تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، ط التوفيقية
سيرة عثمان بن عفان:
4- عثمان بن عفان "ت35هـ" -رضي الله عنه.
ابن أَبِي الْعَاصِ بْن أُميَّة بْن عَبْدِ شَمْسِ، أمير المؤمنين،
أَبُو عمرو، وأبو عبد الله، القُرَشيّ الأمويّ. رَوَى عَنِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعن الشِّيخَيْن.
قَالَ الدّاني: عرض القرآن على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وعُرِض عليه أَبُو عبد الرحمن السُّلَمِيّ، والمُغِيرَة بْن
أبي شهاب، وأبو الأسود، وزر بن حبيش.
روى عنه بنوه: أبان، وسعيد، وعمرو، ومولاه حُمران، وأنس، وأبو أمامة
بْن سهل، والأحنف بْن قيس، وسعيد بْن المسيب، وأبو وائل، وطارق بْن
شهاب، وعلقمة، وأبو عبد الرحمن السُّلمي، ومالك بْن أوس بْن الحَدَثان،
وخلق سواهم.
أحد السابقين الأوَّلين، وذو النُّورين، وصاحب الهجرتين، وزوج
الابنتين. قدِم الجابية مع عُمَر. وتزوج رُقَيَّةَ بِنْتِ رَسُول
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبْلَ المبعث، فولدت له
عبد الله، وبه كان يُكنى، وبابنه عمرو. وأُمّه أروى بنت كُرَيْز بْن
حبيب بْن عبد شمس، وأُمُّها البيضاء بنت عبد المطلب بْن هاشم، فهاجر
إلى الحبشة، وخَلّفه النّبيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- عليها في
غزوة بدْر ليداويها في مرضها، فَتُوُفِّيَتْ بعد بدْرٍ بليالٍ،
وَضَرَبَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بسهمه
من بدْر وأجْره، ثمّ زوَّجه بالبنت الأخرى أمّ كلثوم.
ومات ابنه عبد الله، وله ستُّ سنين سنة أربع من الهجرة.
وكان عثمان فيما بلغنا لَا بالطويل ولا بالقصير، حَسَنَ الوجه، كبير
اللحية، أسمر اللون، عظيم الكراديس، بعيد مَا بين المَنْكِبَين يخْضِب
بالصُّفْرَة، وكان قد شدّ أسنانه بالذَّهَب.
(3/91)
وعن أبي عبد الله مولى شدّاد قَالَ: رأيت
عثمان يخطب، وعليه إزارٌ غليظ ثَمَنُهُ أربعة دراهم، وريطة كوفيّة
مُمَشَّقة، ضَرِب اللّحمْ -أي خفيفة- طويل اللحية، حسن الوجه.
وعن عبد الله بْن حَزْم قَالَ: رأيت عثمان، فما رأيت ذَكرًا ولا
أُنْثَى أحْسَنَ وَجْهًا منه.
وعن الحسن قال: رأيته وبوجهه نَكَتات جُدَريّ، وإذا شعره قد كسا
ذِرَاعَيْه.
وعن السائب قَالَ: رأيته يصفِّر لحيَتَه، فما رأيت شيخًا أجملَ منه.
وعن أبي ثَوْر الفَهْمِيّ قَالَ: قدِمْتُ على عثمان فَقَالَ: لقد
أختبأت عند ربّي عشْرًا: إنّي لرابع أربعةٍ في الإسلام، وما تعنَّيْتُ
ولا تمنَّيْتُ، ولا وضعت يميني على فَرْجي منذ بايعت بها رَسُول اللَّه
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا مرَّت بي جُمُعَةٌ منذ أسلمتُ
إلّا وأنا أُعْتِقُ فيها رقبةً، إلّا أنْ لَا يكون عندي فأُعْتِقُها
بعد ذلك، ولا زنيت في جاهلية ولا إسلام قطّ، وجهَّزْت جيش الْعُسْرَةِ،
وأنكحني النّبيّ ابنته، ثمّ ماتت، فأنكحني الأخرى، وما سرقت في جاهلية
ولا إسلام.
وعن ابْنِ عُمَر، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: "إنّا نُشَبِّه عثمان بأبينا إبراهيم -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"1.
وعن عائشة نحوه إنْ صحّا.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَتَى عُثْمَانَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ،
فَقَالَ: "يَا عُثْمَانُ هَذَا جِبْرِيلُ يُخْبِرُنِي أَنَّ اللَّهَ
زَوَّجَكَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِمِثْلِ صَدَاقِ رُقَيَّةَ، وَعَلَى مِثْلِ
صُحْبَتِهَا"2. أَخْرَجَهُ ابْنُ ماجه.
ويروى عن أنس أو غيره قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وسلم: "إلا أبو أيم، إلا
__________
1 إسناده ضعيف: أخرجه العقيلي في "الضعفاء" "3/ 173، 174" وفي إسناده
عبد الله بن عمر العمري ضعيف، وعمر بن صالح مجهول.
2 ضعيف: أخرجه ابن ماجه "110" في المقدمة، باب: في فضائل أَصْحَابِ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وضعف البوصيري
إسناده، وكذلك ضعفه الألباني في "ضعيف سنن ابن ماجه".
(3/92)
أَخُو أَيِّمٍ يُزَوِّجُ عُثْمَانَ،
فَإِنِّي قَدْ زَوَّجْتُهُ ابْنَتَيْنِ، وَلَوْ كَانَ عِنْدِي
ثَالِثَةٌ لَزَوَّجْتُهُ وَمَا زَوَّجْتُهُ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ
السَّمَاءِ"1.
وعن الحسن قَالَ: إنّما سُمِّي عثمانُ "ذا النُّورين" لأَنّا لَا نعلم
أحدًا أغلق بابه على ابنتي نبيٍّ غيره.
وروى عطيّة، عَنْ أبي سعيد قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رافعًا يديه يدعو لعثمان2.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: جَاءَ عُثْمَانُ إِلَى
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأَلْفِ دِينَارٍ فِي
ثَوْبِهِ، حِينَ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ، فَصَبَّهَا فِي حِجْرِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ يُقَلِّبُهَا
بِيَدِهِ وَيَقُولُ: "مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ
الْيَوْمِ" 3 رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي "مُسْنَدِهِ"، وَفِي "مُسْنَدِ
أَبِي يَعْلَى"، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ
جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ بِسَبْعِمِائَةٍ أُوقِيَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ.
وَقَالَ خليد، عن الحسن قال: جهز عثمان بسبعمائة وخمسين ناقة، وخمسين
فرسًا، يعني في غزوة تبوك4.
وَعَنْ حَبَّةَ الْعُرَنِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "رَحِمَ اللَّهُ عُثْمَانَ
تَسْتَحْيِيهِ الْمَلَائِكَةُ".
وَقَالَ الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ
بَشِيرٍ الأَسْلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ
الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ اسْتَنْكَرُوا الْمَاءَ، وَكَانَتْ
لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ، عَيْنٌ يُقَالُ لَهَا رُومَةُ، وَكَانَ
يَبِيعُ مِنْهَا الْقِرْبَةَ بِمُدٍّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَبِيعُهَا بِعَيْنٍ فِي الْجَنَّةِ"،
فَقَالَ: لَيْسَ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ عَيْنٌ غَيْرهَا، لَا
أَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُثْمَانَ، فَاشْتَرَاهَا
بِخَمْسَةٍ وَثَلاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أَتَجْعَلُ
__________
1 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "2/ 32" عن ابن أبي سبرة معضلا بنحوه
وإسناده ضعيف جدا.
2 إسناده ضعيف: عطية هو العوفي، ضعيف الحفظ.
3 حسن: أخرجه أحمد 5/ 63"، والترمذي "3721" في كتاب المناقب، باب:
مناقب عثمان بن عفان، وأبو نعيم في "الحلية" "174، 8113"، والبيهقي في
"الدلائل" "5/ 215" وحسنه الألباني.
4 مرسل.
(3/93)
لِي مِثْلَ الَّذِي جَعَلْتَ لَهُ عَيْنًا
فِي الْجَنَّةِ إِنِ اشْتَرَيْتُهَا? قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ: قَدِ
اشْتَرَيْتُهَا وَجَعَلْتُهَا لِلْمُسْلِمِينَ1.
وعن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: اشترى عثمان من رَسُول اللَّه -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الجنّة مرتين: يوم رومة، ويوم جيش
الْعُسْرَةِ2.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مُضْطَجِعًا فِي بَيْتِهِ كَاشِفًا عَنْ سَاقِيهِ،
فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، وَهُوَ عَلَى تِلْكَ
الْحَالِ فَتَحَدَّثَا، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ، فَجَلَسَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَسَوَّى ثِيَابَهُ،
فَدَخَلَ فَتَحَدَّثَ، فَلَمَّا خَرَجَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمْ تَجْلِسْ لَهُ، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ،
فَلَمْ تَهِشْ لَهُ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ فَجَلَسْتَ وَسَوَّيْتَ
ثِيَابَكَ، قَالَ: "أَلَا اسْتَحْيِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحْيِي مِنْهُ
الْمَلَائِكَةُ" 3 رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَرُوِيَ نَحُوُه مِنْ حَدِيثِ عَلَيٍّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ
عَبَّاسٍ.
وَقَالَ أَنَسٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ
فِي دِيِن اللَّهِ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ" 4.
وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "لِكُلِّ نَبِيٍّ رَفِيقٌ، وَرَفِيقِي
عُثْمَانُ"5. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَفِي حَدِيثِ الْقُفِّ: ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ، فَقَالَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ائْذَنْ لَهُ وبشره بالجنة على
بلوى تصيبه" 6.
__________
1 أخرجه الطبراني في "الكبير" "1226".
2 أخرجه الحاكم "4570".
3 صحيح: أخرجه مسلم"2401" في كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل عثمان
بن عفان.
4 صحيح: وقد تقدم.
5 ضعيف: أخرجه الترمذي "3718" في كتاب المناقب، باب: مناقب عثمان بن
عفان، وضعفه الألباني في "سنن الترمذي" "763".
وأخرجه ابن ماجه "109" في المقدمة، باب: في فضائل أَصْحَابِ رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وضعفه الألباني في "سنن
الترمذي" "763".
وأخرجه ابن ماجه "109" في المقدمة، باب: في فضائل أَصْحَابِ رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ حديث أبي هريرة،
وضعفه الألباني في "ضعيف سنن ابن ماجه".
6 صحيح: أخرجه البخاري "3674" في كتاب الفضائل، باب: قول النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خليلا"، ومسلم
"2403" في كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل عثمان بن عفان، والترمذي
"3730" في المصدر السابق، وأحمد "4/ 393، 406" 407"، وأبو نعيم في
"الحلية" "166"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 388، 389" من حديث أبي موسى
الأشعري -رضي الله عنه.
(3/94)
وَقَالَ شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ،
عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ سُوَيْدٍ: أَنَّ
رَجُلًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ قَالَ: كُنْتُ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ أَبُو
ذَرٍّ، وَأَنَا أَظُنُّ فِي نَفْسِي أَنَّ فِي نَفْسِ أَبِي ذَرٍّ
عَلَى عُثْمَانَ مَعْتَبَة لإِنْزَالِهِ إِيَّاهُ بِالرَّبَذَةِ،
فَلَمَّا ذُكِرَ لَهُ عُثْمَانُ عَرَضَ لَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْمَجْلِسِ
بِذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: لَا تَقُلْ فِي عُثْمَانَ إلا خيرًا،
فإني أشهد لقد رأيت مَشْهَدًا لَا أَنْسَاهُ، كُنْتُ الْتَمَسْتُ
خَلَوَاتِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأَسْمَعَ
مِنْهُ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، قَالَ:
فَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى
حَصَيَاتٍ، فَسَبَّحْنَ فِي يَدِهِ حَتَّى سُمِعَ لَهُنَّ حَنِينٌ
كَحَنِينِ النَّحْلِ، ثُمَّ نَاوَلَهُنَّ أَبَا بَكْرٍ، فَسَبَّحْنَ
فِي كَفِّهِ، ثُمَّ وَضَعَهُنَّ فِي الأَرْضِ فَخَرِسْنَ، ثُمَّ
نَاوَلَهُنَّ عُمَرَ، فَسَبَّحْنَ فِي كَفِّهِ، ثُمَّ أَخَذَهُنَّ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَوَضَعَهُنَّ
فِي الأَرْضِ فَخَرِسْنَ، ثُمَّ نَاوَلَهُنَّ عُثْمَانَ فَسَبَّحْنَ
فِي كَفِّهِ، ثُمَّ أَخَذَهُنَّ مِنْهُ، فَوَضَعَهُنَّ فخَرِسْنَ1.
وَقَالَ سليمان بْن يسار: أخذ جَهْجاه الغفِاريّ عصا عثمان التي كان
يتخصَّر بها، فكسرها على رُكْبَتِه، فوقعت في رُكبته الأكِلَة.
وَقَالَ ابن عُمَر: كنّا نقول عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبُو بكر، ثمّ عُمَر، ثمّ عثمان2. رواه
جماعةٌ عَنِ ابن عُمَر.
وَقَالَ الشَّعْبِيّ: لم يجمع القرآن أحدٌ من الخلفاء من الصحابة غير
عثمان، ولقد فارق عليٌّ الدنيا وما جمعه.
وَقَالَ ابن سِيرين: كان أعلمَهَم بالمناسك عثمانُ، وبعده ابن عُمَر.
وَقَالَ رِبْعِيّ، عَنْ حُذَيْفة: قَالَ لي عُمَر بِمنًى من ترى النّاس
يولُّون بعدي? قلت: قد نظروا إلى عثمان.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ قَالَ:
حَجَجْتُ مع عُمَر، فكان الحادي يحدو.
إنّ الأمير بعده ابن عفان.
وحججت مع عثمان، فكان الحادي يحدو: أن الأمير بعده علي.
__________
1 إسناده ضعيف: لجهالة هذا الرجل من بني سليم.
2 صحيح: وقد تقدم.
(3/95)
وَقَالَ الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ الأَقْرَعِ مُؤَذِّنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ
دَعَا الأَسْقُفَ فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَا فِي كُتُبِكُمْ؟ قَالَ:
نَجِدُ صِفَتَكُمْ وَأَعْمَالَكُمْ، وَلا نَجِدُ أَسْمَاءَكُمْ، قَالَ:
وكيف تَجِدُنِي؟ قَالَ: قَرْنٌ مِنْ حَدِيدٍ، قَالَ: مَا قَرْنٌ مِنْ
حَدِيدٍ؟ قَالَ: أَمِيرٌ شَدِيدٌ، قَالَ عُمَرُ: اللَّهُ أَكْبَرُ،
قَالَ فَالَّذِي بَعْدِي؟ قَالَ: رَجُلٌ صَالِحٌ يُؤْثِرُ
أَقْرِبَاءَهُ، قَالَ عُمَرُ: يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ عَفَّانَ، قَالَ:
فَالَّذِي مِنْ بَعْدِهِ؟ قَالَ: صَدَعٌ -وَكَانَ حَمَّادُ بْنُ
سَلَمَةَ يَقُولُ: صَدَأٌ- مِنْ حَدِيدٍ، فَقَالَ عُمَرُ: وَادَفْرَاهُ
وَادَفْرَاهُ1، قَالَ مَهْلًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ
رَجُلٌ صَالِحٌ، وَلَكِنْ تَكُونُ خِلافُتُه فِي هِرَاقَةٍ مِنَ
الدِّمَاءِ.
وَقَالَ حمّاد بْن زيد: لئْن قلتُ إنّ عليًّا أفضل من عثمان، لقد قلت
إنّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
خانوا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرو بن عثمان
قَالَ: كان نَقْشُ خاتمِ عثمان "آمنت بالذي خلق فَسَوَّى".
وَقَالَ ابن مسعود حين استُخْلِف عثمان: أَمَّرْنا خيرَ مَن بقي ولم
نَأْلُ.
وَقَالَ مُبارك بن فَضَالَةَ، عن الحسن قَالَ: رأيت عثمانَ نائمًا في
المسجد، ورداؤه تحت رأسه، فيجيء الرجلُ فيجِلس إليه، ويجيء الرجلُ
فيجِلس إليه، كأنّه أحدُهم، وشهِدْتُهُ يأمر في خُطْبته بقتْل الكلاب،
وذبْح الحمام.
وعن حكيم بن عباد قال: أوّلُ مُنْكَرٍ ظهر بالمدينة طَيَرانُ الحَمام،
وَالرَّمْيُ، يعني بالبُنْدُق، فأمر عثمان رجلًا فقصَّها، وكسر
الجُلاهِقات2.
وصحّ من وجوهٍ، أنّ عثمان قرأ القرآنَ كلَّه في رَكْعَةٍ3.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ جَدَّتِهِ، أَنَّ عُثْمَانَ كَانَ يَصُومُ
الدَّهْرَ.
وَقَالَ أَنَس: إنّ حُذَيْفَة قدِم على عثمانَ، وكان يغزو مع أهل
العراق قِبَل أرمينية، فاجتمع في ذلك الغزوِ أهلُ الشّام، وأهلُ
العراق، فتنازعوا في القرآن حتّى سمع حُذَيْفَة من اختلافهم مَا يكْره،
فركِب حتّى أتى عثمان فقال: يا أمير
__________
1 الدفر: النتن.
2 الجلاهقات: النبوت.
3 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 2/ 42" عن امرأة عثمان -رضي الله عنه-
وغيرها.
(3/96)
المؤمنين أدرِكْ هذه الأمّةَ قبل أن
يختلفوا في القرآن اختلاف اليهود والنَّصارَى في الكُتُب. ففزع لذلك
عثمان، فأرسل إلى حفْصَة أمّ المؤمنين: أنْ أرسِلي إليّ بالصُّحُف التي
جُمِع فيها القرآن، فأرسَلتْ إليه بها، فأمر زيدَ بن ثابت، وسعيد بن
العاص، وعبد الله بن الزُّبَيْر، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أن
ينسخوها في المصاحف، وَقَالَ: إذا اختلفتم أنتم وزيد في عربية فاكتبوها
بلسان قريش، فإنّ القرآنَ إنّما نزل بلسانهم.
ففعلوا حتّى كُتِبَت المصاحف، ثمّ ردّ عثمان الصُّحف إلى حَفْصَة،
وأرسل إلى كل جُنْد من أجناد المُسْلِمين بمُصْحَفٍ، وأمرهم أن يحرقوا
كلّ مُصْحَفٍ يخالف المُصْحَف الَّذِي أرسل إليهم به، فذلك زمانٌ
حُرِّقت فيه المَصَاحف بالنّار.
وَقَالَ مُصْعَب بن سعد بن أبي وقّاص: خطب عثمانُ النّاس فَقَالَ:
أيّها النّاس، عَهْدكُمْ بنبيّكم بضع عشرة، وأنتم تميزّون في القرآن،
وتقولون قراءة أبي، وقراءة عبد الله، يَقُولُ الرجل: واللَّهِ مَا
نُقِيم قراءتك، فأعْزِمُ على كلّ رجلٍ منكم كان معه من كتاب الله شيءٌ
لما جاء به. فكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن، حتّى جمع من
ذلك كثيرًا، ثُمَّ دخل عثمان، فدعاهم رجلًا رجلًا، فناشدهم:
أسَمِعْتَهُ من رَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو
أملاه عليك? فيقول: نعم، فلمّا فرغ من ذلك قَالَ: من أكْتَبُ النّاس?
قالوا: كَاتِبَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
زيد بن ثابت، قَالَ: فأيّ النّاس أعْرَب؟ قالوا: سعيد بن العاص، قَالَ
عثمان: فَلْيُمْلِ سعيدٌ ولْيَكْتُب زيد، فكتب مَصَاحِفَ ففرَّقها في
النّاس.
وَرَوَى رَجُلٌ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفْلَةَ قال علي في المصاحف: لو
لم يصنعنه عُثْمَانُ لَصَنَعْتُهُ.
وَقَالَ أَبُو هلال: سمعت الحسن يَقُولُ: عمل عثمان اثنتي عشرة سنة،
مَا ينكرون من إمارته شيئا.
وَقَالَ سَعِيدِ بْنِ جُمْهَانَ، عَنْ سَفِينَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة
ثم تكون ملكًا" 1.
__________
1 صحيح: أخرجه أبو داود "4646" في كتاب السنة، باب: في الخلفاء،
والترمذي "2233" في كتاب الفتن، باب: ما جاء في الخلافة، وأحمد "5/
220، 221"، والطبراني في "الكبير" "6442"، وأبو نعيم في "الحلية"
"1280"، والحاكم "4438"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 341"، وابن حبان
"6657" من حديث سفينة -رضي الله عنه- وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي
داود".
(3/97)
وَقَالَ قَتَادَةُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ مُرَّةَ الْبَهْزِيِّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "تَهِيجُ
فِتْنَةٌ كَالصَّيَاصِي، فَهَذَا وَمَنْ مَعَهُ عَلَى الْحَقِّ".
قَالَ: فَذَهَبْتُ وَأَخَذْتُ بِمَجَامِعِ ثَوْبِهِ فَإِذَا هُوَ
عُثْمَانُ1.
وَرَوَاهُ الْأَشْعَثُ الصَّنْعَانِيُّ، عَنْ مُرَّةَ. وَرَوَاهُ
مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، وَرُوِيَ
نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
وَقَالَ قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي سَهْلَةَ مَوْلَى
عُثْمَانَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- جَعَلَ يُسَارُّ عُثْمَانَ، وَلَوْنُ عُثْمَانَ
يَتَغَيَّرُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الدَّارِ وَحُصِرَ فِيهَا،
قُلْنَا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلا تُقَاتِلُ؟ قَالَ: إِنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عهد إِلَيَّ
عَهْدًا، وَإِنِّي صَابِرٌ نَفْسِي عَلَيْهِ2.
أَبُو سَهْلَةَ وَثَّقَهُ أَحْمَدُ الْعِجْلِيُّ.
وَقَالَ الجريريّ: حدّثني أَبُو بكر العَدَوِيّ قَالَ: سألت عائشة: هل
عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى أحدٍ
من أصحابه عند موته؟ قالت: مَعَاذَ الله إلّا أنَّه سارَّ عثمان، أخبره
أنّه مقتولٌ، وأمره أن يكفَّ يده.
وَقَالَ شُعْبَةُ: أَخْبَرَنِي أَبُو حَمْزَةَ: سَمِعْتُ أَبِي
يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: قُتِلَ عُثْمَانُ وَأَنَا مَعَهُ،
قال أبو حمزة: فذكرته لابن عبّاس فَقَالَ: صَدَقَ يَقُولُ: قتل الله
عثمان ويقتلني معه، قلت: قد كان عليّ يَقُولُ: عَهِدَ إليَّ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لتخضبنّ هذه من هذه3.
وَقَد رَوَى شُعْبَةُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ الشَّرُودِ، أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: إِنِّي لأَرْجُو
أَنْ أَكُونَ أَنَا وَعُثْمَانُ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ
مُتَقَابِلِينَ} 4.
__________
1 أخرجه أحمد "5/ 33، 35".
2 صحيح: أخرجه الترمذي "3731" في كتاب المناقب، باب: مناقب عثمان بن
عفان، وابن ماجه "113" في المقدمة، باب: في فضائل أَصْحَابِ رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأبو نعيم في "الحلية"
"169"، والبيهقي في "الدلائل" "6/ 391"، وقال الألباني في صحيح سنن ابن
ماجه "91": صحيح.
3 أخرجه البيهقي في "الدلائل" "6/ 438".
4 سورة الحجر: 47.
(3/98)
وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ،
عَنْ عَلِيٍّ.
وَقَالَ مطرف بن الشَّخَّير: لَقِيتُ عليًّا فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ
اللَّهِ مَا بطَّأ بِكَ، أَجِبْ عثمانَ، ثمّ قَالَ: لئن قلت ذاك،
لَقَدْ كَانَ أوصَلَنَا لِلرَّحِمِ، وأتْقانا للرَّبّ.
وَقَالَ سعيد بن عَمْرو بن نُفَيْلٍ: لو أنْقَضَّ أُحُد لِما صنعتم
بابن عفان لكان حقيقًا.
وَقَالَ هِشَامٌ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ
أَوْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: يَكُونُ عَلَى هَذِهِ
الأُمَّةِ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ
الصِّدِّيقُ، أَصَبْتُمُ اسْمَهُ، وَعُمَرُ الْفَارُوقُ قَرْنٌ مِنْ
حَدِيدٍ، أَصَبْتُمُ اسْمَهُ، وَعُثْمَانُ ذُو النُّورَيْنِ، أُوتِيَ
كِفْلَيْنِ مِنَ الرَّحْمَةِ قُتِلَ مَظْلُومًا، أَصَبْتُمُ اسْمَهُ.
رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ مُحَمَّدٍ.
وَقَالَ عبد الله بن شَوْذَب: حدّثني زَهْدَم الجَرْميّ قَالَ: كنت في
سَمَرٍ عند ابن عباس فَقَالَ: لأحدِّثنّكم حديثًا: إنّه لما كان من أمر
هذا الرجل مَا كان، قلت لعليّ: اعتزلْ هذا الأمر، فوَالله لو كنتَ في
جُحْرٍ لأتاك النّاسُ حتّى يبايعوك، فعصاني، وَايْمُ الله
لَيَتأَمَّرَنّ عليه معاويةُ، ذلك بأنّ الله يَقُولُ: {وَمَنْ قُتِلَ
مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ
فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} 1.
وَقَالَ أَبُو قِلابة الجَرْميّ: لمّا بلغ ثُمَامَة بنَ عَدِيّ قتْلُ
عثمان -وكان أميرًا على صنعاء- بكى فأطال البكاء، ثمّ قَالَ: هذا حين
انتُزعت خلافةُ النُّبوَّة من أُمَّة محمد، فصار مُلْكًا وجَبْرِيّة،
مَن غلب على شيءٍ أكله.
وَقَالَ يحيى بن سعيد الأنصاري: قَالَ أَبُو حُميد السَّاعدي -وكان
بدْريًا- لما قُتِل عثمان: اللَّهُمَّ إنّ لك عليّ أنْ لَا أضحك حتّى
ألقاك2.
قَالَ قتادة: ولي عثمان اثنتي عشرة سنة، غير اثني عشر يومًا. وكذا قال
خليفة بن خيّاط وغيره.
وَقَالَ أَبُو مَعْشر السِّنْديّ: قُتِلَ لثماني عشرة خَلَتْ من ذي
الحجّة، يوم الجمعة، زاد غيرُه فَقَالَ: بعد العصر، وَدُفِنَ بالبَقِيع
بين العِشاءين، وهو ابن اثنتين وثمانين سنة. وهو الصّحيح، وقيل: عاش
ستًا وثمانين سنة.
__________
1 سورة الإسراء: 33.
2 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "2/ 44".
(3/99)
وعن عبد الله بن فَرُّوخ قَالَ: شهدْتُه
وَدُفِنَ في ثيابه بدمائه، ولم يُغسل، رواه عبد الله بن أحمد في
"زيادات المُسْنَد" وقيل: صلّى عليه مروان، ولم يُغَسّل.
وجاء من رواية الواقديّ: أنّ نائلة خرجت وقد شقَّتْ جيبها وهي تصرخ،
ومعها سراج، فَقَالَ جُبَيْر بن مُطْعم: أطْفئي السِّراج لَا يُفطن
بنا، فقد رأيت الغَوْغَاء، ثمّ انتَهَوْا إلى البقيع، فصلّى عليه
جُبَيْر بن مُطْعم، وخلفه أَبُو جَهْم بن حُذَيْفَة، ونيار بن مُكْرَم،
وزوجتا عثمان ونائلة، وأمُّ البَنين، وهمّا دلَّتاه في حُفْرته على
الرجال الذين نزلوا قبره. ولَحَدوا له وغيَّبوا قبره، وتفرَّقوا1.
ويُروى أنّ جُبَيْر بن مُطْعم صلّى عليه في ستّة عشر رجلًا، والأوّل
أثبت.
وَرُوِيَ أنّ نائلة بنت الفرافصة كانت مليحة الثَّغْر، فكَسَرَتْ
ثناياها بحجرٍ، وقالت: واللَّهِ لَا يجتليكُنّ أحدٌ بعد عثمان، فلمّا
قدِمَتْ على معاوية الشّام، خَطَبَهَا، فأبَتْ.
وَقَالَ فيها حسّان بن ثابت:
قتلتم وَلِيَّ الله في جَوْفِ داره ... وجئتم بأمرٍ جائرٍ غير مهتدي
فلا ظفرتْ أيْمانُ قومٍ تعاونوا ... على قتْل عثمانَ الرّشيدِ
الْمُسَدَّدِ
وَقَالَ كعب بن مالك:
يا للرِّجال لأمرٍ هاجَ لي حَزَنًا ... لقد عجِبْتُ لمن يبكي على
الدِّمَنِ
إنّي رأيت قتيلَ الدّار مُضْطَهدًا ... عثمان يُهْدَى إلى الأجداث في
كَفَنٍ
وَقَالَ بعضهم:
لَعَمْر أبيك فلا تكذِبَنْ ... لقد ذهب الخيرُ إلّا قليلا
لقد سفِه النّاسُ في دينهم ... وخلّى ابن عفان شرًّا طويلًا
__________
1 إسناده ضعيف جدا: أخرجه ابن سعد في الطبقات" "2/ 43".
(3/100)
خلافة عثمان -رضي الله عنه:
سنة أربع وعشرين:
دُفِن عُمَر -رضي الله عنه- في أوّل المحرَّم، ثمّ جلسوا للشُّورَى:
فروي عَنْ عبد الله بن أبي ربيعة أنّ رجلا قَالَ قبل الشُّورَى: إنْ
بايعتم لعثمان أطَعْنا، وإنْ بايعتم لعليّ سمِعْنا وعَصيْنا.
وَقَالَ المِسْوَر بْن مَخْرَمَة: جاءني عبد الرحمن بْن عَوْف بعد هجع
من الليل فَقَالَ: مَا ذاقت عيناي كثير نومٍ ثلاث ليالٍ فادْع لي عثمان
وعليًّا والزُّبَيْر وسعدًا، فدَعَوُتُهم، فجعل يخلو بهم واحدًا واحدًا
يأخذ عليه، فلمّا أصبح صلّى صُهَيْب بالنّاس، ثمّ جلس عبد الرحمن فحمد
الله وأثني عليه، وَقَالَ في كلامه: إني رأيت النّاس يأبَوْن إلَّا
عثمان.
وَقَالَ حُمَيْد بْن عبد الرحمن بْن عوف: أخبرني المِسْوَر إنّ
النَّفَر الذين ولَّاهم عُمَر اجتمعوا فتشاوروا فَقَالَ عبد الرحمن:
لست بالّذي أُنافِسُكم هذا الأمر ولكنْ إنْ شئتم اخْتَرْتُ لكم منكم،
فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمن، قَالَ فَوَاللَّهِ مَا رأيت رجلًا بذَّ
قومًا1 أشدّ مَا بذَّهُم حين ولّوه أمْرَهُم، حتّى مَا من رجلٍ من على
عبد الرحمن يُشاورونه ويُنَاجُونه تلك الّليالي، لَا يخلو به رجلٌ ذو
رأيٍ فيَعْدِل بعثمان أحدًا، وذكر الحديث إلى أنْ قَالَ: فتشهّد
وَقَالَ: أمّا بعد يا عليّ فإنّي قد نظرت في النّاس فلم أرهم
يَعْدِلُون بعثمانَ فلا تجعلنّ على نفسك سبيلًا، ثمّ أخذ بيد عثمان
فَقَالَ: نبايعك على سُنَّةِ الله وسُنَّة رسوله وسُنَّة الخليفتين
بعده. فبايعه عبد الرحمن بْن عوف وبايعه المهاجرون والأنصار.
وعن أَنْس قَالَ: أرسل عُمَر إلى أبي طلحة الأنصاري فَقَالَ: كنْ في
خمسين مِنَ الأَنْصَار مع هؤلاء النَّفَر أصحاب الشُّورى فإنّهم فيما
أحسب سيجتمعون في
__________
1 بذ قوما: غلبهم.
(3/101)
بيتٍ، فقُمْ على ذلك الباب بأصحابك فلا
تتركْ أحدًا يدخل عليهم ولا تتركهم يمضي اليومُ الثالث حتّى يؤَمِّروا
أحدَهم، اللَّهُمَّ أنت خليفتي عليهم1.
وفي زيادات "مُسْنَد أحمد" من حَديث أبي وائل قَالَ: قلتُ لعبد الرحمن
بن عوف: كيف بايعتم عثمان وتركتم عليًّا! قَالَ: مَا ذنبي قد بدأت
بعليّ فَقُلْتُ: أبايعك على كتاب الله وسُنَّة رسوله وسيرة أبي بكر
وعمر، فَقَالَ: فيما استطعت. ثمّ عرضت ذلك على عثمان فَقَالَ: نعم.
وَقَالَ الواقدي: اجتمعوا على عثمان لليلة بقيت من ذي الحجّة.
ويُرْوَى أنّ عبد الرحمن قَالَ لعثمان خلْوةً: إنْ لم أُبايعْك فمن
تُشير عليَّ؟ فَقَالَ: عليّ، وقَالَ لعليّ خلْوَةً: إنْ لم أُبايعْك
فمن تُشير عليَّ؟ قَالَ: عثمان، ثمّ دعا الزُّبَيْر فَقَالَ: إن لم
أبايعك فمن تشير علي؟ قال عليّ أو عثمان، ثُمَّ دعا سعدًا فَقَالَ: من
تُشير عليّ فأمّا أنا وأنت فلا نُريدها؟ فَقَالَ: عثمان، ثمّ استشار
عبد الرحمن الأعيان فرأي هَوَى أكثرِهم في عثمان.
ثُمَّ نودي: الصّلاة جامعة وخرج عبد الرحمن عليه عمامته التي عمَّمه
بها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. متقلّدًا سيفه،
فصَعِد المنبر ووقف طويلًا يدعو سرًّا، ثُمَّ تكلّم فَقَالَ: أيها
الناس إني سألتكم سرًَّا وجهْرًا على أمانتكم فلم أجدْكم تَعْدِلُون
عَنْ أحد هذين الرجُلَيْن: إمّا عليّ وإما عثمان، قم إليّ يا عليّ،
فقام فوقف بجنب المنبر فأخذ بيده وَقَالَ: هل أنت مبايعي على كتاب الله
وسنة نبيه وفِعْلِ أبي بكر وعمر؟ قَالَ: اللَّهُمَّ لَا ولكنْ على
جهْدي من ذلك وطاقتي، فَقَالَ: قم يا عثمان، فأخذ بيده في موقف عليّ
فَقَالَ: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر؟
قَالَ: اللَّهُمَّ نعم، قَالَ فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يده
ثمّ قَالَ: اللَّهُمَّ اشهد اللَّهُمَّ إنّي قد جعلت مَا في رقبتي من
ذلك في رقبة عثمان.
فازدحم النَّاس يُبَايِعُون حتّى غَشَوْهُ عند المنبر وأقعدوه على
الدَّرَجة الثانية، وقعد عبد الرحمن مقْعَدَ رَسُولُ اللَّه -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ المنبر. قَالَ: وتلكّأ عليّ، فَقَالَ
عبد الرحمن: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ
أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّه
__________
1 إسناده ضعيف جدا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "2/ 53" من طريق
الواقدي.
(3/102)
فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} 1. فرجع
عليّ يشقّ النّاس حتّى بايع عثمانَ وهو يَقُولُ: خَدْعةٌ وأَيَّما
خَدْعَة.
ثُمَّ جلس عثمان في جانب المسجد ودعا بعبيد الله بْن عُمَر بْن الخطاب،
وكان محبوسًا في دار سعد، وسعد الَّذِي نزع السيف من يد عبيد الله بعد
أن قتل جفنية والهُرْمُزَان وبنت أبي لؤلؤة، وجعل عُبَيْد الله يقول:
والله لأقتلن رجالًا من شرك في دم أبي، يُعَرِّض بالمهاجرين والأنصار،
فقام إليه سعد فنزع السيف من يده وجَبَذَه بشَعْره حتى أضجعه وحبسه،
فَقَالَ عثمان لجماعة من المهاجرين، أشيروا عليَّ في هذا الَّذِي فَتَق
في الإسلام مَا فَتَق، فَقَالَ علي: أرى أن تقتله، فقال عضهم: قُتِل
أبوه بالأمس وَيُقْتَلُ هو اليوم، فَقَالَ عمرو بْن العاص: يا أمير
المؤمنين إنّ الله قد أعفاك أن يكون هذا الحَدَث ولك على المُسْلِمين
سلطان، إنّما تمّ هذا ولا سُلطان لك، قَالَ عثمان: أنا وليُّهم وقد
جعلتُها دِيَةً واحْتَمَلْتُها من مالي.
قلت: والهُرْمُزَان هو ملك تُسْتَر، وقد تقدّم إسلامُهُ، قتله عُبيد
الله بْن عُمَر لما أُصيب عُمَر، فجاء عمَّار بْن ياسر فدخل على عمر
فقال: حَدَثَ الْيَوْمَ حَدَثٌ في الإسلام، قَالَ: وما ذاك؟ قَالَ قتل
عُبَيْد الله الهُرْمُزَان، قَالَ: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُون} 2 عليَّ به، وسَجَنَه.
قَالَ سعيد بْن المسيب: اجتمع أبو لؤلؤة وجفنية، رجل من الحِيرَة،
والهُرْمُزَان، معهم خِنْجَرٌ له طرفان ممْلَكُهُ في وَسْطِه، فجلسوا
مجلسًا فأثارهم دابّة فوقع الخِنْجَر، فأبصرهم عبد الرحمن بْن أبي بكر،
فلمّا طُعِن عُمَر حكى عبد الرحمن شأن الخنجر واجتماعهم وكيفية الخنجر،
فنظروا فوجدوا الأمر كذلك، فوثب عبيد الله فتل الهرمزان، وجفنية،
ولؤلؤة بنت أبي لؤلؤة، فلما استُخْلِف عثمان قَالَ له عليّ: أقِدْ
عُبَيْد الله من الهُرْمُزان، فَقَالَ عثمان: ماله وَلِيٌّ غيري، وإني
قد عفوت ولكنْ أَدِيَهُ.
ويُروى أنّ الهُرْمُزان لمّا عضَّه السيف قَالَ: لَا إله إلا الله.
وأما جفنية فكان نصْرَانيًّا، وكان ظئرًا لسعد بْن أبي وقاص أقدمه
للمدينة للصُّلح الَّذِي بينه وبينهم وليعلم الناس الكتابة.
__________
1 سورة الفتح: 10.
2 سورة البقرة: 156.
(3/103)
وفيها افتتح أَبُو موسى الأشعري الرّيّ،
وكانت قد فُتِحت على يد حُذَيْفَة، وسُويد بْن مُقَرِّن، فانتقضوا.
وفيها أصاب النّاس رُعافٌ1 كثير، فقيل لها سنة الرُّعَاف، وأصاب عثمانَ
رُعَافٌ حتّى تخلّف عَنِ الحج وأوصى. وحجّ بالنّاس عبد الرحمن بن عوف.
وفيها غزا الوليد بْن عُقبة أذْرَبَيْجان وأَرْمِينِية لمنع أهلها مَا
كانوا صالحوا عليه، فسَبَى وغَنِم ورجع.
وفيها جاشت الروم حتى استمدّ أمراء الشام من عثمان مَدَدًا فأَمَّدهم
بثمانية آلافٍ من العراق، فمضوا حتى دخلوا إلى أرض الروم مع أهل الشام.
وعلى أهل العراق سَلْمان بْن ربيعة الباهلي، وعلى أهل الشام حبيب بْن
مسْلَمَة الفِهْريّ، فشنُّوا الغارات وسبوا وافتتحوا حُصُونًا كثيرة.
وفيها وُلِد عبدُ الملك بْن مروان الخليفة.
سَنَة خَمسْ وَعِشرْين:
فيها عزل عثمان سعدًا عَنِ الكوفة واستعمل عليها: الوليد بْن عقبة بْن
أبي مُعَيْط بْن أبي عَمْرو بْن أُميَّة الأُمَويّ، أخو عثمان لأُمّه،
كنيته أَبُو وهْب. له صُحْبة ورواية. روى عنه أَبُو موسى الهَمذاني،
والشعبي.
قَالَ طارق بْن شِهاب: لما قدِم الوليد أميرًا أتاه سعد فَقَالَ:
أكِسْتَ بعدي أو استحمقتُ بعدَك؟ قَالَ: مَا كِسْنا ولا حَمِقْتَ ولكنّ
القومَ استأثروا عليك بسُلطانهم. وهذا ممّا نقموا على عثمان كوْنه عزل
سعْدًا وولّى الوليد بْن عُقْبَة، فذكر حُصَيْن بْن المُنْذِر أنّ
الوليد صلّى بهم الفجر أربعًا وهو سَكْران، ثمّ التفت وَقَالَ:
أُزيدكم!
ويقال: فيها سار الجيش من الكوفة عليهم سَلْمان بْن ربيعة إلى
بَرْذَعَة، فقتل وسَبَى.
وفيها انتقض أهل الإسكندرية فغزاهم عَمْرو بْن العاص أمير مصر وسباهم،
__________
1 الرعاف: خروج الدم من الأنف.
(3/104)
فردّ عثمانُ السَّبْيَ إلى ذِمَّتهم، وكان
ملك الروم ببعث إليها منويل الخصي في مراكب فانتفض أهلُها -غير
المقوقس- فغزاهم عمرو في ربيع الأول، فافتتحها عَنْوةً غير المدينة
فإنّها صُلْح.
وفيها عزل عثمان عَمْرًا عَنْ مصر، واستعمل عليها عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ. والصحيح أنّ ذلك في سنة سبعٍ وعشرين.
واستأذن ابُن أبي سَرْح عثمان في غزْو إفريقية فأَذِنَ له.
ويقال فيها ولد يزيد بْن معاوية.
وحج بالنّاس عثمان -رضي الله عنه.
سَنَة سِتٍّ وَعِشرْين:
فيها زاد عثمان في المسجد الحرام ووسّعه، واشترى الزّيادة من قوم، وأبى
آخرون، فهدم عليهم ووضع الأثمان في بيت المال، فصاحوا بعثمان فأمر بهم
إلى الحبس وَقَالَ: مَا جرَّأكم عليَّ إلَّا حِلْمي، وقد فعل هذا بكم
عُمَر فلم تُصَيِّحوا عليه، ثم كلموه فيهم فأطلقهم.
وأميُرها عثمان بْن أبي العاص الثّقفي، فصالحهم على ثلاثة آلاف ألف
وثلاثمائة ألف.
وقيل: عزل عثمان سعدًا عَنِ الكوفة لأنّه كان تحت دَيْنٍ لابن مسعود
فتقاضاه واختصما، فغضب عثمان من سعد وعزله واستعمل الوليد بْن عُقْبة،
وقد كان الوليد عاملًا لعمر على بعض الجزيرة وكان فيه رِفْقٌ برعيّته.
سَنَة سبْعٍ وَعِشرْين:
فيها غزا معاوية قبرص فركب البحر بالجيوش، وكان معه عُبادة بْن الصامت،
وزوجه عبادة أم حَرَام بنت مِلْحانِ الأنصاريّة خالة أنَس، فصُرعت عَنْ
بَغْلتها فماتت شهيدةً، وكان النّبيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يغشاها ويقيل عندها وبشرها بالشهادة1، فقبرها بقبرص يقولون
هذا قبر المرأة الصالحة. روت عَنِ النبي -صلى الله عليه وسلم.
__________
1 وذلك فيما أخرجه البخاري "2788، 2789" في كتاب الجهاد، باب: الدعاء
بالجهاد، ومسلم "1912" في كتاب الإمارة، باب: فضل الغزو في البحر، عن
أنس عن أم =
(3/105)
روى عنها: أَنْس بْن مالك، وعُمَيْر بْن
الأسود العنبسي، ويعلى بن شداد بن أوْس، وغيرهم.
وَقَالَ داود بْن أبي هند: صالح عثمان بْن أبي العاص وأبو موسى سنة
سبيع وعشرين أهل أرجان على ألفي ومائتي ألف، وصالح أهل دارابْجِرْد1
على ألف ألف وثمانين ألفًا.
عزل عثمان عن مصر:
وَقَالَ خليفة: فيها عزل عثمانُ عَنْ مصر عَمْرًا وولّى عليها عبدَ
الله بْن سعد، فغزا إفريقية ومعه عبد الله بْن عُمَر بْن الخطاب،
وَعَبْدِ اللَّهِ بْن عَمْرِو بْن الْعَاصِ، وَعَبْدِ الله بْن
الزُّبَيْر، فالتقى هو وجُرْجير بسُبَيْطِلة2 على يومين من القيروان،
وكان جُرْجير في مائتي ألف مقاتل، وقيل في مائةٍ وعشرين ألفًا، وكان
المسلمون في عشرين ألفًا.
قَالَ مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: ثنا أَبِي، وَالزُّبَيْرُ بْنُ
خُبَيْبٍ قَالا: قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: هَجَمَ عَلَيْنَا جُرْجير
فِي مُعَسْكَرِنَا فِي عِشْرِينَ وَمِائَةِ أَلْفٍ، فَأَحَاطُوا بِنَا
وَنَحْنُ فِي عِشْرِينَ أَلْفًا. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، فَدَخَلَ فُسْطَاطًا لَهُ فَخَلا فِيهِ،
وَرَأَيْتُ أَنَا غرَّةً مِنْ جُرجير بَصُرْتُ به خلف عساكره على برذون
أشهب معه جَارِيَتَانِ تُظَلِّلانِ عَلَيْهِ بِرِيشِ الطَّوَاوِيسِ،
وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ جنده أرض بيضاء ليس بها
__________
= حرام -رضي الله عنها- "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يدخل عليها، الحديث وفيه قال: "ناس من أمتي
عرضوا عليَّ غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر، ملوكا على
الأسرة، أو مثل الملوك على الأسرة". فقلت: يا رسول الله ادع الله أن
يجعلني منهم. فدعا لها، ثم وضع رأسه فنام، ثم استيقظ وهو يضحك، قالت:
فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: "ناس من أمتي عرضوا عليَّ غزاة في
سبيل الله -كما قال في الأولى " قالت: فقلت: يا رسول الله ادع الله أن
يجعلني منهم. قال: "أنت من الأولين". فركبت أم حرام بنت ملحان البحر في
زمن معاوية، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت.
قول "ثبج": أي ظهره ووسطه. وأما قوله "في زمن معاوية" فقال النووي في
"شرح مسلم" "13/ 50": قال القاضي: قال أكثر أهل السير والأخبار أن ذلك
كان في خلافة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وعلى هذا يكون قوله "في
زمان معاوية" معناه في زمان غزوه في البحر لا في أيام خلافته. قال:
وقيل: بل كان ذلك في خلافته. قال: وهو أظهر في دلالة قوله "في زمانه".
ا. هـ.
1 دار بجرد: ولاية بفارس.
2 سبيطلة: من مدن إفريقية.
(3/106)
أَحَدٌ، فَخَرَجْتُ إِلَى ابْنِ أَبِي
سَرْحٍ فَنَدَبَ لِي النَّاسَ، فَاخْتَرْتُ مِنْهُمْ ثَلاثِينَ
فَارِسًا وَقُلْتُ لِسَائِرِهِمْ: الْبثوا عَلَى مَصَافِّكُمْ، وَحملت
فِي الْوَجْهِ الَّذِي رَأَيْتُ فِيهِ جُرْجير وَقُلْتُ لأَصْحَابِي:
احْمُوا لِي ظَهْرِي، فَوَاللَّهِ مَا نشبتُ أنْ خَرَقْتُ الصَّفَ
إِلَيْهِ فَخَرَجْتُ صَامِدًا لَهُ، وَمَا يَحْسِبُ هو ولا أصحابه إلا
أني رسول إليه، حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهُ فَعَرَفَ الشَّرَّ، فَوَثَبَ
عَلَى بِرْذَوْنِهِ وَوَلَّى مُدْبِرًا، فَأَدْرَكْتُهُ ثُمَّ
طَعَنْتُهُ، فَسَقَطَ، ثُمَّ دَفَفْتُ عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ،
وَنَصَبْتُ رَأْسَهُ عَلَى رُمْحٍ وَكَبَّرْتُ، وَحَمَلَ
الْمُسْلِمُونَ، فَارْفَضَّ أَصْحَابُه مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَرَكِبْنَا
أَكْتَافَهُمْ.
وَقَالَ خَلِيفَةُ: ثنا مَنْ سَمِعَ ابْنَ لَهِيعَةَ يَقُولُ: ثنا
أَبُو الأَسْوَدِ، حَدَّثَنِي أَبُو إِدْرِيسَ أَنَّهُ غَزَا مَعَ عبد
الله بن سعد إِفْرِيقِيَةَ فَافْتَتَحَهَا، فَأَصَابَ كُلَّ إِنْسَانٍ
أَلْفَ دِينَارٍ. وَقَالَ غيره: سَبَوْا وغنِمُوا فبلغ سهمُ الفارس
ثلاثةَ آلاف دينار وفتح الله إفريقية سَهْلَها وجَبَلَها، ثمّ اجتمعوا
على الإسلام وحسُنَتْ طاعتُهُم. وقسّم ابن أبي سَرْح مَا أفاء الله
عليهم وأخذ خُمْسَ الخُمْس بأمر عثمان، وبعث إليه بأربعة أخماسه، وضرب
فُسْطاطًا في موضِع القَيْرَوان ووفَّدوا وفدًا، فشكوا عبد الله فيما
أخذ فَقَالَ: أنا نَفَّلْتُهُ، وذلك إليكم الآن، فإنْ رضِيتُم فقد جاز،
وإنْ سَخِطْتم فهو رَدّ، قالوا: إنّا نَسْخَطُه، قَالَ: فهو رَدّ، وكتب
إلى عبد الله بردّ ذلك واستصلاحهم.
قالوا: فاعْزلْه عنّا. فكتب إليه أن استخِلفْ إلى إفريقية رجُلًا
ترْضَاه واقسم مَا نَفَّلْتُكَ فإنَّهم قد سخِطُوا، فرجع عبد الله بْن
أبي سرْح إلى مصر، وقد فتح الله إفريقية، فما زال أهلُها أسْمَعَ
النّاس وأطْوَعَهم إلى زمان هشام بْن عبد الملك.
وروى سيف بْن عُمَر، عَنْ أشياخه، أنّ عثمان أرسل عبد الله بْن نافع بن
الحُصَين، وعبد الله بْن نافع الفِهْرِيّ من فَوْرِهما ذلك إلى
الأندلس، فأتياها من قِبَل البحر، وكتب عثمان إلى من انتدب إلى
الأندلس: أمّا بعد فإنّ القُسْطَنْطِينية إنّما تُفْتَح من قِبَل
الأندلس، وإنّكم إن افتتحتموها كنتم شُرَكاء في فتحها في الأجر،
والسلام1. فعن كعب قَالَ: يعبر البحر إلى الأندلس أقوامٌ يفتحونها
يُعْرَفون بنورهم يوم القيامة.
__________
1 إسناده ضعيف جدا: للجهالة فيه، وسيف بن عمر متروك كما تقدم.
(3/107)
قَالَ: فخرجوا إليها فأتَوها من بَرِّها
وبحرها، ففتحها الله على المُسْلِمين، وزاد في سلطان المُسْلِمين مثل
إفريقية. ولم يزل أمرُ الأندلس كأمر إفريقية، حتى أمر هشام فمنع
البَرْبَرَ أرضَهم.
ولما نزع عثمان عَمْرًا عَنْ مصر غضب وحقد على عثمان، فوجه عبد الرحمن
بْن سعد فأمره أن يمضي إلى إفريقية، وندب النَّاس معه إلى إفريقية،
فخرج إليها في عشرة آلاف، وصالح ابن سعد أهل إفريقية على ألفي ألف
دينار وخمسمائة دينار. وبعث ملك الروم من قسطنطينية أنْ يؤخذ من أهل
إفريقية ثلاثمائة قِنْطار ذَهَبًا، كما أخذ منهم عبد الله بْن سعد،
فقالوا: مَا عندنا مالٌ نعطيه، وما كان بأيدينا فقد افتدينا به، فأمّا
الملك فإنه سيّدنا فليأخُذْ مَا كان له عندنا من جائزة كما كنا نعطيه
كلَّ عام، فلمّا رأى ذلك منهم الرسول أمر بحبسهم، فبعثوا إلى قومٍ من
أصحابهم فقدِموا عليهم فكسروا السجن وخرجوا.
وعن يزيد بْن أبي حبيب قَالَ: كتب عبد الله بْن سعد إلى عثمان يَقُولُ:
إنّ عمرو بْن العاص كسر الخوارج، وكتب عَمْرو: إن عَبْد الله بن سَعْد
أفسد عليَّ مكيدة الحرب. فكتب عُثْمَان إلى عَمْرو: انصرف وولي عَبْد
الله الخراج والجُنْد، فقدِم عمرو مُغْضبًا، فدخل على عثمان وعليه
جُبَّةٌ له يَمانيَّة مَحْشُوَّة قُطْنًا، فَقَالَ له عثمان: مَا
حَشْوُ جُبَّتك؟ قَالَ: عمرو، قَالَ: قد علمتُ أنّ حَشْوَها عَمْرو،
ولم أرد هذا، إنّما سألتك أقُطْنٌ هو أم غيره؟ وبعث عبد الله بْن سعد
إلى عثمان مالًا من مصر وحشد فيه، فدخل عمرو، فَقَالَ عثمان: هل تعلم
أنّ تلك اللّقاح درّت بعدك؟ قَالَ عمرو: إن فصالها هَلَكَتْ.
وفيها حجّ عثمان بالنّاس.
سَنَة ثمانٍ وَعِشْرين:
قيل في أولها غزوة قبرص، وقد مرّت. فروى سَيْفٌ، عَنْ رجاله قالوا:
أَلَحَّ معاوية في إمارة عُمَر عليه في غَزْو البحر وقُرْب الرُّوم من
حِمْص، فَقَالَ عُمَر: إنّ قريةً من قُرَى حمص يسمع أهلها نباح كلابهم
وصياحَ ديُوكهم قالوا: كتب عُمَر إلى معاوية: إنّا سمعنا أنّ بحر الشام
يشرف على أطول شيء على الأرض،
(3/108)
يستأذن الله في كل يوم وليلة في أن يقبض
على الأرض فيغرقها، فكيف أحمل الجنود في هذا البحر الكافر المستعصب،
وتالله لمسلم أحبّ إليَّ من كلّ مَا في البحر، فلم يزل بعمر حتّى كاد
أن يأخذ بقلبه. فكتب عُمَر إلى عمرو بْن العاص أن صِفْ لي البحر
وراكبَه، فكتب إليه: إنّي رأيت خلْقًا كبيرًا يركبه خلْقٌ صغير، إنْ
رَكَد حرّق القلوب، وإنْ تحرّك أزاغ العُقُولَ، يزداد فيه اليقين
قلَّة، وَالشَّكُّ كثْرَة، وهم فيه كدُودٍ على عُود، إنْ مال غرِق، وإن
نجا بَرِق. فلمّا قرأ عُمَر الكتابَ كتب إلى معاوية: والله لَا أحمل
فيه مسلمًا أبدًا.
وَقَالَ أَبُو جعفر الطبريّ: غزا معاوية قبرص فصالح أهلَها على
الجِزْية.
وَقَالَ الواقِديّ: في هذه السنة غزا حبيب بْن مسْلَمَة سورية من أرض
الروم.
وفيها تزوّج عثمان نائلةَ بنت الفرافصة فأسلمت قبل أن يدخل بها. وفيها
غزا الوليد بْن عُقْبَة أَذْرَبَيْجَان فصالحهم مثل صُلح حُذَيفة.
وقلَّ من مات وضُبط موتُهُ في هذه السنّوات كما ترى.
سَنَة تسْعٍ وَعِشرْين:
فيها عزل عثمان أبا موسى عَنِ البصْرة بعبد الله بْن عامر بْن كُرَيز،
وأضاف إليه فارس.
وفيها افتتح عبد الله بْن عامر إصْطَخْر عَنْوةً فقتل وسبَى، وكان على
مقدِّمة عُبَيْد الله بْن مَعْمَر، وكان من كبار الأمراء، افتتح سابور
عَنْوةً وقلعة شيراز، وقُتِلَ وهو شاب، فأقسم ابن عامر لئن ظفر بالبلد
ليقتلنّ حتّى يسيل الدَّمُ من باب المدينة، وكان بها يَزْدَجِرْد بْن
شَهْرَيَار بْن كِسْرى فخرج منها في مائة ألفِ وسار فنزل مَرْوَ، وخلف
على إصْطَخْر أميرًا من أمرائه في جيشٍ يحفظونها. فنقَّب المسلمون
المدينة فما دَرَوْا إلَّا والمسلمون معهم في المدينة، فأسرف ابن عامر
في قتْلهم وجعل الدَّم لَا يجري من الباب، فقيل له: أفْنَيْتَ الخَلْق،
فأمر بالماء فصبَّ على الدَّم حتّى خرج من الباب، ورجع إلى حُلْوان
فافتتحها ثانيًا فأكثر فيه القتْلَ لكونهم نقضوا الصلح.
(3/109)
وفيها انتفضت أَذْرَبَيْجَان فغزاهم سعيد
بْن العاص فافتتحها.
وفيها غزا ابن عامر وعلى مقدّمته عبد الله بْن بُدَيْل الخُزاعيّ فأتى
أصبهان، ويقال افتتح أصبهان سارية بْن زُنَيْم عَنْوةً وصُلْحًا.
وَقَالَ أَبُو عبيدة: لما قدِمَ ابن عامر البصرة قدِم عُبَيْد الله بْن
مَعْمَر إلى فارس، فأتى أرَّجان فأغلقوا في وجهه، وكان عَنْ يمين البلد
وشماله الجبال والأسياف. وكانت الجبال لا تسلكها الخيل ولا تحمل
الأسياف -يعني السواحل- الجيش، فصالحهم أن يفتحوا له باب المدينة فيمرّ
فيها مارًّا ففعلوا، ومضى حتّى انتهى إلى النّوبَنْدِجَان فافتتحها،
ثُمَّ نقضوا الصُّلح، ثُمَّ سار فافتتح قلعة شِيراز، ثُمَّ سار إلى جور
فصالحهم وخلّف فيهم رجلًا من تميم، ثُمَّ انصرف إلى إصْطَخْر فحاصرها
مدة، فبينما هم في الحصار إذ قتل أهل جور عاملهم، فسار ابن عامر إلى
جور فناهضهم فافتتحها عَنْوةً فقتل منها أربعين ألفًا يُعَدُّون
بالقَصَب، ثمّ خلّف عليهم مروان بْن الحَكَم أو غيره، وردّ إلى
إصْطَخْر وقد قتلوا عُبَيْد الله بْن مَعْمَر فافتتحها عَنْوةً. ثمّ
مضى إلى فَسَا فافتتحها. وافتتح رساتيق من كَرْمان. ثمّ إنّه توجه نحو
خُراسان على المفازة فأصابهم الرَّمق فأهلك خلقًا.
وَقَالَ ابن جرير: كتب ابن عامر إلى عثمان بفتح فارس، فكتب عمان يأمره
أن يوليّ هَرِمَ بْن حسّان اليَشْكُريّ، وهرِمَ بْن حيَّان العَبْدِيّ،
وَالْخِرِّيتَ بْن راشد على كُوَر فارس. وفرّق خُراسان بين ستّة نفر:
الأحنف بن قيس على المَرْوَيْن، وحبيب بْن قُرَّةَ اليَرْبُوعيّ على
بَلْخ، وخالد بْن زُهَير على هَرَاة، وأُمَيْن بْن أحمد اليَشْكريّ على
طُوس، وقيس بْن هُبَيْرة السلمي على نَيْسابور.
وفيها زاد عثمان فِي مسجد رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فوسَّعه وبناه بالحجارة المنقوشة وجعل عُمُده من حجارة
وسقفه بالسّاج، وجعل طوله ستين ومائة ذراع، وعرضه خمسين ومائة ذراع،
وجعل أبوابه كما كانت زمن عُمَر ستّة أبواب.
وحجّ عثمان بالنّاس وضُرِبَ له بِمنَى فُسْطاط، وأتمّ الصّلاة بها
وبعرَفة، فعابوا عليه ذلك، فجاءه عليّ فَقَالَ: والله مَا حدث أمرٌ ولا
قَدُم عهدٌ، ولقد عهدت نبيِّك -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يصلّي ركعَتَيْن، ثُمَّ أبا بكر، ثمّ عُمَر ثُمَّ أنت صدرًا من ولايتك،
فَقَالَ: رأي رأيته.
(3/110)
وكلّمه عبد الرحمن بْن عوف فَقَالَ: إنّي
أُخْبِرْتُ عَنْ جُفاة النّاس قد قالوا: إنّ الصلاة للمُقيم رَكْعتان
وقالوا: هذا عثمان يصلّي رَكْعَتين فصليت أربعًا لهذا، وإنّي قد اتّخذت
بمكّة زَوْجَة، فَقَالَ عبد الرحمن: ليس هذا بعُذْر، قَالَ: هذا رأيٌ
رأيته.
سَنَة ثَلَاثيْن:
فيها عُزِل الوليد بْن عُقْبة عَنِ الكوفة بسعيد بْن العاص، فغزا سعيد
طَبَرِسْتان، فحاصرهم، فسألوه الأمان، على أن لا يقتل منهم رجلًا
واحدًا، فقتلهم كلَّهم إلَّا رجلًا واحدًا، يعني نفسه بذلك.
وفيها فُتِحَتْ جور من أرض فارس على يد ابن عامر فغنم شيئًا كثيرًا.
وافتتح ابن عامر في هذا القُرب بلادًا كثيرة من أرض خُراسان.
قَالَ داود بْن أبي هند: لمّا افتتح ابن عامر أرضَ فارس سنة ثلاثين هرب
يزّدَجِرْد بْن كِسْرى فاتبعه ابن عامر، ومُجاشع بْن مسعود السُّلمي،
ووجَّه ابنُ عامر، فيما ذكر خليفة زيادَ بْن الربيع الحارثيّ إلى
سَجَسْتَان فافتتح زالق وشرواذ وناشروذ، ثمّ صالح أهل مدينة زَرَنْج
على ألف وصِيف مع كلّ وصِيف جام من ذَهَب. ثمّ توجه ابن عامر إلى
خراسان وعلى مقدمته الأحنف بْن قيْس، فلقي أهلَ هَرَاة فهزمهم.
ثُمَّ افتتح ابن عامر أبْرَشَهْر -وهي نَيْسابور- صُلْحًا ويقال
عَنْوةً. وكان بها فيما ذكر غيرُ خليفة بنتا كسرى بْن هُرْمز. وبعث
جيشًا فتحوا طوس وأعمالها صُلْحًا. ثُمَّ صالح من جاءه من أهل سَرَخْس
على مائةٍ وخمسين ألفًا. وبعث الأسود بْن كلثوم العَدَويّ إلى بَيْهَق.
وبعث أهل مَرْو يطلبون الصُّلح، فصالحهم ابن عامر على ألفيْ ألف ومائتي
ألف.
وسار الأحنف بْن قيس في أربعة آلاف، فجمع له أهل طَخَارِستان وأهل
الجَوْزَجان والفارياب، وعليهم طوقانشاه، فاقتتلوا قتالًا شديدًا،
ثُمَّ هزم الله المشركين، وكان النصر.
ثُمَّ سار الأحنف على بَلْخٍ، فَصَالَحُوهُ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ
أَلْفٍ. ثُمَّ أَتَى خُوارزْم فلم يُطِقْها ورجع. وفتحت هَرَاة ثمّ
نكسوا.
(3/111)
وَقَالَ ابن إسحاق: بعث ابن عامر جيشًا إلى
مرو فصالحوا وفُتِحَت صُلحًا.
ثُمَّ خرج ابن عامر من نيسابور معتمرًا وقد أحرم منها، واستخلف على
خُراسان الأحنف بْن قيس، فلمّا قضى عُمْرَته أتى عثمان -رضي الله عنه-
واجتمع به، ثمّ إنّ أهل خُراسان نقضوا وجمعوا جمْعًا كثيرًا وعسكروا
بمرو، فنهض لقتالهم الأحنف وقتلهم فهزمهم، وكانت وقعة مشهورة.
ثُمَّ قدم ابن عامر من المدينة إلى البصرة، فلم يزل عليها إلى أن
قُتِلَ عثمان وكذا معاوية على الشام.
ولما فتح ابن عمر هذه البلاد الواسعة كثُرَ الخراجُ على عثمان وأتاه
المال من كلّ وجه اتّخذ له الخزائن وأدَرّ الأرزاق، وكان يأمر للرجل
بمائة ألف بدرة في كل بدرة أربعة آلاف وافية.
ثُمَّ دخلت سَنَة إحدى وَثلاثِين:
قَالَ أَبُو عبيد الله الحاكم: أجمع مشايخنا على أنّ نيْسابُور
فُتِحَتْ صُلْحًا، وكان فتْحُها في سنة إحدى وثلاثين. ثمّ روى بإسناده
إلى مُصْعَب بْن أبي الزَّهْراء أنّ كنارى صاحب نيْسَابور كتب إلى سعيد
بْن العاص والي الكوفة، وإلى عبد الله بْن عامر والي البصرة، يدعوهما
إلى خُراسان ويُخْبرهما أنّ مَرْو قد قتل أهلَهَا يَزْدَجِرْد.
فندب سعيد بْن العاص الحَسَن بْن عليّ وعبد الله بْن الزُّبَيْر لها،
فأتى ابن عامر دهقان فَقَالَ: مَا تجعل لي إنْ سبقتُ بك؟ قَالَ: لك
خراجُك وخراج أهل بيتك إلى يوم القيامة، فأخذ به على قُومِس، وأسرع إلى
أنْ نزل على نيْسابور، فقاتل أهلها سبعة أشهرٍ ثمّ فتحها، فاستعمله
عثمان عليها أيضًا، وكان ابنَ خالةِ عثمان.
ويقال: تفل النّبيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في فيه وهو
صغير.
(3/112)
وفيها قَالَ خليفة: أحرم عبد الله بْن عامر
من نَيْسابور، واستخلف قيس بْن الهيثم وغيره على خُرَاسان، وقيل إنّ
ذلك كان في السنّة الماضية.
وفيها غزوة الأساود، فغزا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي
سَرْحٍ من مصر في البحر، وسار فيه إلى ناحية مصيصة.
سنة اثنتين وثلاثين:
فيها كانت وقعة المضيق بالقرب من قسطنطينية، وأميرها معاوية.
سنة ثلاث وثلاثين:
فيها كانت غزوة قبرص. قَالَ ابن إسحاق وغيرُه.
وغزوة إفريقية، وأمير النّاس عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي
سَرْحٍ، قاله اللَّيْث.
وفيها قَالَ خليفة: جمع قارن جمعًا عظيمًا بباذَغِيس وهُرَاة، وأقبل في
أربعين ألفًا فتررك قيس بن الهيثم لابلاد وهرب، فقام بأمر المُسْلِمين
عبدُ الله بْن خازم السُّلَميّ، وجمع أربعة آلاف مقاتل، والتقى هو
وقارن، ونصره الله وقُتِل وسَبَى، وكتب إلى ابن عامر بالفتح، فاستعمله
ابن عامر على خراسان، ثمّ وجَّه ابن عامر عبد الرحمن بْن سَمُرَة على
سجستان، فصالحه صاحب زرن وبقي بها حتّى حُوصِر عثمان.
قَالَ خليفة: وفيها غزا معاوية مَلَطْية وحصن المَرَة من أرض الرُّوم.
قَالَ: وفيها غزا عبدُ الله بْن أبي سَرْح الحَبَشَة، فأصيبت فيها عينُ
معاوية بن حديج.
سَنَة أربَعٍ وَثلَاثِين:
فيها وثب أهل الكوفة على أميرهم سعيد بْن العاص فأخرجوه، ورضوا بأبي
موسى الأشعريّ، وكتبوا فيه إلى عثمان فولّاه عليهم، ثمّ إنّه بعد قليل
ردّ إليهم الإمْرة سعيد بْن العاص فخرجوا ومنعوه.
وفيها كانت غزوة ذات الصَّواري في البحر من ناحية الإسكندرية، وأميرها
ابن أبي سرح.
(3/113)
سَنَة خَمسْ وَثَلَاثيْن:
فيها غزوة ذي خُشُب وأمير المُسْلِمين عليها معاوية. وفيها حجّ بالنّاس
وأقام الموسمَ عبدُ الله بْن عباس.
وفيها مَقْتَلُ عثمان -رضي الله عنه: خرج المصرّيون وغيرهم على عثمان
وصاروا إليه ليخلعوه من الخلافة.
قَالَ إسماعيل بْن أبي خالد: لمّا نزل أهل مصر الجُحْفَة، وَأَتَوْا
يعاتبون عثمانَ صعِد عثمانُ المِنْبَر فَقَالَ: جزاكم اللَّهُ يا أصحاب
محمد عنّي شرًّا: أَذَعْتُمُ السَّيِّئةَ وكتمتم الْحَسَنَةَ، وأغريتم
بي سُفَهاءَ النّاس، أيُّكُم يذهب إلى هؤلاء القوم فيسألهم مَا نقموا
وما يريدون؟ قَالَ ذلك ثلاثًا ولا يُجيبه أحد.
فقام عليٌّ فَقَالَ: أنا، فَقَالَ عثمان: أنت أقربهم رَحِمًا، فأتاهم
فرحّبوا به، فَقَالَ: مَا الَّذِي نَقَمْتُم عليه؟ قالوا: نَقَمْنا
أنّه محا كتاب الله -يعني كونه جمع الأمَّة على مُصْحَفٍ- وحمى
الْحِمَى، واستعمل أقرباءه، وأعطى مروان مائة ألف، وتناول أَصْحَابِ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: فردّ عليهم عثمان: أمّا القرآن فمن عند الله، إنّما نهيتُكم
عَنِ الاختلاف فاقرءوا عليَّ أيَّ حرفٍ شئتم، وأمّا الْحِمَى
فَوَاللَّهِ مَا حميته لإبلي ولا لغنمي، وإنما حميْتُه لإِبل
الصَّدَقَةِ. وأمّا قولُكم: إنّي أعطيت مروان مائة ألفٍ. فهذا بيتُ
مالِهِم فلْيستعملوا عليه من أحبَّوا، وأمّا قولُكم: تناول أَصْحَابِ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فإنّما أنا بشر
أغضب وأرضى، فمن ادَّعَى قبَلي حقًّا أو مَظْلِمَةً فهأنذا، فإنْ شاء
قَوَدًا وإنْ شاء عَفْوًا. فرضي النّاس واصطلحوا ودخلوا المدينة.
وَقَالَ محمد بْن سعد: قالوا رحل من الكوفة إلى المدينة: الأشتر
النَّخَعِيّ - واسمه مالك بْن الحارث، ويزيد بْن مكفّف، وثابت بْن قيس،
وَكُمَيْلُ بْن زياد، وزيد، وصعصعة ابنا صُوحان، والحارث الأعور،
وجُنْدُب بْن زُهَير، وأصفر بْن قيس، يسألون عثمان عزل سعيد بن العاص
عنهم. فرحل سعد أيضًا إلى عثمان فوافقهم عنده، فأبى عثمان أن يعزله،
فخرج الأشتر من ليلته في نفرٍ، فسار عشرًا إلى الكوفة واستولى عليها
وصعد المنبر عليها فَقَالَ: هذا سعيد بْن العاص قد أتاكم
(3/114)
يزعم أنّ السَّواد بستان لأغَيلِمَةٍ من
قريشٍ، والسواد مساقط رءوسكم ومراكز رماحكم، فمن كان يرى الله حقًّا
فلْينهض إلى الجَرَعة1، فخرج النّاس فعسكروا بالجَرَعَة، فأقبل سعيد
حتى نزل العّذَيب، فجهّز الأشتر إليه ألفَ فارسٍ مع يزيد بْن قيس
الأرحبيّ، وعبد الله بْن كِنَانَة العبْدِيّ، فَقَالَ: سيروا وأزعِجاه
وألْحِقاه بصاحبه، فإنْ أَبَى فاضْرِبا عُنُقَه، فَاتَيَاهُ، فلمّا رأى
منهما الجدّ رجع.
وصعد الأشترُ منبرَ الكوفة وَقَالَ: يا أهل الكوفة مَا غضبت إلّا لله
ولكم، وقد ولَّيت أبا موسى الأشعريّ صلاتَكم، وحُذَيْفَة بْن اليَمَان
فَيْئَكُم، ثمّ نزل وَقَالَ: يا أبا موسى اصعَدْ، فَقَالَ: مَا كنت
لأفعل، ولكنْ هَلُمُّوا فبايعوا لأمير المؤمنين وجدّدوا البيعة في
رِقابكم، فأجابه النّاس. وكتب إلى عثمان بما صنع، فأعجب عثمان، فَقَالَ
عُتْبَة بْن الوعل شاعر الكوفة:
تصدق علينا يابن عفّان واحتسِبْ ... وَأْمُرْ علينا الأشْعَريَّ
لَيالِيا
فَقَالَ عثمان: نعم وشهورًا وسنين إنْ عِشْتُ، وكان الَّذِي صنع أهل
الكوفة بسعيد أول وَهْنٍ دخل على عثمان حين اجترئ عليه.
وعن الزُّهْرِيّ قَالَ: وُلِّيَ عثمان، فعمل ستّ سِنين لَا ينقم عليه
النّاس شيئًا، وإنّه لأحبّ إليهم من عُمَر؛ لأنّ عُمَر كان شديدًا
عليهم، فلمّا ولِيهَم عثمان لان لهم ووَصَلَهم، ثمّ إنّه توانى في
أمرهم، واستعمل أقرباءه وأهل بيته في السّتَ الأواخر، وكتب لمروان
بخُمْس مصر أو بخُمْس إفريقية، وآثر أقرباءه بالمال، وتأوّل في ذلك
الصِّلة التي أمر الله بها. واتّخذ الأموال، واستسلف من بيت المال،
وقال: إن أبا بكر وعمر تركا من ذلك مَا هو لهما، وإنّي أخذته فقسَّمته
في أقربائي، فأنكر النّاس عليه ذلك.
قلت: وممّا نقموا عليه أنّه عزل عُمَيْر بْن سعد عَنْ حمص، وكان صالحًا
زاهدًا، وجمع الشام لمعاوية، ونزع عَمْرو بْن العاص عَنْ مصر، وأمَّر
ابن أبي سَرْحٍ عليها، ونزع أبا موسى الأشعريّ عَنِ البصرة، وأمرّ
عليها عبد الله بْن عامر، ونزع المُغِيرَة بْن شُعْبة عَنِ الكوفة
وأمّر عليها سعيد بن العاص.
__________
1 الجرعة: موضع قرب الكوفة.
(3/115)
وقال القاسم بن الفضل: حدثنا عَمْرُو بْنُ
مُرَّةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: دَعَا عُثْمَانُ
نَاسًا مِنَ الصَّحَابَةِ فيهم عمار فقال: إني سألتكم وَأُحِبُّ أَنْ
تَصْدُقُونِي: نَشَدْتُكُمُ اللَّهَ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يؤثر قريشًا على سائر
الناس، ويؤصر بَنِي هَاشِمٍ عَلَى سَائِرِ قُرَيْشٍ؟ فَسَكَتُوا،
فَقَالَ: لَوْ أَنَّ بِيَدِي مَفَاتِيحَ الْجَنَّةِ لأَعْطَيْتُهَا
بَنِي أُمَيَّةَ حَتّى يَدْخُلُوهَا.
وعن أبي وائل أنّ عبد الرحمن بْن عَوْف كان بينه وبين عثمان كلّام
فأرسل إليه: لِمَ فَرَرْتَ يوم أُحُد وتخلَّفْت عَنْ بدْر وخالفت سنة
عمر؟ فأرسل إليه: تخلفت عن بدر لأنّ بنتَ رَسُول اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شغلتني بمرضها، وأمّا يوم أُحُد فقد عفا
الله عنّي، وأمّا سُنَّةُ عُمَر فَوَاللَّهِ مَا استطعتها أنا ولا أنت.
وقد كان بين عليّ وعثمان شيءٌ فمشى بينهما العباس فَقَالَ عليّ:
واللَّهِ لو أمرني أن أخرج من داري لفعلت، فأمّا أُدَاهِن أنْ لَا
يُقام بكتاب الله فلم أكن لأفعل.
وَقَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ يَزِيدَ
الْفَقْعَسِيِّ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ ابْنُ السَّوْدَاءِ إِلَى مِصْرَ
نَزَلَ على كنانة بن بشر مرة، وعلى كنانة بن حمران مرة، وانقطع إلى
الغافقي فشجه الْغَافِقِيِّ فَكَلَّمَهُ، وَأَطَافَ بِهِ خَالِدُ بْنُ
مُلْجِمٍ، يُجِيبُونَ إِلَى الْوَصِيَّةِ، فَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِنَابِ
الْعَرَبِ وَحِجْرِهِمْ، وَلَسْنَا مِنْ رِجَالِهِ، فَأَرُوهُ
أَنَّكُمْ تَزْرَعُونَ، وَلا تَزْرَعُوا الْعَامَ شَيْئًا حَتَّى
تَنْكَسِرَ مِصْرُ، فَتَشْكُوهُ إِلَى عُثْمَانَ فَيَعْزِلُهُ
عَنْكُمْ، وَنَسْأَلُ مَنْ هو أضعف منه ونخلوا بما نريد، ونذر الأَمْرَ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَكَانَ أَسْرَعَهُمْ
إِلَى ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ، وَهُوَ ابْنُ خَالِ
مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ يَتِيمًا فِي حِجْرِ عثمان، فكبر، وَسَأَلَ
عُثْمَانَ الْهِجْرَةَ إِلَى بَعْضِ الأَمْصَارِ، فَخَرَجَ إِلَى
مِصْرَ، وَكَانَ الَّذِي دَعَاهُ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ سَأَلَ
عُثْمَانَ الْعَمَلَ فَقَالَ: لَسْتَ هُنَاكَ.
قَالَ: فَفَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ ابْنُ السَّوْدَاءِ، ثُمَّ
إِنَّهُمْ خَرَجُوا وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْهُم، وَشَكَوْا عَمْرًا
وَاسْتَعْفَوْا مِنْهُ، وَكُلَّمَا نَهْنَهَ عُثْمَانُ عَنْ عَمْرٍو
قَوْمًا وَسَكَّتَهُمُ انْبَعَثَ آخَرُونَ بِشَيْءٍ آخَرَ، وَكُلُّهُمْ
يَطْلُبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، فَقَالَ
لَهُمْ عُثْمَانُ: أَمَّا عَمْرٌو فَسَنَنْزِعُهُ عَنْكُمْ وَنُقِرُّهُ
عَلَى الْحَرْبِ، ثُمَّ وُلِّيَ ابْنُ أَبِي سَرْحٍ خَرَاجَهُمْ،
وَتَرَكَ عَمْرًا عَلَى الصَّلاةِ فَمَشَى فِي ذَلِكَ سودَانُ،
وَكِنَانَةُ بن بشر،
(3/116)
وخارجة، فيما بين عبد الله بن سعد،
وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَأَغْرَوْا بَيْنَهُمَا حَتَّى تَكَاتَبَا
عَلَى قَدْرِ مَا أَبْلَغُوا كُلَّ وَاحِدٍ. وَكَتَبَا إِلَى
عُثْمَانَ، فَكَتَبَ ابْنُ أَبِي سَرْحٍ: إِنَّ خَرَاجِي لا
يَسْتَقِيمُ مَا دَامَ عَمْرٌو عَلَى الصَّلاةِ. وَخَرَجُوا
فَصَدَّقُوهُ وَاسْتَعْفَوْا مِنْ عَمْرٍو، وَسَأَلُوا ابْنَ أَبِي
سَرْحٍ، فَكَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى عَمْرٍو: أَنَّهُ لا خَيْرَ لَكَ فِي
صُحْبَةِ مَنْ يَكْرَهُكَ فَأَقْبَلَ. ثُمَّ جَمَعَ مِصْرَ لابْنِ
أَبِي سَرْحٍ.
وقد رُوِيَ أنّه كان بين عمّار بْن ياسر، وبين عبّاس بْن عُتْبَة بْن
أبي لهب كلام، فضربهما عثمان.
وَقَالَ سَيْفٌ، عَنْ مُبَشِّرٍ، وَسَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قَدِمَ عَمَّارُ
بْنُ يَاسِرٍ مِنْ مِصْرَ وَأَبِي شَاكٍ، فَبَلَغَهُ، فَبَعَثَنِي
إِلَيْهِ أَدْعُوهُ، فَقَامَ مَعِي وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ وَسِخَةٌ
وَجُبَّةُ فِرَاءَ. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى سَعْدٍ قَالَ لَهُ: وَيْحَكَ
يَا أَبَا الْيَقْظَانِ إِنْ كُنْتَ فِينَا لَمِنْ أهل الخير، فما الذي
بَلَغَنِي عَنْكَ مِنْ سَعْيِكَ فِي فَسَادٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ
وَالتَّأْلِيبِ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، أَمَعَكَ عَقْلُكَ أم
لا؟ فأهوى عمار على عِمَامَتِهِ وَغَضِبَ فَنَزَعَهَا وَقَالَ:
خَلَعْتُ عُثْمَانَ كَمَا خلعت عمامتي هذه، فقال: {إِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون} 1 وَيْحَكَ حِينَ كَبِرَتْ سِنُّكَ
وَرَقَّ عَظْمُكَ وَنَفِدَ عُمْرُكَ خَلَعْتَ رِبْقَةَ2 الإِسْلامِ
مِنْ عُنُقِكَ وَخَرَجْتَ من الدين عريانًا، فَقَامَ عَمَّارٌ
مُغْضَبًا مُوَلِيًّا وَهُوَ يَقُولُ: أَعُوذُ بِرَبِّي مِنْ فِتْنَةِ
سَعْدٍ، فَقَالَ سَعْدٌ: أَلا في الفتنة سقطوا، اللهم زد عُثْمَانَ
بِعَفْوِهِ وَحِلْمِهِ عِنْدَكَ دَرَجَاتٍ، حَتَّى خَرَجَ عَمَّارٌ
مِنَ الْبَابِ، فَأَقْبَلَ عَلَى سَعْدٍ يَبْكِي حَتَّى اخْضَلَّ
لِحْيَتَهُ وَقَالَ: مَنْ يَأْمَنِ الْفِتْنَةَ يَا بُنَّيَّ لا
يَخْرُجَنَّ مِنْكَ مَا سَمِعْتَ منه، فإنه مِنَ الأَمَانَةِ، وَإِنِّي
أَكْرَهُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ النَّاسُ عَلَيْهِ يَتَنَاوَلُونَهُ،
وَقَدْ قَالَ رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"الْحَقُّ مَعَ عَمَّارٍ مَا لَمْ تَغَلَّبْ عَلَيْهِ دَلْهَةُ
الْكِبَرِ"3، فَقَدْ دَلِهَ4 وَخَرِفَ.
وممّن قام على عثمان محمد بْن أبي بكر الصِّدِّيق، فسئل سالم بْن عبد
الله فيما قيل عَنْ سبب خروج محمد، قَالَ: الغضب والطَّمَع، وكان من
الإسلام بمكان، وغرَّه أقوامٌ فطمِع، وكانت له دالَّة، ولزمه حق، فأخذه
عثمان من ظهره.
__________
1 سورة البقرة: 156.
2 الربقة: حبل ذو عرى.
3 إسناده ضعيف جدا: سيف متروك.
4 الدله: الحيرة.
(3/117)
وحجّ معاوية، فقيل إنّه لمّا رأى لِينَ
عثمان واضطرب أمرِه قَالَ: انطلِقْ معي إلى الشام قبل أن يهجم عليك من
لَا قِبَل لك به، فإنّ أهل الشام على الطّاعة، فَقَالَ: إنا لَا أبيع
جوارَ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بشيءٍ وإنْ كان
فيه قطْعُ خَيْطِ عُنُقي، قَالَ: فأبعثُ إليك جُنْدًا، قَالَ: أنا
أقُتِّر على جيران رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
الأرزاقَ بجُنْدٍ تُساكِنُهُم! قَالَ: يا أمير المؤمنين واللَّهِ
لَتُغْتَالَنَّ ولَتُغْزَيَنَّ، قَالَ: "حَسْبيَ اللَّهُ ونِعْم
الوكيل".
وقد كان أهل مصر بايعوا أشياعهم من أهل الكوفة والبصرة وجميع من
أجابهم، واتعدوا يومًا على شخص أمراؤهم، فلم يستقم لهم ذلك، لكنّ أهل
الكوفة ثار فيهم يزيد بْن قيس الأرحبيّ واجتمع عليه ناس، وعلى الحرب
يَوْمَئِذٍ القعقاع بن عمرو، فأتاه وأحاط الناس بهم فناشدوهم، وقال
يزيد للقعقاع: ما سبيلك علي وعلى هؤلاء، فَوَاللِه إنّي لَسَامعٌ
مُطيعٌ، وإنّي لازمٌ لجماعتي إلّا أني أستعفي من إمارة سعيد، ولم
يُظهروا سوى ذلك، واستقبلوا سعيدًا فردّوه من الجَرعَة، واجتمع النّاس
على أبي موسى فأقرّه عثمان.
ولمّا رجع الأمراء لم يكن للسّبائّية سبيل إلى الخروج من الأمصار،
فكاتبوا أشياعهم أن يتوافوا بالمدينة لينظروا فيما يريدون، وأظهروا
أنّهم يأمرون بالمعروف، وأنّهم يسألون عثمان عَنْ أشياء لتطِيرَ في
النَّاس ولتُحَقَّقَ عليه، فَتَوافوا بالمدينة، فأرسل عثمان رجلين من
بني مخزوم ومن بني زهرة فقال: انظرا مَا يريدون، وكانا ممّن ناله من
عثمان أدبٌ، فاصطبرا للحقّ ولم يَضْطَغِنا، فلمّا رأوهما أتوهما
وأخبروهما، فَقَالَا: من معكم على هذا من أهل المدينة؟ قالوا: ثلاثة،
قالا: فكيف تصنعون؟ قالوا: نريد أن نذكر له أشياء قد زرعناها في قلوب
النَّاس، ثمّ نرجع إليهم ونزعم لهم أنّا قرّرناه بها، فلم يخرج منها
ولم يتُبْ، ثمّ نخرج كأنّنا حُجَّاج حتّى نقدِمَ فنحيط به فنخلَعَهُ،
فإنْ أبى قتلناه.
فرجعا إلى عثمان بالخبر، فضحك وَقَالَ: اللَّهُمَّ سلِّم هؤلاء فإنَّك
إنْ لم تسلّمهم شَقُّوا. فامّا عمّار فحمل عليّ عباس بْن أبي لهب
وعَرَكه، وأمّا محمد بْن أبي بكر فإنّه أُعْجِب حتّى رأى أنّ الحقوق
لَا تلزمه، وأما ابن سارة فإنّه يتعرض للبلاء.
(3/118)
وأرسل إلى المصرين والكوفيّين، ونادى:
الصّلاة جامِعَة -وهم عنده في أصل المنبر- فأقبل أصحابُ رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فحمد الله وأثنى عليه،
وأخبرهم بالأمر، وقام الرجلان، فَقَالَ النّاس: اقتل هؤلاء فَإِنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "من دعا
إلى نفسه أو إلى أحدٍ، وعلى النَّاس إمامٌ فعليه لعنةُ الله فاقتلوه"1.
وَقَالَ عثمان: بل نعفو ونقبل، ونبصِّرُهم بجهدنا، إنّ هؤلاء قالوا:
أتمّ الصلاة في السّفر، وكانت لَا تُتَمّ، ألا وإني قدمت بلدًا فيه
أهلي فأتتمت لهذا.
قالوا: وحميت الحِمَى، وإنّي واللَّهِ مَا حميت إلا حُمِيَ قبلي، وإني
قد وُلِّيتُ وإنّي لَأكْثَرُ العرب بعيرًا وشاءً، فما لي اليوم غيرُ
بعيرَيْن لحَجَّتي، أكذلك؟ قالوا: نعم.
قَالَ: وقالوا: كان القرآن كُتُبًا فتركها إلّا واحدًا، ألا وإنّ
القرآنَ واحدٌ جاء من عند واحدٍ، وإنّما أنا في ذلك تابعٌ هؤلاء،
أكذلك؟ قالوا: نعم.
وقالوا: إنّي رددت الحَكَمَ وقد سيّره رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الطّائف ثمّ ردّه، فرسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سيّره وهو ردَّه، أفَكَذاك؟ قالوا: نعم.
وقالوا: استعملت الأحداثَ. ولم أستعمِل إلّا مُجْتَمَعًا مَرْضِيًّا،
وهؤلاء أهل عملي فسلوهم، وقد ولّي من قبلي أحدثَ منه، وقيل في ذَلِكَ
لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أشد ممّا قيل
لي في استعماله أُسامة، أكذلك؟ قالوا: نعم.
وقالوا: إنّي أعطيت ابنَ أبي سَرْح مَا أفاء اللَّهُ عليه، وإنّي إنّما
نَفَلْتُهُ خُمْس الخُمْسِ، فكان مائة ألف، وقد نَفَل مثل ذلك أَبُو
بكر وعمر، وزعم الجُنْد أنّهم يكرهون ذلك فردَدْتُهُ عليهم، وليس ذلك
لهم، أكذلك؟ قالوا: نعم.
وقالوا: إنّي أحبّ أهلي وأعْطيهم، فأما حبهم فلم يوجب جورًا، وأمّا
إعطاؤهم، فإنّما أُعطيهم من مالي. ولا أستحلُّ أموالَ المُسْلِمين
لنفسي ولا لأحدٍ. وكان قد قسم ماله وأرضه في بني أُميَّة، وجعل ولده
كبعض من يُعطى.
__________
1 أخرج مسلم معناه "1852/ 60" في كتاب الإمارة، باب: حكم من فرق أمر
المسلمين وهو مجتمع، عن عرفجة قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "من أتاكم وأمركم جميع على رجل
واحد، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم، فاقتلوه".
(3/119)
قَالَ: ورجع أولئك إلى بلادهم وعفا عنهم،
قَالَ: فتكاتبوا وتواعدوا إلى شوَّال، فلمّا كان شوَّال خرجوا
كالحُجَّاج حتّى نزلوا بقرب المدينة، فخرج أهل مصر في أربعمائة،
وأمراؤهم عبد الرحمن بْن عُدَيْس البَلَوِيّ، وكِنَانة بْن بِشْر
اللَّيْثي، وسُودان بْن حُمْران السَّكُونيّ، وقُتَيْرة السَّكُونيّ،
ومقدّمهم الغافقيّ بْن حرب الْعَكْي، ومعهم ابن السَّوْداء.
وخرج أهل الكوفة في نحو عدد أهل مصر، فيهم زيد بْن صوجان العَبْدِيّ،
والأشتر النَّخَعِيّ، وزياد بْن النَّضْر الحارثي، وعبد الله بْن
الأصَمّ، ومقدّمهم عمرو بْن الأصم.
وخرج أهل البصرة وفيهم حُكَيْم بْن جَبَلَة، وذريح بْن عبّاد
العبديّان، وبِشْر بْن شُرَيْح القَيْسي، وابن مُحَرِّش الحنفيّ،
وعليهم حُرْقُوص بْن زُهَير السَّعْدِيّ.
فأمّا أهل مصر فكانوا يشتهون عليًّا، وأمّا أهل البصرة فكانوا يشتهون
الزُّبَيْر، وأما أهل الكوفة فكانوا يشتهون طَلْحَةَ، وخرجوا ولا تشكُّ
كلُّ فِرْقةٍ أن أمرها سيتمّ دون الأخرى، حتّى كانوا من المدينة على
ثلاثٍ، فتقدّم ناسٌ من أهل البصرة فنزلوا ذا خُشُب. وتقدّم ناسٌ من أهل
الكوفة فنزلوا الأعوص1، وجاءهم أُناسٌ من أهل مصر، ونزل عامَّتُهم بذي
المَرْوَة، ومشى فيما بين أهل البصرة وأهلِ مصر زياد بْن النّضْر، وعبد
الله بْن الأصَمّ ليكشفوا خبرَ المدينة، فدخلا فلقيا أزواج النّبيّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وطلحةً، والزُّبَيْر، وعليًّا،
فَقَالَا: إنّما نَؤُمُّ هذا البيتَ، ونستعفي من بعض عُمّالنا،
واستأذنوهم للناس بالدخول، فكلُّهم أَبَى وَنَهَى. فرجعا، فاجتمع من
أهل مصر نفرٌ فأتوا عليًّا، ومن أهل البصرة نفرٌ فأتوا الزُّبَيْر، ومن
أهل الكوفة نفر فأتوا طلحة، وقال كل فريق منهم: إن باعنا صاحِبَنا
وإلّا كِدْناهم وفرَّقْنا جماعتَهم، ثمّ كَرَرْنا حتَّى نَبْغَتَهُم.
فأتى المصريون عليًّا وهو في عسكر عند أحجار الزَّيت2، وقد سرَّح ابنه
الحسن إلى عثمان فيمن اجتمع إليه، فسلّم على عليٍّ المصريون، وعرضوا
له، فصاح بهم وطردهم وَقَالَ: لقد علم الصّالحون أنّكم ملعونون،
فارجِعُوا لَا صَحِبَكُم الله، فانصرفوا، وفعل طلْحة والزبير نحو ذلك.
__________
1 الأعوص: موضع قرب المدينة.
2 أحجار الزيت: موضع بالمدينة.
(3/120)
فذهب القوم وأظهروا أنهم راجعون إلى
بلادهم، فذهب أهلُ المدينة إلى منازلهم، فلمّا ذهب القوم إلى عساكرهم
كرّوا بهم، وبغتوا أهل المدينة ودخلوها وضجُّوا بالتّكبير، ونزلوا في
مواضع عساكرهم، وأحاطوا بعثمان وقالوا: من كفَّ يدَه فهو آمن.
ولزِمَ النَّاس بيوتهم، فأتى عليّ -رضي الله عنه- فَقَالَ: مَا
رَدَّكُم بعد ذَهَابِكم? قالوا: وجدنا مع بريدٍ كتابًا بقتْلِنا،
وَقَالَ الكوفيّون والبصريّون: نحن نمنع إخواننا وننصرهم. فعلم النَّاس
أنّ ذلك مكرٌ مِنهم.
وكتب عثمان إلى أهل الأمصار يستمدُّهم، فساروا إليه على الصَّعْب
والذّلُول، فبعث معاوية إليه حبيب بْن مسْلَمَة، وبعث ابنُ أبي سَرْح
معاوية بْن حُدَيْج وسار إليه من الكوفة القعْقاع بْن عمرو.
فلما كان يوم الجمعة صلّى عثمان بالناس وخطب فقال: يا هؤلاء الغزاة
الله الله، فَوَاللَّهِ إنّ أهل المدينة ليعلمون أنكم ملعونون عَلَى
لِسَانِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فامْحُوا الخطأ
بالصواب، فإنّ الله لا يمحو السيئ إلّا بالحسن، فقام محمد بْن مسْلَمَة
فَقَالَ: أنا أشهد بذلك، فأقعده حُكَيْم بْن جَبَلَة، فقام زيد بن ثابت
فقال: ابغني الكتاب، فثار إليه من ناحيةٍ أخرى محمد بْن أبي قُتَيْرَة
فأقعده وتكلّم فأفظَع، وثار القوم بأجمعهم. فحصبوا النّاس حتى أخرجوهم،
وحصبوا عثمان حتى صرع عن المنبر مَغْشِيًّا عليه، فاحتُمِل وأُدْخِل
الدَّار.
وكان المصريون لَا يطمعون في أحدٍ من أهل المدينة أن ينصرهم إلّا
ثلاثة، فإنّهم كانوا يُراسلونهم، وهم: محمد بْن أبي بكر الصِّدِّيق،
ومحمد بْن جعفر، وعمّار بْن ياسر.
قَالَ واستقل أُناس: منهم زيد بْن ثابت، وأبو هُرَيْرَةَ، وسعد بْن
مالك، والحسن بْن عليّ، ونهضوا لنُصْرة عثمان، فبعث إليهم يعزم عليهم
لمّا انصرفوا، فانصرفوا، وأقبل عليّ حتّى دخل على عثمان هو وطلْحَة
والزُّبَيْر يعودونه من صَرْعَتِه، ثم رجعوا منازلهم.
وَقَالَ عمرو بْن دينار، عَنْ جابر قَالَ: بَعَثَنَا عثمان خمسين
راكبًا، وعلينا
(3/121)
محمد بْن مسْلَمَة حتى أتينا ذا خُشُب،
فإذا رجلٌ مُعَلِّقٌ المُصْحَف في عُنُقه، وعيناه تَذْرِفان، والسيف
بيده وهو يَقُولُ: ألا إنّ هذا -يعني المُصْحَف- يأمرنا أن نضرب بهذا
-يعني السيف- على مَا في هذا -يعني المُصْحَف- فَقَالَ محمد بْن
مسْلَمَة: اجلس فقد ضربنا بهذا على ما في هذا قبلك، فجلس فلم يزل
يكّلِمهم حتّى رجعوا.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ، عَنْ
عَمْرٍو، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ الْمِصْرِييِّنَ لَمَّا أَقْبَلُوا
يُرِيدُونَ عُثْمَانَ دَعَا عُثْمَانُ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ
فَقَالَ: اخْرُجْ إِلَيْهِمْ فَارْدُدْهُمْ وَأَعْطِهِمُ الرِّضَا،
وَكَانَ رُؤَسَاؤُهُمْ أَرْبَعَةً: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُدَيْسٍ،
وَسُودَانُ بْنُ حُمْرَانَ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَمِقِ الْخُزَاعِيُّ،
وَابْنُ النِّبَاعِ، فَأَتَاهُمُ ابْنُ مَسْلَمَةَ، فَلَمْ يَزَلْ
بِهِمْ حَتَّى رَجَعُوا، فَلَمَّا كَانُوا بِالْبُوَيْبِ1 رَأَوْا
جَمَلًا عَلَيْهِ ميسم الصدقة، فأخذوه، فإذا غلام لعثمان، ففتشوا
متاعه، فوجدوا صبة مِنْ رَصَاصٍ، فِيهَا كَتَابٌ فِي جَوْفِ
الإِدَاوَةِ فِي الْمَاءِ: إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ
أَبِي سَرْحٍ أَنِ افْعَلْ بِفُلانٍ كَذَا، وَبِفُلانٍ كَذَا، مِنَ
الْقَوْمِ الَّذِينَ شَرَعُوا فِي قَتْلِ عُثْمَانَ، فَرَجَعَ
الْقَوْمِ ثَانِيَةً وَنَازَلُوا عُثْمَانَ وَحَصَرُوهُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ،
عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَنْكَرَ عُثْمَانُ أَنْ يَكُونَ كَتَبَ ذَلِكَ
الْكِتَابَ وَقَالَ: فُعِلَ ذَلِكَ بِلا أَمْرِي.
وَقَالَ أَبُو نَضْرَةَ، عَنْ أبي سعيد مولى أُسَيْد، فذكر طَرَفًا من
الحديث، إلى أن قَالَ: ثُمَّ رجعوا راضين، فبينما هم بالطريق ظفروا
برسولٍ إلى عامل مصر أن يُصَلِّبهم ويفعل، فردّوا إلى المدينة، فأتوا
عليًّا فقالوا: ألم تر إلى عدّو الله، فقُم معنا، قَالَ: واللَّهِ لَا
أقوم معكم، قالوا: فلم كتبت إلينا؟ قَالَ: واللَّهِ مَا كتبت إليكم،
فنظر بعضهم إلى بعض. وخرج عليٌّ من المدينة، فانطلقوا إلى عثمان
فقالوا: أَكَتَبْتَ فينا بكذا؟ فَقَالَ: إنّما هما اثنان، تُقِيمون
رجُلَين من المسلمين -يعني شاهدين- أو يميني بالله الَّذِي لَا إله
إلّا هو مَا كتبت ولا علِمْتُ، وقد يكتب الكتاب على لسان الرجل
ويُنْقَش الخاتم، فقالوا: قد أحَلَّ اللُه دَمَك، ونُقض العهد
والميثاق، وحصروه في القصر.
وَقَالَ ابن سيرين: إنّ عثمان بعث إليهم عليًّا فقال: تعطون كتاب الله
__________
1 البويب: مدخل أهل الحجاز إلى مصر.
(3/122)
وتُعَتَّبُون من كلّ مَا سخِطْتُم، فأقبل
معه ناسٌ من وجوههم، فاصطلحوا على خمسٍ: على أنّ المَنْفيَّ يُقْلب،
والمحروم يُعْطَى، ويوفَّر الفَيْء، وَيُعْدَلُ في القسم، ويستعمل ذو
الأمانة والقوّة، كتبوا ذلك في كتاب، وأن يردّوا ابن عامر إلى البصرة
وأبا موسى إلى الكوفة.
وَقَالَ أَبُو الأشهب، عَنِ الحسن قَالَ: لقد رأيتهم تحاصبوا في المسجد
حتّى مَا أبصر السماء، وإن رجلًا رفع مصحفه من حُجُرات النّبيّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثمّ نادى: ألم تعلموا أن محمدًا قد برئ
ممّن فرَّقُوا دِينَهم وكانوا شيعًا.
وَقَالَ سلّام: سمعت الحسن قَالَ: خرج عثمان يوم الجمعة، فقام إليه رجل
فَقَالَ: أسألك كتاب الله، فقال: ويْحَك، أليس معك كتاب الله! قَالَ:
ثمّ جاء رجلٌ آخر فنهاه، وقام آخر، وآخر، حتّى كَثُرُوا، ثمّ تحاصبوا
حتّى لم أر أديمَ السماء.
وروى بِشْر بْن شَغَاف، عَنْ عبد الله بْن سلّام قَالَ: بينما عثمان
يخطُب، فقام رجل فنال منه، فَوَذَأْتُه فاتَّذَأ فَقَالَ رجل: لَا
يمنعك مكان ابن سلام أن تسب نعثلًا، فإنه من شيعته، فقال له: لقد قلتَ
القولَ العظيم في الخليفة من بعد نوح.
وَذَأْتُه: زَجَرْتُه وقمعتُه.
وقالوا لعثمان "نعثلا" تشبهًا له برجلٍ مصريّ اسمه نَعْثَل كان طويل
اللّحْية.
والنَّعْثَل: الذَّكَر من الضِّباع، وكان عُمَر يُشَبَّه بنوحٍ في
الشِّدَّة.
وَقَالَ ابن عُمَر: بينما عثمان يخطب إذ قام إليه جَهْجاه الغفاريّ،
فأخذ من يده العصا فكسرها على رُكْبَته، فدخلت منها شظِيَّةٌ في
رُكِبْته، فوقعت فيها الأكِلَة.
وَقَالَ غيره: ثمّ إنّهم أحاطوا بالدّار وحصروه، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ يَقُولُ: إِنْ
وَجَدْتُمْ فِي الْحَقِّ أَنْ تَضَعُوا رجليَّ فِي الْقَيْدِ
فَضَعُوهُمَا.
وَقَالَ ثُمَامة بْن حَزْن القُشَيْرِيّ: شهِدْتُ الدّار وأشرف عليهم
عثمان فَقَالَ:
(3/123)
ائتوني بصاحبيكم اللّذين ألَّباكم، فدعيا
له كأنّهما جملان أو حماران، فَقَالَ: أنْشُدُكم الله أتعلمون أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قدم المدينة وليس
فيها ماء عذب ولا بئر رومة، فقال: "من يشتريها فيكون ما دَلْوُه كدِلاء
المُسْلِمين، وله في الجنة خيرٌ منها" فاشتريتُها، وأنتم اليوم تمنعوني
أنْ أشرب منها حتّى أشرب من الماء المالح؟ قالوا: اللَّهُمَّ نعم،
قَالَ: أنْشُدُكم الله والإسلام، هل تعلمون أنّ المسجد ضاق بأهله،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ
يشتري بُقْعَةً بخيرٍ له منها في الجنّة"، فاشتريتُها وزِدْتُها في
المسجد، وأنتم تمنعوني اليوم أن أصلي فيها؟ قالوا: اللَّهُمَّ نعم،
قَالَ: أنْشُدُكم الله، هل تعلمون أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان على ثَبِير مكَة، فتحرك وعليه أَبُو
بكر وعمر وأنا، فَقَالَ: "أسْكُنْ فليس عليك إلّا نبيٌّ وصدِّيقٌ
وشهيدان". قالوا: اللَّهُمَّ نعم، فَقَالَ: الله أكبر شهِدُوا وربَّ
الكعبة أنّي شهيد1.
ورواه أَبُو سلمة بْن عبد الرحمن بنحْوه، وزاد فيه أنّه جهّز جيش
الْعُسْرَةِ.
ثُمَّ قَالَ: ولكنْ طال عليكم أمري فاستعجلتم، وأردتم خلع سِرْبالٍ
سَرْبَلَنِيه الله، وإنّي لَا أخلعه حتّى أموت أو أُقْتَلَ.
وعن ابن عُمَر قَالَ: فأشرف عليهم وَقَالَ: عَلَام تقتلونني؟ فَإِنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَا يحل
دمُ امرئٍ مسلمٍ إلّا بإحدى ثلاث: كُفْرُ بعد إسلام، أو رجل زَنَى بعد
إحصان، أو رجل قتل نفسًا"، فَوَاللَّهِ ما زنيت في جاهلية ولا في
إسلام، ولا قتلت رجلًا ولا كفرت2.
__________
1 صحيح دون قصة "ثبير" علق بعضه البخاري كما في "الفتح" "7/ 65" ووصله
الترمذي "3723" في كتاب المناقب، باب: مناقب عثمان بن عفان، والنسائي
"7/ 56" في كتاب الأحباس، باب: وقف المساجد، والطيالسي في "مسنده" "82"
وعبد الله بن أحمد في زوائد "المسند" "1/ 74، 75" وقال الألباني في
"ضعيف سنن النسائي": صحيح دون قصة "ثبير".
2 صحيح: أخرجه أبو داود "4502" في كتاب الديات، باب: الإمام يأمر
بالعفو في الدم، والترمذي "2165" في كتاب الفتن، باب: ما جاء لَا يحل
دمُ امرئٍ مسلمٍ إلّا بإحدى ثلاث، والنسائي "7/ 92" في كتاب تحريم
الدم، باب: ذكر ما يحل به دم المسلم، وابن ماجه "2533" في كتاب الحدود،
باب: لا يحل دم امرئ مسلم إلا في ثلاث، وأحمد "1/ 65" وابن سعد في
"الطبقات" "2/ 37"، والبغوي في "شرح السنة" "22518" وصححه الألباني في
"صحيح سنن أبي داود".
(3/124)
قَالَ أَبُو أُمَامَة بْن سهل بْن حنيف،
إنّي لمع عثمان وهو محصور، فكنّا ندخل إليه مدخلًا -أو أدْخَل إليه
الرجل- نسمع كلام من على البلاط، فدخل يومًا فيه وخرج إلينا وهو متغيّر
اللون فَقَالَ: إنّهم يتوعدوني بالقتل، فقلنا: يكْفِيكَهُمُ الله.
وَقَالَ سَهْلٌ السَّرَّاجُ، عَنِ الحسن، قال عمان: لَئِنْ قَتَلُونِي
لَا يُقَاتِلُونَ عَدُوًّا جَمِيعًا أَبَدًا، وَلا يَقْتَسِمُونَ
فَيْئًا جَمِيعًا أَبَدًا، وَلا يُصَلُّونَ جَمِيعًا أَبَدًا، وَقَالَ
مثله عبدُ الملك بْن أبي سليمان، عن أبي ليلى الكندي، وزاد فيه: ثمّ
أرسل إلى عبد الله بْن سلّام فَقَالَ: مَا ترى؟ قَالَ: الكَفّ الكَفّ،
فإنّه أبلغ لك في الحُجَّة، فدخلوا عليه فقتلوه وهو صائم -رضي الله
عنه- وأرضاه.
وَقَالَ الحسن: حدّثني وثّاب قَالَ: بعثني عثمان، فدعوت له الأشترَ
فَقَالَ: مَا يريد النّاس؟ قَالَ: إحدى ثلاث: يخيِّرُونك بين الخلْع،
وبين أن تقتص من نفسك، فإنْ أبيتَ فإنّهم قاتلوك، فَقَالَ: مَا كنت
لأخلع سِرْبالًا سَرْبَلَنيِهُ الله، وبدني مَا يقوم لقَصاص.
وَقَالَ حُمَيْد بْن هلال: ثنا عبد الله بْن مُغَفَّلٍ قَالَ: كان عبد
الله بْن سلّام يجيء من أرضٍ له على حمارٍ يوم الجمعة، فلما حصر عثمان
قال: يا أيها النّاس لَا تقتلوا عثمان، واستعتِبُوه، فوالذي نفسي بيده
مَا قتلت أمَّةٌ نبيَّها فصلُح ذات بينهم حتى يهرقوا دمَ سبعين ألفًا،
وما قتلت أمَّةٌ خليفتها فيصلح الله بينهم حتى يهرقوا دمَ أربعين
ألفًا، وما هلكت أمّةٌ حتّى يرفعوا القرآن على السلطان، قَالَ: فلم
ينظروا فيما قَالَ، وقتلوه، فجلس على طريق عليّ بْن أبي طالب، فَقَالَ
له: لَا تأتِ العراق وَالْزَمْ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فوالذي نفسي بيده لئن تركْتَهُ لَا تراه
أبدًا، فَقَالَ من حول عليّ: دعنا نقتله، قَالَ: دعوا عبد الله بْن
سلّام، فإنّه رجل صالح.
قَالَ عبد الله بْن مُغَفَّلٍ: كنت استأمرت عبد الله بْن سلام في أرض
اشتريتها. فَقَالَ بعد ذلك: هذه رأس أربعين سنة، وسيكون صُلْح
فاشْتَرِها. قيل لحُمَيْد بْن هلال: كيف ترفعون القرآن على السُّلطان؟
قَالَ: ألم تر إلى الخوارج كيف يتأوَّلُون القرآن على السُّلطان؟
(3/125)
ودخل ابن عُمَر على عثمان وهو محصور فقال:
ما ترى؟ قال: أرى أن نعطيهم مَا سألوك من وراء عَتَبة بابِك غير أن لَا
تَخْلَع نفسَك، فَقَالَ: دونك عَطاءك -وكان واجدًا عليه- فَقَالَ: ليس
هذا يوم ذاك. ثمّ خرج ابن عُمَر إليهم فَقَالَ: إيّاكم وقُتِل هذا
الشيخ، واللَّهِ لئن قتلتموه لم تحجوا البيت جميعًا أبدًا، ولم تجاهدوا
عدوكم جميعا أبدا، ولم تقسموا فيئكم جميعا أبدا إلّا أن تجتمع الأجسادُ
والأهواءُ مختلفة، ولقد رأيتنا وأصحاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- متوافِرون نقول: أَبُو بكر، ثُمَّ عُمَر، ثُمَّ
عثمان. رواه عاصم بْن محمد العُمَرِيّ، عَنْ أبيه، عَنِ ابن عُمَر.
وعن أبي جعفر القاري قَالَ: كان المصريون الذين حصروا عثمان ستمائة:
رأسهم كِنَانة بْن بِشْر، وابن عُدَيْس البَلَوِيّ، وعَمْرو بْن
الحَمِق، والذين قدموا من الكوفة مائتين، رأسهم الأشتر النَّخَعِيّ،
والذين قدموا من البصرة مائة، رأسهم حكيم ببن جَبَلة، وكانوا يدًا
واحدة في الشّرّ، وكانت حُثَالةٌ من النَّاس قد ضَووا إليهم، وكان
أصحاب النّبيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذين خذلوه
كرِهُوا الفتنة وظنّوا أنّ الأمر لَا يبلغ قتله، فلمّا قُتِل نِدموا
على مَا ضيعوه في أمره، ولَعَمْري لو قاموا أو قام بعضُهم فحثا في وجوه
أولئك التُّراب لانْصَرَفُوا خاسئين.
وَقَالَ الزُّبَيْر بْن بكّار: حدّثني محمد بْن الحسن قَالَ: لمّا كثُر
الطَّعْن على عثمان تنحّى عليٌّ إلى ماله بيَنْبُع، فكتب إليه عثمان:
أمّا بعد فقد بلغ الحزامُ الطُّبْيَيْن، وبلغ السَّيْلُ الزُّبي، وبلغ
الأمرُ فوق قدْره، وطمع في الأمر من لَا يدفع عَنْ نفسه:
فإن كنت مأكولًا فكُنْ خير آكلٍ ... وإلّا فأدركني ولما أمزق
والبيت لشاعر عن عبد القيْس.
الطّبْي: مَوْضِعُ الثَّدْيِ من الْخَيْلِ.
وَقَالَ محمد بْن جُبَيْر بْن مُطْعم: لمّا حُصر عثمان أرسل إلى عليّ:
إنّ ابن عمِّك مقتول، وإنّك لَمَسْلُوب.
وعن أبان بْن عثمان قَالَ: لمّا أَلَحُّوا على عثمان بالرَّمْي، خرجت
حتى
(3/126)
أتيت عليًّا فَقُلْتُ: يا عمّ أهْلَكَتنا
الحجارة، فقام معي، فلم يزل يرمي حتى فتر منكبه، ثم قال: يابن أخي،
أجمع حَشَمَك1، ثمّ يكون هذا شأنك.
وقال حبيب بن أبي ثابت، عن أبي جعفر محمد بْن عليّ: إن عثمان بعث إلى
عليّ يدعوه وهو محصور، فأراد أن يأتيه، فتعلّقوا به ومنعوه، فحسر
عمامةً سوداء عَنْ رأسه وَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا أرضى قتْلَه ولا آمُرُ
به.
وعن أبي إدريس الخوْلاني قَالَ: أرسل عثمان إلى سعد، فأتاه، فكلَّمه،
فَقَالَ له سعد أرسِلْ إلى عليّ، فإنْ أتاك ورضي صَلُح الأمرُ، قَالَ:
فأنت رسولي إليه، فأتاه، فقام معه عليّ، فمرّ بمالك الأشتر، فَقَالَ
الأشتر لأصحابه: أين يريد هذا؟ قالوا: يريد عثمان، فَقَالَ: واللَّهِ
لَئِنْ دخل عليه لتقتلُّنَّ عَنْ آخِرِكم، فقام إليه في أصحابه حتّى
اختلجه عَنْ سعد وأجلسه في أصحابه، وأرسل إلى أهل مصر: إن كنتم تريدون
قتْلَه فأسرِعوا، فدخلوا عليه فقتلوه.
وعن أبي حبيبة قَالَ: لمّا اشتدّ الأمر، قالوا لعثمان -يعني الذين عنده
في الدّار- أئذَنْ لنا في القتال، فَقَالَ: أعْزِمُ على من كانت لي
عليه طاعةٌ أنْ لَا يقاتل.
أبو حبيب هو مولى الزُّبَيْر، روى عنه موسى بْن عقبة.
قال محمد بن سعد: ثنا منصور بن عمر، حدثني سرحبيل بْنُ أَبِي عَوْنٍ،
عَنْ أَبِيهِ. وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عِمْرَانَ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ مِسْوَرِ بن مَخْرَمَةَ.
"ح"، وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ عَمِّهِ، عَنِ ابْنِ
الزُّبَيْرِ. "ح"، وَثنا ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ
الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالُوا: بَعَثَ
عُثْمَانُ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ إِلَى مُعَاوِيَةَ يُعْلِمُهُ
أَنَّهُ مَحْصُورٌ، وَيَأْمُرُهُ أَنْ يُجَهِّزَ إِلَيْهِ جَيْشًا
سَرِيعًا. فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، رَكِبَ مُعَاوِيَةُ
لِوَقْتِهِ هُوَ وَمُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ، وَابْنُ حُدَيْجٍ،
فَسَارُوا مِنْ دِمَشْقَ إِلَى عُثْمَانَ عَشْرًا.
فَدَخَلَ مُعَاوِيَةُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَقَبَّلَ رَأْسَ عُثْمَانَ،
فَقَالَ: أَيْنَ الْجَيْشُ؟ قَالَ: مَا جِئْتُ إِلَّا فِي ثَلاثَةِ
رَهْطٍ، فَقَالَ عُثْمَانُ: لَا وَصَلَ اللَّهُ رَحِمَكَ، ولا أعز
__________
1 الحشم: حشم الرجل خاصته.
(3/127)
نَصْرَكَ، وَلا جَزَاكَ خَيْرًا،
فَوَاللَّهِ لَا أُقْتَلُ إِلَّا فِيكَ، وَلا يُنْقَمُ عَلَيَّ إِلَّا
مِنْ أَجْلِكَ، فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، لَوْ بَعَثْتُ
إِلَيْكَ جَيْشًا فَسَمِعُوا بِهِ عَاجَلُوكَ فَقَتَلُوكَ، وَلَكِنَّ
مَعِي نَجَائِبَ، فَاخْرُجْ مَعِي، فَمَا يَشْعُرُ بِي أَحَدٌ،
فَوَاللَّهِ مَا هِيَ إِلَّا ثَلاثٌ حَتَّى نَرَى مَعَالِمَ الشَّامِ،
فَقَالَ: بِئْسَ مَا أَشَرْتَ بِهِ، وَأَبَى أَنْ يُجِيبَهُ،
فَأَسْرَعَ مُعَاوِيَةُ رَاجِعًا، وَوَرَدَ الْمِسْوَرُ يُرِيدُ
الْمَدِينَةَ بِذِي الْمَرْوَةِ رَاجِعًا. وَقَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ
وَهُوَ ذَامٌّ لِمُعَاوِيَةَ غَيْرُ عَاذِرٍ لَهُ.
فَلَمَّا كَانَ فِي حَصْرِهِ الآخِرِ، بَعَثَ الْمِسْوَرَ ثَانِيًا
إِلَى مُعَاوِيَةَ لِيُنْجِدَهُ فَقَالَ: إِنَّ عُثْمَانَ أَحْسَنَ
فَأَحْسَنَ اللَّهُ بِهِ، ثُمَّ غَيَّرَ فَغَيَّرَ اللَّهُ بِهِ،
فشددتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: تَرَكْتُمْ عُثْمَانَ حَتَّى إِذَا كَانَتْ
نَفْسُهُ فِي حُنْجُرَته قُلْتُمُ: اذْهَبْ فَادْفَعْ عَنْهُ
الْمَوْتَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِيَدِي، ثُمَّ أَنْزلني فِي مَشْرَبَةٍ
عَلَى رَأْسِهِ، فَمَا دَخَلَ عَلَيَّ دَاخِلٌ حَتَّى قُتِلَ
عُثْمَانُ.
وأمّا سَيْف بْن عُمَر، فروى عَنْ أبي حارثة، وأبي عثمان قالا: لمّا
أتى معاوية الخبر أرسل إلى حبيب بْن مسْلَمَة الفِهْرِيّ فَقَالَ:
أشِرْ عليَّ برجلٍ مُنَفِّذٍ لأمري، ولا يقصِّر، قَالَ: مَا أعرف لذاك
غيري، قَالَ: أنت لها. وجعل على مقدّمته يزيد بْن شجعة الحِمْيَريّ في
ألفٍ وَقَالَ: إنْ قدمت يا حبيب وقد قُتِلَ، فلا تَدَعَنّ أحدًا أشار
إليه ولا أعان عليه إلّا قتلته، وإنْ أتاك الخبر قبل أن تصل، فأقم حتى
أنظر، وبعث يزيد شجعة في ألفٍ على البغال، يقودون الخيل، معهم الإبل
عليها الرَّوَايَا فأغذَّ السَّير، فأتاه قتْلُهُ بقُربْ خيْبَرَ. ثمَّ
أتاه النُّعمان بْن بشير، معه القميص الَّذِي فيه الدّماء وأصابع
امرأته نائلة، قد قطعوها بضربة سيف، فرجعوا، فنصب معاوية القميص على
منبر دمشق، والأصابع معلّقة فيه، وآلى رجالٌ من أهل الشّام لَا يأتون
النّساء ولا يمسُّون الْغُسْلَ إلّا من حُلُم، ولا ينامون على فراشٍ
حتّى يقتلوا قَتَلَةَ عثمان، أو تَفْنَى أرواحهُم، وبَكَوْه سنةً.
وَقَالَ الأوزاعيّ: حدثني محمد بْن عبد الملك بْن مروان، أنّ المُغيرة
بن شُعْبَة، دخل على عثمان وهو محصور فَقَالَ: إنّك إمام العامَّة، وقد
نزل بك مَا نرى، وإني أعرض عليك خِصالًا: إمّا أنْ تخرج تقاتلهم، فإنّ
معك عددًا وقوّة. وإمّا أنْ تَخْرق لك بابًا سوى الباب الَّذِي هم
عليه، فتقعد على رواحلك فتحلق بمكة، فإنَّهم لن يستحلُّوك وأنت بها،
وإمّا أن تلحق بالشّام، فإنّهم أهل الشّام،
(3/128)
وفيهم معاوية. فَقَالَ: إنّي لن أفارق دار
هجرتي، ولن أكون أوّل من خَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أُمَّته بسفْك الدِّماء.
وَقَالَ نافع، عَنِ ابن عُمَر: أصبح عثمان يحدّث النَّاس قَالَ:
رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
اللَّيْلَةَ في المنام، فَقَالَ: "أفطِرْ عندنا غدًا" فأصبح صائمًا،
وقُتِلَ من يومه1.
وَقَالَ محمد بْن سيرين: ما أعلم أحدًا يتَّهم عليًّا في قتْل عثمان،
وقُتِلَ وإنّ الدَّارَ غاصَّة، فيهم ابن عُمَر، والحسن بْن عليّ،
ولكنَّ عثمان عزم عليهم أن لَا يقاتلوا.
ومن وجه آخر. عَنِ ابن سيرين قال: انطلق الحسن والحسين وابن عُمَر،
ومروان، وابن الزبير، كلهم شاك السلاح، حتى دخلوا على عثمان، فقال:
أعزم عليكم لما رجعتم فوضعتم أسلحتكم ولزمتم بيوتكم، فقال ابن الزبير،
ومروان: نحن نعزم على أنفسنا أن لَا نبْرَح، وخرج الآخرون.
وَقَالَ ابن سيرين: كان مع عثمان يَوْمَئِذٍ في الدار سبعمائة، لو
يَدَعُهُم لَضَرَبوهم حتّى يُخْرِجُوهم من أقطارها.
وروي أنّ الحسن بْن عليّ مَا راح حتّى خرج.
وقال عبد الله بْن الزُّبَيْر: قلت لعثمان: قاتِلْهم، فوَالله لقد أحلّ
الله لك قِتَالهم، فَقَالَ: لَا أقاتلهم أبدًا، فدخلوا عليه وهو صائم.
وقد كان عثمان أمَّر ابن الزُّبَيْر على الدار، وَقَالَ: أطيعوا عبد
الله بْن الزُّبَيْر.
وَقَالَ ابن سيرين: جاء زيد بن ثابت في ثلاثمائة مِنَ الأَنْصَار، فدخل
على عثمان فَقَالَ: هذه الأنصار بالباب. فَقَالَ: أمّا القتال فلا.
وَقَالَ أَبُو صالح، عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: دخلت على عثمان يوم
الدَّار فَقُلْتُ: طاب الضَّرْبُ، فَقَالَ: أيَسُرُّك أنْ يُقْتل
النّاسُ جميعًا وأنا معهم؟ قلت: لَا، قَالَ: فإنّك إنْ قتلت رجلًا
واحدًا، فكأنما قتلت النَّاس جميعًا، فانصرفت ولم أقاتل.
__________
1 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "2/ 41".
(3/129)
وعن أبي عَون مولى المِسْوَر قَالَ: مَا
زال المصريون كافيين عَنِ القتال، حتّى قدِمَتْ أمدادُ العراق من عند
ابن عامر، وأمداد ابن أبي سَرْحٍ من مصر، فقالوا: نُعاجِلُهُ قبل أن
تَقْدَم الأمداد.
وعن مسلم أبي سعيد قَالَ: أعتق عثمان عشرين مملوكًا، ثمّ دعا بسراويل،
فشدّها عليه. ولم يلْبَسْها في جاهلية ولا في إسلام، وَقَالَ إِنِّي
رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
البارحة، وأبا بكر، وعمر، فَقَالَ: "اصْبِرْ فإنّك تُفْطِر عندنا
القابلة"1 ثمّ نشر الْمُصْحَفَ بين يديه، فقُتِلَ وهو بين يديه.
وَقَالَ ابن عَوْن، عَنِ الحَسَن: أنبأني وثّاب مولى عثمان قَالَ: جاء
رُوَيْجل كأنّه ذِئبٌ، فاطَّلع من بابٍ، ثمّ رجع، فجاء محمد بْن أبي
بكر في ثلاثة عشر رجلًا، فدخل حتّى انتهى إلى عثمان، فأخذ بلحيته،
فَقَالَ بها حتى سمعتُ وقع أضْراسه، فَقَالَ: مَا أغنى عنك معاوية، مَا
أغنى عنك ابن عامر، مَا أغْنتْ عنك كُتُبُك، فقال: أرسل لحيتي يابن
أخي، قَالَ: فأنا رأيُتُه استعْدَى رجلًا من القوم عليه يُعِينُهُ،
فقام إلى عثمان بمِشْقَصٍ، حتّى وجَأ به في رأسه ثُمَّ تَعَاوَرُوا
عليه حتّى قتلوه.
وعن ريطة مولاة أسامة قالت: كنت في الدّار، إذ دخلوا، فجاء محمد فأخذ
بلحية عثمان فهزها، فقال: يابن أخي دَعْ لِحْيَتي لَتَجْذُب مَا يعزُّ
على أبيك أن يؤذيها. فرأيته كأنّه استحى، فقام، فجعل بطرف ثوبه هكذا:
ألا ارجعوا. قالت: وجاء رجلٌ من خلف عثمان بسعفَة رَطْبة، فضرب بها
جبهَتَه فرأيت الدم يسيل، وهو يمسحه ويقول: "اللَّهُمَّ لَا يطلب بدمي
غيرك"، وجاء آخر فضربه بالسَّيف على صدره فأقْعَصَه2، وتَعَاوَرُوه
بأسيافهم، فرأيتُهم ينْتَهِبُون بيته.
وَقَالَ مجالد، عَنِ الشَّعْبِيّ قَالَ: جاء رجل من تُجَيْب من
المصريين، والنّاس حول عثمان، فاسْتَلَّ سيفه، ثمّ قَالَ: أفْرِجوا،
ففرجوا له، فوضع ذباب سيفه في بطْن عثمان، فأمسكت نائلة بنتُ الفَرافصة
زوجة عثمان بالسيف لتمنع عنه، فحزّ السيف أصابعها.
وقيل: الَّذِي قتله رجل يقال له حمار.
__________
1 أي الليلة القابلة.
2 أقعصه: طعته.
(3/130)
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْد، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ تَسَوَّرَ
مِنْ دَارِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَلَى عُثْمَانَ، وَمَعَهُ كِنَانَةُ
بْنُ بِشْرٍ، وَسُودَانُ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَمِقِ، فَوَجَدُوهُ
عِنْدَ نَائِلَةَ يَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ، فَتَقَدَّمَهُمْ
مُحَمَّدٌ، فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ وَقَالَ: يَا نَعْثَلُ قَدْ
أَخْزَاكَ اللَّهُ، فَقَالَ: لَسْتُ بِنَعْثَلٍ وَلَكِنَّنِي عَبْدُ
اللَّهِ، وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ: مَا أَغْنَى
عَنْكَ مُعَاوِيَةُ وَفُلانٌ وَفُلانٌ، قَالَ: يَابْنَ أَخِي دَعْ
لِحْيَتِي، فَمَا كَانَ أَبُوكَ لِيَقْبِضَ عَلَى مَا قَبَضْتَ،
فَقَالَ: مَا يُرَادُ بِكَ أَشَدَّ مِنْ قَبْضَتِي، وَطَعَنَ جَنْبَهُ
بِمِشْقَصٍ1، وَرَفَعَ كِنَانَةُ مَشَاقِصَ فَوَجَأَ بِهَا فِي أُذُنِ
عُثْمَانَ، فَمَضَتْ حَتَّى دَخَلَتْ فِي حَلْقِهِ، ثُمَّ عَلاهُ
بِالسَّيْفِ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ:
فَسَمِعْتُ ابْنَ أَبِي عَوْنٍ يَقُولُ: ضَرَبَ كِنَانَةُ بْنُ بِشْرٍ
جَبِينَهُ بِعَمُودِ حَدِيدٍ، وَضَرَبَهُ سُودَانُ الْمُرَادِيُّ
فَقَتَلَهُ، وَوَثَبَ عَلَيْهِ عَمْرُو بْنُ الْحَمِقِ، وَبِهِ رَمَقٌ،
وَطَعَنَهُ تِسْعَ طَعَنَاتٍ وَقَالَ: ثَلاثٌ لِلَّهِ، وَسِتٌّ لِمَا
فِي نَفْسِي عَلَيْهِ.
وعن المُغِيرَة قَالَ: حصروه اثنين وعشرين يومًا، ثمّ احرقوا الباب،
فخرج من في الدّار.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدٍ قَالَ: فَتَحَ عُثْمَانُ الْبَابَ
وَوَضَعَ الْمُصْحَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ
فَقَالَ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ كِتَابُ اللَّهِ، فَخَرَجَ وَتَرَكَهُ،
ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ آخَرُ، فَقَالَ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ كِتَابُ
اللَّهِ، فَخَرَجَ وَتَرَكَهُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ آخَرُ، فَقَالَ:
بَيْنِي وَبَيْنَكَ كِتَابُ اللَّهِ، فأهوى عليه بِالسَّيْفِ،
فَاتَّقَاهُ بِيَدِهِ فَقَطَعَهَا، فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنَّهَا
لأَوَّلُ كَفٍّ خَطَّتِ الْمُفَصَّلَ2، وَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ
يُقَالُ لَهُ: الْمَوْتُ الأَسْوَدُ، فَخَنَقَهُ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ
بِالسَّيْفِ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَلْيَنَ مِنْ
حَلْقِهِ، لَقَدْ خَنَقْتُهُ حَتَّى رأيت نفسه مثل الجان تردد في جسده.
وعن الأزهري قَالَ: قُتِل عند صلاة العصر، وشدّ عبدٌ لعثمان على كنانة
بن بشر فقتله، وشد سودان على العبد فقتله.
__________
1 المشقص: نصل السهم إذا كان طويلا غير عريض.
2 يقصد من القرآن، وهو يبدأ من سورة "ق" إلى آخر القرآن على الأصح،
وانظر "صفة الصلاة" "ص109" لأبي عبد الرحمن الألباني.
(3/131)
وَقَالَ أَبُو نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ قَالَ: ضربوه فجرى الدَّمُ على المُصْحَف على:
{فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 1.
وَقَالَ عمران بْن حُدَيْر، إلّا يكن عبد الله بْن شقيق حدّثني: أنّ
أوّل قطرةٍ قطرت من دمه على: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} فإنّ أبا
حُرَيْث ذكر أنّه ذهب هو وسُهَيْلٌ المُرِّيّ، فأخرجوا إليه
الْمُصْحَفَ، فإذا قطرة الدم على {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} قَالَ:
فإنها في المُصْحَف مَا حُكَّتْ.
وَقَالَ محمد بْن عيسى بْن سُمَيْع عَنِ ابن أبي ذئب، عَنِ
الزُّهْرِيّ: قلت لسعيد بْن المسيب: هل أنت مُخْبري كيف كان قتل عثمان؟
قَالَ: قُتِلَ مظلومًا، ومن خذله كان معذورًا، ومن قتله كان ظالمًا،
وإنّه لمّا استُخْلف كره ذلك نفرٌ من الصحابة؛ لأنه كان يحب قومه
ويولّيهم، فكان يكون منهم مَا تُنْكره الصَّحابة فيُسْتَعْتَبُ فيهم،
فلا يعزِلُهُمّ، فلمّا كان في السّتّ الحِجَج الأواخر استأثر ببني عمّه
فولّاهم وما أشرك معهم، فولّى عبد الله بْن أبي سَرْحٍ مصر، فمكث عليها
سنين، فجاء أهل مصر يشكونه ويتظلمون منه. وقد كان قبل ذلك من عثمان
هَنَاتٌ إلى ابن مسعود، وأبي ذَرّ وعمّار فحنق عليه قومُهم، وجاء
المصريون يشكون ابن أبي سَرْح، فكتب إليه يتهدّده فأبى أن يقبل، وضرب
بعضَ من أتاه ممّن شكاه فقتله.
فخرج من أهل مصر سبعمائة رجلٍ، فنزلوا المسجد، وشكوا إلى الصَّحابة مَا
صنع ابن أبي سَرْح بهم، فقام طلْحة فكلَّم عثمان بكلامٍ شديد، وأرسلت
إليه عائشة تقول له: أنصِفهم من عاملك، ودخل عليه عليّ، وكان متكلّم
القوم فَقَالَ: إنّما يسألونك رجلًا مكان رجلٍ، وقد ادّعوا قِبَلَه
دمًا، فاعزله، واقض بينهم، فَقَالَ: اختاروا رجلًا أُوَلِّه، فأشاروا
عليه بمحمد بْن أبي بكر، فكتب عهده، وخرج معهم عددٌ من المهاجرين
والأنصار ينظرون فيما بين أهل مصر وابن أبي سَرْح، فلمّا كان محمد على
مسيرة ثلاث من المدينة، إذا هم بغلامٍ أسودٍ على بعيرٍ مسرِعًا،
فسألوه، فَقَالَ: وجَّهني أميرُ المؤمنين إلى عامل مصر، فقالوا له: هذا
عامل أهلِ مصر، وجاءوا به إلى محمد، وفتشوه فوجدوا إدواته تقلقل2،
فشقّوها، فإذا فيها كتاب من عثمان إلى محمد بن أبي سَرْح، فجمع محمد،
من عنده من الصحابة،
__________
1 سورة البقرة: 137.
2 أي تحدث صوتا.
(3/132)
ثمّ فكّ الكتاب، فإذا فيه: إذا أتاك محمد،
وفلانٌ، وفلانٌ فاستحِلّ قتْلَهُم، وأبِطل كتابه، واثبت على عملك. فلما
قرءوا الكتاب رجعوا إلى المدينة، وجمعوا طَلْحة، وعليًّا، والزبير،
وسعدًا، وفضُّوا الكتاب، فلم يبق أحدٌ إلّا حنِقَ على عثمان، وزاد ذلك
غضبًا وحنقًا أعوانُ أبي ذَرّ، وابن مسعود وعمّار.
وحاصر أولئك عثمان وأجلب عليه محمد بْن أبي بكر ببني تَيْم، فلمّا رأى
ذلك عليّ بعث إلى طلْحة، والزُّبَيْر، وعمّار، ثُمَّ دخل إلى عثمان،
ومعه الكتاب والغلام والبعير فَقَالَ: هذا الغلام والبعيرُ لك؟ قَالَ:
نعم، قَالَ: فهذا كتابك؟ فحلف أنّه مَا كتبه ولا أمر به، قَالَ:
فالخاتم خاتمك؟ قَالَ: نعم.
فَقَالَ: كيف يخرج غلامك ببعيرك بكتابٍ عليه خاتمك ولا تعلم به!
وعرفوا أنّه خطّ مَرْوان. وسألوه أن يدفع إليهم مَرْوان، فأبَى وكان
عنده في الدّار، فخرجوا من عنده غِضابًا، وشكّوا في أمره، وعلِمُوا
أنّه لَا يحلف بباطل ولزموا بيوتهم.
وحاصره أولئك حتّى منعوه الماء، فأشرف يومًا فَقَالَ: أفيكُمٍ عليّ؟
قالوا: لَا، قَالَ: أفيكم سعد؟ قالوا: لَا، فسكت، ثُمَّ قَالَ: ألا
أحدٌ يَسْقينا ماء. فبلغ ذلك عليًّا، فبعث إليه بثلاث قِرَبٍ فجُرح في
سببها جماعةٌ حتّى وصلت إليه، وبلغ عليًّا أنّ عثمان يراد قتْلُهُ
فَقَالَ: إنّما أردنا منه مروان، فأمّا عثمان، فلا ندع أحدًا يصل إليه.
وبعث إليه الزُّبَيْر ابنه، وبعث طلحة ابنه، وبعث عدّةٌ من الصحابة
أبناءهم، يمنعون الناس، ويسألونه إخراج مروان، فلمّا رأى ذلك محمد بن
أبي بكر، ورمى الناس عثمان بالناس بالسهام، حتى خُضِب الحسن بالدماء
على بابه، وأصاب مروان سهم، وخُضِب محمد بْن طلحة، وشُجَّ قَنْبر مولى
عليّ.
فخشي محمد أن يغضب بنو هاشم خالُ الحسن، فاتّفق هو وصاحباه، وتسوُّروا
من دارٍ، حتّى دخلوا عليه، ولا يعلم أحدٌ من أهل الدّار؛ لأنهم كانوا
فوق البيوت، ولم يكن مع عثمان إلّا امرأته. فدخل محمد فأخذ بلِحْيَتِه،
فَقَالَ: والله لو رآك أبوك لَساءه مكانُك منّي، فتراخت يدُه، ووثب
الرجلان عليه فقتلاه، وهربوا من حيث دخلوا، ثمّ صرخت المرأة، فلم يُسمع
صُراخُها لما في الدار من
(3/133)
الجلبة. فصعدت إلى النَّاس وأخبرتهم، فدخل
الحسن والحسين وغيرهما، فوجدوه مذبوحًا.
وبلغ عليًّا وطلحة والزُّبَيْر الخبر، فخرجوا -وقد ذهبت عقولهم- ودخلوا
فرأوه مذبوحًا، وَقَالَ عليّ، كيف قُتِلَ وأنتم على الباب؟ ولطم الحسن
وضرب صدر الحسين، وشتم ابن الزُّبَيْر، وابن طلحة، وخرج غضْبان إلى
منزله، فجاء النّاس يُهْرعُون إليه ليُبايعوه، قال: ليس ذاك إليكم،
إنما ذاك إلى أهل بدر، فمن رضوه فهو خليفة، فلم يبق أحدٌ من البدريّين
إلّا أتى عليًّا، فكان أوّل من بايعه طلحة بلسانه، وسعدٌ بيده، ثُمَّ
خرج إلى المسجد فصعد المنبر، فكان أول من صعد طلحة، فبايعه بيده، ثمّ
بايعه الزُّبَيْر وسعد والصحابة جميعًا، ثم نزل فدعا النّاسَ، وطلب
مروان، فهرب منه هو وأقاربه.
وخرجت عائشة باكيةً تقول: قُتِل عثمان، وجاء عليٌّ إلى امرأة عثمان
فَقَالَ: مَن قتله؟ قالت: لَا أدري، وأخبرتْهُ بما صنع محمد بن أبي
بكر. فسأله علي، فقال: تكذِب، قد واللهِ دخلتُ عليه، وأنا أريد قتله،
فذكر لي أبي، فقمتُ وأنا تائبٌ إلى الله، واللِه مَا قتلتُهُ ولا
أمسكتُهُ، فَقَالَتْ: صَدَق، ولكنّه أدخل اللَّذَيْن قتلاه.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: اجْتَمَعْنَا فِي دَارِ مَخْرَمَةَ
لِلْبَيْعَةِ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ، فَقَالَ أَبُو جَهْمِ بْنُ
حُذَيْفَةَ: أَمَّا مَنْ بَايَعْنَا منكم فلا يحول بيننا وبينه
قِصَاصٍ، فَقَالَ عَمَّارٌ: أَمَّا دَمُ عُثْمَانَ فَلا، فقال: يابن
سمية، أتقتص من جلدات جلدتهم، وَلا تَقْتَصُّ مِنْ دَمِ عُثْمَانَ!
فَتَفَرَّقُوا يَوْمَئِذٍ عَنْ غَيْرِ بَيْعَةٍ.
وروي عُمَر بْن عَلِيِّ بْن الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ
مروان: مَا كان في القوم أدفع عَنْ صاحبنا من صاحبكم -يعني عليًّا-
عَنْ عثمان، قَالَ: فَقُلْتُ: مَا بالُكُم تسُبُّونه على المنابر!
قَالَ: لَا يستقيم الأمر إلّا بذلك. رواه ابن أبي خَيْثَمَة. بإسناد
قويٍّ، عَنْ عُمَر.
وَقَالَ الواقِديّ، عَنِ ابن أبي سَبْرَة، عَنْ سعيد بْن أبي زيد، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الله قَالَ: كان
لعثمان عند خازنه يوم قُتِل ثلاثون ألف ألف
(3/134)
درهم، وخمسون ومائة ألف دينار، فانتهبت
وذهبت، وترك ألف بعيرٍ بالرَّبذَة، وترك صدقاتٍ بقيمة مائتي ألف
دينار1.
وَقَالَ ابن لهيعة، عَنْ يزيد بْن أبي حبيب قَالَ: بلغني أنّ الركب
الذين ساروا إلى عثمان عامَّتُهُم جُنُّوا2.
وَقَالَ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ سَمِعَ عَلِيًّا يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا قَتَلْتُ -يَعْنِي
عُثْمَانَ- وَلا أَمَرْتُ، وَلَكِنْ غُلِبْتُ، يَقُولُ ذَلِكَ ثَلاثًا.
وَجَاءَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ طُرُقٍ. وَجَاءَ عَنْهُ أَنَّهُ
لَعَنَ قَتَلَةَ عُثْمَانَ.
وعن الشَّعْبِيّ قَالَ: مَا سمعت من مراثي عثمان أحسن من قول كعب بْن
مالك:
فكَفَّ يديه ثُمَّ أغلق بابه ... وأيقن أنّ الله ليس بغافل
وَقَالَ لأهل الدّار: لَا تقتلوهم ... عفا الله عَنْ كل امرئٍ لم
يُقاتل
فكيف رأيتَ الله صب عليهم الـ ... ـعداوة والبغضاء بعد التوَّاصُلِ
وكيف رأيت الخير أدبر بعده ... عَنِ النّاس إدبار النَّعامٍ
الْجَوَافِلِ
ورثاه حسّانُ بْن ثابت بقوله:
مَنْ سَرَّه الموتُ صِرْفًا لَا مِزاجَ له ... فلْيأتِ مأدُبةً في دار
عُثمانا
ضحُّوا بأشْمَطَ عُنْوانُ السُّجُود به ... يقطع الليل تسبيحًا وقُرآنا
صبْرًا فِدًى لكم أمّي وما وَلَدَتْ ... قد ينفع الصَّبْرُ في المكروه
أحيانا
لَتَسْمَعَنَّ وَشِيكًا في ديارهُم: ... الله أكبر يا ثاراتِ عثمانا
__________
1 إسناده ضعيف جدا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "2/ 42".
2 إسناده ضعيف.
(3/135)
|