تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ الطبري

ذكر خبر شمويل بن بالي بن علقمة بن يرخام بن اليهو ابن تهو بن صوف، وطالوت وجالوت
كان من خبر شمويل بن بالي أن بني إسرائيل لما طال عليهم البلاء، وأذلتهم الملوك من غيرهم، ووطئت بلادهم، وقتلوا رجالهم، وسبوا ذراريهم، وغلبوهم على التابوت الذي فيه السكينة والبقية مما ترك آل موسى وآل هارون، وبه كانوا ينصرون إذا لقوا العدو، ورغبوا إلى الله عز وجل في أن يبعث لهم نبيا يقيم أمرهم.
فَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي، في خبر ذكره عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَأَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- وَعَنْ ناس من اصحاب رسول الله ص: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يُقَاتِلُونَ الْعَمَالِقَةَ، وَكَانَ مَلِكَ الْعَمَالِقَةِ جَالُوتُ، وَأَنَّهُمْ ظَهَرُوا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَضَرَبُوا عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ، وَأَخَذُوا تَوْرَاتَهُمْ، فَكَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَسْأَلُونَ اللَّهَ أَنْ يَبْعَثَ لَهُمْ نَبِيًّا يُقَاتِلُونَ مَعَهُ، وَكَانَ سِبْطُ النُّبُوَّةِ قَدْ هَلَكُوا، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا امْرَأَةٌ حُبْلَى فَأَخَذُوهَا فَحَبَسُوهَا فِي بَيْتٍ، رَهْبَةً أَنْ تَلِدَ جَارِيَةً فتبدله بِغُلَامٍ، لِمَا تَرَى مِنْ رَغْبَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي وَلَدِهَا، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تَدْعُو اللَّهَ أَنْ يرزقها غلاما، فولدت غلاما فسمته سمعون، تَقُولُ: اللَّهُ سَمِعَ دُعَائِيَ فَكَبُرَ الْغُلَامُ، فَأَسْلَمَتْهُ يَتَعَلَّمُ التَّوْرَاةَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَفَّلَهُ شَيْخٌ مِنْ عُلَمَائِهِمْ، وَتَبَنَّاهُ، فَلَمَّا بَلَغَ الْغُلَامُ أَنْ يَبْعَثَهُ اللَّهُ نَبِيًّا، أَتَاهُ جِبْرِيلُ وَالْغُلَامُ نَائِمٌ الى جنب الشيخ، وكان لا يامن عَلَيْهِ أَحَدًا غَيْرَهُ فَدَعَاهُ بِلَحْنِ الشَّيْخِ: يَا شَمُوِيلُ، فَقَامَ الْغُلَامُ فَزِعًا إِلَى الشَّيْخِ، فَقَالَ: يا أبتاه،

(1/467)


دَعَوْتَنِي! فَكَرِهَ الشَّيْخُ أَنْ يَقُولَ: لَا فَيُفْزَعَ الْغُلامُ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، ارْجِعْ فَنَمْ، فَرَجَعَ الْغُلَامُ فَنَامَ ثُمَّ دَعَاهُ الثَّانِيَةَ فَلَبَّاهُ الْغُلَامُ أَيْضًا، فَقَالَ: دَعَوْتَنِي! فَقَالَ ارْجِعْ فَنَمْ، فَإِنْ دَعَوْتُكَ الثَّالِثَةَ فَلا تُجِبْنِي، فَلَمَّا كَانَتِ الثَّالِثَةَ ظهر له جبرئيل ع فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَى قَوْمِكَ فَبَلِّغْهُمْ رِسَالَةَ رَبِّكَ، فان الله قد بعثك فِيهِمْ نَبِيًّا فَلَمَّا أَتَاهُمْ كَذَّبُوهُ وَقَالُوا: اسْتَعْجَلْتَ بالنبوة ولم يألك وَقَالُوا: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَابْعَثْ لَنَا مَلِكًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، آيَةً مِنْ نُبُوَّتِكَ، قال لهم سمعون: عَسَى إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا.
قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ، فَدَعَا اللَّهَ فَأُتِيَ بِعَصًا، تَكُونُ مِقْدَارًا عَلَى طُولِ الرَّجُلِ الَّذِي يُبْعَثُ فِيهِمْ مَلِكًا، فَقَالَ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ يَكُونُ طُولُهُ طُولَ هَذِهِ الْعَصَا، فَقَاسُوا أَنْفُسَهُمْ بِهَا، فَلَمْ يَكُونُوا مِثْلَهَا، وَكَانَ طَالُوتُ رَجُلًا سَقَّاءً يَسْتَقِي عَلَى حِمَارٍ لَهُ، فَضَلَّ حِمَارَهُ، فَانْطَلَقَ يَطْلُبُهُ فِي الطَّرِيقِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ دَعَوْهُ فَقَاسُوهُ بِهَا فَكَانَ مِثْلَهَا، وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً» قَالَ الْقَوْمُ: مَا كُنْتَ قَطُّ أَكْذَبَ مِنْكَ السَّاعَةَ، وَنَحْنُ مِنْ سِبْطِ الْمَمْلَكَةِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ سِبْطِ الْمَمْلَكَةِ، وَلَمْ يُؤْتَ أَيْضًا سَعَةً مِنَ الْمَالِ فَنَتَّبِعَهُ لِذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ» ، فَقَالُوا: فَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَأْتِنَا بِآيَةِ أَنَّ هَذَا مَلِكٌ، قَالَ: «إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ» .
وَالسَّكِينَةُ طَسْتٌ مِنْ ذَهَبٍ يُغْسَلُ فِيهَا قُلُوبُ الأنبياء، أعطاها الله مُوسَى، وَفِيهَا وَضَعَ الْأَلْوَاحَ، وَكَانَتِ الْأَلْوَاحُ- فِيمَا بَلَغَنَا- مِنْ دُرٍّ وَيَاقُوتَ وَزَبَرْجَدٍ، وَأَمَّا الْبَقِيَّةُ فَإِنَّهَا عَصَا مُوسَى وَرُضَاضَةُ الْأَلْوَاحِ، فَأَصْبَحَ التَّابُوتُ وَمَا فِيهِ فِي دَارِ

(1/468)


طالوت، فآمنوا بنبوة سمعون، وَسَلَّمُوا الْمُلْكَ لِطَالُوتَ.
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَاءَتِ الْمَلائِكَةُ بِالتَّابُوتِ تَحْمِلُهُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ حَتَّى وَضَعَتْهُ عِنْدَ طَالُوتَ.
حَدَّثَنِي يونس، قَالَ: أخبرنا ابن وهب، قَالَ: قَالَ ابن زيد: نزلت الملائكة بالتابوت نهارا ينظرون إليه عيانا، حتى وضعوه بين أظهرهم، قَالَ:
فأقروا غير راضين، وخرجوا ساخطين.
رجع الحديث إلى حديث السدي فخرجوا معه وهم ثمانون ألفا، وكان جالوت من اعظم الناس واشدهم بأسا، يخرج يسير بين يدي الجند، ولا يجتمع إليه أصحابه حتى يهزم هو من لقي، فلما خرجوا قَالَ لهم طالوت:
«إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي» وهو نهر فلسطين، فشربوا منه هيبة من جالوت، فعبر معه منهم أربعة آلاف ورجع ستة وسبعون ألفا، فمن شرب منه عطش، ومن لم يشرب منه إلا غرفة روي، فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه، فنظروا إلى جالوت رجعوا أيضا وقالوا: «لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ» ، الذين يستيقنون «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» فرجع عنه أيضا ثلاثة آلاف وستمائه وبضعه وثمانون، وخلص في ثلاثمائة وتسعة عشر عدة أهل بدر حَدَّثَنِي المثنى، قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا اسماعيل ابن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: كان لعيلى الذي ربى شمويل ابنان شابان، أحدثا في القربان

(1/469)


شيئا لم يكن فيه كان مسوط القربان الذي كانوا يسوطونه به كلابين، فما أخرجا كان للكاهن الذي يسوطه، فجعله ابناه كلاليب، وكانا إذا جاءت النساء يصلين في القدس يتشبثان بهن فبينما أشمويل نائم قبل البيت الذي كان ينام فيه عيلى إذ سمع صوتا يقول: أشمويل! فوثب إلى عيلى فقال: لبيك، فقال: مالك دعوتني؟ قَالَ: لا! ارجع، فنم فنام، ثم سمع صوتا آخر يقول:
أشمويل! فوثب إلى عيلى أيضا، فقال: لبيك، ما لك دعوتني؟ فقال:
لم أفعل، ارجع فنم، فإن سمعت شيئا فقل: لبيك مكانك، مرني فافعل، فرجع فنام فسمع صوتا أيضا يقول: أشمويل، فقال: لبيك، أنا هذا فمرني أفعل، قَالَ: انطلق إلى عيلى، فقل له: منعه حب الولد من أن يزجر ابنيه أن يحدثا في قدسي وقرباني، وأن يعصياني، فلأنزعن منه الكهانة ومن ولده، ولأهلكنه وإياهما، فلما أصبح سأله عيلى فأخبره، ففزع لذلك فزعا شديدا، فسار إليهم عدو ممن حوله فأمر ابنيه أن يخرجا بالناس ويقاتلا ذلك العدو، فخرجا وأخرجا معهم التابوت الذي فيه الألواح وعصا موسى لينتصروا به فلما تهيئوا للقتال هم وعدوهم جعل عيلي يتوقع الخبر: ماذا صنعوا؟ فجاءه رجل يخبره وهو قاعد على كرسيه: أن ابنيك قد قتلا، وأن الناس قد انهزموا، قَالَ: فما فعل التابوت؟ قَالَ: ذهب به العدو قال فشهق ووقع على قفاه من كرسيه فمات، وذهب الذين سبوا التابوت حتى وضعوه في بيت آلهتهم، ولهم صنم يعبدونه، فوضعوه تحت الصنم والصنم من فوقه، فأصبح من الغد الصنم تحته، وهو فوق الصنم، ثم أخذوه فوضعوه فوقه، وسمروا قدميه في التابوت.
فأصبح من الغد قد قطعت يد الصنم ورجلاه، وأصبح ملقى تحت التابوت،.
فقال بعضهم لبعض: أليس قد علمتم أن إله بني إسرائيل لا يقوم له شيء! فأخرجوه من بيت آلهتكم فأخرجوا التابوت فوضعوه في ناحية من قريتهم، فأخذ أهل تلك الناحية التي وضعوا فيها التابوت وجع في أعناقهم، فقالوا:
ما هذا؟ فقالت لهم جارية كانت عندهم من سني بني إسرائيل: لا تزالون

(1/470)


ترون ما تكرهون! ما كان هذا التابوت فيكم، فأخرجوه من قريتكم قَالُوا:
كذبت، قالت: إن آية ذلك أن تأتوا ببقرتين، لهما أولاد لم يوضع عليهما نير قط، ثم تضعوا وراءهما العجل، ثم تضعوا التابوت على العجل وتسيروهما وتحبسوا أولادهما، فإنهما تنطلقان به مذعنتين، حتى إذا خرجتا من أرضكم ووقعتا في أدنى أرض بني إسرائيل كسرتا نيرهما، وأقبلتا إلى أولادهما، ففعلوا ذلك، فلما خرجتا من أرضهم، ووقعتا في أدنى أرض بني إسرائيل، كسرتا نيرهما وأقبلتا إلى أولادهما، ووضعتاه في خربة فيها حصاد من بني إسرائيل، ففزع إليه بنو إسرائيل، وأقبلوا إليه فجعل لا يدنو منه أحد إلا مات، فقال لهم نبيهم اشمويل اعترضوا، فمن آنس من نفسه قوة فليدن منه، فعرضوا عليه الناس، فلم يقدر أحد على أن يدنو منه، إلا رجلان من بني إسرائيل، أذن لهما بأن يحملاه إلى بيت أمهما، وهي أرملة، فكان في بيت أمهما، حتى ملك طالوت، فصلح أمر بني إسرائيل مع أشمويل فقالت بنو إسرائيل: لأشمويل: ابعث لنا ملكا يقاتل في سبيل الله، قَالَ: قد كفاكم الله القتال، قَالُوا إنا نتخوف من حولنا، فيكون لنا ملك نفزع إليه، فأوحى الله إلى أشمويل: أن ابعث لهم طالوت ملكا وادهنه بدهن القدس، فضلت حمر لأبي طالوت، فأرسله وغلاما له يطلبانها فجاءا إلى أشمويل يسألانه عنها، فقال إن الله قد بعثك ملكا على بني إسرائيل، قَالَ: انا! قال: نعم، قال اوما علمت أن سبطي أدنى أسباط بني إسرائيل! قَالَ: بلى، قَالَ أفما علمت أن قبيلتي أدنى قبائل سبطي! قَالَ: بلى، قَالَ: أما علمت أن بيتي أدنى بيوت قبيلتي؟ قَالَ: بلى، قَالَ: فبأية آية؟
قَالَ: بآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حمره، وإذا كنت في مكان كذا وكذا نزل عليك الوحي فدهنه بدهن القدس، وقال لبني إسرائيل: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُ

(1/471)


بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ» رجع الحديث إلى حديث السدي «وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً» فعبر يومئذ أبو داود فيمن عبر في ثلاثة عشر ابنا له، وكان داود أصغر بنيه وإنه أتاه ذات يوم فقال: يا أبتاه، ما أرمي بقذافتي شيئا إلا صرعته، قَالَ: أبشر يا بني، إن الله قد جعل رزقك في قذافتك، ثم أتاه مرة أخرى فقال: يا أبتاه لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسدا رابضا فركبت عليه وأخذت بأذنيه فلم يهجني، فقال: أبشر يا بني، فإن هذا خير يعطيكه الله، ثم أتاه يوما آخر، فقال: يا أبتاه إني لأمشي بين الجبال فأسبح فلا يبقى جبل إلا سبح معي، فقال: أبشر يا بني، فإن هذا خير أعطاكه الله- وكان داود راعيا، وكان أبوه خلفه يأتي إلى أبيه وإلى اخوته بالطعام- فاتى النبي ع بقرن فيه دهن وتنور من حديد، فبعث به الى طالوت، قال: إن صاحبكم الذي يقتل جالوت يوضع هذا القرن على رأسه، فيغلي حتى يدهن منه ولا يسيل على وجهه، ويكون على رأسه كهيئة الإكليل، ويدخل في هذا التنور فيملأه فدعا طالوت بني إسرائيل، فجربهم به فلم يوافقه منهم أحد، فلما فرغوا قَالَ طالوت لأبي داود: هل بقي لك ولد لم يشهدنا؟ قَالَ: نعم، بقي ابني داود، وهو يأتينا بطعام، فلما أتاه داود مر في الطريق بثلاثة أحجار فكلمنه وقلن له: خذنا يا داود تقتل بنا جالوت، قَالَ: فأخذهن وجعلهن في مخلاته، وكان طالوت قد قَالَ: من قتل جالوت زوجته ابنتي، وأجريت خاتمه في ملكي، فلما جاء داود وضعوا القرن على رأسه، فغلى حتى ادهن منه ولبس التنور فملأه، وكان رجلا مسقاما مصفارا، ولم يلبسه أحد إلا تقلقل فيه، فلما لبسه داود تضايق التنور عليه حتى تنقض، ثم مشى إلى جالوت، وكان جالوت من أجسم الناس واشدهم،

(1/472)


فلما نظر إلى داود قذف في قلبه الرعب منه، فقال له: يا فتى، ارجع فإني أرحمك أن أقتلك، فقال داود: لا بل أنا أقتلك فأخرج الحجارة فوضعها في القذافة، كلما رفع منها حجرا سماه، فقال: هذا باسم أبي إبراهيم، والثاني باسم أبي إسحاق، والثالث باسم أبي إسرائيل، ثم أدار القذافة فعادت الأحجار حجرا واحدا، ثم أرسله فصك به بين عيني جالوت فنقبت رأسه، ثم قتلته، فلم تزل تقتل كل إنسان تصيبه تنفذ فيه، حتى لم يكن بحيالها أحد، فهزموهم عند ذلك، وقتل داود جالوت، ورجع طالوت فأنكح داود ابنته، وأجرى خاتمه في ملكه، فمال الناس إلى داود وأحبوه.
فلما رأى ذلك طالوت وجد في نفسه وجسده، وأراد قتله، فعلم داود أنه يريده بذلك، فسجى له زق خمر في مضجعه فدخل طالوت إلى منام داود وقد هرب داود، فضرب الزق ضربة فخرقه، فسالت الخمر منه، فوقعت قطره من خمر في فيه، فقال: يرحم الله داود، ما كان أكثر شربه للخمر! ثم إن داود أتاه من القابلة في بيته وهو نائم، فوضع سهمين عند رأسه، وعند رجليه وعن يمينه وعن شماله سهمين سهمين، ثم نزل فلما استيقظ طالوت بصر بالسهام فعرفها فقال: يرحم الله داود، هو خير، مني، ظفرت به فقتلته وظفر بي فكف عني! ثم إنه ركب يوما فوجده يمشي في البرية، وطالوت على فرس، فقال طالوت: اليوم أقتل داود- وكان داود إذا فزع لم يدرك- فركض على أثره طالوت، ففزع داود، فاشتد فدخل غارا، فأوحى الله إلى العنكبوت فضربت عليه بيتا، فلما انتهى طالوت إلى الغار نظر إلى بناء العنكبوت، فقال: لو كان دخل هاهنا لخرق بيت العنكبوت، فخيل إليه فتركه.
وطعن العلماء على طالوت في شأن داود، فجعل طالوت لا ينهاه أحد عن داود إلا قتله، وأغراه الله بالعلماء يقتلهم، فلم يكن يقدر في بني إسرائيل على عالم يطيق قتله إلا قتله، حتى أتي بامرأة تعلم اسم الله الأعظم، فامر الخباز ان يقتلها،

(1/473)


فرحمها الخباز، وقال: لعلنا نحتاج إلى عالم فتركها، فوقع في قلب طالوت التوبة وندم، وأقبل على البكاء حتى رحمه الناس، وكان كل ليلة يخرج إلى القبور فيبكي، وينادي: أنشد الله عبدا علم أن لي توبة إلا أخبرني بها! فلما أكثر عليهم ليالي ناداه مناد من القبور: أن يا طالوت، أما ترضى أن قتلتنا أحياء حتى تؤذينا أمواتا! فازداد بكاء وحزنا، فرحمه الخباز فكلمه فقال: مالك؟ فقال: هل تعلم لي في الأرض عالما أسأله: هل لي من توبة؟
فقال له الخباز: هل تدري ما مثلك؟ إنما مثلك مثل ملك نزل قرية عشاء فصاح الديك، فتطير منه فقال: لا تتركوا في القرية ديكا إلا ذبحتموه، فلما أراد أن ينام قَالَ: إذا صاح الديك فأيقظونا حتى ندلج، فقالوا له: وهل تركت ديكا يسمع صوته! ولكن هل تركت عالما في الأرض! فازداد حزنا وبكاء، فلما راى الخباز منه الجد، قَالَ: أرأيتك إن دللتك على عالم لعلك أن تقتله! قَالَ: لا، فتوثق عليه الخباز، فاخبره ان المرأة العالمه عنده، قال:
انطلق بي إليها أسألها هل لي من توبة؟ وكان إنما يعلم ذلك الاسم أهل بيت، إذا فنيت رجالهم علمت النساء، فقال: إنها إن رأتك غشي عليها، وفزعت منك، فلما بلغ الباب خلفه خلفه، ثم دخل عليها الخباز، فقال لها: ألست أعظم الناس منة عليك؟ أنجيتك من القتل، وآويتك عندي قالت: بلى، قَالَ: فإن لي إليك حاجة، هذا طالوت يسألك: هل له من توبة؟ فغشي عليها من الفرق، فقال لها: إنه لا يريد قتلك، ولكن يسألك: هل له من توبة؟
قالت: لا، والله ما أعلم لطالوت توبة، ولكن هل تعلمون مكان قبر نبي؟
قَالُوا: نعم، هذا قبر يوشع بن نون، فانطلقت وهما معها إليه، فدعت، فخرج يوشع بن نون ينفض رأسه من التراب، فلما نظر إليهم ثلاثتهم قَالَ: ما لكم؟
أقامت القيامة؟ قالت: لا، ولكن طالوت يسألك: هل له من توبة؟ قَالَ يوشع: ما أعلم لطالوت من توبة إلا أن يتخلى من ملكه، ويخرج هو وولده فيقاتلون بين يديه في سبيل الله، حتى إذا قتلوا شد هو فقتل، فعسى أن يكون

(1/474)


ذلك له توبة، ثم سقط ميتا في القبر.
ورجع طالوت أحزن ما كان، رهبة ألا يتابعه ولده، فبكى حتى سقطت أشفار عينيه، ونحل جسمه، فدخل عليه بنوه وهم ثلاثة عشر رجلا فكلموه وسألوه عن حاله، فأخبرهم خبره، وما قيل له في توبته، فسألهم أن يغزوا معه، فجهزهم فخرجوا معه، فشدوا بين يديه حتى قتلوا، ثم شد بعدهم هو فقتل، وملك داود بعد ذلك، وجعله الله نبيا، فذلك قوله عز وجل:
«وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ» ، قيل: هي النبوة، آتاه نبوة شمعون وملك طالوت.
واسم طالوت بالسريانية شاول بن قيس بن أبيال بن ضرار بن بحرت بن أفيح بن أيش بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
وقال ابن إسحاق: كان النبي الذي بعث لطالوت من قبره حتى أخبره بتوبته اليسع بن أخطوب، حَدَّثَنَا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ.
وزعم أهل التوراة أن مدة ملك طالوت من أولها إلى أن قتل في الحرب مع ولده كانت أربعين سنة

(1/475)