تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
ذكر ما كان من الأمور المذكورة في أول سنة
من الهجرة
قال أبو جعفر: قد مضى ذكرنا وقت مقدم النبي ص المدينة، وموضعه الذي نزل
فيه حين قدمها، وعلى من كان نزوله، وقدر مكثه في الموضع الذي نزله،
وخبر ارتحاله عنه، ونذكر الآن ما لم نذكر قبل مما كان من الأمور
المذكورة في بقية سنة قدومه، وهي السنه الاولى من الهجره.
فمن ذلك تجميعه ص بأصحابه الجمعة، في اليوم الذي ارتحل فيه من قباء،
وذلك أن ارتحاله عنها كان يوم الجمعة عامدا المدينة، فأدركته الصلاة،
صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف، ببطن واد لهم- قد اتخذ اليوم في ذلك
الموضع مسجدا- فيما بلغني- وكانت هذه الجمعة، أول جمعة جمعها رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الإسلام، فخطب في هذه الجمعة،
وهي أول خطبة خطبها بالمدينة فيما قيل
خطبه رسول الله ص في أول جمعة جمعها بالمدينة
حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابن
وهب، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُمَحِيُّ،
انه بلغه عن خطبه رسول الله ص فِي أَوَّلِ جُمُعَةٍ صَلاهَا
بِالْمَدِينَةِ فِي بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَحْمَدُهُ وَأَسْتَعِينُهُ، وَأَسْتَغْفِرُهُ
وَأَسْتَهْدِيهِ، وَأُومِنُ بِهِ وَلا أَكْفُرُهُ، وَأُعَادِي مَنْ
يَكْفُرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا
شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ
بِالْهُدَى وَالنُّورِ وَالْمَوْعِظَةِ، عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ
الرُّسُلِ، وَقِلَّةٍ مِنَ
(2/394)
الْعِلْمِ، وَضَلالَةٍ مِنَ النَّاسِ،
وَانْقِطَاعٍ مِنَ الزَّمَانِ، وَدُنُوٍّ مِنَ السَّاعَةِ، وَقُرْبٍ
مِنَ الأَجَلِ، مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ
يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى وَفَرَّطَ، وَضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا
[وَأُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ خَيْرُ مَا أَوْصَى بِهِ
الْمُسْلِمُ الْمُسْلِمَ،] أَنْ يَحُضَّهُ عَلَى الآخِرَةِ، وَأَنْ
يَأْمُرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَاحْذَرُوا مَا حَذَّرَكُمُ اللَّهُ
مِنْ نَفْسِهِ، وَلا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ نَصِيحَةً، وَلا أَفْضَلَ
مِنْ ذَلِكَ ذِكْرًا، وَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ لِمَنْ عَمِلَ بِهِ
عَلَى وَجَلٍ وَمَخَافَةٍ مِنْ رَبِّهِ، عَوْنُ صِدْقٍ عَلَى مَا
تَبْغُونَ مِنْ أَمْرِ الآخِرَةِ [وَمَنْ يُصْلِحُ الَّذِي بَيْنَهُ
وَبَيْنَ اللَّهِ مِنْ أَمْرِهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلانِيَةِ، لا
يَنْوِي بِذَلِكَ إِلا وَجْهَ اللَّهِ يَكُنْ لَهُ ذِكْرًا فِي عَاجِلِ
أَمْرِهِ، وَذُخْرًا فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ،] حِينَ يَفْتَقِرُ
الْمَرْءُ إِلَى مَا قَدَّمَ، وَمَا كَانَ مِنْ سِوَى ذَلِكَ يَوَدُّ
لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً، وَيُحَذِّرُكُمُ
اللَّهُ نَفْسَهُ، وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ.
وَالَّذِي صَدَقَ قَوْلُهُ، وَأَنْجَزَ وَعْدَهُ، لا خُلْفَ لِذَلِكَ،
فَإِنَّهُ يَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ:
«مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ»
فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي عَاجِلِ أَمْرِكُمْ وَآجِلِهِ فِي السِّرِّ
وَالْعَلانِيَةِ، فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ
سَيِّئاتِهِ، وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ فَقَدْ
فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا وَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ يُوقِي مَقْتَهُ،
وَيُوقِي عُقُوبَتَهُ، وَيُوقِي سُخْطَهُ، وَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ
يُبَيِّضُ الْوُجُوهَ، وَيُرْضِي الرَّبَّ، وَيَرْفَعُ الدَّرَجَةَ.
خُذُوا بِحَظِّكُمْ، وَلا تُفَرِّطُوا فِي جَنْبِ اللَّهِ، قَدْ
عَلَّمَكُمُ اللَّهُ كِتَابَهُ، وَنَهَجَ لَكُمْ سَبِيلَهُ، لِيَعْلَمَ
الَّذِينَ صَدَقُوا وَيَعْلَمَ الْكاذِبِينَ فَأَحْسِنُوا كَمَا
أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ، وَعَادُوا أَعْدَاءَهُ، وَجاهِدُوا فِي
اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَسَمَّاكُمُ
الْمُسْلِمِينَ، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، ويحيا من حي
عن بينه، وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ [فَأَكْثِرُوا ذِكْرَ اللَّهِ،
وَاعْمَلُوا لِمَا بَعْدَ الْيَوْمِ،] [فَإِنَّهُ مَنْ يُصْلِحُ مَا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ يَكْفِهِ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
النَّاسِ،] ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقْضِي عَلَى النَّاسِ وَلا
يَقْضُونَ عَلَيْهِ، وَيَمْلِكُ مِنَ النَّاسِ وَلا يَمْلِكُونَ
(2/395)
مِنْهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلا قُوَّةَ
إِلا بِاللَّهِ الْعَظِيمِ!.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن ابن إسحاق،
ان رسول الله ص رَكِبَ نَاقَتَهُ، وَأَرْخَى لَهَا الزِّمَامَ،
فَجَعَلَتْ لا تَمُرُّ بِدَارٍ مِنْ دُورِ الأَنْصَارِ إِلا دَعَاهُ
أَهْلُهَا إِلَى النُّزُولِ عِنْدَهُمْ، وَقَالُوا لَهُ: هَلُمَّ يَا
رَسُولَ اللَّهِ! إِلَى الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ وَالْمَنَعَةِ، [فيقول
لهم ص: خَلُّوا زِمَامَهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ،] حَتَّى انْتَهَى
إِلَى مَوْضِعِ مَسْجِدِهِ الْيَوْمَ، فَبَرَكَتْ عَلَى بَابِ
مَسْجِدِهِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مِرْبَدٌ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ مِنْ
بَنِي النَّجَّارِ فِي حِجْرِ مُعَاذِ بْنِ عَفْرَاءَ، يُقَالُ
لأَحَدِهِمَا سَهْلٌ وَلِلآخَرِ سُهَيْلٌ، ابْنَا عَمْرِو بْنِ عباد
ابن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار فَلَمَّا بَرَكَتْ لَمْ يَنْزِلْ
عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ ص، ثُمَّ وَثَبَتْ فَسَارَتْ غَيْرَ بَعِيدٍ،
وَرَسُولُ اللَّهِ ص وَاضِعٌ لَهَا زِمَامَهَا لا يُثْنِيهَا بِهِ،
ثُمَّ الْتَفَتَتْ خَلْفَهَا، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى مَبْرَكِهَا
أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَبَرَكَتْ فِيهِ وَوَضَعَتْ جِرَانَهَا، وَنَزَلَ
عَنْهَا رسول الله ص، فَاحْتَمَلَ أَبُو أَيُّوبَ رَحْلَهُ، فَوَضَعَهُ
فِي بَيْتِهِ، فَدَعَتْهُ الأَنْصَارُ إِلَى النُّزُولِ عَلَيْهِمْ،
[فَقَالَ رَسُولُ الله ص: الْمَرْءُ مَعَ رَحْلِهِ] فَنَزَلَ عَلَى
أَبِي أَيُّوبَ خَالِدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كُلَيْبٍ، فِي بَنِي غَنْمِ
بْنِ النَّجَّارِ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَسَأَلَ رسول الله ص عَنِ الْمِرْبَدِ لِمَنْ
هُوَ؟ فَأَخْبَرَهُ مُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ، وَقَالَ: هُوَ
لِيَتِيمَيْنِ لِي، سَأُرْضِيهِمَا فَأَمَرَ به رسول الله ص أَنْ
يُبْنَى مَسْجِدًا، وَنَزَلَ عَلَى أَبِي أَيُّوبَ، حَتَّى بَنَى
مَسْجِدَهُ وَمَسَاكِنَهُ وَقِيلَ: إِنَّ رَسُولَ الله ص اشْتَرَى
مَوْضِعَ مَسْجِدِه، ثُمَّ بَنَاهُ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ، مَا حَدَّثَنَا مُجَاهِدُ بْنُ
موسى، قال: حدثنا
(2/396)
يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
حَمَّادُ بْنُ سلمه، عن ابى التياح، عن انس ابن مالك، قال: كان موضع
مسجد النبي ص لِبَنِي النَّجَّارِ، وَكَانَ فِيهِ نَخْلٌ وَحَرْثٌ
وَقُبُورٌ مِنْ قُبُورِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ
اللَّهِ ص: ثَامِنُونِي بِهِ، فَقَالُوا: لا نَبْتَغِي بِهِ ثَمَنًا
إِلا مَا عِنْدَ اللَّهِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ص بِالنَّخْلِ
فَقُطِعَ، وَبِالْحَرْثِ فَأُفْسِدَ، وَبِالْقُبُورِ فَنُبِشَتْ،
وَكَانَ رسول الله ص قَبْلَ ذَلِكَ يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ،
وَحَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ.
قال أبو جعفر: وتولى بناء مسجده ص هو بنفسه وأصحابه من المهاجرين
والأنصار.
وفي هذه السنة بني مسجد قباء.
وكان أول من توفي بعد مقدمه المدينة من المسلمين- فيما ذكر- صاحب منزله
كلثوم بن الهدم، لم يلبث بعد مقدمه إلا يسيرا حتى مات.
ثم توفي بعده أسعد بن زرارة في سنة مقدمه، أبو أمامة وكانت وفاته قبل
ان يفرغ رسول الله ص من بناء مسجده، بالذبحة والشهقة فَحَدَّثَنَا
ابْنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد ابن إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبْدِ الرحمن، [ان رسول الله ص قال: بئس الميت ابو امامه اليهود
وَمُنَافِقِي الْعَرَبِ! يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا
لَمْ يَمُتْ صَاحِبُهُ، وَلا أَمْلِكُ لِنَفْسِي وَلا لِصَاحِبِي مِنَ
اللَّهِ شَيْئًا]
(2/397)
وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ مَعْمَرٍ،
عَنِ الزهري، عن انس، ان النبي ص كوى اسعد ابن زُرَارَةَ مِنَ
الشَّوْكَةِ.
قَالَ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ:
حَدَّثَنِي عَاصِمُ ابن عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ الأَنْصَارِيُّ أَنَّهُ
لَمَّا مَاتَ أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، اجْتَمَعَتْ
بَنُو النجار الى رسول الله ص- وَكَانَ أَبُو أُمَامَةَ نَقِيبَهُمْ-
فَقَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ كَانَ مِنَّا حَيْثُ
قَدْ عَلِمْتَ، فَاجْعَلْ مِنَّا رَجُلا مَكَانَهُ، يُقِيمُ مِنْ
أَمْرِنَا مَا كَانَ يُقِيمُهُ، [فَقَالَ لهم رسول الله ص: أَنْتُمْ
أَخْوَالِي وَأَنَا مِنْكُمْ، وَأَنَا نَقِيبُكُمْ] .
قَالَ: وكره رسول الله ص أَنْ يَخُصَّ بِهَا بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ،
فَكَانَ من فضل بنى النجار الذى تعد على قومهم، ان رسول الله ص كَانَ
نَقِيبَهُمْ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ أَبُو أحيحة بماله بِالطَّائِفِ وَمَاتَ
الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ
فِيهَا بِمَكَّةَ.
وَفِيهَا بَنَى رَسُولِ الله ص بِعَائِشَةَ بَعْدَ مَقْدِمِهِ
الْمَدِينَةَ بِثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ، فِي ذِي الْقِعْدَةِ فِي قَوْلِ
بَعْضِهِمْ، وَفِي قَوْلِ بَعْضٍ: بَعْدَ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ
بِسَبْعَةِ أَشْهُرٍ، فِي شَوَّالٍ، وَكَانَ تَزَوَّجَهَا بِمَكَّةَ
قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلاثِ سِنِينَ بَعْدَ وَفَاةِ خَدِيجَةَ وَهِيَ
ابْنَةُ سِتِّ سِنِينَ، وَقَدْ قِيلَ: تَزَوَّجَهَا وَهِيَ ابْنَةُ
سَبْعٍ
(2/398)
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَيَانٍ
السُّكَّرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ
إِسْمَاعِيلَ- يَعْنِي ابْنَ أَبِي خَالِدٍ- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ أَبِي الضَّحَّاكِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ صَفْوَانَ
وَآخَرُ مَعَهُ أَتَيَا عَائِشَةَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا فُلانُ،
أَسَمِعْتَ حَدِيثَ حَفْصَةَ؟ قَالَ لَهَا: نَعَمْ يَا أُمَّ
الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ لَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ: وَمَا
ذَاكَ؟ قَالَتْ:
خِلالٌ فِيَّ تِسْعٌ لَمْ تَكُنْ فِي أَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا
آتَى اللَّهُ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ، وَاللَّهِ مَا أَقُولُ هَذَا
فَخْرًا عَلَى أَحَدٍ مِنْ صَوَاحِبِي، قَالَ لَهَا: وَمَا هن؟
قَالَتْ: نَزَلَ الْمَلَكُ بِصُورَتِي، وَتَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ
ص لِسَبْعِ سِنِينَ، وَأُهْدِيتُ إِلَيْهِ لِتِسْعِ سِنِينَ،
وَتَزَوَّجَنِي بِكْرًا لَمْ يُشْرِكْهُ فِيَّ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ،
وَكَانَ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ وَأَنَا وَهُوَ فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ،
وَكُنْتُ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَنَزَلَ فِيَّ آيَةٌ مِنَ
الْقُرْآنِ كَادَتِ الأُمَّةُ أَنْ تَهْلِكَ، وَرَأَيْتُ جِبْرِيلَ
وَلَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنْ نِسَائِهِ غَيْرِي، وَقُبِضَ فِي بَيْتِي
لَمْ يَلِهِ أَحَدٌ غَيْرُ الْمَلَكِ وَأَنَا قال أبو جعفر: وتزوجها
رسول الله ص- فيما قيل- في شوال، وبنى بها حين بنى بها في شوال.
ذكر الرواية بذلك:
حدثنا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا سُفْيَانَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ
الله بن عروه، عن ابيه، عن عائشة، قالت: تزوجني رسول الله ص في شوال،
وبنى بي في شوال.
وكانت عائشة تستحب ان يبنى بالنساء في شوال
(2/399)
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ سُفْيَانَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ،
قالت: تزوجني رسول الله ص فِي شَوَّالٍ، وَبَنَى بِي فِي شَوَّالٍ،
فَأَيُّ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ كَانَتْ أَحْظَى عِنْدَهُ مِنِّي!
وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَسْتَحِبُّ أَنْ يُدْخَلَ بِالنِّسَاءِ فِي
شَوَّالٍ.
قال أبو جعفر: وقيل: إن رسول الله ص بنى بها في شوال يوم الأربعاء، في
منزل أبي بكر بالسنح.
وفي هذه السنة بعث النبي ص إلى بناته وزوجته سودة بنت زمعة، زيد بن
حارثة وأبا رافع، فحملاهن من مكة إلى المدينة.
ولما رجع- فيما ذكر- عبد الله بن أريقط إلى مكة أخبر عبد الله بن أبي
بكر بمكان أبيه أبي بكر، فخرج عبد الله بعيال أبيه إليه، وصحبهم طلحة
بن عبيد الله، معهم أم رومان، وهي أم عائشة، وعبد الله بن أبي بكر حتى
قدموا المدينة.
وفي هذه السنة زيد في صلاة الحضر- فيما قيل- ركعتان، وكانت صلاة الحضر
والسفر ركعتين، وذلك بعد مقدم رسول الله ص المدينة بشهر، في ربيع
الآخر، لمضي اثنتي عشرة ليلة منه، زعم الواقدي أنه لا خلاف بين أهل
الحجاز فيه.
وفيها- في قول بعضهم- ولد عبد الله بن الزبير وفي قول الواقدي:
ولد في السنة الثانية من مقدم رسول الله ص المدينة في شوال
(2/400)
حدثني الحارث، قَالَ: حدثنا ابن سعد،
قَالَ: قَالَ محمد بن عمر الواقدي: ولد ابن الزبير بعد الهجرة بعشرين
شهرا بالمدينة.
قال أبو جعفر: وكان أول مولود ولد من المهاجرين في دار الهجرة، فكبر-
فيما ذكر- اصحاب رسول الله ص حين ولد، وذلك أن المسلمين كانوا قد
تحدثوا أن اليهود يذكرون أنهم قد سحروهم فلا يولد لهم، فكان تكبيرهم
ذلك سرورا منهم بتكذيب الله اليهود فيما قالوا من ذلك.
وقيل: إن أسماء بنت أبي بكر، هاجرت إلى المدينة وهي حامل به.
وقيل أيضا: إن النعمان بن بشير ولد في هذه السنة، وإنه أول مولود ولد
للأنصار بعد هجره النبي ص إليهم، وأنكر ذلك الواقدي أيضا.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا الواقدي، قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قال: كان أول مولود من الأنصار النعمان بن
بشير، ولد بعد الهجرة بأربعة عشر شهرا، فتوفى رسول الله ص وهو ابن
ثماني سنين، أو أكثر قليلا.
قال: وولد النعمان قبل بدر بثلاثة أشهر أو أربعة.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا مُحَمَّد بن عمر، قال:
حدثنا مصعب بن ثابت، عن أبي الأسود، قال: ذكر النعمان بن بشير عند ابن
الزبير، فقال: هو أسن مني بستة أشهر.
قال أبو الأسود: ولد ابن الزبير على رأس عشرين شهرا من مهاجر
(2/401)
رسول الله ص، وولد النعمان على رأس أربعة
عشر شهرا في ربيع الآخر.
قال أبو جعفر: وقيل: إن المختار بن أبي عبيد الثقفي وزياد ابن سمية
فيها ولدا.
قال: وزعم الواقدي ان رسول الله ص عقد في هذه السنة في شهر رمضان، على
رأس سبعة أشهر من مهاجره، لحمزة بن عبد المطلب لواء أبيض في ثلاثين
رجلا من المهاجرين، ليعترض لعيرات قريش، وأن حمزة لقي أبا جهل بن هشام
في ثلاثمائه رجل، فحجز بينهم مَجديّ بن عمرو الجهني فافترقوا، ولم يكن
بينهم قتال وكان الذي يحمل لواء حمزة أبو مرثد.
وأن رسول الله ص عقد أيضا في هذه السنة، على رأس ثمانية أشهر من مهاجره
في شوال، لعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف لواء أبيض، وأمره
بالمسير إلى بطن رابغ، وأن لواءه كان مع مسطح بن أثاثة، فبلغ ثنية
المرة- وهي بناحية الجحفة- في ستين من المهاجرين، ليس فيهم أنصاري،
وأنهم التقوا هم والمشركون على ماء يقال له أحياء، فكان بينهم الرمي
دون المسايفة.
قال: وقد اختلفوا في أمير السرية، فقال بعضهم: كان أبو سفيان بن حرب،
وقال بعضهم: كان مكرز بن حفص.
قال الواقدي: ورأيت الثبت على أبي سفيان بن حرب، وكان في مائتين من
المشركين
(2/402)
قال: وفيها عقد رسول الله ص لسعد بن أبي
وقاص إلى الخرار لواء أبيض يحمله المقداد بن عمرو في ذي القعدة وقال:
حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِيهِ، عن عامر بن
سعد، عن أبيه، قال: خرجت في عشرين رجلا على أقدامنا- أو قال: واحد
وعشرين رجلا- فكنا نكمن النهار، ونسير الليل حتى صبحنا الخرار صبح
خامسه، وكان رسول الله ص، قد عهد إلي ألا أجاوز الخرار، وكانت العير قد
سبقتني قبل ذلك بيوم، وكانوا ستين، وكان من مع سعد كلهم من المهاجرين.
قال أبو جعفر: وقال ابن إسحاق في أمر كل هذه السرايا التي ذكرت عن
الواقدي قوله فيها غير ما قاله الواقدي، وأن ذلك كله كان في السنة
الثانية من وقت التاريخ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا
سَلَمَةُ بْنُ الفضل، قال: حدثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ:
قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ص الْمَدِينَةَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ
لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْهُ، فَأَقَامَ بِهَا مَا
بَقِيَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ وَشَهْرَ رَبِيعٍ الآخِرِ
وَجُمَادَيَيْنِ وَرَجَبَ وَشَعْبَانَ وَرَمَضَانَ وَشَوَّالًا وَذَا
الْقِعْدَةِ وَذَا الْحِجَّةِ- وولى تلك الحجة المشركون- والمحرم.
وَخَرَجَ فِي صَفَرٍ غَازِيًا عَلَى رَأْسِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا
مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ، لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ
مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، حَتَّى بَلَغَ وَدَّانَ، يُرِيدُ
قُرَيْشًا وَبَنِي ضَمْرَةَ بْنَ بكر بْن عبد مناة بْن كنانة، وهي
غَزْوَةَ الأَبْوَاءِ، فَوَادَعَتْهُ فِيهَا بَنُو ضَمْرَةَ، وَكَانَ
الذى وادعه منهم عليهم سَيِّدُهُمْ كَانَ فِي زَمَانِهِ ذَلِكَ،
مَخْشِيُّ بْنُ عمرو، رجل منهم
(2/403)
قال: ثم رجع رسول الله ص إلى المدينة، ولم
يلق كيدا، فأقام بها بَقِيَّةَ صَفَرٍ وَصَدْرًا مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ
الأَوَّلِ.
وَبَعَثَ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ
الْمُطَّلِبِ فِي ثَمَانِينَ أَوْ سِتِّينَ رَاكِبًا من المهاجرين، ليس
فيهم من الأنصار أحد، حَتَّى بَلَغَ أَحْيَاءَ مَاءٍ بِالْحِجَازِ
بِأَسْفَلِ ثَنِيَّةِ الْمَرَّةِ، فَلَقِيَ بِهَا جَمْعًا عَظِيمًا
مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، إِلَّا أَنَّ سَعْدَ
بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ قَدْ رَمَى يَوْمَئِذٍ بِسَهْمٍ، فَكَانَ أَوَّلَ
سَهْمٍ رُمِيَ بِهِ فِي الإِسْلَامِ.
ثُمَّ انْصَرَفَ الْقَوْمُ عَنِ الْقَوْمِ وَلِلْمُسْلِمِينَ حَامِيةٌ،
وَفَرَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ الْمِقْدَادُ بْنُ
عَمْرٍو الْبَهْرَانِيُّ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ، وَعُتْبَةُ بْنُ
غَزْوَانَ بْنِ جَابِرٍ حَلِيفُ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ-
وَكَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَلَكِنَّهُمَا خَرَجَا يَتَوَصَلانِ
بِالْكُفَّارِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ- وَكَانَ عَلَى ذَلِكَ الْجَمْعِ
عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: فَكَانَتْ رَايَةُ عُبَيْدَةَ- فِيمَا بَلَغَنِي-
أَوَّلَ رَايَةٍ عَقَدَهَا رسول الله ص فِي الإِسْلامِ لأَحَدٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ.
وَحَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حدثني محمد بْنُ
إِسْحَاقَ، قَالَ: وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَزْعُمُ أَنَّ رسول الله ص
كَانَ بَعَثَهُ حِينَ أَقْبَلَ مِنْ غَزْوَةِ الأَبْوَاءِ قَبْلَ أَنْ
يَصِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَ:
وَبَعَثَ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ
إِلَى سَيْفِ الْبَحْرِ مِنْ نَاحِيَةِ الْعِيصِ فِي ثَلَاثِينَ
رَاكِبًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَهِيَ مِنْ أَرْضِ جُهَيْنَةَ لَيْسَ
فِيهِمْ مِنَ الأَنْصَارِ أَحَدٌ، فَلَقِيَ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ
بِذَلِكَ السَّاحِلِ فِي ثلاثمائة
(2/404)
رَاكِبٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَحَجَزَ
بَيْنَهُمْ مَجديّ بْنُ عَمْرٍو الْجُهَنِيُّ، وَكَانَ مُوَادِعًا
لِلْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا، فَانْصَرَفَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ عَنْ
بَعْضٍ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ.
قَالَ: وَبَعْضُ الْقَوْمِ يَقُولُ: كَانَتْ رَايَةُ حَمْزَةَ أَوَّلَ
رَايَةٍ عَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ ص لأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ،
وَذَلِكَ أَنَّ بَعْثَهُ وَبَعْثَ عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ كَانَا
مَعًا، فَشُبِّهَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ.
قَالَ: وَالَّذِي سَمِعْنَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدَنَا أَنَّ
رَايَةَ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ كَانَتْ أَوَّلَ رَايَةٍ عُقِدَتْ
فِي الإِسْلَامِ.
قَالَ: ثم غزا رسول الله ص فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الآخِرِ، يُرِيدُ
قُرَيْشًا، حَتَّى إذا بلغ بواط مِنْ نَاحِيَةِ رَضْوَى رَجَعَ وَلَمْ
يَلْقَ كَيْدًا، فَلَبِثَ بَقِيَّةَ شَهْرِ رَبِيعٍ الآخِرِ وَبَعْضَ
جُمَادَى الأُولَى.
ثُمَّ غَزَا يُرِيدُ قُرَيْشًا، فَسَلَكَ عَلَى نَقْبِ بَنِي دِينَارِ
بْنِ النَّجَّارِ، ثُمَّ عَلَى فَيْفَاءِ الْخَبَارِ، فَنَزَلَ تَحْتَ
شَجَرَةٍ بِبَطْحَاءِ ابْنِ أَزْهَرَ، يُقَالُ لَهَا:
ذَاتُ السَّاقِ، فَصَلَّى عِنْدَهَا، فَثَمَّ مَسْجِدُهُ وَصُنِعَ لَهُ
عِنْدَهَا طَعَامٌ فَأَكَلَ مِنْهُ وَأَكَلَ النَّاسُ مَعَهُ،
فَمَوْضِعُ أَثَافي البرمة معلوم هنالك وَاسْتَقَى لَهُ مِنْ مَاءٍ
بِهِ يُقَالُ لَهُ الْمُشيربُ ثُمَّ ارْتَحَلَ فَتَرَكَ الْخَلَائِقَ
بِيَسَارٍ، وَسَلَكَ شُعْبَةً يُقَالُ لَهَا شُعْبَةُ عَبْدِ اللَّهِ-
وَذَلِكَ اسْمُهَا الْيَوْمَ- ثُمَّ صب ليسار، حتى هبط يليل، فَنَزَلَ
بِمُجْتَمَعِهِ وَمُجْتَمَعِ الضّبُوعَةِ، وَاسْتُقِيَ لَهُ مِنْ
بِئْرٍ بِالضبُوعَةِ ثُمَّ سَلَكَ الْفرش، فرش ملل، حتى لقى الطريق
بصخيرات الْيَمَامِ ثُمَّ اعْتَدَلَ بِهِ الطَّرِيقُ حَتَّى
(2/405)
نَزَلَ الْعَشِيرَةَ مِنْ بَطْنِ يَنْبُعَ،
فَأَقَامَ بِهَا بَقِيَّةَ جُمَادَى الأُولَى وَلَيَالِيَ مِنْ
جُمَادَى الآخِرَةِ، وَوَادَعَ فِيهَا بَنِي مُدْلجٍ وَحُلَفَاءَهُمْ
مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ.
ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَلْق كَيْدًا.
وَفِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ ابى طالب ع مَا قَالَ.
قَالَ: فَلَمْ يَقُمْ رَسُولُ اللَّهِ ص حِينَ قَدِمَ مِنْ غَزْوَةِ
الْعُشَيْرَةِ بِالْمَدِينَةِ إِلَّا ليالي قَلَائِلَ لا تَبْلُغُ
الْعُشْرَ، حَتَّى أَغَارَ كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ الْفِهْرِيُّ عَلَى
سَرْحِ الْمَدِينَةِ، فَخَرَجَ رسول الله ص فِي طَلَبِهِ، حَتَّى
بَلَغَ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ سَفَوَانُ مِنْ نَاحِيَةِ بَدْرٍ،
وَفَاتَهُ كُرْزٌ فَلَمْ يدركه، وهي غزو بدر الاولى، ثم رجع رسول الله
ص إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَقَامَ بِهَا بَقِيَّةَ جُمَادَى الآخِرَةِ
ورجب وَشَعْبَانَ وَقَدْ كَانَ بَعَثَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ سَعْدَ
بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ فِي ثَمَانِيَةِ رَهْطٍ.
وَزَعَمَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي السَّنَةَ
الأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ- جَاءَ أَبُو قَيْسِ بن الاسلت رسول الله ص،
فعرض عليه رسول الله ص الإِسْلَامَ، فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ مَا تَدْعُو
إِلَيْهِ! أَنْظُرُ فِي أَمْرِي، ثُمَّ أَعُودُ إِلَيْكَ فَلَقِيَهُ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، فَقَالَ لَهُ: كَرِهْتُ وَاللَّهِ حَرْبَ
الْخَزْرَجِ! فَقَالَ أَبُو قَيْسٍ: لا أُسْلِمُ سَنَةً، فَمَاتَ فِي
ذِي الْقَعْدَةَ
(2/406)
ثم كانت
السنة الثانية من الهجرة
فغزا رسول الله ص- في قول جميع أهل السير- فيها، في ربيع الأول بنفسه
غزوة الأبواء- ويقال ودان- وبينهما ستة أميال هي بحذائها، واستخلف رسول
الله ص على المدينة حين خرج إليها سعد بن عبادة بن دليم وكان صاحب
لوائه في هذه الغزاة حمزة بن عبد المطلب، وكان لواؤه- فيما ذكر- أبيض.
وقال الواقدي: كان مقامه بها خمس عشرة ليلة، ثم قدم المدينة.
قال الواقدى: ثم غزا رسول الله ص في مائتين من أصحابه، حتى بلغ بواط في
شهر ربيع الأول، يعترض لعيرات قريش، وفيها أمية بن خلف ومائة رجل من
قريش، والفان وخمسمائة بعير ثم رجع ولم يلق كيدا.
وكان يحمل لواءه سعد بن أبي وقاص، واستخلف على المدينة سعد ابن معاذ في
غزوته هذه.
قال: ثم غزا في ربيع الاول في طلب كرز بن جابر الفهري في المهاجرين،
وكان قد أغار على سرح المدينة، وكان يرعى بالجماء فاستاقه، فطلبه رسول
الله ص حتى بلغ بدرا فلم يلحقه، وكان يحمل لواءه علي بن أبي طالب ع
واستخلف على المدينة زيد بن حارثة
(2/407)
غزوه ذات العشيره
قال: وفيها خرج رسول الله ص يعترض لعيرات قريش حين أبدأت إلى الشام في
المهاجرين- وهي غزوة ذات العشيرة- حتى بلغ ينبع، واستخلف على المدينة
أبا سلمة بن عبد الأسد، وكان يحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب
فَحَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عُمَرَ بْنِ خَالِدٍ الرَّقِّيُّ،
قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سلمة، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ
الْقُرَظِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُوكَ يَزِيدُ بْنُ خُثَيْمٍ، عَنْ
عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ كُنْتُ انا وعلى رفيقين مع رسول الله ص
فِي غَزْوَةِ الْعَشِيرَةِ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلا، فَرَأَيْنَا رِجَالا
مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ يَعْمَلُونَ فِي نَخْلٍ لَهُمْ، فَقُلْتُ: لَوِ
انْطَلَقْنَا! فَنَظَرْنَا إِلَيْهِمْ كَيْفَ يَعْمَلُونَ،
فَانْطَلَقْنَا فَنَظَرْنَا إِلَيْهِمْ سَاعَةً، ثُمَّ غَشِيَنَا
النُّعَاسُ، فَعَمَدْنَا إِلَى صُورٍ مِنَ النَّخْلِ، فَنِمْنَا
تَحْتَهُ فِي دَقْعَاءَ مِنَ التُّرَابِ، فَمَا أَيْقَظَنَا إِلا رسول
الله ص، أَتَانَا وَقَدْ تَتَرَّبْنَا فِي ذَلِكَ التُّرَابِ،
[فَحَرَّكَ عَلِيًّا بِرِجْلِهِ، فَقَالَ: قُمْ يَا أَبَا تُرَابٍ،
أَلا أُخْبِرُكَ بِأَشْقَى النَّاسِ؟
أَحْمَرَ ثَمُودَ عَاقِرِ النَّاقَةِ، وَالَّذِي يَضْرِبُكَ يَا
عَلِيُّ عَلَى هَذَا
(2/408)
- يَعْنِي قَرْنَهُ- فَيُخَضِّبُ هَذِهِ
مِنْهَا، وَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ] .
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قال:
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ خُثَيْمٍ الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ ابن كَعْبٍ
الْقُرَظِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خُثَيْمٍ- وَهُوَ أَبُو يَزِيدَ-
عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَعَلِيٌّ رفيقين،
فذكر نحوه.
وقد قيل في ذلك غير هذا القول، وذلك ما حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ
عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قِيلَ لِسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ:
إِنَّ بَعْضَ أُمَرَاءِ الْمَدِينَةِ يُرِيدُ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْكَ
تَسُبُّ عَلِيًّا عِنْدَ الْمِنْبَرِ، قَالَ: أَقُولُ مَاذَا؟ قَالَ:
تَقُولُ: أَبَا تُرَابٍ، قَالَ: وَاللَّهِ ما سماه بذلك الا رسول الله
ص، قَالَ: قُلْتُ: وَكَيْفَ ذَاكَ يَا أَبَا الْعَبَّاسِ؟ قَالَ:
دَخَلَ عَلِيٌّ عَلَى فَاطِمَةَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا،
فَاضْطَجَعَ فِي فَيْءِ الْمَسْجِدِ قَالَ: ثم دخل رسول الله ص عَلَى
فَاطِمَةَ، فَقَالَ لَهَا: أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ؟ فَقَالَتْ: هُوَ
ذَاكَ مُضْطَجِعٌ فِي الْمَسْجِدِ، قَالَ: فجاءه رسول الله ص،
فَوَجَدَهُ قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ ظَهْرِهِ، وَخَلُصَ التُّرَابُ
إِلَى ظَهْرِهِ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ التُّرَابَ عَنْ ظهره، ويقول: اجلس
أبا تراب فو الله ما سماه به الا رسول الله ص، وو الله مَا كَانَ لَهُ
اسْمٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْهُ!
(2/409)
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة في صفر، لليال
بقين منه، تزوج علي بن ابى طالب ع فاطمة رضي الله عنها، حدثت بذلك، عن
مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْن عبد الله
بْن أبي سبرة، عن إسحاق ابن عبد الله بن أبي فروة، عن أبي جعفر
. سريه عبد الله بن جحش
قال أبو جعفر الطبري: ولما رجع رسول الله ص من طلب كرز بن جابر الفهري
إلى المدينة، وذلك في جمادى الآخرة، بعث في رجب عبد الله بن جحش معه
ثمانية رهط من المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحد، فيما حَدَّثَنَا
ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة قال: حدثني محمد بن إسحاق،
قال: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ
بْنِ الزُّبَيْرِ، بِذَلِكَ.
وَأَمَّا الْوَاقِدِيُّ فَإِنَّهُ زَعَمَ ان رسول الله ص بعث عبد الله
ابن جَحْشٍ سريةً فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ
رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ
وَيَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ، قال: وكتب رسول الله ص له
كتابا- يعنى
(2/410)
لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ- وَأَمَرَهُ
أَلَّا يَنْظُرَ فِيهِ حَتَّى يَسِيرَ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ يَنْظُرَ
فِيهِ فَيُمْضِيَ لَهُ أَمْرَهُ بِهِ، وَلا يَسْتَكْرِهَ أَحَدًا من
اصحابه، فلما سار عبد الله ابن جَحْشٍ يَوْمَيْنِ، فَتَحَ الْكِتَابَ،
وَنَظَرَ فِيهِ، فَإِذَا فيه: وإذا نَظَرْتَ فِي كِتَابِي هَذَا،
فِسِرْ حَتَّى تَنْزِلَ نَخْلَةً بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ،
فَتَرَصَّدْ بِهَا قُرَيْشًا، وَتَعَلَّمْ لَنَا مِنْ أَخْبَارِهِمْ
فَلَمَّا نَظَرَ عَبْدُ اللَّهِ فِي الْكِتَابِ، قَالَ: سَمْعٌ
وَطَاعَةٌ، ثُمَّ قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله ص أَنْ أَمْضِيَ
إِلَى نَخْلَةٍ، فَأَرْصُدَ بِهَا قُرَيْشًا حَتَّى آتِيَهُ مِنْهُمْ
بِخَبَرٍ، وَقَدْ نَهَانِي أَنْ أَسْتَكْرِهَ أَحَدًا مِنْكُمْ، فَمَنْ
كَانَ مِنْكُمْ يُرِيدُ الشَّهَادَةَ، وَيَرْغَبُ فِيهَا
فَلْيَنْطَلِقْ، وَمَنْ كَرِهَ ذَلِكَ فَلْيَرْجِعْ، فَأَمَّا أَنَا
فَمَاضٍ لأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ص.
فَمَضَى وَمَضَى مَعَهُ أَصْحَابُهُ، فَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ
مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَسَلَكَ عَلَى الْحِجَازِ، حَتَّى إِذَا كَانَ
بِمَعْدِنٍ فَوْقَ الْفَرْعِ يُقَالُ لَهُ بَحْرَانُ، أَضَلَّ سَعْدُ
بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعُتْبَةُ بْنُ غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه،
فَتَخَلَّفَا عَلَيْهِ فِي طَلَبِهِ وَمَضَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
جَحْشٍ وَبَقِيَّةُ أَصْحَابِهِ حَتَّى نَزَلَ بِنَخْلَةٍ، فَمَرَّتْ
بِهِ عِيرٌ لِقُرَيْشٍ تَحْمِلُ زَبِيبًا وَأَدَمًا وَتِجَارَةً مِنْ
تِجَارَةِ قُرَيْشٍ فِيهَا، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ،
وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأَخُوهُ نَوْفَلُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّانِ،
وَالْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ.
فَلَمَّا رَآهُمُ الْقَوْمُ هَابُوهُمْ، وَقَدْ نَزَلُوا قَرِيبًا
مِنْهُمْ، فَأَشْرَفَ لَهُمْ عُكَّاشَةُ بْنُ مُحْصِنٍ- وَقَدْ كَانَ
حَلَقَ رَأْسَهُ- فَلَمَّا رَأَوْهُ أَمِنُوا، وَقَالُوا: عُمَّارٌ لا
بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ وَتَشَاوَرَ الْقَوْمُ فِيهِمْ، وَذَلِكَ
فِي آخِرِ يَوْمٍ من رجب،
(2/411)
فَقَالَ الْقَوْمُ: وَاللَّهِ لَئِنْ
تَرَكْتُمُ الْقَوْمَ هَذِهِ الليلة ليدخلن الحرم، فليمتنعن بِهِ
مِنْكُمْ، وَلَئِنْ قَتَلْتُمُوهُمْ لَتَقْتُلَنَّهُمْ فِي الشَّهْرِ
الْحَرَامِ فَتَرَدَّدَ الْقَوْمُ، وَهَابُوا الإِقْدَامَ عَلَيْهِمْ،
ثُمَّ تَشَجَّعُوا عَلَيْهِمْ، وَأَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِ مَنْ
قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْهُمْ، وَأَخْذِ مَا مَعَهُمْ، فَرَمَى وَاقِدُ
بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ،
وَاسْتَأْسَرَ عُثْمَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَكَمَ بْنَ
كَيْسَانَ، وَأَفْلَتَ نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَأَعْجَزَهُمْ،
وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وَأَصْحَابُهُ بِالْعِيرِ
وَالأَسِيرَيْنِ، حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ الله ص
بِالْمَدِينَةِ.
قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، أَنَّ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جحش، قال لأصحابه: ان لرسول الله ص مِمَّا
غَنِمْتُمُ الْخُمُسَ- وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ اللَّهُ مِنَ
الْغَنَائِمِ الْخُمُسَ- فَعَزَلَ لِرَسُولِ اللَّهِ ص خُمُسَ
الْغَنِيمَةِ، وَقَسَّمَ سَائِرَهَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا
قدموا على رسول الله ص، [قَالَ: مَا أَمَرْتُكُمْ بِقِتَالٍ فِي
الشَّهْرِ الْحَرَامِ] فَوَقَّفَ الْعِيرَ وَالأَسِيرَيْنِ، وَأَبَى
أَنْ يَأْخُذَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا.
فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ ص سَقَطَ فِي أَيْدِي
الْقَوْمِ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا، وَعَنَّفَهُمُ
الْمُسْلِمُونَ فِيمَا صَنَعُوا وَقَالُوا لَهُمْ: صَنَعْتُمْ مَا لَمْ
تُؤْمَرُوا بِهِ، وَقَاتَلْتُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَلَمْ
تُؤْمَرُوا بِقِتَالٍ! وَقَالَتْ قُرَيْشٌ:
قَدِ اسْتَحَلَّ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ الشَّهْرَ الْحَرَامَ،
فَسَفَكُوا فِيهِ الدَّمُ وَأَخَذُوا فِيهِ الأَمْوَالَ، وَأَسَرُوا
فِيهِ الرِّجَالَ فَقَالَ مَنْ يَرُدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ كَانَ بِمَكَّةَ: إِنَّمَا أَصَابُوا مَا
أصابوا في شعبان وقالت يهود، تفاءل بذلك على رسول الله ص: عَمْرُو بْنُ
الْحَضْرَمِيِّ قَتَلَهُ وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: عَمْرٌو
عَمَرَتِ الْحَرْبُ، وَالْحَضْرَمِيُّ حَضَرَتِ الْحَرْبُ، وَوَاقِدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَقَدَتِ الْحَرْبُ، فَجَعَلَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ لا لَهُمْ.
فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل على
رسوله ص
(2/412)
: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ
قِتالٍ فِيهِ» الآية.
فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِهَذَا مِنَ الأَمْرِ وَفَرَجَ اللَّهُ
عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا كَانُوا فِيهِ من الشفق، قبض رسول الله ص
الْعِيرَ وَالأَسِيرَيْنِ.
وبَعَثَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ فِي فِدَاءِ عثمان بن عبد الله والحكم بن
كيسان، [فقال رسول الله ص: لا نُفْدِيكُمُوهُمَا، حَتَّى يَقْدُمَ
صَاحِبَانَا- يَعْنِي سَعْدَ ابن أَبِي وَقَّاصٍ وَعُتْبَةَ بْنَ
غَزْوَانَ- فَإِنَّا نَخْشَاكُمْ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ تَقْتُلُوهُمَا
نَقْتُلْ صَاحِبَيْكُمْ] فَقَدِمَ سَعْدٌ وعتبة، ففاداهما رسول الله ص
مِنْهُمْ، فَأَمَّا الْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ فَأَسْلَمَ فَحَسُنَ
اسلامه، واقام عند رسول الله ص حَتَّى قُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ
شَهِيدًا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَخَالَفَ فِي بَعْضِ هَذِهِ
الْقِصَّةِ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ وَالْوَاقِدِيَّ جَمِيعًا
السُّدِّيُّ، حَدَّثَنِي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال:
حدثنا اسباط، عن السدى: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ
قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ»
، وذلك ان رسول الله ص بَعَثَ سَرِيَّةً وَكَانُوا سَبْعَةَ نَفَرٍ،
عَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ الأَسَدِيُّ وَفِيهِمْ عَمَّارُ
بْنُ يَاسِرٍ، وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ،
وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ السُّلَمِيُّ
حَلِيفٌ لِبَنِي نَوْفَلٍ، وَسُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ، وَعَامِرُ بْنُ
فُهَيْرَةَ، وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْيَرْبُوعِيُّ، حَلِيفٌ
لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَكَتَبَ مَعَ ابن جحش كتابا وامره الا
يَقْرَأَهُ حَتَّى يَنْزِلَ بَطْنَ مَلَلٍ، فَلَمَّا نَزَلَ بَطْنَ
مَلَلٍ فَتَحَ الْكِتَابَ، فَإِذَا فِيهِ: أَنْ سِرْ حَتَّى تَنْزِلَ
بَطْنَ نَخْلَةَ، فَقَالَ لأَصْحَابِهِ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ
(2/413)
الْمَوْتَ فَلْيَمْضِ وَلْيُوصِ، فَإِنِّي
مُوصٍ وَمَاضٍ لأَمْرِ رسول الله ص فَسَارَ وَتَخَلَّفَ عَنْهُ سَعْدُ
بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ، أَضَلا رَاحِلَةً
لَهُمَا، فَأَتَيَا بِحَرَّانَ يَطْلُبَانِهَا، وَسَارَ ابْنُ جَحْشٍ
إِلَى بَطْنِ نَخْلَةَ، فَإِذَا هُوَ بِالْحَكَمِ بْنِ كَيْسَانَ،
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ عُثْمَانَ،
وَعَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ، فَاقْتَتَلُوا، فَأَسَرُوا الْحَكَمَ
بْنَ كَيْسَانَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَانْفَلَتَ
الْمُغِيرَةُ، وَقُتِلَ عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ، قَتَلَهُ وَاقِدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.
فَكَانَتْ أَوَّلُ غَنِيمَةٍ غَنِمَهَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ص.
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ بِالأَسِيرَيْنِ وَمَا أَصَابُوا
مِنَ الأَمْوَالِ، أَرَادَ أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يُفَادُوا الاسيرين،
فقال النبي ص: حَتَّى نَنْظُرَ مَا فَعَلَ صَاحِبَانَا: فَلَمَّا
رَجَعَ سَعْدٌ وَصَاحِبُهُ فَادَى بِالأَسِيرَيْنِ، فَفَجَرَ عَلَيْهِ
الْمُشْرِكُونَ، وَقَالُوا: مُحَمَّدٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَتَّبِعُ
طَاعَةَ اللَّهِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اسْتَحَلَّ الشَّهْرَ
الْحَرَامَ، وَقَتَلَ صَاحِبَنَا فِي رَجَبٍ! فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ:
إِنَّمَا قَتَلْنَاهُ فِي جُمَادَى- وَقِيلَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ
رَجَبٍ وَآخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ جُمَادَى- وَغَمَدَ الْمُسْلِمُونَ
سُيُوفَهُمْ حِينَ دَخَلَ رَجَبٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجل يعير
اهل مكة: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ
قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ» الآيَةَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ قِيلَ
إِنَّ النبي ص كان
(2/414)
انْتَدَبَ لِهَذَا الْمَسِيرِ أَبَا
عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فِيهِ، فَنَدَبَ لَهُ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ.
ذكر الخبر بذلك:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ
بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ رَجُلٌ عَنْ أَبِي
السَّوَّارِ، يُحَدِّثُهُ عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ الله، عن رسول
الله ص أَنَّهُ بَعَثَ رَهْطًا، فَبَعَثَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ
بْنَ الْجَرَّاحِ، فَلَمَّا أَخَذَ لِيَنْطَلِقَ بَكَى صَبَابَةً الى
رسول الله ص، فَبَعَثَ رَجُلا مَكَانَهُ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ
بن جحش، وكتب له كتابا وامره الا يَقْرَأَ الْكِتَابَ حَتَّى يَبْلُغَ
كَذَا وَكَذَا: وَلا تُكْرِهَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ عَلَى
السَّيْرِ مَعَكَ فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ اسْتَرْجَعَ، ثُمَّ
قَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً لأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ! فَخَبَّرَهُمْ
بِالْخَبَرِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ، فَرَجَعَ رَجُلانِ
وَمَضَى بَقِيَّتُهُمْ، فَلَقُوا ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ فَقَتَلُوهُ،
وَلَمْ يَدْرُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ رَجَبٍ أَوْ مِنْ جُمَادَى!
فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ: فَعَلْتُمْ كَذَا وَكَذَا فِي
الشَّهْرِ الْحَرَامِ! فاتوا النبي ص، فحدثوه الحديث، فانزل الله عز
وجل: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ» إِلَى
قَوْلِهِ: «وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ» ، الْفِتْنَةُ هِيَ
الشِّرْكُ.
وَقَالَ بَعْضُ الَّذِينَ- أَظُنُّهُ قَالَ-: كَانُوا فِي
السَّرِيَّةِ: وَاللَّهِ مَا قَتَلَهُ إِلا وَاحِدٌ، فَقَالَ: إِنْ
يَكُنْ خَيْرًا فَقَدْ وَلِيتُ، وَإِنْ يَكُنْ ذَنْبًا فَقَدْ عَمِلْتُ
ذكر بقية ما كان في السنة الثانية من سني الهجرة
ومن ذلك ما كان من صرف الله عز وجل قبلة المسلمين من الشام
(2/415)
إلى الكعبة، وذلك في السنة الثانية من مقدم
النبي ص المدينة في شعبان.
واختلف السلف من العلماء في الوقت الذي صرفت فيه من هذه السنة، فقال
بعضهم- وهم الجمهور الأعظم: صرفت في النصف من شعبان على رأس ثمانية عشر
شهرا من مقدم رسول الله ص المدينة.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنَا موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال:
حدثنا أسباط، عن السدي- في خبر ذكره- عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن
ابن عباس- وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود- وعن ناس من أصحاب النبي ص:
كَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَلَمَّا قدم
النبي ص الْمَدِينَةَ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ
مُهَاجَرِهِ، كَانَ إِذَا صَلَّى رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ
يَنْظُرُ مَا يُؤْمَرُ، وَكَانَ يُصَلِّي قِبَلَ بيت المقدس، فنسختها
الكعبه، وكان النبي ص يُحِبُّ أَنْ يُصَلِّيَ قِبَلَ الْكَعْبَةِ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي
السَّماءِ» ، الآيَةَ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق قال صرفت
القبلة في شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من مقدم رسول الله ص المدينة.
وحدثت عن ابن سعد، عن الواقدي مثل ذلك وقال: صرفت القبلة في الظهر يوم
الثلاثاء للنصف من شعبان
(2/416)
قال أبو جعفر: وقال آخرون: إنما صرفت
القبلة إلى الكعبة لستة عشر شهرا مضت من سني الهجرة.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الآمِلِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى،
قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، قَالَ: كَانُوا يُصَلُّونَ نَحْوَ بَيْتِ
المقدس، ورسول الله ص بمكة قبل الهجره، وبعد ما هاجر رسول الله ص صلى
نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ وُجِّهَ
بَعْدَ ذَلِكَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ.
حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ
وَهْبٍ، قَالَ:
سَمِعْتُ ابْنَ زَيْدٍ يَقُولُ: استقبل النبي ص بَيْتَ الْمَقْدِسِ
سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، فَبَلَغَهُ أَنَّ يَهُودَ تَقُولُ: وَاللَّهِ
مَا دَرَى مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ أَيْنَ قِبْلَتُهُمْ حَتَّى
هَدَيْنَاهُمْ! فَكَرِهَ ذَلِكَ النَّبِيُّ ص، وَرَفَعَ وَجْهَهُ إِلَى
السَّمَاءِ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ
وَجْهِكَ فِي السَّماءِ» الآيَةَ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فُرِضَ- فِيمَا ذُكِرَ-
صَوْمُ رَمَضَانَ وَقِيلَ: إِنَّهُ فرض في شعبان منها وكان النبي ص
حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، رَأَى يَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ،
فَسَأَلَهُمْ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي غَرَّقَ اللَّهُ
فِيهِ آلَ فِرْعَوْنَ، وَنَجَّى مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ مِنْهُمْ،
فَقَالَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْهُمْ فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ
بِصَوْمِهِ، فَلَمَّا فُرِضَ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ، لَمْ
يَأْمُرْهُمْ بِصَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَلَمْ يَنْهَهُمْ عَنْهُ
(2/417)
وَفِيهَا أَمَرَ النَّاسَ بِإِخْرَاجِ
زَكَاةَ الْفِطْرِ وَقِيلَ ان النبي ص خَطَبَ النَّاسَ قَبْلَ يَوْمِ
الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَأَمَرَهُمْ بِذَلِكَ.
وَفِيهَا خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى فَصَلَّى بِهِمْ صَلاةَ الْعِيدِ،
وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ خَرْجَةٍ خَرَجَهَا بِالنَّاسِ إِلَى
الْمُصَلَّى لِصَلاةِ الْعِيدِ وَفِيهَا- فِيمَا ذُكِرَ- حُمِلَتِ
الْعَنْزَةُ لَهُ إِلَى الْمُصَلَّى فَصَلَّى إِلَيْهَا، وَكَانَتْ
لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ- كَانَ النَّجَاشِيُّ وَهَبَهَا لَهُ-
فَكَانَتْ تُحْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الأَعْيَادِ، وَهِيَ الْيَوْمَ
فِيمَا بَلَغَنِي عِنْدَ الْمُؤَذِّنِينَ بِالْمَدِينَةِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ الكبرى بين رسول الله ص
وَالْكُفَّارِ مِنْ قُرَيْشٍ، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْهَا.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْيَوْمِ الَّذِي فِيهِ كَانَتِ الْحَرْبُ
بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ:
كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ يَوْمَ تِسْعَةَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رمضان.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ الْمُغِيرَةِ،
عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
الأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ:
الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي تِسْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً مِنْ
رَمَضَانَ، فَإِنَّهَا لَيْلَةُ بَدْرٍ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ الأَسَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ
أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حُجَيْرٍ الثَّعْلَبِيِّ، عَنِ الأَسْوَدِ
(2/418)
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: الْتَمِسُوا
لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي تِسْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ، فَإِنَّ
صَبِيحَتَهَا كَانَتْ صَبِيحَةَ بَدْرٍ.
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْمُحَارِبِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ
زَيْدٍ، عَنْ زَيْدٍ، أَنَّهُ كَانَ لا يُحْيِي لَيْلَةً مِنْ شَهْرِ
رَمَضَانَ كَمَا يُحْيِي لَيْلَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثٍ
وَعِشْرِينَ، وَيُصْبِحُ وَجْهَهُ مُصْفَرًّا مِنْ أَثَرِ السَّهَرِ،
فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَرَّقَ فِي
صَبِيحَتِهَا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَبِيحَةَ سَبْعَ
عَشْرَةَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا
شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ يُحَدِّثُ عَنْ حُجَيْرٍ،
عَنِ الأَسْوَدِ وَعَلْقَمَةَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ،
قَالَ: الْتَمِسُوهَا فِي سَبْعَ عَشْرَةَ وتلا هذه الآية:
«يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ» ، يَوْمُ بَدْرٍ، ثُمَّ قَالَ: أَوْ
تِسْعَ عَشْرَةَ، أَوْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ.
حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أخبرنا
محمد بن عمر، قَالَ: حَدَّثَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ
عَدِيٍّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ،
قَالَ: كَانَتْ بَدْرٌ صَبِيحَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ.
حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حدثنا
محمد بن عمر، قال: حدثنا الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ
الأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مِثْلَهُ.
قَالَ الْحَارِثُ: قَالَ ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ الْوَاقِدِيُّ:
فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِمُحَمَّدِ بْنِ
(2/419)
صَالِحٍ، فَقَالَ: هَذَا أَعْجَبُ
الأَشْيَاءِ، مَا ظَنَنْتُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا شَكَّ
فِي هَذَا، إِنَّهَا صَبِيحَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ، يَوْمَ
الْجُمُعَةِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ: وَسَمِعْتُ عاصم بن عمر بن قتادة ويزيد
بن رُومَانَ يقولان ذلك قَالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ صالح: يا بن أَخِي،
وَمَا تَحْتَاجُ إِلَى تَسْمِيَةِ الرِّجَالِ فِي هَذَا! هَذَا
أَبْيَنُ مِنْ ذَلِكَ، مَا يَجْهَلُ هَذَا النِّسَاءُ فِي
بُيُوتِهِنَّ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فَذَكَرْتُهُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي
الزِّنَادِ، فَقَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ،
عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّهُ كَانَ يُحْيِي لَيْلَةَ سَبْعَ
عَشْرَةَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَإِنْ كَانَ لَيُصْبِحُ وَعَلَى
وَجْهِهِ أَثَرُ السَّهَرِ، وَيَقُولُ: فَرَّقَ اللَّهُ فِي
صَبِيحَتِهَا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَأَعَزَّ فِي صُبْحِهَا
الإِسْلامَ، وَأَنْزَلَ فِيهَا الْقُرْآنَ، وَأَذَلَّ فِيهَا أَئِمَّةَ
الْكُفْرِ.
وَكَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حدثنا ابن حميد، قال:
حدثنا يحيى ابن وَاضِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَعْقُوبَ
أَبُو طالب، عن ابى عون محمد ابن عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ
أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبِيبٍ،
قَالَ: قَالَ [قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ:
كَانَتْ لَيْلَةُ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى، الْجَمْعانِ، لِسَبْعَ
عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ] .
وَكَانَ الَّذِي هَاجَ وَقْعَةَ بَدْرٍ وَسَائِرَ الْحُرُوبِ الَّتِي
كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ الله ص وَبَيْنَ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ- فِيمَا
قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ- مَا كَانَ مِنْ قَتْلِ وَاقِدِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيِّ عَمْرو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ
(2/420)
ذكر وقعة بدر الكبرى
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ، وَعَبْدُ الْوَارِثِ
بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ- قَالَ عَلِيٌّ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، وَقَالَ عَبْدُ
الوارث: حَدَّثَنِي أَبِي- قَالَ: حَدَّثَنَا أَبَانٌ الْعَطَّارُ،
قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّهُ
كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ: أَمَّا بَعْدُ،
فَإِنَّكَ كَتَبْتَ إِلَيَّ فِي أَبِي سُفْيَانَ ومخرجِهِ، تَسْأَلَنِي
كَيْفَ كَانَ شَأْنُهُ؟ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ
بْنَ حَرْبٍ أَقْبَلَ مِنَ الشَّامِ فِي قَرِيبٍ مِنْ سَبْعِينَ
رَاكِبًا مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا، كَانُوا تُجَّارًا
بِالشَّامِ، فَأَقْبَلُوا جَمِيعًا مَعَهُمْ أَمْوَالُهُمْ
وَتِجَارَتُهُمْ، فَذُكِرُوا لرسول الله ص وَأَصْحَابِهِ، وَقَدْ
كَانَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَقُتِلَتْ قَتْلَى،
وَقُتِلَ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ فِي نَاسٍ بِنَخْلَةٍ، وَأُسِرَتْ
أُسَارَى مِنْ قُرَيْشٍ، فِيهِمْ بَعْضُ بَنِي الْمُغِيرَةِ، وَفِيهِمُ
ابْنُ كَيْسَانَ مَوْلَاهُمْ، أَصَابَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ
وَوَاقِدٌ حَلِيفُ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ، فِي نَاسٍ مِنْ
أَصْحَابِ رسول الله ص بَعَثَهُمْ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ،
وَكَانَتْ تِلْكَ الْوَقْعَةُ هَاجَتِ الْحَرْبَ بَيْنَ رَسُولِ
اللَّهِ ص وَبَيْنَ قُرَيْشٍ، وَأَوَّلَ مَا أَصَابَ بِهِ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا مِنَ الْحَرْبِ، وَذَلِكَ قَبْلَ مَخْرَجِ أَبِي سُفْيَانَ
وَأَصْحَابِهِ إِلَى الشَّامِ.
ثُمَّ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَقْبَلَ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَنْ مَعَهُ
مِنْ رُكْبَانِ قُرَيْشٍ مُقْبِلِينَ مِنَ الشَّامِ، فَسَلَكُوا
طَرِيقَ الساحل، فلما سمع بهم رسول الله ص نَدَبَ أَصْحَابَهُ
وَحَدَّثَهُمْ بِمَا مَعَهُمْ مِنَ الأَمْوَالِ، وَبِقِلَّةِ
عَدَدِهِمْ، فَخَرَجُوا لا يُرِيدُونَ إِلَّا أَبَا سُفْيَانَ
وَالرَّكْبَ مَعَهُ، لا يَرَوْنَهَا إِلَّا غَنِيمَةً لَهُمْ، لا
يَظُنُّونَ أَنْ يَكُونَ كَبِيرُ قِتَالٍ إِذَا لَقُوهُمْ، وَهِيَ
الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا:
«وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ» .
فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ الله ص
معترضون له،
(2/421)
بَعَثَ إِلَى قُرَيْشٍ: إِنَّ مُحَمَّدًا
وَأَصْحَابَهُ مُعْتَرِضُونَ لَكُمْ، فَأَجِيرُوا تِجَارَتَكُمْ
فَلَمَّا أَتَى قُرَيْشًا الْخَبَرُ- وَفِي عِيرِ أَبِي سُفْيَانَ،
مِنْ بُطُونِ كَعْبِ ابن لُؤَيٍّ كُلِّهَا- نَفَرَ لَهَا أَهْلُ
مَكَّةَ، وَهِيَ نَفْرَةُ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، لَيْسَ فِيهَا من
بنى عامر احد الا من كَانَ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ حِسْلٍ، وَلَمْ
يسمع بنفره قريش رسول الله ص ولا اصحابه، حتى قدم النبي ص بَدْرًا-
وَكَان طَرِيقُ رُكْبَانِ قُرَيْشٍ، مَنْ أَخَذَ مِنْهُمْ طَرِيقَ
السَّاحِلِ إِلَى الشَّامِ- فَخَفَضَ أَبُو سُفْيَانَ عَنْ بَدْرٍ،
وَلَزِمَ طَرِيقَ السَّاحِلِ، وَخَافَ الرصد على بدر، وسار النبي ص،
حَتَّى عَرَّسَ قَرِيبًا مِنْ بَدْرٍ، وَبَعَثَ النَّبِيُّ ص
الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ فِي عِصَابَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى
مَاءِ بَدْرٍ، وَلَيْسُوا يَحْسَبُونَ أَنَّ قُرَيْشًا خرجت لهم، فبينا
النبي ص قَائِمٌ يُصَلِّي، إِذْ وَرَدَ بَعْضُ رَوَايَا قُرَيْشٍ مَاءَ
بَدْرٍ، وَفِيمَنْ وَرَدَ مِنَ الرَّوَايَا غُلَامٌ لِبَنِي
الْحَجَّاجِ أَسْوَدُ، فَأَخَذَهُ النَّفَرُ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ رسول
الله ص مَعَ الزُّبَيْرِ إِلَى الْمَاءِ، وَأَفْلَتَ بَعْضُ أَصْحَابِ
الْعَبْدِ نَحْوَ قُرَيْشٍ، فَأَقْبَلُوا بِهِ حَتَّى أَتَوْا به رسول
الله ص وَهُوَ فِي مُعَرَّسِهِ، فَسَأَلُوهُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ
وَأَصْحَابِهِ، لا يَحْسِبُونَ إِلَّا أَنَّهُ مَعَهُمْ، فَطَفِقَ
الْعَبْدُ يُحَدِّثُهُمْ عَنْ قُرَيْشٍ وَمَنْ خَرَجَ مِنْهَا، وَعَنْ
رُءُوسِهِمْ، وَيَصْدُقُهُمُ الْخَبَرَ، وَهُمْ أَكْرَهُ شَيْءٍ
إِلَيْهِمُ الْخَبَرُ الَّذِي يُخْبِرُهُمْ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُونَ
حِينَئِذٍ بالركب أبا سفيان واصحابه، والنبي ص يُصَلِّي، يَرْكَعُ
وَيَسْجُدُ يَرَى وَيَسْمَعُ مَا يُصْنَعُ بِالْعَبْدِ، فَطَفِقُوا
إِذَا ذَكَرَ لَهُمْ أَنَّهَا قُرَيْشٌ جَاءَتْهُمْ، ضَرَبُوهُ
وَكَذَّبُوهُ، وَقَالُوا: إِنَّمَا تَكْتُمُنَا أَبَا سُفْيَانَ
وَأَصْحَابَهُ، فَجَعَلَ الْعَبْدُ إِذَا
(2/422)
أَذْلَقُوهُ بِالضَّرْبِ وَسَأَلُوهُ عَنْ
أَبِي سُفْيَانَ وَأَصْحَابِهِ- وَلَيْسَ لَهُ بِهِمْ عِلْمٌ، إِنَّمَا
هُوَ مِنْ رَوَايَا قُرَيْشٍ- قَالَ: نَعَمْ، هَذَا أَبُو سُفْيَانَ،
وَالرَّكْبُ حِينَئِذٍ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ: «إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ
الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ» - حَتَّى بَلَغَ- «أَمْراً
كانَ مَفْعُولًا» ، فَطَفِقُوا إِذَا قَالَ لَهُمُ الْعَبْدُ: هَذِهِ
قُرَيْشٌ قَدْ أَتَتْكُمْ ضَرَبُوهُ، وَإِذَا قَالَ لَهُمْ: هَذَا
أَبُو سُفْيَانَ تَرَكُوهُ.
فَلَمَّا رَأَى صَنِيعَهُمُ النَّبِيُّ ص انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ
وَقَدْ سَمِعَ الَّذِي أَخْبَرَهُمْ، [فزعموا ان رسول الله ص، قَالَ:
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّكُمْ لَتَضْرِبُونَهُ إِذَا صَدَقَ،
وَتَتْرُكُونَهُ إِذَا كَذَبَ!] قَالُوا: فَإِنَّهُ يُحَدِّثُنَا أَنَّ
قُرَيْشًا قَدْ جَاءَتْ، قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ صَدَقَ، قَدْ خَرَجَتْ
قُرَيْشٌ تُجِيرُ رِكَابَهَا، فَدَعَا الْغُلَامَ فَسَأَلَهُ
فَأَخْبَرَهُ بِقُرَيْشٍ، وَقَالَ: لا عِلْمَ لِي بِأَبِي سُفْيَانَ،
فَسَأَلَهُ: كَمِ الْقَوْمُ؟ فَقَالَ: لا أَدْرِي، وَاللَّهِ هُمْ
كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ فَزَعَمُوا ان النبي ص، قَالَ: مَنْ أَطْعَمَهُمْ
أَوَّلَ مِنْ أَمْسِ؟
فَسَمَّى رَجُلًا أَطْعَمَهُمْ، فَقَالَ: كَمْ جَزَائِرَ نَحَرَ
لَهُمْ؟ قَالَ: تِسْعَ جَزَائِرَ، قَالَ: فَمَنْ أَطْعَمَهُمْ أَمْسِ؟
فَسَمَّى رَجُلًا، فَقَالَ: كَمْ نَحَرَ لَهُمْ؟ قَالَ:
عشر جزائر، فزعموا ان النبي ص قال: القوم ما بين التسعمائة إِلَى
الأَلْفِ فَكَانَ نَفْرَةُ قُرَيْشٍ يَوْمَئِذٍ خَمْسِينَ وتسعمائة
(2/423)
فانطلق النبي ص فَنَزَلَ الْمَاءَ وَمَلأَ
الْحِيَاضَ، وَصَفَّ عَلَيْهَا أَصْحَابَهُ، حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِ
الْقَوْمُ فَلَمَّا وَرَدَ رَسُولُ الله ص بدرا قال: هذه مصارعهم،
فوجدوا النبي ص قَدْ سَبَقَهُمْ إِلَيْهِ وَنَزَلَ عَلَيْهِ فَلَمَّا
طَلَعُوا عليه [زعموا ان النبي ص قَالَ: هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ جَاءَتْ
بِجَلَبَتِهَا وَفَخْرِهَا، تُحَادُّكُ وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ!
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مَا وَعَدْتَنِي] .
فَلَمَّا أَقْبَلُوا اسْتَقْبَلَهُمْ، فَحَثَا فِي وُجُوهِهِمُ
التُّرَابَ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ وَكَانُوا قَبْلَ أَنْ يَلْقَاهُمُ
النبي ص قَدْ جَاءَهُمْ رَاكِبٌ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ وَالرَّكْبِ
الَّذِينَ مَعَهُ: أَنِ ارْجِعُوا- وَالرَّكْبُ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ
قُرَيْشًا بِالرَّجْعَةِ بِالْجُحْفَةِ- فَقَالُوا: وَاللَّهِ لا
نَرْجِعُ حَتَّى نَنْزِلَ بَدْرًا، فَنُقِيمَ بِهِ ثَلاثَ لَيَالٍ،
وَيَرَانَا مَنْ غَشِيَنَا مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ، فَإِنَّهُ لَنْ
يَرَانَا أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ وَمَا جَمَعْنَا فَيُقَاتِلُنَا وَهُمُ
الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «الذين خَرَجُوا مِنْ
دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ» ، فالتقوا هم والنبي ص،
فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَأَخْزَى أَئِمَّةَ الْكُفْرِ
وَشَفَى صُدُورَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ.
حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ
الْمِقْدَامِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إسحاق، عن حارثة، عن
على ع، قَالَ: لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ أَصَبْنَا مِنْ
ثِمَارِهَا، فَاجْتَوَيْنَاهَا، وَأَصَابَنَا بِهَا وَعْكٌ، وَكَانَ
رَسُولُ اللَّهِ ص يَتَخَبَّرُ عَنْ بَدْرٍ، فَلَمَّا بَلَغَنَا أَنَّ
الْمُشْرِكِينَ قد أقبلوا سار رسول الله ص إِلَى بَدْرٍ- وَبَدْرٌ
بِئْرٌ- فَسَبَقْنَا الْمُشْرِكِينَ إِلَيْهَا، فَوَجَدْنَا فِيهَا
رَجُلَيْنِ، مِنْهُمْ رَجُلٌ مِنْ
(2/424)
قُرَيْشٍ، وَمَوْلَى لِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي
مُعَيْطٍ، فَأَمَّا الْقُرَشِيُّ فَانْفَلَتَ، وَأَمَّا مَوْلَى
عُقْبَةَ فَأَخَذْنَاهُ، فَجَعَلْنَا نَقُولُ: كَمِ الْقَوْمُ؟
فَيَقُولُ: هُمْ وَاللَّهِ كَثِيرٌ، شَدِيدٌ بَأْسُهُمْ، فَجَعَلَ
الْمُسْلِمُونَ إِذَا قَالَ ذَلِكَ ضَرَبُوهُ، حَتَّى انْتَهَوْا بِهِ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ص، فَقَالَ لَهُ: كَمِ الْقَوْمُ؟ فَقَالَ: هُمْ
وَاللَّهِ كثير، شديد بأسهم، فجهد النبي ص أَنْ يُخْبِرَهُ كَمْ هُمْ،
فَأَبَى ثُمَّ إِنَّ رسول الله ص سَأَلَهُ: كَمْ يَنْحَرُونَ مِنَ
الْجُزُرِ؟ فَقَالَ:
عَشْرًا كل يوم، قال رسول الله ص: الْقَوْمُ أَلْفٌ.
ثُمَّ إِنَّهُ أَصَابَنَا مِنَ اللَّيْلِ طَشٌّ مِنَ الْمَطَرِ،
فَانْطَلَقْنَا تَحْتَ الشَّجَرِ وَالْحَجَفِ نَسْتَظِلُّ تَحْتَهَا
مِنَ الْمَطَرِ، وَبَاتَ رَسُولُ اللَّهِ ص يَدْعُو رَبَّهُ:
اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ لا تُعْبَدْ فِي
الأَرْضِ فَلَمَّا أَنْ طَلَعَ الْفَجْرُ نَادَى: الصَّلاةَ عِبَادَ
اللَّهِ! فَجَاءَ النَّاسُ مِنْ تَحْتِ الشَّجَرِ وَالْحَجَفِ،
فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ الله ص، وَحَرَّضَ عَلَى الْقِتَالِ، ثُمَّ
قَالَ: إِنَّ جَمْعَ قُرَيْشٍ عِنْدَ هَذِهِ الضَّلْعَةِ مِنَ
الْجَبَلِ فَلَمَّا أَنْ دَنَا الْقَوْمُ مِنَّا وَصَافَفْنَاهُمْ،
إِذَا رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ يَسِيرُ فِي القوم،
فقال رسول الله ص: يَا عَلِيُّ، نَادِ لِي حَمْزَةَ- وَكَانَ
أَقْرَبَهُمْ إِلَى الْمُشْرِكِينَ-: مَنْ صَاحِبُ الْجَمَلِ
الأَحْمَرِ؟ وَمَاذَا يقول لهم؟ وقال رسول الله ص: إِنْ يَكُنْ فِي
الْقَوْمِ مَنْ يَأْمُرُ بِالْخَيْرِ، فَعَسَى أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ
الْجَمَلِ الأَحْمَرِ، فَجَاءَ حَمْزَةُ، فَقَالَ: هُوَ عُتْبَةُ بْنُ
رَبِيعَةَ، وَهُوَ يَنْهَى عَنِ الْقِتَالِ، وَيَقُولُ لَهُمْ: إِنِّي
أَرَى قَوْمًا مُسْتَمِيتِينَ لا تَصِلُونَ إِلَيْهِمْ وَفِيكُمْ
خَيْرٌ، يَا قَوْمُ اعْصُبُوهَا الْيَوْمَ بِرَأْسِي، وَقُولُوا:
جَبُنَ عتبة ابن رَبِيعَةَ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي لَسْتُ
بِأَجْبَنِكُمْ
(2/425)
قَالَ: فَسَمِعَ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ:
أَنْتَ تَقُولُ هَذَا! وَاللَّهِ لَوْ غَيْرُكَ يَقُولُ هَذَا
لَعَضَضْتُهُ! لَقَدْ مُلِئَتْ رِئَتُكَ وَجَوْفُكَ رُعْبًا، فَقَالَ
عُتْبَةُ: إِيَّايَ تُعَيِّرُ يَا مُصَفِّرَ اسْتِهِ! سَتَعْلَمُ
الْيَوْمَ أَيُّنَا أَجْبَنُ! قَالَ: فَبَرَزَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ
وَأَخُوهُ شَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَابْنُهُ الْوَلِيدُ، حَمِيَّةً،
فَقَالُوا: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَخَرَجَ فِتْيَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ
سِتَّةٌ، فَقَالَ عُتْبَةُ: لا نُرِيدُ هَؤُلاءِ، وَلَكِنْ
يُبَارِزُنَا مِنْ بَنِي عَمِّنَا مِنْ بَنِي عَبْدِ المطلب [فقال رسول
الله ص: يَا عَلِيُّ قُمْ، يَا حَمْزَةُ قُمْ، يَا عُبَيْدَةُ بْنَ
الْحَارِثِ قُمْ، فَقَتَلَ اللَّهُ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ
بْنَ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ، وَجُرِحَ عُبَيْدَةُ بْنُ
الْحَارِثِ، فَقَتَلْنَا مِنْهُمْ سَبْعِينَ، وَأَسَرْنَا مُنْهُمْ
سَبْعِينَ] قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ قَصِيرٌ
بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَسِيرًا، فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا هَذَا أَسَرَنِي، وَلَكِنْ أَسَرَنِي
رَجُلٌ أَجْلَحُ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا، عَلَى فَرَسٍ
أَبْلَقَ، مَا أَرَاهُ فِي الْقَوْمِ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ:
أَنَا أَسَرْتُهُ، [فقال رسول الله ص: لَقَدْ آزَرَكَ اللَّهُ بِمَلَكٍ
كَرِيمٍ] [قَالَ عَلِيُّ: فَأُسِرَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
الْعَبَّاسُ وَعَقِيلٌ وَنَوْفَلُ بْنُ الْحَارِثِ] .
حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبُزُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ، [عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: لَمَّا أَنْ كَانَ
يَوْمُ بدر، وحضر الباس اتقينا برسول الله، فَكَانَ مِنْ أَشَدِّ
النَّاسِ بَأْسًا، وَمَا كَانَ مِنَّا أَحَدٌ أَقْرَبُ إِلَى
الْعَدُوِّ مِنْهُ] .
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ،
عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ، [عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: سمعته
(2/426)
يَقُولُ: مَا كَانَ فِينَا فَارِسٌ يَوْمَ
بَدْرٍ غَيْرَ مِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا
فينا الا نائم، الا رسول الله ص قَائِمًا إِلَى شَجَرَةٍ يُصَلِّي،
وَيَدْعُو حَتَّى الصُّبْحَ] .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: إن
رسول الله ص سمع بأبي سفيان بن حرب مقبلا من الشام في عير لقريش عظيمة،
فيها أموال لقريش وتجارة من تجاراتهم، وفيها ثلاثون راكبا من قريش- أو
أربعون- منهم مخرمة بن نوفل بْن أهيب بْن عبد مناف بْن زهرة، وعمرو بن
العاص بن وائل بن هشام ابن سعيد بن سهم.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن
إسحاق، قَالَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيُّ
وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي
بَكْرٍ وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ
عُلَمَائِنَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، كُلٌّ قَدْ
حَدَّثَنِي بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ، فَاجَتْمَعَ حَدِيثُهُمْ فِيمَا
سُقْتُ مِنْ حَدِيثِ بَدْرٍ، قالوا: لما سمع رسول الله ص بِأَبِي
سُفْيَانَ مُقْبِلًا مِنَ الشَّامِ، نَدَبَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ،
وَقَالَ: هَذِهِ عِيرُ قُرَيْشٍ فِيهَا أَمْوَالُهُمْ، فَاخْرُجُوا
إِلَيْهَا، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُنَفِّلَكُمُوهَا، فَانْتَدَبَ
النَّاسَ فَخَفَّ بَعْضُهُمْ وَثَقُلَ بَعْضُهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ
لم يظنوا ان رسول الله ص يَلْقَى حَرْبًا، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ
حِينَ دَنَا مِنَ الْحِجَازِ يَتَحَسَّسُ الأَخْبَارَ، وَيَسْأَلُ مَنْ
لَقِيَ مِنَ الرُّكْبَانِ تَخَوُّفًا عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ، حَتَّى
أَصَابَ خَبَرًا مِنْ بَعْضِ الرُّكْبَانِ، أَنَّ مُحَمَّدًا قَدِ
اسْتَنْفَرَ أَصْحَابَهُ لَكَ وَلِعِيرِكَ فَحَذِرَ عِنْدَ ذَلِكَ،
فَاسْتَأْجَرَ ضَمْضَمَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ، فَبَعَثَهُ إِلَى
مَكَّةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ قُرَيْشًا يَسْتَنْفِرَهُمْ إِلَى
أَمْوَالِهِمْ، وَيُخْبِرَهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ عَرَضَ لَهَا فِي
أَصْحَابِهِ،
(2/427)
فَخَرَجَ ضَمْضَمُ بْنُ عَمْرٍو سَرِيعًا
إِلَى مَكَّةَ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قال: قَالَ
ابْنُ إِسْحَاقَ:
وحدثني مَنْ لا أَتَّهِمُ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عباس، عن ابن
عباس ويزيد ابن رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: وَقَدْ رَأَتْ
عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَبْلَ قُدُومِ ضَمْضَمَ مَكَّةَ
بِثَلَاثِ لَيَالٍ رُؤْيَا أَفْزَعَتْهَا، فَبَعَثَتْ إِلَى أَخِيهَا
الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَتْ لَهُ: يَا أَخِي،
وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا لَقَدْ أَفْظَعَتْنِي،
وَتَخَوَّفْتُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى قَوْمِكَ مِنْهَا شر ومصيبه، فاكتم
على ما احدثك به قَالَ لَهَا: وَمَا رَأَيْتِ؟ قَالَتْ: رَأَيْتُ
رَاكِبًا أَقْبَلَ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ حَتَّى وَقَفَ بِالأَبْطَحِ
ثُمَّ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: أَنِ انْفِرُوا يَا آلَ غُدَرَ
لِمَصَارِعِكُمْ فِي ثَلَاثٍ! فَأَرَى النَّاسَ اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ،
ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالنَّاسُ يَتْبَعُونَهُ، فبيناهم حَوْلَهُ
مَثَلَ بِهِ بَعِيرُهُ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ صَرَخَ
بِأَعْلَى صَوْتِهِ بِمِثْلِهَا: أَنِ انْفِرُوا يَا آلَ غُدَرَ
لِمَصَارِعِكُمْ فِي ثَلَاثٍ! ثُمَّ مَثَلَ بِهِ بَعِيرُهُ عَلَى
رَأْسِ أَبِي قُبَيْسٍ، فَصَرَخَ بِمِثْلِهَا، ثُمَّ أَخَذَ صَخْرَةً
فَأَرْسَلَهَا، فَأَقْبَلَتْ تَهْوِي حَتَّى إِذَا كَانَتْ بِأَسْفَلِ
الْجَبَلِ ارْفَضَّتْ فَمَا بَقِيَ بَيْتٌ مِنْ بُيُوتِ مَكَّةَ، وَلا
دَارٌ مِنْ دُورِهَا إِلَّا دَخَلَتْ مِنْهَا فِلْقَةٌ.
قَالَ الْعَبَّاسُ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَرَؤْيَا رَأَيْتِ
فَاكْتُمِيهَا وَلا تَذْكُرِيهَا لأَحَدٍ
(2/428)
ثُمَّ خَرَجَ الْعَبَّاسُ فَلَقِيَ
الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ- وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا-
فَذَكَرَهَا لَهُ وَاسْتَكْتَمَهُ إِيَّاهَا، فَذَكَرَهَا الْوَلِيدُ
لأَبِيهِ عُتْبَةَ، فَفَشَا الْحَدِيثُ، حَتَّى تَحَدَّثَتْ بِهِ
قُرَيْشٌ فِي أَنْدِيَتِهَا.
قَالَ الْعَبَّاسُ: فَغَدَوْتُ أَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَأَبُو جَهْلِ
بْنُ هِشَامٍ فِي رَهْطٍ مِنْ قُرَيْشٍ قُعُودٍ يَتَحَدَّثُونَ
بِرُؤْيَا عَاتِكَةَ، فَلَمَّا رَآنِي أَبُو جَهْلٍ، قَالَ:
يَا أَبَا الْفَضْلِ، إِذَا فَرَغْتَ مِنْ طَوَافِكَ فَأَقْبِلْ
إِلَيْنَا قَالَ: فَلَمَّا فَرَغْتُ أَقْبَلْتُ إِلَيْهِ حَتَّى
جَلَسْتُ مَعَهُمْ، فَقَالَ لِي أَبُو جَهْلٍ: يَا بَنِي عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ، مَتَى حَدَّثَتْ فِيكُمْ هَذِهِ النَّبِيَّةُ! قَالَ:
قُلْتُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: الرُّؤْيَا الَّتِي رَأَتْ عَاتِكَةُ،
قَالَ:
قُلْتُ: وَمَا رَأَتْ؟ قَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَمَا
رَضِيتُمْ أَنْ تَتَنَبَّأَ رِجَالُكُمْ، حَتَّى تَتَنَبَّأَ
نِسَاؤُكُمْ! قَدْ زَعَمَتْ عَاتِكَةُ فِي رُؤْيَاهَا أَنَّهُ قَالَ:
انْفِرُوا فِي ثَلَاثٍ، فَسَنَتَرَبَّصُ بِكُمْ هَذِهِ الثَّلاثَ،
فَإِنْ يَكُنْ مَا قَالَتْ حَقًّا فَسَيَكُونُ، وَإِنْ تَمْضِ
الثَّلاثُ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، نَكْتُبْ عَلَيْكُمْ
كِتَابًا أَنَّكُمْ أَكْذَبُ أَهْلِ بيت في العرب.
قال العباس: فو الله مَا كَانَ مِنِّي إِلَيْهِ كَبِيرٌ إِلَّا أَنِّي
جَحَدْتُ ذَلِكَ وَأَنْكَرْتُ أَنْ تَكُونَ رَأَتْ شَيْئًا قَالَ:
ثُمَّ تَفَرَّقْنَا، فَلَمَّا أَمْسَيْتُ لَمْ تَبْقَ امْرَأَةٌ مِنْ
بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَّا أَتَتْنِي، فَقَالَتْ: أَقْرَرْتُمْ
لِهَذَا الْفَاسِقِ الْخَبِيثِ أَنْ يَقَعَ فِي رِجَالِكُمْ، ثُمَّ
قَدْ تَنَاوَلَ النِّسَاءَ وَأَنْتَ تَسْمَعُ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ
عِنْدَكَ غَيْرَةٌ لِشَيْءٍ مِمَّا سَمِعْتَ! قَالَ: قُلْتُ: قَدْ
وَاللَّهِ فَعَلْتُ، مَا كَانَ مِنِّي إِلَيْهِ مِنْ كَبِيرٍ، وَايْمُ
اللَّهِ لأَتَعَرَّضَنَّ لَهُ، فَإِنْ عَادَ لأكفينَّكموه.
قَالَ: فَغَدَوْتُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ رُؤْيَا عَاتِكَةَ،
وَأَنَا حَدِيدٌ مُغْضَبٌ، أَرَى أَنْ قَدْ فَاتَنِي مِنْهُ أَمْرٌ
أُحِبُّ أَنْ أُدْرِكَهُ مِنْهُ.
قَالَ: فدخلت المسجد فرايته، فو الله إِنِّي لأَمْشِي نَحْوَهُ
أَتَعَرَّضُهُ لِيَعُودَ لِبَعْضِ مَا قَالَ فَأَقَعُ بِهِ- وَكَانَ
رَجُلًا خَفِيفًا حَدِيدَ الْوَجْهِ، حَدِيدَ اللِّسَانِ،
(2/429)
حَدِيدَ النَّظَرِ- إِذْ خَرَجَ نَحْوَ
بَابِ الْمَسْجِدِ يَشْتَدُّ قَالَ: قُلْتُ فِي نَفْسِي: مَا لَهُ
لَعَنَهُ اللَّهُ! أَكُلُّ هَذَا فَرَقًا مِنْ أَنْ أُشَاتِمَهُ!
قَالَ: وَإِذَا هُوَ قَدْ سَمِعَ مَا لَمْ أَسْمَعْ، صَوْتَ ضَمْضَمَ
بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيِّ، وَهُوَ يَصْرُخُ بِبَطْنِ الْوَادِي
وَاقِفًا عَلَى بَعِيرِهِ، قَدْ جَدَعَ بَعِيرَهُ، وَحَوَلَ رَحْلَهُ،
وَشَقَّ قَمِيصَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ،
اللَّطِيمَةَ اللَّطِيمَةَ! أَمْوَالُكُمْ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ قَدْ
عَرَضَ لَهَا مُحَمَّدٌ فِي أَصْحَابِهِ، لا أَرَى أَنْ تُدْرِكُوهَا،
الْغَوْثَ الْغَوْثَ! قَالَ: فَشَغَلَنِي عَنْهُ وَشَغَلَهُ عَنِّي مَا
جَاءَ مِنَ الأَمْرِ فَتَجَهَّزَ النَّاسُ سِرَاعًا، وَقَالُوا:
أَيَظُنُّ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ أَنْ تَكُونَ كَعِيرِ ابْنِ
الْحَضْرَمِيِّ! كَلَّا وَاللَّهِ لَيَعْلَمُنَّ غَيْرَ ذَلِكَ
فَكَانُوا بَيْنَ رَجُلَيْنِ: إِمَّا خَارِجٌ، وَإِمَّا بَاعِثٌ
مَكَانَهُ رَجُلًا، وَأَوْعَبَتْ قُرَيْشٌ فَلَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْ
أَشْرَافِهَا أَحَدٌ، إِلَّا أَنَّ أَبَا لَهَبِ بْنَ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ تَخَلَّفَ، فَبَعَثَ مَكَانَهُ الْعَاصَ بْنَ هِشَامِ
بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَكَانَ لاطَ لَهُ بِأَرْبَعَةِ آلافِ دِرْهَمٍ
كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ، أَفْلَسَ بِهَا، فَاسْتَأْجَرَهُ بِهَا عَلَى
أَنْ يُجْزِيَ عَنْهُ بَعْثَهُ، فَخَرَجَ عَنْهُ وَتَخَلَّفَ أَبُو
لَهَبٍ.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق.
حدثني عبد الله بن أبي نجيح، أن أمية بن خلف كان قد أجمع القعود، وكان
شيخا جليلا ثقيلا، فأتاه عقبة بن أبي معيط، وهو جالس في المسجد بين
ظهري قومه بمجمرة يحملها، فيها نار ومجمر، حتى وضعها بين يديه، ثم قال:
يا أبا علي، استجمر، فإنما أنت من النساء، قال: قَبَّحَكَ اللَّهُ
وَقَبَّحَ مَا جِئْتَ بِهِ! قَالَ: ثم تجهز، فخرج مع الناس، فلما فرغوا
من جهازهم، وأجمعوا السير، ذكروا ما بينهم وبين بَنِي بَكْرِ بْنِ
عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ من الحرب، فقالوا: إنا نخشى أن يأتونا
من خلفنا
(2/430)
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال
محمد بن إسحاق، وحدثني يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ
الزُّبَيْرِ، قال: لما أجمعت قريش المسير، ذكرت الذي بينها وبين بنى
بكر، فكاد ذلك أن يثنيهم، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن جعشم
المدلجي- وكان من أشراف كنانة- فقال: أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة
بشيء تكرهونه فخرجوا سراعا.
قال أبو جعفر: وخرج رسول الله ص- فيما بلغني عن غير ابن إسحاق- لثلاث
ليال خلون من شهر رمضان في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا من أصحابه، فاختلف
في مبلغ الزيادة على العشرة.
فقال بعضهم، كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ
عَيَّاشٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ:
كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ أَصْحَابَ بَدْرٍ يوم بدر كعدة اصحاب طالوت،
ثلاثمائة رَجُلٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، الَّذِينَ جَاوَزُوا
النَّهْرَ، فَسَكَتَ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ الْجَنَبِيُّ، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنِ
الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ
الْمُهَاجِرُونَ يَوْمَ بَدْرٍ سَبْعَةً وَسَبْعِينَ رَجُلا، وَكَانَ
الأَنْصَارُ مِائَتَيْنِ وَسِتَّةً وَثَلاثِينَ رَجُلا، وَكَانَ صاحب
رايه رسول الله ص على بن ابى طالب ع، وَصَاحِبُ رَايَةِ الأَنْصَارِ
سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ
(2/431)
وقال آخرون: كانوا ثلاثمائة رَجُلٍ
وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ، مَنْ شَهِدَ مِنْهُمْ، وَمَنْ ضُرِبَ بِسَهْمِهِ
وَأَجْرِهِ، حَدَّثَنَا بِذَلِكَ ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حدثنا سلمة، عن
ابن إسحاق.
وقال بعضهم: كانوا ثلاثمائة وثمانية عشر.
وقال آخرون: كانوا ثلاثمائة وَسَبْعَةً.
وَأَمَّا عَامَّةُ السَّلَفِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: كَانُوا ثلاثمائة
رَجُلٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ
الْمِقْدَامِ، وحدثني أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الأَهْوَازِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا
إِسْرَائِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ،
قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ عِدَّةَ أَصْحَابِ بَدْرٍ عَلَى
عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهْرَ-
وَلَمْ يَجُزْ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ- ثلاثمائة وَبِضْعَةَ عَشَرَ.
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ:
كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ اصحاب النبي ص كانوا يوم بدر ثلاثمائة
وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ، مَنْ
جَازَ مَعَهُ النَّهْرَ، وَمَا جَازَ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ.
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ،
عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، بِنَحْوِهِ.
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْرَائِيلَ الرَّمْلِيُّ، قال: حدثنا
عبد الله بن محمد ابن الْمُغِيرَةِ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: عِدَّةُ أَهْلِ بَدْرٍ عِدَّةُ
أَصْحَابِ طالوت
(2/432)
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ،
قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ
أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، مِثْلَهُ.
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ:
حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، [عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ
نَبِيَّ اللَّهِ ص قَالَ لأَصْحَابِهِ يَوْمَ بَدْرٍ: أَنْتُمْ
بِعِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ يَوْمَ لَقِيَ جَالُوتَ، وَكَانَ
أَصْحَابُ نَبِيِّ الله ص يوم بدر ثلاثمائة وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا]
.
حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن
السدي، قال: خلص طالوت في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، عدة أصحاب بدر.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن
قتادة، قال: كان مع النبي ص يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا.
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق قال: وخرج رسول الله ص في أصحابه، وجعل
على الساقة قيس بن أبي صعصعة أخا بني مازن بن النجار، في ليال مضت من
شهر رمضان، فسار حتى إذا كان قريبا من الصفراء، بعث بسبس بن عمرو
الجهني، حليف بني ساعدة وعدي بن أبي الزغباء الجهني حليف بني النجار
إلى بدر، يتحسسان له الأخبار عن ابى سفيان بن حرب وعيره، ثم ارتحل رسول
الله ص، وقد قدمهما، فلما استقبل الصفراء- وهي قرية بين جبلين- سأل عن
جبليهما: ما أسماؤهما؟ فقالوا لأحدهما: هذا مسلح، وقالوا للآخر:
هذا مخرئ، وسأل عن أهلهما، فقالوا: بنو النار وبنو حراق بطنان من بني
غفار، فكرههما رسول الله ص والمرور بينهما،
(2/433)
وتفاءل بأسمائهما وأسماء أهاليهما، فتركهما
والصفراء بيسار، وسلك ذات اليمين على واد يقال له ذفران، فخرج منه حتى
إذا كان ببعضه نزل.
وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار النبي ص الناس،
وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر رضي الله عنه، فقال فأحسن، ثم قام عمر
بن الخطاب فقال فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو، فقال: يا رسول الله،
امض لما أمرك الله، فنحن معك، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل
لموسى: «اذهب أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» ،
ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.
فو الذى بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد- يعني مدينة الحبشة-
لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه فقال له رسول الله ص خيرا، ودعا له
بخبر.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَبُو يَحْيَى، قَالَ:
حَدَّثَنَا الْمُخَارِقُ، عَنْ طَارِقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ، قَالَ:
لَقَدْ شَهِدْتُ مِنَ الْمِقْدَادِ مَشْهَدًا لأَنْ أَكُونَ أَنَا
صَاحِبُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا فِي الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ، كَانَ
رَجُلًا فَارِسًا، وكان رسول الله ص إِذَا غَضِبَ احْمَارَّتْ
وَجْنَتَاهُ، فَأَتَاهُ الْمِقْدَادُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَقَالَ:
أَبْشِرْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فو الله لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ
بَنُو إِسْرَائِيلَ لموسى: «اذهب أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا
هاهُنا قاعِدُونَ» ، وَلَكِنْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ
لَنَكُونَنَّ مِنْ بَيْنَ يَدَيْكَ وَمِنْ خَلْفِكَ، وَعَنْ يَمِينِكَ
وَعَنْ شِمَالِكَ، أَوْ يَفْتَحُ اللَّهُ لَكَ
(2/434)
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق [ثم قال
رسول الله ص: أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ]- وَإِنَّمَا
يُرِيدُ الأَنْصَارَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَدَدَ النَّاسِ،
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ حِينَ بَايَعُوهُ بِالْعَقَبَةِ، قَالُوا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا بُرَآءٌ مِنْ ذِمَامِكَ حَتَّى تَصِلَ إِلَى
دَارِنَا، فَإِذا وَصَلْتَ إِلَيْنَا فَأَنْتَ فِي ذِمَامِنَا،
نَمْنَعُكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، فَكَانَ
رسول الله ص يتخوف الا تَكُونَ الأَنْصَارُ تَرَى عَلَيْهَا
نُصْرَتَهُ، إِلَّا مِمَّنْ دَهَمَهُ بِالْمَدِينَةِ مِنْ عَدُوِّهِ،
وَأَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ إِلَى عَدُوٍّ مِنْ
بِلَادِهِمْ- فلما قال ذلك رسول الله ص، قَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ
مُعَاذٍ: وَاللَّهِ لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ!
قَالَ: أَجَلْ، قَالَ: فَقَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ،
وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَأَعْطَيْنَاكَ
عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا، عَلَى السَّمْعِ
وَالطَّاعَةِ، فَامْضِ يَا رسول الله لما اردت، فو الذى بَعَثَكَ
بِالْحَقِّ، إِنِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ
لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا
نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا! إِنَّا لَصُبُرٌ عِنْدَ
الْحَرْبِ، صُدْقٌ عِنْدَ اللِّقَاءِ، لَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ مِنَّا
مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ.
فسر رسول الله ص بِقَوْلِ سَعْدٍ، وَنَشَّطَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ:
سِيرُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ، وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ
وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَاللَّهِ لَكَأَنِّي الآنَ
أَنْظُرُ إِلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ.
ثُمَّ ارْتَحَلَ رَسُولُ اللَّهِ ص مِنْ ذَفِرَانَ، فَسَلَكَ عَلَى
ثَنَايَا يُقَالُ لَهَا الأَصَافِرُ، ثُمَّ انْحَطَّ مِنْهَا عَلَى
بَلَدٍ يُقَالُ لَهَا الدَّبَّةُ، وَتَرَكَ الْحَنَّانَ بِيَمِينٍ، -
وَهُوَ كَثِيبٌ عَظِيمٌ كَالْجَبَلِ- ثُمَّ نَزَلَ قَرِيبًا مِنْ
بَدْرٍ، فَرَكِبَ هُوَ وَرَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ- كَمَا حَدَّثَنَا
ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ- حَتَّى وَقَفَ
عَلَى شَيْخٍ مِنَ الْعَرَبِ، فَسَأَلَهُ عَنْ قُرَيْشٍ وَعَنْ
مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، وَمَا بَلَغَهُ عَنْهُمْ، فَقَالَ
(2/435)
الشَّيْخُ: لا أُخْبِرُكُمَا حَتَّى
تُخْبِرَانِي مِمَّنْ أَنْتُمَا! فقال له رسول الله ص: إِذَا
أَخْبَرْتَنَا أَخْبَرْنَاكَ، فَقَالَ: وَذَاكَ بِذَاكَ! قَالَ:
نَعَمْ، قَالَ الشَّيْخُ:
فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ خَرَجُوا يَوْمَ
كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَ صَدَقَنِي الَّذِي أَخْبَرَنِي فَهُوَ
الْيَوْمُ بِمَكَانِ كَذَا وكذا- للمكان الذى به رسول الله ص-
وَبَلَغَنِي أَنَّ قُرَيْشًا خَرَجُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ
كَانَ الَّذِي حَدَّثَنِي صَدَقَنِي فَهُمُ الْيَوْمُ بِمَكَانِ كَذَا
وَكَذَا- لِلْمَكَانِ الَّذِي بِهِ قُرَيْشٍ- فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ
خَبَرِهِ، قَالَ: مِمَّنْ أَنْتُمَا؟ فقال رسول الله ص:
نَحْنُ مِنْ مَاءٍ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ قَالَ: يقول الشيخ: ما من
ماء، امن ماء العراق! ثم رجع رسول الله ص الى اصحابه، فلما امسى بعث
على ابن أَبِي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَسَعْدَ بْنَ
أَبِي وَقَّاصٍ، فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى مَاءِ بَدْرٍ
يَلْتَمِسُونَ لَهُ الْخَبَرَ عَلَيْهِ- كَمَا حدثنا ابن حميد، قال:
حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، كَمَا
حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ-
فَأَصَابُوا رَاوِيَةً لِقُرَيْشٍ فِيهَا أَسْلَمُ، غُلامُ بَنِي
الْحَجَّاجِ، وَعريض أَبُو يَسَارٍ، غُلَامُ بَنِي الْعَاصِ بْنِ سعيد،
فاتوا بهما رسول الله ص، ورسول الله ص قَائِمٌ يُصَلِّي،
فَسَأَلُوهُمَا، فَقَالَا:
نَحْنُ سُقَاةُ قُرَيْشٍ، بَعَثُونَا لِنُسْقِيَهُمْ مِنَ الْمَاءِ،
فَكَرِهَ الْقَوْمُ خَبَرَهُمَا، وَرَجَوْا أَنْ يَكُونَا لأَبِي
سُفْيَانَ، فَضَرَبُوهُمَا، فَلَمَّا أَذْلَقُوهُمَا قَالَا: نَحْنَ
لأَبِي سُفْيَانَ، فَتَرَكُوهُمَا، وَرَكَعَ رسول الله ص، وَسَجَدَ
سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَالَ: إِذَا صَدَقَاكُمْ
ضَرَبْتُمُوهُمَا، وَإِذَا كَذَبَاكُمْ تَرَكْتُمُوهُمَا! صَدَقَا
وَاللَّهِ! إِنَّهُمَا لِقُرَيْشٍ، أَخْبِرَانِي: أَيْنَ قُرَيْشٌ؟
قَالَا: هُمْ وَرَاءَ هَذَا الْكَثِيبِ الَّذِي تَرَى بِالْعُدْوَةِ
الْقُصْوَى- وَالْكَثِيبِ: العقنقل- فقال رسول الله ص لَهُمَا: كَمِ
الْقَوْمُ؟ قَالَا: كَثِيرٌ، قَالَ: مَا عِدَّتُهُمْ؟ قَالَا: لا
نَدْرِي، قَالَ: كَمْ يَنْحَرُونَ كُلَّ يَوْمٍ؟ قَالَا: يَوْمًا
تِسْعًا وَيَوْمًا عَشْرًا، قال رسول
(2/436)
الله ص: القوم ما بين التسعمائة والالف ثم
قال لهما رسول الله ص: فمن فيهم من اشراف قريش؟ قال: عتبة بن ربيعة،
وشيبة بن ربيعة، وأبو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ، وَحَكِيمُ بْنُ
حِزَامٍ، وَنَوْفَلُ بْنُ خُوَيْلِدٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَامِرِ بْنِ
نَوْفَلٍ، وَطُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلٍ، وَالنَّضْرُ بْنُ
الْحَارِثِ بْنِ كِلْدَةَ، وَزَمْعَةُ بْنُ الأَسْوَدِ، وَأَبُو جهل
ابن هشام، وأمية بن خلف ونبيه، ومنبه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو،
وعمرو بن عبد ود [فاقبل رسول الله ص عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ:
هَذِهِ مَكَّةُ قَدْ أَلْقَتْ إِلَيْكُمْ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا] .
قَالُوا: وَقَدْ كَانَ بَسْبَسُ بْنُ عَمْرٍو وَعَدِيُّ بْنُ أَبِي
الزَّغْبَاءِ مَضَيَا حَتَّى نَزَلَا بَدْرًا، فَأَنَاخَا إِلَى تَلٍّ
قَرِيبٍ مِنَ الْمَاءِ، ثُمَّ أَخَذَا شَنًّا يَسْتَقِيَانِ فِيهِ-
ومَجديّ بْنُ عَمْرٍو الْجُهَنِيُّ عَلَى الْمَاءِ- فَسَمِعَ عَدِيٌّ
وَبَسْبَسٌ جَارِيَتَيْنِ مِنْ جَوَارِي الْحَاضِرِ، وَهُمَا
تَتَلَازَمَانِ عَلَى الْمَاءِ، وَالْمَلْزُومَةُ تَقُولُ
لِصَاحِبَتِهَا:
إِنَّمَا تَأْتِي الْعِيرُ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ، فَأَعْمَلُ لَهُمْ
ثُمَّ أَقْضِيكِ الَّذِي لَكِ قَالَ:
مَجديّ: صَدَقَتْ، ثُمَّ خَلَصَ بَيْنَهُمَا، وَسَمِعَ ذَلِكَ عَدِيٌّ
وَبَسْبَسٌ، فَجَلَسَا عَلَى بَعِيرَيْهِمَا، ثُمَّ انْطَلَقَا حَتَّى
أتيا رسول الله ص، فَأَخْبَرَاهُ بِمَا سَمِعَا.
وَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ قَدْ تَقَدَّمَ الْعِيرَ حَذِرًا حَتَّى
وَرَدَ الْمَاءَ، فَقَالَ لِمَجْدِيِّ بْنِ عَمْرٍو: هَلْ أَحْسَسْتَ
أَحَدًا؟ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أُنْكِرُهُ، إِلَّا أَنِّي
رَأَيْتُ رَاكِبَيْنِ أَنَاخَا إِلَى هَذَا التَّلِّ، ثُمَّ اسْتَقَيَا
فِي شَنٍّ لَهُمَا، ثُمَّ انْطَلَقَا فَأَتَى أَبُو سُفْيَانَ
مَنَاخَهُمَا، فَأَخَذَ مِنْ أَبْعَارِ بَعِيرَيْهِمَا فَفَتَّهُ،
فَإِذَا فِيهِ نَوًى فَقَالَ: هَذِهِ وَاللَّهِ عَلَائِفُ يَثْرِبَ!
فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ سَرِيعًا، فَضَرَبَ وَجْهَ عِيرِهِ عَنِ
الطَّرِيقِ، فَسَاحَلَ
(2/437)
بِهَا، وَتَرَكَ بَدْرًا يَسَارًا، ثُمَّ
انْطَلَقَ حَتَّى أَسْرَعَ.
وَأَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ، فَلَمَّا نَزَلُوا الْجُحْفَةَ رَأَى جهيم بن
الصلت بن مخرمه ابن الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ رُؤْيَا،
فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، وَإِنِّي لَبَيْنَ
النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ، إِذْ نَظَرْتُ إِلَى رَجُلٍ أَقْبَلَ عَلَى
فَرَسٍ حَتَّى وَقَفَ وَمَعَهُ بَعِيرٌ لَهُ، ثُمَّ قال: قتل عتبة بن
ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خَلَفٍ،
وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَعَدَّدَ رِجَالًا مِمَّنْ قُتِلَ يَوْمَئِذٍ
مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، وَرَأَيْتُهُ ضَرَبَ فِي لَبَّةِ بَعِيرِهِ،
ثُمَّ أَرْسَلَهُ فِي الْعَسْكَرِ، فَمَا بَقِيَ خِبَاءٌ مِنْ
أَخْبِيَةِ الْعَسْكَرِ إِلَّا أَصَابَهُ نَضْحٌ مِنْ دَمِهِ قَالَ:
فَبَلَغَتْ أَبَا جَهْلٍ، فَقَالَ: وَهَذَا أَيْضًا نَبِيٌّ آخَرُ مِنْ
بَنِي الْمُطَّلِبِ، سَيُعْلَمُ غَدًا مَنِ الْمَقْتُولُ إِنْ نَحْنُ
الْتَقَيْنَا! وَلَمَّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ أَنَّهُ قَدْ أَحْرَزَ
عِيرَهُ، أَرْسَلَ إِلَى قُرَيْشٍ: إِنَّكُمْ إِنَّمَا خَرَجْتُمْ
لِتَمْنَعُوا عِيرَكُمْ وَرِجَالَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، فَقَدْ
نَجَّاهَا الله، فارجعوا فقال ابو جهل ابن هِشَامٍ: وَاللَّهِ لا
نَرْجِعُ حَتَّى نَرِدَّ بَدْرًا- وَكَانَ بَدْرٌ مَوْسِمًا مِنْ
مَوَاسِمِ الْعَرَبِ، تَجْتَمِعُ لَهُمْ بِهَا سُوقٌ كُلَّ عَامٍ-
فَنُقِيمُ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، وَنَنْحَرَ الْجُزُرَ، وَنُطْعِمُ
الطَّعَامَ، وَنُسْقِيَ الْخُمُورَ، وَتَعْزِفَ عَلَيْنَا الْقِيَانُ،
وَتَسْمَعُ بِنَا الْعَرَبُ، فَلا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا أَبَدًا،
فَامْضُوا فَقَالَ الأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ
الثَّقَفِيُّ- وَكَانَ حَلِيفًا لِبَنِي زُهْرَةَ وَهُمْ
بِالْجُحْفَةِ: يَا بَنِي زُهْرَةَ، قَدْ نَجَّى اللَّهُ لَكُمْ
أَمْوَالَكُمْ، وَخَلَّصَ لَكُمْ صَاحِبَكُمْ مَخْرَمَةَ بْنَ
نَوْفَلٍ، وَإِنَّمَا نَفَرْتُمْ لِتَمْنَعُوهُ وَمَالَهُ، فَاجْعَلُوا
بِي جبنها وَارْجِعُوا، فَإِنَّهُ لا حَاجَةَ بِكُمْ فِي أَنْ
تَخْرُجُوا فِي غَيْرِ ضَيْعَةٍ، لا مَا يَقُولُ هَذَا- يَعْنِي أَبَا
جَهْلٍ- فَرَجَعُوا، فَلَمْ يَشْهَدْهَا زُهْرِيٌّ وَاحِدٌ، وَكَانَ
فِيهِمْ مُطَاعًا وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ مِنْ قُرَيْشٍ بَطْنٌ إِلَّا
نَفَرَ مِنْهُمْ نَاسٌ، إِلَّا بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ، لَمْ
يَخْرُجْ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَرَجَعَتْ بَنُو زُهْرَةَ مَعَ
الأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ، فَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا مِنْ هَاتَيْنِ
الْقَبِيلَتَيْنِ أَحَدٌ وَمَضَى الْقَوْمُ
(2/438)
قَالَ: وَقَدْ كَانَ بَيْنَ طَالِبِ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ- وَكَانَ فِي الْقَوْمِ- وَبَيْنَ بَعْضِ قُرَيْشٍ
مُحَاوَرَةٌ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفْنَا يَا بَنِي
هَاشِمٍ- وَإِنْ خَرَجْتُمْ مَعَنَا- أَنَّ هَوَاكُمْ مَعَ مُحَمَّدٍ
فَرَجَعَ طَالِبٌ إِلَى مَكَّةَ فِيمَنْ رَجَعَ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا ابْنُ الْكَلْبِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ
فِيمَا حُدِّثْتُ عَنْهُ: شَخَصَ طَالِبُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِلَى
بَدْرٍ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، أُخْرِجَ كَرْهًا فَلَمْ يُوجَدْ فِي
الأَسْرَى وَلا فِي الْقَتْلَى، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى أَهْلِهِ،
وَكَان شَاعِرًا، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ:
يَا رَبِّ إِمَّا يَغْزُونَ طَالِب ... فِي مَقْنَبٍ مِنْ هَذِهِ
الْمَقَانِبِ
فَلْيَكُنِ الْمَسْلُوبُ غَيْرَ السَّالِبِ ... وَلْيَكُنِ
الْمَغْلُوبُ غَيْرَ الْغَالِبِ
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق قال: وَمَضَتْ قُرَيْشٌ حَتَّى نَزَلُوا
بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى مِنَ الْوَادِي، خَلْفَ الْعَقَنْقَلِ،
وَبَطْنِ الْوَادِي وَهُوَ يَلْيَلُ، بَيْنَ بَدْرٍ وَبَيْنَ
الْعَقَنْقَلِ، الْكَثِيبِ الَّذِي خَلْفَهُ قُرَيْشٌ، وَالْقَلْبُ
بِبَدْرٍ فِي الْعُدْوَةِ الدُّنْيَا مِنْ بَطْنِ يَلْيَلَ إِلَى
الْمَدِينَةِ، وَبَعَثَ اللَّهُ السَّمَاءَ، وكان الوادى دهسا، فأصاب
رسول الله ص وَأَصْحَابُهُ مِنْهَا مَا لَبَّدَ لَهُمُ الأَرْضَ،
وَلَمْ يَمْنَعْهُمُ الْمَسِيرَ، وَأَصَابَ قُرَيْشًا مِنْهَا مَا لَمْ
يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَرْتَحِلُوا مَعَهُ، فَخَرَجَ رَسُولُ الله ص
يبادروهم إِلَى الْمَاءِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ
بَدْرٍ نَزَلَ بِهِ
(2/439)
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال:
فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حُدِّثْتُ عَنْ رِجَالٍ
مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، أَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ الحباب ابن الْمُنْذِرِ
بْنِ الْجَمُوحِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ هَذَا
الْمَنْزِلَ، أَمَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ
نَتَقَدَّمَهُ وَلا نَتَأَخَّرَهُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ
وَالْمَكِيدَةُ؟
قَالَ: بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ، فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ لَكَ بِمَنْزِلٍ، فَانْهَضْ
بِالنَّاسِ حَتَّى نَأْتِي أَدْنَى مَاءٍ مِنَ الْقَوْمِ فَنَنْزِلْهُ،
ثُمَّ نعور ما سواه من القلب، ثم نبنى عَلَيْهِ حَوْضًا فَتَمْلَؤُهُ
مَاءً، ثُمَّ نُقَاتِلُ الْقَوْمَ فنشرب ولا يشربون فقال رسول الله ص:
لقد اشرت بالرأي فنهض رسول الله ص وَمَنْ مَعَهُ مِنَ النَّاسِ،
فَسَارَ حَتَّى أَتَى أَدْنَى مَاءٍ مِنَ الْقَوْمِ، فَنَزَلَ
عَلَيْهِ، ثُمَّ امر بالقلب فعورت، وَبَنَى حَوْضًا عَلَى الْقَلِيبِ
الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ فَمُلِئَ مَاءً، ثُمَّ قَذَفُوا فِيهِ
الآنِيَةَ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْحَاقَ:
فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ سَعْدَ بْنَ
مُعَاذٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَبْنِي لَكَ عَرِيشًا مِنْ
جَرِيدٍ فَتَكُونُ فِيهِ، وَنَعُدُّ عِنْدَكَ رَكَائِبَكَ، ثُمَّ
نَلْقَى عَدُّوَنَا، فَإِنْ أَعَزَّنَا اللَّهُ وَأَظْهَرَنَا عَلَى
عَدُّوِنَا كَانَ ذَلِكَ مِمَّا أَحْبَبْنَا، وَإِنْ كَانَتِ الأُخْرَى
جَلَسْتَ عَلَى رَكَائِبِكَ، فَلَحِقْتَ بِمَنْ وَرَاءَنَا مِنْ
قَوْمِنَا، فَقَدْ تَخَلَّفَ عَنْكَ أَقْوَامٌ يَا نَبِيَّ اللَّهِ،
مَا نَحْنُ بِأَشَدِّ حُبًّا لَكَ مِنْهُمْ، وَلَوْ ظَنُّوا أَنَّكَ
تَلْقَى حَرْبًا مَا تَخَلَّفُوا عَنْكَ يَمْنَعُكَ اللَّهُ بِهِمْ،
يُنَاصِحُونَكَ وَيُجَاهِدُونَ معك فاثنى رسول الله ص عَلَيْهِ
خَيْرًا، وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ
(2/440)
ثم بنى لرسول الله ص عَرِيشٌ، فَكَانَ
فِيهِ، وَقَدِ ارْتَحَلَتْ قُرَيْشٌ حِينَ اصبحت، فاقبلت، فلما رآها
رسول الله ص تُصَوِّبُ مِنَ الْعَقَنْقَلِ- وَهُوَ الْكَثِيبُ الَّذِي
مِنْهُ جَاءُوا إِلَى الْوَادِي- قَالَ:
اللَّهُمَّ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بَخَيْلَائِهَا
وَفَخْرِهَا تُحَادّكَ وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ، اللَّهُمَّ فَنَصْرَكَ
الَّذِي وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ فَأَحِنْهُمُ الْغَدَاةَ! وقد قال
رسول الله ص- وَرَأَى عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ فِي الْقَوْمِ، عَلَى
جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرَ: إِنْ يَكُنْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْقَوْمِ
خَيْرٌ، فَعِنْدَ صَاحِبِ الْجَمَلِ الأَحْمَرِ، إِنْ يُطِيعُوهُ
يَرْشُدُوا وَقَدْ كَانَ خُفَافُ بْنُ إِيمَاءِ بْنِ رَحْضَةَ
الْغِفَارِيُّ- أَوْ أَبُوهُ إِيمَاءُ بْنُ رَحْضَةَ- بَعَثَ إِلَى
قُرَيْشٍ حِينَ مَرُّوا بِهِ ابْنًا لَهُ بِجَزَائِرَ أَهْدَاهَا
لَهُمْ، وَقَالَ: إِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ أَمُدَّكُمْ بِسِلَاحٍ
وَرِجَالٍ فَعَلْنَا، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ مَعَ ابْنِهِ: أَنْ
وَصَلْتُكَ الرَّحِمَ! فَقَدْ قَضَيْتَ الَّذِي عَلَيْكَ، فَلَعَمْرِي
لَئِنْ كُنَّا إِنَّمَا نُقَاتِلُ النَّاسَ، مَا بِنَا ضَعْفٌ
عَنْهُمْ، وَلَئِنْ كُنَّا نُقَاتِلُ اللَّهَ- كَمَا يَزْعُمُ
مُحَمَّدٌ- فَمَا لأَحَدٍ بِاللَّهِ مِنْ طَاقَةٍ.
فَلَمَّا نَزَلَ النَّاسُ، أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، حَتَّى
وَرَدُوا حوض رسول الله ص، فِيهِمْ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، عَلَى فَرَسٍ
لَهُ، فقال رسول الله ص: دَعُوهُمْ، فَمَا شَرِبَ مِنْهُمْ رَجُلٌ
إِلَّا قُتِلَ يَوْمَئِذٍ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ حَكِيمِ بْنِ
حِزَامٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ، نَجَا عَلَى فَرَسٍ لَهُ يُقَالُ
لَهُ الْوَجِيهُ، وَأَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ،
فَكَانَ إِذَا اجْتَهَدَ فِي يَمِينِهِ قَالَ: لا وَالَّذِي نَجَّانِي
يَوْمَ بَدْرٍ! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن
إسحاق:
(2/441)
وحدثني إسحاق بن يسار وغيره من أهل العلم،
عن أشياخ من الأنصار، قالوا: لما اطمأن القوم، بعثوا عمير بن وهب
الجمحي، فقالوا: احزر لنا أصحاب محمد، قال: فاستجال بفرسه حول العسكر،
ثم رجع إليهم، فقال: ثلاثمائة رجل، يزيدون قليلا او ينقصون، ولكن
أمهلوني حتى أنظر، أللقوم كمين أم مدد؟ قال: فضرب في الوادي، حتى أبعد
فلم ير شيئا، فرجع إليهم، فقال: ما رأيت شيئا، ولكني قد رأيت- يا معشر
قريش- الولايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس
لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل
رجل منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك! فروا
رأيكم.
فلما سمع حكيم بن حزام ذلك، مشى في الناس، فأتى عتبة بن ربيعة، فقال:
يا أبا الوليد، إنك كبير قريش الليلة وسيدها، والمطاع فيها، هل لك الا
تزال تذكر منها بخير إلى آخر الدهر! قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع
بالناس، وتحمل دم حليفك عمرو بن الحضرمي! قال: قد فعلت، أنت علي بذلك،
إنما هو حليفي فعلي عقله، وما أصيب من ماله، فأت ابن الحنظلية، فإني لا
أخشى أن يشجر أمر الناس غيره-
(2/442)
يعني أبا جهل بن هشام حدثنا الزبير بن
بكار، قال: حدثنا عثامة بن عمرو السهمي، قال:
حدثني مسور بن عبد الملك اليربوعي، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب، قال:
بينا نحن عند مروان بن الحكم، إذ دخل حاجبه، فقال: هذا أبو خالد حكيم
بن حزام، قال: ائذن له، فلما دخل حكيم بن حزام، قال: مرحبا بك يا أبا
خالد! ادن، فحال له مروان عن صدر المجلس، حتى كان بينه وبين الوسادة،
ثم استقبله مروان، فقال: حدثنا حديث بدر، قال: خرجنا حتى إذا نزلنا
الجحفة رجعت قبيلة من قبائل قريش بأسرها، فلم يشهد أحد من مشركيهم بدرا
ثم خرجنا حتى نزلنا العدوة التي ذكرها الله عز وجل، فجئت عتبة بن
ربيعة، فقلت: يا أبا الوليد، هل لك أن تذهب بشرف هذا اليوم ما بقيت؟
قال: أفعل ماذا؟ قلت: إنكم لا تطلبون من محمد إلا دم ابن الحضرمي، وهو
حليفك، فتحمل ديته وترجع بالناس فقال: أنت وذاك، وأنا أتحمل بديته،
واذهب إلى ابن الحنظلية- يعني أبا جهل- فقل له: هل لك أن ترجع اليوم
بمن معك عن ابن عمك؟
فجئته فإذا هو في جماعة من بين يديه ومن ورائه، وإذا ابن الحضرمي واقف
على رأسه، وهو يقول: قد فسخت عقدي من عبد شمس، وعقدي إلى بني مخزوم
فقلت له: يقول لك عتبة بن ربيعة: هل لك أن ترجع اليوم عن ابن عمك بمن
معك؟ قال: أما وجد رسولا غيرك! قلت: لا، ولم أكن لأكون رسولا لغيره قال
حكيم: فخرجت مبادرا إلى عتبة، لئلا يفوتني من الخبر شيء، وعتبة متكئ
على إيماء بن رحضة الغفاري، وقد أهدى إلى المشركين عشر جزائر، فطلع أبو
جهل والشر في وجهه، فقال لعتبة: انتفخ سحرك! فقال له عتبة: ستعلم! فسل
أبو جهل سيفه، فضرب به متن فرسه، فقال إيماء بن رحضة: بئس الفأل هذا!
فعند ذلك قامت الحرب
(2/443)
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق ثم قام عتبة
بن ربيعة خطيبا، فقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا
محمدا وأصحابه شيئا، والله لئن أصبتموه لا يزال رجل ينظر في وجه رجل
يكره النظر إليه، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته، فارجعوا
وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان
غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون قال حكيم: فانطلقت أؤم أبا
جهل، فوجدته قد نثل درعا له من جرابها، فهو يهيئها فقلت:
يا أبا الحكم، إن عتبة قد أرسلني إليك بكذا وكذا- للذي قال- فقال:
انتفخ والله سحره حين رأى محمدا وأصحابه، كلا والله لا نرجع حتى يحكم
الله بيننا وبين محمد وأصحابه، وما بعتبة ما قال، ولكنه قد رأى محمدا
وأصحابه أكلة جزور، وفيهم ابنه فقد تخوفكم عليه ثم بعث إلى عامر بن
الحضرمي، فقال له: هذا حليفك، يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك
بعينك، فقم فانشد خفرتك ومقتل أخيك فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف ثم
صرخ: وا عمراه! وا عمراه! فحميت الحرب، وحقب امر الناس، واستوسقوا على
ما هم عليه من الشر، وأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة بن
ربيعة.
فلما بلغ عتبة بن ربيعة قول أبي جهل: انتفخ سحره، قال: سيعلم المصفر
استه من انتفخ سحره، أنا أم هو! ثم التمس بيضة يدخلها في رأسه فما وجد
في الجيش بيضة تسعه من عظم هامته، فلما رأى ذلك اعتجر على رأسه ببرد له
(2/444)
وقد خرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي-
وكان رجلا شرسا سيئ الخلق- فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم ولأهدمنه
أو لأموتن دونه فلما خرج خرج له حمزة بن عبد المطلب، فلما التقيا ضربه
حمزة، فأطن قدمه بنصف ساقه، وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله
دما نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه، يريد- زعم- أن يبر
يمينه، واتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض.
ثم خرج بعده عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن
عتبة، حتى إذا فصل من الصف دعا إلى المبارزة، فخرج إليه فتية من
الأنصار ثلاثة نفر منهم: عوف ومعوذ ابنا الحارث- وأمهما عفراء- ورجل
آخر يقال له عبد الله بن رواحه، فقال: من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار.
فقالوا: ما لنا بكم حاجة! ثم نادى مناديهم: يا محمد، أخرج إلينا
أكفاءنا من قومنا، فقال رسول الله ص: قم يا حمزة بن عبد المطلب، قم يا
عبيدة بن الحارث، قم يا علي بن أبي طالب، فلما قاموا ودنوا منهم،
قالوا: من أنتم؟ قال عبيدة: عبيدة، وقال حمزة: حمزة، وقال علي:
علي، قالوا: نعم أكفاء كرام! فبارز عبيدة بن الحارث- وكان أسن القوم-
عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة، وبارز علي الوليد بن عتبة،
فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله،
واختلف عبيده وعتبة بينهما بضربتين، كلاهما أثبت صاحبه، وكر حمزة وعلي
بأسيافهما على عتبة، فذففا عليه فقتلاه، واحتملا صاحبهما عبيدة فجاءا
به إلى أصحابه، وقد قطعت رجله، فمخها يسيل، فلما أتوا بعبيدة إلى رسول
الله ص قال: ألست شهيدا يا رسول الله! قال:
(2/445)
بلى، فقال عبيدة: لو كان أبو طالب حيا لعلم
أني أحق بما قال منه حيث يقول:
وَنُسْلِمُهُ حَتَّى نُصَرَّعَ حَوْلَهُ ... وَنَذْهَلَ عَنْ
أَبْنَائِنَا والحلائل
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن
إسحاق:
وحدثني عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ
رَبِيعَةَ قَالَ لِلْفِتْيَةِ مِنَ الأَنْصَارِ حِينَ انْتَسَبُوا:
أَكْفَاءٌ كِرَامٌ، إِنَّمَا نُرِيدُ قَوْمَنَا، ثُمَّ تَزَاحَفَ
النَّاسُ، وَدَنَا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وقد امر رسول الله ص
أَصْحَابَهُ أَلَّا يَحْمِلُوا حَتَّى يَأْمُرَهُمْ، وَقَالَ: إِنِ
اكْتَنَفَكُمُ الْقَوْمُ فَانْضَحُوهُمْ عَنْكُمْ بِالنَّبْلِ،
وَرَسُولُ اللَّهِ ص فِي الْعَرِيشِ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
صَبِيحَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، كَمَا حَدَّثَنَا
ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، كَمَا
حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ
وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: قال
محمد بْنُ إِسْحَاقَ: وحدثني حِبَّانُ بْنُ وَاسِعِ بْنِ حِبَّانَ بْنِ
وَاسِعٍ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ، ان رسول الله ص عَدَلَ صُفُوفَ
أَصْحَابِهِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِي يَدِهِ قَدَحٌ يَعْدِلُ بِهِ
الْقَوْمَ، فَمَرَّ بِسُوَادِ بْنِ غَزِيَّةَ، حَلِيفِ بَنِي عَدِيِّ
بْنِ النَّجَّارِ، وَهُو مستنتل من الصف، فطعن رسول الله ص فِي
بَطْنِهِ بِالْقَدَحِ، وَقَالَ: اسْتَوِ يَا سُواد بن غزيه، قال: يَا
رَسُولَ اللَّهِ أَوْجَعْتَنِي وَقَدْ بَعَثَكَ اللَّهُ بالحق، فأقدني
قال: فكشف رسول الله ص عَنْ بَطْنِهِ [ثُمَّ قَالَ: اسْتَقِدْ، قَالَ:
فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَ بَطْنَهُ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ
(2/446)
عَلَى هَذَا يَا سُوَادُ؟ فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، حَضَرَ مَا تَرَى فَلَمْ آمَنِ الْقَتْلَ.
فَأَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ الْعَهْدِ بِكَ أَنْ يَمَسَّ جِلْدِي
جِلْدَكَ فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ص بِخَيْرٍ، وَقَالَ لَهُ
خَيْرًا] .
ثُمَّ عَدَلَ رَسُولُ الله ص الصُّفُوفَ، وَرَجَعَ إِلَى الْعَرِيشِ،
وَدَخَلَهُ، وَمَعَهُ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ لَيْسَ مَعَهُ فِيهِ
غَيْرُهُ، وَرَسُولُ الله ص يُنَاشِدُ رَبَّهُ مَا وَعَدَهُ مِنَ
النَّصْرِ، وَيَقُولُ فِيمَا يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ إِنْ
تَهْلَكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ الْيَوْمَ- يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ- لا
تُعْبَدُ بَعْدَ الْيَوْمِ، وَأَبُو بَكْرٍ يَقُولُ:
يَا نَبِيَّ اللَّهِ، بَعْضُ مُنَاشَدَتِكَ رَبَّكَ!، فَإِنَّ اللَّهَ
عَزَّ وَجَلَّ مُنْجِزٌ لَكَ مَا وَعَدَكَ.
فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ
عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ
ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ:
لَمَّا كَانَ يوم بدر، ونظر رسول الله ص إِلَى الْمُشْرِكِينَ
وَعِدَّتِهِمْ، وَنَظَرَ إِلَى أَصْحَابِهِ نَيِّفًا على ثلاثمائة،
اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَجَعَلَ يَدْعُو، يَقُولُ: اللَّهُمَّ
أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلَكْ هَذِهِ
الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الإِسْلامِ لا تُعْبَدُ فِي الأَرْضِ، فَلَمْ
يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ، فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ
فَوَضَعَ رِدَاءَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، ثُمَّ
قَالَ: كَفَاكَ يَا نبى الله، بابى وأنت وَأُمِّي، مُنَاشَدَتَكَ
رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَبَارَكَ وَتعالى: «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ
أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ» .
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الثَّقَفِيُّ- يَعْنِي
عَبْدَ الْوَهَّابِ- عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابن عباس، ان
النبي ص، قَالَ وَهُوَ فِي قُبَّتِهِ يَوْمَ بَدْرٍ: اللَّهُمَّ إِنِّي
أَسْأَلُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ
بَعْدَ الْيَوْمَ!
(2/447)
قَالَ: فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ،
فَقَالَ: حَسْبُكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَقَدْ أَلْحَحْتَ عَلَى
رَبِّكَ- وَهُوَ فِي الدِّرْعِ- فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: «سَيُهْزَمُ
الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ
وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ» .
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق قال: وقد خفق رسول الله ص خَفْقَةً
وَهُو فِي الْعَرِيشِ، ثُمَّ انْتَبَهَ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ،
أَتَاكَ نَصْرُ اللَّهِ، هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِعَنَانِ فَرَسِهِ
يَقُودُهُ، عَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ.
قَالَ: وَقَدْ رُمِيَ مِهْجَعٌ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
بِسَهْمٍ فَقُتِلَ، فَكَانَ أَوَّلُ قَتِيلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ،
ثُمَّ رُمِيَ حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ، أَحَدُ بَنِي عَدِيِّ بْنِ
النَّجَّارِ وَهُوَ يَشْرَبُ مِنَ الْحَوْضِ فَقُتِلَ ثُمَّ خَرَجَ
رَسُولُ اللَّهِ ص إِلَى النَّاسِ فَحَرَّضَهُمْ، وَنَفَلَ كُلَّ
امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا أَصَابَ، وَقَالَ:
[وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا يُقَاتِلُهُمُ الْيَوْمَ
رَجُلٌ فَيُقْتَلُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلا غَيْرَ مُدْبِرٍ،
إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ] فَقَالَ عُمَيْرُ بْنُ
الْحَمَامِ، أَخُو بَنِي سَلَمَةَ وَفِي يَدِهِ تَمَرَاتٌ
يَأْكُلُهُنَّ: بَخٍ بَخٍ، فَمَا بَيْنِي وَبَيْنَ أَنْ أَدْخُلَ
الْجَنَّةَ إِلا أَنْ يَقْتُلَنِي هَؤُلاءِ! ثُمَّ قَذَفَ التَّمَرَاتِ
مِنْ يَدِهِ، وَأَخَذَ سَيْفَهُ، فَقَاتَلَ الْقَوْمَ حَتَّى قُتِلَ
وَهُوَ يَقُولُ:
رَكْضًا إِلَى اللَّهِ بِغَيْرِ زَادٍ إِلا التُّقَى وَعَمَلَ
الْمَعَادِ وَالصَّبْرَ فِي اللَّهِ عَلَى الْجِهَادِ وَكُلُّ زَادٍ
عُرْضَةُ النَّفَادِ غَيْرَ التُّقَى وَالْبِرِّ وَالرَّشَادِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ،
أَنَّ عَوْفَ بْنِ الْحَارِثِ- وَهُو ابْنُ
(2/448)
عَفْرَاءَ- قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
[مَا يُضْحِكُ الرَّبَّ مِنْ عَبْدِهِ؟ قَالَ: غَمْسُهُ يَدَهُ فِي
الْعَدُوِّ حَاسِرًا] فَنَزَعَ دِرْعًا كَانَتْ عَلَيْهِ، فَقَذَفَهَا،
ثُمَّ أَخَذَ سَيْفَهُ فَقَاتَلَ الْقَوْمَ حَتَّى قُتِلَ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: قَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ.
وحدثني مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ الْعُذْرِيِّ، حَلِيفِ بَنِي زُهْرَةَ،
قَالَ: لَمَّا الْتَقَى النَّاسُ، وَدَنَا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ،
قَالَ أَبُو جَهْلٍ: اللَّهُمَّ أَقْطَعُنَا لِلرَّحِمِ، وَآتَانَا
بِمَا لَا يُعْرَفُ، فَأَحِنْهُ الْغَدَاةَ، فَكَانَ هُوَ
الْمُسْتَفْتِحُ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص أَخَذَ
حَفْنَةً مِنَ الْحَصْبَاءِ، فَاسْتَقْبَلَ بِهَا قُرَيْشًا، [ثُمَّ
قَالَ: شَاهَتِ الْوُجُوهُ! ثُمَّ نَفَحَهُمْ بِهَا، وَقَالَ
لأَصْحَابِهِ:
شُدُّوا،] فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ، فَقَتَلَ اللَّهُ مَنْ قَتَلَ مِنْ
صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، وَأَسَرَ مَنْ أَسَرَ مِنْهُمْ فَلَمَّا وَضَعَ
الْقَوْمُ أَيْدِيَهُمْ يَأْسِرُونَ، ورسول الله ص فِي الْعَرِيشِ،
وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ قَائِمٌ عَلَى باب العريش الذى فيه رسول الله ص،
مُتَوَشِّحًا السَّيْفَ، فِي نَفَرٍ مِنَ الأَنْصَارِ يَحْرُسُونَ رسول
الله ص، يَخَافُونَ عَلَيْهِ كَرَّةَ الْعَدُوِّ، وَرَأَى رَسُولُ
اللَّهِ ص- فِيمَا ذُكِرَ لِي- فِي وَجْهِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ
الْكَرَاهِيَةَ لِمَا يَصْنَعُ النَّاسَ، فَقَالَ رَسُولُ الله ص:
لَكَأَنَّكَ يَا سَعْدُ تَكْرَهُ مَا يَصْنَعُ النَّاسَ! قَالَ: أَجَلْ
وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَانَتْ أَوَّلَ وَقْعَةٍ أَوْقَعَهَا
اللَّهُ بِالْمُشْرِكِينَ، فَكَانَ الإِثْخَانُ فِي الْقَتْلِ أَعْجَبَ
إِلَيَّ مِنَ اسْتِبْقَاءِ الرِّجَالِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن مُحَمَّدِ
بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ:
وحدثني الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنْ بَعْضِ
أَهْلِهِ، عن ابن عباس،
(2/449)
[ان رسول الله ص قَالَ لأَصْحَابِهِ
يَوْمَئِذٍ: إِنِّي قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ رِجَالا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ
وَغَيْرِهِمْ قَدْ أُخْرِجُوا كَرْهًا، لا حَاجَةَ لَهُمْ
بِقِتَالِنَا، فَمَنْ لَقِيَ مِنْكُمْ أَحَدًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ فَلا
يَقْتُلُهُ، وَمَنْ لَقِيَ أَبَا الْبَخْتَرِيِّ بْن هِشَامِ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ فَلا يَقْتُلُهُ، وَمَنْ لَقِيَ العباس بن عبد
المطلب عم رسول فَلا يَقْتُلُهُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا أُخْرِجَ
مُسْتَكْرِهًا] قَالَ: فَقَالَ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ
رَبِيعَةَ: أَنَقْتُلُ آبَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا وَإِخْوَانَنَا
وَعَشِيرَتَنَا، وَنَتْرُكُ الْعَبَّاسَ! وَاللَّهِ لَئِنْ لَقِيتُهُ
لأَلْحِمَنَّهُ السَّيْفَ فَبَلَغَتْ رَسُولَ الله ص، فَجَعَلَ يَقُولُ
لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: يَا أَبَا حَفْصٍ، أَمَا تَسْمَعُ إِلَى
قَوْلِ أَبِي حُذَيْفَةَ، يقول: اضرب وجه عم رسول الله بِالسَّيْفِ!
فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي فلاضربن عنقه بالسيف، فو
الله لقد نافق.
- قال عُمَرُ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لأَوَّلُ يَوْمٍ كَنَّانِي فِيهِ رسول
الله ص بِأَبِي حَفْصٍ- قَالَ: فَكَانَ أَبُو حُذَيْفَةَ يَقُولُ: مَا
أَنَا بِآمِنٍ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي قُلْتُ يَوْمَئِذٍ،
وَلا أَزَالُ مِنْهَا خَائِفًا إِلا أَنْ تُكَفِّرَهَا عَنِّي
الشَّهَادَةُ فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شهيدا قال: وانما نهى رسول
الله ص عَنْ قَتْلِ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، لأَنَّهُ كَانَ أَكَفَّ
القوم عن رسول الله ص وَهُو بِمَكَّةَ، كَانَ لا يُؤْذِيهِ وَلا
يَبْلُغُهُ عَنْهُ شَيْءٌ يَكْرَهُهُ، وَكَانَ مِمَّنْ قَامَ فِي
نَقْضِ الصَّحِيفَةِ الَّتِي كَتَبَتْ قُرَيْشٌ عَلَى بَنِي هاشم وبنى
المطلب، فلقيه المجذر بن ذياد الْبَلَوِيُّ، حَلِيفُ الأَنْصَارِ مِنْ
بَنِي عَدِيٍّ، فَقَالَ المجذر بن ذياد لأبي البختري: ان رسول الله ص
قَدْ نَهَى عَنْ قَتْلِكَ- وَمَعَ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ زَمِيلٌ لَهُ
خَرَجَ مَعَهُ مِنْ مَكَّةَ، وَهُوَ جُنَادَةُ بْنُ مَلِيحَةَ بِنْتِ
زُهَيْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ، وَجُنَادَةُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي
لَيْثٍ واسم ابى البختري العاص بن هشام
(2/450)
ابن الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ- قَالَ:
وَزَمِيلِي؟ فَقَالَ: الْمِجْذَرُ: لا وَاللَّهِ مَا نَحْنُ بِتَارِكِي
زَمِيلِكَ، مَا امرنا رسول الله ص إِلا بِكَ وَحْدَكَ، قَالَ: لا
وَاللَّهِ إِذًا، لأَمُوتَنَّ أَنَا وَهُوَ جَمِيعًا، لا تُحَدِّثُ
عَنِّي نِسَاءُ قُرَيْشٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَنِّي تَرَكْتُ زَمِيلِي
حِرْصًا عَلَى الْحَيَاةِ فَقَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ حِينَ
نَازَلَهُ الْمِجْذَرُ، وَأَبَى إِلا الْقِتَالَ، وَهُوَ يَرْتَجِزُ:
لَنْ يَسْلَمَ ابْنُ حَرَّةٍ أَكِيلَهْ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يَرَى
سَبِيلَهْ فَاقْتَتَلا، فَقَتَلَهُ الْمِجْذَرُ بن ذياد.
قال: ثم اتى المجذر بن ذياد رسول الله ص، فَقَالَ:
وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَقَدْ جَهَدْتُ عَلَيْهِ أَنْ
يَسْتَأْسِرَ فَآتِيكَ بِهِ، فَأَبَى إِلا الْقِتَالَ، فَقَاتَلْتُهُ
فَقَتَلْتُهُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: قال محمد بن
إسحاق:
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ وحدثني أَيْضًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أَبِي بَكْرٍ، وَغَيْرُهُمَا، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ،
قَالَ: كَانَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ لِي صَدِيقًا بِمَكَّةَ- وَكَانَ
اسْمِي عَبْدَ عَمْرٍو، فَسُمِّيتُ حِينَ أَسْلَمْتُ: عَبْدَ
الرَّحْمَنِ، وَنَحْنُ بِمَكَّةَ- قَالَ: فَكَانَ يَلْقَانِي وَنَحْنُ
بِمَكَّةَ، فَيَقُولُ: يَا عَبْدَ عَمْرٍو، أَرَغِبْتَ عَنِ اسْمٍ
سَمَّاكَهُ أَبُوكَ؟ فَأَقُولُ نَعَمْ، فَيَقُولُ: فَإِنِّي لا
أَعْرِفُ الرَّحْمَنَ، فَاجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ شَيْئًا أَدْعُوكَ
بِهِ، أَمَّا أَنْتَ فَلَا تُجِيبُنِي بِاسْمِكَ الأَوَّلِ، وَأَمَّا
أَنَا فَلَا أَدْعُوكَ بِمَا لَا أَعْرِفُ قَالَ: فَكَانَ إِذَا
دَعَانِي: يَا عَبْدَ عَمْرٍو، لَمْ أُجِبْهُ، فَقُلْتُ: اجْعَلْ
بَيْنِي وَبَيْنَكَ يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا شِئْتَ، قَالَ: فَأَنْتَ
عَبْدُ الإِلَهِ، فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَكُنْتُ إِذَا مَرَرْتُ بِهِ
قَالَ: يَا عَبْدَ الإِلَهِ، فَأُجِيبُهُ، فَأَتَحَدَّثُ مَعَهُ،
حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، مَرَرْتُ بِهِ وَهُوَ وَاقِفٌ مَعَ
ابْنِهِ عَلِيِّ بْنِ أُمَيَّةَ، آخِذا بِيَدِهِ، وَمَعِي أَدْرَاعٌ
قَدِ اسْتَلَبْتُهَا، فَأَنَا أَحْمِلُهَا فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: يَا
عَبْدَ عَمْرٍو! فَلَمْ اجبه،
(2/451)
فَقَالَ: يَا عَبْدَ الإِلَهِ، قُلْتُ:
نَعَمْ، قَالَ: هَلْ لَكَ فِيَّ، فَأَنَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ هَذِهِ
الأَدْرَاعِ الَّتِي مَعَكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، هَلُمَّ إِذًا
قَالَ: فَطَرَحْتُ الأَدْرَاعَ مِنْ يَدِي وَأَخَذْتُ بِيَدِهِ وَيَدِ
ابْنِهِ عَلِيٍّ، وَهُوَ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ!
أَمَا لَكُمْ حَاجَةٌ فِي اللَّبَنِ! قَالَ: ثُمَّ خَرَجْتُ أَمْشِي
بِهِمَا.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ
إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَبِي عَوْنٍ،
عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بن عبد الرحمن ابن عَوْفٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: قَالَ لِي
أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَأَنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِهِ، آخِذٌ
بِأَيْدِيهِمَا: يَا عَبْدَ الإِلَهِ، مَنِ الرَّجُلُ مِنْكُمُ،
الْمُعَلَّمُ بِرِيشَةِ نَعَامَةٍ فِي صَدْرِهِ؟ قَالَ: قُلْتُ: ذَاكَ
حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قَالَ: ذَاكَ الَّذِي فَعَلَ بنا
الأفاعيل! قال عبد الرحمن: فو الله إِنِّي لأَقُودُهُمَا إِذْ رَآهُ
بِلَالٌ مَعِي- وَكَانَ هُوَ الَّذِي يُعَذِّبُ بِلَالًا بِمَكَّةَ
عَلَى أَنْ يَتْرُكَ الإِسْلَامَ فَيُخْرِجُهُ إِلَى رَمْضَاءِ مَكَّةَ
إِذَا حَمِيَتْ، فَيُضْجِعُهُ عَلَى ظَهْرِهِ، ثُمَّ يَأْمُرُ
بِالصَّخْرَةِ الْعَظِيمَةِ فَتُوضَعُ عَلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ يَقُولُ:
لا تَزَالُ هَكَذَا حَتَّى تُفَارِقَ دِينَ مُحَمَّدٍ، فَيَقُولُ
بِلَالٌ: أَحَدٌ أَحَدٌ- فَقَالَ بِلَالٌ حِينَ رَآهُ: راس الكفر اميه
ابن خَلَفٍ، لا نَجَوْتُ إِنْ نَجَوْتَ، قَالَ: قُلْتُ: اى بلال،
اسيرى! قَالَ: لا نَجَوْتُ إِنْ نَجَوَا قَالَ: قُلْتُ: تسمع يا بن
السَّوْدَاءِ! قَالَ:
لا نَجَوْتُ إِنْ نَجَوَا، ثُمَّ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا
أَنْصَارَ اللَّهِ، رَأْسُ الكفر اميه ابن خَلَفٍ، لا نَجَوْتُ إِنْ
نَجَا! قَالَ: فَأَحَاطُوا بِنَا، ثُمَّ جَعَلُونَا فِي مِثْلِ
الْمَسَكَةِ
(2/452)
وَأَنَا أَذُبُّ عَنْهُ، قَالَ: فَضَرَبَ
رَجُلٌ ابْنَهُ فَوَقَعَ قَالَ: وَصَاحَ أُمَيَّةُ صَيْحَةً مَا
سَمِعْتُ بِمِثْلِهَا قَطُّ قَالَ: قُلْتُ: انْجُ بِنَفْسِكَ، وَلا
نجاء، فو الله مَا أُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا قَالَ: فَهَبَرُوهُمَا
بِأَسْيَافِهِمْ حَتَّى فَرَغُوا مِنْهُمَا.
قَالَ: فَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ بِلَالًا!
ذَهَبَتْ أَدْرَاعِي وَفَجَعَنِي بِأَسِيرِيَّ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن محمد بن
إسحاق، قَالَ:
وحدثني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ حَدَّثَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، أَنَّ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي
غِفَارٍ، قَالَ: أَقْبَلْتُ أَنَا وَابْنَ عَمٍّ لِي حَتَّى
أَصْعَدْنَا فِي جَبَلٍ يُشْرِفُ بِنَا عَلَى بَدْرٍ، وَنَحْنُ
مُشْرِكَانِ، نَنْتَظِرُ الْوَقْعَةَ عَلَى مَنْ تَكُونُ الدَّبَرَةُ،
فَنَنْتَهِبُ مَعَ مَنْ يَنْتَهِبُ قَالَ: فَبَيْنَا نَحْنُ فِي
الْجَبَلِ، إِذْ دَنَتْ مِنَّا سَحَابَةٌ، فَسَمِعْنَا فِيهَا
حَمْحَمَةَ الْخَيْلِ، فَسَمِعْتُ قَائِلا:
يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ قَالَ: فَأَمَّا ابْنُ عَمِّي فَانْكَشَفَ
قِنَاعُ قَلْبِهِ فَمَاتَ مَكَانَهُ، وَأَمَّا أَنَا فَكِدْتُ
أَهْلَكَ، ثُمَّ تَمَاسَكْتُ.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْحَاقَ:
وحدثني أَبِي إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي مَازِنِ
بْنِ النَّجَّارِ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ الْمَازِنِيِّ- وَكَانَ شَهِدَ
بَدْرًا- قَالَ: إِنِّي لأَتْبَعُ رَجُلا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ
بَدْرٍ لأَضْرِبَهُ، إِذْ وَقَعَ رَأْسُهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ
سَيْفِي، فَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ قَتَلَهُ غَيْرِي.
حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عبد الحكم
المصري، قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الإِسْكَنْدَرَانِيُّ عَنِ الْعَلاءِ بْنِ
(2/453)
كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ
ابن سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، قَالَ: قَالَ لِي أَبِي: يَا بُنَيَّ،
لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ بَدْرٍ، وَإِنَّ أَحَدَنَا لَيُشِيرُ
بِسَيْفِهِ إِلَى الْمُشْرِكِ فَيَقَعُ رَأْسُهُ عَنْ جَسَدِهِ قَبْلَ
أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ السَّيْفُ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ
إِسْحَاقَ، قَالَ:
وحدثني الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ،
عَنْ مِقْسَمٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَتْ سِيمَاءُ الْمَلائِكَةِ يَوْمَ
بَدْرٍ عَمَائِمَ بِيضًا قَدْ أَرْسَلُوهَا فِي ظُهُورِهِمْ، وَيَوْمَ
حُنَيْنٍ عَمَائِمَ حُمْرًا، وَلَمْ تُقَاتِلِ الْمَلائِكَةُ فِي
يَوْمٍ مِنَ الأَيَّامِ سِوَى يَوْمِ بَدْرٍ وَكَانُوا يَكُونُونَ
فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الأَيَّامِ عَدَدًا وَمَدَدًا لا يَضْرِبُونَ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: قَالَ
مُحَمَّدٌ: وحدثني ثَوْرُ بْنُ زَيْدٍ مَوْلَى بَنِي الدِّيلِ، عَنْ
عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس قَالَ: وحدثني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أَبِي بَكْرِ، قَالَا: كَانَ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ
أَخُو بَنِي سَلَمَةَ يَقُولُ: لَمَّا فَرَغَ رَسُولُ الله ص مِنْ
عَدُوِّهِ، أَمَرَ بِأَبِي جَهْلٍ أَنْ يَلْتَمِسَ فِي الْقَتْلَى،
وَقَالَ: اللَّهُمَّ لا يَعْجِزَنَّكَ، قَالَ:
فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ لَقِيَ أَبَا جَهْلٍ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ
الْجَمُوحِ، قَالَ: سَمِعْتُ الْقَوْمَ وَأَبُو جَهْلٍ فِي مِثْلِ
الْحَرَجَةِ وَهُمْ يَقُولُونَ: أَبُو الْحَكَمِ لا يخلصُ إِلَيْهِ
فَلَمَّا سَمِعْتُهَا جَعَلْتُهُ مِنْ شَأْنِي، فَصَمَدْتُ نَحْوَهُ،
فَلَمَّا أَمْكَنَنِي حَمَلْتُ عَلَيْهِ فَضَرَبْتُهُ ضَرْبَةً
أَطَنَّتْ قَدَمُهُ بِنِصْفِ ساقه، فو الله مَا شَبَّهْتُهَا حِينَ
طَاحَتْ إِلَّا النَّوَاةُ تَطِيحُ مِنْ تَحْتِ مِرْضَخَةِ النَّوَى
حِينَ يُضْرَبُ بِهَا
(2/454)
قَالَ: وَضَرَبَنِي ابْنُهُ عِكْرَمَةُ
عَلَى عَاتِقِي، فَطَرَحَ يَدِي، فَتَعَلَّقَتْ بِجِلْدَةٍ مِنْ
جَنْبِي، وَأَجْهَضَنِي الْقِتَالُ عَنْهُ، فَلَقَدْ قَاتَلْتُ
عَامَّةَ يَوْمِي، وَإِنِّي لأَسْحَبُهَا خَلْفِي، فَلَمَّا آذَتْنِي
جَعَلْتُ عَلَيْهَا رِجْلِي، ثُمَّ تَمَطَّيْتُ بِهَا، حَتَّى
طَرَحْتُهَا.
قَالَ: ثُمَّ عَاشَ مُعَاذٌ بَعْدَ ذَلِكَ، حَتَّى كَانَ فِي زَمَنِ
عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ:
ثُمَّ مَرَّ بِأَبِي جَهْلٍ- وَهُوَ عَقِيرٌ- مُعَوِّذُ بْنُ
عَفْرَاءَ، فَضَرَبَهُ حَتَّى أَثْبَتَهُ، فَتَرَكَهُ وَبِهِ رَمَقٌ،
وَقَاتَلَ مُعَوِّذٌ حَتَّى قُتِلَ، فَمَرَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مَسْعُودٍ بابى جهل حين امر رسول الله ص أَنْ يُلْتَمَسَ فِي
الْقَتْلَى، وَقَدْ قَالَ لَهُمْ رسول الله ص- فِيمَا بَلَغَنِي:
انْظُرُوا إِنْ خَفِيَ عَلَيْكُمْ فِي الْقَتْلَى إِلَى أَثَرِ جُرْحٍ
بِرُكْبَتِهِ، فَإِنِّي ازْدَحَمْتُ أَنَا وَهُوَ يَوْمًا عَلَى
مَأْدُبَةٍ لِعَبْدِ اللَّهِ ابن جُدْعَانَ، وَنَحْنُ غُلَامَانِ،
وَكُنْتُ أَشَفَّ مِنْهُ بِيَسِيرٍ، فَدَفَعْتُهُ، فَوَقَعَ عَلَى
رُكْبَتَيْهِ، فَجَحَشَ فِي إِحْدَاهُمَا جحشا لم يزل اثره فيه بعد قال
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: فَوَجَدْتُهُ بِآخِرِ رَمَقٍ،
فَعَرَفْتُهُ، فَوَضَعْتُ رِجْلِي عَلَى عُنُقِهِ.
قَالَ: وَقَدْ كَانَ ضَبَثَ بِي مَرَّةً بِمَكَّةَ، فَآذَانِي
وَلَكَزَنِي ثُمَّ قُلْتُ: هَلْ أَخْزَاكَ اللَّهُ يَا عَدُوَّ
اللَّهِ! قَالَ: وَبِمَاذَا أَخْزَانِي! أعمد مِنْ رَجُلٍ قتلتموه!
أخبرني لمن الدبره؟ اليوم قَالَ: قُلْتُ: لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق:
وَزَعَمَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ، كَانَ
يَقُولُ: قَالَ لِي أَبُو جَهْلٍ:
لَقَدِ ارْتَقَيْتُ يَا رُوَيْعِيَ الْغَنَمِ مُرْتَقًى صَعْبًا! ثُمَّ
احْتَزَزْتُ رَأْسَهُ، ثُمَّ جِئْتُ بِهِ رَسُولَ الله ص، فَقُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَأْسُ عَدُوِّ الله
(2/455)
ابى جهل، قال: فقال رسول الله ص: آللَّهِ
الَّذِي لا إِلَهَ غَيْرُهُ! - وَكَانَتْ يَمِينَ رسول الله ص- قَالَ:
قُلْتُ: نَعَمْ، وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ غَيْرُهُ، ثُمَّ
أَلْقَيْتُ رَأْسَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ الله ص.
قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق،
قال: وحدثني يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ،
عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ الله ص بِالْقَتْلَى
أَنْ يُطْرَحُوا فِي الْقَلِيبِ طُرِحُوا فِيهِ، إِلا مَا كَانَ مِنْ
أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، فَإِنَّهُ انْتَفَخَ فِي دِرْعِهِ حَتَّى
مَلأَهَا، فَذَهَبُوا لِيُحَرِّكُوهُ، فَتَزَايَلَ فَأَقَرُّوهُ،
وَأَلْقَوْا عَلَيْهِ مَا غَيَّبَهُ مِنَ التُّرَابِ وَالْحِجَارَةِ،
فَلَمَّا أَلْقَاهُمْ فِي الْقَلِيبِ، وقف رسول الله ص عليهم،
[فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ
رَبُّكُمْ حَقًّا! فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا
فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُكَلِّمُ قَوْمًا
مَوْتَى! قَالَ: لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ مَا وَعَدْتُهُمْ حَقٌّ،
قَالَتْ عَائِشَةُ: وَالنَّاسُ يَقُولُونَ:
لَقَدْ سَمِعُوا مَا قُلْتَ لَهُمْ، وَإِنَّمَا قال رسول الله ص:
لَقَدْ عَلِمُوا] .
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق.
قال: وحدثني حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ:
سمع اصحاب رسول الله ص رسول الله ص، [وَهُوَ يَقُولُ مِنْ جَوْفِ
اللَّيْلِ: يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ، يَا عُتْبَةُ بْنَ رَبِيعَةَ، يَا
شَيْبَةُ بْنَ رَبِيعَةَ، يَا أُمَيَّةُ بْنَ خَلَفٍ، يَا أَبَا جَهْلِ
بْنَ هِشَامٍ- فَعَدَّدَ مَنْ كَانَ مَعَهُمْ فِي الْقَلِيبِ: هَلْ
وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا، فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ
مَا وَعَدَنِي
(2/456)
رَبِّي حَقًّا! قَالَ: الْمُسْلِمُونَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، أَتُنَادِي قَوْمًا قَدْ جَيَّفُوا! فَقَالَ:
مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لا
يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُجِيبُونِي] .
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: قال محمد بن
إسحاق:
وحدثني بعض اهل العلم، [ان رسول الله ص يَوْمَ قَالَ هَذِهِ
الْمَقَالَةَ: قَالَ: يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ، بِئْسَ عَشِيرَةُ
النَّبِيِّ كُنْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ! كَذَّبْتُمُونِي وَصَدَّقَنِي
النَّاسُ، وَأَخْرَجْتُمُونِي وَآوَانِي النَّاسُ، وَقَاتَلْتُمُونِي
وَنَصَرَنِي النَّاسُ.
ثُمَّ قَالَ: هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا؟
لِلْمَقَالَةِ الَّتِي قَالَ] قَالَ: وَلَمَّا امر بهم رسول الله ص
أَنْ يُلْقُوا فِي الْقَلِيبِ، أُخِذَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ
فَسُحِبَ إِلَى الْقَلِيبِ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ ص- فِيمَا
بَلَغَنِي- فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ، فَإِذَا هُوَ
كَئِيبٌ قَدْ تَغَيَّرَ، فَقَالَ: يَا أَبَا حُذَيْفَةَ، لَعَلَّكَ
دَخَلَكَ مِنْ شَأْنِ ابيك شيء! - او كما قال ص- فقال: لا وَاللَّهِ
يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مَا شَكَكْتُ فِي أَبِي وَلا فِي مَصْرَعِهِ،
وَلَكِنِّي كُنْتُ أَعْرِفُ مِنْ أَبِي رَأْيًا وَحِلْمًا وَفَضْلًا،
فَكُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَهْدِيَهُ ذَلِكَ إِلَى الإِسْلامِ، فَلَمَّا
رَأَيْتُ مَا أَصَابَهُ، وَذَكَرْتُ مَا مَاتَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ
بَعْدَ الَّذِي كُنْتُ أَرْجُو لَهُ، حزننى ذلك، قال: فدعا رسول الله ص
لَهُ بِخَيْرٍ، وَقَالَ لَهُ خَيْرًا.
ثُمَّ إِنَّ رسول الله ص أَمَرَ بِمَا فِي الْعَسْكَرِ مِمَّا جَمَعَ
النَّاسُ فَجُمِعَ، فَاخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ، فَقَالَ مَنْ
جَمَعَهُ: هو لنا، قد كان رسول الله ص نَفَّلَ كُلَّ امْرِئٍ مَا
أَصَابَ، فَقَالَ الَّذِينَ كَانُوا يُقَاتِلُونَ الْعَدُوَّ
وَيَطْلُبُونَهُمْ: لَوْلَا نَحْنُ مَا أَصَبْتُمُوهُ، لَنَحْنُ
شَغَلْنَا الْقَوْمَ عَنْكُمْ حَتَّى أَصَبْتُمْ مَا أَصَبْتُمْ
فَقَالَ الَّذِينَ يَحْرُسُونَ رَسُولَ اللَّهِ ص مَخَافَةَ أَنْ
يُخَالِفَ إِلَيْهِ الْعَدُوُّ: وَاللَّهِ مَا أَنْتُمْ بِأَحَقَّ بِهِ
مِنَّا، لَقَدْ رَأَيْنَا أَنْ نَقْتُلَ الْعَدُوَّ إِذْ وَلَّانَا
اللَّهُ، وَمَنَحَنَا أَكْتَافَهُمْ، وَلَقَدْ رَأَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ
الْمَتَاعَ
(2/457)
حِينَ لَمْ يَكُنْ دُونَهُ مَنْ
يَمْنَعُهُ، وَلَكِنْ خفنا على رسول الله ص كَرَّةَ الْعَدُوِّ،
فَقُمْنَا دُونَهُ، فَمَا أَنْتُمْ بِأَحَقَّ بِهِ مِنَّا.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق،
قال:
وحدثني عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ وَغَيْرُهُ مِنْ
أَصْحَابِنَا، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ موسى الأَشْدَقِ، عَنْ مَكْحُولٍ،
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ عُبَادَةَ بْنَ
الصَّامِتِ عَنِ الأَنْفَالِ، فَقَالَ: فِينَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ
بَدْرٍ نَزَلَتْ، حِينَ اخْتَلَفْنَا فِي النَّفْلِ، وَسَاءَتْ فِيهِ
أَخْلاقُنَا، فَنَزَعَهُ اللَّهُ مِنْ أَيْدِينَا، فجعله الى رسوله،
فقسمه رسول الله ص بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ بُوَاءٍ- يَقُولُ عَلَى
السَّوَاءِ- فَكَانَ فِي ذَلِكَ تَقْوَى اللَّهِ، وَطَاعَةُ رَسُولِهِ،
وَصَلاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ.
قَالَ: ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ الله ص عِنْدَ الْفَتْحِ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ رَوَاحَةَ بَشِيرًا إِلَى أَهْلِ الْعَالِيَةِ بِمَا فَتَحَ
اللَّهُ عَلَى رسوله ص وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَبَعَثَ زَيْدَ بْنَ
حَارِثَةَ إِلَى أَهْلِ السَّافِلَةِ.
قَالَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ: فَأَتَانَا الْخَبَرُ حِينَ سَوَّيْنَا
التُّرَابَ عَلَى رُقَيَّةَ بِنْتِ رسول الله ص الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ
عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، كَانَ رسول الله ص خَلَّفَنِي عَلَيْهَا مَعَ
عُثْمَانَ.
قَالَ: ثُمَّ قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَجِئْتُهُ وَهُوَ وَاقِفٌ
بِالْمُصَلَّى قَدْ غَشِيَهُ النَّاسُ وَهُوَ يَقُولُ: قُتِلَ عُتْبَةُ
بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ
هِشَامٍ، وَزَمْعَةُ بْنُ الأَسْوَدِ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ بن هشام،
وأمية بن خلف ونبيه ومنبه ابْنَا الْحَجَّاجِ قَالَ: قُلْتُ: يَا
أَبَهْ أَحَقٌّ هَذَا! قَالَ: نَعَمْ وَاللَّهِ يَا بُنَيَّ.
ثُمَّ اقبل رسول الله ص قَافِلًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَاحْتَمَلَ
مَعَهُ النَّفْلَ الَّذِي أُصِيبَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَجَعَل عَلَى
النَّفْلِ عَبْدَ الله بن كعب بن زيد ابن عَوْفِ بْنِ مَبْذُولِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ مَازِنِ بن النجار ثم اقبل رسول الله ص حَتَّى إِذَا
خَرَجَ مِنْ مَضِيقِ الصَّفْرَاءِ، نَزَلَ عَلَى كَثِيبٍ بَيْنَ
الْمَضِيقِ وَبَيْنَ النَّازية- يقال له سير- إلى سرحة به، فَقَسَّمَ
هُنَالِكَ النفل
(2/458)
الَّذِي أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى السَّوَاءِ، وَاسْتَقَى لَهُ
مِنْ مَاءٍ بِهِ يُقَالُ لَهُ الأَرْوَاقُ.
ثُمَّ ارْتَحَلَ رَسُولُ اللَّهِ ص حَتَّى إِذَا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ،
لَقِيَهُ الْمُسْلِمُونَ يُهَنِّئُونَهُ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ
وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ
بْنِ وَقْشٍ- كما حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا
سَلَمَةُ، قَالَ:
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، كَمَا حَدَّثَنِي عاصم بن عمر بن
قتادة، ويزيد بن رومان: وما الذى تهنئون به! فو الله إِنْ لَقِينَا
إِلَّا عَجَائِزَ صُلْعًا كَالْبُدْنِ الْمُعْقَلَةِ، فنحرناها فتبسم
رسول الله ص، وقال: يا بن أَخِي، أُولَئِكَ الْمَلَأُ قَالَ: وَمَعَ
رَسُولِ اللَّهِ ص الأُسَارَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَكَانُوا
أَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ أَسِيرًا، وَكَانَ مِنَ الْقَتْلَى مِثْلَ
ذَلِكَ- وَفِي الأُسَارَى عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَالنَّضْرُ
بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كِلْدَةَ- حَتَّى إِذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ص
بِالصَّفْرَاءِ، قُتِلَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، قَتَلَهُ عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة قال: قال مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْحَاقَ:
كَمَا حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، قَالَ:
ثُمَّ خَرَجَ رسول الله ص، حَتَّى إِذَا كَانَ بِعِرْقِ الظُّبْيَةِ،
قُتِلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، فَقَالَ حِينَ أَمَرَ بِهِ رسول
الله ص أَنْ يُقْتَلَ: فَمَنْ لِلصِبْيَةِ يَا مُحَمَّدُ! قَالَ:
النَّارُ، قَالَ: فَقَتَلَهُ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ ابى الاقلح
الأنصاري، ثم أَحَدُ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ.
قَالَ: كَمَا حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: وَلَمَّا انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ ص
إِلَى عِرْقِ الظُّبْيَةِ حِينَ قُتِلَ عُقْبَةُ لَقِيَهُ أَبُو هِنْدٍ
مَوْلَى فَرْوَةَ بْنِ عَمْرٍو الْبَيَاضِيِّ بِحَمِيتٍ مَمْلُوءٍ
حَيْسًا، وَكَانَ قَدْ تَخَلَّفَ عَنْ بَدْرٍ، ثُمَّ شَهِدَ
الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ رَسُولِ الله ص،
(2/459)
وكان حجام رسول الله ص، فقال رسول الله ص:
إِنَّمَا أَبُو هِنْدٍ امْرُؤٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَأَنْكِحُوهُ
وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِ، فَفَعَلُوا.
ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ ص حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ قَبْلَ
الأُسَارَى بِيَوْمٍ حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن
محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بَكْرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ، قَالَ:
قَدِمَ بِالأُسَارَى حِينَ قَدِمَ بِهِمْ وَسَوْدَةُ بِنْتُ زمعه زوج
النبي ص عِنْدَ آلِ عَفْرَاءَ فِي مَنَاحَتِهِمْ عَلَى عَوْفٍ
وَمُعْوَذٍ ابْنَيْ عَفْرَاءَ- قَالَ: وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ
عَلَيْهِنَّ الْحِجَابُ- قَالَ: تَقُولُ سَوْدَةُ: وَاللَّهِ إِنِّي
لَعِنْدَهُمْ إِذْ أَتَيْنَا، فَقِيلَ: هَؤُلاءِ الأُسَارَى قَدْ
أُتِيَ بِهِمْ، قَالَتْ: فَرُحْتُ إِلَى بَيْتِي ورسول الله ص فِيهِ،
وَإِذَا أَبُو يَزِيدَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو في ناحيه الحجرة، مجموعه
يداه الى عنقه بحبل، قالت: فو الله مَا مَلَكْتُ نَفْسِي حِينَ
رَأَيْتُ أَبَا يَزِيدَ كَذَلِكَ أَنْ قُلْتُ: يَا أَبَا يَزِيدَ،
أُعْطِيتُمْ بايديكم، الا متم كراما! فو الله ما انبهنى الا قول رسول
الله ص مِنَ الْبَيْتِ: يَا سَوْدَةُ، أَعَلَى اللَّهِ وَعَلَى
رَسُولِهِ! قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ
بِالْحَقِّ مَا مَلَكْتُ نَفْسِي حِينَ رَأَيْتُ أَبَا يَزِيدَ
مَجْمُوعَةٌ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ بِحَبْلٍ أَنْ قُلْتُ مَا قُلْتُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الفضل، عن
محمد بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي نَبِيهُ بْنُ وَهْبٍ، أَخُو
بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، [أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص حِينَ أَقْبَلَ
بِالأُسَارَى فَرَّقَهُمْ فِي أَصْحَابِهِ، وَقَالَ:
اسْتَوْصُوا بِالأُسَارَى خَيْرًا]- قَالَ: وَكَانَ أَبُو عَزِيزِ بْنُ
عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمٍ، أَخُو مُصْعَبِ بْنُ عُمَيْرٍ لأَبِيهِ
وَأُمِّهِ فِي الأُسَارَى- قَالَ: فَقَالَ أَبُو عَزِيزٍ: مَرَّ بِي
أَخِي مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يَأْسِرُنِي،
فَقَالَ: شُدَّ يديك به،
(2/460)
فَإِنَّ أُمَّهُ ذَاتَ مَتَاعٍ، لَعَلَّهَا
أَنْ تَفْتَدِيَهُ مِنْكَ قَالَ: وَكُنْتُ فِي رَهْطٍ مِنَ الأَنْصَارِ
حِينَ أَقْبَلُوا بِي مِنْ بَدْرٍ، فَكَانُوا إِذَا قَدَّمُوا
غَدَاءَهُمْ وَعَشَاءَهُمْ خَصُّونِي بِالْخُبْزِ، وَأَكَلُوا
التَّمْرَ لوصيه رسول الله ص إِيَّاهُمْ بِنَا، مَا تَقَعُ فِي يَدِ
رَجُلٍ مِنْهُمْ كِسْرَةٌ مِنَ الْخُبْزِ إِلا نَفَحَنِي بِهَا قَالَ:
فَأَسْتَحِي، فَأَرُدَّهَا عَلَى أَحَدِهِمْ فَيَرُدَّهَا عَلَيَّ مَا
يَمَسُّهَا.
حَدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق:
وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش الحيسمان بن عبد الله بن اياس ابن
ضبيعة بن مازن بن كعب بن عمرو الخزاعي- قال أبو جعفر: وقال الواقدي:
الحيسمان بن حابس الخزاعي- قالوا: ما وراءك؟ قال: قتل عتبة بن ربيعة،
وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وزمعة بن الأسود،
وأبو البختري بن هشام ونبيه ومنبه ابنا الحجاج قال: فلما جعل يعدد
أشراف قريش، قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحجر: والله إن يعقل هذا
فسلوه عني، قالوا: ما فعل صفوان بن أمية؟
قال: هو ذاك جالسا في الحجر، وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: قَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ:
حَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّاسٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قال ابو
رافع مولى رسول الله ص: كُنْتُ غُلامًا لِلْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ الإِسْلامُ قَدْ دَخَلَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ،
وَأَسْلَمَتْ أُمُّ الْفَضْلِ وَأَسْلَمْتُ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ
يَهَابُ قَوْمَهُ، وَيَكْرَهُ أَنْ يُخَالِفَهُمْ، وَكَانَ يَكْتُمُ
إِسْلامَهُ، وَكَانَ ذَا مَالٍ كَثِيرٍ مُتَفَرِّقٍ فِي قَوْمِهِ،
وَكَانَ أَبُو لَهَبٍ عَدُوُّ اللَّهِ قَدْ تَخَلَّفَ عَنْ بَدْرٍ،
وَبَعَثَ مَكَانَهُ الْعَاصَ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ
وَكَذَلِكَ صَنَعُوا، لَمْ يَتَخَلَّفْ رَجُلٌ إِلا بَعَثَ مَكَانَهُ
رَجُلا، فَلَمَّا جَاءَ الْخَبَرُ عَنْ مُصَابِ أَصْحَابِ بَدْرٍ مِنْ
قُرَيْشٍ، كَبَتَهُ اللَّهُ وَأَخْزَاهُ، وَوَجَدْنَا فِي أَنْفُسِنَا
قُوَّةً وَعِزًّا
(2/461)
قَالَ: وَكُنْتُ رَجُلا ضَعِيفًا، وَكُنْتُ
أَعْمَلُ الْقِدَاحَ، أنحتها في حجره زمزم، فو الله انى لجالس فِيهَا
أَنْحَتُ الْقِدَاحَ، وَعِنْدِي أُمُّ الْفَضْلِ جَالِسَةٌ، وَقَدْ
سَرَّنَا مَا جَاءَنَا مِنَ الْخَبَرِ، إِذْ أَقْبَلَ الْفَاسِقُ أَبُو
لَهَبٍ يَجُرُّ رِجْلَيْهِ بِشَرٍّ، حَتَّى جَلَسَ عَلَى طُنُبِ
الْحُجْرَةِ، فَكَانَ ظَهْرُهُ إِلَى ظَهْرِي، فَبَيْنَا هُوَ جَالِسٌ
إِذْ قَالَ النَّاسُ: هَذَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَدْ قَدِمَ قَالَ:
فَقَالَ أَبُو لهب: هلم الى يا بن أَخِي، فَعِنْدَكَ الْخَبَرُ قَالَ:
فَجَلَسَ إِلَيْهِ، وَالنَّاسُ قيام عليه، فقال: يا بن أَخِي،
أَخْبِرْنِي، كَيْفَ كَانَ أَمْرُ النَّاسِ؟
قَالَ: لا شَيْءَ، وَاللَّهِ إِنْ كَانَ إِلا أَنْ لَقَيْنَاهُمْ،
فَمَنَحْنَاهُمْ أَكْتَافَنَا، يَقْتُلُونَنَا وَيَأْسِرُونَ كَيْفَ
شَاءُوا، وَايْمُ اللَّهِ مَعَ ذَلِكَ مَا لُمْتُ النَّاسَ، لَقِينَا
رِجَالا بِيضًا عَلى خَيْلٍ بُلْقٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، مَا
تَلِيقُ شَيْئًا وَلا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ قَالَ أَبُو رَافِعٍ:
فَرَفَعْتُ طُنُبَ الْحُجْرَةِ بِيَدِي، ثُمَّ قُلْتُ: تِلْكَ
الْمَلائِكَةُ قَالَ: فَرَفَعَ أَبُو لَهَبٍ يَدَهُ فَضَرَبَ وَجْهِي
ضَرْبَةً شَدِيدَةً، قَالَ:
فَثَاوَرْتُهُ، فَاحْتَمَلَنِي، فَضَرَبَ بِي الأَرْضَ ثُمَّ بَرَكَ
عَلَيَّ يَضْرِبُنِي- وَكُنْتُ رَجُلا ضَعِيفًا- فَقَامَتْ أُمُّ
الْفَضْلِ إِلَى عَمُودٍ مِنْ عُمُدِ الْحُجْرَةِ، فَأَخَذَتْهُ
فَضَرَبَتْهُ بِهِ ضَرْبَةً فَشَجَّتْ فِي رَأْسِهِ شَجَّةً
مُنْكَرَةً، وَقَالَتْ: تَسْتَضْعِفُهُ أَنْ غَابَ عنه سيده! فقام
موليا ذليلا، فو الله مَا عَاشَ إِلا سَبْعَ لَيَالٍ حَتَّى رَمَاهُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْعَدَسَةِ فَقَتَلَتْهُ، فَلَقَدْ تَرَكَهُ
ابْنَاهُ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا مَا يَدْفِنَانِهِ حَتَّى أَنْتَنَ
فِي بَيْتِهِ- وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَتَّقِي الْعَدَسَةَ وَعَدْوَتَهَا
كَمَا يَتَّقِي النَّاسُ الطَّاعُونَ- حَتَّى قَالَ لَهُمَا رَجُلٌ
مِنْ قُرَيْشٍ: وَيْحَكُمَا! أَلا تَسْتَحِيَانِ أَنَّ أَبَاكُمَا قَدْ
أَنْتَنَ فِي بَيْتِهِ لا تُغَيِّبَانِهِ! فَقَالا: إِنَّا نَخْشَى
هَذِهِ الْقُرْحَةَ، قَالَ: فَانْطَلِقَا فَأَنَا مَعَكُمَا، فَمَا
غَسَّلُوهُ إِلا قَذْفًا بِالْمَاءِ عَلَيْهِ مِنْ بَعِيدٍ، مَا
يَمَسُّونَهُ، ثُمَّ احْتَمَلُوهُ فَدَفَنُوهُ بِأَعْلَى مَكَّةَ إِلَى
جِدَارٍ، وَقَذَفُوا عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ حَتَّى وَارَوْهُ
(2/462)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْحَاقَ: وحدثني الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ،
عَنْ بعض اهله، عن عبد الله ابن عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا أَمْسَى
الْقَوْمُ مِنْ يَوْمِ بَدْرٍ، وَالأُسَارَى مَحْبُوسُونَ فِي
الْوَثَاقِ، بَاتَ رَسُولُ الله ص سَاهِرًا أَوَّلَ لَيْلَةٍ، فَقَالَ
لَهُ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَالَكَ لا تَنَامُ! فَقَالَ:
سَمِعْتُ تَضَوُّرَ الْعَبَّاسِ فِي وَثَاقِهِ، قَالَ: فَقَامُوا إِلَى
العباس فاطلقوه، فنام رسول الله ص.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ
الْفَضْلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي الحسن
بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة بن مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
كَانَ الَّذِي أَسَرَ الْعَبَّاسُ أَبُو الْيُسْرِ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو
أُخو بَنِي سَلَمَةَ، وَكَانَ أَبُو الْيُسْرِ رَجُلا مَجْمُوعًا،
وَكَانَ الْعَبَّاسُ رَجُلا جَسِيمًا، فَقَالَ رَسُولُ الله ص لأَبِي
الْيُسْرِ: كَيْفَ أَسَرْتَ الْعَبَّاسَ يَا أَبَا الْيُسْرِ؟ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ أَعَانَنِي عَلَيْهِ رَجُلٌ مَا
رَأَيْتُهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَلا بَعْدَهُ، هَيْئَتُهُ كَذَا وَكَذَا،
[قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: لَقَدْ أَعَانَكَ عَلَيْهِ مَلَكٌ كَرِيمٌ]
.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الفضل، عن
مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: وحدثني يَحْيَى بْنُ عَبَّادٍ، عَنْ
أَبِيهِ عَبَّادٍ، قَالَ: نَاحَتْ قُرَيْشٌ عَلَى قَتْلَاهُمْ، ثُمَّ
قَالُوا: لا تَفْعَلُوا فَيَبْلُغُ ذَلِكَ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ،
فَيَشْمَتُ بِكُمْ، وَلا تَبْعَثُوا فِي فِدَاءِ أَسْرَاكُمْ حَتَّى
تَسْتَأْنَوْا بِهِمْ، لا يَتَأَرَّبُ عَلَيْكُمْ مُحَمَّدٌ
وَأَصْحَابُهُ فِي الْفِدَاءِ
(2/463)
قال: وكان الأسود بن عبد المطلب قَدْ
أُصِيبَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ وَلَدِهِ:
زَمْعَةُ بْنُ الأَسْوَدِ، وَعَقِيلُ بْنُ الأَسْوَدِ، وَالْحَارِثُ
بْنُ الأَسْوَدِ، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَبْكِيَ عَلَى بَنِيهِ،
فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ، إِذْ سَمِعَ نَائِحَةً مِنَ اللَّيْلِ،
فَقَالَ لِغُلامٍ لَهُ وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ: انْظُرْ هَلْ أَحَلَّ
النَّحْبُ؟ هَلْ بَكَتْ قُرَيْشٌ عَلَى قَتْلَاهَا؟
لَعَلِّي أَبْكِي عَلَى أَبِي حُكَيْمَةَ- يَعْنِي زَمْعَةَ- فَإِنَّ
جَوْفِي قَدِ احْتَرَقَ! قَالَ:
فَلَمَّا رَجَعَ إِلَيْهِ الْغُلَامُ، قَالَ: إِنَّمَا هِيَ امْرَأَةٌ
تَبْكِي عَلَى بَعِيرٍ لَهَا أَضَلَّتْهُ قَالَ:
فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ:
أَتَبْكِي أَنْ يَضِلَّ لَهَا بَعِيرٌ ... وَيَمْنَعُهَا مِنَ
النَّوْمِ السُّهُودُ
فَلَا تَبْكِي عَلَى بَكْرٍ وَلَكِنْ ... عَلَى بَدْرٍ تَقَاصَرَتِ
الْجُدُودُ
عَلَى بَدْرٍ سَرَاةِ بَنِي هُصَيْصٍ ... وَمَخْزُومٍ وَرَهْطِ أَبِي
الْوَلِيدِ
وَبَكِّي إِنْ بَكَيْتِ عَلَى عَقِيلٍ ... وَبَكِّي حَارِثًا أَسَد
الأُسُودِ
وَبَكِّيهِمْ وَلا تَسْمِي جَمِيعًا ... فَمَا لأَبِي حُكَيْمَةَ مِنْ
نَدِيدٍ
أَلَا قَدْ سَادَ بَعْدَهُمْ رِجَالٌ ... وَلَوْلَا يَوْمُ بَدْرٍ لَمْ
يَسُودُوا
قَالَ: وَكَانَ فِي الأُسَارَى أَبُو وَدَاعَةَ بْنُ ضُبَيْرَةَ
السَّهْمِيُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: إِنَّ لَهُ ابْنًا تَاجِرًا
كَيِّسًا ذَا مَالٍ، وَكَأَنَّكُمْ بِهِ قَدْ جَاءَكُمْ فِي فِدَاءِ
أَبِيهِ! قَالَ: فَلَمَّا قَالَتْ قُرَيْشٌ: لا تَعْجَلُوا فِي فِدَاءِ
أُسَرَائِكُمْ لَا يَتَأَرَّبُ عَلَيْكُمْ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ،
قَالَ الْمُطَّلِبُ بْنُ أَبِي وَدَاعَةَ- وَهُوَ الَّذِي كان رسول
الله ص عَنَى-: صَدَقْتُمْ، لا تَعْجَلُوا بِفِدَاءِ أُسَرَائِكُمْ
(2/464)
ثُمَّ انْسَلَّ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَدِمَ
الْمَدِينَةَ، فَأَخَذَ أَبَاهُ بِأَرْبَعَةِ آلافِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ
انْطَلَقَ بِهِ، ثُمَّ بَعَثَتْ قُرَيْشٌ فِي فِدَاءِ الأُسَارَى،
فَقَدِمَ مكرز بن حفص ابن الأَخْيَفِ فِي فِدَاءِ سُهَيْلِ بْنِ
عَمْرٍو، وَكَانَ الَّذِي أَسَرَهُ مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُمِ، أَخُو
بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، وَكَانَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو أَعْلَمَ
مِنْ شَفَتِهِ السُّفْلَى.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن
إِسْحَاقَ:
فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطَاءِ بْنِ عَيَّاشِ بْنِ
عَلْقَمَةَ، أَخُو بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ قَالَ لرسول الله ص: يَا رَسُولَ اللَّهِ انْتَزِعْ
ثَنِيَّتَيْ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو السُّفْلِيَّيْنِ يُدْلَعْ
لِسَانُهُ، فَلا يَقُومُ عَلَيْكَ خَطِيبًا فِي مَوْطِنٍ أَبَدًا،
[فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: لا أُمَثِّلُ بِهِ فَيُمَثِّلُ اللَّهُ
بِي، وَإِنْ كُنْتُ نَبِيًّا] .
قَالَ: وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ الله ص قَالَ لِعُمَرَ فِي
هَذَا الْحَدِيثِ: إِنَّهُ عَسَى أَنْ يَقُومَ مَقَامًا لا تَذُمُّهُ،
فَلَمَّا قَاوَلَهُمْ فِيهِ مِكْرَزٌ، وَانْتَهَى إِلَى رِضَاهُمْ،
قَالُوا: هَاتِ الَّذِي لَنَا قَالَ: اجْعَلُوا رِجْلِي مَكَانَ
رِجْلِهِ، وَخَلُّوا سَبِيلَهُ حَتَّى يَبْعَثُ إِلَيْكُمْ بِفِدَائِهِ
قَالَ: فَخَلُّوا سَبِيلَ سُهَيْلٍ، وَحَبَسُوا مِكْرِزًا مَكَانَهُ
عِنْدَهُمْ.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْحَاقَ، عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ الله ص قَالَ لِلْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ حِينَ انْتَهَى بِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ: يَا عَبَّاسُ،
افْدِ نَفْسَكَ وَابْنَيْ أَخِيكَ عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ
وَنَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ، وَحِليَفَك عُتْبَةَ بْنَ عَمْرِو بْنِ
جَحْدَمٍ، أَخَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ، فَإِنَّكَ ذو مال
(2/465)
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي
كُنْتُ مُسْلِمًا، وَلَكِنَّ الْقَوْمَ اسْتَكْرَهُونِي، فَقَالَ:
اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِسْلامِكَ، إِنْ يَكُنْ مَا تَذْكُرُ حَقًّا
فَاللَّهُ يُجْزِيكَ بِهِ، فَأَمَّا ظَاهِرُ أَمْرِكَ فَقَدْ كَانَ
عَلَيْنَا، فافد نفسك- وكان رسول الله ص قَدْ أَخَذَ مِنْهُ عِشْرِينَ
أُوقِيَةٍ مِنْ ذَهَبٍ- فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
احْسِبْهَا لِي فِي فِدَائِي، قَالَ: لا، ذَاكَ شَيْءٌ أَعْطَانَاهُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْكَ، قَالَ: فَإِنَّهُ لَيْسَ لِي مَالٌ
قَالَ: فَأَيْنَ الْمَالُ الَّذِي وَضَعْتَهُ بِمَكَّةَ حَيْث خَرَجْتَ
مِنْ عِنْدِ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ، لَيْسَ مَعَكُمَا
أَحَدٌ ثُمَّ قُلْتَ لَهَا: إِنْ أُصِبْتُ فِي سَفَرِي هَذَا
فَلِلْفَضْلِ كَذَا وَكَذَا، وَلِعَبْدِ اللَّهِ كَذَا وَكَذَا،
وَلِقَثْمٍ كَذَا وَكَذَا، وَلِعُبَيْدِ اللَّهِ كَذَا وَكَذَا! قَالَ:
وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عَلِمَ هَذَا أَحَدٌ غَيْرِي
وَغَيْرَهَا، وَإِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، فَفَدَى
الْعَبَّاسُ نَفْسَهُ وَابْنَيْ أَخِيهِ وَحَلِيفَهُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الفضل،
عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: وحدثني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بن
مُحَمَّد بن عمرو بن حَزْمٍ، قَالَ: كَانَ عَمْرُو بْنُ أَبِي
سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ- وَكَانَ لابْنَةِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي معيط-
أسيرا في يدي رسول الله ص مِنْ أَسَارَى بَدْرٍ، فَقِيلَ لأَبِي
سُفْيَانَ:
افْدِ عَمْرًا، قَالَ: أَيُجْمَعُ عَلَيَّ دَمِي وَمَالِي! قَتَلُوا
حَنْظَلَةَ وَأَفْدِي عَمْرًا! دَعُوهُ فِي أَيْدِيهِمْ يَمْسِكُوهُ
مَا بَدَا لَهُمْ قَالَ: فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ محبوس عند رسول الله
ص، خَرَجَ سَعْدُ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ أَكَّالٍ، أَخُو بَنِي
عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، ثُمَّ أَحَدُ بَنِي مُعَاوِيَةَ مُعْتَمِرًا،
وَمَعَهُ مَرِيَّةٌ لَهُ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا مُسْلِمًا فِي
غَنَمٍ لَهُ بِالنَّقِيعِ، فَخَرَجَ مِنْ هُنَالِكَ مُعْتَمِرًا، وَلا
يَخْشَى الَّذِي صُنِعَ بِهِ، لَمْ يَظُنَّ أَنَّهُ يُحْبَسُ
بِمَكَّةَ، إِنَّمَا جاء معتمرا،
(2/466)
وَقَدْ عَهِدَ قُرَيْشًا لا تَعْتَرِضُ
لأَحَدٍ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا إِلَّا بِخَيْرٍ، فَعَدَا عَلَيْهِ
أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فَحَبَسَهُ بِمَكَّةَ بِابْنِهِ عَمْرِو
بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ:
أَرَهْطَ ابْنِ أَكَّالٍ أَجِيبُوا دُعَاءَهُ ... تَعَاقَدْتُمْ لا
تُسَلِّمُوا السَّيِّدَ الْكَهْلَا
فَإِنَّ بَنِي عَمْرٍو لِئَامٌ أَذِلَّةٌ ... لِئَنْ لَمْ يَفُكُّوا
عَنْ أَسِيرِهِمُ الْكَبْلَا
قَالَ: فَمَشَى بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ إِلَى رسول الله ص،
فَأَخْبَرُوهُ خَبَرَهُ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ عَمْرَو بْنَ
أَبِي سُفْيَانَ فَيَفُكُّوا شَيْخَهُمْ، فَفَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ص،
فَبَعَثُوا بِهِ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ، فَخَلَّى سَبِيلَ سَعْدٍ.
قَالَ: وَكَانَ فِي الأُسَارَى أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ
عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عَبْدِ شمس ختن رسول الله ص، زَوْجُ ابْنَتِهِ
زَيْنَبَ، وَكَانَ أَبُو الْعَاصِ مِنْ رِجَالِ مَكَّةَ
الْمَعْدُودِينَ مَالًا وَأَمَانَةً وَتِجَارَةً، وَكَانَ لِهَالَةَ
بِنْتِ خُوَيْلِدٍ وَكَانَتْ خَدِيجَةُ خَالَتَهُ، فَسَأَلَتْ خديجه
رسول الله ص ان يزوجه، وكان رسول الله ص لا يُخَالِفُهَا، وَذَلِكَ
قَبْلَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِ، فَزَوَّجَهُ، فَكَانَتْ تُعِدُّهُ
بِمَنْزِلَةِ وَلَدِهَا، فَلَمَّا أَكْرَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
رَسُولَهُ بِنُبُوَّتِهِ آمَنَتْ بِهِ خَدِيجَةُ وَبَنَاتُهُ،
فَصَدَّقْنَهُ وَشَهِدْنَ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَدِنَّ
بِدِينِهِ، وَثَبَتَ أَبُو العاص على شركه.
وكان رسول الله ص قَدْ زَوَّجَ عُتْبَةَ بْنَ أَبِي لَهَبٍ إِحْدَى
ابْنَتَيْهِ رُقَيَّةَ أَوْ أُمَّ كُلْثُومٍ، فَلَمَّا بَادَى
قُرَيْشًا بِأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبَاعَدُوهُ، قَالُوا:
إِنَّكُمْ قَدْ فَرَغْتُمْ مُحَمَّدًا مِنْ هَمِّهِ، فَرُدُّوا
عَلَيْهِ بَنَاتِهِ، فَاشْغِلُوهُ بِهِنَّ، فَمَشَوْا إِلَى أَبِي
الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَقَالُوا لَهُ: فَارِقْ صَاحِبَتَكَ، ونحن
(2/467)
نُزَوِّجُكَ أَيَّ امْرَأَةٍ شِئْتَ مِنْ
قُرَيْشٍ، قَالَ: لا ها اللَّهِ إِذَا، لا أُفَارِقُ صَاحِبَتِي وَمَا
أُحِبُّ أَنَّ لِي بِامْرَأَتِي امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانَ رسول
الله ص يُثْنِي عَلَيْهِ فِي صِهْرِهِ خَيْرًا- فِيمَا بَلَغَنِي.
قَالَ: ثُمَّ مَشَوْا إِلَى الْفَاسِقِ ابْنِ الْفَاسِقِ، عُتْبَةَ
بْنِ أَبِي لَهَبٍ، فَقَالُوا لَهُ:
طَلِّقِ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ وَنَحْنُ نُزَوِّجُكَ أَيَّ امْرَأَةٍ مِنْ
قُرَيْشٍ شِئْتَ، فَقَالَ: إِنْ زَوَّجْتُمُونِي ابْنَةَ أَبَانَ بْنِ
سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، أَوِ ابْنَةَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ
فَارَقْتُهَا فَزَوَّجُوهُ ابْنَةَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ
وَفَارَقَهَا، وَلَمْ يَكُنْ عَدُوُّ اللَّهِ دَخَلَ بِهَا،
فَأَخْرَجَهَا اللَّهُ مِنْ يَدِهِ كَرَامَةً لَهَا، وَهَوَانًا لَهُ،
فَخَلَفَ عَلَيْهَا عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ بعده، وكان رسول الله ص لا
يَحِلُّ بِمَكَّةَ وَلا يُحْرِمُ مَغْلُوبًا عَلَى أَمْرِهِ، وَكَانَ
الإِسْلَامُ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ زَيْنَبَ بنت رسول الله ص حِينَ
أَسْلَمَتْ وَبَيْنَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، الا ان رسول الله
ص كَانَ لا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا، فاقامت معه على
اسلامهم وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ، حَتَّى هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ ص،
فَلَمَّا سَارَتْ قُرَيْشٌ إِلَى بَدْرٍ سَارَ فِيهِمْ أَبُو الْعَاصِ
بْنُ الرَّبِيعِ، فَأُصِيبَ فِي الأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ
بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ص.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ
إِسْحَاقَ، قَالَ:
فَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عباد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزبير، عن
ابيه عباد، عن عائشة زوج النبي ص، قَالَتْ: لَمَّا بَعَثَ أَهْلُ
مَكَّةَ فِي فِدَاءِ اسرائهم، بعثت زينب بنت رسول الله ص في فداء ابى
العاص ابن الرَّبِيعِ بِمَالٍ، وَبَعَثَتْ فِيهِ بِقِلادَةٍ لَهَا
كَانَتْ خَدِيجَةُ أَدْخَلَتْهَا بِهَا عَلَى أَبِي الْعَاصِ حِينَ
بَنَى عَلَيْهَا.
قَالَتْ: فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ ص رَقَّ لَهَا رِقَّةً
شَدِيدَةً، وَقَالَ: إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا
وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا فَافْعَلُوا! فَقَالُوا: نَعَمْ
يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَطْلَقُوهُ وَرَدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا
(2/468)
وكان رسول الله ص قَدْ أَخَذَ عَلَيْهِ-
أَوْ وَعَدَ رَسُولَ اللَّهِ ص- أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَ زَيْنَبَ
إِلَيْهِ، أَوْ كَانَ فِيمَا شَرَطَ عَلَيْهِ فِي إِطْلَاقِهِ، وَلَمْ
يَظْهَرْ ذلك منه ولا من رسول الله ص، فَيُعْلَمُ مَا هُوَ! إِلا
أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ أَبُو الْعَاصِ إِلَى مَكَّةَ وَخُلِّيَ
سَبِيلُهُ، بَعَثَ رسول الله ص زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَرَجُلا مِنَ
الأَنْصَارِ مَكَانَهُ، فَقَالَ:
كُونَا بِبَطْنِ يَأْجَجَ، حَتَّى تَمُرَّ بِكُمَا زَيْنَبُ
فَتَصْحَبَاهَا، حَتَّى تَأْتِيَانِي بِهَا، فَخَرَجَا مَكَانَهُمَا،
وَذَلِكَ بَعْدَ بَدْرٍ بِشَهْرٍ أَوْ شَيْعِهِ فَلَمَّا قَدِمَ أَبُو
الْعَاصِ مَكَّةَ أَمَرَهَا بِاللُّحُوقِ بِأَبِيهَا، فَخَرَجَتْ
تَجَهَّزُ.
فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ:
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بن أبي بكر بن مُحَمَّد بْنِ عَمْرِو بْنِ
حَزْمٍ، قَالَ: حُدِّثْتُ عَنْ زَيْنَبَ أَنَّهَا قَالَتْ: بَيْنَا
أَنَا أَتَجَهَّزُ بِمَكَّةَ لِلُّحُوقِ بِأَبِي، لَقِيَتْنِي هِنْدُ
بِنْتُ عُتْبَةَ، فَقَالَتْ: أَيِ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ، أَلَمْ
يَبْلُغَنِي أَنَّكِ تُرِيدِينَ اللُّحُوقَ بِأَبِيكِ! قَالَتْ:
فَقُلْتُ: مَا أَرَدْتُ ذَلِكَ، قَالَتْ: أَيِ ابْنَةَ عَمِّي، لا
تَفْعَلِي، إِنْ كَانَتْ لَكِ حَاجَةٌ بِمَتَاعٍ مِمَّا يَرْفَقُ بِكِ
فِي سَفَرِكِ، أَوْ بِمَالٍ تَبْلُغِينَ بِهِ إِلَى أَبِيكِ، فَإِنَّ
عِنْدِي حَاجَتَكِ فَلا تَضْطَنِي مِنِّي، فَإِنَّهُ لا يَدْخُلُ
بَيْنَ النِّسَاءِ مَا يَدْخُلُ بين الرجال قالت: وو الله مَا أَرَاهَا
قَالَتْ ذَلِكَ إِلا لِتَفْعَلَ.
قَالَتْ: وَلَكِنِّي خِفْتُهَا، فَأَنْكَرْتُ أَنْ أَكُونَ أُرِيدُ
ذَلِكَ، وتجهزت.
فلما فرغت ابنه رسول الله ص مِنْ جِهَازِهَا قَدِمَ لَهَا حَمُوهَا
كِنَانَةُ بْنُ الرَّبِيعِ أَخُو زَوْجِهَا بَعِيرًا فَرَكِبَتْهُ،
وَأَخَذَ قَوْسَهُ وَكِنَانَتَهُ، ثُمَّ خَرَجَ بِهَا نَهَارًا يَقُودُ
بِهَا، وَهِيَ فِي هَوْدَجٍ لَهَا وَتَحَدَّثَ بِذَلِكَ رِجَالُ قريش،
(2/469)
فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهَا حَتَّى
أَدْرَكُوهَا بِذِي طُوًى، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ سَبَقَ إِلَيْهَا
هَبَّارُ بْنُ الأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ
الْعُزَّى وَنَافِعُ بْنُ عَبْدِ الْقَيْسِ، وَالْفِهْرِيُّ
فَرَوَّعَهَا هَبَّارُ بِالرُّمْحِ وَهِيَ فِي هَوْدَجِهَا- وَكَانَتِ
الْمَرْأَةُ حَامِلا، فِيمَا يَزْعُمُونَ- فَلَمَّا رَجَعَتْ طَرَحَتْ
ذَا بَطْنِهَا، وَبَرَكَ حَمُوهَا، وَنَثَرَ كِنَانَتَهُ ثُمَّ قَالَ:
وَاللَّهِ لا يَدْنُو مِنِّي رَجُلٌ إِلا وَضَعْتُ فِيهِ سَهْمًا،
فَتَكَرْكَرَ النَّاسُ عَنْهُ، وَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَانَ فِي جُلَّةِ
قُرَيْشٍ، فَقَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ، كُفَّ عَنَّا نَبْلَكَ حَتَّى
نُكَلِّمَكَ، فَكَفَّ فَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ حَتَّى وَقَفَ
عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّكَ لَمْ تُصِبْ، خَرَجْتَ بِالْمَرْأَةِ عَلَى
رُءُوسِ الرِّجَالِ علانية، وَقَدْ عَرَفْتَ مُصِيبَتَنَا
وَنَكْبَتَنَا وَمَا دَخَلَ عَلَيْنَا مِنْ مُحَمَّدٍ، فَيَظُنُّ
النَّاسُ إِذَا خُرِجَ بِابْنَتِهِ علانية من بين أظهرنا ان ذلك عن
ذُلٍّ أَصَابَنَا عَنْ مُصِيبَتِنَا، وَنَكْبَتِنَا الَّتِي كَانَتْ،
وَأَنَّ ذَلِكَ مِنَّا ضَعْفٌ وَوَهَنٌ، لَعَمْرِي مَا لَنَا حَاجَةٌ
فِي حَبْسِهَا عَنْ أَبِيهَا، وَمَا لَنَا فِي ذَلِكَ مِنْ ثُؤْرَةٍ،
وَلَكِنْ أَرْجِعِ الْمَرْأَةَ، فَإِذَا هَدَأَ الصَّوْتُ، وَتَحَدَّثَ
النَّاسُ أَنَّا قَدْ رَدَدْنَاهَا، فَسُلَّهَا سِرًّا فَأَلْحِقْهَا
بِأَبِيهَا فَفَعَلَ حَتَّى إِذَا هَدَأَ الصَّوْتُ خَرَجَ بِهَا
لَيْلا، حَتَّى أَسْلَمَهَا إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَصَاحِبَهُ،
فقدما بها على رسول الله ص.
قَالَ: فَأَقَامَ أَبُو الْعَاصِ بِمَكَّةَ، وَأَقَامَتْ زَيْنَبُ عند
رسول الله ص بِالْمَدِينَةِ، قَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الإِسْلامُ،
حَتَّى إِذَا كَانَ قُبَيْلُ الْفَتْحِ خَرَجَ تَاجِرًا إِلَى
الشَّامِ- وَكَانَ رَجُلا مَأْمُونًا بِمَالٍ لَهُ، وَأَمْوَالِ
رِجَالٍ من قريش ابضعوها معه- فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ تِجَارَتِهِ-
وَأَقْبَلَ قَافِلا، لَقِيَتْهُ سريه لرسول الله ص، فَأَصَابُوا مَا
مَعَهُ، وَأَعْجَزَهُمْ هَرَبًا، فَلَمَّا قَدِمَتِ السَّرِيَّةُ بِمَا
أَصَابُوا مِنْ مَالِهِ، أَقْبَلَ أَبُو الْعَاصِ تَحْتَ اللَّيْلِ،
حَتَّى دَخَلَ عَلَى زَيْنَبَ بنت رسول الله
(2/470)
ص، فَاسْتَجَارَ بِهَا، فَأَجَارَتْهُ فِي
طَلَبِ مَالِهِ، فَلَمَّا خرج رسول الله ص إِلَى الصُّبْحِ-
فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: كَمَا
حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ- فَكَبَّرَ وَكَبَّرَ النَّاسُ
مَعَهُ، صَرَخَتْ زَيْنَبُ مِنْ صُفَّةِ النِّسَاءِ: أَيُّهَا
النَّاسُ، إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ أَبَا الْعَاصِ بْنَ الربيع فلما سلم
رسول الله ص مِنَ الصَّلاةِ، أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، [فَقَالَ:
أَيُّهَا النَّاسُ، هَلْ سَمِعْتُمْ مَا سَمِعْتُ! قَالُوا: نَعَمْ،
قَالَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا عَلِمْتُ
بِشَيْءٍ كَانَ حَتَّى سَمِعْتُ مِنْهُ مَا سَمِعْتُمْ، إِنَّهُ
يُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ ثُمَّ انصرف رسول الله ص،
فَدَخَلَ عَلى ابْنَتِهِ، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّةُ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ
وَلا يَخْلُصُ إِلَيْكِ، فَإِنَّكِ لا تَحِلِّينَ لَهُ] حَدَّثَنَا
ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن محمد بن إسحاق، قَالَ:
وحدثني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، [أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص
بَعَثَ إِلَى السَّرِيَّةِ الَّذِينَ أَصَابُوا مَالَ أَبِي الْعَاصِ،
فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ،
وَقَدْ أَصَبْتُمْ لَهُ مَالًا، فَإِنْ تُحْسِنُوا تَرُدُّوا عَلَيْهِ
الَّذِي لَهُ، فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ فَهُوَ
فَيْءُ اللَّهِ الَّذِي أَفَاءَهُ عَلَيْكُمْ، فَأَنْتُمْ أَحَقُّ
بِهِ.
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلْ نَرُدُّهُ عَلَيْهِ!] قَالَ:
فَرَدُّوا عَلَيْهِ مَالَهُ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِي
بِالْحَبْلِ، وَيَأْتِي الرَّجُلُ بِالشَّنَّةِ وَالإِدَاوَةِ، حَتَّى
إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَأْتِي بِالشِّظَاظِ، حَتَّى رَدُّوا عَلَيْهِ
مَالَهُ بِأَسْرِهِ، لا يَفْقِدُ مِنْهُ شَيْئًا ثُمَّ احْتُمِلَ إِلَى
مَكَّةَ، فَأَدَّى إِلَى كُلِّ ذِي مَالٍ من قريش
(2/471)
مَالَهُ مِمَّنْ كَانَ أَبْضَعَ مَعَهُ،
ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، هَلْ بَقِيَ لأَحَدٍ مِنْكُمْ
عِنْدِي مَالٌ لَمْ يَأْخَذْهُ؟ قَالُوا: لا فَجَزَاكَ اللَّهُ
خَيْرًا، فَقَدْ وَجَدْنَاكَ وَفِيًّا كَرِيمًا، قَالَ: فَإِنِّي
أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ، وَاللَّهِ مَا مَنَعَنِي مِنَ الإِسْلَامِ عِنْدَهُ
إِلَّا تَخَوَّفُ أَنْ تَظُنُّوا أَنِّي إِنَّمَا أَرَدْتُ أَكْلَ
أَمْوَالِكُمْ، فَلَمَّا أَدَّاهَا الله إليكم، وَفَرَغْتُ مِنْهَا
أَسْلَمْتُ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ على رسول الله ص.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ
إِسْحَاقَ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ، عَنْ
عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّاسٍ، قَالَ: رَدَّ عَلَيْهِ رسول الله ص زَيْنَبَ بِالنِّكَاحِ
الأَوَّلِ، وَلَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ،
قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ
جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ:
جَلَسَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيُّ مَعَ صَفْوَانَ بْنِ
أُمَيَّةَ بَعْدَ مُصَابِ أَهْلِ بَدْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ بِيَسِيرٍ فِي
الْحِجْرِ- وَكَانَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ شَيْطَانًا مِنْ شَيَاطِينِ
قُرَيْشٍ، وَكَانَ مِمَّنْ يُؤْذِي رَسُولَ الله ص وَأَصْحَابَهُ،
وَيَلْقَوْنَ مِنْهُ عَنَاءً وَهُمْ بِمَكَّةَ، وَكَانَ ابْنُهُ وَهْبُ
بْنُ عُمَيْرٍ فِي أُسَارَى بَدْرٍ- فَذَكَرَ أَصْحَابَ الْقَلِيبِ
وَمُصَابَهُمْ، فَقَالَ صَفْوَانُ: وَاللَّهِ إِنَّ فِي الْعَيْشِ
خَيْرٌ بَعْدَهُمْ، فَقَالَ عُمَيْرٌ: صَدَقْتَ وَاللَّهِ! أَمَا
وَاللَّهِ لَوْلَا دَيْنٌ عَلَيَّ لَيْسَ لَهُ عِنْدِي قَضَاءٌ
وَعِيَالٌ أَخْشَى عَلَيْهِمُ الضَّيْعَةَ بَعْدِي، لَرَكِبْتُ إِلَى
مُحَمَّدٍ حَتَّى أَقْتُلَهُ، فَإِنَّ لِي قِبَلَهُمْ عِلَّةً، ابْنِي
أَسِيرٌ فِي أَيْدِيهِمْ.
فَاغْتَنَمَهَا صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، فَقَالَ: عَلَيَّ دَيْنُكَ
أَنَا أُقْضِيهِ عَنْكَ، وَعِيَالُكَ مَعَ عِيَالِي أُوَاسِيهِمْ مَا
بَقَوْا، لا يَسَعُنِي شَيْءٌ وَيُعْجَزُ عَنْهُمْ، قَالَ عُمَيْرٌ:
فَاكْتُمْ عَلَيَّ شَأْنِي وَشَأْنَكَ: قال: افعل
(2/472)
قَالَ: ثُمَّ إِنَّ عُمَيْرًا أَمَرَ
بِسَيْفِهِ فَشُحِذَ لَهُ وَسُمَّ، ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى قَدِمَ
الْمَدِينَةَ، فَبَيْنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي نَفَرٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَسْجِدِ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ يَوْمِ بَدْرٍ،
وَيَذْكُرُونَ مَا أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ، وَمَا
أَرَاهُمْ فِي عَدُوِّهِمْ، إِذْ نَظَرَ عُمَرُ إِلَى عُمَيْرِ بْنِ
وَهْبٍ حِينَ أَنَاخَ بَعِيرَهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، مُتَوَشِّحًا
السَّيْفَ، فَقَالَ: هَذَا الْكَلْبُ عَدُوُّ اللَّهِ عُمَيْرُ بْنُ
وَهْبٍ، مَا جَاءَ إِلَّا لِشَرٍّ! وَهُوَ الَّذِي حَرَّشَ بَيْنَنَا،
وَحَزَرَنَا لِلْقَوْمِ يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ على رسول
الله ص، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، هَذَا عَدُوُّ اللَّهِ عُمَيْرُ
بْنُ وَهْبٍ قَدْ جَاءَ مُتَوَشِّحًا سَيْفَهُ، قَالَ: فَأَدْخِلْهُ
عَلَيَّ.
قَالَ: فَأَقْبَلَ عُمَرُ حَتَّى أَخَذَ بِحَمَّالَةِ سَيْفِهِ فِي
عُنُقِهِ، فَلَبَّبَهُ بِهَا، وَقَالَ لِرِجَالٍ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ
مِنَ الأَنْصَارِ: ادخلوا على رسول الله ص فَاجْلِسُوا عِنْدَهُ،
وَاحْذَرُوا هَذَا الْخَبِيثَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ
ثُمَّ دَخَلَ بِهِ عَلَى رَسُولِ الله ص.
فلما رآه رسول الله ص وَعُمَرُ آخِذٌ بِحَمَّالَةِ سَيْفِهِ، قَالَ:
أَرْسِلْهُ يَا عُمَرُ، ادْنُ يَا عُمَيْرُ، فَدَنَا ثُمَّ قَالَ:
أنْعمُوا صَبَاحًا- وَكَانَتْ تَحِيَّةَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ
بَيْنَهُمْ- فقال رسول الله ص: قَدْ أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِتَحِيَّةٍ
خَيْرٍ مِنْ تَحِيَّتِكَ يَا عُمَيْرُ، بِالسَّلَامِ تَحِيَّةِ أَهْلِ
الْجَنَّةِ، قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ إِنْ كُنْتَ
لَحَدِيثَ عَهْدٍ بِهَا قَالَ: مَا جَاءَ بِكَ يَا عُمَيْرُ؟ قَالَ:
جِئْتُ لِهَذَا الأَسِيرِ الَّذِي فِي أَيْدِيكُمْ، فَأَحْسِنُوا فِيهِ
قَالَ: فَمَا بَالُ السَّيْفِ فِي عُنُقِكَ! قَالَ: قَبَحَّهَا اللَّهُ
مِنْ سُيُوفٍ! وَهَلْ أَغْنَتْ شَيْئًا! قَالَ: اصْدُقْنِي بِالَّذِي
جِئْتَ لَهُ، قَالَ: مَا جِئْتُ إِلَّا لِذَلِكَ، فَقَالَ: بَلَى،
قَعَدْتَ أَنْتَ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ فِي الْحِجْرِ،
فَذَكَرْتُمَا أَصْحَابَ الْقَلِيبِ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ قُلْتَ:
لَوْلَا دَيْنٌ عَلَيَّ وَعِيَالِي لَخَرَجْتُ حَتَّى أَقْتُلَ
مُحَمَّدًا، فَتَحَمَّلَ لَكَ صَفْوَانُ بِدَيْنِكَ وَعِيَالِكَ، عَلَى
أَنْ تَقْتُلَنِي لَهُ وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَائِلٌ بَيْنِي
وَبَيْنَكَ.
فَقَالَ عُمَيْرٌ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، قَدْ كُنَّا يَا
رَسُولَ اللَّهِ نُكَذِّبُكَ بِمَا كُنْتَ
(2/473)
تَأْتِينَا بِهِ مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ،
وَمَا يُنَزَّلُ عَلَيْكَ مِنَ الْوَحْيِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَمْ
يَحْضُرْهُ الا انا وصفوان، فو الله إِنِّي لأَعْلَمُ مَا أَتَاكَ بِهِ
إِلَّا اللَّهُ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانِي للإِسْلَامِ،
وَسَاقَنِي هَذَا الْمسَاقَ ثُمَّ تَشَهَّدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ،
[فَقَالَ رَسُولُ الله ص، فَقِّهُوا أَخَاكُمْ فِي دِينِهِ،
وَأَقْرِئُوهُ وَعَلِّمُوهُ الْقُرْآنَ، وَأَطْلِقُوا لَهُ أَسِيرَهُ]
.
قَالَ: فَفَعَلُوا، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي كُنْتُ
جَاهِدًا فِي إِطْفَاءِ نُورِ اللَّهِ، شَدِيدَ الأَذَى لِمَنْ كَانَ
عَلَى دِينِ اللَّهِ، وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَأْذَنَ لِي فَأَقْدَمُ
مَكَّةَ فَأَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الإِسْلَامِ، لَعَلَّ
اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ! وَإِلَّا آذَيْتُهُمْ في دينهم كما كنت
أوذي أَصْحَابَكَ فِي دِينِهِمْ.
قَالَ: فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ الله ص، فَلَحِقَ بِمَكَّةَ، وَكَانَ
صَفْوَانُ حِينَ خَرَجَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ يَقُولُ لِقُرَيْشٍ:
أَبْشِرُوا بِوَقْعَةٍ تَأْتِيكُمُ الآنَ فِي أَيَّامٍ تُنْسِيكُمْ
وَقْعَةَ بَدْرٍ، وَكَانَ صَفْوَانُ يَسْأَلُ عَنْهُ الرُّكْبَانَ،
حَتَّى قَدِمَ رَاكِبٌ فَأَخْبَرَهُ بِإِسْلَامِهِ، فَحَلَفَ أَلَّا
يُكَلِّمَهُ أَبَدًا وَلَا يَنْفَعَهُ بِنَفْعٍ أَبَدًا فَلَمَّا
قَدِمَ عُمَيْرٌ مَكَّةَ أَقَامَ بِهَا يَدْعُو إِلَى الإِسْلَامِ،
وَيُؤْذِي مَنْ خَالَفَهُ أَذًى شَدِيدًا فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ
أُنَاسٌ كَثِيرٌ.
فَلَمَّا انْقَضَى أَمْرُ بَدْرٍ، أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
فِيهِ مِنَ الْقُرْآنِ الأَنْفَالَ بِأَسْرِهَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ
بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو
زَمِيلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الله بن عباس، حَدَّثَنِي عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ الْتَقَوْا،
فَهَزَمَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلا،
وَأُسِرَ سَبْعُونَ رَجُلا، فَلَمَّا كان يومئذ شاور رسول الله ص أَبَا
بَكْرٍ وَعَلِيًّا وَعُمَرَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا نَبِيَّ
اللَّهِ، هَؤُلاءِ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ وَالإِخْوَانِ،
فَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمُ الْفِدْيَةَ، فَيَكُونُ مَا
أَخَذْنَا مِنْهُمْ قُوَّةً، وَعَسَى اللَّهُ ان يهديهم،
(2/474)
فيكونوا لنا عضدا فقال رسول الله ص: ما ترى
يا بن الْخَطَّابِ؟ قَالَ: قُلْتُ: لا وَاللَّهِ، مَا أَرَى الَّذِي
رَأَى أَبُو بَكْرٍ، وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ تُمَكِّنَنِي مِنْ فُلانٍ
فَأَضْرِبُ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنَ حَمْزَةَ مِنْ أَخٍ لَهُ فَيَضْرِبُ
عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبُ عُنُقَهُ،
حَتَّى يَعْلَمَ اللَّهُ أَنْ لَيْسَ فِي قُلُوبِنَا هَوَادَةٌ
لِلْكُفَّارِ، هَؤُلاءِ صَنَادِيدُهُمْ وَقَادَتُهُمْ وَأَئِمَّتُهُمْ.
قَالَ: فَهَوِيَ رَسُولُ اللَّهِ ص مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَلَمْ
يَهْوَ مَا قُلْتُ أَنَا، فَأَخَذَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ، فَلَمَّا
كَانَ الغد قال عمر: غدوت الى النبي ص وَهُوَ قَاعِدٌ وَأَبُو بَكْرٍ،
وَإِذَا هُمَا يَبْكِيَانِ، قَالَ:
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي مَاذَا يُبْكِيكَ أَنْتَ
وَصَاحِبُكَ؟ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ
تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا فَقَالَ رَسُولُ الله ص: لِلَّذِي عَرَضَ
عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنَ الْفِدَاءِ لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ
عَذَابُكُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ- لِشَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ-
وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ
لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ» إِلَى قَوْلِهِ: «فِيما
أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» ، ثُمَّ أَحَلَّ لَهُمُ الْغَنَائِمَ.
فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْعَامِ الْقَابِلِ فِي أُحُدٍ عُوقِبُوا بِمَا
صَنَعُوا، قتل من اصحاب رسول الله ص سَبْعُونَ، وَأُسِرَ سَبْعُونَ،
وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَهُشِّمَتِ الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ،
وَسَالَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِهِ، وَفَرَّ اصحاب النبي ص، وَصَعَدُوا
الْجَبَلَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الآيَةَ:
«أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها
قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا» إِلَى قَوْلِهِ:
«إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ
الآيَةُ الأُخْرَى:
«إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ
يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ» الى قوله: «مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ
أَمَنَةً»
(2/475)
حَدَّثَنِي سَلْمُ بْنُ جُنَادَةَ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ
عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ،
قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، وَجِيءَ بِالأَسْرَى، قال رسول
الله ص:
مَا تَقُولُونَ فِي هَؤُلاءِ الأَسْرَى؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، قَوْمُكَ وَأَهْلُكَ، اسْتَبْقِهِمْ وَاسْتَأْنِهِمْ،
لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ كَذَّبُوكَ وَأَخْرَجُوكَ، قَدِّمْهُمْ فَضَرِّبْ
أَعْنَاقَهُمْ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْظُرْ وَادِيًا كَثِيرَ الْحَطَبِ
فَأَدْخِلْهُمْ فِيهِ، ثُمَّ أَضْرِمْهُ عَلَيْهِمْ نَارًا قَالَ:
فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: قَطَعَتْكَ رَحِمُكَ! قَالَ: فَسَكَتَ رسول
الله ص فَلَمْ يُجِبْهُمْ، ثُمَّ دَخَلَ، فَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ
بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ،
وَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذ بِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، ثُمَّ
خَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ، [فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ لَيُلِينُ قُلُوبَ رِجَالٍ فِيهِ حَتَّى تَكُونَ أَلْيَنَ مِنَ
اللَّبَنِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُشَدِّدُ قُلُوبَ رِجَالٍ فِيهِ حَتَّى
تَكُونَ أَشَدَّ مِنَ الْحِجَارَةِ، وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ
مَثَلُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ:
«فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ» ، وَمَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، مَثَلُ عِيسَى، قَالَ: «إِنْ
تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ
أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» وَمَثَلَكَ يَا عُمَرُ مَثَلُ نُوحٍ،
قَالَ: «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً»
، وَمَثَلَكَ كَمَثَلِ موسى، قَالَ: «رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى
أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى
يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» ثم قال رسول الله ص: أَنْتُمُ الْيَوْمَ
عَالَةٌ فَلا يَفْلِتَنَّ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلا بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبِ
عُنُقٍ،] قَالَ عَبْدُ الله بن مسعود: الا سهيل ابن بَيْضَاءَ،
فَإِنِّي سَمِعْتُه يَذْكُرُ الإِسْلامَ فَسَكَتَ رَسُولُ الله ص،
(2/476)
فَمَا رَأَيْتَنِي فِي يَوْمٍ أَخْوَفَ
أَنْ تَقَعَ عَلَيَّ الْحِجَارَةُ مِنَ السَّمَاءِ مِنِّي فِي ذَلِكَ
اليوم، حتى قال رسول الله ص: إِلا سُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ قَالَ:
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ
لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ» إِلَى آخِرِ الآيَاتِ
الثَّلاثِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن
إسحاق:
[لَمَّا نَزَلَتْ- يَعْنِي هَذِهِ الآيَةَ: «مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ
يَكُونَ لَهُ أَسْرى» ، قال رسول الله ص: لَوْ نَزَلَ عَذَابٌ مِنَ
السَّمَاءِ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ إِلَّا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ،]
لِقَوْلِهِ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كَانَ الإِثْخَانُ فِي الْقَتْلِ
أَحَبَّ إِلَيَّ مِنَ اسْتِبْقَاءِ الرِّجَالِ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكَانَ جَمِيعُ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ، ومن ضرب له رسول الله ص بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ
ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا فِي قَوْلِ ابن إسحاق.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عنه: وجميع من شهد من الأوس معه
ومن ضرب له بسهمه واحد وستون رجلا وجميع من شهد معه من الخزرج مائة
وسبعون رجلا في قول ابن إسحاق، وجميع من استشهد من المسلمين يومئذ
أربعة عشر رجلا، ستة من المهاجرين وثمانية من الانصار.
وكان المشركون- فيما زعم الواقدى- تسعمائة وخمسين مقاتلا، وكانت خيلهم
مائة فرس.
ورد رسول الله ص يومئذ جماعة استصغرهم- فيما زعم الواقدي- فمنهم فيما
زعم عبد الله بن عمر، ورافع بن خديج، والبراء ابن عازب، وزيد بن ثابت،
وأسيد بن ظهير، وعمير بن أبي وقاص ثم أجاز عميرا بعد أن رده فقتل يومئذ
(2/477)
وكان رسول الله ص قد بعث قبل أن يخرج من
المدينة طلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، إلى طريق
الشام يتحسسان الأخبار عن العير، ثم رجعا إلى المدينة، فقدماها يوم
وقعة بدر، فاستقبلا رسول الله ص بتربان، وهو منحدر من بدر يريد
المدينة.
قال الواقدى: كان خروج رسول الله ص من المدينة في ثلاثمائة رجل وخمسة،
وكان المهاجرون أربعة وسبعين رجلا، وسائرهم من الأنصار، وضرب لثمانية
بأجورهم وسهمانهم: ثلاثة من المهاجرين، أحدهم عثمان بن عفان كان تخلف
على ابنه رسول الله ص حتى ماتت، وطلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد، كان
بعثهما يتحسسان الخبر عن العير، وخمسة من الأنصار: أبو لبابة بشير بن
عبد المنذر، خلفه على المدينة، وعاصم بن عدي بن العجلان، خلفه على
العالية، والحارث بن حاطب، رده من الروحاء إلى بني عمرو بن عوف لشيء
بلغه عنهم، والحارث ابن الصمة، كسر بالروحاء، وهو من بني مالك بن
النجار، وخوات بن جبير، كسر من بني عمرو بن عوف قال: وكانت الإبل سبعين
بعيرا، والخيل فرسين:
فرس للمقداد بن عمرو، وفرس لمرثد بن أبي مرثد.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ عُمَرَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ هِلالٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، قَالَ: وَرُئِيَ رسول الله ص فِي أَثَرِ الْمُشْرِكِينَ
يَوْمَ بَدْرٍ مُصْلِتًا السَّيْفَ، يَتْلُو هَذِهِ الآيَةَ:
«سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ» .
قَالَ: وَفِي غَزْوةِ بَدْرٍ انْتَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ ص سَيْفَهُ ذَا
الْفَقَارِ،
(2/478)
وَكَانَ لِمُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ.
قَالَ: وَفِيهَا غَنِمَ جَمَلَ أَبِي جَهْلٍ، وَكَانَ مَهْرِيًّا
يَغْزُو عَلَيْهِ وَيَضْرِبُ فِي لِقَاحِهِ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: ثُمَّ أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ص
بِالْمَدِينَةِ، مُنْصَرفَهُ مِنْ بَدْرٍ، وَكَانَ قَدْ وَادَعَ حِينَ
قَدِمَ الْمَدِينَةَ يَهُودَهَا، عَلَى أَنْ لا يُعِينُوا عَلَيْهِ
أَحَدًا، وَإِنَّهُ إِنْ دَهَمَهُ بِهَا عدو نصروه فلما قتل رسول الله
ص مَنْ قَتَلَ بِبَدْرٍ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، أَظْهَرُوا لَهُ
الْحَسَدَ وَالْبَغْيَ، وَقَالُوا: لَمْ يَلْقَ مُحَمَّدُ مَنْ
يُحْسِنُ الْقِتَالَ، وَلَوْ لَقِيَنَا لاقَى عِنْدَنَا قِتَالا لا
يُشْبِهُهُ قِتَالُ أَحَدٍ، وَأَظْهَرُوا نَقْضَ الْعَهْدِ.
غَزْوَةُ بَنِي قَيْنُقَاعَ
فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ
مُحَمَّدِ بن إسحاق، قَالَ: كَانَ مِنْ أَمْرِ بَنِي قَيْنُقَاعَ،
أَنَّ رسول الله ص جَمَعَهُمْ بِسُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، ثُمَّ قَالَ:
يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، احْذَرُوا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِثْلَ
مَا نَزَلَ بِقُرَيْشٍ مِنَ النِّقْمَةِ، وَأَسْلِمُوا، فَإِنَّكُمْ
قَدْ عَرَفْتُمْ أَنِّي نَبِيٌّ مُرْسَلٌ تَجِدُونَ ذَلِكَ فِي
كِتَابِكُمْ، وَفِي عَهْدِ اللَّهِ إِلَيْكُمْ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ،
إِنَّكَ تَرَى أَنَّا كَقَوْمِكَ! لا يَغُرَّنَّكَ أَنَّكَ لَقِيتَ
قَوْمًا لا عِلْمَ لَهُمْ بِالْحَرْبِ، فَأَصَبْتَ مِنْهُمْ فُرْصَةً،
إِنَّا وَاللَّهِ لَئِنْ حَارَبْتَنَا لَتَعْلَمَنَّ أَنَّا نَحْنُ
النَّاسُ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بن قَتَادَةَ، أَنَّ بَنِي
قَيْنُقَاعَ كَانُوا أَوَّلَ يَهُودَ نقضوا ما بينهم وبين رسول الله ص،
وَحَارَبُوا فِيمَا بَيْنَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ.
فَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ:
حدثنا محمد بن عمر:
(2/479)
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، ان غزوه رسول الله ص بَنِي الْقَيْنُقَاعِ كَانَتْ فِي
شَوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ: نزل جبريل على رسول الله ص بِهَذِهِ
الآيَةِ: «وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ
إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ» ، فلما فرغ جبريل ع من هذه الآية، قال رسول
الله ص، إِنِّي أَخَافُ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعٍ، قَالَ عُرْوَةُ: فسار
اليهم رسول الله ص بِهَذِهِ الآيَةِ.
قَالَ الواقدي: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ
بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، قَالَ: حاصرهم رسول الله ص خَمْسَ
عَشْرَةَ لَيْلَةً لَا يَطْلُعُ مِنْهُمْ أَحَدٌ ثم نزلوا على حكم رسول
الله ص، فَكُتِّفُوا وَهُوَ يُرِيدُ قَتْلَهُمْ، فَكَلَّمَهُ فِيهِمْ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ.
رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ
عُمَرَ بْنِ قتادة، قال: فحاصرهم رسول الله ص حَتَّى نَزَلُوا عَلَى
حُكْمِهِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ الله بن ابى بن سَلُولٍ حِينَ
أَمْكَنَهُ اللَّهُ مِنْهُم، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَحْسِنْ فِي
مَوَالِيَّ- وَكَانُوا حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ- فأبطأ عليه النبي ص
فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَحْسِنْ فِي مَوَالِيَّ، فَأَعْرَضَ عنه
النبي ص.
قَالَ: فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَيْبِ رَسُولِ اللَّهِ ص، فقال رسول
الله ص: أرسلني، وغضب رسول الله ص حَتَّى رَأَوْا فِي وَجْهِهِ
ظِلَالًا- يَعْنِي تَلَوُّنًا- ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ أَرْسِلْنِي!
قَال:
لا وَاللَّهِ لا ارسلك حتى تحسن الى موالي أربعمائة حاسرو ثلاثمائة
دَارِعٍ قَدْ مَنَعُونِي مِنَ الأَسْوَدِ وَالأَحْمَرِ، تَحْصُدُهُمْ
فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ! وَإِنِّي وَاللَّهِ لا آمَنُ وأخشى الدوائر
فقال رسول الله ص: هم لك
(2/480)
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَالَ مُحَمَّدُ
بْنُ عُمَرَ فِي حَدِيثِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ
بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ص: خَلُّوهُمْ
لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَعَنَهُ مَعَهُمْ! فَأَرْسَلُوهُمْ ثُمَّ أَمَرَ
بِإِجْلَائِهِمْ، وَغَنَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَسُولَهُ
وَالْمُسْلِمِينَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ مَالٍ- وَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ
أَرَضُونَ، إِنَّمَا كَانُوا صَاغَةً- فَأَخَذَ رسول الله ص لَهُمْ
سِلَاحًا كَثِيرًا وَآلَةَ صِيَاغَتِهِمْ، وَكَانَ الَّذِي وُلِّيَ
إِخْرَاجَهُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ بِذَرَارِيِّهِمْ عُبَادَةَ بْنَ
الصامت، فمضى بهم حتى بلغ بهم دباب، وَهُوَ يَقُولُ: الشَّرَفُ
الأَبْعَدُ، الأَقْصَى فَالأَقْصَى! وَكَانَ رسول الله ص اسْتَخْلَفَ
عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَفِيهَا كَانَ أَوَّلَ خمس خمسه رسول الله ص في
الاسلام، فاخذ رسول الله ص صَفِيَّهُ وَالْخُمُسَ وَسَهْمَهُ، وَفَضَّ
أَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَكَانَ أَوَّلَ خُمُسٍ
قَبَضَهُ رَسُولُ اللَّهِ ص وكان لواء رسول الله ص يوم بنى قينقاع
لِوَاءً أَبْيَضَ، مَعَ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلَمْ
تَكُنْ يَوْمَئِذٍ رَايَاتٌ ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ الله ص إِلَى
الْمَدِينَةِ، وَحَضَرَتِ الأَضْحَى، فَذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ الله ص
ضَحَّى وَأَهْلُ الْيُسْرِ مِنْ أَصْحَابِهِ، يَوْمَ الْعَاشِرِ مِنْ
ذِي الْحِجَّةِ، وَخَرَجَ بِالنَّاسِ إِلَى الْمُصَلَّى فَصَلَّى
بِهِمْ، فَذَلِكَ أَوَّلُ صَلَاةٍ صَلَّى رَسُولُ الله ص بِالنَّاسِ
بِالْمَدِينَةِ بِالْمُصَلَّى فِي عِيدٍ، وَذَبَحَ فِيهِ بِالْمُصَلَّى
بِيَدِهِ شَاتَيْنِ- وَقِيلَ ذَبَحَ شَاةً.
قال الواقدي: حدثني محمد بن الفضل، من ولد رافع بن خديج، عن أبي مبشر،
قال: سمعت جابر بن عبد الله، يقول: لما رجعنا من بني قينقاع ضحينا في
ذي الحجة صبيحة عشر، وكان أول أضحى رآه
(2/481)
المسلمون، وذبحنا في بني سلمة فعدت في بني
سلمة سبع عشرة أضحية.
قال أبو جعفر: وأما ابن إسحاق فلم يوقت لغزوة رسول الله ص التي غزاها
بني قينقاع وقتا، غير أنه قال: كان ذلك بين غزوة السويق وخروج النبي ص
من المدينة يريد غزو قريش، حتى بلغ بني سليم وبحران، معدنا بالحجاز من
ناحية الفرع.
وأما بعضهم، فإنه قال: كان بين غزوه رسول الله ص بدرا الأولى وغزوة بني
قينقاع ثلاث غزوات وسريه اسراها وزعم ان النبي ص إنما غزاهم لتسع ليال
خلون من صفر من سنة ثلاث من الهجرة، وأن رسول الله ص غزا بعد ما انصرف
من بدر، وكان رجوعه إلى المدينة يوم الأربعاء لثماني ليال بقين من
رمضان، وأنه أقام بها بقية رمضان ثم غزا قرقرة الكدر حين بلغه اجتماع
بني سليم وغطفان، فخرج من المدينة يوم الجمعة بعد ما ارتفعت الشمس، غرة
شوال من السنة الثانية من الهجرة إليها.
وأما ابن حميد، فحدثنا عن سلمة، عن ابن إسحاق، أنه قال:
لما قدم رسول الله ص من بدر إلى المدينة، وكان فراغه من بدر في عقب شهر
رمضان- أو في أول شوال- لم يقم بالمدينة إلا سبع ليال، حتى غزا بنفسه
يريد بني سليم، حتى بلغ ماء من مياههم، يقال له الكدر، فأقام عليه ثلاث
ليال، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا، فأقام بها بقية شوال وذا
القعدة، وفدى في إقامته تلك جل الأسارى من قريش.
وأما الواقدي، فزعم ان غزوه النبي ص الكدر كانت في المحرم من سنة ثلاث
من الهجرة، وأن لواءه كان يحمله فيها على بن
(2/482)
أبي طالب، وأنه استخلف فيها ابن أم مكتوم المعيصي على المدينة.
وقال بعضهم: لما رجع النبي ص من غزوة الكدر إلى المدينة، وقد ساق النعم
والرعاء ولم يلق كيدا وكان قدومه منها- فيما زعم- لعشر خلون من شوال،
بعث غالب بن عبد الله الليثي يوم الأحد لعشر ليال مضين من شوال إلى بني
سليم وغطفان في سرية، فقتلوا فيهم، وأخذوا النعم، وانصرفوا إلى المدينة
بالغنيمة يوم السبت، لأربع عشرة ليلة بقيت من شوال، واستشهد من
المسلمين ثلاثة نفر، وأن رسول الله ص أقام بالمدينة إلى ذي الحجة، وإن
رسول الله ص غزا يوم الأحد لسبع ليال بقين من ذي الحجة غزوة السويق |