبٍ وَرَدَّهُ، كَيْفَ كَانَتْ تَطِيبُ نَفْسُهُ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنَ السَّفَرِ إِلَى الشَّامِ تَاجِرًا لِخَدِيجَةَ؟
وَفِي الْحَدِيثِ أَلْفَاظٌ مُنْكَرَةٌ، تشبه ألفاظ الطّرقيّة، مع أنّ ابن عائد قَدْ رَوَى مَعْنَاهُ فِي مَغَازِيهِ دُونَ قَوْلِهِ: "وَبَعَثَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ بِلَالًا" إِلَى آخِرِهِ، فَقَالَ: ثنا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى، فَذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي "السِّيرَةِ"1: إِنَّ أَبَا طَالِبٍ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ تَاجِرًا فِي رَكْبٍ، وَمَعَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ غُلَامٌ، فلما نزلوا بصرى، وبها بحيرى الرَّاهِبُ فِي صَوْمَعَتِهِ، وَكَانَ أَعْلَمَ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ؛ وَلَمْ يَزَلْ فِي تِلْكَ الصَّوْمَعَةِ قَطُّ رَاهِبٌ يَصِيرُ إِلَيْهِ عِلْمُهُمْ عَنْ كِتَابٍ فِيهِمْ فِيمَا يَزْعُمُونَ، يَتَوَارَثُونَهُ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ؛ قَالَ: فَنَزَلُوا قريبًا من الصّومعة، فصنع بحيرى طَعَامًا، وَذَلِكَ فِيمَا يَزْعُمُونَ عَنْ شَيْءٍ رَآهُ حِينَ أَقْبَلُوا، وَغَمَامَةٍ تُظِلُّهُ مِنْ بَيْنِ الْقَوْمِ، فنزل بظلّ شجرة، فنزل بحيرى مِنْ صَوْمَعَتِهِ، وَقَدْ أَمَرَ بِذَلِكَ الطَّعَامِ فَصُنِعَ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَجَاءُوهُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: يا بحيرى مَا كُنْتَ تَصْنَعُ هَذَا، فَمَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنَّكُمْ ضَيْفٌ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ أُكْرِمَكُمْ، فَاجْتَمَعُوا، وَتَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لصغره في رحالهم. فلما نظر بحيرى فِيهِمْ وَلَمْ يَرَهُ قَالَ:
يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ لَا يَتَخَلَّفْ عَنْ طَعَامِي هَذَا أَحَدٌ.
قَالُوا: مَا تَخَلَّفَ أَحَدٌ إلَّا غُلَامٌ هُوَ أَحْدَثُ القوم سنًّا.
__________
1 انظر "سيرة ابن هشام" "1/ 186-188".

(1/49)


قَالَ: فَلَا تَفْعَلُوا، ادْعُوهُ.
فَقَالَ رَجُلٌ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى إِنَّ هَذَا لَلُؤْمٌ بِنَا، يَتَخَلَّفُ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَنِ الطَّعَامِ مِنْ بَيْنِنَا، ثُمَّ قَامَ وَاحْتَضَنَهُ، وَأَقْبَلَ بِهِ فَلَمَّا رَآهُ بَحِيرَا جَعَلَ يَلْحَظُهُ لَحْظًا شَدِيدًا، وَيَنْظُرُ إِلَى أَشْيَاءَ مِنْ جَسَدِهِ، قَدْ كَانَ يَجِدُهَا عِنْدَهُ مِنْ صِفَتِهِ، حَتَّى إِذَا شَبِعُوا وتفرّقوا قام بحيرى فَقَالَ: يَا غُلَامُ أَسْأَلُكَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى إِلَّا أَخْبَرْتَنيِ عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ، فَزَعَمُوا أَنَّهُ قَالَ: لَا تَسْأَلْنِي بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى، فَوَاللَّهِ مَا أَبْغَضْتُ بُغْضَهُمَا شَيْئًا قَطُّ.
فَقَالَ لَهُ: فَبِاللَّهِ إِلَّا مَا أَخْبَرْتَنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ، فَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ حَالِهِ، فَتَوَافَقَ مَا عِنْدَهُ مِنَ الصِّفَةِ.
ثُمَّ نَظَرَ فِيهِ أَثَرَ خَاتَمِ النّبوّة، فأقبل على أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: مَا هُوَ مِنْكَ - قَالَ: ابْنِي.
قَالَ: مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ حَيًّا.
قَالَ: فَإِنَّهُ ابْنُ أَخِي.
قَالَ: ارْجِعْ بِهِ وَاحْذَرْ عَلَيْهِ الْيَهُودَ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ رَأَوْهُ وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا عَرَفْتُهُ لَيَبْغُنَّهُ شَرًّا، فَإِنَّهُ كَائِنٌ لِابْنِ أَخِيكَ شَأْنٌ، فَخَرَجَ بِهِ أَبُو طَالِبٍ سَرِيعًا حَتَّى أَقْدَمَهُ مَكَّةَ حِينَ فَرَغَ مِنْ تِجَارَتِهِ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَقَالَ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ: أَنَّ أَبَا طَالِبٍ سَافَرَ إِلَى الشَّامِ وَمَعَهُ مُحَمَّدٌ، فَنَزَلَ مَنْزِلًا، فَأَتَاهُ رَاهِبٌ فَقَالَ: فِيكُمْ رَجُلٌ صَالِحٌ، ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ أَبُو هَذَا الْغُلَامِ؟ قَالَ: أَبُو طَالِبٍ: هَأَنَذَا وَلِيُّهُ. قَالَ: احْتَفِظْ بِهِ وَلَا تَذْهَبْ بِهِ إِلَى الشَّامِ إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ حُسَّدٌ، وَإِنِّي أَخْشَاهُمْ عَلَيْهِ. فَرَدَّهُ1.
وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ وَجَمَاعَةٌ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، أَنَّ أَبَا طَالِبٍ خَرَجَ تاجرًا إلى الشام، ومعه محمد، فنزلوا ببحيرى، الحديث2.
__________
1 مرسل: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 57".
2 مرسل إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 57" ومحمد بن عمر هو الواقدي متروك كما تقدم.

(1/50)


روى يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدِيثًا طَوِيلًا فِيهِ: فَلَمَّا نَاهَزَ الِاحْتِلَامَ، ارْتَحَلَ بِهِ أَبُو طَالِبٍ تَاجِرًا، فَنَزَلَ تَيْمَاءَ، فَرَآهُ حَبْرٌ مِنْ يَهُودِ تَيْمَاءَ، فَقَالَ لِأَبِي طَالِبٍ: مَا هَذَا الْغُلَامُ قَالَ: هُوَ ابْنُ أَخِي، قَالَ: فَوَاللَّهِ إِنْ قدمت به الشّام لا تصل له إلى أَهْلَكَ أَبَدًا، لَيَقْتُلَنَّهُ الْيَهُودُ إِنَّهُ عَدُوُّهُمْ، فَرَجَعَ بِهِ أَبُو طَالِبٍ مِنْ تَيْمَاءَ إِلَى مَكَّةَ1.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا ذُكِرَ لِي، يُحَدِّثُ عمّا كان الله تعالى يحفظه به فِي صِغَرِهِ، قَالَ: "لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي غِلْمَانٍ مِنْ قُرَيْشٍ نَنْقُلُ حِجَارَةً لِبَعْضِ مَا يَلْعَبُ الْغِلْمَانُ بِهِ، كُلُّنَا قَدْ تَعَرَّى وَجَعَلَ إِزَارَهُ عَلَى رَقَبَتِهِ يَحْمِلُ عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ، فَإِنِّي لَأُقْبِلُ مَعَهُمْ كَذَلِكَ وَأُدْبِرُ، إِذْ لَكَمَنِي لَاكِمٌ مَا أَرَاهَا، لَكْمَةً وَجِيعَةً، وَقَالَ: شُدَّ عَلَيْكَ إِزَارَكَ، فَأَخَذْتُهُ فَشَدَدْتُهُ ثُمَّ جَعَلْتُ أَحْمِلُ الْحِجَارَةَ عَلَى رقبتي"2.
__________
1 مرسل.
2 معضل: ذكره ابن إسحاق بدون إسناد كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 189".

(1/51)


حَرْبُ الْفِجَارِ:
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ1: وَهَاجَتْ حَرْبُ الْفِجَارِ وَلِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِشْرُونَ سَنَةٌ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لَمَّا اسْتَحَلَّتْ كِنَانَةُ وَقَيْسٌ عَيْلَانَ فِي الْحَرْبِ مِنَ الْمَحَارِمِ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُنْتُ أُنَبِّلُ عَلَى أَعْمَامِي"2 أَيْ أَرُدُّ عَنْهُمْ نَبْلَ عَدُوِّهِمْ إِذَا رَمَوْهُمْ. وَكَانَ قَائِدُ قُرَيْشٍ حرب بن أميّة.
__________
1 انظر "سيرة ابن هشام" "1/ 189-191".
2 معضل: ذكره ابن هشام في "سيرته" "1/ 191" بدون إسناد.

(1/51)


شَأْنُ خَدِيجَةَ:
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ1:
ثُمَّ إِنَّ "خديجة بنت خويلد بْن أسد بْن عَبْد الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ" وَهِيَ أَقْرَبُ مِنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى قُصَيٍّ بِرَجُلٍ، كَانَتِ امْرَأَةً تَاجِرَةً ذَاتَ شَرَفٍ وَمَالٍ، وَكَانَتْ تَسْتَأْجِرُ الرِّجَالَ فِي مَالِهَا، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُجَّارًا فَعَرَضَتْ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَخْرُجَ فِي مَالٍ لَهَا إِلَى الشَّامِ، وَمَعَهُ غلام لها اسْمُهُ "مَيْسَرَةُ"، فَخَرَجَ إِلَى الشَّامِ، فَنَزَلَ تَحْتَ
__________
1 انظر "سيرة ابن هشام" "1/ 193".

(1/51)


شَجَرَةٍ بِقُرْبِ صَوْمَعَةٍ، فَأَطَلَّ الرَّاهِبُ إِلَى "مَيْسَرَةَ" فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، قَالَ: مَا نَزَلَ تَحْتَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا نَبِيٌّ.
ثُمَّ بَاعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تِجَارَتَهُ وَتَعَوَّضَ وَرَجَعَ، فَكَانَ "مَيْسَرَةُ" -فِيمَا يَزْعُمُونَ- إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ يَرَى مَلَكَيْنِ يُظِلَّانِهِ مِنَ الشَّمْسِ وَهُوَ يَسِيرُ1.
وَرَوَى قِصَّةَ خُرُوجِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الشَّامِ تَاجِرًا، المحاملي، عن عبد الله ابن شَبِيبٍ وَهُوَ وَاهٍ، ثَنَا أَبُو بَكْرُ بْنُ شَيْبَةَ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكْرِ الْعَدَوِيُّ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ شَيْبَةَ، حَدَّثَتْنِي عُمَيْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أُمِّ سَعْدِ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ نَفِيسَةَ بِنْتِ مُنْيَةَ أُخْتِ يَعْلَى قَالَتْ: لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ2، وَهُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. قَالَ: فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ بَاعَتْ خَدِيجَةُ مَا جَاءَ بِهِ فَأَضْعَفَ أَوْ قَرِيبًا.
وَحَدَّثَهَا "مَيْسَرَةُ" عَنْ قَوْلِ الرَّاهِبِ، وَعَنِ الْمَلَكَيْنِ، وكانت لبيبةً حازمةً، فبعثت إليه تقول: يابن عمّي، إنّي رَغِبْتُ فِيكَ لِقَرَابَتِكَ وَأَمَانَتِكَ وَصِدْقِكَ وَحُسْنِ خُلُقِكَ، ثُمَّ عَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا، فَقَالَ ذَلِكَ لِأَعْمَامِهِ، فَجَاءَ مَعَهُ حَمْزَةُ عَمُّهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خُوَيْلِدٍ فَخَطَبَهَا مِنْهُ، وَأَصْدَقَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِشْرِينَ بَكْرَةً، فَلَمْ يَتَزَوَّجْ عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَتْ. وَتَزَوَّجَهَا وَعُمْرُهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً3.
وَقَالَ أَحْمَدُ فِي "مُسْنَدِهِ": حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ، ثنا حَمَّادٌ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِيمَا يَحْسَبُ حَمَّادٌ،: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذكر خَدِيجَةَ، وَكَانَ أَبُوهَا يَرْغَبُ عَنْ أَنْ يُزَوِّجَهُ، فَصَنَعَتْ هِيَ طَعَامًا وَشَرَابًا، فَدَعَتْ أَبَاهَا وَزُمَرًا مِنْ قُرَيْشٍ، فَطَعِمُوا وَشَرِبُوا حَتَّى ثَمِلُوا، فَقَالَتْ لِأَبِيهَا: إِنَّ مُحَمَّدًا يَخْطُبُنِي فَزَوِّجْنِي إِيَّاهُ، فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ، فَخَلَّقَتْهُ4 وَأَلْبَسَتْهُ حُلَّةً كَعَادَتِهِمْ، فَلَمَّا صَحَا نَظَرَ، فَإِذَا هُوَ مُخَلَّقٌ فَقَالَ: مَا شَأْنِي؟ فَقَالَتْ: زَوَّجْتَنِي مُحَمَّدًا، فَقَالَ: وَأَنَا أُزَوِّجُ يَتِيمَ أبي طالب! لا لعمري، فقالت: أما تستحيي؟ تُرِيدُ أَنْ تُسَفِّهَ نَفْسَكَ مَعِي عِنْدَ قُرَيْشٍ بِأَنَّكَ كُنْتَ سَكْرَانَ، فَلَمْ تَزَلْ بِهِ حَتَّى رضي5.
__________
1 معضل: انظر المصدر السابق.
2 إسناده ضعيف جدًّا: عبد الله بن شبيب ضعيف جدًّا كما تقدم.
3 انظر "سيرة ابن هشام" "1/ 194-195".
4 خلقته: طيبته بالخلوق.
5 أخرجه أحمد "1/ 312"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 73".

(1/52)


وَقَدْ رَوَى طَرَفًا مِنْهُ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْوَالِبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَوْ غيره.
أولاده -صلي الله عليه وسلم- من خديجة:
وَأَوْلَادُهُ كُلُّهُمْ مِنْ خَدِيجَةَ سِوَى إِبْرَاهِيمَ، وَهُمُ: الْقَاسِمُ، وَالطَّيِّبُ، وَالطَّاهِرُ، وَمَاتُوا صِغَارًا رُضَّعًا قَبْلَ الْمَبْعَثِ، وَرُقَيَّةُ، وَزَيْنَبُ، وَأُمُّ كُلْثُومٍ، وَفَاطِمَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-1 فَرُقَيَّةُ، وَأُمُّ كُلْثُومٍ تَزَوَّجَتَا عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَزَيْنَبُ زَوْجَةُ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَفَاطِمَةُ زَوْجَةُ عَلِيٍّ -رضي الله عنهم أجمعين.
__________
1 انظر "سيرة ابن هشام" "1/ 195-196".

(1/53)


حَدِيثُ بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ، وَحُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ قُرَيْشٍ فِي وَضْعِ الحجر الأسود:
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ1: فَلَمَّا بَلَغَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَمْسًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً اجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ لِبُنْيَانِ الْكَعْبَةِ، وَكَانُوا يَهُمُّونَ بِذَلِكَ لِيَسَقَفُوهَا وَيَهَابُونَ هَدْمَهَا، وَإِنَّمَا كَانَتْ رَضْمًا2 فَوْقَ الْقَامَةِ، فَأَرَادُوا رَفْعَهَا وَتَسْقِيفَهَا.
وَكَانَ الْبَحْرُ قَدْ رَمَى بِسَفِينَةٍ إِلَى جُدَّةٍ فَتَحَطَّمَتْ، فَأَخَذُوا خَشَبَهَا وَأَعَدُّوهُ لِتَسْقِيفِهَا، وَكَانَ بِمَكَّةَ نَجَّارٌ قِبْطِيٌّ، فتَهَّيَأَ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ بَعْضُ ما يُصْلِحُهَا، وَكَانَتْ حَيَّةٌ تَخْرُجُ مِنْ بِئْرِ الْكَعْبَةِ الَّتِي كَانَتْ يُطْرَحُ فِيهَا مَا يُهدى لَهَا كُلَّ يَوْمٍ، فَتُشْرِفُ عَلَى جِدَارِ الْكَعْبَةِ، فَكَانَتْ مِمَّا يَهَابُونَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَدْنُو مِنْهَا أَحَدٌ إِلّا احْزَأَلَّتْ3 وَكَشَّتْ4 وَفَتَحَتْ فَاهَا، فَكَانُوا يَهَابُونَهَا، فَبَيْنَا هِيَ يَوْمًا تُشْرِفُ عَلَى جِدَارِ الْكَعْبَةِ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا طَائِرًا فَاخْتَطَفَهَا، فَذَهَبَ بِهَا، قَالَ: فَاسْتَبْشَرُوا بِذَلِكَ، ثُمَّ هَابُوا هَدْمَهَا.
فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ: أَنَا أَبْدَؤُكُمْ فِي هَدْمِهَا، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَمْ تُرَعْ، اللَّهُمَّ لَمْ نُرِدْ إِلَّا خَيْرًا. ثُمَّ هَدَمَ مِنْ نَاحِيَةِ الرُّكْنَيْنِ، وَهَدَمُوا حَتَّى بَلَغُوا أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَإِذَا حِجَارَةٌ خُضْرٌ آخِذٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ.
__________
1 انظر "سيرة ابن هشام" "1/ 198-199".
2 الرضم أن تنضد الحجارة بعضها على بعض من غير ملاط.
3 احزألت: رفعت ذنبها.
4 كشت: صوتت باحتكاك بعض جلدها ببعض.

(1/53)


ثُمَّ بَنَوْا، فَلَمَّا بَلَغَ الْبُنْيَانُ مَوْضِعَ الرُّكْنِ، يَعْنِي الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ، اخْتَصَمُوا فِيمَنْ يَضَعُهُ، وَحَرَصَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تَحَارَبُوا وَمَكَثُوا أَرْبَعَ لَيَالٍ.
ثُمَّ إِنَّهُمُ اجْتَمَعُوا فِي الْمَسْجِدِ وَتَنَاصَفُوا فَزَعَمُوا أَنَّ أَبَا أُمَيَّةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَكَانَ أَسَنَّ قُرَيْشٍ، قَالَ: اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ فِيمَا تَخْتَلِفُونَ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَفَعَلُوا، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَمَّا رأوهو قَالُوا: هَذَا الْأَمِينُ رَضِينَا بِهِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِمْ أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ فَقَالَ: "هَاتُوا لِي ثَوْبًا" فَأَتَوْا بِهِ، فَأَخَذَ الرُّكْنَ بِيَدِهِ فَوَضَعَهُ فِي الثَّوْبِ، ثُمَّ قَالَ: "لِتَأْخُذْ كُلُّ قَبِيلَةٍ بِنَاحِيَةٍ مِنَ الثَّوْبِ، ثُمَّ ارْفَعُوهُ جَمِيعًا"، فَفَعَلُوا، حَتَّى إِذَا بَلَغُوا بِهِ مَوْضِعَهُ وَضَعَهُ هُوَ -صَلَّى الله عليه وسلم- بيده وبني عليه1.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: لَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْحُلُمَ أَجْمَرَتِ2 امْرَأَةٌ الْكَعْبَةَ فَطَارَتْ شَرَارَةٌ مِنْ مَجْمَرَتِهَا فِي ثِيَابِ الْكَعْبَةِ فَاحْتَرَقَتْ، فَهَدَمُوهَا حَتَّى إِذَا بَنَوْهَا فَبَلَغُوا مَوْضِعَ الرُّكْنِ اخْتَصَمَتْ قُرَيْشٌ فِي الرُّكْنِ أَيُّ الْقَبَائِلِ تَضَعُهُ قَالُوا: تَعَالَوْا نُحَكِّمُ أَوَّلَ مَنْ يَطْلُعُ عَلَيْنَا فَطَلَعَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ غُلَامٌ عَلَيْهِ وِشَاحُ نَمِرَةَ فَحَكَّمُوهُ فَأَمَرَ بِالرُّكْنِ فَوُضِعَ فِي ثَوْبٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَيِّدُ كُلِّ قَبِيلَةٍ بِنَاحِيَةٍ مِنَ الثَّوْبِ، ثُمَّ ارْتَقَى هُوَ فَرَفَعُوا إِلَيْهِ الرُّكْنَ، فَكَانَ هُوَ يَضَعُهُ، ثُمَّ طَفِقَ لَا يَزْدَادُ عَلَى السِّنِّ إِلَّا رِضًا حَتَّى دَعَوْهُ الْأَمِينَ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ وَحْيٌ، فَطَفِقُوا لَا يَنْحَرُونَ جَزُورًا إِلَّا الْتَمَسُوهُ فَيَدْعُو لَهُمْ فِيهَا3.
وَيُرْوَى عَنْ عُرْوَةَ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمَا: أَنَّ الْبَيْتَ بُنِيَ قَبْلَ الْمَبْعَثِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً4.
وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عبد الرحمن العطّار، حدثنا ابْنُ خُثَيْمٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: قُلْتُ: لَهُ يَا خَالُ، حَدِّثْنِي عَنْ شَأْنِ الْكَعْبَةِ قبل أن تبنيها قريش قال: كان
__________
1 معضل: ذكره ابن إسحاق بدون إسناد كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 203".
2 يريد بخرت.
3 مرسل: وقال الحافظ ابن كثير في "البداية" "1/ 740": هذا سياق حسن، وهو من سير الزهري، وفيه من الغرابة قوله "لما بلغ الحلم"، والمشهور أن هذا كان ورسوله الله -صلى الله عليه وسلم- عمره خمس وثلاثون سنه، وهو الذي نص عليه محمد بن إسحاق بن يسار -رحمه الله. ا. هـ.
4 مرسل: انظر "البداية" "1/ 740".

(1/54)


بِرَضْمٍ1 يَابِسٍ لَيْسَ بِمَدَرٍ2 تَنْزُوهُ3 الْعَنَاقُ4 وَتُوضَعُ الْكِسْوَةُ عَلَى الْجُدُرِ ثُمَّ تُدَلَّى، ثُمَّ إِنَّ سَفِينَةً لِلرُّومِ أَقْبَلَتْ، حَتَّى إِذَا كَانَتْ بِالشُّعَيْبَةِ5 انْكَسَرَتْ، فَسَمِعَتْ بِهَا قُرَيْشٌ فَرَكِبُوا إِلَيْهَا وَأَخَذُوا خَشَبَهَا، وَرُومِيٌّ يُقَالُ لَهُ "بَاقُومُ" نَجَّارٌ بَانٍ فَلَمَّا قَدِمُوا مَكَّةَ قَالُوا: لَوْ بَنَيْنَا بَيْتَ رَبِّنَا، عَزَّ وَجَلَّ، وَاجْتَمَعُوا لِذَلِكَ وَنَقَلُوا الْحِجَارَةَ مِنْ أَجْيَادِ الضَّوَاحِي، فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَنْقُلُ إِذِ انْكَشَفَتْ نَمِرَتُهُ، فَنُودِيَ: يَا مُحَمَّدُ عَوْرَتَكَ، فَذَلِكَ أَوَّلُ مَا نُودِيَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَمَا رُؤِيَتْ لَهُ عَوْرَةٌ بَعْدُ6.
وَقَالَ أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَنَى الْبَيْتَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، إِلَى أَنْ قَالَ: فَمَرَّ عَلَيْهِ الدَّهْرُ فَانْهَدَمَ، فَبَنَتْهُ الْعَمَالِقَةُ، فَمَرَّ عَلَيْهِ الدَّهْرُ فَانْهَدَمَ، فَبَنَتْهُ جُرْهُمٌ، فَمَرَّ عَلَيْهِ الدَّهْرُ فَانْهَدَمَ فَبَنَتْهُ قُرَيْشٌ. وَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ وَضْعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ مَكَانَهُ7.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بكر بن حَزْمٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "مَا زِلْنَا نَسْمَعُ أَنَّ إِسَافًا وَنَائِلَةَ، رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ مِنْ جُرْهُمٍ، زَنَيَا فِي الْكَعْبَةِ فَمُسِخَا حَجَرَيْنِ"8.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: إِنَّمَا حَمَلَ قُرَيْشًا عَلَى بِنَاءِ الْكَعْبَةِ أَنَّ السَّيْلَ كَانَ يَأْتِي مِنْ فَوْقِهَا مِنْ فَوْقِ الرَّدْمِ الَّذِي صَنَعُوهُ فَأَخْرَبَهُ، فَخَافُوا أَنْ يَدْخُلَهَا الْمَاءُ، وَكَانَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مُلَيْحٌ سَرَقَ طِيبَ الْكَعْبَةِ، فَأَرَادُوا أَنْ يُشَيِّدُوا بِنَاءَهَا وَأَنْ يَرْفَعُوا بَابَهَا حَتَّى لَا يَدْخُلَهَا إِلَّا مَنْ شَاءُوا، فَأَعَدُّوا لِذَلِكَ نَفَقَةً وَعُمَّالًا.
وَقَالَ زَكَرِيَّا بْنُ إِسْحَاقَ: ثنا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَنْقُلُ الْحِجَارَةَ لِلْكَعْبَةِ مَعَ قُرَيْشٍ وَعَلَيْهِ إزار، فقال له عمه
__________
1 الرضم: الحجارة.
2 المدر: قطع الطين اليابس.
3 تنزوه: تثب عليه.
4 العناق: الأنثى من أولاد المعز التي لم تكمل سنة.
5 الشعبية: مرفأ السفن من ساحل بحر الحجاز.
6 لم أجده من هذا الطريق، وقد أخرجه أحمد "4/ 454، 455"، من طريق آخر عن ابن خثيم مختصرًا ويأتي لفظه.
7 مرسل.
8 إسناده حسن: أخرجه إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 88".

(1/55)


العبّاس: يابن أَخِي لَوْ حَلَلْتَ إِزَارَكَ فَجَعَلْتَهُ عَلَى مَنْكِبِكَ دُونَ الْحِجَارَةِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَسَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَمَا رُؤِيَ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ عُرْيَانًا"1. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَأَخْرَجَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ.
مُسْلِمٌ الزَّنْجِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَلَسَ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَتَذَاكَرُوا بُنْيَانَ الْكَعْبَةِ فَقَالُوا: كَانَتْ مَبْنِيَّةً بِرَضْمٍ يَابِسٍ، وَكَانَ بَابُهَا بِالْأَرْضِ، وَلَمْ يُكَنْ لَهَا سَقْفٌ، وَإِنَّمَا تُدَلَّى الكِسْوَةُ عَلَى الْجُدُرِ، وَتُرْبَطُ مِنْ أَعْلَى الْجُدُرِ مِنْ بَطْنِهَا، وَكَانَ فِي بَطْنِ الْكَعْبَةِ عَنْ يَمِينِ الدَّاخِلِ جُبٌّ يَكُونُ فِيهِ مَا يُهْدَى لِلْكَعْبَةِ بِنَذْرٍ مِنْ جُرْهُمٍ، وَذَلِكَ أنّه عدا على ذلك الْجُبِّ قَوْمٌ مِنْ جُرْهُمٍ فَسَرَقُوا مَا بِهِ فَبَعَثَ اللَّهُ تِلْكَ الْحَيَّةَ فَحَرَسَتِ الْكَعْبَةَ وَمَا فِيهَا خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ إِلَى أَنْ بَنَتْهَا قُرَيْشٌ، وَكَانَ قَرْنَا الْكَبْشِ مُعَلَّقَيْنِ فِي بَطْنِهَا مَعَ مَعَالِيقَ مِنْ حِلْيَةٍ.
إِلَى أَنْ قَالَ: حَتَّى بَلَغُوا الأَسَاسَ الَّذِي رَفَعَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ الْقَوَاعِدَ، فَرَأَوْا حِجَارَةً كَأَنَّهَا الْإِبِلُ الْخَلِفُ2 لَا يُطِيقُ الْحَجَرَ مِنْهَا ثَلَاثُونَ رَجُلًا يُحَرِّكُ الْحَجَرَ مِنْهَا، فَتَرْتَجُّ جَوَانِبُهَا، قَدْ تَشَبَّكَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، فَأَدْخَلَ الوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَتَلَةً بَيْنَ حَجَرَيْنِ فَانْفَلَقَتْ مِنْهُ فَلْقَةٌ، فَأَخَذَهَا رَجُلٌ فَنَزَّتْ مِنْ يَدِهِ حَتَّى عَادَتْ فِي مَكَانِهَا، وَطَارَتْ مِنْ تَحْتِهَا بَرْقَةٌ كَادَتْ أَنْ تَخْطَفَ أَبْصَارَهُمْ، وَرَجَفَتْ مَكَّةُ بِأَسْرِهَا، فَأَمْسَكُوا.
إِلَى أَنْ قَالَ: وَقَلَّتِ النَّفَقَةُ عَنْ عِمَارَةِ الْبَيْتِ، فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يُقَصِّرُوا عَنِ الْقَوَاعِدِ وَيُحَجِّرُوا مَا يَقْدِرُونَ وَيَتْرُكُوا بَقِيِّتَهُ فِي الْحَجَرِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَتَرَكُوا سِتَّةَ أَذْرُعٍ وَشِبْرًا، وَرَفَعُوا بَابَهَا وَكَسَوْهَا بِالْحِجَارَةِ حَتَّى لَا يَدْخُلَهَا السَّيْلُ وَلَا يَدْخُلَهَا إِلَّا مَنْ أَرَادُوا، وَبَنَوْهَا بِسَافٍ مِنْ حِجَارَةٍ وَسَافٍ مِنْ خَشَبٍ، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى مَوْضِعِ الرُّكْنِ فَتَنَافَسُوا فِي وَضْعِهِ.
إِلَى أَنْ قَالَ: فَرَفَعُوهَا بِمِدْمَاكِ حِجَارَةٍ وَمِدْمَاكِ خَشَبٍ، حَتَّى بَلَغُوا السَّقْفَ، فَقَالَ لَهُمْ "بَاقُومُ" النَجَّارُ الرُّومِيُّ: أَتُحِبُّونَ أَنْ تَجْعَلُوا سقفها مكبّسًا أو مسطّحًا؟
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "1582" في كتاب الحج، باب: فضل مكة وبنيانها، ومسلم "340/ 77" في كتاب الحيض، باب: الاعتناء بحفظ العورة، وأحمد "3/ 295-380"، وعبد الرزاق في "مصنفه" "1103"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 31".
2 يريد أنها صخور عظيمة.

(1/56)


قَالُوا: بَلْ مُسَطَّحًا، وَجَعَلُوا فيِهِ سِتَّ دَعَائِمَ فِي صَفَّيْنِ، وَجَعَلُوا ارْتِفَاعَهَا مِنْ ظَاهِرِهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا وَقَدْ كَانَتْ قَبْلُ تِسْعَةَ أَذْرُعٍ، وَجَعَلُوا دَرَجَةً مِنْ خَشَبٍ فِي بَطْنِهَا يُصْعَدُ مِنْهَا إِلَى ظَهْرِهَا، وَزَوَّقُوا سَقْفَهَا وَحِيطَانَهَا مِنْ بَطْنِهَا وَدَعَائِمِهَا، وَصَوَّرُوا فِيهَا الْأَنْبِيَاءَ وَالْمَلَائِكَةَ وَالشَّجَرَ، وَصَوَّرُوا إِبْرَاهِيمَ يَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ1، وَصَوَّرُوا عِيسَى وَأُمَّهُ، وَكَانُوا أَخْرَجُوا مَا فِي جُبِّ الْكَعْبَةِ مِنْ حِلْيَةٍ وَمَالٍ وَقَرْنَيِ الْكَبْشِ، وَجَعَلُوهُ عِنْدَ أَبِي طَلْحَةَ الْعَبْدَرِيِّ، وَأَخْرَجُوا مِنْهَا هُبَلَ، فَنُصِبَ عِنْدَ الْمَقَامِ حَتَّى فَرَغُوا فَأَعَادُوا جَمِيعَ ذَلِكَ، ثُمَّ ستروها بحيرات يَمَانِيَّةٍ2.
وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى وَغَيْرِهِ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْبَيْتِ، فَأَمَرَ بِثَوْبٍ فَبُلَّ بِمَاءٍ وَأَمَرَ بِطَمْسِ تِلْكَ الصُّوَرِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى صُورَةِ عِيسَى وَأُمِّهِ وَقَالَ: "امْحُوا الْجَمِيعَ إِلَّا مَا تَحْتَ يَدِي" 3. رَوَاهُ الْأَزْرَقِيُّ.
ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: سَأَلَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى الشَّامِيُّ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ، وَأَنَا أَسْمَعُ: أَدْرَكْتُ فِي الْبَيْتِ تِمْثَالَ مَرْيَمَ وَعِيسَى؟ قَالَ: نَعَمْ أَدْرَكْتُ تِمْثَالَ مَرْيَمَ مُزَوَّقًا فِي حِجْرِهَا عِيسَى قَاعِدٌ، وَكَانَ فِي الْبَيْتِ سِتَّةُ أَعْمِدَةٍ سَوَارِي، وَكَانَ تِمْثَالُ عِيسَى وَمَرْيَمَ فِي الْعَمُودِ الَّذِي يَلِي الْبَابَ، فَقُلْتُ لِعَطَاءٍ: مَتَى هَلَكَ - قَالَ فِي الْحَرِيقِ زَمَنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، قُلْتُ: أَعَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَعْنِي كَانَ قَالَ: لَا أَدْرِي، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ قَدْ كَانَ عَلَى عَهْدِهِ.
قَالَ دَاوُدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: ثُمَّ عَاوَدْتُ عَطَاءً بَعْدَ حِينٍ فَقَالَ: تِمْثَالُ عِيسَى وَأُمِّهِ فِي الْوُسْطَى مِنَ السَّوَارِي.
قَالَ الْأَزْرَقِيُّ: ثَنَا دَاوُدُ الْعَطَّارُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: أَدْرَكْتُ فِي الْكَعْبَةِ قَبْلَ أَنْ تُهْدَمَ تِمْثَالَ عِيسَى وَأُمِّهِ، قَالَ دَاوُدُ: فَأَخْبَرَنِي بَعْضُ الْحَجَبَةِ عَنْ مُسَافِعِ بْنِ شَيْبَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يَا شَيْبَةُ امْحُ كُلَّ صُورَةٍ إِلَّا مَا تَحْتَ يَدِي" قَالَ: فَرَفَعَ يَدَهُ عَنْ عِيسَى ابن مريم وأمّه4.
__________
1 الأزلام: سهام يستقسم بها.
2 مرسل.
3 ابن أبي نجيح وأبوه كلاهما ثقة، إلا أن ابن أبي نجيح يدلس.
4 إسناده ضعيف.

(1/57)


قَالَ الْأَزْرَقِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عِيَاضِ بْنِ جُعْدُبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ الْكَعْبَةَ وَفِيهَا صُوَرُ الْمَلَائِكَةِ، فَرَأَى صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ: "قَاتَلَهُمُ اللَّهُ جَعَلُوهُ شَيْخًا يَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ"، ثُمَّ رَأَى صُورَةَ مَرْيَمَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا فَقَالَ: "امْحُوا مَا فِيهَا إِلَّا صُورَةَ مَرْيَمَ"1. ثُمَّ سَاقَهُ الْأَزْرَقِيُّ بِإِسْنَادٍ آخَرَ بِنَحْوِهِ، وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَلَكِنَّ قَوْلَ عَطَاءٍ وَعَمْرٍو ثَابِتٌ، وَهَذَا أَمْرٌ لَمْ نَسْمَعْ بِهِ إِلَى الْيَوْمِ.
وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: لَمَّا بُنِيَ الْبَيْتُ كَانَ النَّاسُ يَنْقُلُونَ الْحِجَارَةَ وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَهُمْ، فَأَخَذَ الثَّوْبَ فَوَضَعَهُ عَلَى عَاتِقِهِ فَنُودِيَ: "لَا تَكْشِفْ عَوْرَتَكَ" فَأَلْقَى الْحَجَرَ وَلَبِسَ ثَوْبَهُ2. رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الدَّشْتَكِيُّ: ثنا عَمْرُو بْنُ أَبِي قَيْسٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "كُنْتُ أَنَا وَابْنُ أَخِي نَنْقُلُ الْحِجَارَةَ عَلَى رِقَابِنَا وَأُزُرُنَا تَحْتَ الْحِجَارَةِ، فَإِذَا غَشِيَنَا النَّاسُ ائْتَزَرْنَا، فَبَيْنَا هُوَ أَمَامِي خَرَّ عَلَى وَجْهِهِ مُنْبَطِحًا، فَجِئْتُ أَسْعَى وَأَلْقَيْتُ حَجَرِي، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقُلْتُ: مَا شَأْنُكَ - فَقَامَ وَأَخَذَ إِزَارَهُ وَقَالَ: "نُهِيتُ أَنْ أَمْشِيَ عُرْيَانًا" فَكُنْتُ أَكْتُمُهَا النَّاسَ مَخَافَةَ أَنْ يَقُولُوا مَجْنُونٌ3. رَوَاهُ قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ بِنَحْوِهِ، عَنْ سِمَاكٍ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ دَاوُدَ بن أبي هند، عن سماك بن حرب، عَنْ خَالِدِ بْنِ عَرْعَرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: لَمَّا تَشَاجَرُوا فِي الْحَجَرِ أَنْ يَضَعَهُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ مِنْ هَذَا الْبَابِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: قَدْ جَاءَ الْأَمِينُ4.
أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَمْزَةَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عبد الواحد، أنا محمد بن أحمد،
__________
1 مرسل إسناده ضعيف جدًّا: يزيد بن عياض بن جعدبة ضعيف جدًّا، ومتهم بالكذب، كما في "الميزان" "9740".
2 أخرجه أحمد "9740".
3 إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 32، 33"، وسماك صدوق إلا أن روايته عن عكرمة مضطربة كما في "التقريب" "2624".
4 أخرجه الطيالسي في "مسنده" "113" والطبري في "تفسيره" "3/ 69-71".

(1/58)


أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَتْهُمْ، أَنْبَأَ ابْنُ بُرَيْدَةَ، أَنْبَأَ الطَّبَرَانِيُّ، ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابن خيثم، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: كَانَتِ الْكَعْبَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَبْنِيَّةً بِالرَّضْمِ، لَيْسَ فِيهَا مَدَرٌ1، وَكَانَتْ قَدْرَ مَا نَقْتَحِمُهَا، وَكَانَتْ غَيْرَ مَسْقُوفَةٍ، إِنَّمَا تُوضَعُ ثِيَابُهَا عَلَيْهَا، ثُمَّ تُسْدَلُ عَلَيْهَا سَدْلًا، وَكَانَ الرُّكْنُ الْأَسْوَدُ مَوْضُوعًا عَلَى سُورِهَا بَادِيًا، وَكَانَتْ ذَاتَ رُكْنَيْنِ كَهَيْئَةِ الْحَلْقَةِ، فَأَقْبَلَتْ سَفِينَةٌ مِنْ أَرْضِ الرُّومِ فَانْكَسَرَتْ بِقُرْبِ جُدَّةَ، فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ لِيَأْخُذُوا خَشَبَهَا، فَوَجَدُوا رَجُلًا رُومِيًّا عِنْدَهَا، فَأَخَذُوا الْخَشَبَ، وَكَانَتِ السَّفِينَةُ تُرِيدُ الْحَبَشَةَ، وَكَانَ الرُّومِيُّ الَّذِي فِي السَّفِينَةِ نَجَّارًا، فَقَدِمُوا بِهِ وَبِالْخَشَبِ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: نَبْنِي بِهَذَا الَّذِي فِي السَّفِينَةِ بَيْتَ رَبِّنَا، فَلَمَّا أَرَادُوا هَدْمَهُ إِذَا هُمْ بِحَيَّةٍ عَلَى سُورِ الْبَيْتِ، مِثْلَ قِطْعَةِ الْجَائِزِ سَوْدَاءِ الظَّهْرِ، بَيْضَاءِ الْبَطْنِ، فَجَعَلَتْ كُلَّمَا دَنَا أَحَدٌ إِلَى الْبَيْتِ لِيَهْدِمَ أَوْ يَأْخُذَ مِنْ حِجَارَتِهِ، سَعَتْ إِلَيْهِ فَاتِحَةً فَاهَا، فَاجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ: عِنْدَ الْمَقَامِ فَعَجُّوا2 إِلَى اللَّهِ وَقَالُوا: رَبَّنَا لَمْ نُرَعْ، أَرَدْنَا تَشْرِيفَ بَيْتِكَ وَتَزْيِينَهُ، فَإِنْ كُنْتَ تَرْضَى بِذَلِكَ، وَإِلَّا فَمَا بَدَا لَكَ فَافْعَلْ، فَسَمِعُوا خِوَارًا فِي السَّمَاءِ، فَإِذَا هُمْ بِطَائِرٍ أَسْوَدِ الظَّهْرِ، أَبْيَضِ الْبَطْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ، أَعْظَمَ مِنَ النِّسْرِ، فَغَرَزَ مِخْلَابَهُ فِي رَأْسِ الْحَيَّةِ، حَتَّى انْطَلَقَ بِهَا يَجُرُّهَا، ذَنَبُهَا أَعْظَمُ مِنْ كَذَا وَكَذَا سَاقِطًا، فَانْطَلَقَ بِهَا نَحْوَ أَجْيَادٍ، فَهَدَمَتْهَا قُرَيْشٌ، وَجَعَلُوا يَبْنُونَهَا بِحِجَارَةِ الْوَادِي، تَحْمِلُهَا قُرَيْشٌ عَلَى رِقَابِهَا، فَرَفَعُوهَا فِي السَّمَاءِ عِشْرِينَ ذِرَاعًا، فَبَيْنَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَحْمِلُ حِجَارَةً مِنْ أَجْيَادٍ، وَعَلَيْهِ نَمِرَةٌ، فَضَاقَتْ عَلَيْهِ النَّمِرَةُ، فَذَهَبَ يَضَعُهَا عَلَى عَاتِقِهِ، فَبَرَزَتْ عَوْرَتُهُ مِنْ صِغَرِ النَّمِرَةِ، فَنُودِيَ: يَا مُحَمَّدُ، خَمِّرْ عَوْرَتَكَ، فَلَمْ يُرَ عُرْيَانًا بَعْدَ ذَلِكَ.
وَكَانَ بَيْنَ بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ، وَبَيْنَ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ خَمْسُ سِنِينَ3. هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَقَدْ رَوَى نَحْوَهُ دَاوُدُ الْعَطَّارُ، عَنِ ابْنِ خثيم4.
__________
1 المدر: الطين اليابس.
2 عجوا: صاحوا.
3 في إسناده مقال: إسحاق بن إبراهيم هو الدبري، راوي المصنف عن الإمام عبد الرزاق، فيه مقال، ومحله الصدق، إلا أن في روايته عن عبد الرزاق مقال، ويترجح فيها الضعف، انظر "الميزان" "731" و"لسانه" وتأتي ترجمته "2421".
4 تقدم لفظه.

(1/59)


وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ الْمِصِّيصِيُّ، عَنْ عَبْدِ الله بن واقد، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ سَرْجِسَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الطُّفَيْلِ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ النُّعْمَانِ: حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ، ثنا هِلالُ بْنُ خَبَّابٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ مَوْلَاهُ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ كَانَ فِيمَنْ يَبْنِي الْكَعْبَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ: وَلِي حَجَرٌ أَنَا نَحَتُّهُ بِيَدِي أعبده من دون الله، فأجئ بِاللَّبَنِ الْخَاثِرِ1 الَّذِي أَنْفَسُهُ2 عَلَى نَفْسِي فَأَصُبُّهُ عليه، فيجئ الْكَلْبُ فَيَلْحَسُهُ، ثُمَّ يَشْغَرُ3 فَيَبُولُ، فَبَنَيْنَا حَتَّى بَلَغْنَا الْحَجَرَ، وَمَا يَرَى الْحَجَرَ مِنَّا أَحَدٌ، فَإِذَا هُوَ وَسْطَ حِجَارَتِنَا، مِثْلَ رَأْسِ الرَّجُلِ، يَكَادُ يَتَرَاءَى مَنْهُ وَجْهُ الرَّجُلِ، فَقَالَ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ: نَحْنُ نَضَعُهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: "بَلْ" نَحْنُ نَضَعُهُ. فَقَالُوا: اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ حَكَمًا. قَالُوا: أَوَّلُ رَجُلٍ يَطْلُعُ مِنَ الْفَجِّ، فَجَاءَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: أَتَاكُمُ الْأَمِينُ، فَقَالُوا لَهُ، فَوَضَعَهُ فِي ثَوْبٍ، ثُمَّ دَعَا بُطُونَهُمْ، فَأَخَذُوا بِنَوَاحِيهِ مَعَهُ، فَوَضَعَهُ4 هُوَ. اسْمُ مَوْلَى مُجَاهِدٍ: السَّائِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي يَحْيَى الْقَتَّاتُ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كَانَ الْبَيْتُ قَبْلَ الْأَرْضِ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ} 5 قَالَ: مِنْ تَحْتِهِ مَدًّا6. وَرَوَى نَحْوَهُ عَنْ منصور، عن مجاهد.
__________
1 الخاثر: الغليظ.
2 أنفسه: أبخل به.
3 يشغر: يختلي.
4 إسناده حسن: أخرجه أحمد "3/ 425"، وأخرجه الدارمي "3" من طريق آخر عن مجاهد مختصرًا، وقال الألباني في "تحقيق فقه السيرة" "ص94": إن إسناد أحمد حسن.
5 سورة الانشقاق: 3.
6 إسناده ضعيف: أبو يحيى القتات ضعيف وأجود رواياته ما رواه عنه سفيان وليست هذه منها. وقال الحافظ ابن حجر في "التقريب": لين الحديث، وانظر "الميزان" "10729".

(1/60)


وَمِمَّا عَصَمَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ:
إِنَّ قُرَيْشًا كَانُوا يُسَمَّوْنَ الْحُمْسَ، يَعْنِي الْأَشِدَّاءَ الْأَقْوِيَاءَ، وَكَانُوا يَقِفُونَ فِي الْحَرَمِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَلَا يَقِفُونَ مَعَ النَّاسِ بِعَرَفَةَ، يَفْعَلُونَ ذَلِكَ رِيَاسَةً وَبَأْوًا1، وَخَالَفُوا بِذَلِكَ شَعَائِرَ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي جُمْلَةِ مَا خَالَفُوا. فَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: "أَضْلَلَتُ بَعِيرًا لِي يَوْمَ عَرَفَةَ، فَخَرَجْتُ أَطْلُبُهُ بِعَرَفَةَ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاقِفًا مَعَ النَّاسِ بِعَرَفَةَ، فَقُلْتُ: هَذَا مِنَ الْحُمْسِ، فَمَا شَأْنُهُ ههنا"2.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَا هَمَمْتُ بِقَبِيحٍ مِمَّا يَهُمُّ بِهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مَرَّتَيْنِ، عَصَمَنِي اللَّهُ فِيهِمَا، قُلْتُ لَيْلَةً لِفَتًى مِنْ قُرَيْشٍ: أَبْصِرْ لِي غَنَمِي حَتَّى أَسْمُرَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ بِمَكَّةَ كَمَا تَسْمُرُ الْفِتْيَانُ. قَالَ: نَعَمْ، فَخَرَجْتُ حَتَّى جِئْتُ أَدْنَى دَارٍ مِنْ دُورِ مَكَّةَ، فَسَمِعْتُ غِنَاءً وَصَوْتَ دُفُوفٍ وَمَزَامِيرَ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: فُلَانٌ تَزَوَّجَ، فَلَهَوْتُ بِذَلِكَ حَتَّى غَلَبَتْنِي عَيْنِي، فَنِمْتُ، فَمَا أَيْقَظَنِي إِلَّا مَسُّ الشَّمْسِ، فَرَجَعْتُ إِلَى صَاحِبِي، ثُمَّ فَعَلْتُ لَيْلَةً أُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، فَوَاللَّهِ مَا هَمَمْتُ بَعْدَهَا بِسُوءٍ مِمَّا يَعْمَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، حَتَّى أَكْرَمَنِي اللَّهُ بِنُبُوَّتَهِ" 3.
وَرَوَى مِسْعَرٌ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ ذَرِيحٍ، عَنْ زياد النّخعي، ثنا عمّار بن ياسر
__________
1 كبرًا.
2 صحيح: أخرجه البخاري "1664" في كتاب الحج، باب: الوقوف بعرفة، ومسلم "1220" في كتاب الحج، باب: في الوقوف، والنسائي "5/ 255" في كتاب الحج، باب: رفع اليدين في الدعاء بعرفة، وأحمد "4/ 80".
3 أخرجه الحاكم في "مستدركه" "7619"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 33، 34" وقال أخرجه الهيثمي في "مجمع الزوائد" "8/ 226" بعد أن عزاه للبزار، رجاله ثقات. وقال الحافظ ابن كثير في "البداية" "1/ 725": وهذا حديث غريب جدًّا، وقد يكون عن علي نفسه، ويكون قوله في آخره "حتى أكرمني الله عز وجل بنبوته" مقحمًا، والله أعلم.
ا. هـ. قلت: وهذا الاحتمال بعيد إلا أن يعضده ضعف السند، وهذا ما لا أعلمه بل هو قريب من الحسن، والله أعلم بالصواب.

(1/61)


أَنَّهُمْ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ أَتَيْتَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ شَيْئًا حَرَامًا؟ قَالَ: "لَا، وَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ عَلَى مِيعَادَيْنِ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَحَالَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ سَامِرُ قَوْمِي، والآخر غلبتني عيني" 1 أو كما قال.
إباء النبي -صلى الله عليه وسلم- حضورب عبد تعظيمن فيه الأصنام:
وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ حسين بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدَّثَتْنِي أُمُّ أَيْمَنَ قَالَتْ: كَانَ بُوَانَةُ صَنَمًا تَحْضُرُهُ قُرَيْشٌ، تُعَظِّمُهُ وَتُنَسِّكُ لَهُ النُّسَّاكُ، وَيَحْلِقُونَ رُءُوسَهُمْ عِنْدَهُ، وَيَعْكُفُونَ عِنْدَهُ يَوْمًا فِي السَّنَةِ، وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَحْضُرَ ذَلِكَ الْعِيدَ، فَيَأْبَى، حَتَّى رَأَيْتُ أَبَا طَالِبٍ غَضِبَ، وَرَأَيْتُ عَمَّاتِهِ غَضِبْنَ يَوْمَئِذٍ أَشَدَّ الْغَضَبِ، وَجَعَلْنَ يَقُلْنَ: إِنَّا نَخَافُ عَلَيْكَ مِمَّا تَصْنَعُ مِنِ اجْتِنَابِ آلِهَتِنَا، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى ذَهَبَ فَغَابَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْنَا مَرْعُوبًا، فَقُلْنَ: مَا دَهَاكَ؟ قَالَ: "إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ لِي لَمَمٌ"، فَقُلْنَ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَبْتَلِيكَ بِالشَّيْطَانِ، وَفِيكَ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ مَا فِيكَ، فَمَا الَّذِي رَأَيْتَ؟ قَالَ: إِنِّي كُلَّمَا دَنَوْتُ مِنْ صَنَمٍ مِنْهَا تَمَثَّلَ لِي رَجُلٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ يَصِيحُ: وَرَاءَكَ يَا مُحَمَّدُ لَا تَمَسَّهُ قَالَتْ: فَمَا عَادَ إِلَى عيد لهم حتى نبّئ2.
نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- مس الأصنام قبل بعثته:
وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَيَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ صَنَمٌ مِنْ نُحَاسٍ يُقَالُ لَهُ إِسَافٌ أَوْ نَائِلَةُ يَتَمَسَّحُ الْمُشْرِكُونَ بِهِ إِذَا طَافُوا، فَطَافَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَطُفْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا مَرَرْتُ مَسَحْتُ بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَمَسَّهُ"، قَالَ زَيْدٌ: فَطُفْنَا فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَأَمَسَّنَّهُ حَتَّى أَنْظُرَ مَا يَكُونُ، فَمَسَحْتُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألم تنه" 3.
__________
1 أخرجه الطبراني في "الصغير" "903".
2 إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 75": ومحمد بن عمر هو الواقدي متروك كماتقدم، وأبو بكر بن أبي سيرة كذلك.
3 إسناده صحيح: أخرجه الحاكم في "مستدركه" "4956" والبيهقي في "الدلائل" "2/ 34" إسناده صحيح.

(1/62)


هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَدْ زَادَ فِيهِ بَعْضُهُمْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو بِإِسْنَادِهِ: قَالَ زَيْدٌ فَوَاللَّهِ مَا اسْتَلَمَ صَنَمًا حَتَّى أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ1
وَقَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَهِدَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ مَشَاهِدَهُمْ2. فَسَمِعَ مَلَكَيْنِ خَلْفَهُ، وَأَحَدُهُمَا يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: اذْهَبْ بِنَا حَتَّى نَقُومَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: كَيْفَ نَقُومُ خَلْفَهُ، وَإِنَّمَا عَهْدُهُ بِاسْتِلَامِ الأَصْنَامِ قُبَيْلُ؟ قَالَ: فَلَمْ يَعُدْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَشْهَدَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ مَشَاهِدَهُمْ.
تَفَرَّدَ بِهِ جَرِيرٌ، وَمَا أَتَى بِهِ عَنْهُ سِوَى شَيْخُ الْبُخَارِيِّ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. وَهُوَ مُنْكَرٌ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، ثنا بُدَيْلُ بْنُ "مَيْسَرَةَ"، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْحَمْسَاءِ قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْعًا قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ، فَبَقِيَتْ لَهُ بَقِيَّةٌ، فَوَعَدْتُهُ أَنْ آتِيَهُ بِهَا فِي مَكَانِهِ ذَلِكَ. قَالَ: فَنَسِيتُ يَوْمِي وَالْغَدَ، فَأَتَيْتُهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، فَوَجَدْتُهُ فِي مَكَانِهِ، فَقَالَ: "يَا فَتًى لَقَدْ شَقَقْتَ عَلَيَّ، أَنَا ههنا مُنْذُ ثَلَاثٍ أَنْتَظِرُكَ"3.أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَأَخْبَرَنَا الْخَضِرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَزْدِيُّ، أَنْبَأَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الْبُنِّ، أنا جَدِّي، أنا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي الْعَلَاءِ، أنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي نَصْرٍ، أنا عَلِيُّ بْنُ أبي العقب، أنا أحمد بن إبراهيم، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَائِذٍ، حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ، أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ، عَنْ جَدِّهِ أَبِي سَلَّامِ الْأَسْوَدِ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "بَيْنَا أَنَا بِأَعْلَى مَكَّةَ، إِذَا بِرَاكِبٍ عَلَيْهِ سَوَادٌ فَقَالَ: هَلْ بِهَذِهِ القرية
__________
1 قاله البيهقي في المصدر السابق.
2 أخرجه أبو يعلى في "مسنده" "1877" وابن عدي في "الكامل" "4/ 128" وقال الحافظ ابن كثير في "البداية" "1/ 726": هو حديث أنكره غير واحد من الأئمة على عثمان بن أبي شيبة، حتى قال الإمام أحمد فيه: لم يكن أخوه -يقصد أبا بكر بن أبي شيب- يتلفظ بشيء من هذا. ا. هـ.
قلت: وعثمان بن أبي شيبة من أئمة الحديث، وهو ثقة ربما أخطأ، انظر "الميزان" "5518" وقد ذكر فيه هذا الحديث من مناكيره، وتأتي ترجمة عثمان بن أبي شيبة "1856".
3 إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود "4996" في كتاب الأدب، باب: في العدة، وقال الألباني في "ضعيف سنن أبي داود" "1062": ضعيف الإسناد.

(1/63)


رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَحْمَدُ؟ فَقُلْتُ مَا بِهَا أَحْمَدُ وَلَا مُحَمَّدٌ غَيْرِي، فَضَرَبَ ذِرَاعَ رَاحِلَتِهِ فَاسْتَنَاخَتْ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى كَشَفَ عَنْ كَتِفِي حَتَّى نَظَرَ إِلَى الْخَاتَمِ الَّذِي بَيْنَ كَتِفَيَّ فَقَالَ: أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ؟ قُلْتُ: وَنَبِيٌّ أَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: بِمَ أُبْعَثُ؟ قَالَ بِضَرْبِ أَعْنَاقِ قَوْمِكَ، قَالَ: فَهَلْ مِنْ زَادٍ؟ فَخَرَجْتُ حَتَّى أَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَأَخْبَرْتُهَا، فَقَالَتْ: حَرِيًّا أَوْ خَلِيقًا أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ، فَهِيَ أَكْبَرُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَتْ بِهَا فِي أَمْرِي، فَأَتَيْتُهُ بِالزَّادِ، فَأَخَذَهُ وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُمِتْنِي حَتَّى زَوَّدَنِي نَبِيُّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- طعامًا، وحمله لي في ثوبه "1.
__________
1 الظاهر أنه من مغازي ابن عائذ، ولم أقف على تراجم لمن فوقه.

(1/64)


ذِكْرُ مَبْعَثِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
قَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاءُ، فَكَانَ يَأْتِي حِرَاءَ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ، أَيْ يَتَعَبَّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتَ الْعَدَدِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى فَجَأَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءَ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: فَقُلْتُ: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ"، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي1 حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ فَقُلْتُ: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ"، فَأَخَذَنِي الثَّانِيَةَ فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ فَقُلْتُ: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ"، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} حتى بلغ إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} 2 قَالَتْ: فَرَجَعَ بِهَا تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ3 حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ: "زَمِّلُونِي" 4، فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ فَقَالَ: يَا خَدِيجَةُ مَا لِي! وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ وَقَالَ: "قَدْ خَشِيتِ عَلَيَّ"، فَقَالَتْ لَهُ: كَلَّا فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ5، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، ثُمَّ انْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ إِلَى ابْنِ عَمِّهَا وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْخَطَّ الْعَرَبِيَّ، فَكَتَبَ بِالْعَرَبِيَّةِ مِنَ الإِنْجِيلِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا قَدْ عَمِيَ.
فَقَالَتِ: اسْمَعْ من ابن أخيك، فقال: يابن أَخِي مَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ6 الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، قَالَ: "أَوَمُخْرِجِيَّ هم؟ ".
__________
1 غطني: ضمني.
2 سورة العلق: 1-5.
3 بوادره: البوادر اللحمة التي بين المنكب والعنق.
4 زملوني: غطوني ولفوني.
5 الكل: من لا يستقل بأمره.
6 الناموس: هو جبريل -صلى الله عليه وسلم- والناموس لغة صاحب الخير، وعكسه الجاسوس، وهو صاحب الشر.

(1/65)


قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِمَا جِئْتَ به إلاّ عودي وأوذي، ونّ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا1.
ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ2 وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ3.
فَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، سُئِلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ وَرَقَةَ، فَقَالَتْ لَهُ خديجة: إنّه يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ صَدَّقَكَ، وَإِنَّهُ مَاتَ قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ، فَقَالَ: "رَأَيْتُهُ فِي الْمَنَامِ عَلَيْهِ ثِيَابٌ بِيضٌ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَكَانَ عَلَيْهِ لِبَاسٌ غَيْرُ ذَلِكَ" 4.
وَجَاءَ مِنْ مَرَاسِيلِ عُرْوَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "رَأَيْتُ لِوَرَقَةَ جَنَّةً أَوْ جَنَّتَيْنِ" 5.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً، حَتَّى حَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حُزْنًا شَدِيدًا، وَغَدَا مِرَارًا كَيْ يَتَرَدَّى6 مِنْ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ، وَكُلَّمَا أَوْفَى بِذِرْوَةٍ لِيُلْقِيَ نَفْسَهُ، تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَقًّا، فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ، وَتَقَرُّ نَفْسُهُ، فَيَرْجِعُ، فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الْوَحْيِ غَدَا لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ7. رَوَاهُ أَحْمَدُ في "مسنده"، والبخاري.
__________
1 مؤزرًا: قويًَّا.
2 لم ينشب: لم يلبث.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3" في كتاب بدء الواحي، باب: رقم "3"، ومسلم "160" في كتاب الإيمان، باب: بدء الوحي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وانظر شرح الغريب في "شرح مسلم للنووي" "2/ 161-166"، و"الفتح" "1/ 31-37".
4 أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" "9719" في آخر حديث بدء الوحي.
5 صحيح: أخرجه البزار موصولًا لا بذكر عائشة -رضي الله عنها- كما في "البداية" "2/ 13" وقال الحافظ ابن كثير: هذا إسناد جيد، وروي مرسلًا وهو أشبه. وصححه الألباني في تحقيق "فقه السيرة" "ص112".
6 يتردي: يهلك.
7 مرسل: أخرجه أحمد "6/ 223"، والبخاري "6982" في كتاب التعبير، باب: أول ما بدئ به رَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ الوحي الرؤيا الصالحة، وهو من مراسيل الزهري على الراجح، فلفظه في المصدرين السابقين "وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما بلغنا ... " الحديث قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" "12/ 376" القائل "فيما بلغنا" هو الزهري، ومعنى الكلام: أن في جملة ما وصل إلينا من خبر رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي هذه القصة، وهو من بلاغات الزهري، وليس موصولًا.

(1/66)


وَقَالَ هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَمَكَثَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً يُوحَى إِلَيْهِ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ، فَهَاجَرَ عَشْرَ سِنِينَ1، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَمَكَثَ بِمَكَّةَ عَشْرًا وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرًا2.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: نَزَلَتْ عَلَيْهِ النُّبُوَّةُ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَقَرَنَ بِنُبُوَّتِهِ إِسْرَافِيلَ ثَلَاثَ سِنِينَ، فَكَانَ يُعَلِّمُهُ الْكَلِمَةَ وَالشَّيْءَ، وَلَمْ يَنْزِلِ الْقُرْآنُ، فَلَمَّا مَضَتْ ثَلَاثُ سِنِينَ قَرَنَ بِنُبُوَّتِهِ جِبْرِيلَ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَانِهِ عِشْرِينَ سَنَةً، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ3.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْمَعَالِي الْأَبَرْقُوهِيُّ، أنا عَبْدُ الْقَوِيِّ بْنُ الْجَبَّابِ، أَنْبَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رِفَاعَةَ، أَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الْخُلَعِيُّ، أَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ النَّحَّاسِ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَرْدِ، أنا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَرْقِيُّ، ثنا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ، ثنا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَكَّائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: كَانَتِ الأَحْبَارُ وَالرُّهْبَانُ وَكُهَّانُ الْعَرَبِ قَدْ تَحَدَّثُوا بَأَمْرِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبْلَ مَبْعَثِهِ لَمَّا تَقَارَبَ مِنْ زَمَانِهِ، أَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَعَمَّا وَجَدُوا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ صِفَتِهِ وَصِفَةِ زَمَانِهِ، وَمَا كَانَ عَهِدَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاؤُهُمْ مِنْ شَأْنِهِ، وَأَمَّا الْكُهَّانُ فَأَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ بِمَا اسْتَرَقَتْ مِنَ السَّمْعِ، وَأَنَّهَا قَدْ حُجِبَتْ عَنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ وَرُمِيَتْ بِالشُّهُبِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} 4 فَلَمَّا سَمِعَتِ الْجِنُّ الْقُرْآنَ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى الله عليه وسلم- عرفت أنّها منعب مِنَ السَّمْعِ قَبْلَ ذَلِكَ، لِئَلا يُشْكَلَ الْوَحِيُ
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3851" في كتاب مناقب الأنصار، باب: مبعث النبي -صلى الله عليه وسلم.
2 مرسل.
3 مرسل: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 912".
4 سورة الجن: 9.

(1/67)


بشيء من خير السَّمَاءِ فَيَلْتَبِسَ الْأَمْرُ، فَآمَنُوا وَصَدَّقُوا وَوَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ1.
وَعَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَوَّلَ الْعَرَبِ فَزِعَ لِلرَّمْيِ بِالنُّجُومِ ثَقِيفٌ، فَجَاءُوا إِلَى عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ وَكَانَ أَدْهَى الْعَرَبِ، فَقَالُوا: أَلَا تَرَى مَا حَدَثَ؟ قَالَ: بَلَى، فَانْظُرُوا فَإِنْ كَانَتْ مَعَالِمُ النُّجُومِ الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا وَتُعْرَفُ بِهَا الْأَنْوَاءُ هِيَ الَّتِي يُرْمَى بِهَا، فَهِيَ وَاللَّهِ طَيُّ الدُّنْيَا وَهَلَاكُ أَهْلِهَا، وَإِنْ كَانَتْ نُجُومًا غَيْرَهَا، وَهِيَ ثَابِتَةٌ عَلَى حَالِهَا، فَهَذَا أَمْرٌ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ هَذَا الْخَلْقَ فَمَا هُوَ2.
قُلْتُ: رَوَى حَدِيثَ يَعْقُوبَ بِنَحْوِهِ حُصَيْنٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، لَكِنْ قال: فأتوا عبد ياليل بْنَ عَمْرٍو الثَّقَفِيُّ، وَكَانَ قَدْ عَمِيَ3.
وَقَدْ جَاءَ غَيْرُ حَدِيثٍ بِأَسَانِيدَ وَاهِيَةٍ أَنَّ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنَ الْكُهَّانِ أَخْبَرَهُ رِئْيَةً مِنَ الْجِنِّ بِأَسْجَاعٍ وَرَجَزٍ، فِيهَا ذِكْرُ مَبْعَثِ النَّبِيِّ -صَلَّى الله عليه وسلم- مِنْ هَوَاتِفِ الْجَانِّ مِنْ ذَلِكَ أَشْيَاءَ.
وَبِالْإِسْنَادِ إِلَى ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عَمْرِ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِ قَالُوا: إِنَّ مِمَّا دَعَانَا إِلَى الْإِسْلَامِ مَعَ رَحْمَةِ اللَّهِ وَهُدَاهُ لَنَا، أَنَّا كُنَّا نَسْمَعُ مِنْ يَهُودَ، وَكُنَّا أَصْحَابَ أَوْثَانٍ، وَهُمْ أَهْلُ كتاب، وَكَانَ لَا يَزَالُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ شُرُورٌ، فَإِذَا نِلْنَا مِنْهُمْ قَالُوا إِنَّهُ قَدْ تَقَارَبَ زَمَانُ نَبِيٍّ يُبْعَثُ الآنَ نَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ، وَكُنَّا كَثِيرًا مَا نَسْمَعُ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فلمّا بعث الله رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَجَبْنَاهُ حِينَ دَعَانَا، وَعَرَفْنَا مَا كَانُوا يَتَوَعَّدُونَنَا بِهِ، فَبَادَرْنَاهُمْ إِلَيْهِ، فَآمَنَّا بِهِ وَكَفَرُوا بِهِ، فَفِي ذَلِكَ نَزَلَ {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} 4. الْآيَاتِ5.
حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ،
__________
1 انظر "سيرة ابن هشام" "1/ 209-211".
2 معضل: انظر المصدر السابق "1/ 212".
3 مرسل.
4 انظر "البداية" "1/ 781-810" باب: في هواتف الجان.
5 سورة البقرة: 89.
والخبر أخرجه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 216، 217".

(1/68)


عَنْ سَلَمَةَ بْنِ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ قَالَ: كَانَ لَنَا جَارٌ يَهُودِيٌّ، فَخَرَجَ يَوْمًا حَتَّى وَقَفَ عَلَى بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، وَأَنَا أَحْدَثُهُمْ سِنًّا، فَذَكَرَ الْقِيَامَةَ وَالْحِسَابَ وَالْمِيزَانَ وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ، قَالَ ذَلِكَ لِقَوْمٍ أَصْحَابِ أَوْثَانٍ لا يَرَوْنَ بَعْثًا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَقَالُوا لَهُ: وَيْحَكَ يَا فُلَانُ، أَوَ تَرَى هَذَا كَائِنًا أَنَّ النَّاسَ يُبْعَثُونَ! قَالَ: نَعَمْ قَالُوا: فَمَا آيَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ مِنْ نَحْوِ هَذِهِ الْبِلادِ، وَأَشَارَ إِلَى مَكَّةَ وَالْيَمَنِ، قَالُوا: وَمَتَى نَرَاهُ؟ قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيَّ وَأَنَا حَدَثٌ فَقَالَ: إِنْ يَسْتَنْفِدْ هَذَا الْغُلَامُ عُمْرَهُ يُدْرِكْهُ، قَالَ سَلَمَةُ: فَوَاللَّهِ مَا ذَهَبَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ حَيٌّ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، فَآمَنَّا بِهِ وَكَفَرَ بِهِ بَغْيًا وَحَسَدًا، فَقُلْنَا لَهُ: وَيْحَكَ يَا فُلَانُ، أَلَسْتَ بِالَّذِي قُلْتَ لَنَا فِيهِ مَا قُلْتَ! قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ لَيْسَ بِهِ1.
حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَ لِي: هَلْ تَدْرِي عَمَّ كَانَ الْإِسْلَامُ لِثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْيَةَ، وَأَسِيدِ بْنِ سَعْيَةَ، وَأَسَدِ بْنِ عُبَيْدٍ، نَفَرٍ مِنْ إِخْوَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ، كَانُوا مَعَهُمْ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ، ثُمَّ كَانُوا سَادَتَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ؟ قلت: لا بد وَاللَّهِ، قَالَ: إِنَّ رَجُلًا مِنْ يَهُودِ الشَّامِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْهَيْبَانِ قَدِمَ عَلَيْنَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِسِنِينَ، فَحَلَّ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا رَجُلًا قَطُّ لَا يُصَلِّي الْخَمْسَ أَفْضَلَ مِنْهُ، فَأَقَامَ عِنْدَنَا فَكَانَ إِذَا قَحَطَ عَنَّا المطر يأمرنا بالصّدقة وَيَسْتَسْقِي لَنَا، فَوَاللَّهِ مَا يَبْرَحُ مِنْ مَجْلِسِهِ حَتَّى نُسْقَى، قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّتَيْنِ وَلَا ثَلَاثٍ، ثُمَّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، فَلَمَّا عَرَفَ أَنَّهُ مَيِّتٌ قَالَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ مَا تَرَوْنَهُ أَخْرَجَنِي مِنْ أَرْضِ الْخَمْرِ وَالْخَمِيرِ، إِلَى أَرْضِ الْبُؤْسِ؟ قُلْنَا: أَنْتَ أَعْلَمُ، قَالَ: إِنَّمَا قَدِمْتُ أَتَوَكَّفُ2 خُرُوجَ نَبِيٍّ قَدْ أَظَلَّ زَمَانُهُ، وَهَذِهِ الْبَلْدَةُ مُهَاجَرُهُ، فَكُنْتُ أَرْجُو أَنْ يُبْعَثَ فأبتعه، وقد أظلّكم زمانه، فلا تسبقنّ غليه يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ بِسَفْكِ الدِّمَاءِ وَسَبْيِ الذَّرَارِيِّ وَالنِّسَاءِ مِمَّنْ خَالَفَهُ، فَلَا يَمْنَعَنَّكُمْ ذلك منه.
فلمّا بعث مُحَمَّد رَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَحَاصَرَ خَيْبَرَ قَالَ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةُ، وَكَانُوا شُبَّانًا أَحْدَاثًا: يَا بَنِي قُرَيْظَةَ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَلنَّبِيُّ الَّذِي كَانَ عَهِدَ إِلَيْكُمْ فِيهِ ابْنُ الْهَيْبَانِ، قَالُوا: لَيْسَ بِهِ، فَنَزَلَ هَؤُلاءِ وَأَسْلَمُوا وَأَحْرَزُوا دماءهم وأموالهم وأهاليهم3.
__________
1 إسناده حسن: أخرجه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 217-218".
2 أتوكف: أنتظر.
3 أخرجه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 218-219" والظاهر من السياق أن هذا الشيخ من بني قريظة أدرك الجاهلية لقوله "قدم علينا قبل الإسلام بسنين" إلا أن يريد بقوله "علينا" قومه لا هو، وقد يفعل البعض، والله أعلم.

(1/69)


وَبِهِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَتْ خَدِيجَةُ قَدْ ذَكَرَتْ لِعَمِّهَا وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، وَكَانَ قَدْ قَرَأَ الْكُتُبَ وَتَنَصَّرَ، مَا حَدَّثَهَا "مَيْسَرَةُ" مِنْ قَوْلِ الرَّاهِبِ وَإِظْلَالِ الْمَلَكَيْنِ، فَقَالَ: لَئِنْ كَانَ هَذَا حَقًّا يَا خَدِيجَةُ إِنَّ مُحَمَّدًا لَنَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ عَرَفَ أَنَّ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ نَبِيًّا يُنْتَظَرُ زَمَانُهُ، قَالَ: وَجَعَلَ وَرَقَةُ يَسْتَبْطِئُ الْأَمْرَ وَيَقُولُ: حَتَّى مَتَى، وَقَالَ:
لَجِجْتُ وَكُنْتُ فِي الذِّكْرَى لَجُوجًا ... لِهَمٍّ طَالَمَا بَعَثَ النَّشِيجَا
وَوَصْفٍ مِنْ خَدِيجَةَ بَعْدَ وَصْفٍ ... فَقَدْ طَالَ انْتِظَارِيَ يَا خَدِيجَا
بِبَطْنِ الْمَكَّتَيْنِ عَلَى رَجَائِي ... حَدِيثُكِ أَنْ أَرَى مِنْهُ خُرُوجَا1
بِمَا خَبَّرْتِنَا مِنْ قَوْلِ قَسٍّ ... مِنَ الرُّهْبَانِ أَكْرَهُ أَنْ يَعُوجَا
بِأَنَّ مُحَمَّدًا سَيَسُودُ قَوْمًا ... وَيَخْصِمُ مَنْ يَكُونُ لَهُ حَجِيجَا
وَيُظْهِرُ فِي الْبِلَادِ ضِيَاءَ نُورٍ ... يُقِيمُ بِهِ الْبَرِيَّةَ أَنْ تَمُوجَا
فَيَلْقَى مَنْ يُحَارِبُهُ خَسَارًا ... وَيَلْقَى مَنْ يُسَالِمُهُ فُلُوجَا2
فَيَا لَيْتَنِي إِذَا مَا كَانَ ذَاكُمْ ... شَهِدْتُ فَكُنْتُ أَوَّلَهُمْ وُلُوجَا
فَإِنْ يَبْقَوْا وَأَبْقَ تَكُنْ أُمُورٌ ... يَضِجُّ الْكَافِرُونَ لَهَا ضَجِيجَا3
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُعَاذٍ الضَّبِّيُّ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: $"إِنَّ بِمَكَّةَ لَحَجَرًا كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ لَيَالِيَ بُعِثْتُ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ"4 رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كثير: حدثنا أَبُو سَلَمَةَ قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرًا أَيُّ الْقُرْآنِ أنزل
__________
1 المكتين: تثنية مكة.
2 الفلوج: الظهور.
3 معضل: ذكره ابن إسحاق بدون إسناد كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 196-197".
4 صحيح: عزاه المصنف لأبي داود ولم أجده فيه، فلعله أراد الترمذي فسبقه القلم، فقد أخرجه الترمذي "3644" في كتاب المناقب، باب: ما جاء في آيات إثبات نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- من طريق سليمان بن معاذ به، وأخرجه أيضًا مسلم "2277" في كتاب الفضائل باب: نسب النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحمد "5/ 89، 95، 105"، الدارمي "20"، والطبراني في "الأوسط" "2012"، وابن حبان في "صحيحه" "6482" والبغوي في "شرح السنة" "3709".

(1/70)


أوّل {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} 1 أَوِ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} 2 فَقَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: "إِنِّي جَاوَرْتُ بِحِرَاءَ شَهْرًا، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي نَزَلْتُ، فَاسْتَبْطَنْتُ الْوَادِي فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ أَمَامِي وَخَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي وَشِمَالِي، فَلَمْ أَرَ شَيْئًا ثُمَّ نَظَرْتُ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا هُوَ عَلَى عَرْشٍ فِي الْهَوَاءِ، يَعْنِي الْمَلَكَ، فَأَخَذَنِي رَجْفَةٌ فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ، فَأَمَرَتْهُمْ فَدَثَّرُونِي، ثم صبّوا عليّ الماء، فأنزل الله {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ} " 3.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ، قَالَ: "بَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءَ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَجُئِثْتُ 4 مِنْهُ رُعْبًا، فَرَجَعْتُ، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي فدثّروني، ونزلت: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} إلى قوله {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} 5 وَهِيَ الْأَوْثَانُ"6. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهُوَ نَصٌّ فِي أنّ {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} فَكَانَ الْوَحْيُ الْأَوَّلُ لِلنُّبُوَّةِ والثّاني للرسالة.
__________
1 سورة المدثر: 1.
2 سورة العلق: 2.
3 صحيح: أخرجه البخاري "4924" في كتاب التفسير، باب: قوله تعالى {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} ، وأحمد "3/ 392".
4 جئثت: فزعت.
5 سورة المدثر: 1-5.
6 صحيح: أخرجه البخاري "4" في كتاب بدء الوحي، باب: رقم "3"، ومسلم "161/ 255" في كتاب الإيمان، باب: بدء الوحي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

(1/71)


فَأَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ خَدِيجَةُ "رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:
قَالَ عِزُّ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الأثير: خديجة أوّل خلق الله أسلمت بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يَتَقَدَّمْهَا رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَابْنُ إِسْحَاقَ، وَالْوَاقِدِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ، وَغَيْرُهُمْ: أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ: خَدِيجَةُ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَلِيٌّ.
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَجَمَاعَةٌ: أَبُو بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ.
وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: بَلْ عَلِيٌّ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِيهِمَا قَوْلَانِ، لَكِنْ أَسْلَمَ عَلِيٌّ وَلَهُ عَشْرُ سِنِينَ أو نحوها على الصحيح، وقيل: وله ثمان سِنِينَ، وَقِيلَ: تِسْعٌ، وَقِيلَ: اثْنَتَا عَشْرَةَ، وَقِيلَ: خَمْسَ عَشْرَةَ، وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ، فَإِنَّ ابْنَهُ مُحَمَّدًا، وَأَبَا جَعْفَرٍ الْبَاقِرَ، وَأَبَا إِسْحَاقَ السَّبِيعِيَّ وَغَيْرَهُمْ قَالُوا: تُوُفِّيَ وَلَهُ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً.
فَهَذَا يَقْضِي بِأَنَّهُ أَسْلَمَ وَلَهُ عَشْرُ سِنِينَ، حَتَّى إِنَّ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ رَوَى عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُتِلَ عَلِيٌّ وَلَهُ ثَمَانٍ وَخَمْسُونَ سَنَةً.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ1: أَوَّلُ ذَكَرٍ آمَنَ بِاللَّهِ عِلَيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ، ثُمَّ أَسْلَمَ زَيْدٌ مَوْلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَتْ خَدِيجَةُ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ، وَقَبِلَ الرَّسُولُ رِسَالَةَ رَبِّهِ وَانْصَرَفَ إِلَى بَيْتِهِ، وَجَعَلَ لَا يَمُرُّ عَلَى شَجَرَةٍ وَلَا صَخْرَةٍ إِلَّا سَلَّمَتْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ قَالَ: أَرَأَيْتُكِ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكِ أَنِّي رَأَيْتُهُ فِي الْمَنَامِ، فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ اسْتَعْلَنَ لِي، أَرْسَلَهُ إِلَيَّ رَبِّي، وَأَخْبَرَهَا بِالْوَحْيِ، فَقَالَتْ: أَبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِكَ إِلَّا خَيْرًا، فَاقْبَلِ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ اللَّهِ فَإِنَّهُ حَقٌّ، ثُمَّ انْطَلَقْتُ إِلَى عَدَّاسٍ غُلَامِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا مِنْ أَهْلِ نِينَوَى فَقَالَتْ: أُذَكِّرُكَ اللَّهَ إِلَّا ما
__________
1 انظر "سيرة ابن هشام" "1/ 248".

(1/72)


أَخْبَرْتَنِي، هَلْ عِنْدَكَ عِلْمٌ مِنْ جِبْرِيلَ؟ فَقَالَ عَدَّاسٌ: قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ. قَالَتْ: أَخْبِرْنِي بِعِلْمِكَ فِيهِ، قَالَ: فَإِنَّهُ أَمِينُ اللَّهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّينَ، وَهُوَ صَاحِبُ مُوسَى، وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. فَرَجَعَتْ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى وَرَقَةَ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ1.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ بِنَحْوٍ مِنْهُ، وَزَادَ: فَفَتَحَ جِبْرِيلُ عَيْنًا مِنْ مَاءٍ فَتَوَضَّأَ، وَمُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَوَضَّأَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَمَسَحَ رَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ نَضَحَ فَرْجَهُ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ مُوَاجِهَ الْبَيْتِ، فَفَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما رأى جبريل يفعل2.
__________
1 مرسل: أخرجه موسى بن عقبة كما في "البداية" "12/ 17-18".
2 مرسل.

(1/73)


وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْعَلَاءِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيُّ، عَنْ بعض أهل العلم، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ أَرَادَ اللَّهُ كَرَامَتَهُ وَابْتَدَأَهُ بِالنُّبُوَّةِ، كَانَ لَا يَمُرُّ بِحَجَرٍ وَلَا شَجَرٍ إِلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ وَسَمِعَ مِنْهُ1، وَكَانَ يَخْرُجُ إِلَى حِرَاءَ فِي كُلِّ عَامٍ شَهْرًا مِنَ السَّنَةِ يَنْسُكُ فِيهِ.
وَقَالَ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "إني لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ" 2. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ أَبِي ثَوْرٍ وَغَيْرُهُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَكَّةَ، فَخَرَجَ فِي بَعْضِ نَوَاحِيهَا، فَمَا اسْتَقْبَلَهُ شَجَرٌ وَلَا جَبَلٌ إِلَّا قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ3. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ غَرِيبٌ.
وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ القاضي: حدثنا أَبُو الرَّبِيعِ، ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قال: جاء جبريل إلى النّبيّ
__________
1 إسناده ضغيف: انظر "سيرة ابن هشام" "1/ 238".
2 صحيح: وقد تقدم تخريجه.
3 ضعيف: أخرجه الترمذي "3646" في كتاب المناقب، باب: ما جاء في آيات إثبات نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- والدارمي "21" وقال الألباني في "ضعيف سنن الترمذي" "747": ضعيف.

(1/73)


-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ مَكَّةَ، قَدْ خَضَبَهُ أَهْلُ مَكَّةَ بِالدِّمَاءِ، قَالَ: مَا لَكَ؟ قَالَ: "خَضَبَنِي هَؤُلَاءِ بِالدِّمَاءِ وَفَعَلُوا وَفَعَلُوا"، قَالَ: تُرِيدُ أَنْ أُرِيَكَ آيَةً؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ: ادْعُ تِلْكَ الشَّجَرَةَ، فَدَعَاهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَجَاءَتْ تَخُطُّ الْأَرْضَ حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: مُرْهَا فَلْتَرْجِعْ إِلَى مَكَانِهَا، قَالَ: "ارْجِعِي إِلَى مَكَانِكِ" فَرَجَعَتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حَسْبِي" 1. هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ ابْنُ إسحاق: حدّثني وهب بن كيسان، سمعت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ قَتَادَةَ اللَّيْثِيِّ، حَدَّثْتُ أَبَا عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ كَيْفَ كَانَ بَدْءُ مَا ابْتَدَأَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ النُّبُوَّةِ حِينَ جَاءَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَيْرٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُجَاوِرُ فِي حِرَاءَ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ شَهْرًا، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا تَتَحَنَّثُ بِهِ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ2. وَالتَّحَنُّثُ التَّبَرُّرُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ3: فَكَانَ يُجَاوِرُ ذَلِكَ فِي كُلِّ سَنَةٍ، يُطْعِمُ مَنْ جَاءَهُ مِنَ الْمَسَاكِينِ، فَإِذَا قَضَى جِوَارَهُ مِنْ شَهْرِهِ، كَانَ أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ الْكَعْبَةَ، فَيَطُوفُ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى بَيْتِهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ الشَّهْرُ الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ كَرَامَتَهُ، وَذَلِكَ الشَّهْرُ رَمَضَانُ، خَرَجَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى حِرَاءَ وَمَعَهُ أَهْلُهُ، حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَكْرَمَهُ اللَّهُ فِيهَا بِرِسَالَتِهِ، جَاءَهُ جِبْرِيلُ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "جَاءَنِي وَأَنَا نَائِمٌ بِنَمَطٍ 4 مِنْ دِيبَاجٍ فِيهِ كِتَابٌ، فَقَالَ: اقْرَأْ، قلت: ما أَقْرَأُ؟ قَالَ: فَغَتَّنِي بِهِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ الموت، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: وَمَا أَقْرَأُ؟ فَغَتَّنِي حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ الْمَوْتُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: وَمَا أَقْرَأُ؟ مَا أَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا افْتِدَاءً مِنْهُ أَنْ يعود لي بمثل ما
__________
1 صحيح: أخرجه ابن ماجه "4028" في كتاب الفتن، باب: الصبر على البلاء، وابن أبي شيبة في "مصنفه" "7/ 430"، والدارمي "23"، وأبو نعيم في "الحلية" "9854" وقال الحافظ ابن كثير في "البداية" "3/ 611": إسناده على شرط مسلم. وقال البوصيري في "الزوائد": هذا إسناد صحيح. وقال الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه" "3254": صحيح.
2 رجاله موثقون: أخرجه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 238" وعبيد الله بن عمير مختلف في صحبته.
3 انظر المصدر السابق "1/ 239، 240" فقد أخرجه ابن إسحاق بالسند السابق.
4 النمط: نوع من البسط.

(1/74)


صنع بي، فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} 1، فَقَرَأْتُهَا ثُمَّ انْتَهَى عَنِّي، وَهَبَبْتُ مِنْ نَوْمِي، فَكَأَنَّمَا كَتَبْتُ فِي قَلْبِي كِتَابًا" 2.
فِي هَذَا الْمَكَانِ زِيَادَةٌ، زَادَهَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَهِيَ: وَلَمْ يَكُنْ فِي خَلْقِ اللَّهِ أَحَدٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ شَاعِرٍ أَوْ مجنون فكنت لا أطيق أن أنظر إليهما، فَقُلْتُ: إِنَّ الأَبْعَدَ، يَعْنِي نَفْسَهُ، لَشَاعِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، ثُمَّ قُلْتُ: لَا تُحَدِّثْ عَنِّي قُرَيْشٌ بِهَذَا أَبَدًا، لَأَعْمِدَنَّ إِلَى حَالِقٍ مِنَ الْجَبَلِ، فَلَأَطْرَحَنَّ نَفْسِي فَلَأَسْتَرِيحَنَّ، فَخَرَجْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي وَسَطٍ مِنَ الْجَبَلِ، سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا جِبْرِيلُ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا جِبْرِيلُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ صَافٍّ قَدَمَيْهِ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا جِبْرِيلُ، فَوَقَفْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَمَا أَتَقَدَّمُ وَلَا أَتَأَخَّرُ، وَجَعَلْتُ أَصْرِفُ وَجْهِي عَنْهُ فِي آفَاقِ السَّمَاءِ، فَلَا أَنْظُرُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا إِلَّا رَأَيْتُهُ كَذَلِكَ، فَمَا زِلْتُ وَاقِفًا حَتَّى بَعَثَتْ خَدِيجَةُ رُسُلَهَا فِي طَلَبِي، فَبَلَغُوا أَعْلَى مَكَّةَ وَرَجَعُوا إِلَيْهَا، وَأَنَا وَاقِفٌ فِي مَكَانِي ذَلِكَ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنِّي، فَانْصَرَفْتُ إِلَى أَهْلِي، حَتَّى أَتَيْتُ خَدِيجَةَ، فَجَلَسْتُ إِلَى فَخِذِهَا مُضِيفًا إِلَيْهَا فَقَالَتْ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ أَيْنَ كُنْتَ؟ فَوَاللَّهِ لَقَدْ بَعَثْتُ رُسُلِي فِي طَلَبِكَ حَتَّى بَلَغُوا أَعْلَى مَكَّةَ وَرَجَعُوا، ثُمَّ حَدَّثْتُهَا بِالَّذِي رأيت، فقالت: أبشر يابن عَمِّي وَاثْبُتْ فَوَالَّذِي نَفْسُ خَدِيجَةَ بِيَدِهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ نَبِيَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
ثُمَّ قَامَتْ فَجَمَعَتْ عَلَيْهَا ثِيَابَهَا، ثُمَّ انْطَلَقَتْ إِلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّهَا، وَكَانَ قَدْ تَنَصَّرَ وَقَرَأَ الْكُتُبَ، فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا رَأَى وَسَمِعَ، فَقَالَ وَرَقَةُ: قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ كُنْتِ صَدَقْتِ يَا خَدِيجَةُ، لَقَدْ جَاءَهُ النَّامُوسُ الْأَكْبَرُ الَّذِي يَأْتِي مُوسَى، وَإِنَّهُ لَنَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَقُولِي لَهُ فَلْيَثْبُتْ، فَرَجَعَتْ خَدِيجَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرَتْهُ بِقَوْلِ وَرَقَةَ، فَلَمَّا قَضَى جِوَارَهُ طَافَ بِالْكَعْبَةِ، فَلَقِيَهُ وَرَقَةُ وَهُوَ يَطُوفُ فَقَالَ: أَخْبِرْنِي بِمَا رَأَيْتَ وَسَمِعْتَ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّكَ لَنَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَقَدْ جَاءَكَ النَّامُوسُ الْأَكْبَرُ الَّذِي جَاءَ مُوسَى وَلَتُكَذَّبَنَّهُ
__________
1 سورة العلق: 1-5.
2 أخرجه ابن إسحاق السابق، كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 239، 240" ورجاله موثقون إلا أن عبيد الله بن عمير مختلف في صحبته.

(1/75)


وَلَتُؤْذَنَّهُ وَلَتُخْرَجَنَّهُ وَلَتُقَاتَلَنَّهُ، وَلَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَأَنْصُرَنَّ اللَّهَ نَصْرًا يَعْلَمُهُ، ثُمَّ أَدْنَى رَأْسَهُ مِنْهُ فَقَبَّلَ يَافُوخَهُ1.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي مَغَازِيهِ: كَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا بَلَغَنَا أَوَّلَ مَا رَأَى أَنَّ اللَّهَ أَرَاهُ رُؤْيَا فِي الْمَنَامِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَذَكَرَهَا لِخَدِيجَةَ، فَعَصَمَهَا اللَّهُ وَشَرَحَ صَدْرَهَا بِالتَّصْدِيقِ، فَقَالَتْ: أَبْشِرْ، ثُمَّ أَخْبَرَهَا أَنَّهُ رَأَى بَطْنَهُ شُقَّ ثُمَّ طُهِّرَ وَغُسِّلَ ثُمَّ أُعِيدَ كَمَا كَانَ، قَالَتْ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ فَأَبْشِرْ، ثُمَّ اسْتَعْلَنَ لَهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ، فأجلسه في مجلس كَرِيمٍ مُعْجِبٍ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- يقول: أجلسني على بساط طهيئة الدُّرْنَوَكِ2 فِيهِ الْيَاقُوتُ وَاللُّؤْلُؤُ، فَبَشَّرَهُ بِرِسَالَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى اطْمَأَنَّ3.
الَّذِي فِيهَا مِنْ شَقِّ بَطْنِهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَخْبَرَهَا بِمَا تَمَّ لَهُ فِي صِغَرِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ شُقَّ مَرَّةً أُخْرَى، ثُمَّ شُقَّ مَرَّةً ثَالِثَةً حِينَ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ.
وَقَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، فَأَنْشَدَ وَرَقَةُ:
إِنْ يَكُ حَقًّا يَا خَدِيجَةُ فَاعْلَمِي ... حَدِيثُكِ إِيَّانَا فَأَحْمَدُ مُرْسَلُ
وَجِبْرِيلُ يَأْتِيهِ وَمِيكَالُ مَعَهُمَا ... مِنَ اللَّهِ وَحْيٌ يَشْرَحُ الصَّدْرَ مُنْزَلُ
يَفُوزُ بِهِ من فار فِيهَا بِتَوْبَةٍ ... وَيَشْقَى بِهِ الْعَانِي الْغَوِيُّ الْمُضَلَّلُ
فَسُبْحَانَ مَنْ تَهْوِي الرِّيَاحُ بِأَمْرِهِ ... وَمَنْ هُوَ فِي الْأَيَّامِ مَا شَاءَ يَفْعَلُ
وَمَنْ عَرْشُهُ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ كُلِّهَا ... وَأَقْضَاؤُهُ فِي خَلْقِهِ لَا تبدّل
طمأنة السيدة خديجة للنبي -صلى الله عليه وسلم- بشأن الوحي:
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي حكيمٍ أَنَّ خَدِيجَةَ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيِ ابْنَ عَمٍّ، إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تُخْبِرَنِي بِصَاحِبِكَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيكَ إِذَا جَاءَكَ، قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ، فَلَمَّا جَاءَهُ قَالَ: "يَا خَدِيجَةُ هَذَا جِبْرِيلُ" هَلْ تَرَاهُ؟ قالت: يابن عَمٍّ قُمْ فَاجْلِسْ عَلَى فَخِذِي الْيُسْرَى، فَقَامَ فجلس عليها، قالت: هل
__________
1 انظر المصدر السابق.
2 الدرنوك: كل ما له خمل قصير.
3 مرسل: أجرجه موسى بن عقبة بن الزهري عن سعيد بن المسيب مرسلًا، كما في "البداية" "2/ 17".

(1/76)


تَرَاهُ: قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَتْ: فَتَحَوَّلْ فَاقْعُدْ عَلَى فَخِذِي الْيُمْنَى، فَتَحَوَّلَ فَقَعَدَ عَلَى فَخِذِهَا، قَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَتْ: فَاجْلِسْ فِي حِجْرِي، فَفَعَلَ، قَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ: قَالَ: "نَعَمْ"، فَتَحَسَّرَتْ فَأَلْقَتْ خِمَارَهَا، ثُمَّ قَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ؟ قَالَ: "لَا" قَالَتِ: اثْبُتْ وَأَبْشِرْ فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَلَكٌ وَمَا هَذَا بِشَيْطَانٍ1.
قَالَ: وَحَدَّثْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَسَنٍ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ: قَدْ سَمِعْتُ أُمِّيَ فَاطِمَةَ بِنْتَ حُسَيْنٍ تُحَدِّثُ هَذَا الْحَدِيثَ، عَنْ خَدِيجَةَ، إِلِّا أَنِّي سَمِعْتُهَا تَقُولُ: أَدْخَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَهَا وَبَيْنَ دِرْعِهَا فَذَهَبَ عِنْدَ ذَلِكَ جِبْرِيلُ، فَقَالَتْ: إِنَّ هَذَا لَمَلَكٌ وَمَا هُوَ بِشَيْطَانٍ2.
وقال أبو صالح: أخبرنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، أخبرني مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَخْزُومِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ بَعْضَ عُلَمَائِهِمْ يَقُولُ: كَانَ أَوَّلُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ إلى قوله {مَا لَمْ يَعْلَمْ} 3 فَقَالُوا: هَذَا صَدْرُهَا الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ حِرَاءَ، ثُمَّ أُنْزِلَ آخِرُهَا بَعْدُ بِمَا شَاءَ اللَّهُ4.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ابْتُدِئَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالتَّنْزِيلِ فِي رَمَضَانَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} 5، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} 6 وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} 7.
صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- مع خديجة وإسلام علي وزيد بن حارثة:
قال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قَالَ: هَمَزَ جِبْرِيلُ بِعَقِبِهِ فِي نَاحِيَةِ الْوَادِي، فَانْفَجَرَتْ عَيْنٌ، فَتَوَضَّأَ جِبْرِيلُ وَمُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَرَجَعَ، وَقَدْ أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ، وَطَابَتْ نَفْسُهُ، فَأَخَذَ بِيَدِ خديجة، حتى أتى بها العين
__________
1 مرسل: أخرجه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 242"، فقال: حدثني إسماعيل بن أبي حكيم مولى آل الزبير: أنه حدث عن خديجة -رضي الله عنها.
2 أخرجه ابن إسحاق كما في المصدر السابق "1/ 242-243".
3 سورة العلق: 1-5.
4 إسناده ضعيف: أبو صالح هو كاتب الليث ضعيف كما في "التقريب" "3388".
5 سورة البقرة: 185.
6 سورة القدر: 1.
7 سورة الدخان: 3.

(1/77)


فَتَوَضَّأَ كَمَا تَوَضَّأَ جِبْرِيلُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ هو وخديجة، ثُمَّ كَانَ هُوَ وَخَدِيجَةُ يُصَلِّيَانِ سِرًّا، ثُمَّ إِنَّ عَلِيًّا جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ فَوَجَدَهُمَا يُصَلِّيَانِ فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا هَذَا يَا مُحَمَّدُ.
فَقَالَ: دِينٌ اصْطَفَاهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ وَبَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ فَأَدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ، وَكُفْرٍ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى.
فَقَالَ عَلِيٌّ: هَذَا أَمْرٌ لَمْ أَسْمَعْ بِهِ قَبْلَ الْيَوْمِ، فَلَسْتُ بِقَاضٍ أَمْرًا حَتَّى أُحَدِّثَ بِهِ أَبَا طَالِبٍ، وَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُفْشِي عَلَيْهِ سِرَّهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَعْلِنَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَلِيُّ إِنْ لَمْ تُسْلِمْ فَاكْتُمْ، فَمَكَثَ عَلِيٌّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أَوْقَعَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ الْإِسْلَامَ، فَأَصْبَحَ فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبَقِيَ يَأْتِيهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ أَبِي طَالِبٍ، وَكَتَمَ إِسْلامَهُ.
وَأَسْلَمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَمَكَثَا قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ يَخْتَلِفُ عَلِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَ مِمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبْلَ الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَصَابَتْ قُرَيْشًا أَزْمَةٌ شَدِيدَةٌ، وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ ذَا عِيَالٍ كَثِيرَةٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلْعَبَّاسِ عَمِّهِ، وَكَانَ مُوسِرًا، إِنَّ أَخَاكَ أَبَا طَالِبٍ كَثِيرُ الْعِيَالِ، وَقَدْ أَصَابَ النَّاسَ، مَا تَرَى، فَانْطَلِقْ لِنُخَفِّفَ عَنْهُ مِنْ عِيَالِهِ، فَأَخَذَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلِيًّا، وَضَمَّهُ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى بَعَثَهُ اللَّهُ نَبِيًّا فَاتَّبَعَهُ عَلِيٌّ وَآمَنَ بِهِ1.
وَقَالَ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ خَدِيجَةُ، وَأَوَّلُ رَجُلَيْنِ أَسْلَمَا أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، وَإِنَّ عَلِيًّا كَانَ يَكْتُمُ الْإِسْلَامَ فَرَقًا مِنْ أَبِيهِ، حَتَّى لَقِيَهُ أَبُوهُ فَقَالَ: أَسْلَمْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: آزِرِ ابْنَ عَمِّكَ وَانْصُرْهُ2.
وَقَالَ: أَسْلَمَ عَلِيٌّ قبل أبي بكر.
__________
1 مرسل: أخرجه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 149".
2 مرسل.

(1/78)


وقال يونس: عن ابن إسحاق: حدثني مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُصَيْنِ التَّمِيمِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الْإِسْلَامِ إِلَّا كَانَتْ عِنْدَهُ كَبْوَةٌ وَتَرَدَّدَ وَنَظَرَ، إِلَّا أَبَا بَكْرٍ، مَا عَتَمَ عَنْهُ حِينَ ذَكَرْتُهُ وَمَا تَرَدَّدَ فِيهِ"1.
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي "مَيْسَرَةَ" أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا بَرَزَ، سَمِعَ مَنْ يُنَادِيهِ، يَا مُحَمَّدُ، فَإِذَا سَمِعَ الصَّوْتَ انْطَلَقَ هَارِبًا، فَأَسَرَّ ذَلِكَ إِلَى أَبِي بكر، وكان نديمًا له في الجاهلية2.
__________
1 مرسل: أخرجه ابن إسحاق كما في "البداية" "2/ 34" ولم أجد ترجمة لمحمد بن عبد الرحمن، والإسناد مرسل، فإن ابن إسحاق لم يدرك أحدًا من الصحابة.
2 مرسل إسناده ضعيف: ابن إسحاق مدلس، وقد عنعنه.

(1/79)


إِسْلامُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ:
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ1: ذَكَرَ بعض أهل العلم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ، خَرَجَ إِلَى شِعَابِ مَكَّةَ وَمَعَهُ عَلِيٌّ فَيُصَلِّيَانِ فَإِذَا أَمْسَيَا رَجَعَا، ثُمَّ إِنَّ أَبَا طَالِبٍ عَبَرَ عَلَيْهِمَا وَهُمَا يُصَلِّيَانِ، فَقَالَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى الله عليه وسلم: يابن أَخِي مَا هَذَا؟ قَالَ: "أَيْ عَمِّ هَذَا دِينُ اللَّهِ وَدِينُ مَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَدِينُ إِبْرَاهِيمَ، بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ رَسُولًا إِلَى الْعِبَادِ وَأَنْتَ أَيْ عَمِّ أَحَقُّ مَنْ بَذَلْتُ لَهُ النَّصِيحَةَ وَدَعَوْتُهُ إِلَى الْهُدَى وَأَحَقُّ مَنْ أَجَابَنِي وَأَعَانَنِي"، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: أَيِ ابْنَ أَخِي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُفَارِقَ دِينَ آبَائِي، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لا يخلص إليك شيء تكره مَا بَقِيتُ، وَلَمْ يُكَلِّمْ عَلِيًّا بِشَيْءٍ يَكْرَهُ، فَزَعَمُوا أَنَّهُ قَالَ: أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَدْعُكَ إِلَّا إِلَى خَيْرٍ فَاتَّبِعْهُ2.
ثُمَّ أَسْلَمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكَانَ أَوَّلَ ذَكَرٍ أَسْلَمَ، وَصَلَّى بَعْدَ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَكَانَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ قَدِمَ مِنَ الشَّامِ بِرَقِيقٍ، فَدَخَلَتْ عمّته خديجة بنت خويلد فقال: أَيَّ هَؤُلَاءِ الْغِلْمَانِ شِئْتِ فَهُوَ لَكِ، فَاخْتَارَتْ زَيْدًا، فَأَخَذَتْهُ، فَرَآهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاسْتَوْهَبَهُ، فَوَهَبَتْهُ لَهُ، فَأَعْتَقَهُ وَتَبَنَّاهُ قَبْلَ الوحي، ثم قدم أبوه
__________
1 انظر "سيرة ابن هشام" "1/ 249، 250".
2 معضل: انظر المصدر السابق.

(1/79)


حَارِثَةُ لِمَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِ وَجَزَعِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنْ شِئْتَ فَأَقِمْ عِنْدِي، وَإِنْ شِئْتَ فَانْطَلِقْ مَعَ أَبِيكَ". قَالَ: بَلْ أُقِيمُ عِنْدَكَ، وَكَانَ يُدْعَى زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، فلمّا نزل {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} 1 قَالَ: أَنَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ2.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ3: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مَأْلَفًا لِقَوْمِهِ مُحَبَّبًا سَهْلًا، وَكَانَ أَنْسَبَ قُرَيْشٍ لِقُرَيْشٍ، وَكَانَ تَاجِرًا ذَا خُلُقٍ وَمَعْرُوفٍ، فَجَعَلَ لَمَّا أَسْلَمَ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الْإِسْلَامِ مَنْ وَثِقَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ، مِمَّنْ يَغْشَاهُ، وَيَجْلِسُ إِلَيْهِ، فَأَسْلَمَ بِدُعَائِهِ: عُثْمَانُ، وَالزُّبَيْرُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَجَاءَ بِهِمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ أَسْلَمُوا وَصَلُّوا، فَكَانَ هَؤُلَاءِ النَّفَرُ الثَّمَانِيَةُ أَوَّلَ مَنْ سَبَقَ بِالإِسْلامِ وَصَلُّوا وَصَدَّقُوا.
ثُمَّ أَسْلَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَرَّاحِ الْفِهْرِيُّ، وَأَبُو سَلَمَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخْزُومِيُّ، وَالأَرْقَمُ بْنُ أَبِي الأَرْقَمِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخْزُومِيُّ. وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ الْجُمَحِيُّ، وَأَخَوَاهُ قُدَامَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ المطّلب بن عبد مناف المطّلبيّ، وسعيد ابن زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ الْعَدَوِيُّ، وَامْرَأَتُهُ فَاطِمَةُ أُخْتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَأَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، وَخَبَّابُ بْنُ الأَرَتِّ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ، وَعُمَيْرُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَخُو سَعْدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَسُلَيْطُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ الْعَامِرِيُّ، وَأَخُوهُ حَاطِبٌ، وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ، وَامْرَأَتُهُ أَسْمَاءُ، وَخُنَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ حَلِيفُ آلِ الْخَطَّابِ، وَعَبْدُ اللَّهِ وَأَبُو أَحْمَدَ ابْنَا جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ الْأَسَدِيِّ، وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَامْرَأَتُهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، وَحَاطِبُ بْنُ الْحَارِثِ الْجُمَحِيُّ، وَامْرَأَتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُجَلَّلِ، وَأَخُوهُ خَطَّابٌ، وَامْرَأَتُهُ فُكَيْهَةُ بِنْتُ يَسَارٍ، وَمَعْمَرُ بْنُ الْحَارِثِ أَخُوهُمَا، وَالسَّائِبُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَالْمُطَّلِبُ بْنُ أَزْهَرَ بْنِ عَبْدِ عَوْفٍ الْعَدَوِيُّ الزُّهْرِيُّ، وَامْرَأَتُهُ رَمْلَةُ بِنْتُ أَبِي عَوْفٍ، وَالنَّحَّامُ وَهُوَ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ أَسَدٍ الْعَدَوِيُّ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَامْرَأَتُهُ أُمَيْنَةُ بِنْتُ خَلَفٍ، وَحَاطِبُ بن عمرو، وأبو حذيفة مهشم
__________
1 سورة الأحزاب: 5.
2 ذكره ابن هشام في "سيرته" "1/ 250-251".
3 انظر "سيرة ابن هشام" "1/ 252".

(1/80)


بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَلِيفُ بَنِي عَدِيٍّ، وَخَالِدُ، وَعَامِرُ، وَعَاقِلُ وَإِيَاسُ بَنُو الْبُكَيْرِ حُلَفَاءُ بَنِي عَدِيٍّ، وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ حَلِيفُ بَنِي مَخْزُومٍ، وَصُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ النَّمَرِيُّ حَلِيفُ بَنِي تَيْمٍ1.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ الْوَالِبِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ قَالَ: قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: حَضَرْتُ سُوقَ بُصْرَى، فَإِذَا رَاهِبٌ فِي صَوْمَعَتِهِ يَقُولُ: سَلُوا أَهْلَ الْمَوْسِمِ، أَفِيهِمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ؟ قَالَ طَلْحَةُ: قُلْتُ: نَعَمْ أَنَا، فَقَالَ: هَلْ ظَهَرَ أَحْمَدُ بَعْدُ؟ قُلْتُ: وَمَنْ أَحْمَدُ؟ قَالَ: ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، هَذَا شَهْرُهُ الَّذِي يَخْرُجُ فِيهِ، وَهُوَ آخِرُ الأَنْبِيَاءِ، مَخْرَجُهُ مِنَ الْحَرَمِ وَمُهَاجَرُهُ إِلَى نَخْلٍ وَحَرَّةٍ وَسِبَاخٍ، فَإِيَّاكَ أَنْ تُسْبَقَ إِلَيْهِ قَالَ طَلْحَةُ: فَوَقَعَ فِي قَلْبِي، فَأَسْرَعْتُ إِلَى مَكَّةَ، فَقُلْتُ: هَلْ مِنْ حَدَثٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَمِينُ تَنَبَّأَ، وَقَدْ تَبِعَهُ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ: اتَّبَعْتَ هَذَا الرَّجُلَ؟ قَالَ: نَعَمْ فَانْطَلِقْ فَاتَّبِعْهُ، فَأَخْبَرَهُ طَلْحَةُ بِمَا قَالَ الرَّاهِبُ، فَخَرَجَ بِهِ حَتَّى دَخَلَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَسْلَمَ طَلْحَةُ، وأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بِذَلِكَ، فَلَمَّا أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ وَطَلْحَةُ أَخَذَهُمَا نَوْفَلُ بْنُ خُوَيْلِدِ بْنِ الْعَدَوِيَّةِ فَشَدَّهُمَا فِي حَبْلٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمَا بَنُو تَيْمٍ، وَكَانَ نَوْفَلُ يُدْعَى أَسَدَ قُرَيْشٍ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ وَطَلْحَةُ: الْقَرِينَيْنِ2.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُجَالِدٍ، عَنْ بَيَانِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ وَبَرَةَ، عَنْ هَمَّامٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ يَقُولُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وما معه إلا خمسة أبعد وَامْرَأَتَانِ وَأَبُو بَكْرٍ3. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
قُلْتُ: وَلَمْ يَذْكُرْ عَلِيًّا لِأَنَّهُ كَانَ صَغِيرًا ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ.
وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ سَالِمٍ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ بِمَكَّةَ مُسْتَخْفِيًا، فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: "نَبِيٌّ" قُلْتُ: وَمَا النَّبِيُّ؟ قَالَ: "رَسُولُ اللَّهِ" قُلْتُ: اللَّهُ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: "نعم"،
__________
1 انظر "المصدر السابق" "1/ 253، 254".
2 إسناده ضعيف جدًّا: محمد بن عمر الواقدي متروك كما تقدم.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3660" في كتاب فضائل الصحابة، باب: قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خليلًا".

(1/81)


قُلْتُ بِمَ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: "بِأَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَتُكَسَّرَ الْأَوْثَانُ وَتُوصَلَ الأَرْحَامُ"، قُلْتُ: نِعْمَ مَا أُرْسِلْتَ بِهِ، فَمَنْ تَبِعَكَ؟ قَالَ: "حُرٌّ وَعَبْدٌ"، يعني أَبَا بَكْرٍ وَبِلالا، فَكَانَ عَمْرٌو يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَأَنَا رَابِعُ أَرْبَعَةٍ، فَأَسْلَمْتُ وَقُلْتُ: أَتَّبِعُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَا وَلَكِنِ الحقْ بِقَوْمِكَ، فَإِذَا أُخْبِرْتَ بِأَنِّي قَدْ خَرَجْتُ فَاتَّبِعْنِي" 1 أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ هَاشِمُ بْنُ هَاشِمٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ: لَقَدْ مَكَثْتُ سَبَعَةَ أَيَّامٍ، وَإِنِّي لَثُلُثُ الْإِسْلَامِ2. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ زَائِدَةُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلامَهُ سَبْعَةٌ: النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَمَّارٌ وَأُمُّهُ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلالٌ وَالْمِقْدَادُ3. تَفَرَّدَ بِهِ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْن أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنَّ عُمَرَ لَمُوثِقِي وَأُخْتَهُ عَلَى الإِسْلامِ، قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عُمَرُ، وَلَوْ أَنَّ أَحَدًا ارْفَضَّ لِلَّذِي صَنَعْتُمْ بِعُثْمَانَ لَكَانَ4. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ الطَّيَالِسِيُّ فِي "مُسْنَدِهِ": ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنْتُ يَافِعًا5 أَرْعَى غَنَمًا لعقبة بن أبي معيط بمكة
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "832" في كتاب صلاة المسافرين، باب: إسلام عمرو بن عبسة، وأحمد "4/ 111، 112"، وأخرجه النسائي "1/ 283-284"، في كتاب المواقيت باب: إباحة الصلاة إلى أن يصلى الصبح، وابن ماجه "1364" في كتاب إقامة الصلاة، باب: ما جاء في أي ساعات الليل أفضل، وأحمد "4/ 113، 114"، وأبو نعيم في "الحلية" "1377" من طريق آخر عن عمرو بن عبسة -رضي الله عنه.
2 صحيح: أخرجه البخاري "3727" في كتاب فضائل الصحابة، باب: مناقب سعد بن أبي وقاص وأبو نعيم في "الحلية" "290".
3 حسن: أخرجه ابن ماجه "150" في المقدمة، باب: في فضائل أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأحمد "1/ 404"، وأبو نعيم في "الحلية" "487" وقال البوصيري في "الزوائد": إسناده ثقات. وقال المصنف في "تاريخ الإسلام" "1/ 97". حديث صحيح. وقال الإلباني في "صحيح سنن ابن ماجه" "122": حسن.
4 صحيح: أخرجه البخاري "38602" في كتاب مناقب الأنصار، باب: إسلام سعيد بن زيد -رضي الله عنه.
5 يافعًا: قويًّا.

(1/82)


فَأَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ، وَقَدْ فَرَّا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَا: يَا غُلَامُ هَلْ عِنْدَكَ لَبَنٌ تَسْقِينَا؟ قُلْتُ: إِنِّي مُؤْتَمَنٌ وَلَسْتُ بِسَاقِيكُمَا، فَقَالَا: هَلْ عِنْدَكَ مِنْ جَذْعَةٍ لَمْ يَنْزُ عَلَيْهَا الْفَحْلُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَأَتَيْتُهُمَا بِهَا، فَاعْتَقَلَهَا أَبُو بَكْرٍ، وَأَخَذَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الضَّرْعَ فَدَعَا، فَحَفَلَ الضَّرْعُ، وَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ بِصَخْرَةٍ مُنْقَعِرَةٍ، فَحَلَبَ فِيهَا، ثُمَّ شَرِبَا وَسَقَيَانِي، ثُمَّ قَالَ لِلضَّرْعِ: "اقْلُصْ"، فَقَلَصَ فَلَمَّا كَانَ بَعْدُ، أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: عَلِّمْنِي مِنْ هَذَا الْقَوْلِ الطَّيِّبِ، يَعْنِي الْقُرْآنَ فَقَالَ: "إِنَّكَ غُلَامٌ معلَّم"، فَأَخَذْتُ مِنْ فِيهِ سَبْعِينَ سُورَةً مَا يُنَازِعُنِي فِيهَا أَحَدٌ1.
__________
1 إسناده حسن: أخرجه أحمد "1/ 379، 462"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 171"، والطبراني في "الكبير" "8456" وإسناده حسن من أجل عاصم هو ابن بهدلة.

(1/83)


فَصْلٌ فِي دَعْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشِيرَتَهُ إِلَى اللَّهِ وَمَا لَقِيَ مِنْ قومه
...
فصل في دعوته النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَشِيرَتَهُ إِلَى اللَّهِ وَمَا لَقِيَ مِنْ قَوْمِهِ:
قَالَ جَرِيرٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ مُوسَى بن طلحة، عن أبي هريرة: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} 1 دَعَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُرَيْشًا، فَاجْتَمَعُوا فَعَمَّ وَخَصَّ فَقَالَ:
"يَا بَنِي كَعْبِ بْنَ لُؤَيٍّ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي هَاشِمٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا فَاطِمَةُ أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبِلالِهَا" 2. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ قُتَيْبَةَ وَزُهَيْرٌ عَنْ جَرِيرٍ، وَاتَّفَقَا عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ، وَزُهَيْرِ بْنِ عَمْرٍو قَالَا: لَمَّا نَزَلَتْ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى رَضْمَةٍ3 مِنْ جَبَلٍ، فَعَلَاهَا ثُمَّ نَادَى: "يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، إِنِّي نَذِيرٌ، إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَرَجُلٍ رَأَى الْعَدُوَّ فَانْطَلَقَ يَرْبَأُ أَهْلَهُ، فَخَشِيَ أَنْ يَسْبِقُوهُ فَهَتَفَ: يَا صَبَاحَاهُ" 4 أخرجه مسلم.
__________
1 سورة الشعراء: 214.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4771" في كتاب التفسير، باب: قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} ، ومسلم "204" في كتاب الإيمان، باب: في قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} ، والترمذي "3196" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة الشعراء، والنسائي "6/ 248، 249" في كتاب الوصايا، باب: إذا أوصى لعشيرته الأقربين، وأحمد "2/ 360، 519"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 177، 178"، وابن حبان في "صحيحه" "646".
3 الرضمة: دون الهضبة.
4 صحيح: أخرجه مسلم "207" في المصدر السابق، والطبراني في "الكبير" "18/ 374"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 178".

(1/84)


وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ بن نوفل، واستكتمني اسمه، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَمَّا نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَرَفْتُ أَنِّي إِنْ بَادَأْتُ قَوْمِي رَأَيْتُ مِنْهُمْ مَا أَكْرَهُ، فَصَمَتُّ عَلَيْهَا، فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ مَا أَمَرَكَ بِهِ رَبُّكَ عَذَّبَكَ"، قَالَ عَلِيٌّ: فَدَعَانِي فَقَالَ: "يَا عَلِيُّ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُنْذِرَ عَشِيرَتِي الأَقْرَبِينَ، فَعَرَفْتُ أَنِّي إِنْ بَادَأْتُهُمْ بِذَلِكَ رَأَيْتُ مِنْهُمْ مَا أَكْرَهُ، فَصَمَتُّ، ثُمَّ جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنْ لَمْ تَفْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ عَذَّبَكَ رَبُّكَ، فَاصْنَعْ لَنَا يَا عَلِيُّ رِجْلَ شَاةٍ عَلَى صَاعٍ مِنْ طَعَامٍ وَأَعِدَّ لَنَا عُسَّ1 لَبَنٍ، ثُمَّ اجْمَعْ لِي بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ"، فَفَعَلْتُ، فَاجْتَمَعُوا لَهُ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعُونَ رَجُلا يَزِيدُونَ رَجُلا أَوْ يَنْقُصُونَ، فِيهِمْ أَعْمَامُهُ أَبُو طَالِبٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْعَبَّاسُ، وَأَبُو لَهَبٍ، فَقَدَّمْتُ إِلَيْهِمْ تِلْكَ الْجَفْنَةَ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْهَا حذية2، فشقّها بأسنانه، ثم رمى بها ي نَوَاحِيهَا وَقَالَ: "كُلُوا بِاسْمِ اللَّهِ" فَأَكَلَ الْقَوْمُ حَتَّى نَهِلُوا عَنْهُ مَا نَرَى إِلَّا آثَارَ أَصَابِعِهِمْ، وَاللَّهِ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ لَيَأْكُلُ مثلها، ثم قال رسول اله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسْقِهِمْ يَا عَلِيُّ"، فَجِئْتُ بِذَلِكَ الْقَعْبِ3، فَشَرِبُوا مِنْهُ حَتَّى نَهِلُوا جَمِيعًا، وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ لَيَشْرَبُ مِثْلَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَتَكَلَّمَ بَدَرَهُ أَبُو لَهَبٍ فَقَالَ: لَهَدَّمَا4 سَحَرَكُمْ صَاحِبُكُمْ، فَتَفَرَّقُوا وَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ، فقال لي النبي -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْغَدِ: "عُدْ لَنَا يَا عَلِيُّ بِمِثْلِ مَا صَنَعْتَ بِالْأَمْسِ"، فَفَعَلْتُ وَجَمَعْتُهُمْ، فَصَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا صَنَعَ بِالْأَمْسِ، فَأَكَلُوا حَتَّى نَهِلُوا، وَشَرِبُوا مِنْ ذَلِكَ الْقَعْبِ حَتَّى نَهِلُوا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِنِّي والله قد ما أعلم شابًّا من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم إِنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِأَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ"5.
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْعُطَارِدِيُّ: بَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ إِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ عَبْدِ الْغَفَّارِ بْنِ الْقَاسِمِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عمرو، عن عبد الله بن الحارث.
__________
1 العس: القدح الضخم.
2 الحذية: ما قطع من اللحم طولًا.
3 القعب: القدح الضخم.
4 لهد: كلمة تعجب.
5 إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 179" وفي إسناده جهالة.

(1/85)


وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَكَانَ بَيْنَ مَا أَخْفَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمْرَهُ إِلَى أَنْ أُمِرَ بِإِظْهَارِهِ ثَلَاثُ سِنِينَ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} 1 خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا فَهَتَفَ؛ "يَا صَبَاحَاهُ"، قَالُوا: مَنْ هَذَا الَّذِي يَهْتِفُ؟ قَالُوا: مُحَمَّدٌ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ: "أَرَأَيْتُكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا تَخْرُجُ بِسَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ " قَالُوا: مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا، قَالَ: "فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ"، فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا، ثُمَّ قَامَ، فَنَزَلَتْ: "تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَقَدْ تَبَّ"2 كَذَا قَرَأَ الْأَعْمَشُ3. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ إِلَّا "وَقَدْ تَبَّ" فَعِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِ الْأَعْمَشِ، وَهِيَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ".
وَقَالَ ابْنُ عُيَيَنْةَ: ثنا الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنِ ابْنِ تَدْرُسَ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} أَقْبَلَتِ الْعَوْرَاءُ أُمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ حَرْبٍ، وَلَهَا وَلْوَلَةٌ، وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ4 وَهِيَ تَقُولُ:
مُذَمَّمًا أَبَيْنَا
وَدِينَهُ قَلَيْنَا
وَأَمْرَهُ عَصَيْنَا
وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَبُو بكر: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ أَقْبَلَتْ وَأَخَافُ أَنْ تَرَاكَ، قَالَ: "إِنَّهَا لَنْ تَرَانِي"، وَقَرَأَ قُرْآنًا فَاعْتَصَمَ بِهِ وَقَرَأَ {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} 5 فَوَقَفَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَلَمْ تَرَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: إِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّ صَاحِبَكَ هَجَانِي، فَقَالَ: لَا وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ مَا هَجَاكِ، فَوَلَّتْ وَهِيَ تَقُولُ: قَدْ علمت قريش أنّي ابنة سيّدها6.
__________
1 سورة الشعراء: 214.
2 سورة المسد: 1.
3 صحيح: أخرجه البخاري "4971" في كتاب التفسير، باب: سورة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} ، ومسلم "208/ 355" في كتاب الإيمان، باب: في قوله تعالى {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَْ} .
4 الفهر: الحجر.
5 سورة الإسراء: 45.
6 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 195، 196".

(1/86)


رَوَى نَحْوَهُ عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ.
وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "انْظُرُوا قُرَيْشًا كَيْفَ يَصْرِفُ اللَّهُ عَنِّي شَتْمَهُمْ وَلَعْنَهُمْ، يَشْتِمُونَ مُذَمَّمًا وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّمًا، وَأَنَا مُحَمَّدٌ" 1. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَفَشَا الْإِسْلَامُ بِمَكَّةَ ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ فَقَالَ {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} 2 وقال {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} 3 قَالَ: وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا صَلَّوْا ذَهَبُوا فِي الشِّعَابِ وَاسْتَخْفَوْا بِصَلاتِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، فَبَيْنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي نَفَرٍ بِشِعْبٍ، إِذْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ نَفَرٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ يُصَلُّونَ فَنَاكَرُوهُمْ وَعَابُوا عَلَيْهِمْ وَقَاتَلُوهُمْ فَضَرَبَ سَعْدٌ رَجُلا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِلَحْيِ4 بَعِيرٍ فَشَجَّهُ، فَكَانَ أَوَّلَ دَمٍ فِي الْإِسْلامِ، فَلَمَّا بَادَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَوْمَهُ وَصَدَعَ بِالْإِسْلامِ، لَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ قَوْمُهُ وَلَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِ، فِيمَا بَلَغَنِي، حَتَّى عَابَ آلِهَتَهُمْ، فَأَعْظَمُوهُ وَنَاكَرُوهُ وَأَجْمَعُوا خلافه وعداواته، فَحَدَبَ عَلَيْهِ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ، وَمَنَعَهُ وَقَامَ دُونَهُ، فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يَعْتِبُهُمْ مِنْ شَيْءٍ أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ، وَرَأَوْا أَنَّ عَمَّهُ يَمْنَعُهُ مَشَوْا إِلَى أَبِي طَالِبٍ فَكَلَّمُوهُ، وَقَالُوا: إِمَّا أَنْ تَكُفَّهُ عَنْ آلِهَتِنَا وَعَنِ الْكَلامِ فِي دِينِنَا، وَإِمَّا أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَقَالَ لَهُمْ قَوْلًا رَفِيقًا، وَرَدَّهُمْ رَدًّا جَمِيلا، فَانْصَرَفُوا.
ثُمَّ بعد ذلك تباعد الرجال وتضاغنوا، أكثرت قُرَيْشٌ ذِكْرَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَحَضَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَيْهِ، وَمَشَوْا إِلَى أَبِي طَالِبٍ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالُوا: إِنَّ لَكَ نَسَبًا وَشَرَفًا فِينَا، وَإِنَّا اسْتَنْهَيْنَاكَ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ فَلَمْ تَنْهَهُ وَإِنَّا وَاللَّهِ مَا نَصْبِرُ عَلَى شَتْمِ آلِهَتِنَا وَتَسْفِيهِ أَحْلامِنَا حَتَّى تَكُفَّهُ أو تنازله وَإِيَّاكَ فِي ذَلِكَ، حَتَّى يَهْلِكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ، فَعَظُمَ عَلَى أَبِي طَالِبٍ فراق قومه وعداواته لَهُمْ، وَلَمْ يَطِبْ نَفْسًا أَنْ يُسَلِّمَ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- لهم ولا أن يخذله5.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3533" في كتاب المناقب، باب: ما جاء في أَسْمَاءَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والبيهقي في "سننه" "8/ 252" وفي "الدلائل" "1/ 152".
2 سورة الحجر: 94.
3 سورة الحجر: 89.
4 اللحى: العظم الذي على الفخذ.
5 انظر "سيرة ابن هشام" "1/ 258-261".

(1/87)


وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: جَاءَتْ قُرَيْشٌ إِلَى أَبِي طَالِبٍ فَقَالُوا: إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ هَذَا قَدْ آذَانَا فِي نَادِينَا وَمَسْجِدِنَا، فَانْهَهُ عَنَّا، فَقَالَ: يَا عَقِيلُ انْطَلِقْ فَائْتِنِي بِمُحَمَّدٍ، فَانْطَلَقْتُ إِلَيْهِ فَاسْتَخْرَجْتُهُ مِنْ حِفْشٍ أَوْ كِبْسٍ، يَقُولُ بَيْتٌ صَغِيرٌ،، فَلَمَّا أَتَاهُمْ قَالَ أَبُو طَالِبٍ: إِنَّ بَنِي عَمِّكَ هَؤُلَاءِ قَدْ زَعَمُوا أَنَّكَ تُؤْذِيهِمْ فِي نَادِيهِمْ وَمَسْجِدِهِمْ فَانْتَهِ عَنْ أَذَاهُمْ، فَحَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: "أَتَرَوْنَ هَذِهِ الشَّمْسَ؟ " قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: "فَمَا أَنَا بِأَقْدَرَ عَلَى أَنْ أَدَعَ ذَلِكَ مِنْكُمْ عَلَى أَنْ تَسْتَشْعِلُوا مِنْهَا شُعْلَةً"، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: وَاللَّهِ مَا كَذَبَنَا ابْنُ أَخِي قَطُّ فَارْجِعُوا1. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي "التَّارِيخِ" عَنْ أبي كريب، عن يونس.
"غيرة أبي طالب عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ":
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ أَنَّ قُرَيْشًا حِينَ قَالَتْ لِأَبِي طَالِبٍ مَا قَالُوا، بَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يابن أَخِي إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَاءُوا إِلَيَّ فَقَالُوا: كَذَا وَكَذَا، فَابْقِ عَلَيَّ وَعَلَى نَفْسِكَ، وَلا تُحَمِّلْنِي مِنَ الأَمْرِ مَا لا أُطِيقُ، فَظَنَّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَدْ بَدَا لِعَمِّهِ بَدَاءٌ وَأَنَّهُ خَاذِلُهُ وَمُسْلِمُهُ، فَقَالَ: "يَا عَمِّ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي وَالْقَمَرَ فِي شِمَالِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ"، ثُمَّ اسْتَعْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ قَامَ، فَلَمَّا ولّى ناداه أبو طالب فقال: أقبل يابن أخي، فأقبلت إليه فقال: فَقُلْ مَا أَحْبَبْتَ فَوَاللَّهِ لَا أُسْلِمُكَ أَبَدًا2.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ يُونُسُ ثُمَّ قَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي ذَلِكَ شِعْرًا.
وَاللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بِجَمْعِهِمْ ... حَتَّى أُوَسَّدَ فِي التُّرَابِ دَفِينَا
فَامْضِ لِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ3 ... أَبْشِرْ وَقَرَّ بِذَاكَ مِنْكَ عُيُونَا
وَدَعَوْتَنِي وَزَعَمْتَ أَنَّكَ نَاصِحِي ... فَلَقَدْ صَدَقْتَ، وَكُنْتَ قِدْمًا أَمِينَا
وَعَرَضْتَ دِينًا قَدْ عَرَفْتُ بِأَنَّهُ ... مِنْ خير أديان البريّة دينا
__________
1 أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" "7/ 51"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 187".
2 مرسل: أخرجه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 261-262" وهو على شهرته ضعيف لإرساله.
3 غضاضة: عيب.

(1/88)


لَوْلَا الْمَلَامَةُ أَوْ حَذَارِي سُبَّةً ... لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبِينَا
وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ عُبَيْدٍ: ثنا الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحْرَسُ حَتَّى نَزَلَتْ: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} 1 وَأَخْرَجَ رَأْسَهُ مِنَ الْقُبَّةِ فَقَالَ لَهُمْ: "أَيُّهَا النَّاسُ انْصَرِفُوا فَقَدْ عَصَمَنِي اللَّهُ" 2.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبَّادٍ الدُّؤَلِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ3 يَتْبَعُ النَّاسَ فِي مَنَازِلِهِمْ يَدْعُوهُمْ إلى الله، ووراءه رَجُلٌ أَحْوَلُ تُقَدُّ وَجْنَتَاهُ، وَهُوَ يَقُولُ لَا يَغُرَّنَّكُمْ عَنْ دِينِكُمْ وَدِينِ آبَائِكُمْ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: أَبُو لَهَبٍ4.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبَّادٍ مِنْ بَنِي الدُّئِلِ، وَكَانَ جَاهِلِيًّا فَأَسْلَمَ، أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِذِي الْمَجَازِ، وَهُوَ يَمْشِي بَيْنَ ظَهْرَانَيِ النَّاسِ يَقُولُ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا". وَوَرَاءَهُ أَبُو لَهَبٍ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ رَبِيعَةُ: وَأَنَا يَوْمَئِذٍ أُزْفِرُ5 الْقِرْبَةَ لِأَهْلِي6.
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ كِنَانَةَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ، وَهُوَ يَقُولُ: "قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا". وَإِذَا خَلْفَهُ رَجُلٌ يَسْفِي عَلَيْهِ التُّرَابَ، فَإِذَا هُوَ أَبُو جَهْلٍ وَيَقُولُ: لَا يَغُرَّنَّكُمْ هَذَا عَنْ دِينِكُمْ، فَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ تَتْرُكُوا عِبَادَةَ اللاتِ وَالْعُزَّى7. إِسْنَادُهُ قَوِيٌّ.
"رد أبي جهل عن أذى النبي -صلى الله عليه وسلم- بمعجزة نبوته":
وَقَالَ الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، حَدَّثَنِي نعيم بن أبي هند، عن أبي حازم، عن أبي
__________
1 سورة المائدة: 76.
2 صحيح: أخرجه الترمذي "3057" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة المائدة، وابن جرير الطبري في "تفسيره" "6/ 199"، وأبو نعيم في "الحلية" "8375" وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" "6/ 96". إسناده حسن، واختلف في وصله وإرساله. وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".
3 ذو المجاز: سوق بعرفة.
4 أخرجه أحمد "3/ 492"، والبيهفي في "الدلائل" "2/ 185".
5 أزفر: أحمل.
6 أخرجه أحمد "3/ 492"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 1486".
7 أخرجه البيهفي في "الدلائل" "2/ 186".

(1/89)


حازم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ قِيلَ: نَعَمْ، فَقَالَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ وَلَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ، فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يُصَلِّي لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ، فَمَا فَجَأَهُمْ مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: مَا لَكَ؟ قَالَ: إِنَّ بَيْنِي وبينه لخندقًا من نار، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا" 1. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَئِنْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ لَأَطَأَنَّ عُنُقَهُ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "لَوْ فَعَلَ لَأَخَذَتْهُ الملائكة عيانًا" 2. أخرجه البخاريّ.
"إغراء قريش لأبي طالب ليسلم لهم النبي -صلى الله عليه وسلم":
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا أَتَوْا أَبَا طَالِبٍ فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ هَذَا عُمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ أَنْهَدُ3 فَتًى فِي قُرَيْشٍ وَأَجْمَلُهُ، فَخُذْهُ فَلَكَ عَقْلُهُ وَنُصْرَتُهُ وَاتَّخِذْهُ وَلَدًا فَهُوَ لَكَ، وَأَسْلِمْ إِلَيْنَا ابْنَ أَخِيكَ هَذَا الَّذِي قَدْ خَالَفَ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ نَقْتُلْهُ، فَإِنَّمَا رَجُلٌ كَرَجُلٍ، فَقَالَ: بِئْسَ وَاللَّهِ مَا تَسُومُونَنِي، أَتُعْطُونِي ابْنَكُمْ أَغْذُوهُ لَكُمْ، وَأُعْطِيكُمُ ابْنِي تَقْتُلُونَهُ! هَذَا وَاللَّهِ مَا لَا يَكُونُ أَبَدًا.
فَقَالَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: وَاللَّهِ يَا أَبَا طَالِبٍ لَقَدْ أَنْصَفَكَ قَوْمُكَ وَجُهِدُوا عَلَى التَّخَلُّصِ مِمَّا تَكْرَهُ، فَمَا أَرَاكَ تُرِيدُ أَنْ تَقْبَلَ مِنْهُمْ شَيْئًا، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَنْصَفُونِي لَكِنَّكَ قَدْ أَجْمَعْتَ خِذْلَانِي وَمُظَاهَرَةَ الْقَوْمِ عَلَيَّ، فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ، فَحَقَبَ4 الْأَمْرُ، وَحَمِيَتِ الْحَرْبُ، وَتَنَابَذَ القوم، فقال أبو طالب.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "2797" في كتاب القيامة، باب: قوله تعالى {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} ، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 189".
2 صحيح: أخرجه البخاري "4958" في كتاب التفسير، باب: قوله: {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ} ، والترمذي "3359" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ، والنسائي في "الكبرى" "11685"، وأحمد "1/ 248، 368".
3 أنهد: أقوى.
4 حقب: اشتد.

(1/90)


أَلَا قُلْ لِعَمْرٍو وَالْوَلِيدِ وَمُطْعِمٍ ... أَلَا لَيْتَ حَظِّي مِنْ حِيَاطَتِكُمْ بَكْرُ
مِنَ الْخُورِ حَبْحَابٌ كَثِيرٌ رُغَاؤُهُ ... يُرَشُّ عَلَى السَّاقَيْنِ مِنْ بَوْلِهِ قَطْرُ1
أَرَى أَخَوَيْنَا مِنْ أَبِينَا وَأُمِّنَا ... إِذَا سُئِلَا قَالَا إِلَى غَيْرِنَا الْأَمْرُ
أَخُصُّ خُصُوصًا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلا ... هُمَا نَبَذَانَا مِثْلَمَا يُنْبَذُ الْجَمْرُ
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، مُنْذُ بِضْعٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ جَرَتْ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَبَيْنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمَّا قَامَ عَنْهُمْ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ أَبَى إِلَّا مَا تَرَوْنَ مِنْ عَيْبِ دِينِنَا، وَشَتْمِ آبَائِنَا، وَتَسْفِيهِ أَحْلامِنَا، وَسَبِّ آلِهَتِنَا، وَإِنِّي أُعَاهِدُ اللَّهَ لَأَجْلِسَنَّ له غدًا بحجر، فإذا سجد فضحت بِهِ رَأْسَهُ فَلْيَصْنَعْ بَعْدَ ذَلِكَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ مَا بَدَا لَهُمْ. فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبُو جَهْلٍ أَخَذَ حَجَرًا وَجَلَسَ، وَأَتَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَامَ يُصَلِّي بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ الْأَسْوَدِ وَالْيَمَانِيِّ، وَكَانَ يُصَلِّي إِلَى الشَّامِ، وَجَلَسَتْ قُرَيْشٌ فِي أَنْدِيَتِهَا يَنْظُرُونَ، فَلَمَّا سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- احْتَمَلَ أَبُو جَهْلٍ الْحَجَرَ ثُمَّ أَقْبَلَ نَحْوَهُ، حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْهُ رَجَعَ مَرْعُوبًا مُنْتَقِعًا لَوْنُهُ، قَدْ يَبِسَتْ يَدَاهُ عَلَى حَجَرِهِ، حَتَّى قَذَفَ بِهِ مِنْ يَدِهِ، فَقَامَتْ إِلَيْهِ رِجَالُ قُرَيْشٍ فَقَالُوا: مَا لَكَ يَا أَبَا الْحَكَمِ؟ فَقَالَ: قُمْتُ إِلَيْهِ لِأَفْعَلَ مَا قُلْتُ لَكُمْ فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ عَرَضَ لِي دُونَهُ فَحْلٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَامَتِهِ وَلَا قَصَرَتِهِ وَلَا أَنْيَابِهِ لِفَحْلٍ قَطُّ، فَهَمَّ أَنْ يَأْكُلَنِي2.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَذُكِرَ لِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "ذَاكَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَوْ دَنَا مِنِّي لأَخَذَهُ"3.
وَقَالَ الْمُحَارِبِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ أَبُو جَهْلٍ بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يُصَلِّي فَقَالَ: أَلَمْ أَنْهَكَ عَنْ أَنْ تُصَلِّيَ يَا مُحَمَّدُ؟ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا بِهَا أَحَدٌ أَكْثَرَ نَادِيًا مِنِّي، فَانْتَهَرَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فقال
__________
1 الخور: الضعاف، والحبحاب: القصير.
2 إسناده ضعيف: لجهالة هذا الشيخ من مصر، وانظر "سيرة ابن هشام" "1/ 288-289".
3 معضل: انظر المصدر السابق "1/ 289".

(1/91)


جبريل: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ، سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} 1. وَاللَّهِ لَوْ دَعَا نَادِيَهُ لَأَخَذَتْهُ زَبَانِيَةُ الْعَذَابِ2.
"خضوع الوليد بن المغيرة للقرآن العظيم":
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أنا الْحَاكِمُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الصَّنْعَانِيُّ بِمَكَّةَ، نا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا عَمِّ إِنَّ قَوْمَكَ يَرَوْنَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالًا. قَالَ: لِمَ؟ قَالَ: لِيُعْطُوكَ فَإِنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا لِتَعْرِضَ لِمَا قِبَلَهُ، قَالَ: قَدْ علمت أنّي من أكثرها مالًا، قال: فقيل فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قَوْمَكَ أَنَّكَ مُنْكِرٌ لَهَا، أَوْ أَنَّكَ كَارِهٌ لَهُ، قَالَ: وَمَاذَا أَقُولُ؟ فَوَاللَّهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمَ بِالْأَشْعَارِ مِنِّي، وَلَا أَعْلَمَ بِرَجَزِهِ وَلَا بِقَصِيدِهِ مِنِّي، وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَوَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ، مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى، وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ، قَالَ: لَا يَرْضَى عَنْكَ قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ، قَالَ: فَدَعْنِي حَتَّى أُفَكِّرَ فِيهِ، فَلَمَّا فَكَّرَ قَالَ: هَذَا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، بِأَثْرِهِ عَنْ غَيْرِهِ، فَنَزَلَتْ {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} 3 يَعْنِي الْآيَاتِ4.
هَكَذَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ مَوْصُولًا. وَرَوَاهُ مَعْمَرٌ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا. وَرَوَاهُ مُخْتَصَرًا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا.
قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ اجْتَمَعَ وَنَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانَ ذَا سِنٍّ فِيهِمْ، وَقَدْ حَضَرَ الْمَوْسِمَ، فَقَالَ: إِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ سَتُقْدِمُ عَلَيْكُمْ فِيهِ، وَقَدْ سَمِعُوا بِأَمْرِ صَاحِبِكُمْ فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا وَاحِدًا وَلا تَخْتَلِفُوا فَيُكَذِّبَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، قَالُوا: فَأَنْتَ فَقُلْ وَأَقِمْ لَنَا رَأْيًا، قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ فَقُولُوا وأنا
__________
1 سورة العلق: 17-18.
2 تقدم تخريجه قريبًا.
3 سورة المدثر: 11.
4 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 198" والحاكم في "مستدركه" "3872" وإسحاق بن إبراهيم هو الدبري، فيه مقال خاصة في روايته عن عبد الرزاق.

(1/92)


أَسْمَعُ، قَالُوا: نَقُولُ كَاهِنٌ، فَقَالَ: مَا هُوَ بِكَاهِنٍ، لَقَدْ رَأَيْتُ الْكُهَّانَ، فَمَا هُوَ بِزَمْزَمَةِ1 الْكَاهِنِ وَسَجْعِهِ.
فقَالُوا: نَقُولُ مَجْنُونٌ، فَقَالَ: مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ، وَلَقَدْ رَأَيْنَا الْجُنُونَ وَعَرَفْنَاهُ فَمَا هو بخنقه وَلَا تَخَالُجِهِ وَلَا وَسْوَسَتِهِ.
قَالُوا: فَنَقُولُ شَاعِرٌ، قَالَ: مَا هُوَ بِشَاعِرٍ، قَدْ عَرَفْنَا الشِّعْرَ بِرَجَزِهِ وَهَزَجِهِ وَقَرِيضِهِ وَمَقْبُوضِهِ وَمَبْسُوطِهِ فَمَا هُوَ بِالشِّعْرِ.
قَالُوا: فَنَقُولُ سَاحِرٌ؟ قَالَ: مَا هُوَ بِسَاحِرٍ، قَدْ رَأَيْنَا السُّحَّارَ وَسِحْرَهُمْ، فَمَا هُوَ بِنَفْثِهِ وَلا عُقَدِهِ.
فَقَالُوا: مَا تَقُولُ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ؟ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ حَلاوَةً وَإِنَّ أَصْلَهُ لَغَدِقٌ وَإِنَّ فَرْعَهُ لَجَنِيٌّ، فَمَا أَنْتُمْ بِقَائِلِينَ مِنْ هَذَا شَيْئًا إِلا عُرِفَ أَنَّهُ بَاطِلٌ. وَإِنَّ أَقْرَبَ الْقَوْلِ أَنْ نَقُولَ سِاحِرٌ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ ابْنِهِ وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ أَخِيهِ وَبَيْنَ عَشِيرَتِهِ، فَتَفَرَّقُوا عَنْهُ بِذَلِكَ، فَجَعَلُوا يَجْلِسُونَ لِلنَّاسِ حِينَ قَدِمُوا الْمَوْسِمُ، لَا يَمُرُّ بِهِمْ أَحَدٌ إِلَّا حَذَّرُوهُ. فَأُنْزِلَ فِي الْوَلِيدِ: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} . إلى قوله: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} 2 وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي الَّذِي كَانُوا مَعَهُ {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} 3 أي أصنافًا، {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} 4.
"شهادة النضر بن الحارث لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ":
وَقَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَامَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ الْعَبْدَرِيُّ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّهُ وَاللَّهِ لَقَدْ نَزَلَ بِكُمْ أَمْرٌ مَا ابْتُلِيتُمْ بِمِثْلِهِ، لَقَدْ كَانَ مُحَمَّدٌ فِيكُمْ غُلَامًا حَدَثًا، أَرْضَاكُمْ فِيكُمْ، وَأَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا، وَأَعْظَمُكُمْ أَمَانَةً، حَتَّى إِذَا رَأَيْتُمْ فِي صدغيه الشّيب، وجاءكم
__________
1 الزمزمة: الكلام الخفي.
2 سورة المدثر: 11-26.
3 سورة الحجر: 91.
4 سورة الحجر: 92.
والخبر أخرجه البيهقي في "الدلائل" "4/ 199-201" وإسناده ضعيف، محمد بن أبي محمد مجهول كما في "التقريب" "6276".

(1/93)


بِمَا جَاءَكُمْ، قُلْتُمْ سَاحِرٌ، لَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بِسَاحِرٍ، وَلَا بِكَاهِنٍ وَلَا بِشَاعِرٍ، قَدْ رَأْيَنا هَؤُلَاءِ وَسَمِعْنَا كَلَامَهُ، فَانْظُرُوا فِي شَأْنِكُمْ1.
وكان النّضر من شياطين قريش، مّن يؤذي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وَيَنْصِبُ لَهُ الْعَدَاوَةَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ: حدثنا الْأَجْلَحُ عَنِ الذَّيَّالِ بْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ جَابِرِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ وَالْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ: لَقَدِ انْتَشَرَ عَلَيْنَا أَمْرُ مُحَمَّدٍ، فَلَوِ الْتَمَسْتُمْ رَجُلًا عَالِمًا بِالسِّحْرِ وَالْكَهَانَةِ وَالشِّعْرِ، فَكَلَّمَهُ ثُمَّ أَتَانَا بِبَيَانٍ مِنْ أَمْرِهِ، فَقَالَ عُتْبَةُ: لَقَدْ سَمِعْتُ بِقَوْلِ السِّحْرِ وَالْكَهَانَةِ وَالشِّعْرِ، وَعَلِمْتُ مِنْ ذَلِكَ عِلْمًا، وَمَا يَخْفَى عليّ إن كان لذلك، فَأَتَاهُ، فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ لَهُ عُتْبَةُ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ هَاشِمٌ، أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ اللَّهِ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ، قَالَ: فِيمَ تَشْتُمُ آلِهَتَنَا وَتُضَلِّلُ آبَاءَنَا، فَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا بِكَ الرِّيَاسَةُ عَقَدْنَا لَكَ أَلْوِيَتَنَا، فَكُنْتَ رَأْسَنَا مَا بَقِيتَ، وَإِنْ كَانَ بِكَ الْبَاءَةُ زَوَّجْنَاكَ عَشْرَ نَسْوَةٍ تَخْتَارُ مِنْ أَيِّ أَبْيَاتِ قُرَيْشٍ شِئْتَ، وَإِنْ كَانَ بِكَ الْمَالُ جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا تَسْتَغْنِي بِهِ أَنْتَ وَعَقِبُكَ مِنْ بَعْدِكَ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَاكِتٌ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ {أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} 2 فَأَمْسَكَ عُتْبَةُ عَلَى فِيهِ، وَنَاشَدَهُ الرَّحِمَ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ، وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى أَهْلِهِ وَاحْتَبَسَ عَنْهُمْ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ وَاللَّهِ مَا نَرَى عُتْبَةَ إِلَّا قَدْ صَبَأَ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَأَعْجَبَهُ طَعَامُهُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا مِنْ حَاجَةٍ أَصَابَتْهُ، انْطَلِقُوا بِنَا إِلَيْهِ، فَأَتَوْهُ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللَّهِ يَا عُتْبَةُ مَا حَسِبْنَا إِلَّا أَنَّكَ صَبَأْتَ، فَإِنْ كَانَتْ بِكَ حَاجَةٌ جَمَعْنَا لَكَ مَا يُغْنِيكَ عَنْ طَعَامِ مُحَمَّدٍ، فَغَضِبَ وَأَقْسَمَ بِاللَّهِ لَا يُكَلِّمُ مُحَمَّدًا أَبَدًا، وَقَالَ: لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالًا وَلَكِنِّي أَتَيْتُهُ، فَقَصَّ عَلَيْهِمُ الْقِصَّةَ، فَأَجَابَنِي بِشَيْءٍ وَاللَّهِ مَا هُوَ بِسِحْرٍ وَلَا شِعْرٍ وَلَا كَهَانَةٍ، قَرَأَ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} حَتَّى بَلَغَ {فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} فأمسكت بفيه، وناسدته الرحم أن
__________
1 إسناده ضعيف: للجهالة فيه.
2 سورة فصلت: 1-13.

(1/94)


يَكُفَّ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا إِذَا قَالَ شَيْئًا لَمْ يَكْذِبْ، فَخِفْتُ أَنْ يَنْزِلَ بِكُمُ الْعَذَابُ1. رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ عَنْهُ.
وَقَالَ داود بن عمرو الضّبيّ: حدثنا الْمُثَنَّى بْنُ زُرْعَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لما قَرَأَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ {حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} 2 أَتَى أَصْحَابَهُ فَقَالَ لَهُمْ: يَا قَوْمُ أَطِيعُونِي فِي هَذَا الْيَوْمِ وَاعْصُونِي فِيمَا بَعْدَهُ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ كَلَامًا مَا سَمِعَتْ أُذُنَايَ قَطُّ كَلَامًا مِثْلَهُ، وَمَا دَرَيْتُ ما أردّ عليه3.
"محاولة عتبة بن ربيعة إغراء النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم خضوعه للحق":
قال ابن إسحاق: حدثنا يزيد بن أبي زياد، عن محمد بن كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: حُدِّثْتُ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ ربيعة، لما أسلم حمزة قالوا به: يَا أَبَا الْوَلِيدِ كَلِّمْ مُحَمَّدًا، فَأَتَاهُ فَقَالَ: يابن أَخِي إِنَّكَ مِنَّا حَيْثُ عَلِمْتَ مِنَ الْبَسْطَةِ وَالْمَكَانِ فِي النَّسَبِ، وَإِنَّكَ أَتَيْتَ قَوْمَكَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، فَرَّقْتَ بِهِ بَيْنَهُمْ، وَسَفَّهْتَ أَحْلَامَهُمْ، وَعِبْتَ بِهِ آلِهَتَهُمْ، فَاسْمَعْ مِنِّي، قَالَ: قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ قَالَ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ مَالًا جَمَعْنَا لَكَ، حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ شَرَفًا سَوَّدْنَاكَ وَمَلَّكْنَاكَ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي يَأْتِيكَ رَئِيًّا طَلَبْنَا لَكَ الطِّبَّ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ قَالَ: فَاسْمَعْ مِنِّي، قَالَ: افْعَلْ، قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} 4. وَمَضَى فَأَنْصَتَ عُتْبَةُ، وَأَلْقَى يَدَيْهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِمَا يَسْمَعُ مِنْهُ، فَلَمَّا انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى السَّجْدَةِ سَجَدَ، ثُمَّ قَالَ: "قَدْ سَمِعْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ فَأَنْتَ وَذَاكَ"، فَقَامَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَحْلِفُ وَاللَّهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ أَبُو الْوَلِيدِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ، فَلَمَّا جَلَسَ قَالُوا: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: وَرَائِي أَنِّي سَمِعْتُ
__________
1 صحيح: أخرجه عبد بن حميد في "مسنده" "1123" والبيهقي في "الدلائل" "2/ 202-204" وصححه الألباني في تحقيق "فقه السيرة".
2 سورة فصلت: 1.
3 إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 205" وقال الحافظ ابن كثير في "البداية" "2/ 77": وهذا حديث غريب جدًّا من هذا الوجه.
قلت: ابن إسحاق مدلس، وقد عنعنه.
4 سورة فصلت: 1.

(1/95)


قَوْلًا، وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَاللَّهِ مَا هُوَ بِالشِّعْرِ وَلَا بِالسِّحْرِ وَلَا بِالْكَهَانَةِ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَطِيعُونِي، وَاجْعَلُوهَا بِي، خَلُّوا بَيْنَ هَذَا الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِيهِ فَاعْتَزِلُوهُ، فَوَاللَّهِ لَيَكُونَنَّ لِقَوْلِهِ نَبَأٌ، فَإِنْ تُصِبْهُ الْعَرَبُ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ، وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَرَبِ، فَمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ، وَعِزُّهُ عِزُّكُمْ، وَكُنْتُمْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ، قَالُوا: سَحَرَكَ وَاللَّهِ بِلِسَانِهِ، قَالَ: هَذَا رَأْيِي فِيهِ فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ1.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ قَالَ: حُدِّثْتُ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ، وَأَبَا سُفْيَانَ، وَالْأَخْنَسَ بْنَ شَرِيقٍ خَرَجُوا لَيْلَةً يَتَسَمَّعُونَ مِنْ رَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو يُصَلِّي بِاللَّيْلِ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ، وَأَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسًا، وَكُلٌّ لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِ صَاحِبِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا تَفَرَّقُوا فَجَمَعَهُمُ الطَّرِيقُ، فَتَلَاوَمُوا وَقَالُوا: لَا نَعُودُ فَلَوْ رَآنَا بَعْضُ السُّفَهَاءِ لَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ، ثُمَّ عَادُوا لِمِثْلِ لَيْلَتِهِمْ، فَلَمَّا تَفَرَّقُوا تَلَاقَوْا فَتَلاوَمُوا لِذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ وَأَصْبَحُوا جَمَعَتْهُمُ الطَّرِيقُ فَتَعَاهَدُوا أَنْ لا يَعُودُوا، ثُمَّ إِنَّ الأَخْنَسَ بْنَ شَرِيقٍ أَتَى أَبَا سُفْيَانَ فِي بَيْتِهِ فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ رَأْيِكَ فِيمَا سَمِعْتُ مِنْ مُحَمَّدٍ؟ فَقَالَ: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ أَشْيَاءَ أَعْرِفُهَا، وَأَعْرِفُ مَا يُرَادُ بِهَا، فَقَالَ الْأَخْنَسُ: وَأَنَا وَالَّذِي حَلَفْتَ بِهِ، ثُمَّ أَتَى أَبَا جَهْلٍ فَقَالَ: مَا رَأْيُكَ؟ فَقَالَ: مَاذَا سَمِعْتَ؟ تَنَازَعْنَا نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ الشَّرَفَ، أَطْعَمُوا فَأَطْعَمْنَا، وَحَمَلُوا فَحَمَلْنَا، وَأَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا، حتى إذا يجاثينا عَلَى الرُّكَبِ، وَكُنَّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ. قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ، فَمَتَى نُدْرِكُ هَذِهِ، وَاللَّهِ لَا نُؤْمِنُ بِهِ أَبَدًا وَلَا نُصَدِّقُهُ، فَقَامَ الْأَخْنَسُ عَنْهُ2.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ يَوْمٍ عَرَفْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنِّي أَمْشِي أَنَا وَأَبُو جَهْلٍ، إِذْ لَقِيَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لِأَبِي جَهْلٍ: يَا أَبَا الْحَكَمِ هَلُمَّ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، أَدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مُحَمَّدُ هَلْ أَنْتَ مُنْتَهٍ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنَا، هَلْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ نَشْهَدَ أَنْ قَدْ بَلَّغْتَ، فَوَاللَّهِ لَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ مَا تَقُولُ حَقٌّ مَا اتَّبَعْتُكَ، فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى الله عليه وسلم- صلى اله عليه وسلم، وأقبل عليّ فقال: والله إنّ لَأَعْلَمُ أَنَّ مَا يَقُولُ حَقٌّ، وَلَكِنْ بَنُو قُصَيٍّ قَالُوا: فِينَا الْحِجَابَةُ، فَقُلْنَا: نَعَمْ، فَقَالُوا: فينا النّدوة،
__________
1 إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 204-205 وفي إسناده جهالة.
2 إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 206".

(1/96)


قُلْنَا، نَعَمْ، ثُمَّ قَالُوا: فِينَا اللِّوَاءُ، فَقُلْنَا: نَعَمْ، وَقَالُوا: فِينَا السِّقَايَةُ، فَقُلْنَا: نَعَمْ، ثُمَّ أَطْعَمُوا وَأَطْعَمْنَا حَتَّى إِذَا تَحَاكَّتِ الرُّكَبُ قَالُوا: منّا نبيّ، واله لا أفعل1.
__________
1 إسناده محتمل للتحسين: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 207" وفي إسناده أحمد بن عبد الجبار، قال في "التقريب" "64": ضعيف وسماعه للسيرة صحيح: وفي "التهذيب" "1/ 32، 33" ما يفهم منه أن سبب ضعفعه أنه روى عن القدماء ولم يثبت لقاءه لبعضهم، فإذا صح سماعه للسيرة فالإسناد حسن أو صحيح، والله أعلم.

(1/97)


"شِعْرُ أَبِي طَالِبٍ فِي مُعَادَاةِ خُصُومِهِ":
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا وَثَّبَتْ كُلَّ قَبِيلَةٍ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ يُعَذِّبُونَهُمْ وَيَفْتِنُونَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، فَمَنَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَامَ أَبُو طَالِبٍ فَدَعَا بَنِي هَاشِمَ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ إِلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ مَنْعِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْقِيَامِ دُونَهُ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ وَقَامُوا مَعَهُ، إِلَّا مَا كَانَ مِنَ الْخَاسِرِ أَبِي لَهَبٍ، فَجَعَلَ أَبُو طَالِبٍ يَمْدَحُهُمْ ويذكر قديمهم، ويذكر فضل محمد صلى اله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ أَشْعَارًا، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا خَشِيَ دَهْمَاءَ الْعَرَبِ أَنْ يُرْكِبُوهُ مَعَ قَوْمِهِ، لَمَّا انْتَشَرَ ذِكْرُهُ قَالَ قَصِيدَتَهُ الَّتِي مِنْهَا:
وَلَمَّا رَأَيْتُ الْقَوْمَ لَا وُدَّ فِيهِمُ ... وَقَدْ قَطَّعُوا كُلَّ الْعُرَى وَالْوَسَائِلِ
وَقَدْ صَارَحُونَا بِالْعَدَاوَةِ وَالْأَذَى ... وَقَدْ طَاوَعُوا أَمْرَ الْعَدُوِّ الْمُزَايِلِ
صَبَرْتُ لَهُمْ نَفْسِي بِسَمْرَاءَ سَمْحَةٍ ... وَأَبْيَضَ عَضْبٍ مِنْ تُرَاثِ الْمَقَاوِلِ2
وَأَحْضَرْتُ عِنْدَ الْبَيْتِ رَهْطِي وَإِخْوَتِي ... وَأَمْسَكْتُ مِنْ أَثْوَابِهِ بِالْوَصَائِلِ
أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مِنْ كُلِّ طَاعِنٍ ... عَلَيْنَا بِسُوءٍ أَوْ مُلِحٍّ بِبَاطِلِ
وَفِيهَا يَقُولُ:
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللَّهِ نُبْزَى مُحَمَّدًا ... وَلَمَّا نُطَاعِنْ دُونَهُ وَنُنَاضِلِ
ونسلمه حتى مصرّع حَوْلَهُ ... وَنَذْهَلَ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالْحَلَائِلِ
وَيَنْهَضَ قَوْمٌ نحوكم غير عزل ... يبيض حَدِيثٍ عَهْدُهَا بِالصَّيَاقِلِ
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ3
يَلُوذُ بِهِ الْهُلَّاكُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ ... فَهُمْ عِنْدَهُ فِي رَحْمَةٍ وَفَوَاضِلِ
لَعَمْرِي لَقَدْ كُلِّفْتُ وَجْدًا بِأَحْمَدَ ... وَإِخْوَتِهِ دأب المحبّ المواصل
__________
1 إسناده محتمل للتحسين: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 207" وفي إسناده أحمد بن عبد الجبار، قال في "التقريب" "64": ضعيف وسماعه للسيرة صحيح: وفي "التهذيب" "1/ 32، 33" ما يفهم منه أن سبب ضعفعه أنه روى عن القدماء ولم يثبت لقاءه لبعضهم، فإذا صح سماعه للسيرة فالإسناد حسن أو صحيح، والله أعلم.
2 عضب: سيف قاطع، والمقاول: الملوك.
3 ثمال اليتامى: مطعمهم.

(1/97)


فَمَنْ مِثْلُهُ فِي النَّاسِ أَيُّ مُؤَمَّلٍ ... إِذَا قَاسَهُ الْحُكَّامُ عِنْدَ التَّفَاضُلِ
حَلِيمٌ رَشِيدٌ عَادِلٌ غَيْرُ طَائِشٍ ... يُوَالِي إِلَهًا لَيْسَ عَنْهُ بِغَافِلِ
فَوَاللَّهِ لَوْلَا أَنْ أَجِيءَ بِسُبَّةٍ ... تُجَرُّ عَلَى أَشْيَاخِنَا فِي الْمَحَافِلِ
لَكُنَّا اتَّبَعْنَاهُ عَلَى كُلِّ حَالَةٍ ... مِنَ الدَّهْرِ جِدًّا غَيْرَ قَوْلِ التَّهَازُلِ
لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ ابْنَنَا لا مُكَذَّبٌ ... لَدَيْنَا وَلَا يُعْنَى بِقَوْلِ الْأَبَاطِلِ
فَأَصْبَحَ فِينَا أَحْمَدُ ذو أَرُومَةٍ ... يُقَصِّرُ عَنْهَا سَوْرَةُ الْمُتَطَاوِلِ1
حَدِبْتُ بِنَفْسِي دُونَهُ وَفَدَيْتُهُ ... وَدَافَعْتُ عَنْهُ بِالذُّرَى وَالْكَلَاكِلِ2
جَزَى اللَّهُ عَنَّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلا ... عُقُوبَةَ شَرٍّ عَاجِلا غَيْرَ آجِلِ
فَلَمَّا انْتَشَرَ ذِكْرُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ الْعَرَبِ ذُكِرَ بِالْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَكُنْ حَيٌّ مِنَ الْعَرَبِ أَعْلَمَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ ذُكِرَ، وَقَبْلَ أَنْ يُذْكَرَ مِنَ الأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَذَلِكَ لِمَا كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنَ الأحبار، وكانوا حلفاء، يعني اليهود في بالدهم، وَكَانَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الأَسْلَتِ يُحِبُّ قُرَيْشًا، وَكَانَ لَهُمْ صِهْرًا، وَعِنْدَهُ أَرْنَبُ بِنْتُ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَكَانَ يُقِيمُ بِمَكَّةَ السِّنِينَ بِزَوْجَتِهِ، فَقَالَ:
أَيَا رَاكِبًا إِمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغَا ... مُغَلْغَلَةً عَنِّي لُؤَيَّ بْنَ غَالِبٍ3
رَسُولُ امْرِئٍ قد راعه ذات بينكم ... على الناي مخزون بِذَلِكَ نَاصِبِ
أُعِيذُكُمْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ صُنْعِكُمْ ... وَشَرِّ تَبَاغِيكُمْ وَدَسِّ الْعَقَارِبِ4
مَتَى تَبْعَثُوهَا، تَبْعَثُوهَا ذَمِيمَةً ... هِيَ الْغُولُ لِلْأَقْصَيْنِ أَوْ لِلْأَقَارِبِ5
أَقِيمُوا لَنَا دِينًا حَنِيفًا، فَأَنْتُمُ ... لَنَا غَايَةٌ قَدْ نَهْتَدِي بِالذَّوَائِبِ6
فَقُومُوا، فَصَلُّوا رَبَّكُمْ، وَتَمَسَّحُوا ... بِأَرْكَانِ هَذَا الْبَيْتِ بَيْنَ الأَخَاشِبِ
فِعْنَدَكُمْ مِنْهُ بَلاءُ وَمُصَدَّقٌ ... غَدَاةَ أَبِي يَكْسُومَ هَادِي الْكَتَائِبِ
فَلَمَّا أَتَاكُمْ نَصْرُ ذِي الْعَرْشِ رَدَّهُمْ ... جُنُودُ الْمَلِيكِ بَيْنَ سَافٍ وَحَاصِبِ7
فَوَلَّوْا سِرَاعًا هَارِبِينَ وَلَمْ يؤب ... إلى أهله ملجيش غير عصائب
__________
1 الأرومة: الأصل من كل شيء.
2 الذرا: الخلق. والكلاكل: مفرد الكلكل، وهو الصدر.
3 مغلغلة: رسالة.
4 بتاغيكم: ظلمكم.
5 الغول: الهلاك.
6 الذوائب: الأعالي.
7 السافي: الذي أصابته الغبار. والحاصب: الريح المحملة بالتراب والحصى.

(1/98)


أَبُو يَكْسُومَ مَلِكُ أَصْحَابِ الْفِيلِ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قُلْتُ لَهُ: مَا أَكْثَرُ مَا رَأَيْتَ، أَصَابَتْ قُرَيْشٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا كَانُوا يُظْهِرُونَ مِنْ عَدَاوَتِهِ؟ قَالَ: حَضَرْتُهُمْ وَقَدِ اجْتَمَعَ أَشْرَافُهُمْ يَوْمًا فِي الْحِجْرِ، فَذَكَرُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَبَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ قَطُّ، قَدْ سَفَّهَ أَحْلامَنَا، وَسَبَّ آلِهَتَنَا، وَفَعَلَ وَفَعَلَ، فَطَلَعَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ وَطَافَ بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا مَرَّ غَمَزُوهُ بِبَعْضِ الْقَوْلِ، فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، فَلَمَّا مَرَّ الثَّانِيَةَ غَمَزُوهُ، فَلَمَّا مَرَّ الثَّالِثَةَ غَمَزُوهُ، فَوَقَفَ فَقَالَ: "أَتَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ"، قَالَ: فَأَخَذَتِ الْقَوْمَ كَلِمَتُهُ حَتَّى مَا فِيهِمْ رَجُلٌ إِلا كَأَنَّ عَلَى رَأْسِهِ طَائِرًا وَاقِعٌ، حَتَّى إِنَّ أَشَدَّهُمْ فِيهِ وَطْأَةً لَيُرَفِّؤُهُ بِأَحْسَنَ مَا يَجِدُ مِنَ الْقَوْلِ، حَتَّى إِنَّهُ يَقُولُ: انْصَرِفْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَوَاللَّهِ مَا كُنْتَ جَهُولا، فَانْصَرَفَ رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ اجْتَمَعُوا فِي الْحِجْرِ، وَأَنَا مَعَهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ذَكَرْتُمْ مَا بَلَغَ مِنْكُمْ وَمَا بَلَغَكُمْ عَنْهُ، حَتَّى إِذَا بادأكم بما تكرهون تركتموه، فبيناهم فِي ذَلِكَ، إِذْ طَلَعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَوَثَبُوا إِلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَأَحَاطُوا بِهِ يَقُولُونَ: أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا مِنْهُمْ أَخَذَ بِمَجْمَعِ رِدَائِهِ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ دُونَهُمْ يَبْكِي وَيَقُولُ: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} 1 ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ2، فَحَدَّثَنِي بَعْضُ آلِ أبي بَكْرٍ، أَنَّ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: لَقَدْ رَجَعَ أَبُو بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ وَقَدْ صَدَعُوا فِرْقَ رَأْسِهِ مِمَّا جَذَبُوهُ بِلِحْيَتِهِ، وَكَانَ كَثِيرَ الشَّعْرِ3.
إِسْلَامُ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ: نا حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَرَجْنَا مِنْ قَوْمِنَا غِفَارٍ، وَكَانُوا يُحِلُّونَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، فَخَرَجْتُ أَنَا
__________
1 سورة غافر: 28.
2 إسناده محتمل للتحسين: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 275-276" وفي إسناده أحمد بن عبد الجبار فيه مقال كما تقدم.
3 إسناده ضعيف: للجهالة فيه، والظاهر أن قال: فحدثني. هو ابن إسحاق، والله أعلم.

(1/99)


وَأَخِي أُنَيْسٌ وَأُمُّنَا، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى نَزَلْنَا عَلَى خَالٍ لَنَا ذِي مَالٍ وَهَيْئَةٍ فَأَكْرَمَنَا، فَحَسَدَنَا قومه، فقالوا: إنّك إذا خرجت عَنْ أَهْلِكَ خَالَفَ إِلَيْهِمْ أُنَيْسٌ، فَجَاءَ خَالُنَا فَنَثَا1 عَلَيْنَا مَا قِيلَ لَهُ فَقُلْتُ لَهُ: أَمَّا مَا مَضَى مِنْ مَعْرُوفِكَ، فَقَدْ كَدَّرْتَهُ وَلَا جِمَاعَ لَكَ فِيمَا بَعْدُ، فَقَرَّبْنَا صِرْمَتَنَا2 فَاحْتَمَلْنَا عَلَيْهَا، وَتَغَطَّى خَالُنَا ثَوْبَهُ، فَجَعَلَ يَبْكِي، فَانْطَلَقْنَا فَنَزَلْنَا بِحَضْرَةِ مَكَّةَ، فَنَافَرَ أُنَيْسٌ عَنْ صِرْمَتِنَا وَعَنْ مِثْلِهَا، فَأَتَيَا الْكَاهِنَ فَخَيَّرَ أُنَيْسًا فَأَتَانَا بِصِرْمَتِنَا وَمِثْلِهَا مَعَهَا.
قَالَ: وَقَدْ صَلَّيْتُ يا بن أخي قبل أَنْ أَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- بثلاث سنين، فقلت: لمن؟ قال الله، قُلْتُ: فَأَيْنَ تَوَجَّهُ؟ قَالَ: أَتَوَجَّهُ حَيْثُ يُوَجِّهُنِي اللَّهُ أُصَلِّي عِشَاءً، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ أَلْقَيْتُ كَأَنِّي خِفَاءٌ -يَعْنِي الثَّوْبَ- حَتَّى تَعْلُونِي الشَّمْسُ.
فَقَالَ أُنَيْسٌ: إِنَّ لِي حَاجَةً بِمَكَّةَ فَاكْفِنِي حَتَّى آتِيَكَ، فَأَتَى مَكَّةَ فَرَاثَ، أَيْ أَبْطَأَ، عَلَيَّ، ثُمَّ أَتَانِي فَقُلْتُ مات حَبَسَكَ قَالَ: لَقِيتُ رَجُلًا بِمَكَّةَ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ عَلَى دِينِكَ، قُلْتُ: مَا يَقُولُ النَّاسُ؟
قَالَ: يَقُولُونَ: إِنَّهُ شَاعِرٌ وَسَاحِرٌ، وَكَاهِنٌ، وَكَانَ أُنَيْسٌ أَحَدَ الشُّعَرَاءِ.
فَقَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ، فَمَا هُوَ بِقَوْلِهِمْ، وَلَقَدْ وَضَعْتُ قَوْلَهُ عَلَى أَقْرَاءِ الشِّعْرِ3، فَمَا يَلْتَئِمُ عَلَى لِسَانِ أَحَدٍ بَعْدِي أَنَّهُ شِعْرٌ، وَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَصَادِقٌ، وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ.
قَالَ: قُلْتُ لَهُ: هَلْ أَنْتَ كَافِينِي حَتَّى أَنْطَلِقَ فَأَنْظُرَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَكُنْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى حَذَرٍ، فَإِنَّهُمْ قَدْ شَنِفُوا4 لَهُ وَتَجَهَّمُوا، فَأَتَيْتُ مَكَّةَ، فَتَضَعَّفْتُ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَقُلْتُ: أَيْنَ هَذَا الَّذِي تَدْعُونَهُ الصّابئ؟ قال: فأشار إلى الصّابئ، قال: فَمَالَ عَلَيَّ أَهْلُ الْوَادِي بِكُلِّ مَدَرَةٍ وَعَظْمٍ، حَتَّى خَرَرْتُ مَغْشِيًّا عَلَيَّ، فَارْتَفَعْتُ حِينَ ارْتَفَعْتُ، كَأَنِّي نُصُبٌ أَحْمَرُ، فَأَتَيْتُ زَمْزَمَ فَشَرِبْتُ مِنْ مَائِهَا، وَغَسَلْتُ عَنِّي الدَّمَ، وَدَخَلْتُ بَيْنَ الْكَعْبَةِ وَأَسْتَارِهَا، وَلَقَدْ لَبِثْتُ يَابْنَ أَخِي ثَلَاثِينَ مِنْ بين ليلة
__________
1 ثنا: نشر.
2 صرمتنا: أي القطيع من الإبل.
3 أقراء الشعر: طرقه.
4 شنفوا: أبغضوا.

(1/100)


وَيَوْمٍ، وَمَا لِيَ طَعَامٌ إِلا مَاءُ زَمْزَمَ، فسمنت حتى تكسّرت عقف بَطْنِي، وَمَا وَجَدْتُ عَلَى كَبِدِي سَخْفَةَ جُوعِ1. فَبَيْنَا أَهْلُ مَكَّةَ فِي لَيْلَةٍ قَمْرَاءَ إِضْحِيَانٍ، قَدْ ضَرَبَ اللَّهُ عَلَى أَصْمِخَةِ أَهْلِ مَكَّةَ، فَمَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ أَحَدٌ غَيْرُ امْرَأَتَيْنِ، فَأَتَتَا عَلَيَّ، وَهُمَا تُدْعَوَانِ إِسَافًا وَنَائِلَةَ، فَأَتَتَا عَلَيَّ فِي طَوَافِهِمَا، فَقُلْتُ: أَنْكِحَا أَحَدَهُمَا الْأَخْرَى، قَالَ: فَمَا تَنَاهَتَا عَنْ قَوْلِهِمَا، وَفِي لَفْظٍ: فَمَا حدثناهما ذَلِكَ عَمَّا قَالَتَا، فَأَتَتَا عَلِيَّ فَقُلْتُ: هَنٌ مِثْلُ الْخَشَبَةِ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَكْنِي. فَانْطَلَقَتَا تُوَلْوِلَانِ، وَتَقُولَانِ: لَوْ كَانَ هَهُنَا أَحَدٌ مِنْ أَنْفَارِنَا. فَاسْتَقْبَلَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ، وَهُمَا هَابِطَانِ مِنَ الْجَبَلِ، فَقَالَا لَهُمَا: مَا لَكُمَا؟
قَالَتَا: الصَّابِئُ بَيْنَ الْكَعْبَةِ وَأَسْتَارِهَا.
قَالَا: مَا قَالَ لَكُمَا؟ قَالَتَا: قَالَ لَنَا كَلِمَةً تَمْلأُ الْفَمَ.
فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصَاحِبُهُ، فَاسْتَلَمَ الْحَجَرَ، ثُمَّ طَافَا، فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ أَتَيْتُهُ، فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ حَيَّاهُ بِتَحِيَّةِ الإِسْلامِ.
فَقَالَ: "وَعَلَيْكَ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ". ثُمَّ قَالَ: "مِمَّنْ أَنْتَ؟ " قُلْتُ: مِنْ غِفَارٍ، فَأَهْوَى بِيَدِهِ فَوَضَعَهَا عَلَى جَبِينِهِ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: كَرِهَ أَنِّي انْتَمَيْتُ إِلَى غِفَارٍ، فَأَهْوَيْتُ لِآخُذَ بِيَدِهِ، فَقَدَعَنِي2 صَاحِبُهُ، وَكَانَ أَعْلَمَ بِهِ مِنِّي، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: مَتَى كُنْتَ هَهُنَا؟ قُلْتُ: قُدْ كُنْتُ هَهُنَا مُنْذَ ثَلاثِينَ، بَيْنَ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ.
قَالَ: فَمَنْ كَانَ يُطْعِمُكَ؟ قُلْتُ: مَا كَانَ لِي طَعَامٌ إِلَّا مَاءُ زَمْزَمَ فَقَالَ: "إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ، إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ، وَشِفَاءُ سُقْمٍ".
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ائْذَنْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي طَعَامِهِ اللَّيْلَةَ، فَفَعَلَ، فَانْطَلَقَا، وَانْطَلَقْتُ مَعَهُمَا، حَتَّى فَتَحَ أَبُو بَكْرٍ بَابًا، فَجَعَلَ يَقْبِضُ لَنَا مِنْ زَبِيبِ الطَّائِفِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ طَعَامٍ أَكَلْتُهُ بِهَا. قَالَ فَغَبَرْتُ مَا غَبَرْتُ ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ:
__________
1 سخفة الجوع: رقة الجوع.
2 قدعني: كفني.

(1/101)


إِنِّي قَدْ وُجِّهْتُ إِلَى أَرْضٍ ذَاتِ نَخْلٍ لَا أَحْسَبُهَا إِلَّا يَثْرِبَ، فَهَلْ أَنْتَ مُبَلِّغٌ عَنِّي قَوْمَكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَنْفَعَهُمْ بِكَ وَيَأْجُرَكَ فِيهِمْ؟ فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَتَيْتُ أَخِي أُنْيَسًا فَقَالَ لِي: مَا صَنَعْتَ؟
قُلْتُ: صَنَعْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ، ثُمَّ أَتَيْنَا أُمَّنَا فَقَالَتْ: مَا بِي رَغْبَةٌ عَنْ دِينِكُمَا، فَأَسْلَمَتْ، ثُمَّ احْتَمَلْنَا حَتَّى أَتَيْنَا قَوْمَنَا غِفَارَ، فَأَسْلَمَ نِصْفُهُمْ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ، وَكَانَ يَؤُمُّهُمْ خِفَافُ بْنُ إِيماءَ بْنِ رَحْضَةَ الْغِفَارِيُّ، وَكَانَ سَيِّدَهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَقَالَ بَقِيَّتُهُمْ: إِذَا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَسْلَمْنَا، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فَأَسْلَمَ بَقِيَّتُهُمْ. وجاءت أسلم، فقالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِخْوَانُنَا، نُسْلِمُ عَلَى الَّذِي أَسْلَمُوا عَلَيْهِ، فَأَسْلَمُوا فَقَالَ: "غِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا، وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ" 1 أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ هُدْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الْمُثَنَّى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ الضُّبَعِيِّ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حَدَّثَهُمْ بِإِسْلامِ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: أَرْسَلْتُ أَخِي فَرَجَعَ وَقَالَ: رَأَيْتُ رَجُلًا يَأْمُرُ بِالْخَيْرِ، فَلَمْ يَشْفِنِي، فَأَتَيْتُ مَكَّةَ، فَجَعَلْتُ لَا أَعْرِفُهُ، وَأَشْرَبُ مِنْ زَمْزَمَ، فَمَرَّ بِي عَلِيٌّ فَقَالَ: كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: انْطَلِقْ إِلَى الْمَنْزِلِ، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَلَمْ أَسْأَلْهُ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا، جِئْتُ الْمَسْجِدَ، ثُمَّ مَرَّ بِي عَلِيٌّ فَقَالَ: أَمَا آنَ لَكَ أَنْ تَعُودَ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: مَا أَمْرُكَ؟ قُلْتُ: إِنْ كَتَمْتَ عَلَيَّ أَخْبَرْتُكَ، ثُمَّ قُلْتُ: بَلَغَنَا أَنَّهُ خَرَجَ نَبِيٌّ، قَالَ: قَدْ رَشَدْتَ فَاتْبَعْنِي، فَأَتَيْنَا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: اعْرِضْ عَلَيَّ الْإِسْلَامَ، فَعَرَضَهُ عَلَيَّ، فَأَسْلَمْتُ، فَقَالَ: اكْتُمْ إِسْلامَكَ وَارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ، قُلْتُ: وَاللَّهِ لَأَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَجَاءَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا معاشر قُرَيْشٍ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَقَالُوا: قُومُوا إِلَى هَذَا الصَّابِئِ، فَقَامُوا، فَضُرِبْتُ لِأَمُوتَ، فَأَدْرَكَنِي الْعَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيَّ وَقَالَ: تَقْتُلُونَ، وَيْلَكُمْ رَجُلًا مِنْ بَنِي غِفَارٍ، وَمَتْجَرُكُمْ وَمَمَرُّكُمْ عَلَى غِفَارٍ، فَأَطْلَقُوا عَنِّي. ثُمَّ فَعَلْتُ مِنَ الْغَدِ كَذَلِكَ، وَأَدْرَكَنِي العبّاس أيضًا2.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "2473" في كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي ذر -رضي الله عنه- وأحمد "4/ 174-175".
2 صحيح: أخرجه البخاري "3861" في كتاب المناقب الأنصار، باب: إسلام أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- ومسلم "2474" في المصدر السابق، والطبراني في "الأوسط" "2633"، وأبو نعيم في "الحلية" "516".

(1/102)


وقال النّضر بن محمد اليماميّ: حدثنا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي زُمَيْلٍ سِمَاكِ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: كُنْتُ رُبُعَ الْإِسْلَامِ، أَسْلَمَ قَبْلِي ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أشهد أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَرَأَيْتُ الِاسْتِبْشَارَ فِي وَجْهِهِ1.
__________
1 أخرجه الطبراني في "الكبير" "1617" والحاكم في "مستدركه" "5459".

(1/103)


إِسْلَامُ حَمْزَةَ:
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ، وَكَانَ وَاعِيَةً، أَنَّ أَبَا جَهْلٍ مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَ الصَّفَا، فَآذَاهُ وَشَتَمَهُ، فَلَمْ يُكَلِّمْهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَوْلَاةٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ، تَسْمَعُ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ، فَعَمَدَ إِلَى نَادِي قُرَيْشٍ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَجَلَسَ مَعَهُمْ، فَلَمْ يَلْبَثْ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْ أَقْبَلَ مُتَوَشِّحًا قَوْسَهُ، رَاجِعًا مِنْ قَنَصٍ1 لَهُ، وَكَانَ صَاحِبَ قَنَصٍ وَكَانَ إِذَا رَجَعَ مِنْ قَنَصِهِ بَدَأَ بِالطَّوَافِ بِالْكَعْبَةِ، وَكَانَ أَعَزَّ فَتًى فِي قُرَيْشٍ، وَأَشَدَّهُ شَكِيمَةً، فَلَمَّا مَرَّ بِالْمَوْلَاةِ قَالَتْ لَهُ: يَا أَبَا عُمَارَةَ لَوْ رَأَيْتَ مَا لَقِيَ ابْنُ أَخِيكَ آنِفًا مِنْ أَبِي الحكم، وجده ها هنا جَالِسًا فَآذَاهُ وَسَبَّهُ وَبَلَغَ مِنْهُ، وَلَمْ يُكَلِّمْهُ مُحَمَّدٌ، فَاحْتَمَلَ حَمْزَةُ الْغَضَبَ، لِمَا أَرَادَ اللَّهُ بِهِ مِنْ كَرَامَتَهُ، فَخَرَجَ يَسْعَى مُغِذًّا لِأَبِي جَهْلٍ، فَلَمَّا رَآهُ جَالِسًا فِي الْقَوْمِ أَقْبَلَ نَحْوَهُ، حَتَّى إِذَا قَامَ عَلَى رَأْسِهِ رَفَعَ الْقَوْسَ، فَضَرَبَهُ بِهَا، فَشَجَّهُ شَجَّةً مُنْكَرَةً، ثُمَّ قال: أتشتمه! فأنا على دينه أقوم مَا يَقُولُ، فَرُدَّ عَلَي ذَلِكَ إِنِ اسْتَطَعْتَ، فقامت رجلا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ إِلَى حَمْزَةَ لِيَنْصُرُوا أَبَا جَهْلٍ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: دَعُوا أَبَا عُمَارَةَ فَوَاللَّهِ لَقَدْ سَبَبْتُ ابْنَ أَخِيهِ سَبًّا قَبِيحًا، وَتَمَّ حَمْزَةُ عَلَى إِسْلَامِهِ فَلَمَّا أَسْلَمَ، عَرَفَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ عَزَّ وَامْتَنَعَ، وَأَنَّ حَمْزَةَ -رَضِيَ الله عنه- سيمنعه، فكفّوا بعض الشّيء2.
__________
1 القنص: الصيد.
2 مرسل: إسناده ضعيف: أخرجه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 283".

(1/103)


"إِسْلَامُ عُمَرَ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ":
وَقَالَ عَبْدُ بن حميد وغيره: حدثنا أبو عامر العقديّ، حدثنا خَارِجَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ زَيْدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ، بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَوْ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ" 1. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
وَقَالَ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "اللَّهُمَّ أَعِزَّ الدِّينَ بِعُمَرَ"2.
وَقَالَ عبد العزيز الأوسي: حدثنا الْمَاجُشُونَ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ خَاصَّةً" 3.
قَالَ إسماعيل بن أبي خالد: حدثنا قَيْسٌ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا زِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ4. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ أَحْمَدُ في "مسنده": أخبرنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان، حدثنا شُرَيْحُ بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: خَرَجْتُ أَتَعَرَّضُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي إِلَى الْمَسْجِدِ، فَقُمْتُ خَلْفَهُ، فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ الْحَاقَّةِ فَجَعَلْتُ أُعْجَبُ مِنْ تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ، فَقُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ شَاعِرٌ، كَمَا قَالَتْ قُرَيْشٌ، فَقَرَأَ {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} 5 الْآيَاتِ، فَوَقَعَ فِي قَلْبِي الإِسْلامُ كُلَّ مَوْقِعٍ6.
__________
1 صحيح: أخرجه الترمذي "3701" في كتاب المناقب، باب: في مناقب أبي حفص عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وأحمد "2/ 95" وابن سعد في "الطبقات" "2/ 142"، وأبو نعيم في "الحلية" "7502" وزاد الراوي فيه "قال: وكان أحبهما إليه عمر"، وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".
2 انظر الآتي، وقد أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "2/ 142" عن الحسن مرسلًا.
3 صحيح دون قوله "خاصة": أخرجه ابن ماجه "105" في المقدمة، باب: في فضائل أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه" "85": صحيح دون قوله "خاصة".
4 صحيح: أخرجه البخاري "3684" في كتاب فضائل الصحابة، باب: مناقب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وابن سعد في "الطبقات" "2/ 143" وأبو نعيم في "الحلية" "11977".
5 سورة الحاقة: 40، 41.
6 إسناده منقطع: أخرجه أحمد "1/ 17" وقال الهيثمي في "المجمع" "9/ 62": شريح بن عبيد لم يدرك عمر.

(1/104)


وقال أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يَحْيَى بْنُ يَعْلَى الأَسْلَمِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن الْمُؤَمَّلِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كَانَ أَوَّلُ إِسْلَامِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: ضَرَبَ أُخْتِي الْمَخَاضُ لَيْلا، فَخَرَجْتُ مِنَ الْبَيْتِ، فَدَخَلْتُ فِي أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فِي لَيْلَةٍ قَرَّةٍ، فَجَاءَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَدَخَلَ الْحِجْرَ، وَعَلَيْهِ تُبَّانٌ1، فَصَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَسَمِعْتُ شَيْئًا لَمْ أَسْمَعْ مِثْلَهُ، فَخَرَجَ، فَاتَّبَعْتُهُ فَقَالَ: "مَنْ هَذَا؟ " قُلْتُ: عُمَرُ، قَالَ: "يَا عُمَرُ مَا تَدَعُنِي لَيْلًا وَلَا نَهَارًا"، فَخَشِيتُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَيَّ فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أن لا إله إلا الله، وأنك رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "يا عُمَرُ أَسِرَّهُ". قُلْتُ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَأُعْلِنَنَّهُ، كَمَا أَعْلَنْتُ الشِّرْكَ2.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عبيد الله بن المنادي: حدثنا إسحاق الأزرق، حدثنا القاسم ابن عُثْمَانَ الْبَصْرِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: خَرَجَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مُتَقَلِّدًا السَّيْفَ، فلقيه رجل من بين زُهْرَةَ فَقَالَ لَهُ: أَيْنَ تَعْمِدُ يَا عُمَرُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ أَقْتُلَ مُحَمَّدًا، قَالَ: وَكَيْفَ تَأْمَنُ فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي زُهْرَةَ، وَقَدْ قَتَلْتَ مُحَمَّدًا؟ فَقَالَ: مَا أَرَاكَ إِلَّا قَدْ صَبَأْتَ3، قَالَ: أَفَلَا أَدُلُّكَ عَلَى الْعَجَبِ، إِنَّ ختنك4 وأختك قد صبآ وَتَرَكَا دِينَكَ. فَمَشَى عُمَرُ فَأَتَاهُمَا، وَعِنْدَهُمَا خَبَّابٌ، فَلَمَّا سَمِعَ بِحِسِّ عُمَرَ تَوَارَى فِي الْبَيْتِ، فدخل فقال: ما هذه الهيمنة؟ 5 وَكَانُوا يَقْرَءُونَ {طه} ، قَالَا: مَا عَدَا حَدِيثًا تحدّحدثناه بَيْنَنَا، قَالَ فَلَعَلَّكُمَا قَدْ صَبَأْتُمَا؟ فَقَالَ لَهُ: خَتَنُهُ: يَا عُمَرُ إِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي غير دينك؟ فوثب عليه فوطئه وَطْئًا شَدِيدًا، فَجَاءَتْ أُخْتُهُ لِتَدْفَعَهُ عَنْ زَوْجِهَا، فَنَفَحَهَا نَفْحَةً بِيَدِهِ فَدَمَّى وَجْهُهَا، فَقَالَتْ وَهِيَ غضبى: وغن كَانَ الْحَقُّ فِي غَيْرِ دِينِكَ إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَقَالَ عُمَرُ: أَعْطُونِي الْكِتَابَ الَّذِي هو عندكم فأقرؤه، وَكَانَ عُمَرُ يَقْرَأُ الْكِتَابَ، فَقَالَتْ أُخْتُهُ: إِنَّكَ رجس، وإنّه لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، فَقُمْ فَاغْتَسِلْ أَوْ توضأ، فقام فتوضأ، ثم أخذ
__________
1 التبان: سروال صغير.
2 إسناده ضعيف: أبو الزبير مدلس، وقد عنعنه، ويحيى بن يعلى ضعفه البخاري، وأبو حاتم كما في "الميزان" "9657".
3 صبأت: أي خرجت من دين إلى دين آخر.
4 ختنك: زوج أختك.
5 الهينمة: الضجة.

(1/105)


الْكِتَابَ، فَقَرَأَ {طه} حَتَّى انْتَهَى إِلَى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} 1 فَقَالَ عُمَرُ: دُلُّونِي عَلَى مُحَمَّدٍ، فَلَمَّا سَمِعَ خَبَّابٌ قَوْلَ عُمَرَ خَرَجَ فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا عُمَرُ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُونَ دَعْوَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَكَ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ: "اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَوْ بِعَمْرِو بْنِ هِشَامٍ". وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أَصْلِ الدَّارِ الَّتِي فِي أَصْلِ الصَّفَا. فَانْطَلَقَ عُمَرُ حَتَّى أَتَى الدَّارَ وَعَلَى بَابِهَا حَمْزَةُ، وَطَلْحَةُ، وَنَاسٌ، فَقَالَ حَمْزَةُ: هَذَا عُمَرُ، إِنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُسْلِمْ وَإِنْ يُرِدْ غَيْرَ ذَلِكَ يَكُنْ قَتْلُهُ عَلَيْنَا هَيِّنًا، قَالَ: وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَاخِلٌ يُوحَى إِلَيْهَ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى عُمَرَ، فَأَخَذَ بِمَجَامِعِ ثَوْبِهِ وَحَمَائِلِ السَّيْفِ فَقَالَ: "مَا أَنْتَ بِمُنْتَهٍ يَا عُمَرُ حتى نزل الله لك مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ مَا أَنْزَلَ بِالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ"؟ فَهَذَا عُمَرُ "اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلامَ بِعُمَرَ" فَقَالَ عُمَرُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ2.
وَقَدْ رَوَاهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَقَالَ فِيهِ: زَوْجُ أُخْتِهِ سَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو.
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إِنِّي لَعَلَى سَطْحٍ، فَرَأَيْتُ النَّاسَ مُجْتَمِعِينَ عَلَى رَجُلٍ وَهُمْ يَقُولُونَ: صَبَأَ عُمَرُ، فَجَاءَ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ عَلَيْهِ قَبَاءُ دِيبَاجٍ فَقَالَ: إِنْ كَانَ عُمَرُ قَدْ صَبَأَ فَمَهْ أَنَا لَهُ جَارٌ، قَالَ: فَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ قَالَ: فَعَجِبْتُ مِنْ عِزِّهِ3. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْهُ.
قَالَ الْبَكَّائِيُّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ قَالَ: أَيُّ قُرَيْشٍ أَنْقَلُ لِلْحَدِيثِ؟ قِيلَ: جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرَ الْجُمَحِيُّ، فَغَدَا عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَغَدَوْتُ أَتْبَعُ أَثَرَهُ وَأَنَا غُلامٌ أَعْقِلُ، حَتَّى جَاءَهُ فَقَالَ: أعلمت أنّي
__________
1 سورة طه: 1-14.
2 منكر: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "2/ 142-143"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 219-220"، والقاسم بن عثمان فيه مقال كما في "الميزان" "6825"، وقال الحافظ الذهبي: حدث عنه إسحاق الأزرق بمتن محفوظ، وبقصة إسلام عمر، وهي منكرة جدًّا.
قلت: يقصد بالمتن المحفوظ "اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب.." الحديث.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3865" في كتاب مناقب الأنصار، باب: إسلام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه.

(1/106)


أَسْلَمْتُ؟ فَوَاللَّهِ مَا رَاجَعَهُ حَتَّى قَامَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ، حَتَّى قَامَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَلَا إِنَّ ابْنَ الْخَطَّابِ قَدْ صَبَأَ، قَالَ يَقُولُ عُمَرُ مِنْ خَلْفِهِ: كَذَبَ، وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ، وَثَارُوا إِلَيْهِ فَمَا بَرِحَ يُقَاتِلُهُمْ، وَيُقَاتِلُونَهُ حَتَّى قَامَتِ الشَّمْسُ على رؤوسهم، قال وطلح1 فقعد وقاموا على رأسه وهوي قول: افْعَلُوا مَا بَدَا لَكُمْ، فَأَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنْ لَوْ كُنَّا ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ لَقَدْ تَرَكْنَاهَا لَكُمْ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا لَنَا، فَبَيْنَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ، إِذْ أَقْبَلَ شَيْخٌ عَلَيْهِ حُلَّةٌ حِبْرَةٌ، وَقَمِيصٌ مُوَشًّى2، حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: صَبَأَ عُمَرُ، قَالَ: فَمَهْ! رَجُلٌ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَمْرًا فَمَاذَا تُرِيدُونَ! أَتَرَوْنَ بَنِي كَعْبِ بْنِ عَدِيٍّ يُسْلِمُونَهُ! خَلُّوا عَنْهُ، قَالَ: فَوَاللَّهِ لَكَأَنَّمَا كَانُوا ثَوْبًا كُشِطَ3 عَنْهُ، فَقُلْتُ لِأَبِي بَعْدَ أَنْ هَاجَرَ: يَا أَبَهْ، مَنِ الرَّجُلُ الَّذِي زَجَرَ الْقَوْمَ عَنْكَ؟ قَالَ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ4.
وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ، مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحُنَيْنِيُّ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ لَنَا عُمَرُ: كُنْتُ أَشَدَّ النَّاسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَبَيْنَا أَنَا فِي يَوْمٍ حَارٍّ بِالْهَاجِرَةِ، فِي بَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ؛ إِذْ لَقِيَنِي رَجُلٌ فَقَالَ: عَجَبًا لك يابن الْخَطَّابِ، إِنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّكَ وَأَنَّكَ، وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْكَ هَذَا الْأَمْرُ فِي بَيْتِكَ، قُلْتُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: أُخْتُكَ قَدْ أَسْلَمَتْ، فَرَجَعْتُ مُغْضَبًا حَتَّى قَرَعْتُ الْبَابَ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ والرجلان ممّن لا شيء له ضمّهما إلى مَنْ فِي يَدِهِ سِعَةً فَيَنَالَانِ مِنْ فَضْلِ طعامه، وقد كان ضمّ إلى زَوْجِ أُخْتِي رَجُلَيْنِ، فَلَمَّا قَرَعْتُ الْبَابَ قِيلَ: "مَنْ هَذَا؟ " قِيلَ: عُمَرُ، فَتَبَادَرُوا فَاخْتَفَوْا مِنِّي، وقد كانوا يقرؤون صَحِيفَةً بَيْنَ أَيْدِيهِمْ تَرَكُوهَا أَوْ نَسَوْهَا، فَقَامَتْ أُخْتِي تَفْتَحُ الْبَابَ، فَقُلْتُ: يَا عَدُوَّةَ نَفْسِهَا، أَصَبَأْتِ، وَضَرَبْتُهَا بِشَيْءٍ فِي يَدِي عَلَى رَأْسِهَا، فسال الدم وبكت، وقالت: يا بن الْخَطَّابِ مَا كُنْتَ فَاعِلا فَافْعَلْ فَقَدْ صَبَأْتُ، قَالَ: وَدَخَلْتُ حَتَّى جَلَسْتُ عَلَى السَّرِيرِ، فَنَظَرْتُ إِلَى الصَّحِيفَةِ فَقُلْتُ: مَا هَذَا نَاوِلِينِهَا، قَالَتْ: لست
__________
1 طلح: فسد، والمراد هنا أعيا.
2 موشى: مزخرف.
3 كشط: زال.
4 إسناده حسن: أخرجه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 330"، وقال الحافظ ابن كثير في "البداية" "2/ 98": هذا إسناد جيد قوي.

(1/107)


مِنْ أَهْلِهَا، أَنْتَ لا تَطَهِّرُ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَهَذَا كِتَابٌ لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ، فَمَا زِلْتُ بِهَا حَتَّى نَاوَلَتْنِيهَا، فَفَتَحْتُهَا، فَإِذَا فِيهَا {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فَكُلَّمَا مَرَرْتُ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ذُعِرْتُ مِنْهُ، فَأَلْقَيْتُ الصَّحِيفَةَ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى نَفْسِي فَتَنَاوَلْتُهَا، فإذا فيها {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 1 فذعرت، فقرأت إلى {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} 2 فقلت: أشهد ن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَخَرَجُوا إِلَيَّ مُتَبَادِرِينَ وَكَبَّرُوا، وَقَالُوا: أَبْشِرْ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَعَا يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ أَعِزَّ دِينَكَ بِأَحَبِّ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ إِمَّا أَبُو جَهْلٍ وَإِمَّا عُمَرُ"، وَدَلُّونِي عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَيْتٍ بِأَسْفَلِ الصَّفَا، فَخَرَجْتُ حَتَّى قَرَعْتُ الْبَابَ، فَقَالُوا: مَنْ؟ قُلْتُ: ابْنُ الْخَطَّابِ، وَقَدْ عَلِمُوا شِدَّتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فما اجْتَرَأَ أَحَدٌ أَنْ يَفْتَحَ الْبَابَ، حَتَّى قَالَ: "افْتَحُوا لَهُ" فَفَتَحُوا لِي، فَأَخَذَ رَجُلانِ بِعَضُدِي، حَتَّى أَتَيَا بِيَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: خَلُّوا عَنْهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِمَجَامِعِ قَمِيصِي وَجَذَبَنِي إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "أَسْلِمْ يَابْنَ الْخَطَّابِ، اللَّهُمَّ اهْدِهِ" فَتَشَهَّدْتُ، فَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ تَكْبِيرَةً سُمِعَتْ بِفِجَاجِ مَكَّةَ، وَكَانُوا مُسْتَخْفِينَ، فَلَمْ أَشَأْ أَنْ أَرَى رَجُلًا يضرِب ويُضرب إِلَّا رَأَيْتُهُ، وَلَا يُصِيبُنِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَجِئْتُ خَالِي وَكَانَ شَرِيفًا، فَقَرَعْتُ عَلَيْهِ الْبَابَ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قُلْتُ: ابْنُ الْخَطَّابِ وَقَدْ صَبَأْتُ قَالَ: لَا تَفْعَلْ، ثُمَّ دَخَلَ وَأَجَافَ الْبَابَ دُونِي.
فَقُلْتُ: مَا هَذَا بِشَيْءٍ، فَذَهَبْتُ إِلَى رَجُلٍ مِنْ عُظَمَاءِ قُرَيْشٍ، فَنَادَيْتُهُ، فَخَرَجَ إِلَيَّ، فَقُلْتُ مثل ما قال لِخَالِي، وَقَالَ لِي مِثْلَ مَا قَالَ خَالِي، فَدَخَلَ وَأَجَافَ الْبَابَ دُونِي فَقُلْتُ: مَا هَذَا بشيء، إنّ المسلمين ويضربون وَأَنَا لَا أُضْرَبُ، فَقَالَ لِي رَجُلٌ: أَتُحِبُّ أَنْ يُعْلَمَ بِإِسْلَامِكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِذَا جَلَسَ النَّاسُ فِي الْحِجْرِ فَأْتِ فُلَانًا، لِرَجُلٍ لَمْ يَكُنْ يَكْتُمُ السِّرَّ، فَقُلْ لَهُ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ إِنِّي قَدْ صَبَأْتُ، فَإِنَّهُ قَلَّمَا يَكْتُمُ السِّرَّ، فَجِئْتُ، وَقَدِ اجْتَمَعَ النَّاسُ فِي الْحِجْرِ، فَقُلْتُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ: إِنِّي قَدْ صَبَأْتُ، قَالَ: أَوَقَدْ فَعَلْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: إِنَّ ابْنَ الْخَطَّابِ قَدْ صَبَأَ، فَبَادَرُوا إِلَيَّ، فَمَا زِلْتُ أَضْرِبُهُمْ وَيَضْرِبُونَنِي، وَاجْتَمَعَ عَلَيَّ النَّاسُ، قَالَ خَالِي: مَا هَذِهِ الْجَمَاعَةُ؟ قِيلَ: عُمَرُ قَدْ صَبَأَ، فَقَامَ عَلَى الْحِجْرِ، فَأَشَارَ بِكُمِّهِ: أَلَا إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ ابْنَ أُخْتِي، فَتَكَشَّفُوا عَنِّي، فَكُنْتُ لَا أَشَاءُ أَنْ أَرَى رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَضْرِبُ وَيُضْرَبُ إِلَّا رَأَيْتُهُ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا بِشَيْءٍ حَتَّى يُصِيبَنِي ما
__________
1 سورة الحديد: 1.
2 سورة الحديد: 7.

(1/108)


يُصِيبُ الْمُسْلِمِينَ، فَأَتَيْتُ خَالِي فَقُلْتُ: جِوَارُكَ رُدَّ عَلَيْكَ، فَمَا زِلْتُ أَضْرِبُ وَأُضْرَبُ حَتَّى أَعَزَّ الله الإسلام1.
"سبب تسمية عمر بن الخطاب بالفاروق":
وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ قَالَ: سَأَلْتُ عُمَرَ، لِأَيِّ شَيْءٍ سُمِّيتَ الْفَارُوقَ؟ فَقَالَ: أَسْلَمَ حَمْزَةُ قَبْلِي بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَخَرَجْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَأَسْرَعَ أَبُو جَهْلٍ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسُبُّهُ، فَأُخْبِرَ حَمْزَةُ، فَأَخَذَ قَوْسَهُ وَجَاءَ إِلَى الْمَسْجِدِ، إِلَى حَلْقَةِ قُرَيْشٍ الَّتِي فِيهَا أَبُو جَهْلٍ، فَاتَّكَأَ عَلَى قَوْسِهِ مُقَابِلَ أَبِي جَهْلٍ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَعَرَفَ أَبُو جَهْلٍ الشَّرَّ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ: مَا لَكَ يَا أَبَا عُمَارَةَ؟ فَرَفَعَ الْقَوْسَ فَضَرَبَ بِهَا أَخْدَعَيْهِ2، فَقَطَعَهُ فَسَالَتِ الدِّمَاءُ، فَأَصْلَحَتْ ذَلِكَ قُرَيْشٌ مَخَافَةَ الشَّرِّ، قَالَ: وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُخْتَفٍ فِي دَارِ الْأَرْقَمِ بْنِ أَبِي الْأَرْقَمِ الْمَخْزُومِيِّ، فَانْطَلَقَ حَمْزَةُ فَأَسْلَمَ، وَخَرَجْتُ بَعْدَهُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَإِذَا فُلَانٌ الْمَخْزُومِيُّ فَقُلْتُ: أَرَغِبْتَ عَنْ دِينِ آبَائِكَ وَاتَّبَعْتَ دِينَ مُحَمَّدٍ؟ قال: إن فعلت فقد فعله من وأعظم عَلَيْكَ حَقًّا مِنِّي، قُلْتُ: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: أُخْتُكَ وَخَتَنُكَ، فَانْطَلَقْتُ فَوَجَدْتُ هَمْهَمَةً3، فَدَخَلْتُ فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَمَا زَالَ الْكَلَامُ بَيْنَنَا حَتَّى أَخَذْتُ بِرَأْسِ خَتَنِي فَضَرَبْتُهُ وَأَدْمَيْتُهُ، فَقَامَتْ إِلَيَّ أُخْتِي فَأَخَذَتْ بِرَأْسِي وَقَالَتْ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى رَغْمِ أَنْفِكَ، فَاسْتَحْيَيْتُ حِينَ رَأَيْتُ الدِّمَاءَ، فَجَلَسْتُ وَقُلْتُ: أَرُونِي هَذَا الْكِتَابَ، فَقَالَتْ: إِنَّهُ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، فَقُمْتُ فَاغْتَسَلْتُ، فَأَخْرَجُوا إِلَيَّ صَحِيفَةً فِيهَا "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" قُلْتُ: أَسْمَاءُ طَيِّبَةٌ طَاهِرَةٌ {طه، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} إلى قوله {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 4 فَتَعَظَّمْتُ فِي صَدْرِي، وَقُلْتُ: مِنْ هَذَا فَرَّتْ قُرَيْشٌ، فَأَسْلَمْتُ، وَقُلْتُ: أَيْنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: فَإِنَّهُ فِي دَارِ الْأَرْقَمِ، فَأَتَيْتُ فَضَرَبْتُ الْبَابَ، فَاسْتَجْمَعَ الْقَوْمُ، فَقَالَ لَهُمْ حَمْزَةُ: مَا لَكُمْ؟ قَالُوا: عُمَرُ، قَالَ: وَعُمَرُ! افْتَحُوا لَهُ الْبَابَ، فَإِنْ أَقْبَلَ قَبِلْنَا منه، وإن أدبر قتلناه،
__________
1 إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 216"، وأسامة بن زيد بن أسلم ضعيف الحفظ كما في "التقريب" "315".
2 الأخدع: عرق في العنق.:
3 الهمهمة: الكلام الخفي.
4 سورة طه: 1-8.

(1/109)


فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَخَرَجَ فَتَشَهَّدَ عُمَرُ، فَكَبَّرَ أَهْلُ الدَّارِ تَكْبِيرَةً سَمِعَهَا أَهْلُ الْمَسْجِدِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- السنا على الحقّ؟ قال: "بلى"، فقلت: فيم الِاخْتِفَاءُ، فَخَرَجْنَا صَفَّيْنِ أَنَا فِي أَحَدِهِمَا، وَحَمْزَةُ فِي الْآخَرِ، حَتَّى دَخَلْنَا الْمَسْجِدَ، فَنَظَرَتْ قُرَيْشٌ إِلَيَّ وَإِلَى حَمْزَةَ، فَأَصَابَتْهُمْ كَآبَةٌ شَدِيدَةٌ، فَسَمَّانِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "الْفَارُوقَ" يَوْمَئِذٍ وَفَرْقٌ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: أَسْلَمَ عُمَرُ بَعْدَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا وَعَشْرِ نِسْوَةٍ، فَلَمَّا أَسْلَمَ ظَهَرَ الْإِسْلَامُ بمكة1.
وقال الواقديّ: حدثنا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ عُمَرَ أَسْلَمَ بَعْدَ أَنْ دَخَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَارَ الْأَرْقَمِ، وَبَعْدَ أَرْبَعِينَ أَوْ نَيِّفٍ وَأَرْبَعِينَ مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ، فَلَمَّا أَسْلَمَ أُنْزِلَ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اسْتَبْشَرَ أَهْلُ السَّمَاءِ بِإِسْلَامِ عُمَرَ2.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: كَانَ إِسْلَامُ عُمَرَ بَعْدَ خُرُوجِ مَنْ خَرَجَ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَى الْحَبَشَةِ. فَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرحمن بن الإرث، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أُمِّهِ لَيْلَى قَالَتْ: كَانَ عُمَرُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَلَيْنَا فِي إِسْلامِنَا، فَلَمَّا تَهَيَّأْنَا لِلْخُرُوجِ إِلَى الْحَبَشَةِ، جَاءَنِي عُمَرُ، وَأَنَا عَلَى بَعِيرٍ، نُرِيدُ أَنْ نَتَوَجَّهَ، فَقَالَ: إِلَى أَيْنَ يَا أُمَّ عَبْدِ اللَّهِ؟ فَقُلْتُ: قَدْ آذَيْتُمُونَا فِي دِينِنَا، فَنَذْهَبَ فِي أَرْضِ اللَّهِ حَيْثُ لَا نُؤْذَى فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، فَقَالَ: صَحِبَكُمُ اللَّهُ، ثُمَّ ذَهَبَ، فَجَاءَ زَوْجِي عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا رَأَيْتُ مِنْ رِقَّةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: تَرْجِينَ أَنْ يُسْلِمَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَوَاللَّهِ لَا يُسْلِمُ حَتَّى يُسْلِمَ حِمَارُ الْخَطَّابِ. يَعْنِي مِنْ شِدَّتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: وَالْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ بِضْعٌ وَأَرْبَعُونَ رَجُلا، وَإِحْدَى عشرة امرأة3.
__________
1 مرسل إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "2/ 143" والواقدي متروك.
2 مرسل إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه ابن سعد في المصدر السابق.
3 معضل.

(1/110)


"الْهِجْرَةُ الْأُولَى إِلَى الْحَبَشَةِ ثُمَّ الثَّانِيَةُ":
قَالَ يَعْقُوبُ الْفَسَوِيُّ فِي "تَارِيخِهِ":
حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ، حَدَّثَنِي بَشَّارُ بْنُ مُوسَى الْخَفَّافُ، حدثنا الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ الْبُرْجُمِيُّ، إِمَامُ مَسْجِدِ مُحَمَّدِ بن واسع، حدثنا قَتَادَةُ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَهْلِهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ. سَمِعْتُ النَّضْرَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا حَمْزَةَ يَعْنِي أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: خَرَجَ عُثْمَانُ بِرُقَيَّةَ بِنْتِ رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْحَبَشَةِ، فَأَبْطَأَ خَبَرُهُمْ، فَقَدِمَتِ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ قَدْ رَأَيْتُ خَتَنَكَ وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ، فَقَالَ: "عَلَى أَيِّ حَالٍ رَأَيْتِهِمَا"؟ قَالَتْ: رَأَيْتُهُ حَمَلَ امْرَأَتَهُ عَلَى حِمَارٍ مِنْ هَذِهِ الدَّبَّابَةِ، وَهُوَ يَسُوقُهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَحِبَهُمَا اللَّهُ، إِنَّ عُثْمَانَ أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ بِأَهْلِهِ بَعْدَ لُوطٍ"1.
وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ بَشَّارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن إدريس، حدثنا ابْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعُرْوَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَصَلْتُ الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: لَمَّا أُمِرْنَا بِالْخُرُوجِ إِلَى الْحَبَشَةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ رَأَى مَا يُصِيبُنَا مِنَ الْبَلَاءِ: "الْحَقُوا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ فَإِنَّ بِهَا مَلِكَهَا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ، فَأَقِيمُوا بِبِلَادِهِ حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَخْرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ"، فَقَدِمْنَا عَلَيْهِ فَاطْمَأْنَنَّا فِي بِلَادِهِ2 الْحَدِيثَ.
قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي تَاسِعِ "الْمُخَلَّصِيَّاتِ": وَرَوَى ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ.
وَقَالَ الْبَكَّائِيُّ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ3: فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا يُصِيبُ أَصْحَابَهُ مِنَ الْبَلَاءِ، وَمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْعَافِيَةِ بِمَكَانِهِ مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ عَمِّهِ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ
__________
1 مرسل: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 297".
2 إسناده صحيح: أخرجه أحمد "1/ 201-203"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 301-306"، وأبو نعيم في "الحلية" "357" مطولًا، وقال الألباني في تحقيق "فقه السيرة" "ص135": سنده صحيح.
3 ذكره ابن إسحاق بدون إسناد كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 308-218".

(1/111)


أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنَ الْبَلَاءِ، قَالَ لَهُمْ: "لَوْ خَرَجْتُمْ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ وَهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ، حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ" فَخَرَجَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ، وَفِرَارًا بِدِينِهِمْ إِلَى اللَّهِ.
فَخَرَجَ عُثْمَانُ بِزَوْجَتِهِ، وَأَبُو حُذَيْفَةَ وَلَدُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عبد شمس بزوجته سهلة سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، فَوَلَدَتْ لَهُ بِالْحَبَشَةِ مُحَمَّدًا، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ الْعَبْدَرِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيُّ، وَزَوْجَتُهُ أُمُّ سَلَمَةَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ الْجُمَحِيُّ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ حَلِيفُ آلِ الْخَطَّابِ، وَامْرَأَتُهُ لَيْلَى بِنْتُ أَبِي حُثْمَةَ الْعَدَوِيَّةُ، وَأَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمِ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى الْعَامِرِيُّ، وَسُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ، وَهُوَ سُهَيْلُ بْنُ وَهْبٍ الْحَارِثِيُّ، فَكَانُوا أَوَّلَ مَنْ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ.
قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَتَتَابَعَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْحَبَشَةِ. ثُمَّ سَمَّى ابْنُ إِسْحَاقَ جَمَاعَتَهُمْ وَقَالَ: فَكَانَ جَمِيعُ مَنْ لَحِقَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، أَوْ وُلِدَ بِهَا، ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا فَعَبَدُوا اللَّهَ وَحَمِدُوا جِوَارَ النَّجَاشِيِّ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ السَّهْمِيُّ:
يَا رَاكِبًا بَلِّغَا عَنِّي مُغَلْغَلَةً ... مَنْ كَانَ يَرْجُو بَلَاغَ اللَّهِ وَالدِّينِ1
كُلَّ امْرِئٍ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ مُضْطَهَدٍ ... بِبَطْنِ مَكَّةَ مَقْهُورٍ وَمَفْتُونِ
أَنَّا وَجَدْنَا بِلَادَ اللَّهِ وَاسِعَةً ... تُنْجِي مِنَ الذُّلِّ وَالْمَخْزَاةِ والهون
فلا تقيموا على ذلّ الحياة وخز ... ي فِي الْمَمَاتِ وَعَيْبٍ غَيْرِ مَأْمُونِ
إِنَّا تَبِعْنَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَاطَّرَحُوا ... قَوْلَ النَّبِيِّ وَعَالَوْا فِي الْمَوَازِينِ2
فَاجْعَلْ عَذَابَكَ فِي الْقَوْمِ الَّذِينَ بَغَوْا ... وَعَائِذٌ بِكَ أَنْ يَعْلُوا فَيَطْغُونِي
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ يُعَاتِبُ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ ابْنَ عَمِّهِ، وَكَانَ يُؤْذِيهِ:
أَتَيْمَ بْنَ عَوْفٍ وَالَّذِي جاء بغضةً ... ومن دونه الشرّ مان وَالْبَرْكُ أَكْتَعُ3
أَأَخْرَجْتَنِي مِنْ بَطْنِ مَكَّةَ آثِمًا ... وأسكنتني في صرح بيضاء تقذع4
__________
1 مغلغلة: رسالة.
2 عالوا: خانوا.
3 الشرمان: تثنية شرم، وهو الخليج من البحر. والبرك: الإبل الباركة.
4 صرح بيضاء: مدينة الحبشة، وتقذع: تكره.

(1/112)


تَرِيشُ نِبَالًا لَا يُوَاتِيكَ رِيشُهَا ... وَتَبْرِي نِبَالًا رِيشَهَا لَكَ أَجْمَعُ
وَحَارَبْتَ أَقْوَامًا كِرَامًا أَعِزَّةً ... وَأَهْلَكْتَ أَقْوَامًا بِهِمْ كُنْتَ تَفْزَعُ
سَتَعْلَمُ إِنْ نَابَتْكَ يَوْمًا مُلِمَّةٌ ... وَأَسْلَمَكَ الْأَوْبَاشُ مَا كُنْتَ تَصْنَعُ
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا ائْتَمَرُوا وَاشْتَدَّ مَكْرُهُمْ، وَهَمُّوا بِقَتْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْ إِخْرَاجِهِ، فَعَرَضُوا عَلَى قَوْمِهِ أَنْ يُعْطُوهُمْ دِيَتَهُ وَيَقْتُلُوهُ، فأبوا حميّةً.
"عدم ثبوت قصة الغرانيق":
وَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شِعْبَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْحَبَشَةِ فَخَرَجُوا مَرَّتَيْنِ؛ رَجَعَ الَّذِينَ خَرَجُوا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى حِينَ أُنْزِلَتْ سُورَةُ النَّجْمِ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ يَذْكُرُ آلِهَتَنَا بِخَيْرٍ قَرَرْنَاهُ وَأَصْحَابَهُ، وَلَكِنَّهُ لَا يذكر من حالفه من اليهود والنّصارى بمصل مَا يَذْكُرُ بِهِ آلِهَتَنَا مِنَ الشَّتْمِ، وَالشَّرِّ. وكأن رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَمَنَّى هُدَاهُمْ، فَأُنْزِلَتْ {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} 1، فَأَلْقَى الشَّيْطَانُ عِنْدَهَا كَلِمَاتٍ "وَإِنَّهُنَّ الْغَرَانِيقُ الْعُلَا، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى" فَوَقَعَتْ فِي قَلْبِ كُلِّ مُشْرِكٍ بِمَكَّةَ، وَدَالَتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ وَتَبَاشَرُوا بِهَا. وقالوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ رَجَعَ إِلَى دِينِنَا، فَلَمَّا بلغ آخر النّجم سجد النّبيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَسَجَدَ كُلُّ مَنْ حَضَرَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ مُشْرِكٍ، غَيْرَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ كَانَ شَيْخًا كَبِيرًا رَفَعَ مِلْءَ كَفَّيْهِ تُرَابًا فَسَجَدَ عَلَيْهِ، فَعَجِبَ الْفَرِيقَانِ كِلَاهُمَا مِنْ جَمَاعَتِهِمْ فِي السُّجُودِ، بِسُجُودِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَجِبَ الْمُسْلِمُونَ بِسُجُودِ الْمُشْرِكِينَ مَعَهُمْ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُسْلِمُونَ سَمِعُوا مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَاطْمَأَنُّوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابُهُ، لما أَلْقَى الشَّيْطَانُ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَاطْمَأَنُّوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابِهِ، لِمَا أُلْقِيَ فِي أُمْنِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَحَدَّثَهُمُ الشَّيْطَانُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ قَرَأَهَا فِي السَّجْدَةِ، فَسَجَدُوا تَعْظِيمًا لِآلِهَتِهِمْ.
وَفَشَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ فِي النَّاسِ، وَأَظْهَرَهَا الشَّيْطَانُ، حَتَّى بَلَغَتْ أَرْضَ الْحَبَشَةِ وَمَنْ بِهَا مِنَ المسلمين عثمان ين مَظْعُونٍ وَأَصْحَابِهِ، وَحَدَّثُوا أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ قَدْ أَسْلَمُوا كُلُّهُمْ وَصَلُّوا، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَمِنُوا بِمَكَّةَ، فَأَقْبَلُوا سِرَاعًا، وَقَدْ نَسَخَ اللَّهُ مَا ألقى
__________
1 سورة النجم: 19-20.

(1/113)


الشَّيْطَانُ، وَأُنْزِلَتْ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} 1 الْآيَاتِ. فَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ قَضَاءَهُ وَبَرَّأَهُ مِنْ سَجْعِ الشَّيْطَانِ انْقَلَبَ الْمُشْرِكُونَ بِضَلَالَتِهِمْ وَعَدَاوَتِهِمْ2.
وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَأَصْحَابُهُ، فِيمَنْ رَجَعَ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ إِلَّا بِجِوَارٍ، فَأَجَارَ الوليد بن المغيرة عثمان ين مَظْعُونٍ، فَلَمَّا رَأَى عُثْمَانُ مَا يَلْقَى أَصْحَابُهُ مِنَ الْبَلَاءِ، وَعَذَّبَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بِالسِّيَاطِ وَالنَّارِ، وَعُثْمَانُ مُعَافًى لَا يُعْرَضُ لَهُ، اسْتَحَبَّ الْبَلَاءَ، فَقَالَ لِلْوَلِيدِ: يَا عَمُّ قَدْ أَجَرْتَنِي، وَأُحِبُّ أَنْ تُخْرِجَنِي إِلَى عَشِيرَتِكَ فَتَبَرَّأَ مِنِّي، فَقَالَ: يابن أَخِي لَعَلَّ أَحَدًا آذَاكَ أَوْ شَتَمَكَ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا اعْتَرَضَ لِي أَحَدٌ وَلَا آذَانِي، فَلَمَّا أَبَى إِلَّا أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْهُ أَخْرَجَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَقُرَيْشٌ فِيهِ، كَأَحْفَلِ مَا كَانُوا، وَلَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ الشَّاعِرُ يُنْشِدُهُمْ، فَأَخَذَ الْوَلِيدُ بِيَدِ عُثْمَانَ وَقَالَ: إِنَّ هَذَا قَدْ حَمَلَنِي عَلَى أَنْ أَتَبَرَّأَ مِنْ جِوَارِهِ، وَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُ، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ، فَقَالَ عُثْمَانُ: صَدَقَ، أَنَا وَاللَّهِ أَكْرَهْتُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ مِنِّي بَرِيءٌ، ثُمَّ جَلَسَ مَعَ القوم فنالوا منه.
"الهجرة الثانية إلى الحشبة":
قَالَ مُوسَى: وَخَرَجَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابُهُ فِرَارًا بِدِينِهِمْ إِلَى الْحَبَشَةِ، فَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَعُمَارَةَ بْنَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَمَرُوهُمَا أَنْ يُسْرِعَا فَفَعَلَا، وَأَهْدَوْا لِلنَّجَاشِيِّ فَرَسًا وَجُبَّةَ دِيبَاجٍ3، وَأَهْدَوْا لِعُظَمَاءِ الْحَبَشَةِ هَدَايَا، فَقَبِلَ النَّجَاشِيُّ هَدِيَّتَهُمْ، وَأَجْلَسَ عَمْرًا عَلَى سَرِيرِهِ، فَقَالَ: إِنَّ بِأَرْضِكَ رِجَالًا مِنَّا سُفَهَاءَ لَيْسُوا عَلَى دِينِكَ وَلَا دِينِنَا، فَادْفَعْهُمْ إِلَيْنَا، فَقَالَ: حتى أكلّمهم وأعلم على أيّ
__________
1 سورة الحج: 52.
2 حديث الغرانيف هذا ورد من عدة طرق مرسلة، وقد مال الحافظ ابن حجر في "الفتح" "8/ 293" إلى تقوية الحديث لكثرة طرقه، وله في ذلك بحث مطول، وخالفه الحافظ ابن كثير في "تفسيره" "3/ 229-230" فذكر أن طرق هذه القصة كلها مرسلة، ولم يرها مسندة من وجه صحيح، وكذلك ضعيف حديث الغرانيق العلامة ناصر الدين الألباني في بحث قيم ذكر فيه طرق الحديث المسندة والمرسلة، وسبب اختلاف أهل العلم في تصحيح هذا الحديث وتضعيفه هو أن الحديث إذا ورد من طرق مرسلة هل يتقوى بها أم لا؟ فالثاني هو الراجح. ومحل بسط ذلك كتب المصطلح.
3 الديباج: نوع من الحرير.

(1/114)


شَيْءٍ هُمْ، فَقَالَ عَمْرٌو: هُمْ أَصْحَابُ الرَّجُلِ الَّذِي خَرَجَ فِينَا، وَإِنَّهُمْ لَا يَشْهَدُونَ أَنَّ عِيسَى ابْنُ اللَّهِ، وَلَا يَسْجُدُونَ لَكَ إِذَا دَخَلُوا، فَأَرْسَلَ النَّجَاشِيُّ إِلَى جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ، فَلَمْ يَسْجُدْ لَهُ وَلَا أَصْحَابُهُ وَحَيَّوْهُ بِالسَّلَامِ، فَقَالَ عَمْروٌ: أَلَمْ نُخْبِرْكَ بِخَبَرِ الْقَوْمِ، فَقَالَ النَّجَاشِيُّ: حَدِّثُونِي أَيُّهَا الرَّهْطُ، مَا لَكُمْ لَا تُحَيُّونِي كما يحيّيني مَنْ أَتَانِي مِنْ قَوْمِكُمْ، وَأَخْبِرُونِي مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى وَمَا دِينُكُمْ؟ أَنَصَارَى أَنْتُمْ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: أَفَيَهُودٌ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَعَلَى دِينِ قَوْمِكُمْ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَمَا دِينُكُمْ؟ قَالُوا: الْإِسْلَامُ، قَالَ: وَمَا الْإِسْلَامُ؟ قَالُوا: نَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، قَالَ: مَنْ جَاءَكُمْ بِهَذَا؟ قَالُوا: جَاءَنَا بِهِ رَجُلٌ مِنَّا قَدْ عَرَفْنَا وَجْهَهُ وَنَسَبَهُ، بَعَثَهُ الله كما بعث الرسل إلى مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، فَأَمَرَنَا بِالْبِرِّ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَفَاءِ وَالْأَمَانَةِ، وَنَهَانَا أَنْ نَعْبُدَ الْأَوْثَانَ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ، فَصَدَّقْنَاهُ، وَعَرَفْنَا كَلَامَ اللَّهِ، فَعَادَانَا قَوْمُنَا وَعَادَوْهُ وَكَذَّبُوهُ، وَأَرَادُونَا عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، فَفَرَرْنَا إِلَيْكَ بِدِينِنَا وَدِمَائِنَا مِنْ قَوْمِنَا، فَقَالَ النّجاشيّ: والله إن خرج هذا الأمر مِنَ الْمِشْكَاةِ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا أَمْرُ عِيسَى، قال: وأمّا التحيّة فإنّ رسولنا خبرنا أَنَّ تَحِيَّةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ السَّلَامُ، فَحَيَّيْنَاكَ بِهَا، وَأَمَّا عِيسَى فَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ وَابْنُ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ.
فَخَفَضَ النَّجَاشِيُّ يَدَهُ إِلَى الْأَرْضِ، وَأَخَذَ عُودًا فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زَادَ ابْنُ مَرْيَمَ عَلَى هَذَا وَزْنَ هَذَا الْعُودِ، فَقَالَ عُظَمَاءُ الْحَبَشَةِ: وَاللَّهِ لَئِنْ سَمِعَتْ هَذَا الْحَبَشَةُ لَتَخْلَعَنَّكَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَقُولُ فِي عِيسَى غَيْرَ هَذَا أَبَدًا، وَمَا أَطَاعَ اللَّهَ النَّاسُ فِيَّ حِينَ رَدَّ إِلَيَّ مُلْكِي، فَأَنَا أُطِيعُ النَّاسَ فِي دِينِ اللَهِ! مَعَاذَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.
وَكَانَ أَبُو النَّجَاشِيِّ مَلِكَ الْحَبَشَةَ، فَمَاتَ وَالنَّجَاشِيُّ صَبِيٌّ، فَأَوْصَى إِلَى أَخِيهِ أَنَّ إِلَيْكَ مُلْكَ قَوْمِكَ حَتَّى يَبْلُغَ ابْنِي، فَإِذَا بَلَغَ فَلَهُ الْمُلْكُ، فَرَغِبَ أَخُوهُ فِي الْمُلْكِ، فَبَاعَ النَّجَاشِيَّ لِتَاجِرٍ، وَبَادَرَ بِإِخْرَاجِهِ إِلَى السَّفِينَةِ، فَأَخَذَ اللَّهُ عَمَّهُ قَعْصًا1 فَمَاتَ، فَجَاءَتِ الْحَبَشَةُ بِالتَّاجِ، وَأَخَذُوا النَّجَاشِيَّ فَمَلَّكُوهُ، وَزَعَمُوا أَنَّ التَّاجِرَ قَالَ: مَا لِي بُدٌّ مِنْ غُلَامِي أَوْ مَالِي، قَالَ النَّجَاشِيُّ: صَدَقَ، ادْفَعُوا إِلَيْهِ مَالَهُ.
قَالَ: فَقَالَ النَّجَاشِيُّ حِينَ كَلَّمَهُ جَعْفَرٌ: رُدُّوا إِلَى هَذَا هديّته -يعني عمرًا-
__________
1 القعص: الطعن.

(1/115)


وَاللَّهِ لَوْ رَشَوْنِي عَلَى هَذَا دَبْرَ ذَهَبٍ -وَالدَّبْرُ بِلُغَتِهِ الْجَبْلُ- مَا قَبِلْتُهُ، وَقَالَ لِجَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ: امْكُثُوا آمِنِينَ، وَأَمَرَ لَهُمْ بِمَا يُصْلِحُهُمْ مِنَ الرِّزْقِ.
وَأَلْقَى اللَّهُ الْعَدَاوَةَ بَيْنَ عَمْرٍو وَعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ فِي مَسِيرِهِمَا، فَمَكَرَ بِهِ عَمْرٌو وَقَالَ: إِنَّكَ رَجُلٌ جَمِيلٌ، فَاذْهَبْ إِلَى امْرَأَةِ النَّجَاشِيِّ فَتَحَدَّثْ عِنْدَهَا إِذَا خَرَجَ زَوْجُهَا، فإنّ ذلك عون لنا فِي حَاجَتِنَا، فَرَاسَلَهَا عُمَارَةُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا انْطَلَقَ عَمْرٌو إِلَى النَّجَاشِيِّ فَقَالَ: إِنَّ صَاحِبِي هَذَا صَاحِبُ نِسَاءٍ، وَإِنَّهُ يُرِيدُ أَهْلَكَ فَاعْلَمْ عِلْمَ ذَلِكَ، فَبَعَثَ النَّجَاشِيُّ، فَإِذَا عُمَارَةُ عِنْدَ امْرَأَتِهِ، فَأَمَرَ بِهِ فَنَفَخَ فِي إِحْلِيلِهِ1 سَحَرَةٌ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي جَزِيرَةٍ مِنَ الْبَحْرِ، فَجُنَّ، وَصَارَ مَعَ الْوَحْشِ، وَرَجَعَ عَمْرٌو خَائِبَ السَّعْيِ.
وَقَالَ الْبَكَّائِيُّ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ، جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ النَّجَاشِيَّ، أَمِنَّا عَلَى دِينِنَا، وَعَبَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى، لَا نُؤذَى، وَلَا نَسْمَعُ مَا نَكْرَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا ائْتَمَرُوا أَنْ يَبْعَثُوا إِلَى النّجاشيّ رجلين جلدين، وأن يعدوا لِلنَّجَاشِيِّ، فَبَعَثُوا بِالْهَدَايَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. وَذَكَرَ الْقِصَّةَ بِطُولِهَا2، وَسَتَأْتِي -إِنْ شَاءَ اللَّهُ- رَوَاهَا جَمَاعَةٌ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ الْهِجْرَةَ الثَّانِيَةَ كَانَتْ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الْمَبْعَثِ.
وَقَالَ حُدَيْجُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: بَعَثَنا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى النَّجَاشِيِّ، وَنَحْنُ ثَمَانُونَ رَجُلًا، وَمَعَنَا جَعْفَرٌ، وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، وَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ عُمَارَةَ، وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَبَعَثُوا مَعَهُمَا بِهَدِيَّةٍ إِلَى النَّجَاشِيِّ، فَلَمَّا دَخَلَا عَلَيْهِ سَجَدَا لَهُ، وَبَعَثَا إِلَيْهِ بِالْهَدِيَّةِ، وَقَالَا: إِنَّ نَاسًا مِنْ قَوْمِنَا رَغِبُوا عَنْ دِينِنَا، وَقَدْ نَزَلُوا أَرْضَكَ، فَبَعَثَ إليهم، فقال لنا جعفر: أنا خطيبكم، قَالَ: فَاتَّبَعُوهُ حَتَّى دَخَلُوا عَلَى النَّجَاشِيِّ، فَلَمْ يَسْجُدُوا لَهُ، فَقَالَ: وَمَا لَكُمْ لَمْ تَسْجُدُوا لِلْمَلِكِ؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ إِلَيْنَا نبيّه، فأمرنا أن لا يسجد إلاّ الله، فَقَالَ النَّجَاشِيُّ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ عَمْرٌو: إِنَّهُمْ يُخَالِفُونَكَ فِي عِيسَى، قَالَ: فَمَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى وَأُمِّهِ؟ قَالَ: نَقُولُ كَمَا قَالَ اللَّهُ، وهو روح الله
__________
1 الإحليل: القبل من الرجل.
2 تقدم تخريجه قريبًا.

(1/116)


وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ، الَّتِي لَمْ يَمَسَّهَا بَشَرٌ، وَلَمْ يَفْرِضْهَا وَلَدٌ، فَتَنَاوَلَ النَّجَاشِيُّ عُودًا فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانَ، مَا تَزِيدُونَ عَلَى مَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ مَا يَزِنُ هَذَا، فَمَرْحَبًا بِكُمْ وَبِمَنْ جِئْتُمْ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي عِنْدَهُ فَأَحْمِلَ نَعْلَيْهِ، أَوْ قَالَ أَخْدُمَهُ، فَانْزِلُوا حَيْثُ شِئْتُمْ مِنْ أَرْضِي، فَجَاءَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَشَهِدَ بَدْرًا1. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي "مُسْنَدِهِ" عَنْ حُدَيْجٍ.
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى: أنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ نَنْطَلِقَ مَعَ جَعْفَرٍ إِلَى الْحَبَشَةِ.
وَسَاقَ كَحَدِيثِ حُدَيْجٍ2.
وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ إِسْرَائِيلَ وَهَمَ فِيهِ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ حَدِيثٌ فِي حَدِيثٍ، وَإِلَّا أَيْنَ كَانَ أَبُو موسى الأشعريّ ذلك الوقت.
رجعنا إلى تَمَامِ الْحَدِيثِ الَّذِي سُقْنَاهُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: فَلَمْ يَبْقَ بِطْرِيقٌ مِنْ بَطَارِقَةِ النَّجَاشِيِّ إِلَّا دَفَعَا إِلَيْهِ هَدِيَّةً، قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَا النَّجَاشِيَّ وَأَخْبَرَا ذَلِكَ الْبِطْرِيقَ بِقَصْدِهِمَا، لِيُشِيرَ عَلَى الْمَلِكِ بِدَفْعِ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ قَرَّبَا هَدَايَا النَّجَاشِيِّ فَقَبِلَهَا، ثُمَّ كَلَّمَاهُ فَقَالَا: أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّهُ قَدِمَ إِلَى بِلَادِكَ مِنِّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ، فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكَ، جَاءُوا بِدِينٍ ابْتَدَعُوهُ، لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ، وَلَا أنت، فقد بعحدثنا إِلَيْكَ فِيهِمْ أَشْرَافَ قَوْمِهِمْ مِنْ أَقَارِبِهِمْ لِتَرُدَّهُمْ عَلَيْهِمْ، فَهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ، قَالَتْ: وَلَمْ يَكُنْ أَبْغَضَ إِلَى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن الْعَاصِ مِنْ أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَهُمُ النَّجَاشِيُّ، فَقَالَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ: صِدْقًا أَيُّهَا الْمَلِكُ، قَوْمُهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ مِنْ دِينِهِمْ، فَأَسْلِمْهُمْ إِلَيْهِمَا، فَغَضِبَ ثُمَّ قَالَ: لَاهَا اللَّهِ إِذَنْ لَا أُسَلِّمُهُمْ إِلَيْهِمَا، وَلَا يَكَادُ قَوْمٌ جَاوَرُونِي، وَنَزَلُوا بِلَادِي، وَاخْتَارُونِي عَلَى مَنْ سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عمّا يقولان،
__________
1 أخرجه أحمد "1/ 461"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 67"، وقال الحافظ ابن كثير في "البداية" "2/ 84": إسناد جيد قوي وسياقه حسن. وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" "7/ 228": إسناده حسن.
قلت: أبو إسحاق مدلس، وقد عنعنه، وكان قد اختلط، فالله أعلم بالصواب.
2 إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه أبو نعيم في "الحلية" "356" وفي إسناد محمد بن زكريا الغلابي، متهم بالوضع كما في "الميزان" "7537" ويدل على نكارة في إسناده ما يأتي.

(1/117)


فَأَرْسَلَ إِلَى الصَّحَابَةِ فَدَعَاهُمْ، فَلَمَّا جَاءُوا وَقَدْ دَعَا النَّجَاشِيُّ أَسَاقِفَتَهُ فَنَشَرُوا مَصَاحِفَهُمْ، سَأَلَهُمْ فَقَالَ: مَا دِينُكُمْ؟ فَكَانَ الَّذِي كَلَّمَهُ جَعْفَرٌ فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، وَيَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى بَعَثَ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ، وَصِدْقَهُ، وَأَمَانَتَهُ، وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعُ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا مِنَ الْحِجَارَةِ، وَأَمَرَنَا بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَامِ، فَصَدَّقْنَاهُ وَاتَّبَعْنَاهُ، فعدا علينا قومنا فعذّبونا، وفتنونان عَنْ دِينِنَا، وَضَيَّقُوا عَلَيْنَا، فَخَرَجْنَا إِلَى بِلَادِكَ وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ، وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ، قَالَتْ: قَالَ: وَهَلْ مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ عَنِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَ جَعْفَرٌ: نَعَمْ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْرًا مِنْ {كهيعص} 1 فَبَكَى وَاللَّهِ النَّجَاشِيُّ، حَتَّى اخْضَلَّ لِحْيَتُهُ2، وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ، حَتَّى أَخْضَلُوا مَصَاحِفَهُمْ، ثُمَّ قَالَ النَّجَاشِيُّ: إِنَّ هَذَا، وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ، انْطَلِقَا، فَلَا وَاللَّهِ لَا أُسَلِّمُهُمْ إِلَيْكُمَا وَلَا يُكَادُ.
قَالَتْ: فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ عَمْرٌو: وَاللَّهِ لَآتِيَنَّهُمْ غَدًا بِمَا أَسْتَأْصِلُ بِهِ خَضْرَاءَهُمْ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَكَانَ أَتْقَى الرَّجُلَيْنِ فِينَا: لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّ لَهُمْ أَرْحَامًا، قَالَ: وَاللَّهِ لَأُخْبِرَنَّهُ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عِيسَى عَبْدٌ، ثُمَّ غَدَا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ، فَطَلَبَنَا، قَالَتْ: وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَا مِثْلُهَا، فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا تَقُولُونَ فِي عيسى بن مَرْيَمَ إِذَا سَأَلَكُمْ عَنْهُ؟ قَالُوا: نَقُولُ، وَاللَّهِ، مَا قَالَ اللَّهُ كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا كَانَ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالَ لَهُمْ: مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ؟ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: نَقُولُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَرُوحُهُ، وَكَلِمَتُهُ، أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ، فَأَخَذَ النَّجَاشِيُّ عُودًا ثُمَّ قَالَ: مَا عَدَا عِيسَى مَا قُلْتَ هَذَا الْعُودَ، فتناحرت بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ فَقَالَ: وَإِنْ نَخَرْتُمْ، وَاللَّهِ، اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ سُيُومٌ بِأَرْضِي، وَالسُّيُومُ: الْآمِنُونَ، مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ، مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي دَبْرًا مِنْ ذَهَبٍ، وَأَنِّي آذَيْتُ رَجُلًا مِنْكُمْ، رُدُّوا هَدَايَاهُمَا فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهَا، فَوَاللَّهِ مَا أَخَذَ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فَأُطِيعُهُمْ فِيهِ، قَالَتْ: فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ مَقْبُوحَيْنِ مردودًا عليهما ما جاءا به.
__________
1 سورة مريم: 1.
2 أخضل لحيته: ابتلت بالدموع.

(1/118)


قَالَتْ: فَإِنَّا عَلَى ذَلِكَ، إِذْ نَزَلَ بِهِ رَجُلٌ مِنَ الْحَبَشَةِ يُنَازِعُهُ فِي مُلْكِهِ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْنَا حُزْنًا قَدْ كَانَ أَشَدَّ عَلَيْنَا مِنْ حُزْنٍ حَزِنَّاهُ عِنْدَ ذَلِكَ، تَخَوُّفًا أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى النَّجَاشِيِّ، فَيَأْتِيَ رَجُلٌ لَا يَعْرِفُ مِنْ حَقِّنَا مَا كَانَ النَّجَاشِيُّ يَعْرِفُ مِنْهُ. فَسَارَ إِلَيْهِ النَّجَاشِيُّ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا عَرْضُ النِّيلِ، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ حَتَّى يَحْضُرَ الْوَقْعَةَ، ثُمَّ يَأْتِيَنَا بِالْخَبَرِ؟ فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، فَنَفَخُوا لَهُ قِرْبَةً، فَجَعَلَهَا فِي صَدْرِهِ، ثُمَّ سَبَحَ عَلَيْهَا حَتَّى خَرَجَ إِلَى نَاحِيَةِ النِّيلِ الَّتِي بِهَا يَلْتَقِي الْقَوْمُ، ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى حَضَرَهُمْ، وَدَعَوْنَا اللَّهَ تَعَالَى لِلنَّجَاشِيِّ، فَإِنَّا لَعَلَى ذَلِكَ، إِذْ طَلَعَ الزُّبَيْرُ يَسْعَى فَلَمَعَ بِثَوْبِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: أَلَا أَبْشِرُوا، فَقَدْ ظَهَرَ النَّجَاشِيُّ، وَقَدْ أَهْلَكَ اللَّهُ عَدُوَّهُ وَمَكَّنَ لَهُ فِي بِلَادِهِ1.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَحَدَّثْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا قَوْلُهُ: مَا أَخَذَ اللَّهُ مِنِّي الرِّشْوَةَ إِلَى آخِرِهِ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَإِنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ حَدَّثَتْنِي أَنَّ أَبَاهُ كَانَ مَلِكَ قَوْمِهِ، ولم يكن له ولد إلا النجاشي، وكان لِلنَّجَاشِيِّ عَمٌّ مِنْ صُلْبِهِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فقَالَتِ الْحَبَشَةُ: لَوْ أَنَّا قَتَلْنَا هَذَا وَمَلَّكْنَا أَخَاهُ، فَإِنَّهُ لَا وَلَدَ لَهُ غَيْرَ هَذَا الْغُلَامِ، وَلِأَخِيهِ اثْنَا عَشَرَ وَلَدًا، فَتَوَارَثُوا مُلْكَهُ مِنْ بَعْدِهِ بَقِيَتِ الْحَبَشَةُ بَعْدَهُ دَهْرًا، فَعَدَوْا عَلَى أَبِي النَّجَاشِيِّ فَقَتَلُوهُ، وَمَلَّكُوا أَخَاهُ. فَمَكَثُوا حِينًا، وَنَشَأَ النَّجَاشِيُّ مَعَ عَمِّهِ، فَكَانَ لَبِيبًا حَازِمًا، فَغَلَبَ عَلَى أَمْرِ عَمِّهِ، وَنَزَلَ مِنْهُ بِكُلِّ مَنْزِلَةٍ، فَلَمَّا رَأَتِ الْحَبَشَةُ مَكَانَهُ مِنْهُ قَالَتْ بَيْنَهَا: وَاللَّهِ لَقَدْ غَلَبَ هَذَا عَلَى عَمِّهِ، وَإِنَّا لَنَتَخَوَّفُ أَنْ يُمَلِّكَهُ عَلَيْنَا، وَإِنْ مَلَكَ لَيَقْتُلُنَا بِأَبِيهِ، فَكَلَّمُوا الْمَلِكَ، فَقَالَ: وَيْلَكُمْ، قَتَلْتُ أَبَاهُ بِالْأَمْسِ، وَأَقْتُلُهُ الْيَوْمَ! بَلْ أُخْرِجُهُ مِنْ بِلَادِكُمْ، قَالَتْ: فَخَرَجُوا بِهِ فَبَاعُوهُ لِتَاجِرٍ بستّمائة ردهم، فَقَذَفَهُ فِي سَفِينَةٍ وَانْطَلَقَ بِهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ النَّهَارِ، هَاجَتْ سَحَابَةٌ، فَخَرَجَ عَمُّهُ يَسْتَمْطِرُ تَحْتَهَا، فَأَصَابَتْهُ صَاعِقَةٌ فَقَتَلَتْهُ، فَفَزِعَتِ الْحَبَشَةُ إلى ولده، فإذا هو محمق ليس في ولده خير، فمرج2 الأَمْرُ، فَقَالُوا: تَعَلَّمُوا، وَاللَّهِ إِنَّ مَلِكَكُمُ الَّذِي لَا يُقِيمُ أَمْرَكُمْ غَيْرُهُ لَلَّذِي بِعْتُمُوهُ غَدْوَةً،
__________
1 صحيح: أخرجه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 319"، وأحمد "1/ 301-203"، وأبو نعيم في "الحلية" "357"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 301-306"، وقال الألباني في تحقيق "فقه السيرة" "ص135": سنده صحيح.
2 مرج: اختلط.

(1/119)


فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِ فَأَدْرَكُوهُ، وَأَخَذُوهُ مِنَ التَّاجِرِ، ثُمَّ جَاءُوا بِهِ فَعَقَدُوا عَلَيْهِ التَّاجَ، وَأَقْعَدُوهُ على سرير ملكه، فجاء التّاجر فقال: ما لي، قَالُوا: لَا نُعْطِيكَ شَيْئًا، فَكَلَّمَهُ، فَأَمَرَهُمْ فَقَالَ: أَعْطُوهُ دَرَاهِمَهُ أَوْ عَبْدَهُ، قَالُوا: بَلْ نُعْطِيهِ دَرَاهِمَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا خُبِرَ مِنْ عَدْلِهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ1.
وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: إِنَّمَا كَانَ يُكَلِّمُ النَّجَاشِيَّ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ2.
"إسلام النجاشي":
أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمَدٍ، وَجَمَاعَةٌ، أنا ابْنُ ملاعب، حدثنا الأموي، أنا جَابِرُ بْنُ يَاسِينَ، أنا الْمُخَلِّصُ، أنا البغويّ، حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان، حدثنا أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَجَلِيُّ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَعَثَتْ قُرَيْشٌ عَمْرًا وَعُمَارَةَ بِهَدِيَّةٍ إِلَى النَّجَاشِيِّ لِيُؤْذُوا الْمُهَاجِرِينَ. فَخَلُّوهُمْ، فَقَالَ عَمْرٌو: وَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي عِيسَى غَيْرَ مَا تَقُولُ، فَأَرْسِلْ إِلَيْنَا، وَكَانَتِ الدَّعْوَةُ الثَّانِيَةُ أَشَدَّ عَلَيْنَا، فَقَالَ: مَا يَقُولُ صَاحِبُكُمْ فِي عِيسَى؟ قَالَ: وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَقَالَ النَّجَاشِيُّ: أَعَبِيدٌ هُمْ لَكُمْ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَلَكُمْ عَلَيْهِمْ دَيْن؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: يَقُولُ: هُوَ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى عَذْرَاءَ بَتُولٍ، فَقَالَ: ادْعُوا لِي فُلَانًا الْقَسَّ، وَفُلَانًا الرَّاهِبَ، فَأَتَاهُ أُنَاسٌ مِنْهُمْ، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى؟ قَالُوا: أَنْتَ أَعْلَمُنَا، قَالَ: وَأَخَذَ شَيْئًا مِنَ الْأَرْضِ فَقَالَ: مَا عَدَا عِيسَى مَا قَالَ هَؤُلَاءِ مِثْلَ هَذَا، ثُمَّ قَالَ: أَيُؤْذِيكُمْ أَحَدٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَنَادَى مَنْ آذَى مِنْهُمْ فَأَغْرَمُوهُ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، ثُمَّ قَالَ: أَيَكْفِيكُمْ؟ قُلْنَا: لَا، فَأَضْعِفْهَا، قَالَ: فلما ظهر النبي -صلى الله عليه وسلم- أَخْبَرْنَاهُ، قَالَ فَزَوَّدَنَا وَحَمَلْنَا، ثُمَّ قَالَ: أَخْبِرْ صَاحِبَكَ بِمَا صَنَعْتُ إِلَيْكُمْ، وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقُلْ لَهُ يَسْتَغْفِرْ لِي، فَأَتَيْنَا الْمَدِينَةَ، فَتَلَقَّانِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاعْتَنَقَنِي وَقَالَ: مَا أَدْرِي أَنَا بِقُدُومِ جَعْفَرٍ أَفْرَحُ أَمْ بِفَتْحِ خَيْبَرَ، وَقَالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلنَّجَاشِيِّ" ثَلَاثَ مرّات، وقال المسلمون: آمين3.
__________
1 إسناده حسن: أخرجه ابن إسحاق في "سيرة ابن هشام" "10/ 322-223".
2 مرسل.
3 إسناده ضعيف: أخرجه الطبراني في "الكبير" "1478" ومجالد هو ابن سعيد، قال في "التقريب" "6478": ليس بالقوي، وقد تغير في آخر عمره.

(1/120)


"إِسْلَامُ ضِمَادٍ":
دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ ضِمَادٌ مَكَّةَ، وَهُوَ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ، وَكَانَ يَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيَاحِ فَسَمِعَ سُفَهَاءَ مِنْ سُفَهَاءِ النَّاسِ يَقُولُونَ إِنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ، فَقَالَ: آتِي هَذَا الرَّجُلَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَشْفِيَهُ عَلَى يَدَيَّ، قَالَ: فَلَقِيتُ مُحَمَّدًا فَقُلْتُ: إِنِّي أَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيَاحِ، وَإِنَّ اللَّهَ يَشْفِي عَلَى يَدَيَّ مَنْ يَشَاءُ، فَهَلُمَّ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ: إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِي اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ "ثَلَاثَ مَرَّاتٍ"، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لقد سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ، وَقَوْلَ السَّحَرَةِ، وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ، فَمَا سَمِعْتُ مِثْلَ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ، فَهَلُمَّ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَبَايَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ لَهُ: "وَعَلَى قَوْمِكَ" فَقَالَ: وَعَلَى قَوْمِي. فَبَعَثَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَرِيَّةً، فَمَرُّوا بِقَوْمِ ضِمَادٍ. فَقَالَ صَاحِبُ الْجَيْشِ لِلسَّرِيَّةِ: هَلْ أَصَبْتُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: أَصَبْتُ مِنْهُمْ مِطْهَرَةً، فَقَالَ: رُدُّوهَا عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُمْ قَوْمُ ضِمَادٍ1. أَخْرَجَهُ مسلم.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "868" في كتاب الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 223-224".

(1/121)


"إِسْلَامُ الْجِنِّ":
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} 1 الْآيَاتِ، وَقَالَ: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} 2 وَأَنْزَلَ فِيهِمْ سُورَةَ الْجِنِّ.
وَقَالَ أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْجِنِّ وَلَا رَآهُمْ، انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ3، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وأرسلت
__________
1 سورة الأحقاف: 29.
2 سورة الأنعام: 130.
3 عكاظ: سوق بين نخلة والطائف.

(1/121)


عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ، فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بينكم وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ، قَالُوا: مَا حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إِلَّا شَيْءٌ حَدَثَ، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا.
قَالَ: فَانْصَرَفَ أُولَئِكَ النَّفَرُ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ بِنَخْلَةَ، عَامِدًا إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ، فَقَالُوا: هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَهُنَالِكَ حِينَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بربّنا أحدًا، فأنزلت {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} 1. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَيُحْمَلُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا قَرَأَ عَلَى الْجِنِّ وَلَا رَآهُمْ، يَعْنِي أَوَّلَ مَا سَمِعَتِ الْجِنُّ الْقُرْآنَ، ثُمَّ إِنَّ دَاعِيَ الْجِنِّ أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا فِي خَبَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ قَدْ حَفِظَ الْقِصَّتَيْنِ، فَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: هَبَطُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ بِبَطْنِ نَخْلَةَ، فَلَمَّا سَمِعُوهُ أَنْصَتُوا قَالُوا: صَهْ، وَكَانُوا سَبْعَةً أَحَدُهُمْ زَوْبَعَةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} 2 الآيات.
وقال مسعر، عن معن، حدثنا أَبِي، سَأَلْتُ مَسْرُوقًا: مَنْ آذَنَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْجِنِّ لَيْلَةَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ؟ فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُوكَ، يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ أَنَّهُ آذَنَتْهُ بِهِمْ شَجَرَةٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ3.
وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ قال: قلت لابن مسعود:
__________
1 سورة الجن: 1.
والخبر أخرجه البخاري "773" في كتاب الأذان: باب: الجهر بقراءة صلاة الفجر، ومسلم "449" في كتاب الصلاة، باب: الجهر بالقراءة في الصبح، والترمذي "3334" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة الجن، والنسائي في "الكبرى" "11624، 11625"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 226"، وابن حبان في "صحيحه" "6526".
2 سورة الأحقاف: 29.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3859" في كتاب مناقب الأنصار، باب: ذكر الجن، ومسلم "450/ 153": في كتاب الصلاة، باب: الجهر بالقراءة في الصبح.

(1/122)


هَلْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْلَةَ الْجِنِّ مِنْكُمْ أَحَدٌ؟ فَقَالَ: مَا صَحِبَهُ مِنَّا أَحَدٌ، وَلَكِنَّا فَقَدْنَاهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ بِمَكَّةَ، فَقُلْنَا اغْتِيلَ، اسْتُطِيرَ، مَا فَعَلَ، فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ، فَلَمَّا كَانَ فِي وَجْهِ الصُّبْحِ، أَوْ قَالَ فِي السَّحَرِ، إِذَا نَحْنُ بِهِ يَجِيءُ مِنْ قِبَلِ حِرَاءَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرُوا الَّذِي كَانُوا فِيهِ، فَقَالَ: "إِنَّهُ أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ فَأَتَيْتُهُمْ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمْ"، فَانْطَلَقَ فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ1. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَدْ جَاءَ مَا يُخَالِفُ هَذَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو عُثْمَانَ بْنُ سَنَّةَ الْخُزَاعِيُّ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِأَصْحَابِهِ، وَهُوَ بِمَكَّةَ: "مَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَحْضُرَ اللَّيْلَةَ أَمْرَ الْجِنِّ فَلْيَفْعَلْ"، فَلَمْ يَحْضُرْ مِنْهُمْ أَحَدٌ غَيْرِي، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِأَعْلَى مَكَّةَ خَطَّ لِي بِرِجْلِهِ خَطًّا، ثُمَّ أَمَرَنِي أَنْ أَجْلِسَ فِيهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى قَامَ، فَافْتَتَحَ الْقُرْآنَ فَغَشِيَتْهُ أَسْوَدَةٌ2 كَثِيرَةٌ، حَالَتْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، حَتَّى مَا أَسْمَعُ صَوْتَهُ، ثُمَّ انْطَلَقُوا وَطَفِقُوا يَتَقَطَّعُونَ مِثْلَ قِطَعِ السَّحَابِ، ذَاهِبِينَ، حَتَّى مَا بَقِيَ مِنْهُمْ رَهْطٌ، وَفَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ الْفَجْرِ، فَانْطَلَقَ فَتَبَرَّزَ، ثُمَّ أَتَانِي فَقَالَ: "مَا فَعَلَ الرَّهْطُ؟ " فَقُلْتُ: هُمْ أُولَئِكَ يَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَخَذَ عَظْمًا وَرَوْثًا فَأَعْطَاهُمْ إِيَّاهُ زَادًا، ثُمَّ نَهَى أَنْ يَسْتَطِيبَ أَحَدٌ بِعَظْمٍ أَوْ بِرَوْثٍ3. أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَبْصَرَ زُطًّا4 فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ فَقَالَ: مَا هَؤُلَاءِ؟ قَالُوا هَؤُلَاءِ الزُّطُّ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ شبههم إلاّ الْجِنِّ، وَكَانُوا مُسْتَنْفِرِينَ يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا5. صَحِيحٌ.
يُقَالُ: اسْتَنْفَرَ الرَّجُلُ بِثَوْبِهِ، إِذَا أَخَذَ ذَيْلَهُ مِنْ بَيْنِ فَخِذَيْهِ إِلَى حُجْزَتِهِ فَغَرَزَهُ. وَكَذَا يقال في الكلب، إذ جَعَلَ ذَنَبَهُ بَيْنَ فَخِذَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ لِلْحَائِضِ: استنفري.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "450/ 150" في المصدر السابق، وأبو داود "85" في كتاب الطهارة، باب: الوضوء بالنبيذ، والترمذي "3269" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة الأحقاف.
2 أسودة: أي جماعة من الناس.
3 أخرجه ابن جرير في "تفسيره" "26/ 21".
4 الزط: قوم من الهند أو السند.
5 أخرجه ابن جرير في "تفسيره" "26/ 21" والبيهقي في "الدلائل" "2/ 231".

(1/123)


وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ بْنِ فَارِسٍ، عَنْ مُسْتَمِرِّ بْنِ الرَّيَّانِ، عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: انْطَلَقْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْلَةَ الْجِنِّ، حَتَّى أَتَى الْحَجُونَ1 فَخَطَّ عَلَيَّ خَطًّا، ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ، فَازْدَحَمُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ سَيِّدٌ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ وَرْدَانُ: إِنِّي أَنَا أُرَحِّلُهُمْ عَنْكَ، فَقَالَ: إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ2.
وَقَالَ زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُورَةَ الرَّحْمَنُ، ثُمَّ قَالَ: "مَا لِي أَرَاكُمْ سُكُوتًا، لَلْجِنُّ كَانُوا أَحْسَنَ رَدًّا مِنْكُمْ، مَا قَرَأْتُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ من مرّة {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ، إِلَّا قَالُوا: وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ نِعَمِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ، فَلَكَ الْحَمْدُ"3. زُهَيْرٌ ضَعِيفٌ4.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنْ جَدِّهِ سَعِيدٍ قَالَ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَتْبَعُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِإِدَاوَةٍ لِوُضُوئِهِ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: "أَتَانِي جِنُّ نَصِيبِينَ فَسَأَلُونِي الزَّادَ، فَدَعَوْتُ اللَّهَ لَهُمْ أَنْ لَا يَمُرُّوا بِرَوْثَةٍ وَلَا بِعَظْمٍ إِلَّا وَجَدُوا عَلَيْهَا طَعَامًا" 5. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَيَدْخُلُ هَذَا الْبَابُ فِي بَابِ شَجَاعَتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقُوَّةِ قَلْبِهِ.
وَمِنْهُ حَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلَاتِي، فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ، فَأَخَذْتُهُ وَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سُلَيْمَانَ {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} 6 فَرَدَدْتُهُ خَاسِئًا". وَفِي لَفْظٍ: "فَأَخَذْتُهُ فَفَدَغْتُهُ"، يَعْنِي خنقته7. متفق عليه.
__________
1 الحجون: جبل بمكة.
2 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 231، 232".
3 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 232".
4 كذا جزم الحافظ الذهبي بضعفه، وما يترجح عندي أنه صدوق، وضعفه في رواية الشاميين عنه خاصة رواية عمر بن أبي سلمة عنه فمنكرة، وانظر "الميزان" "2918"، وتأتي ترجمته "1197".
5 صحيح: أخرجه البخاري "3860" في كتاب مناقب الأنصار، باب: ذكر الجن: والبيهقي في "الدلائل "2/ 223".
6 سورة ص: 35.
7 صحيح: أخرجه البخاري "4808" في كتاب التفسير، باب: قوله تعالى {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} ، ومسلم "541" في كتاب المساجد، باب: جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة، وأحمد "2/ 298".

(1/124)


فَصْلٌ فِيمَا وَرَدَ مِنْ هَوَاتِفِ الْجَانِّ وَأَقْوَالِ الكهّان:
قال ابن وهب: أخبرنا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَا سَمِعْتُ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ لِشَيْءٍ قَطُّ إِنِّي لَأَظُنُّهُ كَذَا، إِلَّا كَانَ كَمَا يَظُنُّ، فَبَيْنَا عُمَرُ جَالِسٌ إِذْ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ جَمِيلٌ فَقَالَ: لَقَدْ أَخْطَأَ ظَنِّي، أَوْ إِنَّ هَذَا عَلَى دِينِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ لَقَدْ كَانَ كَاهِنَهُمْ، عَلَيَّ الرَّجُلَ، فَدُعِيَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَقَدْ أَخْطَأَ ظَنِّي أَوْ أَنَّكَ عَلَى دِينِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ لَقَدْ كُنْتَ كَاهِنَهُمْ، فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ اسْتُقْبِلَ بِهِ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، قَالَ فَإِنِّي أَعْزِمُ عَلَيْكَ إِلَّا مَا أَخْبَرْتَنِي، فَقَالَ: كُنْتُ كَاهِنَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: فَمَا أَعْجَبُ مَا جَاءَتْكَ بِهِ جِنِّيَّتُكَ؟ قَالَ: بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ جَاءَتْنِي أَعْرِفُ فِيهَا الْفَزَعَ قَالَتْ:
أَلَمْ تَرَ الْجِنَّ وَإِبْلَاسَهَا ... وَيَأْسَهَا مِنْ بَعْدِ إِنْكَاسِهَا1
وَلُحُوقَهَا بِالْقَلاصِ وَأَحْلَاسِهَا2
قَالَ عُمَرُ: صَدَقَ، بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ عِنْدَ آلِهَتِهِمْ إِذْ جَاءَ بِعِجْلٍ فَذَبَحَهُ، فَصَرَخَ مِنْهُ صَارِخٌ لَمْ أَسْمَعْ صَارِخًا أَشَدَّ صَوْتًا مِنْهُ يَقُولُ: يَا جَلِيحُ، أَمْرٌ نَجِيحٌ، رَجُلٌ فَصِيحٌ، يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَوَثَبَ الْقَوْمُ، قُلْتُ: لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَعْلَمَ مَا وَرَاءَ هَذَا، ثُمَّ نَادَى: يَا جَلِيحُ، أَمْرٌ نَجِيحٌ، رَجُلٌ فَصِيحٌ، يَقُولُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهِ، قُلْتُ: لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَعْلَمَ مَا وَرَاءَ هَذَا، فَأَعَادَ قَوْلَهُ، قَالَ: فَقُمْتُ فَمَا نَشِبْتُ أَنْ قِيلَ هَذَا نَبِيٌّ3. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ هَكَذَا.
وَظَاهِرُهُ أَنَّ عُمَرَ بِنَفْسِهِ سَمِعَ الصَّارِخَ مِنَ الْعِجْلِ، وَسَائِرِ الرِّوَايَاتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَاهِنَ هُوَ الَّذِي سمع.
__________
1 إبلاسها: المراد به اليأس.
وإنكاسها: انقلابها.
2 القلاص: جمع قلص، وهو جمع قلوص، وهي الفتية من الإبل، وأحلاسها: جمع حلس: وهو ما يوضع على ظهر الإبل.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3866" في كتاب مناقب الأنصار، باب: إسلام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه.

(1/125)


فَرَوَى يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ مَارٌّ، فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ كُنْتُ مَرَّةً ذَا فَرَاسَةٍ، وَلَيْسَ لِي رَئِيٌّ، أَلَمْ يَكُنْ قَدْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ يَنْظُرُ وَيَقُولُ فِي الْكَهَانَةِ، ادْعُوهُ لِي، فَدَعَوْهُ، فَقَالَ عُمَرُ: مِنْ أَيْنَ قَدِمْتَ؟ قَالَ: مِنَ الشَّامِ، قَالَ: فَأَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أردت هذا الْبَيْتَ، وَلَمْ أَكُنْ أَخْرُجُ حَتَّى آتِيَكَ، قَالَ: هَلْ كُنْتَ تَنْظُرُ فِي الْكَهَانَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَحَدِّثْنِي، قَالَ: إِنِّي ذَاتَ لَيْلَةٍ بِوَادٍ، إِذْ سَمِعْتُ صَائِحًا يَقُولُ: يَا جَلِيحُ، خَبَرٌ نجيح، رجل يصيح، يقول: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، الْجِنَّ وَإِيَاسَهَا، وَالإِنْسَ وَإِبْلاسَهَا، وَالْخَيْلَ وَأَحْلَاسَهَا، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ إِنَّ هَذَا لَخَبَرٌ يَئِسَتْ مِنْهُ الْجِنُّ، وَأَبْلَسَتْ مِنْهُ الإنس، وأعلمت فِيهِ الْخَيْلُ، فَمَا حَالَ الْحَوْلُ حَتَّى بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ1.
وَرَوَاهُ الْوَليِدُ بْنُ مَزْيَدَ الْعُذْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، عَنِ ابْنِ مِسْكِينٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: بَيْنَا عُمَرُ جَالِسٌ. وَهَذَا مُنْقَطِعٌ. وَرَوَاهُ حَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ. وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ أَحَدِ الْقُرَّاءِ، عَنْ مُجَاهِدٍ مَوْقُوفًا.
وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَاهِنُ هُوَ سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ أَحْمَدَ بن موسى الحمّار الكوفي، حدثنا زياد بن يزيد القصري، حدثنا محمد بن تراس الكوفي، حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: بَيْنَا عُمَرُ يَخْطُبُ إِذْ قَالَ: أَفِيكُمْ سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ تِلْكَ السَّنَةَ، فَلَمَّا كَانَتِ السَّنَةُ الْمُقْبِلَةُ قَالَ: أَفِيكُمْ سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ؟ قَالُوا: وَمَا سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ؟ قَالَ: كَانَ بَدْءُ إِسْلَامِهِ شَيْئًا عَجَبًا، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ، إِذْ طَلَعَ سواد بن قارب، فقال له: حدّحدثنا بِبَدْءِ إِسْلَامِكَ يَا سَوَادُ، قَالَ: كُنْتُ نَازِلا بِالْهِنْدِ، وَكَانَ لِي رَئِيٌّ مِنَ الْجِنِّ، فَبَيْنَا أَنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ نَائِمٌ إِذْ جَاءَنِي فِي مَنَامِي ذَلِكَ قَالَ: قُمْ فَافْهَمْ وَاعْقِلْ إِنْ كُنْتَ تَعْقِلُ، قَدْ بُعِثَ رَسُولٌ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وأنجاسها ... وشدّها العيس بأحلاسها
نهوي إِلَى مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَى ... مَا مُؤْمِنُوهَا مِثْلُ أَرْجَاسِهَا
فَانْهَضْ إِلَى الصَّفْوَةِ مِنْ هَاشِمٍ ... وَاسْمُ بعينيك إلى راسها
__________
1 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 245-246".

(1/126)


يَا سَوَادُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ نَبِيًّا فَانْهَضْ إِلَيْهِ تَهْتَدِ وَتَرْشُدْ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ أَتَانِي فَأَنْبَهَنِي، ثُمَّ قَالَ:
عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وَتَطْلَابِهَا ... وَشَدِّهَا الْعِيسَ بِأَقْتَابِهَا
تَهْوِي إِلَى مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَى ... لَيْسَ فَدَامَاهَا كَأَذْنَابِهَا
فَانْهَضْ إِلَى الصَّفْوَةِ مِنْ هَاشِمٍ ... وَاسْمُ بِعَيْنَيْكَ إِلَى نَابِهَا
فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّالِثَةُ أَتَانِي فَأَنْبَهَنِي، ثم قال:
عجبت لجنّ وَتَخْبَارِهَا ... وَشَدِّهَا الْعِيسَ بِأَكْوَارِهَا
تَهْوِي إِلَى مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَى ... لَيْسَ ذَوُو الشَّرِّ كَأَخْيَارِهَا
فَانْهَضْ إِلَى الصَّفْوَةِ مِنْ هَاشِمٍ ... مَا مُؤْمِنُو الْجِنِّ كَكُفَّارِهَا
فَوَقَعَ فِي قَلْبِي حُبُّ الْإِسْلَامِ، وَشَدَدْتُ رَحْلِي، حَتَّى أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِذَا هُوَ بِالْمَدِينَةِ، وَالنَّاسُ عَلَيْهِ كَعُرْفِ الْفَرَسِ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ:
"مَرْحَبًا بِسَوَادِ بْنِ قَارِبٍ، قَدْ عَلِمْنَا مَا جَاءَ بِكَ" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ قُلْتُ شِعْرًا فَاسْمَعْهُ مِنِّي:
أَتَانِي رَئِيِّي بَعْدَ لَيْلٍ وَهَجْعَةٍ ... وَلَمْ يَكُ فِيمَا قَدْ بَلَوْتُ بِكَاذِبٍ1
ثَلَاثَ لَيَالٍ قَوْلُهُ كُلَّ لَيْلَةٍ ... أَتَاكَ نَبِيٌّ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ
فَشَمَّرْتُ عَنْ سَاقِي الْإِزَارَ وَوَسَّطَتْ ... بِيَ الذِّعْلِبُ الْوَجْنَاءُ عِنْدَ السَّبَاسِبِ2
فَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ لَا شَيْءَ غَيْرُهُ ... وَأَنَّكَ مَأْمُونٌ عَلَى كُلِّ غَائِبِ
وَأَنَّكَ أدنى المرسلين شفاعةً ... إلى الله يا بن الأَكْرَمِينَ الأَطَايِبِ
فَمُرْنَا بِمَا يَأْتِيكَ يَا خَيْرَ مَنْ مَشَى ... وَإِنْ كَانَ فِيمَا جَاءَ شَيْبُ الذَّوَائِبِ
فَكُنْ لِي شَفِيعًا يَوْمَ لَا ذُو شَفَاعَةٍ ... سِوَاكَ بِمُغْنٍ عَنْ سَوَادِ بْنِ قَارِبِ
فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ لِي: "أَفْلَحْتَ يَا سَوَادُ"، فَقَالَ لَهُ عمر: هل يأتيك رأيك الآنَ؟ قَالَ: مُنْذُ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ لَمْ يَأْتِنِي، ونعم العوض كتاب الله من الجنّ3.
__________
1 هجعة: نوم خفيف.
2 الذعلب: السرية من النوق. الناقة الشديدة. والسباسب: أيام الشعانين عند النصارى.
3 إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 248-253" وفيه جهالة محمد بن تراس وزياد بن يزيد كما يأتي، وفيه أيضًا عنعنه أبي إسحاق وهو مدلس.

(1/127)


هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ بِالْمَرَّةِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ تَرَاسٍ وَزِيَادٌ مَجْهُولانِ لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُمَا، وَأَخَافُ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا عَلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، وَلَكِنَّ أَصْلَ الْحَدِيثِ مَشْهُورٌ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو يعلى الموصليّ، وعليّ بن شيبان: حدثنا يحيى بن حجر الشاميّ، حدثنا عليّ بن منصور الأبناوي، حدثنا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْوَقَّاصِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: بَيْنَمَا عُمَرُ جَالِسٌ إِذْ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ، فَقَالَ قَائِلٌ: أَتَعْرِفُ هَذَا؟ قَالَ: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عُمَرُ فَقَالَ: أَنْتَ سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: أَنْتَ الَّذِي أَتَاهُ رَئِيُّهُ بِظُهُورِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: فَأَنْتَ عَلَى كَهَانَتِكَ.
فَغَضِبَ وَقَالَ: مَا اسْتَقْبَلَنِي بِهَذَا أَحَدٌ مُنْذُ أَسْلَمْتُ.
قَالَ عُمَرُ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ من الشّرك أعظم، قال: فأخبرني بإتيانك رأيك بِظُهُورِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: بَيْنَا أَنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ، إِذْ أَتَانِي فَضَرَبَنِي بِرِجْلِهِ وَقَالَ: قُمْ يَا سَوَادُ بْنَ قَارِبٍ اسْمَعْ مَقَالَتِي وَاعْقِلْ، إِنْ كُنْتَ تَعْقِلُ، إِنَّهُ قَدْ بُعِثَ رَسُولٌ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، ثُمَّ ذَكَرَ الشِّعْرَ قَرِيبًا مِمَّا تَقَدَّمَ، ثُمَّ أَنْشَأَ عُمَرُ يَقُولُ: كُنَّا يَوْمًا فِي حَيٍّ مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُمْ آلُ ذَرِيحٍ، وَقَدْ ذَبَحُوا عِجْلا، وَالْجَزَّارُ يُعَالِجُهُ إِذْ سَمِعْنَا صَوْتًا مِنْ جَوْفِ الْعِجْلِ وَلَا نَرَى شَيْئًا وَهُوَ يَقُولُ: يَا آلَ ذَرِيحٍ، أَمْرٌ نَجِيحٌ، صَائِحٌ يَصِيحُ، بِلِسَانٍ فَصِيحٍ، يَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلاّ الله1.
أبو عبد الرحمن عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مُتَّفَقٌ عَلَى تَرْكِهِ، وَعَلِيُّ بْنُ مَنْصُورٍ فِيهِ جَهَالَةٌ، مَعَ أَنَّ الحديث منقطع.
__________
1 مرسل إسناده ضعيف جدًّا: أبو عبد الرحمن الوقاحي هو عثمان بن عبد الرحمن، متروك، وكذبه البعض كما في "الميزان" "5531".

(1/128)


وَقَدْ رَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْفَرَّاءُ، عَنْ بِشْرِ بْنِ حَجَرٍ أَخِي يَحْيَى بْنِ حَجَرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، بِنَحْوِهِ.
وقال ابن عديّ في كامله: حدثنا الوليد بن حمّاد، بالرملة، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن، حدثنا الحكم بن يعلى المحاربيّ، حدثنا أَبُو مَعْمَرٍ عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ قَالَ: كُنْتُ نَائِمًا عَلَى جَبَلٍ مِنْ جِبَالِ الشَّرَاةِ، فَأَتَانِي آتٍ فَضَرَبَنِي بِرِجْلِهِ وَقَالَ: قُمْ يَا سَوَادُ أَتَى رَسُولٌ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ1.
كَذَا فِيهِ سَعِيدٌ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي سَوَادٌ، وَعَبَّادٌ لَيْسَ بِثِقَةٍ يَأْتِي بِالطَّامَّاتِ.
وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: أَوَّلُ مَا سُمِعَ بِالْمَدِينَةِ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ تُدْعَى فَطِيمَةَ، كَانَ لَهَا تَابِعٌ مِنَ الْجِنِّ، فَجَاءَ يَوْمًا فَوَقَعَ عَلَى جِدَارِهَا، فَقَالَتْ: مَا لَكَ لَا تَدْخُلُ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ بُعِثَ نَبِيٌّ يُحَرِّمُ الزِّنَى، فَحَدَّثَتْ بِذَاكَ الْمَرْأَةُ عَنْ تَابِعِهَا مِنَ الْجِنِّ، فَكَانَ أَوَّلَ خَبَرٍ تُحَدِّثُ بِهِ بِالْمَدِينَةِ2.
وقال يحيى بن يوسف الزّمي: حدثنا عبيد الله بن عمرو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَوَّلُ خَبَرٍ قَدِمَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْمَدِينَةِ أَنَّ امْرَأَةً كَانَ لَهَا تَابِعٌ، فَجَاءَ فِي صُورَةِ طَائِرٍ حَتَّى وَقَعَ عَلَى حَائِطِ دَارِهِمْ، فَقَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: انْزِلْ، قَالَ: لَا، إِنَّهُ قَدْ بُعِثَ بِمَكَّةَ نَبِيٌّ يُحَرِّمُ الزِّنَى، قَدْ مَنَعَ مِنَّا الْقَرَارَ3.
وَفِي الْبَابِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ عَامَّتُهَا واهية الأسانيد.
__________
1 إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 253-254"، وعباد بن عبد الصمد ضعيف جدًّا كما في "الميزان" "4128".
2 مرسل.
3 عزاه الحافظ ابن كثير في "البداية" لأبي نعيم.

(1/129)


وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ، وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} 1. قَالَ شَيْبَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا نَبِيَّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً، فَأَرَاهُمُ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ مَرَّتَيْنِ2. أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ شَيْبَانَ، لَكِنْ لَمْ يَقُلِ الْبُخَارِيُّ "مَرَّتَيْنِ".
وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ مِثْلَهُ، وَزَادَ "فَانْشَقَّ فِرْقَتَيْنِ مَرَّتَيْنِ"3. وَلِلْبُخَارِيِّ نَحْوٌ مِنْهُ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ. وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ.
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَغَيْرُهُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ أبي مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: رَأَيْتُ الْقَمَرَ مُنْشَقًّا شِقَّتَيْنِ بِمَكَّةَ، قَبْلَ مَخْرَجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شِقَّةٌ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ، وَشِقَّةٌ عَلَى السُّوَيْدَاءِ، فَقَالُوا: سُحِرَ الْقَمَرِ4.
لَفْظُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَأَرَادَ "قَبْلَ مَخْرَجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" يَعْنِي إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَلَفْظُهُ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَقَّتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اشهدوا" 5.
__________
1 سورة القمر: 1-3.
2 صحيح: أخرجه البخاري "4867" في كتاب التفسير، باب قوله تعالى: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} ، ومسلم "2802" في كتاب صفة القيامة، باب: انشقاق القمر، والترمذي "3297" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة القمر، وأحمد "3/ 65، 207، 220، 275، 278"، والطبري في "تفسيره" "27/ 50"، والنسائي في "الكبرى" "11554"، وأبو يعلى في "مسنده" "2929، 2930، 3113، 3141، 3187"، والحاكم في "مستدركه" "3761" والبيهقي في "الدلائل" "2/ 262، 263، 264"، والطحاوي في "مشكل الآثار" "708" والبغوي في "تفسيره" "4/ 235".
3 صحيح: انظر التخريج السابق.
4 لم أجده بهذا اللفظ.
5 صحيح: أخرجه البخاري "4864، 4865" في المصدر السابق، ومسلم "2800" في المصدر السابق، والترمذي "3296، 3298" في المصدر السابق، والنسائي في "الكبرى" "11552، 11553" والطيالسي في "مسنده" "ص37، 38" والطبري في "تفسيره" "27/ 50، 51" والطبراني في "الكبير" "9996، 9997، 10009"، وأبو نعيم في "الدلائل" "ص200، 201، 202"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 264-266"، والحاكم في "مستدركه" "3756، 3757" وابن حبان في "صحيحه" "6495" والبزار كما في "مختصر زائد البزار" "1801، 1802، 1971"، والطحاوي في "المشكل" "697، 698، 700، 701، 702، 703"، والبغوي في "تفسيره" "4/ 235".

(1/130)


وَأَخْرَجَاهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ أَبِيهِ، عن الأعمش، حدثنا إِبْرَاهِيمُ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: انْفَلَقَ الْقَمَرُ، وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَصَارَتْ فِلْقَةٌ مِنْ وَرَاءِ الْجَبَلِ، وَفِلْقَةٌ دُونَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اشْهَدُوا" 1. وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطّيالسيّ في "مسنده": حدثنا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: هَذَا سِحْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ فَقَالُوا: انْظُرُوا مَا يَأْتِيكُمْ بِهِ السُّفَّارُ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْحَرَ النَّاسَ كُلَّهُمْ، فَجَاءَ السُّفَّارُ فَقَالُوا: ذَلِكَ صَحِيحٌ2.
وَقَالَ هُشَيْمٌ، عَنْ مُغِيرَةَ نَحْوَهُ.
وَقَالَ بَكْرُ بْنُ مُضَرَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْقَمَرَ انْشَقَّ عَلَى زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ3. متفق عَلَيْهِ مَنْ حَدِيثِ بَكْرٍ.
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فِي قوله {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} 4 قَالَ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- انْشَقَّ فِلْقَتَيْنِ، فِلْقَةٌ مِنْ دُونِ الْجَبَلِ، وَفِلْقَةٌ مِنْ خَلْفِ الْجَبَلِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "اللهمّ اشهد" 5. أخرجه مسلم.
__________
1 صحيح: انظر التخريج السابق.
2 تقدم تخريجه من "مسند الطيالسي".
3 صحيح: أخرجها البخاري "4866" في كتاب التفسير، باب: قوله تعالى: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} ، ومسلم "2803" في كتاب صفة القيامة، باب: انشقاق القمر، والطبري في "تفسيره" "27/ 51" والطبراني في "الكبير" "10734، 10735"، وأبو نعيم في "الدلائل" "ص201، 202"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 267" والطحاوي في "مشكل الآثار "704، 705".
4 سورة القمر: 1.
5 صحيح: أخرجه مسلم "2801" في المصدر السابق، والترمذي "3299" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة القمر، والطيالسي في "مسنده" "ص257" والطبري في "تفسيره" "27/ 50"، والطبراني في "الكبير" "13473"، أبو نعيم في "الدلائل" "ص201"، والحاكم في "مستدركه" "3759"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 267"، وابن حبان في "صحيحه" "6496".

(1/131)


وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، وَهُشَيْمٌ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ، وَنَحْنُ بِمَكَّةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ1. وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو كُدَيْنَةَ، وَالْمُفَضَّلُ بْنُ يُونُسَ، عَنْ حُصَيْنٍ. وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عن أبيه. والأول أصحّ.
__________
1 صحيح: أخرجه الترمذي "3300" في المصدر السابق، وأحمد "4/ 82"، والطبري في "تفسيره" "27/ 51"، والطبراني في "الكبير" "1559، 1560، 10561"، والحاكم في "مستدركه" "3760" والبيهقي في "الدلائل" "2/ 268"، وابن حبان في "صحيحه" "6497" وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".
وفي الباب عن حذيفة -رضي الله عنه- وأخرجه الطبري في "تفسيره" "27/ 51" والطحاوي في "مشكل الآثار" "706، 707".
وعن علي -رضي الله عنه- أخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار" "696".

(1/132)


بَابُ: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ
قَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِلْيَهُودِ: أَعْطُونَا شَيْئًا نَسْأَلُ عَنْهُ هَذَا الرَّجُلَ، فَقَالُوا: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ فَنَزَلَتْ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} 2، قَالُوا: نَحْنُ لَمْ نُؤْتَ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قليلًا، وقد أوتينا التّوارة فيها حكم الله، ومن أوتي التّوارة فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، قَالَ: فَنَزَلَتْ {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} الْآيَةَ3. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، بَعَثُوا النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ، وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ إِلَى أَحْبَارِ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ، وَقَالُوا لَهُمْ: سَلُوهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَصِفُوا لهم
__________
1 صحيح: أخرجه الترمذي "3300" في المصدر السابق، وأحمد "4/ 82"، والطبري في "تفسيره" "27/ 51"، والطبراني في "الكبير" "1559، 1560، 10561"، والحاكم في "مستدركه" "3760" والبيهقي في "الدلائل" "2/ 268"، وابن حبان في "صحيحه" "6497" وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".
وفي الباب عن حذيفة -رضي الله عنه- وأخرجه الطبري في "تفسيره" "27/ 51" والطحاوي في "مشكل الآثار" "706، 707".
وعن علي -رضي الله عنه- أخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار" "696".
2 سورة الإسراء: 85.
3 سورة الكهف: 109.
والخبر صحيح، أخرجه الترمذي "3151" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة بني إسرائيل، وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" "8/ 2531": رجاله رجال مسلم. وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".

(1/132)


صِفَتَهُ، وَأَخْبِرُوهُمْ بِقَوْلِهِ، فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَعِنْدَهُمْ عِلْمُ مَا لَيْسَ عِنْدَنَا، فَقَدِمَا الْمَدِينَةَ، فَسَأَلُوا أَحْبَارَ الْيَهُودِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَوَصَفُوا لَهُمْ أَمْرَهُ بِبَعْضِ قَوْلِهِ، فَقَالَتْ لَهُمْ أَحْبَارُ الْيَهُودِ: سَلُوهُ عَنْ ثلاث نَأْمُرُكُمْ بِهِنَّ، فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِهِنَّ فَهُوَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ.
سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي الدَّهْرِ الْأَوَّلِ، مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، فَإِنَّهُ كَانَ لَهُمْ حَدِيثٌ عَجَبٌ.
وَسَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا وَمَا كَانَ نَبَؤُهُ.
وَسَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ مَا هُوَ، فَقَدِمَا مَكَّةَ فَقَالَا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قَدْ جِئْنَاكُمْ بِفَصْلِ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، قَدْ أَمَرَنَا أَحْبَارُ يَهُودَ أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ أُمُورٍ، فَجَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنَا، وَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: "أُخْبِرُكُمْ غَدًا"، وَلَمْ يَسْتَثْنِ، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ، فَمَكَثَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً لَا يُحْدِث اللَّهُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَحْيًا، وَلَمْ يَأْتِهِ جِبْرِيلُ، حَتَّى أَرْجَفَ أَهْلُ مَكَّةَ، وَقَالُوا: وَعَدَنَا غَدًا وَالْيَوْمُ خَمْسَ عَشَرَ، وَأَحْزَنَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُكْثَ الْوَحْيِ، ثُمَّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ بِسُورَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ فِيهَا مُعَاتَبَتُهُ إِيَّاهُ عَلَى حُزْنِهِ، وَخَبَرُ الْفِتْيَةِ وَالرَّجُلُ الطَّوَّافُ وَقَالَ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} 1.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُؤَالَ الْيَهُودِ عَنِ الرُّوحِ كَانَ بِالْمَدِينَةِ. وَلَعَلَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُئِلَ مَرَّتَيْنِ2.
وَقَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا، وَأَنْ يُنَحِّيَ عَنْهُمُ الْجِبَالَ فَيَزْرَعُوا فِيهَا.
فَقَالَ اللَّهُ: إِنْ شِئْتَ آتَيْنَاهُمْ مَا سَأَلُوا، فَإِنْ كَفَرُوا أُهْلِكُوا كَمَا أهلك من كان
__________
1 إسناده ضعيف: للجهالة فيه، وأخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 270".
2 حديث ابن مسعود بنحو حديث ابن عباس: وقد أخرجه البخاري "4721" في كتاب التفسير، باب: قوله تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} ، ومسلم "2794" في كتاب صفة القيامة، باب: سؤال اليهود النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الروح.

(1/133)


قَبْلَهُمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ أَسْتَأْنِيَ بِهِمْ. قَالَ: "بَلْ تَسْتَأْنِي بِهِمْ". وَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} 1. حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَرَوَاهُ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، عَنْ عِمْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرُوِيَ عَنْ أَيُّوبَ، عن سعيد بن جبير.
__________
1 سورة الإسراء: 59.
والخبر إسناده صحيح، أخرجه أحمد "1/ 258"، والنسائي في "الكبرى" "11290" وهو كما قال الشيخ أحمد شاكر في "المسند" "2333": إسناده صحيح.

(1/134)


ذكر أذية المشتركين للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين
...
ذِكْرُ أَذِيَّةِ الْمُشْرِكِينَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلِلْمُسْلِمِينَ:
الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، حَدَّثَنِي عُرْوَةُ قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قُلْتَ: حَدِّثْنِي بِأَشَدِّ شَيْءٍ صَنَعَهُ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: أَقْبَلَ عقبة بن أبي معيط والنّبيّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَلَوَى ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ بِمَنْكِبَيْهِ، فَدَفَعَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ قَالَ: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} 1. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَرَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ.
وَرَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلالٍ، وَعُبَيْدَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. وَهَذِهِ عِلَّةٌ ظَاهِرَةٌ، لَكِنْ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَهَذَا تَرْجِيحٌ لِلأَوَّلِ.
وقال سفيان، وشعبة، واللّفظ له: حدثنا أَبُو إِسْحَاقَ، سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَاجِدٌ وَحَوْلَهُ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَثَمَّ سَلَى2 بَعِيرٍ، فَقَالُوا: مَنْ يَأْخُذُ سَلَى هَذَا الْجَزُورِ فَيَقْذِفُهُ عَلَى ظَهْرِهِ، فَجَاءَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ فَقَذَفَهُ عَلَى ظَهْرِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَخَذَتْهُ عَنْ ظَهْرِهِ، وَدَعَتْ عَلَى مَنْ صَنَعَ ذَلِكَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَعَا عَلَيْهِمْ إِلَّا يَوْمَئِذٍ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ الْمَلأَ مِنْ قُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ" -أَوْ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ، شَكَّ شُعْبَةُ، وَلَمْ يَشُكَّ سفيان بن أميّة- قال عبد الله: فقد رأيتهم
__________
1 سورة غافر: 28.
والخبر أخرجه البخاري "4815" في كتاب التفسير، باب: سورة المؤمن، وأحمد "2/ 204"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 274".
2 السلى: الجلدة الرقيقة التي يخرج فيها الجنين من بطن أمه.

(1/135)


قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ وَأُلْقُوا فِي الْقَلِيبِ، غَيْرَ أَنَّ أُمَيَّةَ كَانَ رَجُلا بَادِنًا، فَتَقَطَّعَ قَبْلَ أَنْ يُبْلَغَ بِهِ الْبِئْرُ1. أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ شعبة، ومن حديث سفيان.
وقال "م"2: حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبَانٍ، أنا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ زَكَرِيَّا، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونَ، عن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ، وَقَدْ نُحِرَتْ جَزُورٌ بِالْأَمْسِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى سَلَى جَزُورٍ فَيَضَعُهُ عَلَى كَتِفَيْ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَاهُمْ، فَأَخَذَهُ فَوَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فضحكوا وجعل بعضكم يَمِيلُ إِلَى بَعْضٍ، وَأَنَا قَائِمٌ أَنْظُرُ لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَةٌ طَرَحْتُهُ، وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ، فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ، وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ فَطَرَحَتْهُ عَنْهُ وَسَبَّتْهُمْ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ رَفَعَ صَوْتَهُ ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ إذا دَعَا ثَلَاثًا، وَإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ" ثَلَاثًا، فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتَهُ ذَهَبَ عَنْهُمُ الضَّحِكُ وَخَافُوا دَعْوَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ" وَذَكَرَ السَّابِعَ وَلَمْ أَحْفَظْهُ. فَوَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ، لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ سَمَّى صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ، قَلِيبِ بَدْرٍ3.
وَقَالَ زَائِدَةُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ إسلام سَبْعَةٌ: رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَمَّارٌ، وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلَالٌ، وَالْمِقْدَادُ.
فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ.
وَأَمَّا أبو بكر فمنعه الله بقومه.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3854" في كتاب مناقب الأنصار، باب: ما لقي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابُهُ مِنَ المشركين بمكة، ومسلم "1794" في كتاب الجهاد، باب: ما لقي النَّبِيّ -صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أذى المشركين والمنافقين، وأحمد "1/ 417"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 278".
2 إشارة إلى "مسلم".
3 صحيح: أخرجه مسلم "1794/ 107" في المصدر السابق.

(1/136)


وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ، وأوقفوهم في الشمس، فما ن أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وَاتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا غَيْرَ بِلَالٍ، فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللَّهِ، وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ، فَأَعْطُوهُ الْوِلْدَانَ فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِ فِي شِعَابِ مَكَّةَ، وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ1. حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ هِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّ بِعَمَّارٍ وَأَهْلِهِ، وَهُمْ يُعَذَّبُونَ، فَقَالَ: "أَبْشِرُوا آلَ يَاسِرَ فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ" 2.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: كَانَ أَوَّلُ شَهِيدٍ فِي الْإِسْلَامِ أُمَّ عَمَّارٍ سُمَيَّةُ، طَعَنَهَا أَبُو جَهْلٍ بحربة في قبلها3.
وقال يونس بن بكير، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْتَقَ مِمَّنْ كَانَ يُعَذَّبُ فِي اللَّهِ سَبْعَةً، فَذَكَرَ مِنْهُمُ الزِّنِّيرَةَ، قَالَ: فَذَهَبَ بَصَرُهَا، وَكَانَتْ مِمَّنْ يُعَذَّبُ فِي اللَّهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَتَأْبَى إِلَّا الْإِسْلَامَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: مَا أَصَابَ بَصَرَهَا إِلَّا اللَّاتُ وَالْعُزَّى، فَقَالَتْ: كَلَّا وَاللَّهِ مَا هُوَ كَذَلِكَ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهَا بَصَرَهَا4.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بن أبي خالد وغيره: حدثنا قَيْسٌ قَالَ: سَمِعْتُ خَبَّابًا يَقُولُ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، وَقَدْ لَقِينَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ شِدَّةً شَدِيدَةً فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَلا تدعو اللَّهَ، فَقَعَدَ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ فَقَالَ: "إِنْ كان من قَبْلَكُمْ لَيُمَشِّطُ أَحَدَهُمْ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عَظْمِهِ مِنْ لَحْمٍ أَوْ عَصَبٍ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُوضَعُ الْمِنْشَارُ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَلَيُتَمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا
__________
1 حسن: أخرجه ابن ماجه "150" في المقدمة، باب: في فصائل أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأحمد "1/ 404"، وأبو نعيم في "الحلية" "487"، وحسنه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه" "122".
2 صحيح: أخرجه الحاكم في "مستدركه" "5666" والبيهقي في "الدلائل" "2/ 282"، وقال الألباني في تحقيق "فقه السيرة" "ص122": حديث حسن صحيح، رواه ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 203" بلاغًا، ووصله الحاكم والطبراني في "الأوسط" "كما في "المجمع" "9/ 293" عن جابر، وأخرجه أبو أحمد الحاكم في "الإصابة". ا. هـ.
3 مرسل: ذكره الحافظ ابن كثير في "البداية" "2/ 71" وعزاه للإمام أحمد، وقال: مرسل.
4 مرسل.

(1/137)


اللَّهَ" 1. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَزَادَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ بَيَانِ بْنِ بِشْرٍ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ2.
وَقَالَ الْبَكَّائِيُّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي حَكِيمُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَبْلُغُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْعَذَابِ مَا يُعْذَرُونَ بِهِ فِي تَرْكِ دِينِهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ وَاللَّهِ، إِنْ كَانُوا لَيَضْرِبُونَ أَحَدَهُمْ يُجِيعُونَهُ وَيُعَطِّشُونَهُ، حَتَّى مَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَسْتَوِي جالسًا من شدّة الضّرّ الذي نزل له، حَتَّى يُعْطِيَهُمْ مَا سَأَلُوهُ مِنَ الْفِتْنَةِ، حَتَّى يَقُولُوا لَهُ: آللَّاتُ وَالْعُزَّى إِلَهُكَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، حَتَّى إِنَّ الْجُعْلَ لَيَمُرُّ بهم فيقولون له: أهذا الْجُعْلُ إِلَهُكَ مِنْ دُونَ اللَّهِ، فَيَقُولُ: نَعَمْ، افْتِدَاءً مِنْهُمْ مِمَّا يَبْلُغُونَ مِنْ جَهْدِهِ3.
وَحَدَّثَنِي الزُّبَيْرُ بْنُ عُكَّاشَةَ، أَنَّهُ حُدِّثَ، أَنَّ رِجَالًا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ مَشَوْا إِلَى هِشَامِ بْنِ الْوَلِيدِ، حِينَ أَسْلَمَ أَخُوهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَكَانُوا قَدْ أَجْمَعُوا أَنْ يَأْخُذُوا فِتْيَةً مِنْهُمْ كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا، مِنْهُمْ سَلَمَةُ بْنُ هِشَامٍ، وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، قَالَ: فَقَالُوا لَهُ وَخَشَوْا شَرَّهُ: إِنَّا قَدْ أَرَدْنَا أَنْ تُعَاتِبَ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةِ عَلَى هَذَا الدِّينِ الَّذِي قَدْ أحدثوا فإنّا بِذَلِكَ فِي غَيْرِهِ، قَالَ: هَذَا فَعَلَيْكُمْ بِهِ فَعَاتِبُوهُ، يَعْنِي أَخَاهُ الْوَلِيدَ، ثُمَّ إِيَّاكُمْ وَنَفْسَهُ، وَقَالَ:
أَلَا لَا تَقْتُلُنَّ أَخِي عُيَيْشًا ... فَيَبْقَى بَيْنَنَا أَبَدًا تَلَاحِي
احْذَرُوا عَلَى نَفْسِهِ، فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَئِنْ قَتَلْتُمُوهُ لَأَقْتُلَنَّ أَشْرَفَكُمْ رَجُلا، قَالَ: فَتَرَكُوهُ، فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا دَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَنْهُ4.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ: لَمَّا قَدِمَ عَمْرُو بْنُ العاص من
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3852" في كتاب مناقب الأنصار، باب: ما لقي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابُهُ مِنَ المشركين بمكة، وأبو داود "2649" في كتاب الجهاد، باب: في الأسير يكره على الكفر، وأحمد "5/ 109، 110، 111" وأبو نعيم في "الحلية" "473"، ولم يروه مسلم كما يدل عليه خاتمة كتاب المناقب في "الفتح" "6/ 735".
2 صحيح: انظر التخريج السابق.
3 إسناده ضعيف: حكيم بن جبير ضعيف كما في "التقريب" "1468".
4 إسناده ضعيف.

(1/138)


الْحَبَشَةِ جَلَسَ فِي بَيْتِهِ فَقَالُوا: مَا شَأْنُهُ، لا لَهُ لَا يَخْرُجُ؟ فَقَالَ: إِنَّ أَصْحَمَةَ يَزْعُمُ أنّ صاحبكم نبيّ1.
كتاب النجاشي للنبي -صلى الله عليه وسلم- بإسلامه:
وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، مَنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ الرَّازِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَتَبَ إِلَى النَّجَاشِيِّ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ مَعَ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، وَأَنَّ النَّجَاشِيَّ كَتَبَ إِلَيْهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ النَّجَاشِيِّ أَصْحَمَةَ بْنِ أَبْحَرَ، سَلَامٌ عَلَيْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وبركاته، أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدْ بَايَعْتُكَ وَبَايَعْتُ ابْنَ عَمِّكَ، وَأَسْلَمْتُ عَلَى يَدَيْهِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ أَرِيحَا ابْنِي، فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي، وَإِنْ شِئْتَ، أَنْ آتِيَكَ فَعَلْتُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ2.
قَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: كَانَ اسْمُ النَّجَاشِيِّ مَصْحَمَةَ، وَهُوَ بِالْعَرَبِيَّةِ عَطِيَّةٌ، وَإِنَّمَا النَّجَاشِيُّ اسْمُ الْمَلِكِ، كَقَوْلِكَ كِسْرَى وَهِرَقْلُ3.
وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ، أَنّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى عَلَى أَصْحَمَةَ النَّجَاشِيِّ4، وَأَمَّا قَوْلُهُ مَصْحَمَةُ فلفظ غريب.
__________
1 مرسل.
2 معضل إسناده ضعيف جدًّا: محمد بن حميد الرازي متهم كما يأتي في ترجمته "1935".
3 معضل.
4 صحيح: أخرجه البخاري "1334" في كتاب الجنائز، باب: التكبير على الجنازة أربعًا، ومسلم "952": في كتاب الجنائز، باب: في التكبير على الجنائز، والنسائي "4/ 69" في كتاب الجنائز، باب: الصفوف على الجنازة، وأحمد "3/ 295-319".

(1/139)


ذِكْرُ شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ وَالصَّحِيفَةِ:
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُمُ اشْتَدُّوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَأَشَدِّ مَا كَانُوا، حَتَّى بَلَغَ الْمُسْلِمِينَ الْجَهْدُ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْبَلاءُ، وَاجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ فِي مَكْرِهَا أَنْ يَقْتُلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَانِيَةً، فَلَمَّا رَأَى أَبُو طَالِبٍ عَمَلَهُمْ جَمَعَ بَنِي هَاشِمٍ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُدْخِلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شِعْبَهُمْ وَيَمْنَعُوهُ مِمَّنْ أَرَادَ قَتْلَهُ، فَاجْتَمَعُوا عَلَى ذَلِكَ مُسْلِمُهُمْ وَكَافِرُهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ فَعَلَهُ حَمِيَّةً، وَمِنْهُمْ مَنْ فَعَلَهُ إِيمَانًا، فَلَمَّا عَرَفَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ الْقَوْمَ قَدْ مَنَعُوهُ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ أَنْ لَا يُجَالِسُوهُمْ وَلَا يُبَايِعُوهُمْ، حَتَّى يُسْلِمُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلْقَتْلِ، وَكَتَبُوا فِي مَكْرِهِمْ صَحِيفَةً وَعُهُودًا وَمَوَاثِيقَ، لَا يَقْبَلُوا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَبَدًا صُلْحًا، وَلَا تَأْخُذُهُمْ بِهِمْ رَأْفَةٌ حَتَّى يُسْلِمُوهُ لِلْقَتْلِ.
فَلَبِثَ بَنُو هَاشِمٍ فِي شِعْبِهِمْ، يَعْنِي ثَلاثَ سِنِينَ، واشتدّ عليهم البلاء، وقطعوا عنهم الأصواق، وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ إِذَا نَامَ النَّاسُ أَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاضْطَجَعَ عَلَى فِرَاشِهِ، حَتَّى يَرَى ذَلِكَ مَنْ أَرَادَ مَكْرًا بِهِ وَاغْتِيَالَهُ، فَإِذَا نَامَ النَّاسُ أَمَرَ أَحَدَ بَنِيهِ أَوْ إِخْوَتِهِ فَاضْطَجَعَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَأْتِي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فِرَاشَ ذَلِكَ فَيَنَامُ عَلَيْهِ، فَمَا كَانَ رَأْسُ ثَلَاثِ سِنِينَ، تَلَاوَمَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَمِنْ بَنِي قُصَيٍّ، وَرِجَالٌ أُمَّهَاتُهُمْ مِنْ نِسَاءِ بَنِي هَاشِمٍ، وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ قَطَّعُوا الرَّحِمَ وَاسْتَخَفُّوا بِالْحَقِّ، وَاجْتَمَعَ أَمْرُهُمْ مِنْ لَيْلَتِهِمْ عَلَى نَقْضِ مَا تَعَاهَدُوا عَلَيْهِ مِنَ الْغَدْرِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُ.
وَبَعَثَ اللَّهُ عَلَى صَحِيفَتِهِمُ الْأَرَضَةَ1، فَلَحَسَتْ كُلَّ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ، وَيُقَالُ كَانَتْ مُعَلَّقَةً فِي سَقْفِ الْبَيْتِ، فَلَمْ تَتْرُكِ اسْمًا لِلَّهِ إِلا لَحَسَتْهُ، وَبَقِيَ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ شَرْكٍ أَوْ ظُلْمٍ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَأَخْبَرَ بِهِ أَبَا طَالِبٍ، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: لَا وَالثَّوَاقِبِ2 مَا كَذَبَنِي، فَانْطَلَقَ يَمْشِي بِعِصَابَةٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ وَهُوَ حَافِلٌ مِنْ قُرَيْشٌ، فَأَنْكَرُوا ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: قَدْ حَدَثَتْ أُمُورٌ بَيْنَكُمْ لَمْ نَذْكُرْهَا لَكُمْ، فَائْتُوا بِصَحِيفَتِكُمُ الَّتِي تَعَاهَدْتُمْ عَلَيْهَا، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ صُلْحٌ، فَأَتَوْا بِهَا وَقَالُوا: قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تَقْبَلُوا وَتَرْجِعُوا إِلَى أَمْرٍ يَجْمَعُ قَوْمَكُمْ، فَإِنَّمَا قَطَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَجَعَلْتُمُوهُ خَطَرًا لِلْهَلَكَةِ، قَالَ أَبُو طَالِبٍ: إِنَّمَا أَتَيْتُكُمْ لِأُعْطِيكُمْ أَمْرًا لَكُمْ فِيهِ نِصْفٌ3، إِنَّ ابْنَ أَخِي قَدْ أَخْبَرَنِي وَلَمْ يَكْذِبْنِي، أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَمَحَا كُلَّ اسْمٍ هُوَ لَهُ فِيهَا، وَتَرَكَ فِيهَا غَدْرَكُمْ وَقَطِيعَتَكُمْ، فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ، فأفيقوا، فوالله لا
__________
1 الأرضة: دوبية تأكل الخشب.
2 الثواقب: الكواكب المضيئة.
3 نصف: إنصاف.

(1/140)


نُسْلِمُهُ أَبَدًا حَتَّى نَمُوتَ مِنْ عِنْدِ آخِرِنَا، وَإِنْ كَانَ الَّذِي قَالَ بَاطِلًا، دَفَعْنَاهُ إِلَيْكُمْ، فَرَضُوا وَفَتَحُوا الصَّحِيفَةَ، فَلَمَّا رَأَتْهَا قُرَيْشٌ كَالَّذِي قَالَ أَبُو طَالِبٍ، قَالُوا: وَاللَّهِ إِنْ كَانَ هَذَا قَطُّ إِلَّا سِحْرًا مِنْ صَاحِبِكُمْ، فَارْتَكَسُوا1 وَعَادُوا لِكُفْرِهِمْ، فَقَالَ بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: إِنَّ أَوْلَى بِالْكَذِبِ وَالسَّحْرِ غَيْرَنَا، فَكَيْفَ تَرَوْنَ، وَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي اجْتَمَعْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ قَطِيعَتِنِا أَقْرَبُ إِلَى الْجِبْتِ وَالسِّحْرِ مِنْ أَمْرِنَا، وَلَوْلا أَنَّكُمُ اجْتَمَعْتُمْ عَلَى السِّحْرِ لَمْ تَفْسُدِ الصَّحِيفَةُ، وَهِيَ فِي أَيْدِيكُمْ، أَفَنَحْنُ السَّحَرَةُ أَمْ أَنْتُمْ؟ فَقَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ، وَمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ، وَزُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَهِشَامُ بْنُ عَمْرٍو، وَكَانَتِ الصَّحِيفَةُ عِنْدَهُ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، فِي رِجَالٍ مِنْ أَشْرَافِهِمْ: نَحْنُ بَرَاءٌ مِمَّا فِي هذه الصَّحِيفَةِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَذَا أَمْرٌ قُضِيَ بِلَيْلٍ2.
وَذَكَرَ نَحْوَ هَذِهِ الْقِصَّةِ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ نَحْوًا مِنْ هَذَا، وَقَالَ: حَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أَبَا لَهَبٍ، يَعْنِي حين فارق قومه من الشعب، لقي هندًا بِنْتَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، فَقَالَ لَهَا: هَلْ نَصَرْتِ اللاتَ وَالْعُزَّى وَفَارَقْتِ مَنْ فَارَقَهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا يَا أَبَا عُتْبَةَ3.
وَأَقَامَ بَنُو هَاشِمٍ سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا حَتَّى جُهِدُوا، لَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ شَيْءٌ إِلا سِرًّا مُسْتَخْفًى بِهِ. وَقَدْ كَانَ أَبُو جَهْلٍ فِيمَا يَذْكُرُونَ لَقِيَ حَكِيمَ بْنَ حِزَامِ بْنِ خُوَيْلِدٍ، وَمَعَهُ غُلَامٌ يَحْمِلُ قَمْحًا، يُرِيدُ بِهِ عَمَّتَهُ خَدِيجَةَ، وَهِيَ فِي الشِّعْبِ فَتَعَلَّقَ بِهِ وَقَالَ: أَتَذْهَبُ بِالطَّعَامِ إِلَى بَنِي هَاشِمٍ، وَاللَّهِ لَا تَبْرَحُ أَنْتَ وَطَعَامُكَ حَتَّى أَفْضَحَكَ بِمَكَّةَ، فَجَاءَهُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ فَقَالَ: مَا لَكَ وَلَهُ! قَالَ: يَحْمِلُ الطَّعَامَ إِلَى بَنِي هَاشِمٍ! قَالَ: طَعَامٌ كَانَ لِعَمَّتِهِ عِنْدَهُ أَفَتَمْنَعُهُ أَنْ يَأْتِيَهَا بِطَعَامِهَا، خَلِّ سَبِيلَ الرَّجُلِ، فَأَبَى أَبُو جَهْلٍ حَتَّى نَالَ أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ، فَأَخَذَ لَهُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ لِحَى بَعِيرٍ، فَضَرَبَهُ فَشَجَّهُ وَوَطِئَهُ وَطْئًا شَدِيدًا، وَحَمْزَةُ يَرَى ذَلِكَ، وَيَكْرَهُونَ أن يبلغ ذلك
__________
1 ارتكسوا: انتكسوا.
2 مرسل: انظر "البداية" "2/ 101، 102".
3 مرسل: أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 332".

(1/141)


رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابُهُ، فيشتموا بهم. قَالَ: وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى ذَلِكَ يَدْعُو قَوْمَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا، سِرًّا وَجَهْرًا1.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: فَلَمَّا أَفْسَدَ اللَّهُ الصَّحِيفَةَ، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ورهطه، فعاشوا وخالطوا النّاس.
__________
1 ذكره ابن إسحاق بدون إسناد كما في "السيرة" "1/ 333، 334".

(1/142)


بَابُ: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} 1
قَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} قَالَ: الْمُسْتَهْزِئُونَ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ عبد يغوث الزّهري، وأبو زمعة السود بن المطّلب من بني أسد ين عبد العزّى، والحارث بن عيطل، السَّهْمِيُّ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَشَكَاهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَيْهِ، فَأَرَاهُ الْوَلِيدَ، وَأَوْمَأَ جِبْرِيلُ إِلَى أَبْجَلِهِ2 فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: كُفِيتَهُ، ثُمَّ أَرَاهُ الْأَسْوَدَ، فَأَوْمَأَ جِبْرِيلُ إِلَى عَيْنَيْهِ فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: كُفِيتَهُ، ثُمَّ أَرَاهُ أَبَا زَمْعَةَ، فَأَوْمَأَ إِلَى رَأْسِهِ فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ كُفِيتَهُ، ثُمَّ أَرَاهُ الْحَارِثَ، فَأَوْمَأَ إِلَى رَأْسِهِ أَوْ بَطْنِهِ وَقَالَ: كُفِيتَهُ، فَأَمَّا الْوَلِيدُ، فَمَرَّ بِرَجُلٍ مِنْ خُزَاعَةَ، وَهُوَ يَرِيشُ نِبَالًا، فَأَصَابَ أَبْجَلَهُ فَقَطَعَهَا، وَأَمَّا الْأَسْوَدُ فَعَمِيَ. وَأَمَّا ابْنُ عَبْدِ يَغُوثَ فخرج في رأسه قروح فمات مِنْهَا، وَأَمَّا الْحَارِثُ فَأَخَذَهُ الْمَاءُ الأَصْفَرُ فِي بَطْنِهِ، حَتَّى خَرَجَ خُرْؤُهُ مِنْ فِيهِ فَمَاتَ مِنْهَا، وَأَمَّا الْعَاصُ فَدَخَلَ فِي رَأْسِهِ شِبْرَقَةٌ3، حَتَّى امْتَلَأَتْ فَمَاتَ مِنْهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّهُ رَكِبَ إِلَى الطَّائِفِ حِمَارًا فَرَبَضَ بِهِ عَلَى شَوْكَةٍ، فَدَخَلَتْ فِي أَخْمَصِهِ4 فَمَاتَ مِنْهَا5. حَدِيثٌ صحيح.
__________
1 سورة الحجر: 95.
2 الأبجل: عرق في ذراع البعير والفرس.
3 الشبرقة: نبات حجازي له شوك.
4 الأخمص: باطن القدم المرفوع عن الأرض.
5 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 316-318".

(1/142)


دُعَاءُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى قُرَيْشٍ بِالسَّنَةِ 1:
قَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ يُحَدِّثُ فِي الْمَسْجِدِ، إِذْ قَالَ فِيمَا يَقُولُ: يَوْمَ تأتي السّماء بدخان مبين، قَالَ: دُخَانٌ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَأْخُذُ بِأَسْمَاعِ الْمُنَافِقِينَ وَأَبْصَارِهِمْ، وَيَأْخُذُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ كَهَيْئَةِ الزُّكْمَةِ، فَقُمْنَا فَدَخَلْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَأَخْبَرْنَاهُ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ عِلْمًا فَلْيَقُلْ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ: اللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يَقُولَ الْعَالِمُ لِمَا لَا يَعْلَمُ اللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} 2. وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنِ الدُّخَانِ: إِنَّ قُرَيْشًا لَمَّا اسْتَعْصَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبْطَئُوا عَنِ الْإِسْلَامِ قَالَ: "اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ"، فَأَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ فَحَصَّتْ3 كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَكَلُوا الْجِيَفَ وَالْمَيْتَةَ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ يَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنَ الْجُوعِ، ثُمَّ دَعَوْا فَكُشِفَ عَنْهُمْ، يَعْنِي قَوْلَهُمْ {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} 4. ثم قرأ عبد الله {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} 5 قَالَ: فَعَادُوا فَكَفَرُوا فَأُخِّرُوا إِلَى يَوْمِ بَدْرٍ {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} 6. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ يَوْمَ بَدْرٍ فَانْتُقِمَ مِنْهُمْ7. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ الدَّهَّانُ، وَقَدْ تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ: أَنْبَأَ أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ النَّاسِ إِدْبَارًا قَالَ: "اللَّهُمَّ سَبْعٌ كَسَبْعِ يُوسُفَ" فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَتَّى أَكَلُوا الْمَيْتَةَ وَالْجُلُودَ وَالْعِظَامَ، فَجَاءَهُ أَبُو سُفْيَانَ وَغَيْرُهُ فَقَالَ: إِنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّكَ بُعِثْتَ رَحْمَةً، وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا، فَادْعُ اللَّهَ لَهُمْ، فَدَعَا فَسُقُوا الغيث8.
__________
1 السنة: القحط.
2 سورة ص: 86.
3 فحصت: المراد أهلكت.
4 سورة الدخان: 12.
5 سورة الدخان: 15.
6 سورة الدخان: 16.
7 صحيح: أخرجه البخاري "4822" في كتاب التفسير، باب: قوله تعالى {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} ، ومسلم "2798" في كتاب صفة القيامة، باب: الدخان، والترمذي "3265" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة الدخان، وأحمد "1/ 431، 441"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 326، 327".
8 انظر التخريج السابق، وهو لفظ البيهقي.

(1/143)


قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَضَتْ آيَةُ الدُّخَانِ، وَهُوَ الْجُوعُ الَّذِي أَصَابَهُمْ، وَآيَةُ الرُّومِ، وَالْبَطْشَةُ الْكُبْرَى، وَانْشِقَاقُ الْقَمَرِ1.
وَأَخْرَجَا مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ: اللِّزَامُ، وَالرُّومُ، وَالدُّخَانُ، وَالْقَمَرُ، وَالْبَطْشَةُ2.
وَقَالَ أَيُّوبُ وَغَيْرُهُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْتَغِيثُ مِنَ الْجُوعِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا شَيْئًا، حَتَّى أَكَلُوا الْعِلْهِزَ3. بِالدَّمِ، فَنَزَلَتْ: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} 4.
__________
1 صحيح: انظر التخريج المتقدم.
2 صحيح: أخرجه مسلم "2798/ 41" في المصدر السابق.
3 العلهز: الوبر المختلط بالدم.
4 سورة المؤمنون: 76.
والخبر أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 329".

(1/144)


ذِكْرُ الرُّومِ:
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسٍ، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ فَارِسٌ عَلَى الرُّومِ، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ أَوْثَانٍ، فَذَكَرَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ لِأَبِي بَكْرٍ، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "أَمَا إِنَّهُمْ سَيَظْهَرُونَ"، فَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ لَهُمْ ذَلِكَ، فقالوا: اجعل بيننا وبينكم أَجَلًا، فَجَعَلَ بَيْنَهُمْ أَجَلَ خَمْسِ سِنِينَ فَلَمْ يَظْهَرُوا، فَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "أَلَا جَعَلْتَهُ -أَرَاهُ قَالَ- دُونَ الْعَشْرِ"، قَالَ: فَظَهَرَتِ الرُّومُ بَعْدَ ذَلِكَ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ} 1.
__________
1 سورةالروم: 2-4.
والخبر صحيح، أخرجه الترمذي "3204" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة الروم، وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".

(1/144)


قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: وَسَمِعْتُ أَنَّهُمْ ظَهَرُوا يَوْمَ بَدْرٍ1.
وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيُّ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنِ ابْنِ عبّاس: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ} 2 قَالَ: قَدْ مَضَى ذَلِكَ وَغَلَبَتْهُمْ فَارِسٌ، ثُمَّ غَلَبَتْهُمُ الرُّومُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَقِيَ نَبِيُّ اللَّهِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَالْتَقَتِ الرُّومُ وَفَارِسُ، فَنَصَرَ اللَّهُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَنُصِرَ الرُّومُ عَلَى مُشْرِكِي الْعَجَمِ، فَفَرِحَ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، وَنَصْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ3.
قَالَ عَطِيَّةُ: فَسَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: الْتَقَيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَحْنُ وَمُشْرِكُو الْعَرَبِ، وَالْتَقَتِ الرُّومُ وَفَارِسُ، فَنَصَرَنَا اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَنَصَرَ اللَّهُ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَى الْمَجُوسِ، فَفَرِحْنَا بِنَصْرِنَا وَنَصْرِهِمْ4.
وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ -يَعْنِي أَوَّلَ الرُّومِ- نَاحَبَ أَبُو بَكْرٍ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ، يَعْنِي رَاهَنَ قَبْلَ أَنْ يُحَرَّمَ الْقِمَارُ، عَلَى شَيْءٍ، إِنْ لَمْ تُغْلَبْ فَارِسُ فِي سبع سنين، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لِمَ فَعَلْتَ، فَكُلُّ مَا دُونَ الْعَشْرِ بِضْعٌ"، فَكَانَ ظُهُورُ فَارِسِ عَلَى الرُّومِ فِي سَبْعِ سِنِينَ، وَظُهُورُ الرُّومِ عَلَى فَارِسٍ فِي تِسْعِ سِنِينَ. ثُمَّ أَظْهَرَ اللَّهُ الرُّومَ عَلَيْهِمْ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَفَرِحَ بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ5.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي عروبة، عن قتادة {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} 6 قَالَ: غَلَبَهُمْ أَهْلُ فَارِسٍ عَلَى أَدْنَى الشَّامِ، قَالَ: فَصَدَّقَ الْمُسْلِمُونَ رَبَّهُمْ، وَعَرَفُوا أَنَّ الرُّومَ سيظهرون بعد، فاقتمروا هم المشركون عَلَى خَمْسِ قَلَائِصَ7، وَأَجَّلُوا بَيْنَهُمْ خَمْسَ سِنِينَ، فَوَلِيَ قِمَارَ الْمُسْلِمِينَ أَبُو بَكْرٍ، وَوَلِيَ قِمَارَ الْمُشْرِكِينَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ
__________
1 صحيح: ذكره الترمذي عقب الرواية السابقة، ويأتي موصولًا عن أبي سعيد الخدري.
2 سورة الروم: 1، 2.
3 إسناده ضعيف: عطية العوفي ضعيف,.
4 صحيح: أخرجه بنحوه الترمذي "3203" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة الروم، وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".
5 مرسل.
6 سورة الروم: 3.
7 قلائص: الإبل الفتية.

(1/145)


يُنْهَى عَنِ الْقِمَارِ، فَجَاءَ الْأَجَلُ، وَلَمْ تَظْهَرِ الرُّومُ، فَسَأَلَ الْمُشْرِكُونَ قِمَارَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَمْ تَكُونُوا أَحِقَّاءَ أَنْ تُؤَجِّلُوا أَجَلًا دُونَ الْعَشْرِ، فَإِنَّ الْبِضْعَ ما بين الثلاث إلى العشر، فزايدوهم مادّوهم فِي الْأَجَلِ" فَفَعَلُوا، فَأَظْهَرَ اللَّهُ الرُّومَ عِنْدَ رَأْسِ السَّبْعِ مِنْ قِمَارِهِمُ الْأَوَّلِ، وَكَانَ ذَلِكَ مَرْجِعَهُمْ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ1.
وَقَالَ الوليد بن مسلم: حدثنا أُسَيْدٌ الْكِلَابِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ الْعَلَاءَ بْنَ الزُّبَيْرِ الْكِلَابِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ غَلَبَةَ فَارِسٍ الرُّومَ، ثُمَّ رَأَيْتُ غَلَبَةَ الرُّومِ فَارِسَ، ثُمَّ رَأَيْتُ غَلَبَةَ الْمُسْلِمِينَ فَارِسَ وَالرُّومَ، وَظُهُورَهُمْ عَلَى الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، كُلُّ ذَلِكَ فِي خَمْسَ عشرة سنة.
__________
1 مرسل.

(1/146)


ثُمَّ تُوُفِّيَ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ وَزَوْجَتُهُ خَدِيجَةُ:
يُقَالُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} 1. أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ وَنَزَلَ فِيهِ {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} 2.
قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَمَّنْ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي قوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ، كَانَ يَنْهَى الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيَنْأَى عَنْهُ3.
وَرَوَاهُ حَمْزَةُ الزَّيَّاتُ، عَنْ حَبِيبٍ، فَقَالَ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- فوجد أَبَا جَهْلٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا عَمُّ قُلْ لَا إِلَهَ إلا الله أحاجّ لك بها
__________
1 سورة الأنعام: 26.
2 سورة القصص: 56.
3 إسناده ضعيف: للجهالة فيه، وقد أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 58" من طريق الواقدي.

(1/146)


عند الله" فقالا: أيا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ! قَالَ: فَكَانَ آخِرُ كَلِمَةٍ أَنْ قَالَ: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ" فَنَزَلَتْ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} 1 الْآيَتَيْنِ، وَنَزَلَتْ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} 2 أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَلِلْبُخَارِيِّ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ.
وَقَدْ حَكَى عَنْ أَبِي طَالِبٍ، وَاسْمُهُ عَبْدُ مَنَافٍ، ابْنُهُ عَلِيٌّ، وَأَبُو رَافِعٍ مَوْلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ أَبَا طَالِبٍ قَالَ: كُنْتُ بِذِي الْمَجَازِ مَعَ ابْنِ أَخِي، فَعَطِشْتُ، فَشَكَوْتُ إِلَيْهِ، فَأَهْوَى بِعَقِبِهِ إلى الأرض، فَشَرِبْتُ3.
وَعَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ قَالَ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَسُودُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا بِمَالٍ، إِلَّا أَبَا طَالِبٍ وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ.
قُلْتُ: وَلِأَبِي طَالِبٍ شِعْرٌ جِيِّدٌ مُدَوَّنٌ فِي السِّيرَةِ وَغَيْرِهَا.
وَفِي "مُسْنَدِ أَحْمَدَ" مَنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حَبَّةَ الْعُرَنِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيًّا ضَحِكَ عَلَى الْمِنْبَرِ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ أَبِي طَالِبٍ، ظَهَرَ عَلَيْنَا أَبُو طَالِبٍ وَأَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نُصَلِّي ببطن نخلة فقال: ماذا تصنعان يابن أَخِي؟ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ: مَا بِالَّذِي تَصْنَعَانِ مِنْ بَأْسٍ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَا يَعْلُونِي اسْتِي أَبَدًا، فَضَحِكْتُ تَعَجُّبًا مِنْ قَوْلِ أَبِي4.
وَرَوَى مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ قُرَيْشًا أَظْهَرُوا لِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْعَدَاوَةَ وَالشَّتْمَ، فَجَمَعَ أَبُو طَالِبٍ رَهْطَهُ، فَقَامُوا بَيْنَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ يدعون الله على
__________
1 سورة التوبة: 113.
2 سورة القصص: 56.
والخبر صحيح، أخرجه مسلم "24" في كتاب الإيمان، باب: الدليل على صحة إسلام من حضره الموت، وأخرجه البخاري "4675" في كتاب التفسير، باب: قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} ، والنسائي "4/ 90، 91" في كتاب الجنائز، باب: "25/ 433".
3 مرسل: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 72".
4 إسناده، ضعيف جدًّا: يحيى بن سلمة بن كهيل متروك كما في "التقريب" "7561".

(1/147)


مَنْ ظَلَمَهُمْ، وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: إنْ أَبَى قَوْمُنَا إِلا الْبَغْيَ عَلَيْنَا فَعَجِّلْ نَصْرَنَا، وَخَلِّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الَّذِي يُرِيدُونَ مِنْ قَتْلِ ابْنِ أَخِي، ثُمَّ دَخَلَ بِآلِهِ الشِّعْبَ1.
ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَتَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَبَا طَالِبٍ قَالَ: "أَيْ عَمُّ، قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَسْتَحِلُّ لَكَ بِهَا الشَّفَاعَةَ"، قال: يابن أَخِي، وَاللَّهِ لَوْلَا أَنْ تَكُونَ سُبَّةً عَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ، يَرَوْنَ أَنِّي قُلْتُهَا جَزَعًا مِنَ الموت، لقلتها، لا أقولها إلا لأسرك بها، فَلَمَّا ثَقُلَ أَبُو طَالِبٍ رُؤِيَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَأَصْغَى إِلَيْهِ أَخُوهُ الْعَبَّاسُ ثُمَّ رَفَعَ عَنْهُ فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ وَاللَّهِ قَالَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمْ أَسْمَعْ"2.
قُلْتُ: هَذَا لَا يَصِحُّ، وَلَوْ كَانَ سَمِعَهُ الْعَبَّاسُ يَقُولُهَا لَمَا سَأَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ: هَلْ نَفَعْتَ عَمَّكَ بِشَيْءٍ3، وَلَمَا قَالَ عليّ بعد موته: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ4. صَحَّ أَنَّ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ، رَوَى عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ رَافِعٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنُ عُمَرَ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} 5 نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ؟ قَالَ: نَعَمْ6.
زَيْدُ بن الحباب، حدثنا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ الْعَبَّاسِ، أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا تَرْجُو لِأَبِي طَالِبٍ؟ قَالَ: "كُلَّ الْخَيْرِ مِنْ رَبِّي" 7.
__________
1 مرسل.
2 إسناده ضعيف: أخرجه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 383" وفي إسناده جهالة.
2 صحيح: أخرجه البخاري "3883" في كتاب مناقب الأنصار، باب: قصة أبي طالب، ومسلم "209" في كتاب الإيمان، باب: شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي طالب، وابن سعد في "الطبقات" "1/ 59".
4 صحيح: أخرجه أبو داود "3214" في كتاب الجنائز، باب: الرجل يموت له قرابة مشرك، والنسائي "4/ 79" في كتاب الجنائز، باب: مواراة المشرك، وابن سعد في "الطبقات" "1/ 59" وقال ابن الملقن في "تحفة المحتاج" "686": إسناده حسن. وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود".
5 سورة القصص: 56.
6 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/8 58" من طريق الواقدي.
7 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 59" عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ مرسلًا.

(1/148)


أَيُّوبُ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: لَمَّا احْتَضَرَ أَبُو طَالِبٍ دَعَا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- فقال: يابن أَخِي إِذَا أَنَا مُتُّ فَأْتِ أَخْوَالَكَ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، فَإِنَّهُمْ أَمْنَعُ النَّاسِ لِمَا فِي بُيُوتِهِمْ1.
قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا زَالَتْ قُرَيْشٌ كَاعَّةً عَنِّي حَتَّى مَاتَ عَمِّي"2.
كَاعَّةٌ: جَمْعُ كَائِعٍ، وَهُوَ الْجَبَانُ، يُقَالُ: كَعَّ إِذَا جَبُنَ وَانْقَبَضَ.
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِعَمِّهِ: "قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ" فَقَالَ: لَوْلَا أَنْ تُعَيِّرَنِي قُرَيْشٌ، يَقُولُونَ: إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ الْجَزَعُ لأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} 3 الْآيَةَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنِ الْعَبَّاسِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ، فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟ قَالَ: "نَعَمْ هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ، وَلَوْلا أَنا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ" 4. أَخْرَجَاهُ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ السُّفْيَانَانُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ.
وَقَالَ اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ: "لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجْعَلَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ" 5. أَخْرَجَاهُ.
__________
1 مرسل.
2 مرسل: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 59" وأخرجه الحاكم "4243"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 349، 350"، موصولًا، ومرسلًا.
3 سورة القصص: 56.
والخبر صحيح، أخرجه مسلم "25" في كتاب الإيمان، باب: الدليل على صحة إسلام من حضره الموت، والترمذي "3199" في كتاب التفسير باب: ومن سورة القصص، وأحمد "2/ 434، 441".
4 صحيح: وقد تقدم تخريجه.
5 صحيح: أخرجه البخاري "3885" في كتاب مناقب الأنصار، باب: قصة أبي طالب، ومسلم "210" في كتاب الإيمان، باب: شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي طالب، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 347".

(1/149)


وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ" 1.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ، قَالَ: "اذْهَبْ فَوَارِ أَبَاكَ وَلَا تُحْدِثْنَ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي"، فَأَتَيْتُهُ فَأَمَرَنِي فَاغْتَسَلْتُ، ثُمَّ دَعَا لِيَ بِدَعَوَاتٍ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهِنَّ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ2.
وَرَوَاهُ الطَّيَالِسِيُّ فِي "مُسْنَدِهِ" عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فَزَادَ بَعْدُ: اذْهَبْ فَوَارِهِ: "فَقُلْتُ: إِنَّهُ مَاتَ مُشْرِكًا " قَالَ: "اذْهَبْ فَوَارِهِ" 3. وَفِي حَدِيثِهِ تصريح السّماع من ناحية قَالَ: شَهِدْتُ عَلِيًّا يَقُولُ. وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ متّصل.
وقال عبد الله بن إدريس: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ عَرَضَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَفِيهٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَأَلْقَى عَلَيْهِ تُرَابًا، فَرَجَعَ إِلَى بيته، فأتت بنته تمسح عن وجهه التراب وتبكي فجعل يَقُولُ: " "أَيْ بُنَيَّةَ لَا تَبْكِينَ، فَإِنَّ اللَّهَ مَانِعٌ أَبَاكِ"، وَيَقُولُ مَا بَيْنَ ذَلِكَ: "مَا نَالَتْ مِنِّي قُرَيْشٌ شَيْئًا أَكْرَهُهُ حَتَّى مَاتَ أَبُو طَالِبٍ"4. غَرِيبٌ مُرْسَلٌ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَارَضَ جِنَازَةَ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ:
"وَصَلَتْكَ رَحِمٌ يَا عَمُّ وَجُزِيتَ خَيْرًا"5. تَفَرَّدَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخُوَارَزْمِيُّ. وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ يَرْوِي عَنْهُ عيسى غنجار، والفضل الشيبانيّ.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "212" في كتاب الإيمان، باب: أهون أهل النار عذابًا، وأحمد "1/ 290" والحاكم في "مستدركه" "78325"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 348".
2 صحيح: وقد تقدم تخريجه.
3 أخرجه الطيالسي في "مسنده" "120".
4 مرسل إسناده ضيعف: للجهالة فيه.
5 منكر: أخرجه ابن عدي في "الكامل" 1/ 260" وفي إسناده إبراهيم بن عبد الرحمن الخوارزمي، ضعيف كما في "الميزان" "136" وذكر له المصنف هذا الحديث ثم قال: وهذا خبر منكر.

(1/150)


وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَتَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَبَا طَالِبٍ فِي مَرَضِهِ قَالَ: "أَيْ عَمُّ، قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَسْتَحِلُّ لك بها الشفاعة يوم القيامة"، فقال: يابن أَخِي وَاللَّهِ لَوْلَا أَنْ تَكُونَ سُبَّةً عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ مِنْ بَعْدِي يَرَوْنَ أَنِّي قُلْتُهَا جَزَعًا حِينَ نَزَلَ بِيَ الْمَوْتُ لَقُلْتُهَا، لَا أَقُولُهَا إِلَّا لِأَسُرَّكَ بِهَا، فَلَمَّا ثَقُلَ أَبُو طَالِبٍ رُؤِيَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَأَصْغَى إِلَيْهِ الْعَبَّاسُ لِيَسْتَمِعَ قَوْلَهُ، فَرَفَعَ الْعَبَّاسُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ وَاللَّهِ قَالَ الْكَلِمَةَ الَّتِي سَأَلْتَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمْ أَسْمَعْ"1.
إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ فِيهِ مَجْهُولًا، وَأَيْضًا، فَكَانَ الْعَبَّاسُ ذَلِكَ الْوَقْتَ عَلَى جَاهِلِيَّتِهِ، وَلِهَذَا إِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ لَمْ يَقْبَلِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رِوَايَتَهُ وَقَالَ لَهُ: لَمْ أَسْمَعْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هل نفعت أبا طالب بشيء، فإنّه يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ، فَلَوْ كَانَ الْعَبَّاسُ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ إِسْلَامِ أَخِيهِ أَبِي طَالِبٍ لَمَا قَالَ هَذَا، وَلَمَا سَكَتَ عِنْدَ قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ" 2، وَلَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَكِنَّ الرَّافِضَةَ قَوْمٌ بُهْتٌ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ3: ثُمَّ إِنَّ خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ وَأَبَا طَالِبٍ مَاتَا فِي عَامٍ وَاحِدٍ فتتابعت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَصَائِبُ بِمَوْتِهِمَا.
وَكَانَتْ خَدِيجَةُ وَزِيرَةَ صِدْقٍ عَلَى الْإِسْلامِ، كَانَ يَسْكُنُ إِلَيْهَا.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنَ الشِّعْبِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، وأنّهما توفّيا في ذلك العام، وتوفّيت قَبْلَ أَبِي طَالِبٍ بِخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا.
وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ أَنَّ مَوْتَهَا كَانَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ.
وَهِيَ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ الْأَسَدِيَّةُ.
قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: كَانَتْ تُدْعَى فِي الجاهليّة الطاهرة، وأمّها فاطمة بنت
__________
1 إسناده ضعيف: وقد تقدم.
2 صحيح: وقد تقدم تخريجه.
3 انظر "سيرة ابن هشام" "1/ 382".

(1/151)


زَائِدَةَ بْنِ الْأَصَمِّ الْعَامِرِيَّةُ. وَكَانَتْ خَدِيجَةُ تَحْتَ أَبِي هَالَةَ بْنِ زُرَارَةَ التَّمِيمِيِّ، وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِ أَبِي هَالَةَ، ثُمَّ خَلَفَ عَلَيْهَا بَعْدَهُ عَتِيقُ بْنُ عَائِذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، ثُمَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: بَلْ تَزَوَّجَهَا أَبُو هَالَةَ بَعْدَ عَتِيقٍ. وَكَانَتْ وَزِيرَةَ صِدْقٍ عَلَى الْإِسْلَامِ.
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ1، وَقِيلَ: كَانَ مَوْتُهَا فِي رَمَضَانَ، وَدُفِنَتْ بِالْحَجُونِ2، وَقِيلَ: إِنَّهَا عَاشَتْ خَمْسًا وَسِتِّينَ سَنَةً.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ: تَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَهَا أَرْبَعُونَ سَنَةً3، وَأَقَامَتْ مَعَهُ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً.
قَالَ مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ، عَنْ وَائِلِ بْنِ دَاوُدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْبَهِيِّ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ لَمْ يَكَدْ يَسْأَمُ مِنْ ثَنَاءٍ عَلَيْهَا، وَاسْتِغْفَارٍ لَهَا، فَذَكَرَهَا يَوْمًا، فَاحْتَمَلَتْنِي الْغِيرَةُ، فَقُلْتُ: لَقَدْ عَوَّضَكَ اللَّهُ مِنْ كَبِيرَةِ السِّنِّ، فَرَأَيْتُهُ غَضِبَ غَضَبًا أَسْقَطْتُ فِي خَلَدِي، وَقُلْتُ فِي نَفْسِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ إِنْ أَذْهَبْتَ غَضَبَ رَسُولِكَ عَنِّي لَمْ أَعُدْ إِلَى ذِكْرِهَا بِسُوءٍ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا لَقِيتُ قَالَ: "كَيْفَ قُلْتِ، وَاللَّهِ لَقَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَآوَتْنِي إِذَا رَفَضَنِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَرُزِقْتُ مِنْهَا الْوَلَدَ، وحُرِمْتُمُوه مِنِّي"، قَالَتْ: فَغَدَا وَرَاحَ عَلَيَّ بِهَا شَهْرًا4.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ عَائِشَةَ قالت: مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، مِمَّا كُنْتُ أَسْمَعُ مِنْ ذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهَا، وَمَا تزوّجني
__________
1 إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "4/ 251" وفي إسناده الواقدي، وهو متروك.
2 الحجون: جبل بمكة.
3 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "4/ 250-251" عن حكيم بن حزام بإسناد ضعيف جدًّا.
4 أخرجه الطبراني في "الكبير" "21"، وقال الهيثمي في "المجمع" "9/ 224": أسانيده حسنة.

(1/152)


إِلَّا بَعْدَ مَوْتِهَا بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ"1. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ2.
وَقَالَ ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "هَذِهِ خَدِيجَةُ، أَتَتْكَ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامُ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ"3 مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ: سَمِعْتُ عَلِيًّا -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "خَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ" 4 أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3816" في كتاب مناقب الأنصار، تزويج النبي -صلى الله عليه وسلم- خديجة، ومسلم "2435" في كتاب فضائل الصحابة، باب: فضائل خديجة -رضي الله عنها- والترمذي "3901" في كتاب المناقب، باب: فضل خديجة -رضي الله عنها.
2 مرسل: وقد تقدم عن عائشة -رضي الله عنها- وإسناده ضعيف جدًّا.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3820" في المصدر السابق، ومسلم "2432" في المصدر السابق.
4 صحيح: أخرجه البخاري "3815" في المصدر السابق، ومسلم "2430" في المصدر السابق، والترمذي "3903" في كتاب المناقب، فضل خديجة -رضي الله عنها- والنسائي في "الكبرى" "8354"، وأحمد "1/ 84، 116، 132، 143".

(1/153)


ذِكْرُ الْإِسْرَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى:
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ1.
وَكَذَا قَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ.
وَقَالَ أَبُو إِسْمَاعِيلَ التّرمذيّ: حدثنا إِسْحَاقُ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ الضَّحَّاكِ الزُّبَيْدِيُّ بْنِ زريق، حدثنا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سالم، عن الزّبيديّ محمد بن الوليد، حدثنا الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ جُبَيْرَ بْنَ نفير قال: حدثنا شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ قَالَ:
قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَيْفَ أُسري بِكَ؟
قَالَ: "صَلَّيْتُ لِأَصْحَابِي صَلَاةَ الْعَتْمَةِ بِمَكَّةَ مُعَتَّمًا، فَأَتَانِي جِبْرِيلُ بِدَابَّةٍ بَيْضَاءَ، فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، فَقَالَ: ارْكَبْ، فَاسْتَصْعَبَ عَلَيَّ، فَرَازَهَا بِأُذُنِهَا، ثُمَّ حَمَلَنِي عَلَيْهَا، فَانْطَلَقَتْ تَهْوِي بِنَا، يَقَعُ حَافِرُهَا حَيْثُ أَدْرَكَ طَرْفُهَا، حَتَّى بَلَغْنَا أَرْضًا ذَاتَ نَخْلٍ، فَأَنْزَلَنِي فَقَالَ: صَلِّ، فَصَلَّيْتُ.
ثُمَّ رَكِبْنَا فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ صَلَّيْتُ بِيَثْرِبَ، صَلَّيْتُ بِطِيبَةَ، فَانْطَلَقَتْ تَهْوِي بِنَا، يَقَعُ حَافِرُهَا حَيْثُ أَدْرَكَ طَرْفُهَا، ثُمَّ بَلَغْنَا أَرْضًا، فَقَالَ: انْزِلْ، فَصَلِّ، فَفَعَلْتُ، ثُمَّ رَكِبْنَا.
قَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ قُلْتُ: اللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: صَلَّيْتُ بِمَدْيَنَ عِنْدَ شَجَرَةِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ.
ثُمَّ انْطَلَقَتْ تَهْوِي بِنَا، يَقَعُ حَافِرُهَا حَيْثُ أَدْرَكَ طَرْفُهَا، ثُمَّ بَلَغْنَا أَرْضًا بَدَتْ لَنَا قُصُورٌ فَقَالَ: انْزِلْ، فَصَلَّيْتُ وَرَكِبْنَا.
فَقَالَ لِي: صَلَّيْتَ بِبَيْتِ لَحْمٍ حَيْثُ وُلِدَ عيسى، ثم انطلق بي حتى دخلنا
__________
1 مرسل.

(1/154)


الْمَدِينَةَ مِنْ بَابِهَا الْيَمَانِيِّ، فَأَتَى قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ فَرَبَطَ فِيهِ دَابَّتَهُ، وَدَخَلْنَا الْمَسْجِدَ مِنْ بَابٍ فِيهِ تَمِيلُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، فَصَلَّيْتُ مِنَ الْمَسْجِدِ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ وَأَخَذَنِي مِنَ الْعَطَشِ أَشَدُّ مَا أَخَذَنِي، فَأُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ لَبَنٍ وَعَسَلٍ، أَرْسَلَ إِلَيَّ بِهِمَا جَمِيعًا، فَعَدَلْتُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ هَدَانِي الله فأخذت البن، فَشَرِبْتُ حَتَّى قَرَعْتُ بِهِ جَبِينِي، وَبَيْنَ يَدَيَّ شَيْخٌ مُتَّكِئٌ عَلَى مِثْرَاةٍ لَهُ، فَقَالَ: أَخَذَ صَاحِبُكَ الْفِطْرَةَ إِنَّهُ ليُهدى.
ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى أَتَيْنَا الْوَادِيَ الَّذِي فِي الْمَدِينَةِ، فَإِذَا جَهَنَّمُ تَنْكَشِفُ عَنْ مِثْلِ الزَّرَابِيِّ1.
قُلْتُ: يَا رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَيْفَ وَجَدْتَهَا؟
قَالَ: مِثْلَ الْحَمْأَةِ2 السُّخْنَةِ، ثُمَّ انْصَرَفَ بِي، فَمَرَرْنَا بِعِيرٍ لِقُرَيْشٍ، بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، قَدْ ضَلُّوا بَعِيرًا لَهُمْ، قَدْ جَمَعَهُ فُلَانٌ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا صَوْتُ مُحَمَّدٍ.
ثُمَّ أَتَيْتُ أَصْحَابِي قَبْلَ الصُّبْحِ بِمَكَّةَ، فَأَتَانِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: أَيْنَ كُنْتَ اللَّيْلَةَ فَقَدِ الْتَمَسْتُكَ فِي مَظَانِّكَ؟ قُلْتُ: عَلِمْتَ أَنِّي أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ اللَّيْلَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّهُ مَسِيرَةُ شَهْرٍ، فَصِفْهُ لِي، قَالَ: فَفُتِحَ لِي صِرَاطٌ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، لَا يَسْأَلْنِي عن شيء إلا أبنته عنه، قال: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: انْظُرُوا إِلَى ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، يَزْعُمُ أَنَّهُ أَتَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ اللَّيْلَةَ، فَقَالَ: إِنِّي مَرَرْتُ بِعِيرٍ لَكُمْ، بِمَكَانِ كَذَا، وَقَدْ أَضَلُّوا بَعِيرًا لَهُمْ، فَجَمَعَهُ فُلَانٌ، وَإِنَّ مَسِيرَهُمْ يَنْزِلُونَ بِكَذَا، ثُمَّ كَذَا، وَيَأْتُونَكُمْ يَوْمَ كَذَا، يَقْدَمُهُمْ جَمَلٌ آدَمٌ، عَلَيْهِ مِسْحٌ أَسْوَدُ، وَغَرَارَتَانِ سَوْدَاوَانِ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ، أَشْرَفَ النَّاسُ يَنْظُرُونَ حَتَّى كَانَ قَرِيبٌ مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ، حين أقبلت العير يقدمهم ذلك الجمل"3.
__________
1 الزرابي: جمع الزربية، وهي البساط.
2الحمأة: الطين الأسود المنتن.
3 إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 355-357" وإسحاق بن إبراهيم ضعيف كما في "الميزان" "730" وفي سنده من لم أجد لهم ترجمة، وقال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" "3/ 14" بعد أن ساق الحديث: ولا شك أن هذا الحديث مشتمل على أشياء منها ما هو صحيح كما ذكره البيهقي، ومنها ما هو منكر كالصلاة في بيت لحم، وسؤال الصديق عن نعت المقدس وغير ذلك، والله أعلم.

(1/155)


قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.
قُلْتُ: ابْنُ زِبْرِيقَ تَكَلَّمَ فِيهِ النَّسَائِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: شيخ1.
قال حمّاد بن سلمة: حدثنا أَبُو حَمْزَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ فَرَكِبْتُهُ خَلْفَ جِبْرِيلَ، فَسَارَ بِنَا، فَكَانَ إِذَا أَتَى عَلَى جَبَلٍ ارْتَفَعَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا هَبَطَ ارْتَفَعَتْ يَدَاهُ، فَسَارَ بِنَا فِي أَرْضٍ فَيْحَاءَ طَيِّبَةٍ، فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ قَائِمٍ يُصَلِّي، فَقَالَ: مَنْ هَذَا مَعَكَ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: أَخُوكَ مُحَمَّدٌ، فَرَحَّبَ ودعا لي بِالْبَرَكَةِ، وَقَالَ: سَلْ لِأُمَّتِكَ الْيُسْرَ، ثُمَّ سَارَ فَذَكَرَ أَنَّهُ مَرَّ عَلَى مُوسَى وَعِيسَى، قَالَ: ثُمَّ أَتَيْنَا عَلَى مَصَابِيحَ فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَ: هَذِهِ شَجَرَةُ أَبِيكَ إِبْرَاهِيمَ، تُحِبُّ أَنْ تَدْنُوَ مِنْهَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَدَنَوْنَا مِنْهَا، فَرُحِّبَ بِي، ثُمَّ مَضَيْنَا حَتَّى أَتَيْنَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَنُشِرَ لِي الْأَنْبِيَاءُ مَنْ سَمَّى اللَّهُ وَمَنْ لَمْ يُسَمِّ، وَصَلَّيْتُ بِهِمْ إِلَّا هَؤُلَاءِ النَّفَرَ الثَّلَاثَةَ: مُوسَى، وَعِيسَى، وَإِبْرَاهِيمُ، فَرَبَطْتُ الدَّابَّةَ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي تَرْبِطُ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَقُرِّبَتْ لِيَ الْأَنْبِيَاءُ، مَنْ سَمَّى اللَّهُ مِنْهُمْ، وَمَنْ لَمْ يُسَمِّ، فَصَلَّيْتُ بِهِمْ2.
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَأَبُو حَمْزَةَ هُوَ مَيْمُونُ. ضُعِّفَ.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أُتي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِإِيلْيَاءَ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا، فَأَخَذَ اللَّبَنَ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ، لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ3. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَرَأْتُ عَلَى الْقَاضِي سُلَيْمَانَ بْنِ حَمْزَةَ، أَخْبَرَكُمْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْحَافِظُ، أنا الْفَضْلُ بْنُ الْحُسَيْنِ، أنا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الْمَوَازِينِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أنا يُوسُفُ الْقَاضِي، أنا أَبُو يَعْلَى التَّمِيمِيُّ، حدثنا محمد بن إسماعيل
__________
1 وقال في "الميزان" "730": قال أبو حاتم: لا بأس به.
2 إسناده ضعيف: أبو حمزة هو ميمون القصاب، ضعيف كما في "الميزان" "8969".
3 صحيح: أخرجه البخاري "3394" في كتاب أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} ، ومسلم "168" في كتاب الإيمان، باب: الْإِسْرَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والترمذي "3414" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة بني إسرائيل، والنسائي "8/ 312" في كتاب الأشربة، باب: منزلة الخمر.

(1/156)


الْوَسَاوِسِيُّ، ثنا ضَمْرَةُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ مَوْلَى أُمِّ هانئ، عن أمّ هانئ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِغَلَسٍ1 وَأَنَا عَلَى فِرَاشِي فَقَالَ: "شَعَرْتُ أَنِّي نِمْتُ اللَّيْلَةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَأَتَى جِبْرِيلُ فَذَهَبَ بِي إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَإِذَا دَابَّةٌ أَبْيَضُ، فَوْقَ الْحِمَارِ، وَدُونَ الْبَغْلِ، مُضْطَرِبُ الْأُذُنَيْنِ، فَرَكِبْتُهُ، وَكَانَ يَضَعُ حَافِرَهُ مَدَّ بَصَرِهِ، إِذَا أَخَذَ بِي فِي هُبُوطٍ طَالَتْ يَدَاهُ، وَقَصُرَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا أَخَذَ بِي فِي صُعُودٍ طَالَتْ رِجْلَاهُ وَقَصُرَتْ يَدَاهُ، وَجِبْرِيلُ لَا يَفُوتُنِي، حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَأَوْثَقْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ تُوثِقُ بِهَا، فَنُشِرَ لِي رَهْطٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فِيهِمْ إِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، فَصَلَّيْتُ بِهِمْ وَكَلَّمْتُهُمْ، وَأُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ أَحْمَرَ وَأَبْيَضَ، فَشَرِبْتُ الْأَبْيَضَ، فَقَالَ لِي جِبْرِيلُ: شَرِبْتَ اللَّبَنَ وَتَرَكْتَ الْخَمْرَ، لَوْ شَرِبْتَ الْخَمْرَ لَارْتَدَّتْ أُمَّتُكَ، ثُمَّ رَكِبْتُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَصَلَّيْتُ بِهِ الْغَدَاةَ". قَالَتْ: فَتَعَلَّقْتُ بِرِدَائِهِ وَقُلْتُ: أُنْشِدُكَ الله يابن عَمٍّ أَلَا تُحَدِّثُ بِهَذَا قُرَيْشًا فَيُكَذِّبُكَ مَنْ صَدَّقَكَ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى رِدَائِهِ فَانْتَزَعَهُ مِنْ يَدِي، فَارْتَفَعَ عَنْ بَطْنِهِ، فَنَظَرْتُ إِلَى عُكْنِهِ2 فَوْقَ إِزَارِهِ وَكَأَنَّهُ طَيٌّ الْقَرَاطِيسِ، وَإِذَا نُورٌ سَاطِعٌ عِنْدَ فُؤَادِهِ، يَكَادُ يَخْتَطِفُ بَصَرِي، فَخَرَرْتُ ساجدةً، فلمّا رفعت رأسي إذا وهو قَدْ خَرَجَ، فَقُلْتُ لِجَارِيَتِي نَبْعَةَ: وَيْحَكِ اتْبَعِيهِ فَانْظُرِي، فَلَمَّا رَجَعَتْ أَخْبَرَتْنِي أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى قُرَيْشٍ فِي الْحَطِيمِ3، فِيهِمُ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ، وَعَمْرُو بْنُ هِشَامٍ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، فَقَصَّ عَلَيْهِمْ مَسْرَاهُ، فَقَالَ عَمْروٌ كَالْمُسْتَهْزِئِ: صِفْهُمْ لِي، قَالَ: أَمَّا عِيسَى فَفَوْقَ الرَّبْعَةِ4، عَرِيضُ الصَّدْرِ، ظَاهِرُ الدَّمِ، جَعْدُ الشَّعْرِ، تَعْلُوهُ صَهْبَةٌ5، كَأَنَّهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، وَأَمَّا مُوسَى فَضَخْمٌ، آدَمٌ، طُوَالٌ، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، كَثِيرُ الشَّعْرِ، غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، مُتَرَاكِبُ الْأَسْنَانِ، مُقَلَّصُ الشَّفَتَيْنِ، خَارِجُ اللَّثَةِ، عَابِسٌ، وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ، فَوَاللَّهِ لَأَشْبَهُ النَّاسِ بِي خَلقًا وخُلقًا، فَضَجُّوا وَأَعْظَمُوا ذَلِكَ، فَقَالَ الْمُطْعِمُ: كُلُّ أَمْرِكَ كَانَ قَبْلَ الْيَوْمِ أممًا، غير قولك اليوم، أنا
__________
1 الغلس: ظلمة الليل.
2 عكنه: ما انطوى وتثنى من لحم البطن.
3 الحطيم: الحجر.
4 الربعة: المتوسط القامة.
5 الصهبة: حمرة أو شقرة في الشعر.

(1/157)


أَشْهَدُ أَنَّكَ كَاذِبٌ! نَحْنُ نَضْرِبُ أَكْبَادَ الْإِبِلِ إلى بَيْتِ الْمَقْدِسِ شَهْرًا، أَتَيْتَهُ فِي لَيْلَةٍ! 1.
وَذَكَرَ بَاقِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ، الْوَسَاوِسِيُّ ضَعِيفٌ تفرّد به.
"م" حدثنا محمد بن رافع، حدثنا حُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنَّى، نا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ الْهَاشِمِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ، وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ، فَسَأَلُونِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثَبِّتْهَا، فَكُرِبْتُ كَرْبًا مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي، أَنْظُرُ إِلَيْهِ، مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ، وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي، فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ جَعْدٌ، كأنّه من رجال شنوءة، وإذا عيسى بن مَرْيَمَ قَائِمٌ يُصَلِّي، أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ قَائِمٌ يُصَلِّي أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ، يَعْنِي نَفْسَهُ، فَحَانَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ لِي قَائِلٌ: يَا مُحَمَّدُ هَذَا مَالِكٌ صَاحِبُ النَّارِ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَبَدَأَنِي بِالسَّلَامِ" 2.
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو سَلَمَةَ أَيْضًا، عَنْ جَابِرٍ مُخْتَصَرًا.
قَالَ اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فِي الْحِجْرِ فَجَلا الله لي بيت المقدس، فطففت أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ" 3. أَخْرَجَاهُ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كيسان، عن ابن شهاب: سمعت ابن
__________
1 إسناده ضعيف جدًّا: أبو صالح ضعيف، ومحمد بن إسماعيل الوساوسي متهم بالوضع كما في "الميزان" "7222".
2 صحيح: أخرجه مسلم "172/ 278" في كتاب الإيمان، باب: ذكر المسيح ابن مريم، عن زهير بن حرب عن حجين بن المثنى به، ولم أجده عن محمد بن رافع، وقد ذكره الحافظ ابن كثير في "تفسيره" "3/ 21" عن محمد بن رافع، فالله أعلم.
3 صحيح: أخرجه البخاري "3886" في كتاب مناقب الأنصار، باب: حديث الإسراء، ومسلم "170" في المصدر السابق، والترمذي "3144" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة بني إسرائيل، والنسائي في "الكبرى" "11282".

(1/158)


الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ انْتَهَى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَقِيَ فِيهِ إِبْرَاهِيمَ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ، فَافْتُتِنَ نَاسٌ كَثِيرٌ كَانُوا قَدْ صَلُّوا مَعَهُ1. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَهَذَا مُرْسَلٌ.
وقال محمد بن كثير المصّيصيّ: حدثنا مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، أَصْبَحَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَارْتَدَّ نَاسٌ مِمَّنْ آمَنَ، وَسَعَوْا إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالُوا: هَلْ لَكَ فِي صَاحِبِكَ، يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسري بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ المقدس! قال: أوقال ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: لَئِنْ قَالَ ذَلِكَ لقد صدق، قالوا: وتصدّقه! قال: نعم إِنِّي لَأُصَدِّقُهُ بِمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ، أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ فِي غُدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ. فَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ2.
وَقَالَ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، سَمِعَ أَنَسًا يَقُولُ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- أُسْرِيَ بِهِ مَرَّ عَلَى مُوسَى وَهُوَ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ3. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ مِقْلَاصٍ الْفَقِيهُ، وَيُونُسُ، وَغَيْرُهُمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ- بِالْبُرَاقِ، فَكَأَنَّهَا أَمَرَّتْ ذَنَبَهَا، فَقَالَ لَهَا جِبْرِيلُ: مَهْ يَا بُرَاقُ، فَوَاللَّهِ إِنْ رَكِبَكِ مِثْلُهُ، وَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِذَا هُوَ بِعَجُوزٍ عَلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ، فَقَالَ: "مَا هَذِهِ يَا جِبْرِيلُ؟ " قَالَ لَهُ: سِرْ يَا مُحَمَّدُ، فَسَارَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسِيرَ. فَإِذَا شَيْءٌ يَدْعُوهُ مُتَنَحِّيًا عَنِ الطَّرِيقِ يَقُولُ: هَلُمَّ يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: سِرْ يَا مُحَمَّدُ، فَسَارَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسِيرَ، قَالَ: فَلَقِيَهُ خَلْقٌ مِنَ الْخَلْقِ، فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا آخِرُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يا حاشر، فردّ السلام،
__________
1 مرسل.
2 صحيح: أخرجه الحاكم في "مستدركه" "4407"، وصححه الألباني في "الصحيحة" "306".
3 صحيح: أخرجه مسلم "2375" في كتاب الفضائل، باب: من فضائل موسى -صلى الله عليه وسلم- وأحمد "3/ 120".

(1/159)


فَانْتَهَى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ، وَالْخَمْرَ، وَاللَّبَنَ، فَتَنَاوَلَ اللَّبَنَ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ، وَلَوْ شَرِبْتَ الْمَاءَ لَغَرِقَتْ أُمَّتُكَ وَغَرِقْتَ، وَلَوْ شَرِبْتَ الْخَمْرَ لَغَوَيْتَ وَغَوَتْ أُمَّتُكَ، ثُمَّ بُعِثَ لَهُ آدَمُ فَمَنْ دُونَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَأَمَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تِلْكَ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَمَّا الْعَجُوزُ فَلَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا بَقِيَ مِنْ عُمْرِ تِلْكَ الْعَجُوزِ، وَأَمَّا الَّذِي أَرَادَ أَنْ تَمِيلَ إِلَيْهِ، فَذَاكَ عَدُوُّ اللَّهِ إِبْلِيسُ، أَرَادَ أَنْ تَمِيلَ إِلَيْهِ، وَأَمَّا الَّذِينَ سَلَّمُوا عَلَيْكَ فَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى وَعِيسَى1.
وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، وَرَوْحٌ، وَغُنْدَرٌ: أنا عَوْفٌ، حدثنا زُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَال رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ أُسْرِيَ بِي، ثُمَّ أَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ، فَظِعْتُ بِأَمْرِي، وَعَلِمْتُ بِأَنَّ النَّاسَ يُكَذِّبُونِي"، قال: فقعد معتزلًا حزينًا، فمرّ به أَبُو جَهْلٍ، فَجَاءَ فَجَلَسَ فَقَالَ كَالْمُسْتَهْزِئِ: هَلْ كَانَ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "نَعَمْ"، قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: "إِنِّي أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ"، قَالَ: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: "إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ"، قَالَ: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا! قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ: فَلَمْ يُرَ أَنَّهُ يُكَذِّبُهُ مَخَافَةَ أَنْ يَجْحَدَهُ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ إِلَيْكَ قَوْمَكَ أَتُحَدِّثُهُمْ بِمَا حَدَّثْتَنِي؟ قَالَ: "نَعَمْ"، فَدَعَا قَوْمَهُ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبِ بْنَ لُؤَيٍّ هَلُمَّ، فَانْتَقَضَتِ الْمَجَالِسُ، فَجَاءُوا حَتَّى جَلَسُوا إِلَيْهِمَا، فَقَالَ: حَدِّثْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي أُسري بِي اللَّيْلَةَ"، قَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: "إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ"، قَالُوا: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَيْنَا! قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ: فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّقٍ وَوَاضِعٍ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مُسْتَعْجِبٌ لِلْكَذِبِ زَعْمٍ، قَالَ: وَفِي الْقَوْمِ مَنْ قَدْ سَافَرَ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ وَرَأَى الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْعَتَ لَنَا الْمَسْجِدَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فذهبت أَنْعَتُ، فَمَا زِلْتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ بَعْضُ النّعت"، قال: "فجئ بِالْمَسْجِدِ حَتَّى وُضِعَ دُونَ دَارِ عُقَيْلٍ أَوْ عُقَالٍ". قَالَ: "فَنَعَتُّهُ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ"، فَقَالُوا: أَمَّا النَّعْتُ فَقَدْ وَاللَّهِ أَصَابَ2.
وَرَوَاهُ هَوْذَةُ عن عوف.
مسلم بن إبراهيم: حدثنا الحارث بن عبيد، حدثنا أبو عمران، عن أنس قال:
__________
1 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 362".
2 إسناده حسن: أخرجه أحمد "1/ 309"، وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" "7/ 239": إسناده حسن وكذلك قال الألباني في تحقيق "فقه السيرة" "ص163".

(1/160)


قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَيْنَمَا أَنَا قَاعِدٌ ذَاتَ يَوْمٍ؛ إِذْ دَخَلَ جِبْرِيلُ، فَوَكَزَ 1 بَيْنَ كَتِفَيَّ، فَقُمْتُ إِلَى شَجَرَةٍ فِيهَا مِثْلُ وَكْرَيِ الطَّائِرِ، فَقَعَدَ فِي وَاحِدَةٍ، وَقَعَدْتُ فِي أُخْرَى، فَارْتَفَعْتُ حَتَّى سُدَّتِ الْخَافِقَيْنِ 2، فَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَمَسَّ السَّمَاءَ لَمَسَسْتُ، وَأَنَا أُقَلِّبُ طَرْفِي فَالْتَفَتُّ إِلَى جِبْرِيلَ، فَإِذَا هُوَ لَاطِئٌ 3، فَعَرَفْتُ فَضْلَ عِلْمِهِ بِاللَّهِ، وَفَتَحَ لِي بَابَ السَّمَاءِ وَرَأَيْتُ النُّورَ الْأَعْظَمَ، ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ مَا شَاءَ أَنْ يُوحِي" 4.
إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ حَسَنٌ، وَالْحَارِثُ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ.
سَعِيدُ بن منصور: حدثنا أَبُو مَعْشَرَ، عَنْ أَبِي وَهْبٍ مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا رَجَعَ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ قال: "يا جيريل إِنَّ قَوْمِي لَا يُصَدِّقُونِي؟ "، قَالَ: يُصَدِّقُكَ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ الصِّدِّيقُ.
رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، أنا مِسْعَرٌ، عَنْ أَبِي وَهْبٍ هِلَالِ بْنِ خَبَّابٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَحَدَّثَهُمْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعَلَامَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَارْتَدُّوا كُفَّارًا، فَضَرَبَ اللَّهُ رِقَابَهُمْ مَعَ أَبِي جَهْلٍ.
وَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يُخَوِّفُنَا مُحَمَّدٌ بِشَجَرَةِ الزَّقُّومِ، هَاتُوا تَمْرًا وَزُبْدًا، فَتَزَقَّمُوا. وَرَأَى الدَّجَّالَ فِي صُورَتِهِ رُؤْيَا عَيْنٍ، لَيْسَ بِرُؤْيَا مَنَامٍ، وَعِيسَى، وَمُوسَى، وَإِبْرَاهِيمَ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ5.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَتِيَ بِالْبُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، فَلَمْ يُزَايِلَا ظَهْرَهُ هُوَ وَجِبْرِيلُ، حَتَّى انْتَهَيَا بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَصَعِدَ بِهِ جِبْرِيلُ إِلَى السَّمَاءِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَأَرَاهُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، ثُمَّ قَالَ لِي: هَلْ صَلَّى فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: اسْمُكَ يَا أَصْلَعُ، قُلْتُ: زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ، قَالَ: فَأَيْنَ تَجِدُهُ صلاّها؟ فتأوّلت
__________
1 ركز: دفع وضرب.
2 الخافقين: المشرق والمغرب.
3 لاطئ: لاصق بالأرض.
4 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 369"، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح "7/ 238": رجاله لا بأس بهم إلا أن الدارقطني ذكر له علة تقتضي إرساله.
5 أخرجه أحمد "1/ 374".

(1/161)


الآية: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} 1 قَالَ: فَإِنَّهُ لَوْ صَلَّى لَصَلَّيْتُمْ كَمَا تُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، قُلْتُ لِحُذَيْفَةَ: أَرَبَطَ الدَّابَّةَ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي كَانَتْ تَرْبِطُ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ؟ قَالَ: أَكَانَ يَخَافُ أَنْ تَذْهَبَ مِنْهُ وَقَدْ أَتَاهُ اللَّهُ بِهَا، كَأَنَّ حُذَيْفَةَ لَمْ يَبْلُغْهُ أَنَّهُ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَلَا رَبَطَ الْبُرَاقَ بالحلقة2.
وقال ابن عيينة، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} 3 قَالَ: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُريها رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْلَةَ أُسري بِهِ. {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} 4 قال: هي شجرة الزّقّوم5 أخرجه البخاري.
__________
1 سورة الإسراء: 1.
2 صحيح: أخرجه أحمد "5/ 392، 394" وأخرجه "5/ 387" من طريق آخر عن عاصم به، وأخرجه أيضًا الترمذي "3158" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة بني إسرائيل، وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".
قلت: وقد أخرج الترمذي "3143" عن بريدة مرفوعًا "لما انتهينا إلى بيت المقدس قال جبرئيل بأصبعه فخرق به الحجر وشد به البراق"، وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي"، ففي هذا الحديث إثبات أنه ربط البراق، فهو مقدم على نفي حذيفة -رضي الله عنه- المتقدم، وأما إنكاره لربطه بقوله "وإنما سخره له عالم الغيب والشهادة" فهذا لا ينافي الأخذ بالأسباب، والله أعلم.
3 سورة الإسراء: 60.
4 سورة الإسراء: 60.
5 صحيح: أخرجه البخاري "3888" في كتاب مناقب الأنصار، باب: المعراج، والترمذي "3145" في المصدر السابق.

(1/162)


ذِكْرُ مِعْرَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى السماء
...
ذكر المعراج النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى السَّمَاءِ:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى، ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى، مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} 1 وَقَالَ: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} 2. تَفْسِيرُ ذَلِكَ: قَالَ زَائِدَةُ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي
__________
1 سورة النجم: 5-11.
2 سورة النجم: 13، 14.

(1/162)


إسحاق الشّيبانيّ قال: سألت زرّين حُبَيْشٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} 1 فقال: حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سُتُّمِائَةُ جَنَاحٍ2. أَخْرَجَاهُ.
وَرَوَى شُعْبَةُ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ هَذَا، لَكِنْ قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} 3 فَذَكَرَ أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ4.
وقال "خ" قبيصة: حدثنا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} 5 قَالَ: رَأَى رَفْرَفًا أَخْضَرَ قَدْ مَلأَ الأُفُقَ6.
وقال حمّاد بن سلمة: حدثنا عَاصِمٌ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} 7 قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَأَيْتُ جِبْرِيلَ عِنْدَ سِدْرَةٍ، عَلَيْهِ سِتُّمِائَةُ جَنَاحٍ، يَنْفُضُ مِنْ رِيشِهِ التَّهَاوِيلَ الدُّرَّ وَالْيَاقُوتَ" 8. عَاصِمُ بْنُ بَهْدَلَةَ الْقَارِئُ، لَيْسَ بِالْقَوِيِّ9.
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَانْتَهَى إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ -كَذَا قَالَ- وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُصْعَدُ بِهِ، حَتَّى يُقْبَضَ منها، وإليها مَا يُهْبَطُ بِهِ مِنْ فَوْقِهَا، حَتَّى يُقْبَضَ منها {إِذْ يَغْشَى
__________
1 سورة النجم: 9.
2 صحيح: أخرجه البخاري "3232" في كتاب أحاديث الأنبياء، باب: إذا قال أحدكم "آمين"، ومسلم"174" في كتاب الإيمان، باب: ذكر سدرة المنتهى، والترمذي "3288" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة النجم.
3 سورة النجم: 18.
4 صحيح: أخرجه مسلم "174/ 282" في المصدر السابق.
5 سورة النجم: 18.
6 صحيح: أخرجه البخاري "4858" في كتاب التفسير، باب: قَوْلِهِ تَعَالَى {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} .
7 سورة النجم: 13.
8 إسناده حسن: أخرجه أحمد "1/ 412" وعاصم هو ابن بهدلة فيه مقال: والراجح أنه حسن الحديث.
9 تأتي ترجمته "733".

(1/163)


السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} 1 قَالَ: غَشِيَهَا فِرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَأُعْطِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَخَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَغُفِرَ لِمَنْ لَا يُشْرِكْ بِاللَّهِ مِنْ أُمَّتِهِ الْمُقْحِمَاتِ2. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} 3 قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جِبْرِيلَ عَلَيْهِ حُلَّةٌ مِنْ رَفْرَفٍ قَدْ مَلأَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ4.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أبي هريرة: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} 5 قَالَ: رَأَى جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ6.
وَقَالَ زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ ابْنِ أَشْوَعَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قُلْتُ لعائشة: فأين قوله تعالى: {دَنَا فَتَدَلَّى} 7؟ قَالَتْ: إِنَّمَا ذَاكَ جِبْرِيلُ، كَانَ يَأْتِيهِ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ، وَإِنَّهُ أَتَاهُ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ فِي صُورَتِهِ الَّتِي هِيَ صُورَتُهُ، فَسَدَّ أُفُقَ السَّمَاءِ8. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ أَوَّلَ شَأْنِهِ يَرَى الْمَنَامَ، فَكَانَ أَوَّلُ مَا رَأَى جِبْرِيلَ بِأَجْيَادَ9، أَنَّهُ خَرَجَ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، فصرخ به: يا محمّد يا محمد، نظر يَمِينًا وَشِمَالا، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، ثُمَّ نَظَرَ، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَرَفَعَ بَصَرَهُ، فَإِذَا هُوَ ثانيًا إحدى رجليه على الأخرى في
__________
1 سورة النجم: 16.
2 صحيح: أخرجه مسلم "173" في كتاب الإيمان، باب: ذكر سدرة المنتهى، والترمذي "3287"، في كتاب التفسير، باب: ومن سورة النجم.
3 سورة النجم: 11.
4 أخرجه أحمد "11/ 394".
5 سورة النجم: 13.
6 صحيح: أخرجه مسلم "175" في كتاب الإيمان باب: معنى قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً} .
7 سورة النجم: 8.
8 صحيح: أخرجه البخاري "4855" في كتاب التفسير، باب: سورة "النجم"، ومسلم "177/ 290" في المصدر السابق، والترمذي "3079" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة الأنعام، واللفظ لمسلم.
9 أجياد: موضع بمكة يلي الصفا.

(1/164)


الأفق، فقال: يا محمّد جبريل جِبْرِيلُ، يُسَكِّنُهُ، فَهَرَبَ حَتَّى دَخَلَ فِي النَّاسِ، فَنَظَرَ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، ثُمَّ رَجَعَ فَنَظَرَ فَرَآهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} 1.
مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} 2 قال: دنا ربّه منه فتدلّ، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ رَآهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ3. إِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
أَخْبَرَنَا التَّاجُ عَبْدُ الْخَالِقِ، أنا ابْنُ قُدَامَةَ، أنا أَبُو زُرْعَةَ، أنا الْمُقَدِّمِيُّ، أنا الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي الْمُنْذِرِ، أنا ابْنُ سَلَمَةَ، أنا ابن ماجه، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الصَّلْتَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ، بُطُونُهُمْ كَالْبُيُوتِ، فِيهَا الْحَيَّاتُ، تُرَى مِنْ خَارِجِ بُطُونِهِمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ أَكَلَةُ الرِّبَا"4. رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي "مُسْنَدِهِ" عَنِ الْحَسَنِ، وَعَفَّانَ، عَنْ حَمَّادٍ وَزَادَ فِيهِ: رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي لَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ.
أَبُو الصَّلْتِ مَجْهُولٌ.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَرْدَاوِيُّ، أَنْبَأَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ، أَنْبَأَ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ هِلَالٍ، أَنْبَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زكريا سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، أَنْبَأَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنْبَأَ أَبُو جَعْفَرٍ محمد بن عمرو، حدثنا سعدان بن نصر، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، عَنِ ابْنِ عون قال:
__________
1 سورة النجم: 1.
والخبر إسناده ضعيف من أجل ابن لهيعة سيئ الحفظ.
2 سورة النجم: 13، 14.
3 صحيح: أخرجه الترمذي "3291" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة النجم، وقال حسن. وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".
4 إسناده ضعيف: أخرجه ابن ماجه "2273" في كتاب التجارات، باب: التغليظ في الربا، وضعفه الألباني في "ضعيف سنن ابن ماجه".
قلت: في إسناده الصلت مجهول كما يأتي، وقال في "الميزان" "10320" لا يعرف وعلي بن زيد سيئ الحفظ.

(1/165)


أَنْبَأَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ، وَلَكِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ مَرَّتَيْنِ فِي صُورَتِهِ وَخَلْقِهِ، سَادًّا مَا بَيْنَ الْأُفُقِ1. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الثَّلْجِ، عَنِ الْأَنْصَارِيِّ.
قُلْتُ: قَدِ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي رُؤْيَةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَبَّهُ، فَأَنْكَرَتْهَا عَائِشَةُ، وَأَمَّا الرِّوَايَاتُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَإِنَّمَا فِيهَا تَفْسِيرُ مَا فِي النَّجْمِ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الرُّؤْيَةِ لِلَّهِ. وَذَكَرَهَا فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ.
قَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "فُرِج سَقْفُ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَّلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، ثُمَّ أَفْرَغَهَا فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَقَالَ لِخَازِنِهَا: افْتَحْ، قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قَالَ: هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ مُحَمَّدٌ، قَالَ: أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَفَتَحَ، فَلَمَّا عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، إِذَا رَجُلٌ عَنْ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ2، وَعَنْ يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ، فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَالِابْنِ الصَّالِحِ، قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: آدَمُ، وَهَذِهِ الْأَسْوِدَةُ نَسَمُ بَنِيهِ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَالَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ، ثُمَّ عَرَجَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ لِخَازِنِهَا: افْتَحْ، فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا. مِثْلَ مَا قَالَ خَازِنُ السَّمَاءِ، الدُّنْيَا، فَفَتَحَ".
فَقَالَ أنس: فذكر أنّه وجد في السّماوات: آدَمَ، وَإِدْرِيسَ، وَعِيسَى، وَمُوسَى، وَإِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ يُثْبِتْ -يَعْنِي أَبَا ذَرٍّ- كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ آدَمَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَإِبْرَاهِيمَ، فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَلَمَّا مَرَّ جِبْرِيلُ وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِإِدْرِيسَ، قَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ
الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ، قَالَ: "ثُمَّ مَرَّ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: إِدْرِيسُ، قَالَ: ثُمَّ مَرَرْتُ بِمُوسَى فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4855" في كتاب التفسير، باب: سورة "والنجم"، ومسلم "177/ 287" في كتاب الإيمان، باب: معنى قول الله عز وجل {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} ، والترمذي "3079" في كتاب التفسير، باب: ومن سورة الأنعام.
2 أسودة: جماعة من الناس.

(1/166)


الصَّالِحِ، وَالْأَخِ الصَّالِحِ: قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: مُوسَى، ثُمَّ مَرَرْتُ بِعِيسَى فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: عِيسَى، ثُمَّ مَرَرْتُ بِإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَالِابْنِ الصَّالِحِ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: إِبْرَاهِيمُ" 1.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا حَبَّةَ الْأَنْصَارِيُّ كَانَا يقولان: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثمّ عرج بي حتّى ظهرت لمستوى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ" 2.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: قَالَ ابْنُ حَزْمٍ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ حَتَّى أمُرّ بِمُوسَى، فَقَالَ: مَاذَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ صَلَاةً، قَالَ مُوسَى: فَرَاجِعْ رَبَّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، قَالَ: فَرَاجَعْتُ رَبِّيَ، فَوَضَعَ عَنِّي شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: فَرَاجِعْ رَبَّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعْتُ رَبِّيَ فَقَالَ: هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ. فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَقُلْتُ: قَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي، قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى أَتَى سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، فَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ، قَالَ: ثُمَّ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ3 اللُّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا المسك" 4.
أخبرنا بهذا الحديث يحيى بن أحمد المقري بالإسكندرية، وَمُحَمَّدُ بْنُ حُسَيْنٍ الْفَوِّيُّ بِمِصْرَ، قَالَا: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِمَادٍ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رِفَاعَةَ، أَنَا عَلِيُّ بن الحسن الشافعي، أنا عبد الرحمن بن عمر البّزار، حدثنا أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو المديني، حدثنا أبو موسى بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ، نا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، فَذَكَرَهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ حَرْمَلَةَ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ.
وَرَوَى النَّسَائِيُّ شَطْرَهُ الثَّانِي مِنْ قَوْلِ ابْنِ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَأَبَا حَبَّةَ، إِلَى آخره عن يونس5، فوافقناه بعلّو.
__________
1 صحيح: وقد تقدم تخريجه.
2 صحيح: أخرجه مسلم "163/ 263" في كتاب الإيمان، باب: الإسراء.
3 الجنابذ: القباب.
4 صحيح: انظر التخريج السابق.
5 أخرجه النسائي "1/ 221" في كتاب الصلاة، باب: فرض الصلاة.

(1/167)


وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ، عَنْ يُونُسَ، وَتَابَعَهُ عُقَيْلٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ.
وَقَالَ هَمَّامٌ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ مَالِكَ بْنَ صَعْصَعَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ قَالَ: "بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ" -وَرُبَّمَا قَالَ قَتَادَةُ فِي الْحِجْرِ- "مُضْطَجِعًا إِذْ أَتَانِي آتٍ" فَجَعَلَ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ الْأَوْسَطِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ قَالَ: فَأَتَانِي وَقَدْ سَمِعْتُ قَتَادَةَ يَقُولُ "فَشَقَّ مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ"، قَالَ قَتَادَةُ: قُلْتُ لِلْجَارُودِ، وَهُوَ إِلَى جَنْبِي: مَا يَعْنِي؟ قَالَ: مِنْ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إِلَى شِعْرَتِهِ؟ قَالَ: "فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي، ثُمَّ أُتيت بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءٍ إِيمَانًا، فَغُسِلَ قَلْبِي، ثُمَّ حُشِيَ، ثُمَّ أُعِيدَ، ثُمَّ أُتيت بِدَابَّةٍ دُونَ الْبَغْلِ، وَفَوْقَ الْحِمَارِ أَبْيَضَ"، فَقَالَ لَهُ الْجَارُودُ: هُوَ الْبُرَاقُ يَا أَبَا حَمْزَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، "يَضَعُ خَطْوَهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ، فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ، فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَفَتَحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا آدَمُ فِيهَا، فَقَالَ: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالابْنِ الصَّالِحِ، وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ: فَفَتَحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا يَحْيَى وَعِيسَى وَهُمَا ابْنَا الْخَالَةِ، قَالَ: هَذَا يَحْيَى وَعِيسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِمَا، فردّ السَّلامَ، ثُمَّ قَالَا: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّالِثَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ: فَفَتَحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا يُوسُفُ قَالَ: هَذَا يُوسُفُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ وَقَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ: فَفَتَحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا إِدْرِيسُ قَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ وَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ

(1/168)


هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ: فَفَتَحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا هَارُونُ قَالَ: هَذَا هَارُونُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّادِسَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ: فَفَتَحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا مُوسَى قَالَ: هَذَا مُوسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلَامَ؟ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، قَالَ: فَلَمَّا جَاوَزْتُ بَكَى، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي لِأَنَّهُ غُلَامٌ بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي، ثُمَّ صعد بي حتّى السَّمَاءَ السَّابِعَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِهِ وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَفَتَحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَ: هَذَا إِبْرَاهِيمُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ وَقَالَ: مَرْحَبًا بِالابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ رُفِعَتْ لِيَ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى. وَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ: نَهْرَانِ بَاطِنَانِ، وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ.
فَقُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ. ثُمَّ رُفِعَ لِيَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ، فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ. فَقَالَ: هَذِهِ الْفِطْرَةُ أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ.
قَالَ: ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَاةُ، خَمْسُونَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: بِخَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ. قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَإِنِّي قَدْ خَبَرْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ. قُلْتُ: قَدْ سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ، ولكن أرضى

(1/169)


وَأُسَلِّمُ، فَلَمَّا نَفَرْتُ نَادَانِي مُنَادٍ، قَدْ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي"1. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ هُدْبَةَ عَنْهُ.
وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، حدثنا أَنَسٌ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَزَادَ فِيهِ: "فَأُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَشَقَّ مِنَ النَّحْرِ إِلَى مَرَاقِّ الْبَطْنِ، فَغُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ مُلِئَ حِكْمَةً وَإِيمَانًا" 2. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِطُولِهِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "بَيْنَمَا أَنَا عِنْدَ الْبَيْتِ، بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ، إِذْ سَمِعْتُ قَائِلًا يَقُولُ: أَحَدُ الثَّلَاثَةِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، قَالَ: فَأُتِيتُ فَانْطَلَقَ بِي، ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، فَشُرِحَ صَدْرِي إِلَى كَذَا وَكَذَا"، قَالَ قَتَادَةُ: قُلْتُ لِصَاحِبِي: مَا يَعْنِي؟ قَالَ: إِلَى أَسْفَلَ بَطْنِي، "فَاسْتُخْرِجَ قَلْبِي فَغُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ أُعِيدَ مَكَانَهُ، وَحُشِيَ، أَوْ قَالَ: كُنِزَ إِيمَانًا وَحِكْمَةً -شَكَّ سَعِيدٌ- ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ أَبْيَضَ يُقَالُ لَهُ الْبُرَاقُ، فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، يَقَعُ خَطْوُهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ، فَحَمَلَنِي عَلَيْهِ وَمَعِي صَاحِبِي لَا يُفَارِقُنِي، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا".
وَسَاقَ الْحَدِيثَ كَحَدِيثِ هَمَّامٍ، إِلَى قَوْلِهِ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، فَزَادَ "يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْهُ لَمْ يَعُودُوا فِيهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ" 3.
قُلْتُ: وَهَذِهِ زِيَادَةٌ رَوَاهَا هَمَّامٌ فِي حَدِيثِهِ، وَهُوَ أَتْقَنُ مِنَ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، فَقَالَ: قَالَ قَتَادَةُ، فَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ رَأَى الْبَيْتَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى حَدِيثِ أَنَسٍ، وفي حديث ابن أبي عروبة زيادة: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} 4 إِنَّ وَرَقَهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ، وَلَفْظُهُ: "ثُمَّ أُتِيتُ عَلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: بِخَمْسِينَ صَلَاةً، قَالَ: إِنِّي قَدْ بَلَوْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، وَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، فَرَجَعْتُ، فَحَطَّ عنّي خمس
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3887" في كتاب مناقب الأنصار، باب: المعراج.
2 صحيح: أخرجه مسلم "164/ 265" في كتاب الإيمان، باب: الإسراء.
3 صحيح: أخرجه مسلم "164/ 264" في المصدر السابق.
4 سورة النجم: 14.

(1/170)


صَلَوَاتٍ، فَمَا زِلْتُ أَخْتَلِفُ بَيْنَ رَبِّي وَبَيْنَ مُوسَى كُلَّمَا أُتِيتُ عَلَيْهِ، قَالَ لِي مِثْلَ مَقَالَتِهِ، حَتَّى رَجَعْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ، كُلَّ يَوْمٍ، فَلَمَّا أُتِيتُ عَلَى مُوسَى قَالَ كَمَقَالَتِهِ، قُلْتُ: لَقَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ، وَلَكِنْ أَرْضَى وَأُسَلِّمُ فَنُودِيتُ أَنْ قَدْ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي، وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي، وَجَعَلْتُ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا" 1. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَدْ رَوَاهُ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، وشريك ين أَبِي نَمِرٍ، عَنْ أَنَسٍ، فَلَمْ يُسْنِدْهُ لَهُمَا، لَا عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَلَا عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَلَا بَأْسَ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِنَّ مُرْسَلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ.
قَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ، فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْنَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي تَرْبِطُ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ دَخَلْتُ فَصَلَّيْتُ، فَأَتَانِي بِإِنَاءَيْنِ خَمْرٍ وَلَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ: أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ، ثُمَّ عُرِجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ أُرْسِلَ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا بِآدَمَ".
فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ، "فَإِذَا بِيُوسُفَ، وَإِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ، فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لي بخير"، إِلَى أَنْ قَالَ: لَمَّا فُتِحَ لَهُ السَّمَاءُ السَّابِعَةُ: "فَإِذَا بِإِبْرَاهِيمَ، وَإِذَا هُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، فَرَحَّبَ بِي، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، فَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ، وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلَالِ"، قَالَ: "فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا غَشِيَ تَغَيَّرَتْ. فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا"، قَالَ: فَدَنَا فَتَدَلَّى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى، "وَفُرِضَ عَلَيَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسُونَ صَلَاةً، فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى قَالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَجَرَّبْتُهُمْ وَخَبَرْتُهُمْ، قَالَ: فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: أَيْ رَبِّ خَفِّفْ عَنْ أُمَّتِي، فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا، فَرَجَعْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: مَا فعلت؟
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3887" في كتاب مناقب الأنصار، باب: المعراج، ومسلم "162/ 259" في المصدر السابق.

(1/171)


قُلْتُ: قَدْ حَطَّ عَنِّي خَمْسًا، فَقَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي وَبَيْنَ مُوسَى حَتَّى قَالَ: هِيَ خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، بِكُلِّ صَلَاةٍ عَشْرٌ، فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلَاةً" 1.
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ دُونَ قَوْلِهِ: فَدَنَا فَتَدَلَّى، وَذَلِكَ ثَابِتٌ فِي رِوَايَةِ حَجَّاجِ بْنِ مِنْهَالٍ، وَهُوَ ثَبْتٌ فِي حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ شريك بن عبد اله بْنِ أَبِي نَمِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ، وَذَكَرَ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ، وَفِيهِ: ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، ثُمَّ عَلَا بِهِ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، حَتَّى جَاءَ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَدَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ، فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى2.
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سُلَيْمَانَ.
وَقَالَ شَيْبَانُ، عن قتادة، عن أبي العالية، حدثنا ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- رَجُلًا طُوَالًا جَعْدًا، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى مَرْبُوعَ الْخَلْقِ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ سَبِطَ الرَّأْسِ"، قَالَ: وأُري مَالِكًا خَازِنَ النَّارِ وَالدَّجَّالَ فِي آيَاتٍ أَرَاهُنَّ اللَّهُ إِيَّاهُ قَالَ: {فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} 3. فَكَانَ قَتَادَةُ يُفَسِّرُهَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ لَقِيَ مُوسَى4. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ أُسْرِيَ بِهِ، "لَقِيتُ مُوسَى وَعِيسَى، -ثُمَّ نَعَتَهُمَا- وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ" 5.
وَقَالَ مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ، عَنْ قَنَانٍ النّهميّ، حدثنا أبو ظبيان الجنبي
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "162/ 259" في المصدر السابق.
2 صحيح: أخرجه البخاري "7517" في كتاب التوحيد، باب: ماجاء في قوله عز وجل: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} .
3 سورة السجدة: 33.
4 صحيح: أخرجه مسلم "165/ 267" في كتاب الإيمان، باب: الإسراء.
5 صحيح: أخرجه البخاري "3394" في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} ومسلم "168" في كتاب الإيمان، باب: الإسراء، وقد تقدم.

(1/172)


قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ لِأَبِي عُبَيْدَةَ: حَدِّثْنَا عَنْ أَبِيكَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لَا، بَلْ حَدِّثْنَا أَنْتَ عَنْ أَبِيكَ، قَالَ: لَوْ سَأَلْتَنِي قَبْلَ أَنْ أَسْأَلَكَ لَفَعَلْتُ، فَأَنْشَأَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُحَدِّثُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ بِدَابَّةٍ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، فَحَمَلَنِي عَلَيْهِ، فَانْطَلَقَ يَهْوِي بِنَا، كُلَّمَا صَعِدَ عَقَبَةً اسْتَوَتْ رِجْلَاهُ مَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا هَبَطَ اسْتَوَتْ يَدَاهُ مَعَ رِجْلَيْهِ، حَتَّى مَرَرْنَا بِرَجُلٍ طُوَالٍ سَبِطٍ آدَمٍ، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ أَزْدِ شَنُوءَةَ، وَهُوَ يَقُولُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ وَيَقُولُ: أَكْرَمْتَهُ وَفَضَّلْتَهُ فَدَفَعْنَا إِلَيْهِ، فَسَلَّمْنَا، فَرَدَّ السَّلَامَ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا مَعَكَ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا أَحْمَدُ.
قَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي بَلَّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ وَنَصَحَ لِأُمَّتِهِ.
قَالَ: ثُمَّ انْدَفَعْنَا، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: مُوسَى، قُلْتُ: وَمَنْ يُعَاتِبُ؟ قَالَ: يُعَاتِبُ رَبَّهُ فِيكَ، قُلْتُ: وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ عَلَى رَبِّهِ! قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ عَرَفَ لَهُ حِدَّتَهُ.
قَالَ: ثُمَّ انْدَفَعْنَا حَتَّى مَرَرْنَا بِشَجَرَةٍ كَأَنَّ ثَمَرَهَا السِّرْجُ وَتَحْتَهَا شَيْخٌ وَعِيَالُهُ، فَقَالَ لِي جِبْرِيلُ: اعْمِدْ إِلَى أَبِيكَ إِبْرَاهِيمَ، فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ وَقَالَ: مَنْ هَذَا مَعَكَ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: ابْنُكَ أَحْمَدُ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي بَلَّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ وَنَصَحَ لِأُمَّتِهِ، يَا بُنَيَّ إِنَّكَ لَاقٍ رَبَّكَ اللَّيْلَةَ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ حَاجَتُكَ أَوْ جُلُّهَا فِي أُمَّتِكَ فَافْعَلْ.
قَالَ: ثُمَّ انْدَفَعْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، فَنَزَلْتُ فَرَبَطْتُ الدَّابَّةَ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي فِي بَابِ الْمَسْجِدِ الَّتِي كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ تَرْبِطُ بِهَا، ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَعَرَفْتُ النَّبِيِّينَ مَا بَيْنَ قَائِمٍ وَرَاكِعٍ وَسَاجِدٍ، ثُمَّ أُتِيتُ بِكَأْسَيْنِ مِنْ عَسَلٍ وَلَبَنٍ، فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ، فَضَرَبَ جِبْرِيلُ مَنْكِبِي وَقَالَ: أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَأَمَمْتُهُمْ، ثُمَّ انْصَرَفْنَا فأقبلنا1 ... هذا حديث حسن غريب.
__________
1 إسناده ضعيف: أخرجه الحسن بن عرفة في "جزئه" كما في "تفسير ابن كثير" "3/ 16" وقال الحافظ ابن كثير: إسناد غريب ولم يخرجوه، فيه من الغرائب سؤال الأنبياء عنه -عليه السلام- ابتداء، ثم سؤاله عنهم بعد انصرافه.
قلت: وإسناده منقطع، أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ لم يسمع من أبيه كما في "التقريب" "8231".

(1/173)


فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ صَحَّ عَنْ ثَابِتٍ، وَسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "أتيت عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ" 1، وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا مُوسَى يُصَلِّي"، وَذَكَرَ إِبْرَاهِيمَ، وَعِيسَى قَالَ: "فَحَانَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ" 2.
وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ لَقِيَهُمْ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ. فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ، مِنْ أَنَّهُ رَأَى هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءَ فِي السَّمَاوَاتِ، وَأَنَّهُ رَاجَعَ مُوسَى؟
فَالْجَوَابُ: أَنَّهُمْ مُثِّلُوا لَهُ، فَرَآهُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ، فَرَأَى مُوسَى فِي مَسِيرِهِ قَائِمًا يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ، ثُمَّ رَآهُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ رَآهُ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ هُوَ وَغَيْرَهُ، فَعُرِجَ بِهِمْ، كَمَا عُرِجَ بِنَبِيِّنَا صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَى الْجَمِيعِ وَسَلَامُهُ، وَالْأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ كَحَيَاةِ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَلَيْسَتْ حَيَاتُهُمْ كَحَيَاةِ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَلَا حَيَاةِ أَهْلِ الْآخِرَةِ، بَلْ لَوْنٌ آخَرُ، كَمَا وَرَدَ أَنَّ حَيَاةَ الشُّهَدَاءِ بِأَنْ جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَمَا أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَأَجْسَادُهُمْ فِي قُبُورِهِمْ.
وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ أَكْبَرُ مِنْ عُقُولِ الْبَشَرِ، وَالْإِيمَانُ بِهَا وَاجِبٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} 3.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ أَحْمَدُ بْنُ هِبَةِ اللَّهِ، أنا رَوْحٍ عَبْدُ الْمُعِزِّ بْنُ مُحَمَّدٍ كِتَابَةً، أَنَّ تَمِيمَ بْنَ أَبِي سَعِيدٍ الْجُرْجَانِيَّ أَخْبَرَهُمْ، أَنْبَأَ أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أنا أَبُو عَمْرُو بْنُ حِمْدَانَ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عليّ بن المثنّى، حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي بِرَائِحَةٍ طَيِّبَةٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ هَذِهِ مَاشِطَةُ بِنْتِ فِرْعَوْنَ، كَانَتْ تَمْشُطُهَا، فَوَقَعَ الْمُشْطُ مِنْ يَدِهَا، فَقَالَتْ: بِاسْمِ اللَّهِ، قَالَتْ بنت فرعون: أبي، قالت: ربّي وربّ
__________
1 صحيح: وقد تقدم من رواية مسلم.
2 صحيح: وقد تقدم من رواية مسلم.
3 سورة البقرة: 3.

(1/174)


أَبِيكَ، قَالَتْ: أَقُولُ لَهُ إِذًا، قَالَتْ: قُولِي لَهُ: قَالَ لَهَا: أَوَ لَكِ رَبٌّ غَيْرِي! قَالَتْ: رَبِّي وَرَبُّكَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، قَالَ: فَاحْمِي لَهَا بَقَرَةً مِنْ نُحَاسٍ، فَقَالَتْ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَتْ: أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي، قَالَ: ذَلِكَ لَكِ عَلَيْنَا لِمَا لَكِ عَلَيْنَا مِنَ الْحَقِّ. فألقي ولدها في البقرة وَاحِدًا وَاحِدًا، فَكَانَ آخِرَهُمْ صَبِيٌّ، فَقَالَ: يَا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ". قَالَ ابْنُ عبّاس: فأربعة تكلّموا وهم صبيان مَاشِطَةِ بِنْتِ فِرْعَوْنَ، وَصَبِيُّ جُرَيْجٍ، وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَالرَّابِعُ لَا أَحْفَظُهُ. هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ1.
وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، عن أبي بكر أَبِي سَبْرَةَ وَغَيْرِهِ قَالُوا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْأَلُ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ السَّبْتِ لِسَبْعِ عَشْرَةٍ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَمَانِيَةِ عَشَرَ شَهْرًا، وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَائِمٌ فِي بَيْتِهِ أَتَاهُ جِبْرِيلُ بِالْمِعْرَاجِ، فَإِذَا هُوَ أَحْسَنُ شَيْءٍ مَنْظَرًا فَعَرَجَ به إلى السماوات سَمَاءً سَمَاءً، فَلَقِيَ فِيهَا الْأَنْبِيَاءَ، وَانْتَهَى إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى2.
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: وَأَنْبَأَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ اللَّيْثِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جدّه. قال محمد بن عمر: وحدثنا مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ الزَّمْعِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ. وَنَا مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ. وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي مُرَّةَ، عَنْ أُمِّ هَانِئٍ، وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ قَالُوا: أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْلَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ مِنْ شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي الْحَدِيثِ: فَتَفَرَّقَتْ بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَطْلُبُونَهُ حِينَ فُقِدَ يَلْتَمِسُونَهُ، حَتَّى بَلَغَ الْعَبَّاسُ ذَا طُوَى، فَجَعَلَ يَصْرُخُ: يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ، فَأَجَابَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم: "لبّيك" فقال: يابن أَخِي عَنَّيْتَ قَوْمَكَ مُنْذُ اللَّيْلَةَ، فَأَيْنَ كُنْتَ.
__________
1 من أجل عطاء بن السائب صدوق وقد اختلط، ولكن رواية حماد بن سلمة عنه قبل الاختلاط كما في "الصحيحة" "2/ 267-268".
2 معضل: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 102" وأبو بكر بن أبي سبرة ومحمد بن عمر كلاهما متروك.

(1/175)


قَالَ: "أَتَيْتُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ".
قَالَ: فِي لَيْلَتِكَ! قَالَ: "نَعَمْ".
قَالَ: هَلْ أَصَابَكَ إِلَّا خَيْرٌ؟ قَالَ: "مَا أَصَابَنِي إِلَّا خَيْرٌ".
وَقَالَتْ أُمُّ هَانِئٍ: مَا أُسْرِيَ بِهِ إِلَّا مِنْ بَيْتِنَا: نَامَ عِنْدَنَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ بَعْدَ مَا صَلَّى الْعِشَاءَ، فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ الْفَجْرِ أَنْبَهْنَاهُ لِلصُّبْحِ، فَقَامَ، فَلَمَّا صَلَّى الصُّبْحَ قَالَ: يَا أُمَّ هَانِئٍ جِئْتُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَصَلَّيْتُ فِيهِ، ثُمَّ صَلَّيْتُ الْغَدَاةَ مَعَكُمْ.
فَقَالَتْ: لَا تُحَدِّثُ النَّاسَ فَيُكَذِّبُونَكَ، قَالَ: وَاللَّهِ لَأُحَدِّثَنَّهُمْ، فَأَخْبَرَهُمْ فَتَعَجَّبُوا، وَسَاقَ الْحَدِيثَ1.
فَرَّقَ الْوَاقِدِيُّ، كَمَا رَأَيْتَ، بَيْنَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ، وَجَعَلَهُمَا فِي تَارِيخَيْنِ.
وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ: أَنْبَأَ رَاشِدٌ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحِمَّانِيُّ، عَنْ أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبِرْنَا عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِكَ فِيهَا، فَقَرَأَ أوّل {سبحان} 2 وَقَالَ: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ عِشَاءً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، إِذْ أَتَانِي آتٍ فَأَيْقَظَنِي، فَاسْتَيْقَظْتُ، فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، ثُمَّ عُدْتُ فِي النَّوْمِ، ثُمَّ أَيْقَظَنِي، فَاسْتَيْقَظْتُ، فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، ثُمَّ نِمْتُ، فَأَيْقَظَنِي، فَاسْتَيْقَظْتُ، فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَإِذَا أَنَا بِهَيْئَةِ خَيَالٍ فَأَتْبَعْتُهُ بَصَرِي، حَتَّى خَرَجْتُ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَإِذَا أَنَا بِدَابَّةٍ أَدْنَى شَبَهِهِ بِدَوَابِّكُمْ هَذِهِ بِغَالُكُمْ، مُضْطَرِبَ الْأُذُنَيْنِ، يُقَالَ لَهُ الْبُرَاقُ، وَكَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ تَرْكَبُهُ قَبْلِي، يَقَعُ حَافِرُهُ مَدَّ بَصَرِهِ، فَرَكِبْتُهُ، فَبَيْنَا أَنَا أَسِيرُ عَلَيْهِ إِذْ دَعَانِي دَاعٍ عَنْ يَمِينِي: يَا مُحَمَّدُ أَنْظِرْنِي أَسْأَلْكَ، فَلَمْ أُجِبْهُ، فَسِرْتُ، ثُمَّ دَعَانِي دَاعٍ عَنْ يَسَارِي: يَا مُحَمَّدُ أَنْظِرْنِي أَسْأَلْكَ، فَلَمْ أُجِبْهُ، ثُمَّ إِذَا أَنَا بِامْرَأَةٍ حَاسِرَةٍ عَنْ ذِرَاعَيْهَا، وَعَلَيْهَا مِنْ كُلِّ زِينَةٍ، فَقَالَتْ: يَا محمد أنظرني فأسألك، فَلَمْ أَلْتَفِتْ إِلَيْهَا، حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَأَوْثَقْتُ دَابَّتِي بِالْحَلْقَةِ، فَأَتَانِي جِبْرِيلُ بِإِنَاءَيْنِ: خَمْرٍ وَلَبَنٍ، فَشَرِبْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ: أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ، فَحَدَّثْتُ جِبْرِيلَ عَنِ الدَّاعِي الَّذِي عَنْ يَمِينِي، قَالَ: ذَاكَ دَاعِي الْيَهُودِ، لَوْ أَجَبْتَهُ لَتَهَوَّدَتْ أُمَّتُكَ، والآخر
__________
1 إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1/ 103" ومحمد بن عمر هو الواقدي، متروك كما تقدم.
2 أي سورة الإسراء.

(1/176)


دَاعِي النَّصَارَى، لَوْ أَجَبْتَهُ لَتَنَصَّرَتْ أُمَّتُكَ، وَتِلْكَ الْمَرْأَةُ الدُّنْيَا، لَوْ أَجَبْتَهَا لَاخْتَارَتْ أُمَّتُكَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، ثُمَّ دَخَلْتُ أَنَا وَجِبْرِيلُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَصَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أُتِيتُ بِالْمِعْرَاجِ الَّذِي تَعْرُجُ عَلَيْهِ أَرْوَاحُ بَنِي آدَمَ، فَلَمْ تَرَ الْخَلَائِقُ أَحْسَنَ مِنَ الْمِعْرَاجِ، أَمَا رَأَيْتُمُ الْمَيِّتَ حِينَ يُشَقُّ بَصَرُهُ طَامِحًا إِلَى السَّمَاءِ، فَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ عَجَبُهُ بِهِ، فَصَعِدْتُ أَنَا وَجِبْرِيلُ، فَإِذَا أَنَا بِمَلَكٍ يُقَالُ لَهُ إِسْمَاعِيلُ، وَهُوَ صَاحِبُ سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَبَيْنَ يَدَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} 1. فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَى صُورَتِهِ، تُعْرَضُ عَلَيْهِ أَرْوَاحُ ذُرِّيَّتِهِ الْمُؤْمِنِينَ فَيَقُولُ: رَوْحٌ طَيِّبَةٌ وَنَفْسٌ طَيِّبَةٌ اجْعَلُوهَا فِي عِلِّيِّينَ، ثُمَّ تُعْرَضُ عَلَيْهِ أَرْوَاحُ ذُرِّيَّتِهِ الْفُجَّارِ، فَيَقُولُ: رُوحٌ خَبِيثَةٌ وَنَفْسٌ خَبِيثَةٌ، اجْعَلُوهَا فِي سِجِّينَ. ثُمَّ مَضَتْ هُنَيَّةٌ، فَإِذَا أَنَا بِأَخْوِنَةٍ -يَعْنِي بِالْخُوَانِ الْمَائِدَةَ- عَلَيْهَا لَحْمٌ مُشَرَّحٌ، لَيْسَ بِقُرْبِهَا أَحَدٌ، وَإِذَا أَنَا بِأَخْوِنَةٍ أُخْرَى، عَلَيْهَا لَحْمٌ قَدْ أَرْوَحَ وَنَتِنَ، وَعِنْدَهَا أُنَاسٌ يَأْكُلُونَ مِنْهَا. قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلاءِ؟ قَالَ: هَؤُلاءِ مِنْ أُمَّتِكَ يَتْرُكُونَ الْحَلَالَ وَيَأْتُونَ الْحَرَامَ، قَالَ: ثُمَّ مَضَتْ هُنَيَّةٌ، فَإِذَا أَنَا بِأَقْوَامٍ بُطُونُهُمْ أَمْثَالُ الْبُيُوتِ، كُلَّمَا نَهَضَ أَحَدُهُمْ خَرَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَا تُقِمِ السَّاعَةَ، وَهُمْ عَلَى سَابِلَةِ2 آلِ فِرْعَوْنَ، فَتَجِيءُ السَّابِلَةُ فَتُطَارِدُهُمْ، فَسَمِعْتُهُمْ يَضِجُّونَ إِلَى اللَّهِ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ مِنْ أُمَّتِكَ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا، ثُمَّ مَضَتْ هُنَيَّةٌ، فَإِذَا أَنَا بِأَقْوَامٍ مَشَافِرُهُمْ كَمَشَافِرِ3 الْإِبِلِ، فَتُفْتَحُ أَفْوَاهُهُمْ وَيُلْقَمُونَ الْجَمْرَ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ أَسَافِلِهِمْ فَيَضِجُّونَ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا، ثُمَّ مَضَتْ هُنَيَّةٌ، فَإِذَا أَنَا بنساء يعلّقن بثديهنّ، فسمعتهنّ يضجن إِلَى اللَّهِ، قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: الزُّنَاةُ مِنْ أُمَّتِكَ، ثُمَّ مَضَتْ هُنَيَّةٌ، فَإِذَا أَنَا بِأَقْوَامٍ يُقَطَّعُ مِنْ جُنُوبِهِمُ اللَّحْمُ، فَيُلَقَّمُونَ، فَيُقَالُ لَهُ: كُلُّ مَا كُنْتَ تَأْكُلُ مِنْ لَحْمِ أَخِيكَ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْهَمَّازُونَ مِنْ أُمَّتِكَ اللَّمَّازُونَ. ثُمَّ صَعِدْتُ إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ أَحْسَنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ، قَدْ فَضُلَ عَلَى النَّاسِ بِالْحُسْنِ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، قلت:
__________
1 سورة المدثر: 31.
2 سابلة: طريقة.
3 المشافر: جمع مشفر، وهو شفة البعير الغليظة.

(1/177)


يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا أَخُوكَ يُوسُفُ، وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ صَعِدْتُ إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَإِذَا أَنَا بِيَحْيَى وَعِيسَى وَمَعَهُمَا نَفَرٌ مِنْ قَوْمِهِمَا. ثُمَّ صَعِدْتُ إِلَى الرَّابِعَةِ، فَإِذَا أَنَا بِإِدْرِيسَ، ثُمَّ صَعَدْتُ إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ، فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ، وَنِصْفُ لِحْيَتِهِ بَيْضَاءُ وَنِصْفُهَا سَوْدَاءُ، تَكَادُ لِحْيَتُهُ تُصِيبُ سُرَّتَهُ مِنْ طُولِهَا، قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا الْمُحَبَّبُ فِي قَوْمِهِ، هَذَا هَارُونُ بْنُ عِمْرَانَ، وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ صَعِدْتُ إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى رَجُلٌ آدَمٌ كَثِيرُ الشَّعْرِ، لَوْ كَانَ عَلَيْهِ قَمِيصَانِ لَنَفَذَ شَعْرُهُ دُونَ الْقَمِيصِ، وَإِذَا هُوَ يَقُولُ: يَزْعُمُ النَّاسُ أَنِّي أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا، بَلْ هَذَا أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنِّي، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: مُوسَى. ثُمَّ صَعِدْتُ السَّابِعَةَ، فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ، سَانِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، فَدَخَلْتُهُ وَدَخَلَ مَعِي طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي، عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ بِيضٌ، ثُمَّ دُفِعْتُ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا كُلُّ وَرَقَةٍ مِنْهَا تَكَادُ أَنْ تُغَطِّي هَذِهِ الْأُمَّةَ، وَإِذَا فِيهَا عَيْنٌ تَجْرِي، يُقَالُ لَهَا سَلْسَبِيلٌ، فَيُشَقُّ مِنْهَا نَهْرَانِ، أَحَدُهُمَا الْكَوْثَرُ وَالْآخَرُ نَهْرُ الرَّحْمَةِ، فَاغْتَسَلْتُ فِيهِ، فَغُفِرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي
وَمَا تَأَخَّرَ، ثُمَّ إِنِّي دُفِعْتُ إِلَى الْجَنَّةِ، فَاسْتَقْبَلَتْنِي جَارِيَةٌ، فَقُلْتُ: لِمَنْ أَنْتِ؟ قَالَتْ: لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، ثُمَّ عُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ، ثُمَّ أُغْلِقَتْ، ثُمَّ إِنِّي دُفِعْتُ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى فَتَغَشَّى لِي، وَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، قَالَ: وَنَزَلَ عَلَى كُلِّ وَرَقَةٍ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَفُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَاةُ خَمْسِينَ، ثُمَّ دُفِعْتُ إِلَى مُوسَى، فَذَكَرَ مُرَاجَعَتَهُ فِي التَّخْفِيفِ.
أَنَا اخْتَصَرْتُ ذَلِكَ وَغَيْرَهُ إِلَى أَنْ قَالَ: فَقُلْتُ: رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُهُ".
ثُمَّ أَصْبَحَ بِمَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِالْعَجَائِبِ، فَقَالَ: إِنِّي أَتَيْتُ الْبَارِحَةَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَعُرِجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ، وَرَأَيْتُ كَذَا، وَرَأَيْتُ كَذَا، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَلَا تُعْجَبُونَ مِمَّا يَقُولُ مُحَمَّدٌ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ1.
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ عَجِيبٌ حَذَفْتُ نَحْوَ النِّصْفِ منه. رواه نجيّ بن أبي
__________
1 إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 390-396" وأبو هارون العبدي متروك كما في "التقريب" "4840" وقد ساقه الحافظ ابن كثير في "تفسيره" "3/ 11-13" ثم قال: ورواه ابن أبي حاتم بسياق طويل حسن أنيق أجود مما ساقه غيره علي غرابته وما فيه من النكارة. ا. هـ. باختصار ثم بين ضعف أبي هارون العبدي.

(1/178)


طَالِبٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ، وَهُوَ صَدُوقٌ، عَنْ رَاشِدٍ الْحِمَّانِيِّ، وَهُوَ مَشْهُورٌ، رَوَى عَنْهُ حَمَّادُ بن زيد، وابن الْمُبَارَكِ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: صَالِحُ الْحَدِيثِ، عَنْ أَبِي هَارُونَ عُمَارَةُ بْنُ جُوَيْنٍ الْعَبْدِيِّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ شِيعِيٌّ. وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ أَبِي هَارُونَ أَيْضًا هُشَيْمٌ، وَنُوحُ بْنُ قَيْسٍ الْحَدَّانِيُّ بِطُولِهِ نَحْوَهُ، حَدَّثَ بِهِ عَنْهُمَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. وَرَوَاهُ سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي هَارُونَ العبدي بطوله. ورواه أسد بن موسى، عَنْ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَالْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ مُحَمَّدٍ، كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي هَارُونَ، وَبِسِيَاقِ مِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ صَارَ أَبُو هَارُونَ مَتْرُوكًا.
وقال إبراهيم بن حمزة الزّبيريّ: حدثنا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ مَاهَانَ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. "ح" وَقَالَ هَاشِمُ بْنُ القاسم، ويونس بن بكير، وحجّاج الأعور، حدثنا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، وَهُوَ عِيسَى بْنُ مَاهَانَ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ غَيْرِهِ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} 1 قَالَ: أُتى بِفَرَسٍ فَحُمِلَ عَلَيْهِ، خَطْوُهُ مُنْتَهَى بَصَرِهِ، فَسَارَ وَسَارَ مَعَهُ جِبْرِيلُ، فَأَتَى عَلَى قَوْمٍ يَزْرَعُونَ فِي يَوْمٍ وَيَحْصُدُونَ فِي يَوْمٍ، كُلَّمَا حَصَدُوا عَادَ كَمَا كَانَ، فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ، مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُهَاجِرُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، تُضَاعَفُ لَهُمُ الْحَسَنَةُ بِسُبْعُمِائَةِ ضِعْفٍ {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} 2. ثُمَّ أَتَى عَلَى قَوْمٍ تُرْضَخُ3 رُءُوسُهُمْ بِالصَّخْرِ، كُلَّمَا رُضِخَتْ عَادَتْ! قَالَ: يَا جِبْرِيلُ، مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَتَثَاقَلُ رُءُوسُهُمْ عَنِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ أَتَى عَلَى قَوْمٍ عَلَى أَقْبَالِهِمْ رِقَاعٌ، وَعَلَى أَدْبَارِهِمْ رِقَاعٌ، يَسْرَحُونَ كَمَا تَسْرَحُ الْأَنْعَامُ عَنِ الضَّرِيعِ وَالزَّقُّومِ، وَرَضْفِ جَهَنَّمَ، قَالَ: يَا جِبْرِيلُ مَا هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: الَّذِينَ لَا يُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ، ثُمَّ أَتَى عَلَى خَشَبَةٍ عَلَى الطَّرِيقِ، لَا يَمُرُّ بِهَا شَيْءٌ إِلَّا قَصَعَتْهُ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} 4. ثُمَّ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ قَدْ جَمَعَ حِزْمَةً عَظِيمَةً لَا يَسْتَطِيعُ حَمْلَهَا، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يزيد عليها،
__________
1 سورة الإسراء: 1.
2 سورة سبأ: 39.
3 ترضخ: تكسر.
4 سورة الأعراف: 86.

(1/179)


قَالَ: يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا؟ قَالَ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ أُمَّتِكَ عَلَيْهِ أَمَانَةٌ، لَا يَسْتَطِيعُ أَدَاءَهَا، وَهُوَ يَزِيدُ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَتَى عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ أَلْسِنَتُهُمْ وَشِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ حَدِيدٍ، كُلَّمَا قُرِضَتْ عَادَتْ كَمَا كَانَتْ. قَالَ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ الْفِتْنَةِ.
ثُمَّ نَعَتَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ سَارَ حَتَّى أَتَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَدَخَلَ وَصَلَّى، ثُمَّ أَتَى أَرْوَاحَ الْأَنْبِيَاءِ فَأَثْنَوْا عَلَى رَبِّهِمْ1.
وَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا فِي ثَلَاثِ وَرَقَاتٍ كِبَارٍ. تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، وَلَيْسَ هُوَ بِالْقَوِيِّ، وَالْحَدِيثُ مُنْكَرٌ يُشْبِهُ كَلَامَ الْقُصَّاصِ، إِنَّمَا أَوْرَدْتُهُ لِلْمَعْرِفَةِ لَا لِلْحُجَّةِ.
وَرَوَى فِي الْمِعْرَاجِ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ حَدِيثًا، وَلَيْسَ بِثِقَةٍ2، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَكَّةَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا خَرَجَ إِلَى الْمَدِينَةِ فُرِضَتْ أَرْبَعًا، وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ3. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. آخِرُ الْإِسْرَاءِ.
__________
1 إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في "الدلائل""2/ 397-403" وأبو جعفر الرازي سيئ الحفظ كما في "التقريب" "8019" وقال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" "3/ 21": في بعض ألفاظه غرابة ونكارة شديدة.
2 فهو متهم بالكذب كما يأتي في ترجمته "1491".
3 صحيح: أخرجه البخاري "3935" في كتاب مناقب الأنصار، باب: التاريخ، وأبو نعيم في "الحلية" "9002".

(1/180)


زَوَاجُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعَائِشَةَ وَسَوْدَةَ أمي المؤمنين:
قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُتَوَفَّى خَدِيجَةَ، قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَأَنَا ابْنَةُ سِتٍّ، وَأُدْخِلْتُ عَلَيْهِ وَأَنَا ابْنَةُ تِسْعِ سِنِينَ جَاءَنِي نِسْوَةٌ وَأَنَا أَلْعَبُ عَلَى أُرْجُوحَةٍ، وَأَنَا مُجَمَّمَةٌ1، فَهَيَّأْنَنِي وَصَنَعْنَنِي، ثُمَّ أَتَيْنَ بِي إِلَيْهِ. قَالَ عُرْوَةُ: وَمَكَثْتُ عِنْدَهُ تِسْعَ سِنِينَ2. وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ قَبْلَ مَخْرَجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْمَدِينَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، فَلَبِثَ سَنَتَيْنِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، وَنَكَحَ عَائِشَةَ وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، ثُمَّ بَنَى بِهَا وَهِيَ ابْنَةُ تِسْعٍ3. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ هَكَذَا مُرْسَلًا.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ مَرَّتَيْنِ، أَرَى أَنَّ رَجُلا يَحْمِلُكِ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ فَيَقُولُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَأَكْشِفُ فَأَرَاكِ فَأَقُولُ: إِنْ كَانَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ" 4. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: لَمَّا مَاتَتْ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- جَاءَتْ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالت: أَلَا تُزَوَّجُ؟ قَالَ: "وَمَنْ؟ " قَالَتْ: إِنْ شِئْتَ بكرًا وإن شئت ثيبًا.
__________
1 مجممة: الجمة هي مجتمع الشعر.
2 صحيح: أخرجه البخاري "3894" في كتاب مناقب الأنصار، باب: تزويج النبي -صلى الله عليه وسلم- عائشة، ومسلم "1422" في كتاب النكاح، باب: تزويج الأب البكر الصغيرة، وأبو داود "4933-4937" في كتاب الأدب، باب: في الأرجوحة.
3 أخرجه البخاري "3896" في المصدر السابق، وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" "7/ 265": وهو في الجملة صحيح.
4 صحيح: أخرجه البخاري "3895" في المصدر السابق، ومسلم "2438" في كتاب فضائل الصحابة، باب: فضائل عائشة -رضي الله عنها.

(1/181)


قَالَ: "مَنِ الْبِكْرُ وَمَنِ الثَّيِّبُ" ?.
فَقَالَتْ: أَمَّا الْبِكْرُ فَعَائِشَةُ بِنْتُ أَحَبِّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْكَ.
وَأَمَّا الثَّيِّبُ فَسَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، قَدْ آمَنَتْ بِكَ وَاتَّبَعَتْكَ، قَالَ: "اذْكُرِيهِمَا عَلَيَّ".
قَالَتْ: فَأَتَيْتُ أُمَّ رُومَانَ فَقُلْتُ: يَا أُمَّ رُومَانَ مَاذَا أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، قَالَتْ: مَاذَا؟
قَالَتْ: رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَذْكُرُ عَائِشَةَ.
قَالَتِ: انْتَظِرِي فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ آتٍ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ.
فَقَالَ: أَوَتَصْلُحُ لَهُ وَهِيَ ابْنَةُ أَخِيهِ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا أَخُوهُ وَهُوَ أَخِي وَابْنَتُهُ تَصْلُحُ لِي".
قَالَتْ: وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَتْ لِي أُمُّ رومان: إنّ المطعم ين عَدِيٍّ قَدْ كَانَ ذَكَرَهَا عَلَى ابْنِهِ، وَوَاللَّهِ مَا أُخلف وَعْدًا قَطُّ، تَعْنِي أَبَا بَكْرٍ.
قَالَتْ: فَأَتَى أَبُو بَكْرٍ الْمُطْعِمَ فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي أَمْرِ هَذِهِ الْجَارِيَةِ.
قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَقَالَ لَهَا: مَا تَقُولِينَ؟ فَأَقْبَلَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَتْ: لَعَلَّنَا إِنْ أَنْكَحْنَا هَذَا الْفَتَى إِلَيْكَ تُصْبِئْهُ وَتُدْخِلْهُ فِي دِينِكَ.
فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: مَا تَقُولُ أَنْتَ؟ فَقَالَ: إِنَّهَا لَتَقُولُ مَا تَسْمَعُ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ وَلَيْسَ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْمَوْعِدِ شَيْءٌ، فَقَالَ لَهَا: قُولِي لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلْيَأْتِ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَلَكَهَا، قَالَتْ: ثُمَّ انْطَلَقْتُ إِلَى سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ، وَأَبُوهَا شَيْخٌ كَبِيرٌ قَدْ جَلَسَ عَنِ الْمَوْسِمِ فَحَيَّيْتُهُ بِتَحِيَّةِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَقُلْتُ: أَنْعِمْ صَبَاحًا، قَالَ: مَنْ أَنْتِ؟ قُلْتُ: خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ، فَرَحَّبَ بِي وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، قُلْتُ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَذْكُرُ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ، قَالَ: كُفْؤٌ كَرِيمٌ مَاذَا تَقُولُ صَاحِبَتُكِ؟ قُلْتُ: تُحِبُّ ذَلِكَ، قَالَ: قُولِي لَهُ فَلْيَأْتِ، قَالَتْ: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَلَكَهَا. قَالَتْ: وَقَدِمَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فَجَعَلَ يَحْثُو عَلَى رَأْسِهِ التُّرَابَ، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ: إِنِّي لَسَفِيهٌ يَوْمَ أَحْثُو عَلَى رَأْسِي التُّرَابَ أَنْ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَوْدَةَ1. إسناده حسن.
__________
1 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "2/ 411، 412"، وأخرجه أحمد "6/ 210، 211" مرسلًا.

(1/182)


عَرْضُ نَفْسِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْقَبَائِلِ:
قَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ بِالْمَوْقِفِ فَيَقُولُ: "هَلْ مِنْ رَجُلٍ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ، فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي" 1. أخرجه دَاوُدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي تِلْكَ السِّنِينِ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ فِي كُلِّ مَوْسِمٍ، وَيُكَلِّمُ كُلَّ شَرِيفِ قَوْمٍ، لَا يَسْأَلُهُمْ مَعَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يُؤْوُوهُ وَيَمْنَعُوهُ، وَيَقُولُ:
لَا أُكره أَحَدًا مِنْكُمْ عَلَى شَيْءٍ، مَنْ رَضِيَ مِنْكُمْ بِالَّذِي أَدْعُوهُ إِلَيْهِ فَذَاكَ، ومن كره لم أكرهه، إنّما أُرِيدُ أَنْ تُحْرِزُونِي مِمَّا يُرَادُ بِي مِنَ الْقَتْلِ، حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَاتِ رَبِّي، وَحَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ لِي وَلِمَنْ صَحِبَنِي بِمَا شَاءَ، فَلَمْ يَقْبَلْهُ أَحَدٌ وَيَقُولُونَ: قَوْمُهُ أَعْلَمُ بِهِ، أَتَرَوْنَ أَنَّ رَجُلًا يُصْلِحُنَا وَقَدْ أَفْسَدَ قَوْمَهُ، وَلَفَظُوهُ، فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا ذَخَّرَ اللَّهُ لِلْأَنْصَارِ.
وَتُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ، وَابْتُلِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَشَدَّ مَا كَانَ، فَعَمَدَ لِثَقِيفٍ بِالطَّائِفِ، رَجَاءَ أَنْ يُؤْوُوهُ، فَوَجَدَ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ مِنْهُمْ، هُمْ سَادَةُ ثَقِيفٍ: عَبْدُ يَالِيلَ، وَحَبِيبٌ، وَمَسْعُودُ بَنُو عَمْرٍو، فَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، وَشَكَا إِلَيْهِمُ الْبَلَاءَ، وَمَا انْتَهَكَ مِنْهُ قَوْمُهُ.
فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَنَا أَسْرِقُ أَسْتَارَ الْكَعْبَةِ إِنْ كَانَ اللَّهُ بَعَثَكَ قَطُّ.
وَقَالَ الْآخَرُ: أَعْجَزَ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُرْسِلَ غَيْرَكَ.
وَقَالَ الْآخَرُ: وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ بَعْدَ مَجْلِسِكَ هَذَا، وَاللَّهِ لَئِنْ كُنْتَ رَسُولَ اللَّهِ لَأَنْتَ أَعْظَمُ شَرَفًا وَحَقًّا مِنْ أَنْ أُكَلِّمَكَ، وَلَئِنْ كُنْتَ تَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ، لَأَنْتَ أَشَرُّ مِنْ أَنْ أُكَلِّمَكَ وَتَهَزَّءُوا بِهِ، وَأَفْشَوْا فِي قَوْمِهِمُ الَّذِي رَاجَعُوهُ بِهِ، وقعدوا له صفّين
__________
1 صحيح: أخرجه أبو داود "3734" وفي كتاب السنة، باب: في القرآن، والترمذي "2934" في كتاب فضائل القرآن، باب: رقم "24"، وابن ماجه "201" في المقدمة، باب: فيما أنكرت الجهمية، وأحمد "3/ 390"، وابن أبي شيبة في "مصنفه" "8/ 447". وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".

(1/183)


عَلَى طَرِيقِهِ، فَلَمَّا مَرَّ جَعَلُوا لَا يَرْفَعُ رِجْلَيْهِ وَلَا يَضَعُهُمَا إِلَّا رَضَخُوهُمَا بِالْحِجَارَةِ وَأَدْمَوْا رِجْلَيْهِ، فَخَلُصَ مِنْهُمْ وَهُمَا تَسِيلَانِ الدِّمَاءَ، فَعَمَدَ إِلَى حَائِطٍ مِنْ حَوَائِطِهِمْ، وَاسْتَظَلَّ فِي ظِلِّ حَبَلَةٍ1 مِنْهُ، وَهُوَ مَكْرُوبٌ مُوجَعٌ، فَإِذَا فِي الْحَائِطِ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ أَخُوهُ، فَلَمَّا رَآهُمَا كَرِهَ مَكَانَهُمَا لِمَا يَعْلَمُ مِنْ عَدَاوَتِهِمَا، فَلَمَّا رَأَيَاهُ أَرْسَلَا إِلَيْهِ غُلَامًا لَهُمَا يُدْعَى عَدَّاسًا، وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ مِنْ أَهْلِ نِينَوَى، مَعَهُ عِنَبٌ، فَلَمَّا جَاءَ عَدَّاسٌ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مِنْ أَيِّ أَرْضٍ أَنْتَ يَا عَدَّاسُ"؟ قَالَ: مِنْ أَهْلِ نِينَوَى2، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مِنْ مَدِينَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ يُونُسَ بْنِ متّى"؟ فقال: ما يُدْرِيكَ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى؟ قَالَ: "أَنَا رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاللَّهُ أخبرني خبر يونس"، فَلَمَّا أَبْصَرَ عُتْبَةُ، وَشَيْبَةُ مَا يَصْنَعُ غُلَامُهُمَا سَكَتَا، فَلَمَّا أَتَاهُمَا قَالا: مَا شَأْنُكَ سَجَدْتَ لِمُحَمَّدٍ وَقَبَّلْتَ قَدَمَيْهِ؟ قَالَ: هَذَا رَجُلٌ صَالِحٌ، أَخْبَرَنِي بِشَيْءٍ عَرَفْتُهُ مِنْ شَأْنِ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَيْنَا يُدْعَى يُونُسَ بْنَ مَتَّى، فَضَحِكَا بِهِ، وَقَالَا: لَا يَفْتِنْكَ عَنْ نَصْرَانِيَّتِكَ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ خَدَّاعٌ، فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى مَكَّةَ3.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، أَنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْهُ، أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ أَشَدُّ عَلَيْكَ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ: "مَا لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ كَانَ أَشَدَّ مِنْهُ، يَوْمَ الْعَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ 4، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، ثُمَّ نَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، قَدْ بَعَثَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ لِتَأْمُرَنِي بِمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ"، فَقَالَ لَهُ
__________
1 الحبلة: شجرة العنب.
2 نينوى: مدينة بالعراق.
3 مرسل.
4 قرن الثعالب: موضع على مسافة يوم وليلة من مكة.

(1/184)


رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَشْرَارِهِمْ -أَوْ قَالَ: مِنْ أَصْلَابِهِمْ- مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا" 1. أَخْرَجَاهُ.
وَقَالَ البكّائيّ، عن ابن إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: لَمَّا انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الطَّائِفِ، عَمَدَ إِلَى نَفَرٍ مِنْ ثَقِيفٍ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ سَادَتُهُمْ، وَهُمْ إِخْوَةٌ ثَلَاثَةٌ: عَبْدُ يَالِيلَ بْنُ عَمْرٍو، وَأَخَوَاهُ مَسْعُودٌ وَحَبِيبٌ، وَعِنْدَ أَحَدِهِمُ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ جُمَحٍ، فَجَلَسَ إِلَيْهِمْ وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: هُوَ يَمْرُطُ ثِيَابَ الْكَعْبَةِ إِنْ كَانَ اللَّهُ أَرْسَلَكَ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَا وَجَدَ اللَّهُ مَنْ يُرْسِلُهُ غَيْرَكَ؟ وَقَالَ الْآخَرُ: وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ2.
وَذَكَرَهُ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ شِهَابٍ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ وَهِيَ: فَلَمَّا اطْمَأَنَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ فِيمَا ذُكِرَ لِي: "اللَّهُمُّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي وَقِلَّةَ حِيلَتِي وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي، إِلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي، أَوْ إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيَّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الْكَرِيمِ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ يَنْزِلَ بِي غَضَبُكَ أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ سَخَطُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ"3.
وَحَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، سَمِعْتُ رَبِيعَةَ بْنَ عَبَّادٍ يُحَدِّثُ أَبِي قَالَ: إِنِّي لَغُلَامٌ شَابٌّ مَعَ أَبِي بِمِنًى، وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقِفُ عَلَى الْقَبَائِلِ مِنَ الْعَرَبِ، يَقُولُ: يَا بَنِي فُلَانٍ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَخْلَعُوا مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ، وَأَنْ تُؤْمِنُوا وَتُصَدِّقُونِي وَتَمْنَعُونِي حَتَّى أُبَيِّنَ عَنِ اللَّهِ مَا بَعَثَنِي بِهِ، قَالَ: وَخَلْفَهُ رَجُلٌ أَحْوَلُ وَضِيءٌ، لَهُ غَدِيرَتَانِ، عَلَيْهِ حُلَّةٌ عَدَنِيَّةٌ، فَإِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ قَوْلِهِ قَالَ: يَا بَنِي فُلَانٍ إِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَدْعُوكُمْ إِلَى أَنْ تَسْلَخُوا اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَحُلَفَاءَكُمْ من الحيّ من بني مالك بن
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3231" في كتاب بدء الخلق، ومسلم "1795" في كتاب الجهاد، باب: ما لقي النَّبِيّ -صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أذى المشركين.
2 مرسل: أخرجه ابن إسحاق كما في "السيرة" "1/ 384، 385".
3 معضل: ذكره ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 385، 386" بدون إسناد.

(1/185)


أُقَيْشٍ، إِلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ، فَلَا تُطِيعُوهُ وَلَا تَسْمَعُوا مِنْهُ، فَقُلْتُ لِأَبِي: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا عَمُّهُ عَبْدُ الْعُزَّى أَبُو لَهَبٍ1.
وَحَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ أَنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَتَى كِنْدَةَ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَفِيهِمْ سَيِّدٌ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ مُلَيْحٌ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ2.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّهُ أَتَى كَلْبًا فِي مَنَازِلِهِمْ، إِلَى بَطْنٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ بَنُو عَبْدِ اللَّهِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ: يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْسَنَ اسْمَ أَبِيكُمْ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ فَلَمْ يَقْبَلُوا3.
وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ أَتَى بَنِي حَنِيفَةَ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ أَقْبَحَ رَدًّا مِنْهُمْ4.
وَحَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ أَتَى بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ بَيْحَرَةُ بْنُ فِرَاسٍ: وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي أَخَذْتُ هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ لَأَكَلْتُ بِهِ الْعَرَبَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَ إِنْ تَابَعْنَاكَ عَلَى أَمْرِكَ، ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللَّهُ عَلَى مَنْ خَالَفَكَ، أَيَكُونُ لَنَا الْأَمْرُ مِنْ بَعْدِكَ؟ قَالَ: "الْأَمْرُ إِلَى اللَّهِ يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ"، قَالَ: أَفَتُهْدَفُ5 نُحُورُنَا لِلْعَرَبِ دُونَكَ، فَإِذَا أَظْهَرَكَ اللَّهُ كَانَ الْأَمْرُ لِغَيْرِنَا، لَا حَاجَةَ لَنَا بِأَمْرِكَ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ6.
__________
1 إسناده صعيف: أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 387-388"، وحسين بن عبد الله ضعيف.
2 مرسل: انظر المصدر السابق "1/ 388".
3 مرسل: انظر المصدر السابق.
4 إسناده ضعيف: أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 388" عن بعض أصحابه، عَنْ عبد الله بْن كعب بْن مالك.
5 أي تصير هدفًا.
6 مرسل: أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 388-389".

(1/186)


حَدِيثُ سُوَيْدِ بْنِ الصَّامِت:
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حدثني عاصم بن عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ قَالُوا: قَدِمَ سُوَيْدُ بْنُ الصَّامِتِ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ مَكَّةَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، وَكَانَ سُوَيْدٌ يُسَمِّيهِ قَوْمُهُ فِيهِمُ "الْكَامِلَ" لِسِنِّهِ وَجَلَدِهِ وَشِعْرِهِ، فَتَصَدَّى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَدَعَاهُ إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ سُوَيْدٌ: فَلَعَلَّ الَّذِي مَعَكَ مِثْلُ الَّذِي مَعِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَمَا الَّذِي مَعَكَ"؟ قَالَ: مِجَلَّةُ لُقْمَانَ، يَعْنِي حِكْمَةَ لُقْمَانَ، قَالَ: "اعْرِضْهَا"، فَعَرَضَهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: "إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ حَسَنٌ، وَالَّذِي مَعِي أَفْضَلُ مِنْهُ، قُرْآنٌ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيَّ"، فَتَلَا عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، وَدَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَقَوْلٌ حَسَنٌ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ عَلَى قَوْمِهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ قَتَلَتْهُ الْخَزْرَجُ، فَكَانَ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ يَقُولُونَ: إِنَّا لَنَرَى أَنَّهُ قُتِلَ وَهُوَ مُسْلِمٌ، وَكَانَ قَتْلُهُ يَوْمَ بُعَاثٍ1.
وَقَالَ الْبَكَّائِيُّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: وَسُوَيْدٌ الَّذِي يَقُولُ:
أَلَا رُبَّ مَنْ تَدْعُو صَدِيقًا وَلَوْ تَرَى ... مَقَالَتَهُ بِالْغَيْبِ سَاءَكَ مَا يَفْرِي
مَقَالَتُهُ كَالشَّهْدِ مَا كان شاهدًا ... وبالغيب مأثور على يغرة النَّحْرِ
يَسُرُّكَ بَادِيهِ وَتَحْتَ أَدِيمِهِ ... تَمِيمَةُ غِشٍّ تَبْتَرِي عَقَبَ الظَّهْرِ2
تُبَيِّنُ لَكَ الْعَيْنَانِ مَا هُوَ كَاتِمٌ ... مِنَ الْغِلِّ وَالْبَغْضَاءِ بِالنَّظَرِ الشَّزْرِ3
فَرِشْنِي بِخَيْرٍ طَالَمَا قَدْ بَرَيْتَنِي ... وَخَيْرُ الْمَوَالِي يريش ولا يبري4
__________
1 أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 389، 390".
2 تبتري: تقطع. وعقب الظهر: عصبه.
3 الشزر: نظرة الإعراض.
4 رشني: قواني. وبريتني: أضعفتني.

(1/187)


حَدِيثُ يَوْمِ بُعَاثٍ:
قَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الْحُصَيْنِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ أَبُو الْحَيْسَرِ أَنَسُ بْنُ رَافِعٍ مَكَّةَ، وَمَعَهُ فِتْيَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فِيهِمْ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ، يَلْتَمِسُونَ الْحِلْفَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى قَوْمِهِمْ مِنَ الْخَزْرَجِ، سَمِعَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَتَاهُمْ فَقَالَ لَهُمْ: "هَلْ لَكُمْ إِلَى خَيْرٍ مِمَّا جِئْتُمْ لَهُ؟ " قَالُوا: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: "أَنَا رَسُولُ اللَّهِ بَعَثَنِي اللَّهُ إِلَى الْعِبَادِ"، ثُمَّ ذَكَرَ لَهُمُ الْإِسْلَامَ، وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَقَالَ إِيَاسٌ، وَكَانَ غُلَامًا حَدَثًا: يَا قَوْمُ هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا جِئْتُمْ لَهُ، فَيَأْخُذُ أَبُو الْحَيْسَرِ حِفْنَةً مِنَ الْحَصْبَاءِ، فَيَضْرِبَ بِهَا وَجْهَ إِيَاسٍ، وَقَالَ: دَعْنَا مِنْكَ، فَلَعَمْرِي لَقَدْ جِئْنَا لِغَيْرِ هَذَا، فَسَكَتَ، وَقَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْهُمْ وَانْصَرَفُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ وَقْعَةُ بُعَاثٍ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ أَنْ هَلَكَ. قَالَ مَحْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ: فَأَخْبَرَنِي مَنْ حَضَرَهُ مِنْ قَوْمِي أَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا يَسْمَعُونَهُ يُهَلِّلُ اللَّهَ وَيُكَبِّرُهُ وَيَحْمَدُهُ وَيُسَبِّحُهُ حَتَّى مَاتَ، وَكَانُوا لَا يَشُكُّونَ أَنَّهُ مَاتَ مُسْلِمًا. وَقَدْ كَانَ اسْتُشْعِرَ مِنْهُ الْإِسْلَامُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، حِينَ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا سَمِعَ1.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ يَوْمُ بُعَاثٍ يَوْمًا قَدَّمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِرَسُولِهِ، فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ، وقد افترق ملؤهم وَقُتِلَتْ سَرَاتُهُمْ -يَعْنِي وَجُرِّحُوا- قَدَّمَهُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ في دخولهم في الإسلام2. أخرجه البخاري.
__________
1 إسناده ضعيف: أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 391" والحصين قال في "التقريب": مقبول أي إذا توبع، وإلا فلين.
2 صحيح: أخرجه البخاري "3777" في كتاب مناقب الأنصار، باب: رقم "1".

(1/188)


ذكر مبدأ خبرالأنصار وَالْعَقَبَةِ الْأُولَى:
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ الْعِجْلِيُّ: حدثنا هشام بن محمد الكلبيّ، حدثنا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ أَبِي عَبْسِ بْنِ جَبْرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعَتْ قُرَيْشٌ قَائِلًا يَقُولُ فِي اللَّيْلِ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ:
فَإِنْ يُسْلِمِ السَّعْدَانِ يُصْبِحْ مُحَمَّدٌ ... بِمَكَّةَ لَا يَخْشَى خِلَافَ الْمُخَالِفِ
فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَنِ السَّعْدَانِ؟ سَعْدُ بْنُ بَكْرٍ، أَوْ سَعْدُ بْنُ تَمِيمٍ؟ فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ سَمِعُوا الْهَاتِفَ يَقُولُ:
أَيَا سَعْدُ سَعْدَ الْأَوْسِ كُنْ أَنْتَ نَاصِرًا ... وَيَا سَعْدُ سَعْدَ الْخَزْرَجَيْنِ الْغَطَارِفِ1
أَجِيبَا إِلَى دَاعِي الْهُدَى وَتَمَنَّيَا ... عَلَى اللَّهِ فِي الْفِرْدَوْسِ مُنْيَةَ عَارِفِ2
فَإِنَّ ثَوَابَ اللَّهِ لِلطَّالِبِ الْهُدَى ... جِنَانٌ مِنَ الْفِرْدَوْسِ ذَاتُ رَفَارِفِ3
__________
1 الغطارف: جمع الغطريف، وهو السيد.
2 المنية: الأمنية.
3 الرفارف: جمع الرفرف، وهي الوسادة.

(1/188)


فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: هُوَ وَاللَّهِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ1.
وَقَالَ الْبَكَّائِيُّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ2: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ إِظْهَارَ دِينِهِ، وَإِعْزَازَ نَبِيِّهِ، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْمَوْسِمِ الَّذِي لَقِيَهُ فِيهِ الْأَنْصَارُ، فَعَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى الْقَبَائِلِ، كَمَا كَانَ يَصْنَعُ، فَبَيْنَا هُوَ عِنْدَ الْعَقَبَةِ لَقِيَ رَهْطًا مِنَ الْخَزْرَجِ، فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا لَقِيَهُمْ قَالَ: "مَنْ أَنْتُمْ؟ " قَالُوا: نَفَرٌ مِنَ الْخَزْرَجِ، قَالَ: "أَمِنْ مَوَالِي يَهُودَ؟ " قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: "أَفَلَا تَجْلِسُونَ أُكَلِّمُكُمْ؟ " قَالُوا: بَلَى، فَجَلَسُوا مَعَهُ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الْإِسْلَامَ، وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، وَكَانَ مِمَّا صَنَعَ اللَّهُ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ أَنَّ يَهُودَ كَانُوا مَعَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ، وَكَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَعِلْمٍ، وَكَانُوا هُمْ أَهْلَ شِرْكٍ وَأَوْثَانٍ، وَكَانُوا قَدْ غَزَوْهُمْ بِبِلادِهِمْ، فكانوا إذا كان بهم شَيْءٌ قَالُوا: إِنَّ نَبِيًّا مَبْعُوثٌ الْآنَ، قَدْ أَظَلَّ زَمَانُهُ، نَتَّبِعُهُ، فَنَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ، فَلَمَّا كَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُولَئِكَ النَّفَرَ، وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: يَا قَوْمُ تَعَلَّمُوا وَاللَّهِ إِنَّهُ لَلنَّبِيُّ الَّذِي تَوَعَّدَكُمْ بِهِ يَهُودُ، فَلَا تَسْبِقَنَّكُمْ إِلَيْهِ، فَأَجَابُوهُ وَأَسْلَمُوا وَقَالُوا: إِنَّا تَرَكْنَا قَوْمَنَا، وَلَا قَوْمَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالشَّرِّ مَا بَيْنَهُمْ، وَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْمَعَهُمْ بِكَ فَسَنُقْدِمُ عَلَيْهِمْ فَنَدْعُوهُمْ إِلَى أَمْرِكَ، وَنَعْرِضُ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَجَبْنَاكَ بِهِ، فَإِنْ يَجْمَعْهُمُ اللَّهُ عَلَيْكَ فَلَا رَجُلَ أَعَزُّ مِنْكَ، ثُمَّ انْصَرَفُوا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ3: وَهُمْ فِيمَا ذُكِرَ سِتَّةٌ مِنَ الْخَزْرَجِ: أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَعَوْفُ بْنُ عَفْرَاءَ، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكٍ الزُّرَقِيُّ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرٍ السُّلَمِيُّ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ. رَوَاهُ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، فَقَالَ بَدَلَ عُقْبَةَ: مُعَوَّذُ بْنُ عَفْرَاءَ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَحَدُ بَنِي عَدِيِّ بْنِ غُنْمٍ، فَلَمَّا قَدِمُوا المدينة ذكروا لقومهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وَدَعَوْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَفَشَا فِيهِمْ ذِكْرُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، وَافَى الْمَوْسِمَ مِنَ الْأَنْصَارِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَلَقُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْعَقَبَةِ، وَهِيَ "الْعَقَبَةُ الْأُولَى"، فَبَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى بيعة النّساء، وذك قَبْلَ أَنْ تُفْتَرَضَ عَلَيْهِمُ الْحَرْبُ، وَهُمْ أَسْعَدُ بن زرارة، وعوف، ومعوّذ ابنا الحارث
__________
1 إسناده ضعيف جدًّا: هشام الكلبي متروك كما تقدم.
2 ذكره في "السيرة" "1/ 391-392".
3 ذكره في "السيرة" "1/ 392-393".

(1/189)


وَهُمَا ابْنَا عَفْرَاءَ، وَذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكٍ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَيَزِيدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ الْبَلَوِيُّ، وَعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَهُمْ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيْهَانِ، وَعُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ، وَهُمَا مِنَ الْأَوْسِ.
وَقَالَ يُونُسُ وَجَمَاعَةٌ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُسَيْلَةَ، حَدَّثَنِي عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ الْأُولَى، وَنَحْنُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَبَايَعْنَاهُ بَيْعَةَ النِّسَاءِ، عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا نَسْرِقَ، وَلَا نَزْنِيَ، وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا، وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَانٍ نَفْتَرِيهِ بَيْنَ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا وَلَا نَعْصِيَهُ فِي مَعْرُوفٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْتَرَضَ الْحَرْبُ، فَإِنْ وَفَّيْتُمْ بِذَلِكَ فَلَكُمُ الْجَنَّةُ، وَإِنْ غَشِيتُمْ شَيْئًا فَأَمْرُكُمْ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَ1. أَخْرَجَاهُ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ.
أَخْبَرَنَا الْخَضِرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي عَمْرٍو قَالَا: أنا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْبُنِّ، أنا جَدِّي أَبُو الْقَاسِمِ الْحُسَيْنُ، أنا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الْعَلَاءِ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، أنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُثْمَانَ الْمُعَدَّلُ، أَنْبَأَ عَلِيُّ بْنُ يَعْقُوبَ، أنا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْقُرَشِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَائِذٍ، أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ نقول في الله عزّ وجل، ولا تَأْخُذُنَا فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ نَنْصُرَهُ إِذَا قَدِمَ عَلَيْنَا يَثْرِبَ، فَنَمْنَعَهُ مِمَّا نَمْنَعُ أَنْفُسَنَا وَأَزْوَاجَنَا وَأَبْنَاءَنَا، وَلَنَا الْجَنَّةُ2. رَوَاهُ زُهَيْرُ بن معاوية، عن ابن
__________
1 صحيح: أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 394" والبخاري "3892" في كتاب مناقب الأنصار، باب: وفود الأنصار، ومسلم "1709" في كتاب الحدود، باب: الحدود كفارات لأهلها.
2 في إسناده مقال، أخرجه أحمد "5/ 325"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 451-452"، وإسماعيل بن عبيد الله قال في "التقريب": مقبول، أي إذا توبع وإلا فلين، وقال الحافظ ابن كثير في "البداية" "2/ 193": هذا إسناد جيد قوي.

(1/190)


خُثَيْمٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُبَادَةَ قَالَ نَحْوَهُ. "خَالَفَهُ دَاوُدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَطَّارُ وَيَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ، فَرَوَيَا عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ هَذَا الْمَتْنَ بِإِسْنَادٍ آخَرَ، وَهُوَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ. وَسَيَأْتِي".
وَقَالَ الْبَكَّائِيّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ1: فَلَمَّا انْصَرَفَ الْقَوْمُ، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ الْعَبْدَرِيَّ يُقْرِئُهُمُ الْقُرْآنَ وَيُفَقِّهُهُمْ فِي الدِّينِ، فَنَزَلَ عَلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ كَرِهَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَؤُمَّهُ بَعْضٌ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ يُسَمَّى مُصْعَبٌ بِالْمَدِينَةِ الْمُقْرِئَ.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنُ حُنَيْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ قَائِدَ أَبِي حِينَ ذَهَبَ بَصَرُهُ، فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ بِهِ إِلَى الْجُمُعَةِ، فَسَمِعَ الْأَذَانَ صَلَّى عَلَى أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُ، فَقُلْتُ: يَا أَبَهْ مَا لَكَ إِذَا سَمِعْتَ الْأَذَانَ لِلْجُمُعَةِ صَلَّيْتَ عَلَى أَبِي أُمَامَةَ! قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، كَانَ أَوَّلَ مَنْ جَمَّعَ بِنَا بِالْمَدِينَةِ فِي هَزْمٍ مِنْ حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ يُقَالُ لَهُ نَقِيعُ الْخَضَمَاتِ2، قُلْتُ: وَكَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ رَجُلًا3.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: فَلَمَّا حَضَرَ الْمَوْسِمُ حَجَّ نَفَرٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، مِنْهُمْ مُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ، وَأَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكٍ، وَذَكْوَانُ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ تَغْلِبَ، وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيْهَانِ، وَعُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ، فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَهُ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَأَيْقَنُوا بِهِ وَاطْمَأَنُّوا وَعَرَفُوا مَا كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَصَدَّقُوهُ، ثُمَّ قَالُوا: قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي كَانَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ، وَنَحْنُ حِرَاصٌ عَلَى مَا أَرْشَدَكَ اللَّهُ بِهِ، مُجْتَهِدُونَ لَكَ بِالنَّصِيحَةِ، وَإِنَّا نُشِيرُ عَلَيْكَ بِرَأْيِنَا، فَامْكُثْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ حَتَّى نَرْجِعَ إِلَى قَوْمِنَا فَنَذْكُرَ لَهُمْ شَأْنَكَ، وَنَدْعُوَهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَلَعَلَّ اللَّهُ يُصْلِحُ ذَاتَ بَيْنِهِمْ، وَيَجْمَعُ لَهُمْ أَمْرَهُمْ فَنُوَاعِدُكَ الْمَوْسِمَ مِنْ قابل، فرضي بذلك
__________
1 ذكره في "السيرة" "1/ 395".
2 نقيع الخضمات: من أودية الحجاز.
3 إسناده حسن: أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 395-396".

(1/191)


رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَدَعَوْهُمْ سِرًّا وَتَلَوْا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، حَتَّى قَلَّ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إِلَّا قَدْ أَسْلَمَ فِيهَا نَاسٌ، ثُمَّ بَعَثُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُعَاذَ بْنَ عَفْرَاءَ، وَرَافِعَ بْنَ مَالِكٍ أَنِ ابْعَثْ إِلَيْنَا رَجُلًا مِنْ قِبَلِكَ يُفَقِّهْنَا، فَبَعَثَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ، فَنَزَلَ فِي بَنِي تَمِيمٍ عَلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ يَدْعُو النَّاسَ سِرًّا، وَيَفْشُو فِيهِمُ الْإِسْلَامُ وَيَكْثُرُ، ثُمَّ أَقْبَلَ مُصْعَبٌ وَأَسْعَدُ، فَجَلَسَا عِنْدَ بِئْرِ بَنِي مَرْقٍ1، وَبَعَثَا إِلَى رَهْطٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَتَوْهُمَا مُسْتَخْفِينَ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ ويَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ: بَلْ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَأَتَاهُمْ فِي لأْمَتِهِ2 مَعَهُ الرُّمْحُ، حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لأَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ: عَلَامَ أَتَيْتَنَا فِي دُورِنَا بِهَذَا الْوَحِيدِ الْغَرِيبِ الطَّرِيدِ، يُسَفِّهُ ضُعَفَاءَنَا بِالْبَاطِلِ وَيَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، لَا أَرَاكَ بَعْدَهَا تُسِيءُ مِنْ جِوَارِنَا، فَقَامُوا، ثُمَّ إِنَّهُمْ عَادُوا مَرَّةً أُخْرَى لِبِئْرِ بَنِي مَرْقٍ، أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا، فَذَكَرُوا لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ الثَّانِيَةَ فَجَاءَهُمْ، فَتَوَاعَدَهُمْ وَعِيدًا دُونَ وَعِيدِهِ الأول، فقال له أسعد: يابن خَالَةٍ، اسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ، فَإِنْ سَمِعْتَ حَقًّا فَأَجِبْ إِلَيْهِ، وَإِنْ سَمِعْتَ مُنْكَرًا فَارْدُدْهُ بِأَهْدَى مِنْهُ، فَقَالَ: مَاذَا يَقُولُ؟ فَقَرَأَ عَلَيْهِ مُصْعَبٌ: {حم، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 3 فَقَالَ سَعْدٌ: مَا أَسْمَعُ مِنْكُمْ إِلَّا مَا أَعْرِفُهُ، فَرَجَعَ سَعْدٌ وَقَدْ هَدَاهُ اللَّهُ، وَلَمْ يُظْهِرْ لَهُمَا إِسْلَامَهُ، حَتَّى رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَدَعَا بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَظْهَرَ لَهُمْ إِسْلَامَهُ وَقَالَ: مَنْ شَكَّ مِنْهُمْ فِيهِ فَلْيَأْتِ بِأَهْدَى مِنْهُ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ جَاءَ أَمْرٌ لَتُحَزَّنَّ مِنْهُ الرِّقَابُ، فَأَسْلَمَتْ بَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ عِنْدَ إِسْلَامِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، إِلَّا مَنْ لَا يُذْكَرُ.
ثُمَّ إِنَّ بَنِي النَّجَّارِ أَخْرَجُوا مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ، وَاشْتَدُّوا عَلَى أَسْعَدَ، فَانْتَقَلَ مُصْعَبٌ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ يَدْعُو آمِنًا وَيَهْدِي اللَّهُ بِهِ. وَأَسْلَمَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ، وَكُسِرَتْ أَصْنَامُهُمْ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ أَعَزَّ مَنْ بِالْمَدِينَةِ، وكان مصعب أوّل من جمّع بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَكَذَا قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: إِنَّ مُصْعَبًا أَوَّلُ مَنْ جَمَّعَ بِالْمَدِينَةِ4.
وَقَالَ الْبَكَّائِيُّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بن المغيرة بن معيقيب،
__________
1 بئر في المدينة.
2 لأمته: أداة الحرب.
3 سورة الزخرف: 1-3.
4 مرسل.

(1/192)


وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، أَنَّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ خَرَجَ بِمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، يُرِيدُ بِهِ دَارَ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَدَارَ بَنِي ظَفَرٍ، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذِ ابن خَالَةِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَدَخَلَ بِهِ حَائِطًا مِنْ حَوَائِطِ بَنِي ظَفَرٍ، وَقَالَا عَلَى بِئْرِ مَرْقٍ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِمَا نَاسٌ، وَكَانَ سَعْدٌ وَأَسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ سَيِّدَيْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فَلَمَّا سَمِعَا بِهِ قَالَ سَعْدٌ لِأُسَيْدٍ: انْطَلِقْ إِلَى هَذَيْنِ فَازْجُرْهُمَا وَانْهَهُمَا عَنْ أَنْ يَأْتِيَا دَارَيْنَا، فلولا أسعد بن زرارة ابن خَالَتِي كَفَيْتُكَ ذَلِكَ، فَأَخَذَ أُسَيْدٌ حَرْبَتَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَيْهِمَا، فَلَمَّا رَآهُ أَسْعَدُ قَالَ: هَذَا سَيِّدُ قَوْمِهِ قَدْ جَاءَكَ فَاصْدُقِ اللَّهَ فِيهِ، قَالَ مُصْعَبٌ: إِنْ يَجْلِسْ أُكَلِّمْهُ، قَالَ: فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكُمَا إِلَيْنَا تُسَفِّهَانِ ضُعَفَاءَنَا، وَاعْتَزِلَانَا إِنْ كَانَ لَكُمَا بِأَنْفُسِكُمَا حَاجَةٌ، فقال له مصعب: أوتجلس فَتَسْمَعُ، فَإِنْ رَضِيتَ أَمْرًا قَبِلْتَهُ، وَإِنْ كَرِهْتَهُ كُفَّ عَنْكَ مَا تَكْرَهُ، قَالَ: أَنْصَفْتَ، ثُمَّ رَكَّزَ حَرْبَتَهُ وَجَلَسَ إِلَيْهِمَا، فَكَلَّمَهُ مُصْعَبٌ بِالْإِسْلَامِ، وقرأ عليه القرآن، فقالا فما بَلَغَنَا: وَاللَّهِ لَعَرَفْنَا فِي وَجْهِهِ الْإِسْلَامَ، قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي إِشْرَاقِهِ وَتَسَهُّلِهِ، ثُمَّ قَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا وَأَجْمَلَهُ! كَيْفَ تَصْنَعُونَ إِذَا أَرَدْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا فِي هَذَا الدِّينِ؟ قَالَا: تَغْتَسِلُ وَتَتَطَهَّرُ وَتُطَهِّرُ ثَوْبَيْكَ، ثُمَّ تَشْهَدُ شَهَادَةَ الْحَقِّ، ثُمَّ تُصَلِّي، فَقَامَ فَاغْتَسَلَ وَأَسْلَمَ وَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: إِنَّ وَرَائِي رَجُلًا إِنِ اتَّبَعَكُمَا لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ مِنْ قَوْمِهِ أَحَدٌ، وَسَأُرْسِلُهُ إِلَيْكُمَا، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَقَوْمِهِ، وَهُمْ جُلُوسٌ فِي نَادِيهِمْ، فَلَمَّا رَآهُ سَعْدٌ مُقْبِلًا قَالَ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ أُسَيْدٌ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي وَلَّى له، ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا فَعَلْتَ؟ قَالَ: كَلَّمْتُ الرَّجُلَيْنِ، فَمَا رَأَيْتُ بِهِمَا بَأْسًا، وَقَدْ نَهَيْتُهُمَا فَقَالَا: نَفْعَلُ مَا أَحْبَبْتَ، وَقَدْ حُدِّثْتُ أَنَّ بَنِي حَارِثَةَ قَدْ خَرَجُوا إِلَى أَسْعَدَ لِيَقْتُلُوهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّهُ ابْنُ خَالَتِكَ لِيَخْفِرُونَكَ، فَقَامَ سَعْدٌ مُغْضَبًا مُبَادِرًا مُتَخَوِّفًا، فَأَخَذَ الْحَرْبَةَ وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَاكَ أَغْنَيْتَ عَنَّا شَيْئًا، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِمَا، فَلَمَّا رَآهُمَا سَعْدٌ مُطْمَئِنَّيْنِ عَرَفَ أَنَّ أُسَيْدًا إِنَّمَا أَرَادَ مِنْهُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُمَا، فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا مُتَشَتِّمًا. ثُمَّ قَالَ لِأَسْعَدَ: يَا أَبَا أُمَامَةَ، وَاللَّهِ لَوْلَا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ مِنَ الْقَرَابَةِ مَا رُمْتَ مِنِّي هَذَا، أَتَغْشَانَا فِي دَارَيْنَا بِمَا نَكْرَهُ! وَقَدْ قَالَ أَسْعَدُ لِمُصْعَبٍ: أَيْ مُصْعَبُ جَاءَكَ وَاللَّهِ سَيِّدُ مَنْ وَرَاءِهِ، إِنْ يَتْبَعْكَ لَا يَتَخَلَّفْ عنك منهم اثنان، فقال: أو تقعد فَتَسْمَعُ، فَإِنْ رَضِيتَ أَمْرًا وَرَغِبْتَ فِيهِ قَبِلْتَهُ، وَإِنْ كَرِهْتَ عَزَلْنَا عَنْكَ مَا تَكْرَهُ، قَالَ: أَنْصَفْتَ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَعَرَفْنَا فِي وَجْهِهِ وَاللَّهِ الْإِسْلَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، لِإِشْرَاقِهِ وَتَسَهُّلِهِ.

(1/193)


ثُمَّ فَعَلَ كَمَا عَمِلَ أُسَيْدٌ، وَأَسْلَمَ، وَأَخَذَ حَرْبَتَهُ، وَأَقْبَلَ عَائِدًا إِلَى نَادِي قَوْمِهِ، وَمَعَهُ أُسَيْدٌ، فَلَمَّا رَآهُ قَوْمُهُ قَالُوا: نَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ رَجَعَ سَعْدٌ إِلَيْكُمْ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذهب به من عندكم، فقال: يا نبي عَبْدِ الْأَشْهَلِ كَيْفَ تَعْرِفُونَ أَمْرِي فِيكُمْ؟ قَالُوا: سَيِّدُنَا وَأَفْضَلُنَا رَأْيًا وَأَيْمَنُنَا نَقِيبَةً قَالَ: فَإِنَّ كلام رجال وَنِسَائِكُمْ عَلَيَّ حَرَامٌ حَتَّى تُؤْمِنُوا، فَوَاللَّهِ مَا أَمْسَى فِي دَارِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ إِلَّا مُسْلِمًا وَمُسْلِمَةً، وَرَجَعَ مُصْعَبٌ وَأَسْعَدُ إِلَى مَنْزِلِهِمَا، وَلَمْ تَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إِلَّا وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ مُسْلِمُونَ، إلا مَا كَانَ مِنْ دَارِ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، وَخَطْمَةَ، وَوَائِلٍ، وَوَاقِفٍ، وَتِلْكَ أَوْسُ اللَّهِ وَهُمْ مِنَ الْأَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ أَبُو قَيْسِ بْنُ الأَسْلَتِ، وَهُوَ صَيْفِيٌّ، وَكَانَ شَاعِرًا لَهُمْ وَقَائِدًا، يَسْتَمِعُونَ مِنْهُ وَيُطِيعُونَهُ، فَوَقَفَ بِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى مَضَتْ أُحُدٌ وَالْخَنْدَقُ1.

(1/194)


الْعَقَبَةُ الثَّانِيَةُ:
قَالَ يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيُّ، وداود العطّار وهذا لفظه: حدثنا ابْنُ خُثَيْمٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَبِثَ عَشْرَ سِنِينَ يَتْبَعُ الْحَاجَّ فِي مَنَازِلِهِمْ فِي الْمَوَاسِمِ: مِجَنَّةُ1، وَعُكَاظٌ، وَمِنًى، يَقُولُ: مَنْ يُؤْوِينِي وَيَنْصُرُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَاتِ رَبِّي وَلَهُ الْجَنَّةُ؟ فَلَا يَجِدُ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ يَرْحَلُ صَاحِبُهُ مِنْ مُضَرَ أَوِ الْيَمَنِ، فَيَأْتِيهِ قَوْمُهُ أَوْ ذُو رَحِمِهِ يَقُولُونَ: احْذَرْ فَتَى قُرَيْشٍ لَا يَفْتِنْكَ، يَمْشِي بَيْنَ رِحَالِهِمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِأَصَابِعِهِمْ، حَتَّى بَعَثَنَا اللَّهُ لَهُ مِنْ يَثْرِبَ، فَيَأْتِيهِ الرَّجُلُ مِنَّا فَيُؤْمِنُ بِهِ وَيُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ، فَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ فَيُسْلِمُونَ بِإِسْلَامِهِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ يَثْرِبَ إِلَّا وَفِيهَا رَهْطٌ يظهرون الإسلام، ثم ائتمرنا واجتمعنا سبعين رَجُلًا مِنَّا، فَقُلْنَا: حَتَّى مَتَى نَذَرُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَطُوفُ فِي جِبَالِ مَكَّةَ وَيَخَافُ، فَرَحَلْنَا حَتَّى قَدِمْنَا عَلَيْهِ فِي الْمَوْسِمِ، فَوَاعَدَنَا شِعْبَ الْعَقَبَةِ، فَاجْتَمَعْنَا فِيهِ مِنْ رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ، حَتَّى تَوَافَيْنَا عِنْدَهُ، فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: "عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى أن تقولوا في الله، لا
__________
1 مجنة: سوق من أسواق العرب في الجاهلية.

(1/194)


تَأْخُذْكُمْ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ يَثْرِبَ، تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ، وَلَكُمُ الْجَنَّةُ" فَقُلْنَا نُبَايِعُهُ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَهُوَ أَصْغَرُ السَّبْعِينَ، إِلَّا أَنَا، فَقَالَ: رُوَيْدًا يَا أَهْلَ يَثْرِبَ، إِنَّا لَمْ نَضْرِبْ إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْمَطِيِّ إِلَّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّ إِخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافَّةً، وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ، وَأَنْ تَعَضَّكُمُ السُّيُوفُ، فَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصْبِرُونَ عَلَى عَضِّ السُّيُوفِ إِذَا مَسَّتْكُمْ، وَعَلَى قَتْلِ خِيَارِكُمْ، وَعَلَى مُفَارَقَةِ الْعَرَبِ كَافَّةً، فَخُذُوهُ وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللَّهِ، وَإِمَّا أَنْتُمْ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خِيفَةً، فَذَرُوهُ فَهُوَ أَعْذَرُ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ. فَقُلْنَا: أَمِطْ يَدَكَ يَا أَسْعَدُ، فَوَاللَّهِ لَا نَذَرُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ وَلَا نَسْتَقِيلُهَا، فَقُمْنَا إِلَيْهِ نُبَايِعُهُ رَجُلًا رَجُلًا، يَأْخُذُ عَلَيْنَا شَرْطَهُ، وَيُعْطِينَا عَلَى ذَلِكَ الْجَنَّةَ1.
زَادَ فِي وَسَطِهِ يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ: فَقَالَ لَهُ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ يابن أَخِي لَا أَدْرِي مَا هَذَا الْقَوْمُ الَّذِينَ جَاءُوكَ، إِنِّي ذُو مَعْرِفَةٍ بِأَهْلِ يَثْرِبَ، قَالَ: فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَهُ مِنْ رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ، فَلَمَّا نَظَرَ الْعَبَّاسُ فِي وُجُوهِنَا، قَالَ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا أَعْرِفُهُمْ هَؤُلَاءِ أَحْدَاثٌ، فَقُلْنَا: عَلَامَ نُبَايِعُكَ.
وَقَالَ أبو نعيم: حدثنا زَكَرِيَّا، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: انْطَلَقَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَهُ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ، إِلَى السَّبْعِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ، عِنْدَ الْعَقَبَةِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، قَالَ: لِيَتَكَلَّمْ مُتَكَلِّمُكُمْ وَلَا يُطِيلُ الْخُطْبَةَ، فَإِنَّ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَيْنًا، فَقَالَ أَسْعَدُ: سَلْ يَا مُحَمَّدُ لِرَبِّكَ مَا شِئْتَ، ثُمَّ سَلْ لِنَفْسِكَ، ثُمَّ أَخْبِرْنَا مَا لَنَا عَلَى اللَّهِ، قَالَ: "أَسْأَلُكُمْ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَسْأَلُكُمْ لِنَفْسِي وَلِأَصْحَابِي أَنْ تُؤْوُونَا وَتَنْصُرُونَا وَتَمْنَعُونَا مِمَّا مَنَعْتُمْ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ"، قَالُوا: فَمَا لَنَا إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ، قَالَ: "لَكُمُ الْجَنَّةُ"، قَالُوا: فَلَكَ ذَلِكَ2.
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زائدة، نا مجالد، عن
__________
1 صحيح: أخرجه أحمد "3/ 322-323" من طريق آخر عن ابن خثيم، وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" "7/ 263": إسناده حسن. وقال الألباني في "الصحيحة" "63": إسناده صحيح على شرط مسلم، وقد صرح أبو الزبير بالتحديث في بعض الطرق عنه.
2 مرسل: أخرجه أحمد "4/ 119-120" والبيهقي في "الدلائل" "2/ 450" وانظر ما يأتي.

(1/195)


الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ بِنَحْوِهِ، قَالَ: وَكَانَ أَبُو مَسْعُودٍ أَصْغَرَهُمْ سِنًّا1.
وَقَالَ ابْنُ بكير، عن ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ أَخَا بَنِي سَالِمٍ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ هَلْ تَدْرُونَ عَلَى مَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ إِنَّكُمْ تُبَايِعُونَهُ عَلَى حَرْبِ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّهَا إِذَا أَنْهَكَتْ أَمْوَالَكُمْ مُصِيبَةٌ وَأَشْرَافَكُمْ قَتْلًا، تَرَكْتُمُوهُ وَأَسْلَمْتُمُوهُ، فَمِنَ الْآنَ، فَهُوَ وَاللَّهِ إِنْ فَعَلْتُمْ خِزْيُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ مُسْتَعْلِنُونَ بِهِ وَافُونَ لَهُ، فَهُوَ وَاللَّهِ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَ عَاصِمٌ: فَوَاللَّهِ مَا قَالَ الْعَبَّاسُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ إِلَّا لِيَشِدَّ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِهَا الْعِقْدَ2.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي بَكْرٍ: مَا قَالَهَا إِلَّا لِيُؤَخِّرَ بِهَا أَمْرَ الْقَوْمِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، لِيَشْهَدَ أَمْرَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بن أبيّ، فيكون أقوى، قالوا: فما بالنا بِذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الْجَنَّةُ"، قَالُوا: ابْسُطْ يَدَكَ، وَبَايَعُوهُ، فَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ: إِنْ شِئْتَ لَنَمِيلَنَّ عَلَيْهِمْ غَدًا بِأَسْيَافِنَا، فَقَالَ: "لَمْ أُؤْمَرْ بِذَلِكَ"3.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: وَرَوَاهُ ابْنُ لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، وقاله مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَهَذَا لَفْظُهُ: إِنَّ الْعَامَ الْمُقْبِلَ حَجَّ مِنَ الْأَنْصَارِ سَبْعُونَ رَجُلًا، أَرْبَعُونَ مِنْ ذَوِي أَسْنَانِهِمْ وَثَلَاثُونَ مِنْ شَبَابِهِمْ، أَصْغَرُهُمْ أَبُو مَسْعُودٍ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَلَقُوهُ بِالْعَقَبَةِ، وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَمُّهُ الْعَبَّاسُ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ بِمَا خَصَّهُ اللَّهُ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْكَرَامَةِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَى الْبَيْعَةِ أَجَابُوهُ وَقَالُوا: اشْتَرِطْ عَلَيْنَا لِرَبِّكَ وَلِنَفْسِكَ مَا شِئْتَ، فَقَالَ: "أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ". فَلَمَّا طَابَتْ بِذَلِكَ أَنْفُسُهُمْ مِنَ الشَّرْطِ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَبَّاسُ الْمَوَاثِيقَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْوَفَاءِ، وَعَظَّمَ الْعَبَّاسُ الَّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ وَذَكَرَ أَنَّ أُمَّ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ سُلْمَى بِنْتَ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بطوله4.
__________
1 إسناده ضعيف.: أخرجه أحمد "4/ 120" ومجالد ضعيف.
2 مرسل: أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 404".
3 مرسل: أخرجه ابن إسحاق في المصدر السابق.
4 مرسل.

(1/196)


قَالَ عُرْوَةُ: فَجَمِيعُ مَنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ سَبْعُونَ رَجُلًا وَامْرَأَةٌ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: سَبْعُونَ رَجُلًا وَامْرَأَتَانِ، إِحْدَاهُمَا أُمُّ عُمَارَةَ وَزَوْجُهَا وَابْنَاهُمَا.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْقَيْنِ، عَنْ أَخِيهِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ كَعْبٍ قَالَ: خَرَجْنَا فِي الْحَجَّةِ الَّتِي بَايَعْنَا فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْعَقَبَةِ مَعَ مُشْرِكِي قَوْمِنَا، وَمَعَنَا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ كَبِيرُنَا وَسَيِّدُنَا، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِظَاهِرِ الْبَيْدَاءِ قَالَ: يَا هَؤُلَاءِ تَعَلَّمُوا إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَأْيًا، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي تُوَافِقُونَنِي عليه أم لا، فقلنا: ومات هُوَ يَا أَبَا بِشْرٍ؟ قَالَ: إِنِّي قَدْ أَرَدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ إِلَى هَذِهِ الْبَنِيَّةِ وَلَا أَجْعَلَهَا مِنِّي بِظَهْرٍ، فَقُلْنَا: لَا وَاللَّهِ لَا تَفْعَلْ، وَاللَّهِ مَا بَلَغَنَا أَنَّ نَبِيَّنَا -صَلَّى الله عليه وسلم- يصلّ إِلَّا إِلَى الشَّامِ، قَالَ: فَإِنِّي وَاللَّهِ لَمُصَلٍّ إِلَيْهَا، فَكَانَ إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ تَوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَتَوَجَّهْنَا إِلَى الشَّامِ، حَتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ، فقال لي البراء: يابن أَخِي انْطَلِقْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى أَسْأَلَهُ عَمَّا صَنَعْتُ، فَلَقَدْ وَجَدْتُ فِي نَفْسِي بِخِلَافِكُمْ إِيَّايَ، قَالَ: فَخَرَجْنَا نَسْأَلُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَقِيَنَا رَجُلٌ بِالْأَبْطَحِ، فَقُلْنَا: هَلْ تَدُلُّنَا عَلَى مُحَمَّدٍ؟ قَالَ: وَهَلْ تَعْرِفَانِهِ إِنْ رَأَيْتُمَاهُ؟ قُلْنَا: لَا وَاللَّهِ، قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفَانِ الْعَبَّاسَ؟ فَقُلْنَا: نَعَمْ، وَقَدْ كُنَّا نَعْرِفُهُ، كَانَ يَخْتَلِفُ إِلَيْنَا بِالتِّجَارَةِ، فَقَالَ: إِذَا دَخَلْتُمَا الْمَسْجِدَ فَانْظُرُوا الْعَبَّاسَ، قَالَ: فَهُوَ الرَّجُلُ الَّذِي مَعَهُ، قَالَ: فَدَخَلْنَا الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْعَبَّاسُ نَاحِيَةَ الْمَسْجِدِ جَالِسَيْنِ، فَسَلَّمْنَا، ثُمَّ جَلَسْنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلْ تَعْرِفُ هَذَيْنِ يَا أَبَا الْفَضْلِ؟ " قَالَ: نَعَمْ، هَذَا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ سَيِّدُ قَوْمِهِ، وَهَذَا كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وفوالله مَا أَنْسَى قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الشَّاعِرُ؟ " قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ البراء: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنِّي قَدْ كُنْتُ رَأَيْتُ فِي سَفَرِي هَذَا رَأْيًا، وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْهُ، قَالَ: "وَمَا ذَاكَ؟ " قَالَ: رَأَيْتُ أَنْ لَا أَجْعَلَ هَذِهِ الْبَنِيَّةَ مِنِّي بِظَهْرٍ فَصَلَّيْتُ إِلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدْ كُنْتَ عَلَى قِبْلَةٍ لَوْ صَبَرْتَ عَلَيْهَا"، فَرَجَعَ إِلَى قِبْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَهْلُهُ يَقُولُونَ: قَدْ مَاتَ عَلَيْهَا، وَنَحْنُ أَعْلَمُ بِهِ، قَدْ رَجَعَ إِلَى قِبْلَةِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصَلَّى مَعَنَا إِلَى الشَّامِ.
ثُمَّ وَاعَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْعَقَبَةَ، أَوْسَطَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَنَحْنُ سَبْعُونَ رَجُلًا لِلْبَيْعَةِ، وَمَعَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامِ وَالِدُ جَابِرٍ، وَإِنَّهُ لَعَلَى شِرْكِهِ، فَأَخَذْنَاهُ فَقُلْنَا: يَا أَبَا جَابِرٍ وَاللَّهِ إِنَّا لَنَرْغَبُ بِكَ أَنْ تَمُوتَ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ. فَتَكُونَ

(1/197)


لِهَذِهِ النَّارِ غَدًا حَطَبًا، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ بعث رسولًا يأمر بِتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ. وَقَدْ أَسْلَمَ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِكَ، وَقَدْ وَاعَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلْبَيْعَةِ، فَأَسْلَمَ وَطَهَّرَ ثِيَابَهُ، وَحَضَرَهَا مَعَنَا فَكَانَ نَقِيبًا، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي وَعَدْنَا فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بِمِنًّى أَوَّلَ اللَّيْلِ مَعَ قَوْمِنَا، فَلَمَّا اسْتَثْقَلَ النَّاسُ مِنَ النَّوْمِ تَسَلَّلْنَا مِنْ فُرُشِنَا تَسَلُّلَ الْقَطَا، حَتَّى اجْتَمَعْنَا بِالْعَقَبَةِ، فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَمُّهُ الْعَبَّاسُ، لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ، أَحَبَّ أنَ يَحْضُرَ أَمْرَ ابْنِ أَخِيهِ، فَكَانَ أَوَّلَ مُتَكَلِّمٍ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ إِنَّ مُحَمَّدًا مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ، وَهُوَ فِي مَنْعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ وَبِلَادِهِ، قَدْ مَنَعْنَاهُ مِمَّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِنَا مِنْهُ، وَقَدْ أَبَى إِلَّا الِانْقِطَاعَ إِلَيْكُمْ، وَإِلَى مَا دَعَوْتُمُوهُ إِلَيْهِ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ وَافُونَ لَهُ بِمَا وَعَدْتُمُوهُ، فَأَنْتُمْ وَمَا تَحَمَّلْتُمْ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَخْشَوْنَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خِذْلَانًا فَاتْرُكُوهُ فِي قَوْمِهِ، فَإِنَّهُ فِي مَنْعَةٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ وَقَوْمِهِ، فَقُلْنَا: قَدْ سَمِعْنَا مَا قُلْتَ، تَكَلَّمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَتَكَلَّمَ وَدَعَا إِلَى اللَّهِ، وَتَلَا الْقُرْآنَ وَرَغَّبَ فِي الْإِسْلَامِ، فَأَجَبْنَاهُ بِالْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ لَهُ، وَقُلْنَا لَهُ: خُذْ لِرَبِّكَ وَلِنَفْسِكَ، فَقَالَ: "إِنِّي أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا مَنَعْتُمْ مِنْهُ أَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَكُمْ"، فَأَجَابَهُ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ فَقَالَ: نَعَمْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَمْنَعُكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا، فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَنَحْنُ وَاللَّهِ أَهْلُ الْحُرُوبِ وَأَهْلُ الْحَلَقَةِ، وَرِثْنَاهَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، فَعَرَضَ فِي الْحَدِيثِ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيْهَانِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَقْوَامٍ حِبَالًا، وَإِنَّا قَاطِعُوهَا، فَهَلْ عَسَيْتَ إِنِ اللَّهُ أَظْهَرَكَ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى قَوْمِكَ وَتَدَعَنَا؟ فَقَالَ: "بَلِ الدَّمَ الدَّمَ وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ، أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي، أُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ وَأُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ"، فَقَالَ لَهُ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ: ابْسُطْ يَدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ نُبَايِعْكَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا"، فَأَخْرَجُوهُمْ لَهُ، فَكَانَ نَقِيبَ بَنِي النَّجَّارِ. أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَنَقِيبَ بَنِي سَلَمَةَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ، وَنَقِيبَ بَنِي سَاعِدَةَ: سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو، وَنَقِيبَ بَنِي زُرَيْقٍ: رَافِعُ بْنُ مَالِكٍ، وَنَقِيبَ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَسَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَنَقِيبَ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ: عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ -وَبَعْضُهُمْ جَعَلَ بَدَلَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ خَارِجَةَ بْنَ زَيْدٍ- وَنَقِيبَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: سَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ، وَنَقِيبَ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ -وَهُمْ مِنَ الْأَوْسِ- أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيْهَانِ، قَالَ: فَأَخَذَ الْبَرَاءُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَضَرَبَ عَلَيْهَا، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَ، وَتَتَابَعَ النَّاسُ فَبَايَعُوا، فَصَرَخَ الشَّيْطَانُ عَلَى الْعَقَبَةِ بِأَنْفَذِ صَوْتٍ سَمِعْتُهُ قَطُّ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْجَبَاجِبِ هَلْ لَكُمْ فِي مُذَمَّمٍ وَالصَّبَأَةِ

(1/198)


مَعَهُ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى حَرْبِكُمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذَا أَزَبُّ الْعَقَبَةِ، هَذَا ابْنُ أُزَيْبٍ، أَمَا وَاللَّهِ لَأَفْرُغَنَّ لَكَ، ارْفَضُّوا إِلَى رِحَالِكُمْ". فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ أَخُو بَنِي سَالِمٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَئِنْ شِئْتَ لَنَمِيلَنَّ عَلَى أَهْلِ مِنًى غَدًا بِأَسْيَافِنَا، فَقَالَ: "إِنَّا لَمْ نُؤْمَرْ بِذَلِكَ" فَرُحْنَا إِلَى رِحَالِنَا فَاضْطَجَعْنَا، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا، أَقْبَلَتْ جِلَّةٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِيهِمُ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، فَتًى شَابٌّ وَعَلَيْهِ نَعْلَانِ لَهُ جَدِيدَتَانِ، فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّكُمْ جِئْتُمْ إِلَى صَاحِبِنَا لِتَسْتَخْرِجُوهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، وَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا مِنَ الْعَرَبِ أَحَدٌ أَبْغَضَ إِلَيْنَا أَنْ تَنْشَبَ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مِنْكُمْ، فَانْبَعَثَ مَنْ هُنَاكَ مِنْ قَوْمِنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَحْلِفُونَ لَهُمْ بِاللَّهِ، مَا كَانَ مِنْ هَذَا مِنْ شَيْءٍ، وَمَا فَعَلْنَا، فَلَمَّا تَثَوَّرَ الْقَوْمُ لِيَنْطَلِقُوا قُلْتُ كَلِمَةً كَأَنِّي أُشْرِكُهُمْ فِي الْكَلَامِ: يَا أَبَا جَابِرٍ -يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو- أَنْتَ سَيِّدٌ مِنْ سَادَتِنَا وَكَهْلٌ مِنْ كُهُولِنَا، لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَتَّخِذَ مِثْلَ نَعْلَيْ هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ، فَسَمِعَهُ الْحَارِثُ، فَرَمَى بِهِمَا إِلَيَّ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَتَلْبَسَنَّهُمَا، فَقَالَ أَبُو جَابِرٍ: مَهْلًا أَحْفَظْتَ لَعَمْرِ اللَّهِ الرَّجُلَ -يَقُولُ: أَخْجَلْتَهُ- ارْدُدْ عَلَيْهِ نَعْلَيْهِ، فَقُلْتُ: لَا وَاللَّهِ لَا أَرَدُّهُمَا، فَأْلٌ صَالِحٌ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَسْلِبَهُ1.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُمْ فَأَتَوْا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ يَعْنِي ابْنَ سَلُولٍ فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ جَسِيمٌ وَمَا كَانَ قَوْمِي لِيَتَفَوَّتُوا عَلَيَّ بِمِثْلِهِ، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ2.
وَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بكر أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهُمْ: "ابْعَثُوا مِنْكُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نقيبًا كفلا عَلَى قَوْمِهِمْ، كَكَفَالَةِ الْحَوَارِيِّينَ لِعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ"، فَقَالَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَأَنْتَ نَقِيبٌ عَلَى قَوْمِكَ، ثُمَّ سَمَّى النُّقَبَاءَ كَرِوَايَةِ مَعْبَدِ بْنِ مَالِكٍ3.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، حَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنَ الأنصار أنّ جبريل
__________
1 صحيح: أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 399-400"، وأحمد "3/ 460-462"، وابن جرير الطبري في "تاريخه" "2/ 90-93"، وقال الألباني في تحقيق "فقه السيرة" "ص177": هذا سند صحيح.
2 مرسل: أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 406".
3 مرسل: أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" "1/ 403-404".

(1/199)


-عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَ يُشِيرُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى مَنْ يَجْعَلُهُ نَقِيبًا، قَالَ مَالِكٌ: كُنْتُ أَعْجَبُ كَيْفَ جَاءَ مِنْ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ، وَمِنْ قَبِيلَةٍ رَجُلَانِ، حَتَّى حَدَّثَنِي هَذَا الشَّيْخُ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُشِيرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْبَيْعَةِ، قَالَ مَالِكٌ: وَهُمْ تِسْعَةُ نُقَبَاءَ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَثَلَاثَةٌ مِنَ الْأَوْسِ1.
وَقَالَ: ابْنُ إِسْحَاقَ2.
__________
1 إسناده ضعيف: وهو مرسل.
2 ذكره في "السيرة" "1/ 409-417".

(1/200)


تسمية من شهداء العقبة
...
تَسْمِيَةُ مَنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ:
قُلْتُ: تَرَكْتُ النُّقَبَاءَ لِأَنَّهُمْ قَدْ تَقَدَّمُوا.
فَمِنَ الْأَوْسِ: سَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ.
وَمِنْ بَنِي حَارِثَةَ: ظُهَيْرُ بْنُ رَافِعٍ، وَأَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ، وَبُهَيْرُ بْنُ الْهَيْثَمِ.
وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: رفعة بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ -وَعَدَّهُ ابْنُ إِسْحَاقَ نَقِيبًا عِوَضَ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيْهَانِ- وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ النُّعْمَانِ أَمِيرُ الرُّمَاةِ يَوْمَ أُحُدٍ وَيَوْمَئِذٍ اسْتُشْهِدَ، وَمَعْنُ بْنُ عَدِيٍّ قُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، وَعُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ.
فَجَمِيعُ مَنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ مِنَ الْأَوْسِ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا.
وَمِنَ الْخَزْرَجِ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ: أَبُو أَيُّوبَ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ، وَمُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ وَأَخُوهُ عَوْفٌ، وَعُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ، وَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ.
وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ مَبْذُولٍ: سَهْلُ بْنُ عتيك، بدريّ.
ومن بني عمر بْنِ النَّجَّارِ، وَهُمْ بَنُو حُدَيْلَةَ: أَوْسُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو طَلْحَةَ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ.
وَمِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ: قَيْسُ بْنُ أَبِي صَعْصَعَةَ، وَعَمْرُو بْنُ غَزِيَّةَ.
وَمِنْ بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ: خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ، اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَبَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ صَاحِبُ النِّدَاءِ، وَخَلادُ بْنُ سُوَيْدٍ، اسْتُشْهِدَ يَوْمَ قُرَيْظَةَ، وَأَبُو مَسْعُودٍ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو.

(1/200)


وَمِنْ بَنِي بَيَاضَةَ: زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ، وَفَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَخَالِدُ بْنُ قَيْسٍ.
وَمِنْ بَنِي زُرَيْقٍ: ذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ، وَكَانَ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ، فَكَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكَانَ يُقَالُ لَهُ: مُهَاجِرِيٌّ أَنْصَارِيٌّ، وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَعَبَّادُ بْنُ قَيْسٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ قَيْسٍ.
وَمِنْ بَنِي سَلَمَةَ: بِشْرُ بن البراء بن معرور ابن أحد النّقياء، وَسِنَانُ بْنُ صَيْفِيٍّ، وَالطُّفَيْلُ بْنُ النُّعْمَانِ، وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَمَعْقِلُ بْنُ الْمُنْذِرِ، وَمَسْعُودُ بْنُ يَزِيدَ، وَالضَّحَّاكُ بْنُ حَارِثَةَ، وَيَزِيدُ بْنُ حَرَامٍ، وَجَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ، وَالطُّفَيْلُ بْنُ مَالِكٍ.
وَمِنْ بَنِي غَنْمِ بْنِ سَوَادٍ: سُلَيْمُ بْنُ عَمْرٍو، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَيَزِيدُ بْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو البسر كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو، وَصَيْفِيُّ بْنُ سَوَادٍ.
وَمِنْ بَنِي نَابِي بْنِ عَمْرٍو: ثَعْلَبَةُ بْنُ غَنَمَةَ، وَقُتِلَ بِالْخَنْدَقِ، وَأَخُوهُ عَمْرٌو، وَعَبْسُ بْنُ عَامِرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ، وَخَالِدُ بْنُ عَدِيٍّ.
وَمِنْ بَنِي حَرَامٍ: جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ، وَمُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَثَابِتُ بْنُ الْجَذْعِ، اسْتُشْهِدَ بِالطَّائِفِ، وَعُمَيْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَخُدَيْجُ بْنُ سَلَامَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ.
وَمِنْ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ: الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ، اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَزِيدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ الْبَلَوِيُّ حَلِيفٌ لَهُمْ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ.
وَمِنْ بَنِي سَالِمِ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَوْفٍ: رِفَاعَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَعُقْبَةُ بْنُ وَهْبٍ.
وَمِنْ بَنِي سَاعِدَةَ: النَّقِيبَانِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو الَّذِي كَانَ أَمِيرًا يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ فَاسْتُشْهِدَ.
وَأَمَّا الْمَرْأَتَانِ فَأُمُّ مَنِيعٍ أَسْمَاءُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَدِيٍّ، وَأُمُّ عُمَارَةَ نَسِيبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ، حَضَرَتْ وَمَعَهَا زَوْجُهَا زَيْدُ بْنُ عَاصِمِ بْنِ كَعْبٍ، وَابْنَاهَا حَبِيبٌ وَعَبْدُ اللَّهِ، وَحَبِيبٌ هُوَ الَّذِي مَثَّلَ بِهِ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ وَقَطَّعَهُ عُضْوًا عُضْوًا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنِ الْبَيْعَةِ، فَتَّشَتْ قُرَيْشٌ مِنَ الْغَدِ عَنِ

(1/201)


الْخَبَرِ وَالْبَيْعَةِ، فَوَجَدُوهُ حَقًّا، فَانْطَلَقُوا فِي طَلَبِ الْقَوْمِ، فَأَدْرَكُوا سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، وَهَرَبَ مُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو، فَشَدُّوا يَدَيْ سَعْدٍ إِلَى عُنُقِهِ بتسعة1، وكان ذا شعر كثير، فطفقوا يحبذونه بِجُمَّتِهِ وَيَصُكُّونَهُ وَيَلْكِزُونَهُ، إِلَى أَنْ جَاءَ مُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ، وَالْحَارِثُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَكَانَ سَعْدٌ يُجِيرُهُمَا إِذَا قَدِمَا الْمَدِينَةَ، فَأَطْلَقَاهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَخَلَّيَا سَبِيلَهُ.
قَالَ: وَكَانَ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ قَدْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ، وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ سَادَةِ بَنِي سَلَمَةَ، وَقَدِ اتَّخَذَ فِي دَارِهِ صَنَمًا مِنْ خَشَبٍ يُقَالُ لَهُ مَنَافٌ فَلَمَّا أَسْلَمَ فِتْيَانُ بَنِي سَلَمَةَ: مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَابْنُهُ مُعَاذُ بْنُ عَمْرٍو وَغَيْرُهُمَا، كَانُوا يَدْخُلُونَ بِاللَّيْلِ عَلَى صَنَمِهِ فَيَأْخُذُونَهُ وَيَطْرَحُونَهُ فِي بَعْضِ الْحُفَرِ، وَفِيهَا عُذْرُ النَّاسِ، مُنَكَّسًا عَلَى رَأْسِهِ، فَإِذَا أَصْبَحَ عَمْرٌو قَالَ: وَيْلَكُمْ مَنْ عَدَا عَلَى آلِهَتِنَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ! ثُمَّ يَلْتَمِسُهُ حَتَّى إِذَا وَجَدَهُ غَسَّلَهُ وَطَهَّرَهُ وَطَيَّبَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ مَنْ يَصْنَعُ بِكَ هَذَا لَأَخْزَيْتُهُ. فَإِذَا أَمْسَى وَنَامَ فَعَلُوا بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَفَعَلَ مَرَّاتٍ، وَفِي الْآخِرِ عَلَّقَ عَلَيْهِ سَيْفَهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ مَنْ يَصْنَعُ بِكَ مَا تَرَى، فَإِنْ كَانَ فِيكَ خَيْرٌ فَامْتَنِعْ، وَهَذَا السَّيْفُ مَعَكَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ أَخَذُوا السَّيْفَ مِنْ عُنُقِهِ، ثُمَّ أَخَذُوا كَلْبًا مَيِّتًا فَعَلَّقُوهُ وربطوه به وألقوه في جبّ عذرة، فإذا عَمْرٌو فَلَمْ يَجِدْهُ، فَخَرَجَ يَتْبَعُهُ حَتَّى وَجَدَهُ فِي الْبِئْرِ مُنَكَّسًا مَقْرُونًا بِالْكَلْبِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبْصَرَ شَأْنَهُ، وَكَلَّمَهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَقَالَ:
تَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ إِلَهًا لَمْ تَكُنْ ... أَنْتَ وَكَلْبٌ وَسْطَ بِئْرٍ فِي قَرَنْ
أُفٍّ لِمَصْرَعِكَ إِلَهًا مُسْتَدَنْ ... الْآنَ فَتَشْنَاكَ عَنْ سُوءِ الْغَبَنْ2
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ ذِي الْمِنَنْ ... الْوَاهِبِ الرَّزَّاقِ وَدَيَّانِ الدِّيَنْ
هُوَ الَّذِي أَنْقَذَنِي مِنْ قَبْلِ أَنْ ... أَكُونَ فِي ظلمة قبر مرتهن3
__________
1 النسعة: سير مضفور تشد به الحقائب.
2 مستدن: دنيء ذليل. والغبن: السفه.
3 ذكره ابن إسحاق بدون إسناد كما في "سيرة ابن هشام" "1/ 408-409".

(1/202)